اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون

موسى بن راشد العازمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون [1]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للمؤلف فهرسة مكتبة الكويت الوطنية أثْنَاء النشر 239 العازمي، مُوسَى بن رَاشد. اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون: دراسة مُحَققَة للسيرة النَّبَوِيَّة (الْجُزْء الأول) تأليف مُوسَى بن رَاشد العازمي - ط 1 - الكويت: مُوسَى بن رَاشد العازمي، 2011 ج 1 (618 ص)؛ 24 سم. ردمك: 6 - 01 - 44 - 99966 - 978 1. السِّيرَة النَّبَوِيَّة ... أ. العنوان ردمك: 6 - 01 - 44 - 99966 - 978 رقم الْإِيدَاع: 240/ 2011 الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م تمّ طباعة الْكتاب على نَفَقَة عبد اللَّه الْعلي المطوع - رَحمَه اللَّه - الناشر المكتبة العامرية إعلان وطباعة وَنشر وتوزيع الكويت - حَولي - شَارِع الْمثنى - مجمع البدري - مَحل رقم 13 تلِي فاكس: 0096522623880 - جوال: 0096599862197 الْبَرِيد الإلكتروني: [email protected] manaar [email protected] موقع المكتبة: www.sites.google.com/site/amriabookstore

دولة الكويت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد الفاضل / مدير إدارة الثقافة الإسلامية المحترم السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته,, وبعد بالإشارة إلى الكتاب رقم (315) بشأن مراجعة: مادة بحث عدد (1) الوارد بتاريخ: 3/ 3/ 2011 بعنوان: اللؤلو المكنون في سيرة النبي المأمون ج 1 إعداد: موسى بن راشد العازمي نشر: المؤلف بعد الإطلاع على النسخة المذكورة أعلاه ومراجعتها تبين أنها لا توجد بها ملاحظات بعد مراعاة الآتي: صـ 42: خطأ لغوي حيث رفع المفعول به والصواب نصبه (لم يمس نسبه الشريف شيء من سفاح وأدران الجاهلية) برفع نسبه. صـ 172: خطأ لغوي في النص الشعرى حيث جر المفعول به بالكسرة والصواب نصبها بالفتح (رمي المشايخ والوالدان باللمم) يجر المشايخ والصحيح (رمى المشايخ) بنصبها. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام,, رئيس لجنة الكتب والمصنفات الفنية الأصل بتوقيع خليف مثيب الأذينة الوكيل المساعد للشئون الثقافية ¬

_ (*) ملاحظة: تم تصحيح الخطأين الواردين في كتاب وزارة الأوقاف.

تقريظ الأستاذ الدكتور محمد رواس قلعه جي

[تقريظ الأستاذ الدكتور محمد رواس قلعه جي] هذا عمل رائع فيه جهد مبارك، وتحقيق، واستشهاد جميل، وتوثيق هو محل الإعجاب. أسأل الله لصانعه الثواب العظيم ورفقة صاحب السيرة في الجنة أد محمد رواس قلعه جي

تقديم الشيخ عثمان بن محمد الخميس

تقديم الشيخ عثمان بن محمد الخميس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد: فإن النظر في سيرة النبي الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث في النفس الرضى، ويؤنس القلب ويريحه، وكم يتمنّى القارئ لسيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يجد كتابًا جامعًا، وفي الوقت ذاته حريصًا على صحة ما ينسب إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أهداني أخي موسى بن راشد العازمي كتابه الموسوم بـ "اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون" فألفيته ماتِعًا كاسمه، قد أتى فيه جامعه على كل جوانب سيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما أعلم، مع حرصه على صحة الروايات، وإن ذكر غيرها نبَّه على ذلك، ولقد أكثر من النقل عن علماء السير، وقد أحسن الانتقاء من دُرَرِهم، ولا أُخفي خبرًا إن قلت إني استفدت منه كثيرًا أثناء قراءتي كتابه فجزاه اللَّه خيرًا، ونفعه اللَّه ونفع به. وكتبه عثمان بن محمد الخميس 29/ 12/ 1430 هـ

المقدمة

المقدمة الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَالصَّلَاةُ والسَّلامُ عَلَى سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، وإمَامِ المُتَّقِينَ، ورَحْمَةِ اللَّهِ لِلْعَالَمِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ، وعَلَى كُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى مَنْهَجِهِ، واقْتَفَى أثَرَهُ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وبَعْدُ: لَا يَخْفَى عَلَى أَيِّ مُسْلِمٍ مَا لِسِيرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَهَمِّيَّةٍ كُبْرَى فِي حَيَاةِ المُسْلِمِينَ، إنَّهَا اليَنْبُوعُ الصَّافِي لِطَالِبِ الفِقْهِ، والدَّلِيلُ الهَادِي لِبَاغِي الصَّلَاحِ، والمَثَلُ الأَعَلَى لِلْأُسْلُوبِ البَلِيغِ، والدُّسْتُورُ الشَّامِلُ لِكُلِّ شُعَبِ الخَيْرِ. ولَقَدْ كانَ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ يدْرِكُونَ مَا لِسِيرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ آثارٍ حَسَنَةٍ في تَرْبِيَةِ النَّشْءِ، وتَنْشِئَةِ جِيلٍ صَالِحٍ لِحَمْلِ رِسَالَةِ الإِسْلَامِ، فَمِنْ ثَمَّ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ ومَغَازِيَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومَنْ دَرَسَ سِيرَتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأعْطَاهَا حَقَّهَا مِنَ النَّظَرِ والفِكْرِ والتَّحْقِيقِ رَأَى نَسَقًا مِنَ التَّارِيخِ العَجِيبِ، اسْتَعْلَى بِهِ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالْفِئَةُ المُؤْمِنَةُ مَعَهُ عَلَى عَنَاصِرِ المَادَّةِ، وعَوَامِلِ الجَذْبِ الأَرْضِيِّ، وارْتَقَوْا بِالْإِنْسَانِيَّةِ إلَى دَرَجَاتٍ لَمْ تَشْهَدْهَا عَلَى امْتِدَادِ عُصُورِهَا وأزْمِنَتِهَا.

وبِمَا أنَّ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ جُزْءٌ مِنَ التَّارِيخِ، والتَّارِيخُ إنَّمَا يتناقَلُهُ النَّاسُ عَنْ طَرِيقِ الأَخْبَارِ والتَّحْدِيثِ والسَّمَاعِ، فَمِنَ الطَّبِيعِيِّ أنْ تَعْتَرِي هَذِهِ الأَخْبَارَ دَرَجَاتُ الصِّحَّةِ والضَّعْفِ، ومِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ أنْ قَيَّضَ لَهَا عُلَمَاءَ حُفَّاظًا أفْذَاذًا يُمَيزونَ بَيْنَ الصَّحِيحِ والضَّعِيفِ مِنَ الأخْبَارِ، والغَثِّ والسَّمِينِ مِنَ الحَوَادِثِ المُخْتَلِفَةِ. قالَ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ (¬1) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في نَظْمِ السِّيرَةِ: فَليعلم الطالب أن السِّيرا ... تجمع ما صَحْ وما قد أُنكرا وقَالَ الحَافِظُ الدِّمْيَاطِيّ (¬2) فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وكُنْتُ قَدْ تَبِعْتُهُ -أي ابْنَ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ في السِّيرَةِ (¬3)، ¬

_ (¬1) هوَ الإمامُ الحَافظُ زَيْنُ الدِّينِ عبدُ الرَّحِيمِ العِرَاقيُّ، وُلد سنة خمس وعشرين وسبعمائة للهجرة، واشتَغَلَ بالعُلُومِ، وأحَبَّ الحديثَ، فأكْثَرَ مِنَ السَّمَاعِ، وتقدَّم في فَنِّ الحدِيثِ بِحَيْثُ كان شُيُوخُ عَصْرِهِ يبالغُونَ في الثَّناء عليه بالمَعْرِفَةِ. لهُ نَظْمٌ في السِّيرة النَّبوِيَّة في ألْفِ بَيْتٍ. تُوُفِّي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سنة ست وثمانمائة للهجرة. انظر شذرات الذهب (9/ 87). (¬2) هوَ الإمامُ الحافِظُ الحُجَّةُ عبدُ المُؤْمِنِ بنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِي الشَّافعي، وُلدَ في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة للهجرة، وتَفَقَّهَ بِدِمْياطَ وبَرَع، ثم طلبَ الحديث، وكتب العَالِي والنَّازل، وجمعَ فأوْعَى، وكان صَادقًا حافظًا متقنًا، توفي سنة خمس وسبعمائة للهجرة. له مُصنَّفاتٌ نَفِيسَةٌ، منها: "السِّيرة النَّبوِيَّة"، في مجلدٍ، وغَيرها. انظر تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي (4/ 1477). (¬3) الذي ذَكَرَهُ هوَ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في غزوَةِ حُنين على بَغْلَته المعروفة باسم: "دُلْدُلْ"، وهو قولُ ابنِ سعدٍ في طبقاته، والصَّحيح أنَّ البَغْلة التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- =

وكُنْتُ حِينَئِذٍ سِيَرِيًّا مَحْضًا، وكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أنْ نَذْكُرَ الخِلَافَ. وعَلَّقَ الحَافِظُ في الفَتْحِ عَلَى كَلَامِ الحَافِظِ الدِّمْيَاطِيِّ بِقَوْله: ودَلَّ قَوْلُ الدِّمْيَاطِيِّ أنَّهُ كانَ يَعْتَقِدُ الرُّجُوعَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا وَافَقَ فِيهِ أهْلَ السِّيَرِ، وخَالَفَ الأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وأنَّ ذَلِكَ كانَ مِنْهُ قَبْلَ أنْ يتضَلَّعَ (¬1) مِنَ الأحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، ولخُرُوجِ نُسَخٍ مِنْ كِتَابِهِ وانْتِشَاره لَمْ يَتَمَكَنْ مِنْ تَغْيِيرِهِ (¬2). وقَدْ تَتَبَّعْتُ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ قُرَابَةَ العَشْرِ سَنَوَاتٍ، وقَرَأْتُ خِلَالَهَا كَثِيرًا مِنْ كتبِ السِّيَرِ والمَغَازِي، وكُتُبِ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، حتَّى مَيَّزْتُ كَثِيرًا مِنَ الحَوَادِثِ الصَّحِيحَةِ والحَسَنَةِ عَنِ الضَّعِيفَةِ، وحَرِصْتُ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى بَيَانِ مَعْنَى الكَلِمَاتِ التِي قَدْ يَصْعُبُ فَهْمُهَا مِنْ كتبِ اللُّغَةِ المُعْتَمَدَةِ، كَلِسَانِ العَرَبِ، والقَامُوسِ المُحِيطِ، وأمَّا الأحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ، وكَذَلِكَ الحَوَادِثُ التَّارِيخِيَّةُ التِي ذُكِرَتْ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ كانَ حُكْمِي عَلَيْهَا مِنْ نَاحِيَةِ الصِّحَّةِ والضَّعْفِ هُوَ مِنْ خِلَالِ حُكْمِ العُلَمَاءِ عَلَى هَذه الأحَادِيثِ والحَوَادِثِ، وبَعْضُهَا لَمْ أَجِدْ مَنْ حَكَمَ عَلَيْهَا فترَكْتُهَا عَلَى حَالِهَا، وعَزَوْتُهَا إلَى مَصْدَرِهَا. ¬

_ = عليها في غزوة حُنين هي البغلةُ التي أهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بنُ نُفَاثَةَ الجُذَامِيُّ، كما روى ذلك الإِمام مسلم في صحيحه -رقم الحديث (1775) (76)، وسيأتي تفصيل ذلك في غَزْوَة حُنَين إن شاء اللَّه. (¬1) يُقال: فُلان مُضْطَلِعٌ بهذَا الأمْرِ: أي قَوِيٌ عَليه. انظر لسان العرب (8/ 87). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 348).

ولَا يَسَعُنِي في هَذَا المَقَامِ إلَّا أنْ أشْكُرَ كُلًا مِنْ: 1 - الدُّكْتُور مُحَمَّد الشَّطِّي. 2 - الدُّكْتُور خَالِد الصَّافِي. 3 - الشَّيْخ سَالِم خَلِيفَة الهَوَّاش. 4 - الأُسْتَاذ مُحَمَّد كُوهية. 5 - الأَخ يَزِيد القَطَّان. 6 - الأَخ مُهَنَّد الخَارْجِي. عَلَى مَا قَدَّمُوهُ لِي مِنْ مُلَاحَظَاتٍ هَامَّةٍ، وأسْأَلُ اللَّه تَعَالَى أنْ يَجْعَلَ عَمَلِي هَذَا خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وأنْ لَا يَحْرِمَنِي الأَجْرَ، وأنْ يَنْفَعَ بِهِ عَامَّةَ المُسْلِمِينَ، إنَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَلَى ذَلِكَ قَدِيرٌ، وبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ، وآخِرُ دَعْوَانَا أنِ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ عَلَى نَبِينا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ. وكتبه موسى بن راشد العازمي 12 ربيع الآخر 1431 هـ 28/ 3/ 2010 الكويت

قالوا في أهمية السيرة النبوية

قَالُوا في أَهَمِّيَّةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ قالَ زَيْنُ العَابِدِينَ عَلِيُّ بنُ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ: كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَسَرَايَاهُ، كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ (1). وقَالَ الإمَامُ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: في عِلْمِ المَغَازِي عِلْمُ الدُّنْيَا والآخِرَة (1). وقَالَ إسْمَاعِيلُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ سَعْدِ بنِ أبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ: كانَ أبِي يُعَلِّمُنَا مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَقُولُ: يَا بَنِيَّ هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا (1). وقَالَ الخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَتَعَلَّقُ بِمَغَازِي رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحْكَامٌ كَثِيرَةٌ، فَيَجِبُ كَتْبُهَا والحِفْظُ لَهَا (¬1). وقَالَ الإِمَامُ ابْنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وأصْلُ الأُصُولِ العِلْمُ، وأنْفَعُ العُلُومِ النَّظَرُ في سِيَرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابِهِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع (2/ 287 - 288) للخطيب البغدادي. (¬2) سورة الأنعام آية (90) -وانظر كلام ابن الجوزي في صيد الخاطر ص 127.

وقالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطَاوِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجِبُ عَلَى كُلِّ رَبِّ أُسْرَةٍ أَنْ يَكُونَ في بَيْتهِ كِتَابٌ جَامِعٌ مِنْ كتبِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وأنْ يَقْرَأَ فِيهِ دَائِمًا، وأَنْ يتلُوَ مِنْهُ عَلَى أهْلِهِ وأوْلَادِهِ، وأنْ يَجْعَلَ لِذَلِكَ سَاعَةً كُلَّ يَوْمٍ، لَيَنْشَؤُوا عَلَى مَعْرِفَةِ سِيرَةِ الرَّسُولِ الأعْظَمِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّ سِيرَتَهُ اليَنْبُوعُ الصَّافِي لِطَالِبِ الفِقْهِ، والدَّلِيلُ الهَادِي لِبَاغِي الصَّلَاحِ، والمَثَلُ الأعَلَى لِلْأُسْلُوبِ البَلِيغِ، والدُّسْتُورُ الشَّامِلِ لِكُلِّ شُعَبِ الخَيْرِ (¬1). وقالَ أيْضًا الشَّيْخُ عَلِي رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّ في السِّيرَةِ يَا أيُّهَا الإخْوَانُ قِصَصًا كَامِلَةً، فِيهَا كُلُّ مَا يَشْتَرِطُ أهْلُ القَصَصِ مِنَ العَنَاصِرِ الفَنِّيَّةِ، وفِيهَا فَوْقَ ذَلِكَ الصِّدْقُ، وفِيهَا العِبْرَةُ (¬2). وقالَ الشَّيْخُ أبُو الحَسَنِ النَّدْوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ وسِيَرَ الصَّحَابَةِ وتَارِيخَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أقْوَى مَصَادِرِ القُوَّةِ الإيمَانِيَّةِ والعَاطِفَةِ الدِّينيَّةِ، التِي لا تَزَالُ هَذهِ الأمَّةُ والدَّعَوَاتُ الدِّينِيَّةُ تَقْتَبِسُ مِنْهَا شُعْلَةَ الإيمَانِ وتَشْتَعِلُ بهَا مَجَامِرُ القُلُوبِ، التِي يُسْرعُ انْطِفَاؤُهَا وخُمُودُهَا في مَهَبِّ الرِّيَاحِ والعَوَاصِفِ المَادِيَّةِ، والتِي إذَا انْطَفَأَتْ فَقَدَتْ هَذ الأمَّةُ قُوَّتَهَا ومِيزَتَهَا وتَأثِيرَهَا وأصْبَحَتْ جُثَّةً هَامِدَةً تَحْمِلُهَا الحَيَاةُ عَلَى أكْتَافِهَا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي ص 21. (¬2) انظر ذكريات الشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ (6/ 127). (¬3) انظر كتاب حياة الصحابة للشيخ الإِمام العلامة محمد يوسف الكاندهلوي (1/ 15).

وقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أبُو شَهْبَه رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ خَيْرَ مَا يَتَدَارَسُهُ المُسْلِمُونَ، ولَا سِيَّمَا النَّاشِئُونَ والمُتَعَلِّمُونَ، ويُعْنَى بِهِ البَاحِثُونَ والكاتِبُونَ دِرَاسَةُ السِّيرَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، إذْ هِيَ خَيْرُ مُعَلِّمٍ وَمُثَقِّفٍ، ومُهَذِّبٍ، ومُؤَدِّبٍ، وآصَلُ مَدْرَسَةٍ تَخَرَّجَ فِيهَا الرَّعِيلُ الأوَّلُ مِنَ المُسْلِمِينَ والمُسْلِمَاتِ، الذِينَ قَلَّمَا تَجُودُ الدُّنْيَا بِأَمْثَالِهِمْ، فَفِيهَا ما يَنْشُدُهُ المُسْلِمُ، وطَالِبُ الكَمَالِ مِنْ دِينٍ، ودُنْيَا، وإيمَانٍ واعْتِقَادٍ، وعِلْمٍ، وعَمَلٍ، وآدَابٍ وأخْلَاقٍ، وسِيَاسَةٍ وكَيَاسَةٍ (¬1)، وإمَامَةٍ وقِيَادَةٍ، وعَدْلٍ، ورَحْمَةٍ، وبُطُولَةٍ وكِفَاحٍ، وجِهَادٍ واسْتِشْهَادٍ في سَبِيلِ العَقِيدَةِ والشَّرِيعَةِ، والمُثُلِ الإنْسَانِيَّةِ الرَّفِيعَةِ، والقِيَمِ الخُلُقِيَّةِ الفَاضِلَةِ. ولقدْ كَانَتِ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ مَدْرَسَةً تَخَرَّجَ فِيهَا أمْثَلُ النَّمَاذِجِ البَشَرِيَّةِ، وهُمُ الصَّحَابَةُ الكِرَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ، فكَانَ مِنْهُمُ: الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ، والقَائِدُ المُحَنَّكُ، والبَطَلُ المِغْوَارُ، والسِّيَاسِيُّ الدَّاهِيَةُ، والعَبْقَرِيُّ المُلْهَمُ، والعَالِمُ العَامِلُ، والفَقِيهُ البَارعُ، والعَاقِلُ الحَازِمُ، والحَكِيمُ الذِي تَتَفَجَّرُ مِنْ قَلْبِهِ يَنَابِيعُ العِلْمِ والحِكْمَةِ، والتَّاجِرُ الذِي يُحَوِّلُ رِمَالَ الصَّحْرَاءِ ذَهَبًا، والزَّارعُ والصَّانِعُ اللَّذَانِ يَرَيَانِ في العَمَلِ عِبَادَةً، والكَادِحُ الذِي يَرَى في الاحْتِطَابِ عَمَلًا شَرِيفًا يرَفَّعُ بِهِ عَنِ التَّكَفُّفِ والتَّسَوُّلِ، والغَنِيُّ الشَّاكِرُ الذِي يَرَى نَفْسَهُ مُسْتَخْلَفًا في هَذَا المَالِ يُنْفِقُهُ في الخَيْرِ والمَصْلَحَةِ العَامَّةِ، والفَقِيرُ الصَّابِرُ الذِي يَحْسَبُهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حَالهُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ، وكُلُّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ ثَمَرَاتِ الإيمَانِ باللَّهِ، وبِرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) الكَيْسُ: بفتح الكاف وسكون الياء: هو العَقْلُ. انظر النهاية (4/ 188).

وبهَذَا كَانُوا الأمَّةَ الوَسَطَ، وكانُوا خَيْرَ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (¬1). وقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ حَيَاةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْسَتْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ مَسْلَاةَ شَخْصٍ فَارغٍ، أوْ دِرَاسَةَ نَاقِدٍ مُحَايِدٍ، كَلَّا كَلَّا إنَّهَا مَصْدَرُ الأُسْوَةِ الحَسَنِة التِي يَقْتَفِيهَا، ومَنْبَعُ الشَّرِيعَةِ العَظِيمَةِ التِي يَدِينُ بِهَا، فَأَيُّ حَيْفٍ في عَرْضِ هذِهِ السِّيرَةِ، وأَيُّ خَلْطٍ في سَرْدِ أحْدَاثِهَا إسَاءَةٌ بَالِغَةٌ إلَى حَقِيقَةِ الإيمَانِ نَفْسِهِ. . . إنَّنِي أكْتُبُ في السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ كمَا يَكْتُبُ جُنْدِيٌّ عنْ قَائِدِهِ، أوْ تَابعٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وتلْمِيذٌ عَنْ أُسْتَاذِهِ. . إنَّ المُسْلِمَ الذِي لا يَعِيشُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ضَمِيرِهِ، ولا تَتْبَعُهُ بَصِيرَتُهُ في عَمَلِهِ وتَفْكِيرِهِ لا يُغْنِي عَنْهُ أبَدًا أنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِأَلْفِ صَلَاةٍ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء الكتاب والسنة للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ (1/ 7 - 8). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 5.

مزايا السيرة النبوية

مَزَايَا السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ تَجْمَعُ السِّيرَةُ النَّبَوِيَّةُ عِدَّةَ مزَايَا تَجْعَلُ دِرَاسَتَهَا مُتْعَةً رُوحِيَّةً وعَقْلِيَّةً وتَارِيخِيَّةً، كمَا تَجْعَلُ هَذ الدِّرَاسَةَ ضَرُورِيَّةً لِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ، والدُّعَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، والمُهْتَمِّينَ بالإِصْلَاحِ الاجْتِمَاعِيِّ، لِيَضْمَنُوا إبْلَاغَ الشَّرِيعَةِ إلَى النَّاسِ بأُسْلُوب يَجْعَلُهُمْ يَرَوْنَ فِيهَا المَثَلَ الأَعْلَى عِنْدَ اضْطِرَابِ السُّبُلِ واشْتِدَادِ العَوَاصِفِ، ولتَتَفَتَّحَ أمَامَ الدُّعَاةِ قُلُوبَ النَّاسِ وأفْئِدَتَهُمْ، ويَكُونَ الإصْلَاحُ الذِي يَدْعُو إلَيْهِ المُصْلِحُونَ، أقْرَبَ نَجَاحًا وأكْثَرَ سَدَادًا. * ونُجْمِلُ فِيمَا يَلِي أبْرَزَ مَزَايَا السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ: أوَّلًا: إنَّها أصَحُّ سِيرَةٍ لِتَارِيخِ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أوْ عَظِيمٍ مُصْلحٍ فَقَدْ وَصَلَتْ إلَيْنَا سِيرَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أصَحِّ الطُّرُقِ العِلْمِيَّةِ وأقْوَاهَا ثُبُوتًا، مِمَّا لا يَتْرُكُ مَجَالًا لِلشَّكِّ في وَقَائِعِهَا البَارِزَةِ وأحْدَاثِهَا الكُبْرَى، ومِمَّا يُيَسِّرُ لَنَا مَعْرِفَةَ مَا أُضِيفَ إلَيْهَا في العُصُورِ المُتَأَخِّرَةِ مِنْ أحْدَاثٍ أوْ مُعْجِزَاتٍ أوْ وَقَائِعَ أَوْحَى بِهَا العَقْلُ الجَاهِلُ الرَّاغِبُ في زِيَادَةِ إضْفَاءِ الصِّفَةِ المُدْهِشَةِ عَلَى رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أكْثَرَ مِمَّا أرَادَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولهِ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنْ جَلَالِ المَقَامِ وقُدْسِيَّةِ الرِّسَالَةِ، وعَظَمَةِ السِّيرَةِ.

قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: . . . فَبِاللَّهِ عَلَيْكَ، إِذَا كَانَ الإِكْثَارُ مِنَ الحَدِيثِ في دَوْلَةِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، كَانُوا يُمْنَعُونَ مِنْهُ (¬1)، مَعَ صِدْقِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَعَدَمِ الأَسَانِيدِ، بَلْ هُوَ غَضٌّ لَمْ يُشَبْ، فَمَا ظَنُّكَ بِالإِكْثَارِ مِنْ رِوَايَةِ الغَرَائِبِ وَالمَنَاكِيرِ فِي زَمَانِنَا مَعَ طُولِ الأَسَانِيدِ، وَكَثْرَةِ الوَهْمْ وَالغَلَطِ، فَبِالحَرِيِّ أَنْ نَزْجُرَ القَوْمَ عَنْهُ، فَيَا لَيْتَهُمْ يَقْتَصِرُونَ عَنْ رِوَايَةِ الغَرِيبِ وَالضَّعِيفِ، بَلْ يَرْوُونَ -وَاللَّهِ- المَوْضُوعَاتِ وَالأَبَاطِيلَ، وَالمُسْتَحِيلَ في الأُصُولِ وَالفُرُوعِ، وَالمَلَاحِمِ وَالزُّهْدِ، نَسْأَلُ اللَّه العَافِيَةَ. فَمَنْ رَوَى ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِبُطْلَانِهِ، وَغَرَّ المُؤْمِنِينَ، فَهَذَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، جَانٍ عَلَى السُّنَنِ وَالآثارِ، يُسْتَتَابُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أنابَ وَأَقْصَرَ، وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ، كَفَى بِهِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمعَ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْلَمْ، فَلَيَتَوَرَع، وَلْيَسْتَعِنْ بِمَنْ يُعِينُهُ عَلَى تَنْقِيَةِ مَرْوِيَّاتِهِ، نَسْأَلُ اللَّه العَافِيَةَ (¬2). ثَانِيًا: إنَّ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- واضِحَةٌ كُلَّ الوُضُوحِ في جَمِيعِ مَرَاحِلِهَا، مُنْذُ زَوَاجِ أبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِأُمِّهِ آمِنَةَ إلَى وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَحْنُ نَعْرِفُ الشَّيْءَ الكَثِيرَ عَنْ وِلَادَتِهِ، وطُفُولَتِهِ، وشَبَابِهِ، ومَكْسَبِهِ قَبْلَ النُبوَّةِ، ورَحَلَاتِهِ خَارج مَكَّةَ، ¬

_ (¬1) كانوا يمنعون من رواية الحديث في خلافة عمر -رضي اللَّه عنه- لسببين: 1 - السبب الأول: اتساع الدولة الإِسلامية في زمن عمر -رضي اللَّه عنه-، فحتى لا ينشغل أهل البلاد المفتوحة بالحديث دون القرآن. 2 - السبب الثاني: أنهم كانوا يمنعون من رواية الرقائق والمواعظ، دون أحاديث الأحكام والعبادات. وأخرج نهي عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن الإقلال في رواية الحديث: ابن ماجه في سننه -رقم الحديث (28) -والحاكم في المستدرك -رقم الحديث (353) - وإسناده صحيح. (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 601 - 602).

إلَى أنْ بَعَثَهُ اللَّهُ رَسُولًا كَرِيمًا، ثُمَّ نَعْرِفُ بِشَكْلٍ أدَقَّ وَأوْضَحَ وأكْمَلَ كُلَّ أحْوَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَنَةً فَسَنَةً، مِمَّا يَجْعَلُ سِيرَتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاضِحَةً وُضُوحَ الشَّمْسِ، كمَا قَالَ بَعْضُ النُّقَّادِ الغَرْبِيِّينِ: إنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ الوَحِيدُ الذِي وُلدَ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ. وهَذَا مَا لَمْ يَتيَسَّرْ مِثْلُهُ ولا قَرِيبٌ مِنْهُ لِرَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ السَّابِقِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، فَمُوسَى عَليهِ السَّلامُ لا نَعْرِفُ شَيْئًا قَطُّ عَنْ طفولَتِهِ وشَبَابِهِ وطُرُقِ مَعِيشَتِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، ونَعْرِفُ الشَّيءَ القَلِيلَ عَنْ حَيَاتِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، مِمَّا لا يُعْطِينَا صُورَةً مُكْتَمِلَةً لِشَخْصِيَّتهِ، ومِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ في عِيسَى عَليهِ السَّلامُ، وغَيْرِهِمْ مِنَ الأنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا تَذْكُرُهُ مَصَادِرُ السِّيرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أدَقِّ التَّفَاصِيلِ في حَيَاةِ رَسُولنَا -صلى اللَّه عليه وسلم- الشَّخْصِيَّةِ، كَأَكْلِهِ (¬1)، وقِيَامِهِ وقعودِهِ (¬2)، ولبَاسِهِ (¬3)، وشكلِهِ (¬4)، . . . ¬

_ (¬1) روى الإِمام مسلم في صحيحه -رقم الحديث (2032) عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه قال: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يَلْعَقُ -أي يلحسُ- أصابعَهُ الثَّلاث من الطعام. وروى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (5398) عن أبي جحيفة -رضي اللَّه عنه- قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لا آكُلُ مُتَّكِئًا". (¬2) روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (475) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (2100) - عن عبّاد بن تميم، عن عمه: أنه رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُسْتَلْقِيًا في المسجد وَاضِعًا إحْدَى رِجْلَيْهِ على الأخرى. (¬3) روى الإِمام أحمد في مسنده -رقم الحديث (7117) - بسند صحيح عن أبي رِمثة قال: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعليه بُرْدَانِ أخْضَرَانِ. (¬4) روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (3548) - ومسلم في صحيحه -رقم =

وهَيْئَتِهِ، ومَنْطِقِهِ (¬1) ومُعَامَلَتِهِ لأُسْرَتِهِ (¬2) , وتَعَبُّدهِ، وصَلَاتِهِ (¬3)، ومُعَاشَرَتِهِ لِأَصْحَابِهِ (¬4)، بَلْ بَلَغَتِ الدِّقَّةُ في رُوَاةِ سِيرَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنْ يَذْكُرُوا لنَا عَدَدَ الشَّعَرَاتِ ¬

_ = الحديث (2347) - عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْسَ بالطَّوِيلِ البَائِنِ، ولا بالقصيرِ، ولا بالأبيض الأمْهَقِ، ولا بالآدَمِ، ولا بالجَعْدِ القَطَطِ، ولا بالسَّبْطِ. (¬1) المَنْطِقُ: هو الكَلَامُ. انظر لسان العرب (14/ 188). روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (3568) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (2493) عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: . . . إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُنْ يَسْرُدُ الحديثَ كَسَرْدِكُمْ. وروى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (95) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: كانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا تَكَلَّمَ بكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثلاثًا حتى تُفْهَمَ عَنْهُ. قال ابن المُنيّر فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (1/ 255): والحقُّ أنَّ هذا يختلِفُ باختِلافِ القَرَائِحِ، فلا عَيْبَ على المُسْتَفِيدِ الذِي لا يَحْفَظُ مِنْ مرَّةٍ إذا اسْتَعَادَ، ولا عُذْرَ للمُفِيدِ إذا لَمْ يُعِدْ بلِ الإعَادَةُ عليه آكَدُ منَ الابْتِدَاءِ؛ لأنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ. (¬2) روى الإِمام أحمد في المسند بسند جيدٍ -رقم الحديث (26277) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: خرجتُ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعضِ أسْفَاره وأنا جَاريةٌ لم أحْمِلِ اللَّحْمَ ولم أبْدُنْ، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- للناس: "تَقَدَّمُوا"، فتقدَّموا، ثم قال لي: "تَعَالَي حتَّى أُسَابِقَكِ". فسَابَقْتُهُ فسَبَقْتُهُ، فسَكَتَ عَنِّي، حتى إذا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وبَدُنْتُ ونَسِيتُ، خرجتُ معهُ في بَعْضِ أسْفَاره، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- للناسِ: "تقَدَّمُوا" فتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قال: "تَعَاليْ حتى أُسَابِقَكِ"، فسَابَقْتُهُ، فسَبَقَنِي، فجعَلَ يَضْحَكُ، وهُوَ يَقُولُ: "هذِهِ بِتلْكَ". (¬3) روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (1130) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (2819) - عن المغيرة بن شعبة زقوله قال: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى حتى انتفَخَتْ قدَمَاهُ، فقِيلَ لهُ: أتكَلَّفُ هذا؟ وقَدْ غفرَ اللَّه لك ما تَقَدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ. قال: "أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا". (¬4) روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (6129) - ومسلم في صحيحه -رقم =

البِيضِ في رَأْسِهِ ولحْيَيهِ (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثَالِثًا: إنَّ سِيرَةَ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْكِي سِيرَةَ إنْسَانٍ أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بالرِّسَالَةِ، فَلَمْ تُخْرِجْهُ عَنْ إنْسَانِيَّتهِ، فَقَدْ تَزَوَّجَ وطَلَّقَ، ورَضِيَ وغَضِبَ، وبَاعَ واشْترَى، هُوَ إنْسَانٌ بِكُلِّ ما في هَذِهِ الكَلِمَةِ مِنْ مَعْنًى يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ أرَادَ ذَلِكَ، ولَمْ تَلْحَقْ حَيَاتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأسَاطِيرِ، ولَمْ تُضِفْ عَليْهِ الألوهِيَّةَ قَلِيلا ولا كَثِيرًا، وإذَا قَارَنَّا هَذَا بِمَا يَرْوِيهِ المَسِيحِيُّونَ عنْ سِيرَةِ عِيسَى عَليهِ السَّلامُ، ومَا يَرْوِيهِ البُوذِيُّونَ عَنْ بُوذَا، والوَثَنِيُّونَ عنْ آلِهَتِهِمْ المَعْبُودَةِ، اتَّضَحَ لنَا الفَرْقُ جَلِيًّا بَيْنَ سِيرَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسِيرَةِ هَؤُلَاءِ، ولذَلِكَ أَثَرٌ بَعِيدُ المَدَى في السُّلُوكِ الإنْسَانِيِّ والاجْتِمَاعِيِّ لِأَتباعِهِمْ، فَادِّعَاءُ الألُوهِيَّةِ لِعِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ، ولبُوذَا جَعَلَهُمَا أبْعَدَ مَنَالًا مِنْ أنْ يَكُونَا قُدْوَةً نَمُوذَجِيَّةً للإنْسَانِ في حَيَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ والاجْتِمَاعِيَّةِ، بَيْنَمَا ظَلَّ وسَيَظَلُّ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَثَلَ النَّمُوذَجِيَّ الإنْسَانِيَّ الكَامِلَ لِكُلِّ مَنْ أرَادَ أنْ يَعِيشَ سَعِيدًا كَرِيمًا في نَفْسِهِ وأُسْرَتِهِ وبِيئَتِهِ، ومِنْ هُنَا يقُولُ اللَّهُ ¬

_ = الحديث (2150) - عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: إنْ كانَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيُخَالِطُنَا حتى يَقُولَ لأَخٍ لي صَغِيرٍ: "يا أبات عُمَيْر ما فَعَل النُّغَيْر". وروى الإِمام أحمد في المسند -رقم الحديث (8481) - والترمذي في جامعه -رقم الحديث (2108) بسند قوي- عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قالوا: يا رسول اللَّه، إنَّك تُدَاعِبُنَا، قال: "إنِّي لا أقُولُ إلَّا حَقًّا". (¬1) روى الإِمام أحمد في المسند -رقم الحديث (12690) - وابن حبان في صحيحه -رقم الحديث (6293) بسند صحيح- عنٍ أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: ما عَدَدْتُ في رأسِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولحْيَتهِ، إلَّا أرْبَع عَشْرَةَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.

تَعَالَى في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬1). رَابِعًا: إنَّ سِيرَةَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَامِلَةٌ لِكُلِّ النَّوَاحِي الإنْسَانِيَّةِ في الإنْسَانِ، فَهِيَ تَحْكِي لنَا سِيرَةَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- الشَّابِّ الأمِينِ المُسْتَقِيمِ قَبْلَ أنْ يُكْرِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالرِّسَالِةِ، كمَا تَحْكِي لَنَا سِيرَةَ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الدَّاعِيَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى المُتَلَمِّسِ أجْدَى الوَسَائِلِ لِقَبُولِ دَعْوتهِ، البَاذِلِ مُنْتَهَى طَاقَتِهِ وجُهْده في إبْلَاغِ رِسَالَتِهِ، كمَا تَحْكِي لنَا سِيرَتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَرَئِيسِ دَوْلَةٍ يَضَعُ لِدَوْلَتِهِ أقْوَمَ النُّظُمِ وأصَحَّهَا، ويَحْمِيَهَا بِيَقْظَتِهِ وإخْلَاصِهِ وصِدْقِهِ بمَا يَكْفُلُ لَهَا النَّجَاحَ، كمَا تَحْكِي لنَا سِيرَةَ الرَّسُولِ الزَّوْجِ والأَبِ في حُنُوِّ العَاطِفَةِ، وحُسْنِ المُعَامَلَةِ، والتَّمْيِيزِ الوَاضِحِ بَيْنَ الحُقُوقِ والوَاجِبَاتِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ والأوْلَادِ، كمَا تَحْكِي لَنَا سِيرَةَ الرَّسُولِ المُرَبِّي المُرْشِدِ الذِي يُشْرِفُ عَلَى تَرْبِيَةِ أصْحَابِهِ تَرْبِيَةً مِثَالِيَّةً يَنْقُلُ مِنْ رُوحِهِ إلَى أرْوَاحِهِمْ، ومِنْ نَفْسِهِ إلَى نُفُوسِهِمْ، ما يَجْعَلُهُمْ يُحَاوِلُونَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ في دَقِيقِ الأُمُورِ وكَبِيرِهَا، كمَا تَحْكِي لنَا سِيرَةَ الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّدِيقِ الذِي يَقُومُ بِوَاجِبَاتِ الصُّحْبَةِ، ويَفِي بِالْتِزَامَاتِهَا وآدابِهَا، مِمَّا يَجْعَلُ أصْحَابَهُ يُحِبُّونَهُ كَحُبِّهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ (¬2) وأكْثَرَ مِنْ حُبِّهِمْ لِأَهْلِيهِمْ وأقْرِبَائِهِمْ، وسِيرَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْكِي لنَا ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (21). (¬2) روى الإِمام البخاري في صحيحه -رقم الحديث (6332) - عن عبد اللَّه بن هشام قال: كنّا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فقال له عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يا رسولَ اللَّه لأنْتَ أحَبُّ إليّ منْ كُلِّ شَيءٍ، إلا نَفْسِي، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا والذِي =

سِيرَةَ المُحَارِبِ الشُّجَاعِ، والقَائِدِ المُنْتَصِرِ، والسِّيَاسِيِّ النَّاجِحِ، والجَارِ الأمِينِ، والمُعَاهِدِ الصَّادِقِ. وخُلَاصَةُ القَوْلِ: إِنَّ سِيرَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ النَّوَاحِي الإنْسَانِيَّةِ في المُجْتَمَعِ، مِمَّا يَجْعَلُهُ القُدْوَةَ الصَّالِحَةَ لِكُلِّ دَاعِيَةٍ، وكُلِّ قَائِدٍ، وكُلِّ أبٍ، وكُلِّ زَوْجٍ، وكُلِّ صَدِيقٍ، وكُلِّ مُرَبِّي، وكُلِّ سِيَاسِيٍّ، وكُلِّ رئيسِ دَوْلَةٍ، وهَكَذَا. . . خَامِسًا: إِنَّ سِيرَةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُعْطِينَا الدَّلِيلَ الذي لَا رَيْبَ فِيهِ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ ونُبُوَّتِهِ، إنَّهَا سِيرَةُ إنْسَانٍ كَامِل سَارَ بِدَعْوَتِهِ مِنْ نَصْرٍ إلَى نَصْرٍ، لَا عَلَى طَرِيقِ الخَوَارِقِ والمُعْجِزَاتِ، بلْ عَنْ طَرِيقٍ طَبِيعِيٍّ بَحْتٍ، فَلَقَدْ دَعَا فَأُوذِيَ، وبَلَّغَ فَأَصْبَحَ لَهُ الأنْصَارُ، واضْطر إلَى الحَرْبِ فَحَارَبَ، وكَانَ حَكِيمًا، مُوَفَّقًا في قِيَادَتِهِ، فَمَا أزِفَتْ سَاعَةُ وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلَّا كَانَتْ دَعْوَتُهُ تَلُفُّ الجَزِيرَةَ العَرَبِيَّةَ كُلَّهَا عَنْ طَرِيقِ الإِيمَانِ، لا عَنْ طَرِيقِ القَهْرِ والغَلَبَةِ، ومَنْ عَرَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ العَرَبُ مِنْ عَادَاتٍ وعَقَائِدَ ومَا قَاوَمُوا بِهِ دَعْوَتَهُ مِنْ شَتَّى أنْوَاعِ المُقَاوَمَةِ حَتَّى تَدْبِيرِ اغْتِيَالِهِ، ومَنْ عَرَفَ عَدَمَ التَّكَافُؤِ بَيْنَهُ وبَيْنَ مُحَارِبِيهِ في كُلِّ مَعْرَكَةٍ انْتَصَرَ فِيهَا، ومَنْ عَرَفَ قِصَرَ المُدَّةِ التِي اسْتَغْرَقتهَا رِسَالتهُ حتَّى وَفَاتِهِ، وهِيَ ثَلَاثٌ وعِشْرُونَ سَنَةً، أيْقَنَ أنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- رسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وأنَّ ما كَانَ يَمْنَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى ¬

_ = نَفْسِي بِيَدِهِ حتَّى أكُونَ أحبُّ إليكَ مِنْ نَفْسِكَ"، فقال عمر -رضي اللَّه عنه-: فأنَّه الآنَ واللَّهِ لَأَنْتَ أحَبُّ إليّ مِنْ نَفْسِي، فقال لهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الآنَ يا عُمَرُ".

مِنْ ثَبَاتٍ وَقُوَّةٍ وتَأْثِيم ونَصْرٍ لَيْسَ إلَّا لأنَّهُ نَبِيٌّ حَقًّا، ومَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أنْ يُؤَيِّدَ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ هذَا التَّأيِيدَ الفَرِيدَ في التَّارِيخِ، فَسِيرَةُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُثْبِتُ لَنَا صِدْقَ رِسَالَتِهِ عنْ طَرِيقٍ عَقْلِيٍّ بَحْتٍ، وما وَقَعَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المُعْجِزَاتِ لمْ يَكُنْ الأسَاسَ الأوَّلَ في إيمَانِ العَرَبِ بِدَعْوَتِهِ، بلْ إنَّا لا نَجِدُ لهُ مُعْجِزَةً آمَنَ مَعَهَا الكُفَّارُ المُعَانِدُونَ، عَلَى أنَّ المُعْجِزَاتِ المَادِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ شَاهَدَهَا، ومِنَ المُؤَكَّدِ أنَّ المُسْلِمِينَ الذِينَ لَمْ يَرَوا الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَمْ يُشَاهِدُوا مُعْجِزَاتِهِ، إنَّمَا آمَنُوا بِصِدْقِ رِسَالَتهِ لِلْأَدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ القَاطِعَةِ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ، ومِنْ هَذِهِ الأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ: القُرْآنُ الكَرِيمُ، فإنَّهُ مُعْجِزَةٌ عَقْلِيَّةٌ، تُلْزِمُ كُلَّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ أنْ يُؤْمِنَ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- في دَعْوَى الرِّسَالَةِ. . . ومِنْ هُنَا نرى هَذِهِ المِيزَةَ الوَاضِحَةَ في سِيرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنَّهُ مَا آمَنَ بِهِ واحِدٌ عنْ طَرِيقِ مُشَاهَدَتِهِ لِمُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ، بَلْ عَنِ اقْتِنَاع عَقْلِيِّ وُجْدَانِيٍّ، وإذَا كانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أكْرَمَ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمُعْجِزَاتِ الخَارِقَةِ، فمَا ذَلِكَ إلَّا إكْرَامٌ له -صلى اللَّه عليه وسلم- وإفْحَامٌ لِمُعَانِدِيهِ المُكَابِرِينَ، ومَنْ تتبَّعَ القُرْآنَ الكَرِيمَ وجَدَ أنَّهُ اعْتَمَدَ في الإِقْنَاعِ عَلَى المُحَاكَمَةِ العَقْلِيَّةِ، والمُشَاهَدَةِ المَحْسُوسَةِ لِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى، والمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أُمِّيَّةٍ تَجْعَلُ إتْيَانَهُ بِالقُرْآنِ الكَرِيمِ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة دروس وعبر للدكتور مصطفى السباعي ص 15 - 23.

الجزيرة العربية في العصر الجاهلي

الجَزِيرَةُ العَرَبيَّةُ في العَصرِ الجَاهِلِيِّ أمَّا العَرَبُ قَبْلَ الإِسْلَامِ فَسَاءَتْ أخْلَاقُهُمْ، فأوْغَلُوا بالخَمْرِ والقِمَارِ، وبَلَغَتْ بِهِمُ القَسَاوَةُ والحَمِيَّةُ المَزْعُومَةُ إلَى وَأْدِ (¬1) البَنَاتِ، وشَاعَتْ فِيهِمُ الغَارَاتُ، وقَطْعُ الطُّرُقِ عَلَى القَوَافِلِ، وسَقَطَتْ مَنْزِلَةُ المَرْأَةِ، فكَانَتْ تُورَثُ كَمَا يُورَثُ المَتَاعُ أوِ الدَّابَّةُ، ومِنَ المَأْكُولَاتِ مَا هُوَ خَاصٌّ بِالذُّكُورِ، مُحَرَّمٌ عَلَى الإِنَاثِ، وكانَ يَسُوَّغُ لِلرَّجُلِ أنْ يَتَزَوَّجَ ما يَشَاءُ مِنَ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ. وكَانَتِ العَصَبِيَّةُ القَبَلِيَّةُ، والدَّمَوِيَّةُ شَدِيدَةً جَامِحَةً، وأُغْرِمُوا بالحَرْبِ، حتَّى صَارَتْ مَسْلَاةً لَهُمْ، ومَلْهًى وهِوَايَةً، يَنتهِزُونَ لِلتَّسْلِيَةِ، وقَضَاءَ هَوَى النَّفْسِ نُشُوبَ حَرْبٍ لَهَا مُسَوِّغٌ، أوَ لَا مُسَوِّغَ لَهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ما قَالَهُ الشَّاعِرُ الجَاهِلِيُّ (الرُّقَّادُ بنُ المُنْذِرِ بنِ ضِرَارٍ الضَّبِّيُّ): إذَا المُهْرَةُ الشَّقْرَاءُ أَدْرَكَ ظَهْرُهَا ... فَشَبَّ الإِلَهُ الحَرْبَ بَيْنَ القَبَائِلِ وأَوْقَدَ نَارًا بَيْنَهُمْ بِضِرَامِهَا ... لَهَا وَهْجٌ لِلْمُصْطَلِي غَيْرُ طَائِلِ وهَانَتْ عَلَيْهِمْ إِرَاقَةُ الدِّمَاءِ، فتثِيرُهَا حَادِثَةٌ تَافِهَةٌ، وتَدُومُ الحَرْبُ أرْبَعِينَ ¬

_ (¬1) وَأْدُ البَنَاتِ: قَتْلُهُنَّ: كانَ إذا وُلدَ لِأَحَدِهم في الجاهلية بِنْتٌ دَفنَهَا في التُّرَاب وهي حيَّة خَشْيَة العَارِ. انظر النهاية (5/ 125).

* شرب الخمر

سَنَةً يُقْتَل فِيهَا أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ. أمَّا مِنْ جِهَةِ الأَخْلَاقِ، فكَانَتْ فِيهِمْ أدْوَاءٌ وأمْرَاضٌ مُتَأَصِّلَةٌ، وأسْبَابُهَا فَاشِيَةٌ (¬1). * شُرْبُ الخَمْرِ: وَكَانَ شُرْبُ الخَمْرِ واسِعَ الشُّيُوعِ، شَدِيدَ الرُّسُوخِ فِيهِمْ، تَحَدَّثَ عَنْ مُعَاقَرَتِهَا والِاجْتِمَاعِ عَلَى شُرْبِهَا الشُّعَرَاءُ، وشَغَلَتْ جَانِبًا كَبِيرًا مِنْ شِعْرِهِمْ وتَارِيخِهِمْ وأدَبِهِمْ، وكَثُرَتْ أسْمَاؤُهَا وصِفَاتُهَا فِي لُغَتِهِمْ، وكثُرَ فِيهَا التَّدْقِيقُ والتَّفْصِيلُ كَثْرَةً تَدْعُو إلَى العَجَبِ، وكَانَتْ حَوَانِيتُ الخَمَّارِينَ مَفْتُوحَةً دَائِمًا يُرَفْرِفُ عَلَيْهَا عَلَمٌ يُسَمَّى (غَايَةً). قَالَ لَبِيدُ (¬2) بنُ رَبِيعَةَ العَامِرِيُّ -رضي اللَّه عنه-: قَدْ بِتُّ سَامِرَهَا وغَايَةَ تَاجِرٍ ... وَافَيْتُ إِذْ رُفِعَتْ وَعَزَّ مُدَامُهَا وكَانَ مِنْ شُيُوعِ تِجَارَةِ الخَمْرِ أنْ أصْبَحَتْ كَلِمَةُ التِّجَارَةِ مُرَادِفَةً لِبَيْعِ الخَمْرِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية ص 39 لأبي الحسن الندوي رحمه اللَّه. (¬2) هُوَ لَبِيدُ بنُ رَبِيعَةَ بنِ صَعْصعَةَ العَامِرِيُّ الشَّاعر المَشْهُورُ، كان -رضي اللَّه عنه- شاعرًا مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءَ، وكان فَارِسًا شُجَاعًا سَخِيًّا، وهو صاحِبُ إحدى المُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، وَفَدَ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنةَ وَفَدَ قَوْمُهُ بنُو جَعْفر، فأسْلَمَ وحَسُنَ إسلامُهُ. انظر الإصابة (5/ 500). (¬3) انظر السيرة النبوية ص 39 لأبي الحسن الندوي رحمه اللَّه.

* القمار

* القِمَارُ: وكَانَ القِمَارُ مِنْ مَفَاخِرِ الحَيَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، قالَ الشَّاعِرُ الجَاهِلِيُّ: أعَيَّرْتَنَا أَلْبَانَهَا ولُحُومَهَا ... وذَلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطَةَ ظَاهِرُ نُحَابِي بِهَا أكْفَاءَنَا ونُهِينُهَا ... ونَشْرَبُ في أثْمَانِهَا ونُقَامِرُ وكَانَ عَدَمُ المُشَارَكَةِ في مَجَالِسِ القِمَارِ عَارًا. قَالَ قتَادَةُ: كانَ الرَّجُلُ في الجَاهِلِيَّةِ يُقَامِرُ عَلَى أَهْلِهِ ومَالِهِ، فَيَقْعُدُ حَرِيبًا (¬1) سَلِيبًا، يَنْظُرُ إلى مَالِهِ في يَدِ غَيْرِهِ، فكانَتْ تُورِثُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً وبُغْضًا (¬2). * تَعَاطِيهِمُ الرِّبَا: وكَانَ أهْلُ الحِجَازِ: العَرَبُ واليَهُودُ، يَتَعَاطَوْنَ الرِّبَا، وكانَ فَاشِيًا (¬3) فِيهِمْ، وكانُوا يُجْحِفُونَ (¬4) فيهِ، ويَبْلُغُونَ إلَى حَدِّ الغُلُوِّ والقَسْوَةِ. قالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كانَ الرِّبَا في الجَاهِلِيَّةِ في التَّضْعِيفِ وفي السِّنِينَ، يكُونُ لِلرَّجُلِ فَضْلُ دَيْنٍ، فَيَأْتِيهِ إِذَا حَلَّ الأَجَلُ، فَيَقُولُ له: تَقْضِيني أوْ تَزِيدُنِي؟ فإنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَقْضِيهِ قَضَى، وإلَّا حَوَّلهُ إلَى السِّنِّ التِي فَوْقَ ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ ابْنَةَ مَخَاضٍ (¬5) يَجْعَلُهَا. . . . ¬

_ (¬1) الحريب: الذي سُلِبَ ماله. انظر لسان العرب (3/ 101). (¬2) انظر تفسير الإِمام الطبري (5/ 36) - آية (91) من سورة المائدة. (¬3) فَشَا: أي انتشَرَ. انظر النهاية (3/ 403). (¬4) المُجَاحَفَةُ: أخْذُ الشّيء واجْتِرَافُهُ. انظر لسان العرب (2/ 186). (¬5) المَخَاضُ: اسمٌ للنُّوقِ الحَوَامِلِ، وبِنْتُ المَخَاضِ وابنُ المَخَاضِ: ما دخلَ في السُّنةِ =

ابْنَةَ لَبُونٍ (¬1) في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ حِقَّةً (¬2)، ثُمَّ جَذْعَةً (¬3)، ثُمَّ رُبَاعِيًّا (¬4) هَكَذا إلَى فَوْقٍ. وفي العَيْنِ (¬5) يَأْتيهِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أضْعَفَهُ في العَامِ القَابِلِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أضْعَفَهُ أَيْضًا، فتَكُونُ مِئَةً، فَيَجْعَلُهَا إلَى القَابِلِ مِئتَيْنِ، فإنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَعَلَهَا أرْبَعَمِئَةٍ يُضْعِفُهَا له كُلَّ سَنَةٍ أوْ يَقْضِيهِ (¬6). وقَدْ رَسَخَ الرِّبَا فِيهِمْ، وجَرَى مِنْهُمْ مَجْرَى الأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ التِي صَارُوا لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ التِّجَارةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وقَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}. قالَ الإِمَامُ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الذِينَ كانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ أهْلِ ¬

_ = الثَّانيةِ؛ لأنَّ أُمَّهُ قد لَحِقَتْ بالمَخَاضِ: أي الحَوَامِلِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا. انظر النهاية (4/ 261). (¬1) بنتُ لَبُونٍ، وابنُ لَبُونٍ: وهُمَا مِنَ الإبلِ ما أَتَى عليهِ سَنَتَانِ ودخَلَ في الثَّالِثَةِ، فصَارَتْ أمُّهُ لَبُونًا، أي ذَاتَ لَبَنٍ؛ لأنَّهَا تكُونُ قدْ حَمَلَتْ حَمْلًا آخَرَ ووضَعَتْهُ. انظر النهاية (4/ 198). (¬2) الحِقَّةُ: بكسر الحاء وهو منَ الإبِلِ ما دخلَ في السنة الرابعة إلى آخرها، وسُمّى بذلك لأنه استَحَقَّ الرُّكُوبَ والتَّحْمِيلَ، ويُجمعُ على حِقاقٍ وحَقَائِقَ. انظر النهاية (1/ 399). (¬3) الجَذْعَةُ: هو ما كان منها شَابًّا فَتِيًّا، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والمَعْز ما دخل في السنة الثانية، وقيل البقر في الثالثة، ومن الضَّأْنِ ما تمَّتْ له سنة، وقيل أقل منها. انظر النهاية (1/ 243). (¬4) يُقالُ للذَّكر من الإبل إذا طلَعَتْ رَبَاعِيتهُ -أي أسنانه الأمامية- رَبَاعٌ، والأنثى رَبَاعِيَةٌ بالتخفيف، وذلك إذا دخَلَا في السَّنَةِ السابعة. انظر النهاية (2/ 173). (¬5) العَيْنُ: هوَ الذَّهَبُ. انظر لسان العرب (9/ 507). (¬6) انظر تفسير الطبري (3/ 104).

* انتشار الزنى

الجَاهِلِيَّةِ، كانَ إذا حَلَّ مَالُ أحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ، يَقُولُ الغَرِيمُ لِغَرِيمِ الحَقِّ: زِدْنِي في الأَجَلِ وأزِيدُكَ في مَالِكَ، كَانَ يُقَالُ لَهُمَا إذا فَعَلَا ذَلِكَ: هذَا رِبًا لا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ، قالُوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا في أوَّلِ البَيْعِ، أوْ عِنْدَ مَحَلِّ المَالِ (¬1). * انْتِشَارُ الزِّنَى: ولَمْ يَكُنْ الزِّنَى نَادِرًا، وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَنْكَرٍ، فَكَانَ مِنَ العَادَاتِ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ خَلِيلَاتٍ، وتَتَّخِذَ النِّسَاءُ أخِلَّاءَ بِدُونِ عَقْدٍ، وقَدْ كَانُوا يُكْرِهُونَ بَعْضَ النِّسَاءِ عَلَى الزِّنَى، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ (¬2) مِنْكُمْ طَوْلًا (¬3) أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ (¬4) الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ (¬5) وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} (¬6). ورَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (3/ 104). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 260): أي ومنْ لَمْ يَجِدْ. (¬3) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 260): أي سَعَةً وقُدْرةً. (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 261): أي الحَرَائِر. (¬5) قال القرطبي في تفسيره (6/ 236): أي غير زَوَانٍ، أي مُعْلِنَاتٍ بالزِّنى؛ لأنَّ أهل الجاهلية كان فيهم الزَّوَاني في العَلَانيَةِ، ولهُنَّ رايات مَنْصُوباتٌ. (¬6) قال القرطبي في تفسيره (6/ 236): أي أصدقاءُ على الفاحشةِ، والآية الكريمة في سورة النساء رقم (25).

النِّكَاحَ في الجَاهِلِيَّةِ كانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أنْحَاءَ. . . والنِّكَاحُ الرَّابع: يَجْتَمعُ النَّاسُ الكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى المَرْأَةِ لا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا، وهُنَّ البَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ تَكُونُ عَلَمًا (¬1)، فمَنْ أرَادَهُّنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ (¬2). وقالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬3). ورَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ في المُوَطَّأِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قالَ: لَا تُكَلِّفُوا الأَمَةَ غَيْرَ ذَاتِ الصَّنْعَةِ الكَسْبَ، فَإنَّكُمْ مَتَى كَلَّفْتُمُوهَا ذَلِكَ كَسَبَتْ بِفَرْجِهَا (¬4). وقَدْ نَهَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ كَسْبِ البَغِيِّ، فقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَده بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: نَهَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ كَسْبِ الحَجَّامِ، وكَسْبِ البَغِيِّ، وثَمَنِ الكَلْبِ (¬5). ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالَ: أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولَ يُقَالُ لَهَا: مُسَيْكَةٌ، وأخُرْى يُقَالُ لَهَا: ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (10/ 232): عَلَمًا بفتح اللام أي عَلامَةً. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب النكاح- باب {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} - رقم الحديث (5127). (¬3) سورة النور آية (33). (¬4) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ -كتاب الاستئذان- باب الأمر بالرِّفق بالمَمْلوك - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (10/ 589). (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7976).

* وأدهم البنات

أُمَيْمَةٌ، فكانَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى الزِّنَى، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وَكَانَتِ المَرْأَةُ في المُجتَمَعِ الجَاهِلِيِّ عُرْضَةَ غَبْنٍ (¬2) وحَيْفٍ (¬3)، تُؤْكَلُ حُقُوقُهَا، وتُبْتَزُّ (¬4) أَمْوَالُهَا، وتُحْرَمُ إرْثَهَا، وتُعْضَلُ (¬5) بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَوْ وَفَاةِ الزَّوْجِ مِنْ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا تَرْضَاهُ، وتُورَثُ كَمَا يُورَثُ المَتَاعُ أَوِ الدَّابَّةُ. * وَأْدُهُمُ البَنَاتِ: وقَدْ بَلَغَتْ كَرَاهَةُ البَنَاتِ إِلَى حَدِّ الوَأْدِ (¬6)، ذَكَرَ الهَيْثَمُ بنُ عَدِي، عَلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُ المَيْدَانِيُّ أنَّ الوَأْدَ كَانَ مُسْتَعْمَلًا في قَبائِلِ العَرَبِ قَاطِبَةً، فكَانَ يَسْتَعْمِلُهُ وَاحِدٌ ويَتْرُكُهُ عَشَرَةٌ، فجَاءَ الإِسْلَامُ، وكَانَتْ مَذَاهِبُ العَرَبِ مُخْتَلِفَةً في وَأْدِ البَنَاتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَئِدُ البَنَاتِ لِمَزِيدِ الغَيْرَةِ، ومَخَافَةِ لُحُوقِ العَارِ بِهِمْ مِنْ أجْلِهِنَّ، ومِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَئِدُ مِنَ البَنَاتِ مَنْ كَانَتْ زَرْقَاءَ، أَوْ شَيْمَاء (¬7)، ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه -كتاب التفسير- باب في قوله تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} - رقم الحديث (3029) (27). (¬2) الغَبْنُ: النسيان. انظر لسان العرب (10/ 15). (¬3) الحَيْف: الميل في الحكم، والجور والظلم. انظر لسان العرب (3/ 420). (¬4) تُبْتَزُّ أمْوَالهَا: أي تُسْلَبُ أمْوَالها. انظر لسان العرب (1/ 399). (¬5) تُعْضَلُ: أي تُمْنَعُ. انظر النهاية (3/ 230). (¬6) وَأْدُ البناتِ: قتلُهُنَّ: كان إذا وُلد لأحدهم في الجاهلية بنت دفنَهَا في التُّراب وهي حَيَّة، خشية العارِ. انظر النهاية (5/ 125). (¬7) شَيْمَاءُ: أي سَوْداءُ. انظر لسان العرب (7/ 262).

* قتل الأولاد خشية الفقر

أَوْ بَرْشَاءَ (¬1)، أو كَسْحَاءَ (¬2) تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وكانُوا يَقْتُلُونَ البَنَاتِ، ويَئِدُونَهُنَّ بِقَسْوَةٍ نَادِرَةٍ في بَعْضِ الأَحْيَانِ، فَقَدْ يتأَخَّرُ وَأْدُ المَوْءُودَةِ لِسَفَرِ الوَالِدِ وشُغْلِهِ فَلَا يَئِدُهَا إلَّا وقَدْ كَبِرَتْ، وصَارَتْ تَعْقِلُ، وقَدْ حَكَوْا في ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مُبْكِيَاتٍ، وقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُلْقِي الأُنْثَى مِنْ شَاهِقٍ (¬3). يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِهِمْ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا (¬4) وَهُوَ كَظِيمٌ (¬5) (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ (¬6) فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬7). * قَتْلُ الأَوْلَادِ خَشْيَةَ الفَقْرِ: وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْتُلُ أوْلَادَهُ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وخَوْفَ الفَقْرِ، وهُمُ الفُقَرَاءُ مِنْ بَعْضِ قَبائِلِ العَرَبِ، فكَانَ يَشْتَرِيهِمْ بَعْضُ سُرَاةِ (¬8) العَرَبِ وأشْرَافِهِمْ، ¬

_ (¬1) الأبرَشُ: الأبْرَصُ. انظر لسان العرب (1/ 377). (¬2) الأكْسَحُ: الأعْرَجُ، والمُقْعَدُ أيضًا. انظر لسان العرب (12/ 89). (¬3) الشَّاهقُ: الجَبَلُ المُرْتَفِعُ. انظر لسان العرب (7/ 229). (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 578): أي كئيبا مِنَ الهَمِّ. (¬5) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 578): أي ساكتٌ مِنْ شِدَّةِ ما هُوَ فيه مِنَ الحُزْنِ. (¬6) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 578): أي يَئِدَهَا، وهو أن يدفِنَهَا في التراب وهِيَ حَيَّة. (¬7) سورة النمل آية (58) (59). (¬8) سُرَاةُ: أي أشْرَافٌ. انظر النهاية (2/ 327).

فَصَعْصَعَةُ بنُ نَاجِيَةَ يقُولُ: جَاءَ الإِسْلَامُ وقَدْ فَدَيْتُ ثَلَاثَ مِائَةِ مَوْءُودَةٍ (¬1) ومِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَنْذُرُ إِذَا بَلَغَ بَنُوهُ عَشَرَةً نَحَرَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، كمَا فَعَلَ عَبْدُ المُطَّلِبِ جَدُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَحَذَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى مِنْ هَذَا الفِعْلِ، فقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ (¬2) نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. . .} (¬3). وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (¬4). ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدًّا (¬5)، وَهُوَ خَلقَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ . ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (3/ 347). (¬2) الإِمْلَاقُ: الفَقْرُ. انظر تفسير ابن كثير (3/ 362). (¬3) سورة الأنعام آية (151). (¬4) سورة الإسراء آية (31). (¬5) النِدُّ: بكسر النون وتشديد الدال، هو مِثْلُ الشَّيء الذي يُضَادُّهُ في أمُوره، ويريد بها ما كانوا يَتَّخِذُونَهُ آلهةً مِنْ دُونِ اللَّه تَعَالَى. انظر النهاية (5/ 30).

* ظلام مطبق ويأس قاتل

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْ تزانِيَ حَلِيلةَ (¬1) جَارِكَ" (¬2). ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: المَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ -تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا- فَأَلحَقُوا البَنَاتِ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (¬3). يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (¬4). وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} (¬5). * ظَلَام مُطْبِقٌ ويَأْسٌ قَاتِلٌ: وقُصَارَى القَوْلِ: إِنَّ القَرْنَ السَّادِسَ المَسِيحِيَّ الذِي كَانَتْ فِيهِ البِعْثَةُ المُحَمَّدِيَّةُ ومَا يَلِيهِ مِنْ فترَةٍ زَمَنِيَّةٍ، كَانَ مِنْ أحَطِّ أدْوَارِ التَّارِيخِ، ومِنْ أشَدِّهَا ظَلَامًا ويَأْسًا مِنْ مُسْتَقْبَلِ الإِنْسَانِيَّةِ وصَلَاحِيَّتهَا لِلبَقَاءَ والازْدِهَارِ (¬6). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (14/ 75): الحَلِيلَةُ بفتح الحاء وزن عَظِيمَة أي التي يَحِلُّ له وَطْؤُهَا. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب الحدود- باب إثم الزناة - رقم الحديث (6811) - وأخرجه في كتاب التوحيد - باب قول اللَّه تَعَالَى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} - رقم الحديث (7520) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإحصان - باب كون الشرك أقبح الذنوب - رقم الحديث (141). (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي ص 39. (¬4) سورة النحل (57). (¬5) سورة الصافات الآيتان (149، 150). (¬6) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي ص 43.

لماذا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- في جزيرة العرب؟

لِمَاذَا بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في جَزِيرَةِ العَرَبِ؟ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تَطْلُعَ هذِهِ الشَّمْسُ التِي تُبَدِّدُ الظَّلَامَ، وَتَمْلَأُ الدُّنْيَا نُورًا وهِدَايَةً، مِنْ أُفُقِ جَزِيرَةِ العَرَبِ الذِي كَانَ أَشدَّ ظَلَامًا، وكَانَ أشَدَّ حَاجَةً إِلَى هَذَا النُّورِ السَّاطِعِ. وقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى العَرَبَ، لِيَتَلَقَّوْا هَذِهِ الدَّعْوَةَ أوَّلًا، ثُمَّ يبهلِّغُوهَا إِلَى أبْعَدِ أنْحَاءَ العَالَمِ، لِعِدَّةِ أسْبَابٍ مِنْهَا: 1 - أَنَّهُمْ كانُوا عَلَى الفِطْرَةِ، وأصْحَابُ إرَادَةٍ قَوِيَّةٍ، إذَا الْتَوَى عَلَيْهِمْ فَهْمُ الحَقِّ حَارَبُوهُ، وَإِذَا انْكَشَفَ الغِطَاءُ عَنْ عُيُونِهِمْ، أحَبُّوهُ واحْتَضَنُوهُ، واسْتَمَاتُوا في سَبِيلِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً مَا قَاله سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- (¬1)، حِينَ سَمعَ مَا جَاءَ في كِتَابِ الصُّلْحِ في الحُدَيْبِيَةِ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-"، فقالَ سُهَيلُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-: واللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ ولَا قَاتلْنَاكَ (¬2). ¬

_ (¬1) هو سُهَيْلُ بن عَمْرٍو العَامِرِيُّ خَطيبُ قُرَيشٍ، وفَصِيحُهُم، ومن أشْرَافِهِمْ، يُكنى أبو زَيد، وكان من أشراف قريش وعُقَلَائِهِمْ وخُطَبَائِهِمْ وسَادَاتِهِمْ. أسلم -رضي اللَّه عنه- يومَ فتحِ مَكَّةَ، وحَسُنَ إسلامُهُ. مات -رضي اللَّه عنه- في طاعُونِ عَمَوَاسٍ سنة ثمَان عشرة للهجرة. انظر الإصابة (3/ 177). (¬2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم =

ولمَّا أسْلَمَ -رضي اللَّه عنه- كَانَ كَثِيرَ الصَّلاةِ والصَّوْمِ والصَّدَقَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ البُكَاءَ إذَا سَمعَ القُرْآنَ -رضي اللَّه عنه- وأرْضَاهُ، وَكَانَ يَقُولُ: واللَّهِ لا أدَعُ مَوْقِفًا مَعَ المُشْرِكِينَ إلَّا وَقَفْتُ مَعَ المُسْلِمِينَ مِثْلَهُ، ولا نَفَقَةً أنْفَقْتُهَا مَعَ المُشْرِكِينَ إلَّا أنْفَقْتُ عَلَى المُسْلِمِينَ مِثْلَهَا، لَعَلَّ أمْرِي أَنْ يَتْلُوَ بَعْضُهُ بَعْضًا (¬1). 2 - ومِنْهَا أنَّ ألْوَاحَ قُلُوبِهِمْ كَانَتْ صَافِيَةً، لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهَا كِتَابَاتٌ دَقِيقَةٌ عَمِيقَةٌ يَصْعُبُ مَحْوُهَا وإزَالتهَا، شَأْنَ الرُّومِ والفُرْسِ، وأهْلِ الهِنْدِ، الذِينَ كانُوا يَتِيهُونَ ويَزْهَوْنَ بِعُلُومِهِمْ وآدَابِهِمْ الرَّاقِيَةِ، ومَدَنِيَّاتِهِمُ الزَّاهِيَةِ، وبِفَلْسَفَاتهمُ الوَاسِعَةِ، فكَانَتْ عِنْدَهُمْ عُقَدٌ نَفْسِيَّةٌ وفكْرِيَّةٌ، لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّهْلِ حَلُّهَا. أمَّا العَرَبُ فَلَمْ تَكُنْ عَلَى ألْوَاحِ قُلُوبِهِمْ إلَّا كِتَابَات بَسِيطَة خَطَّتْهَا يَدُ الجَهْلِ والبَدَاوة، ومِنَ السَّهْلِ المَيْسُورِ مَحْوُهَا وغَسْلُهَا، ورَسْمُ نُقُوشٍ جَدِيدَةٍ مَكَانَهَا، وبِالتَّعْبِيرِ العِلْمِيِّ المُتَأَخِّرِ كانُوا أصْحَابَ الجَهْلِ البَسِيطِ، الذِي تَسْهُلُ مُدَاوَاتُهُ، بَيْنَمَا كَانَتِ الأُمَمُ المُتَمَدِّنَةُ الرَّاقِيةُ في هَذَا العَصْرِ مُصَابَةً بالجَهْلِ المُرَكَّبِ، الذِي تَصْعُبُ مُدَاوَاتُهُ وإزَالَتُهُ. 3 - ومِنْهَا أنَّهُمْ -أي العَرَبُ- كانُوا واقِعِيِّينَ جَادِّينَ، أصْحَابَ صَرَاحَةٍ وصَرَامَةٍ، لا يَخْدَعُونَ غَيْرَهُمْ ولا أنْفُسَهُمْ، اعْتَادُوا القَوْلَ السَّدِيدَ، والعَزْمَ ¬

_ = الحديث (2731 - 2732)، ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية في الحديبية - رقم الحديث (1783) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18909). (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 194) - الإصابة (3/ 177) - أسد الغابة (2/ 396).

الأَكِيدَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً ما رُوِيَ في قِصَّةِ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ ابنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: لمَّا اجْتَمَعَتِ الأوْسُ والخَزْرَجُ في العَقَبَةِ، لِيبايِعُوا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ الخَزْرَجِيُّ -رضي اللَّه عنه-: يا مَعْشَرَ الخَزْرَجِ، هلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبايِعُونَ هذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: إنَّكُمْ تُبايُعَونَهُ عَلَى حَرْبِ الأحْمَرِ والأسْوَدِ مِنَ النَّاسِ. . . . قَالُوا: فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ نَحْنُ وَفَيْنَا؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجَنَّةُ". قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، فَبَسَط يَدَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فبَايَعُوهُ (¬1). وقَدْ صَدَقُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ما عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ، وبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقَدْ قَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى لِسَانِ الأَنْصَارِ يَوْمَ بَدْرٍ: فَوَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ (¬2). فكَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ صَادِقِينَ مِنَ اللَّحْظَةِ الأوُلَى، وقَدْ تَجَلَّى هَذَا الصِّدْقُ في العَزْمِ، والجِدِّ في العَمَلِ، ورُوحِ الامْتِثَالِ لِلْحَقِّ. 4 - وَمِنْهَا أنَّ العَرَبَ كَانُوا بِمَعْزِلٍ عَنْ أدْوَاءِ المَدَنِيَّةِ والتَّرَفِ، التِي يَصْعُبُ عِلَاجُهَا، والتِي تَحُولُ دُونَ التَّحَمُّسِ لِلْعَقِيدَةِ والتَّفَانِي في سَبِيلِهَا. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 59). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 227).

5 - ومِنْهَا أَنَّ العَرَبَ كَانُوا أَصْحَابَ صِدْقٍ وأمَانَةٍ وشَجَاعَةٍ، لَيْسَ النِّفَاقُ والمُؤَامَرَةُ مِنْ طَبِيعَتِهِمْ، وهَذَا أمْرٌ لا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ فَقَدْ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ وبَذَلُوا الغَالِيَ والنَّفِيسَ في سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. 6 - وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا مَغَاوِيرَ حَرْبٍ، وأَحْلَاسَ (¬1) خَيْلٍ، وأصْحَابَ جَلَادَةٍ وتَقَشُّفٍ في الحَيَاةِ، وَكَانَتِ الفُرُوسِيَّةُ هِيَ الخُلُقَ البَارِزَ الذِي لابُدَّ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ أمَّة تَضْطَلعُ بِعَمَلٍ جَلِيلٍ، لِأَنَّ العَصْرَ كَانَ عَصْرَ حُرُوبٍ ومُغَامَرَاتٍ. 7 - وَمِنْهَا أَنَّ العَرَبَ كَانُوا أمَّةً نَشَأَتْ عَلَى الهُيَامِ (¬2) بالحُرِّيَّةِ، والمُسَاوَاةِ وحُبِّ الطَّبِيعَةِ، وعِزَّةِ النَّفْسِ، وبَعْضِ الآدَابِ التِي أقَرَّهَا الإِسْلَامُ. 8 - وَمِنْهَا أَنَّ قِوَاهُمُ العَمَلِيةَ والفِكْرِيَّةَ، ومَوَاهِبَهُمُ الفِطْرِيَّةَ مَذْخُورَةٌ فِيهِمْ، لَمْ تُسْتَهْلَكْ، فَكَانَتْ أمَّةً بِكْرًا، دَافِقَةً بالحَيَاةِ والنَّشَاطِ، والعَزْمِ والحَمَاسِ (¬3). روَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في المُسْنَدِ وابْنُ حِبَّانَ والتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أبُو بَكْرٍ، وأشَدُّهَا (¬4) في دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وأصْدَقُهَا حَيَاءً عُثْمَانُ، وأعْلَمُهَا ¬

_ (¬1) أحْلاسُ خَيْلٍ: أي مُلَازِمِينَ رُكُوب الخَيْلِ. انظر لسان العرب (3/ 283). (¬2) الهُيَامُ: هو الحُبُّ الشَّدِيدُ كالمَجْنُونِ على حصُولِ الحُرِّيَّةِ. انظر لسان العرب (15/ 182). (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي ص 45. (¬4) قال السندي في شرح المسند (7/ 355): أي أصلبهم في مراعاة الدين، بحيث لا يراعي أحدًا فيه.

بالحَلَالِ والحَرَامِ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ، وأقْرؤُهَا لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيٌّ، وأعْلَمُهَا بِالفَرَائِضِ (¬1) زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، ولِكُلِّ أمَّةٍ أمِينٌ، وأمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أبو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ" (¬2). وكانَتْ هَذِهِ الفَتْرَةُ التِي بُعِثَ فِيهَا مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَشَدِّ الفَترَاتِ التِي مرَّتْ بِهَا الجَزِيرَةُ العَرَبِيَّةُ ظُلْمَةً وانْحِطَاطًا، وأبْعَدِ مِنْ كُلِّ أَمَلٍ في الإصْلَاحِ، وأصْعَبِ مرحَلَةٍ واجَهَهَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءَ، وأدَقِّهَا (¬3). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَالبُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ المِقْدَادِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءَ في فترَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الوَالِدِ وَوَلَدِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا، وَقَدْ فتَحَ اللَّهُ قُفْلَ قَلْبِهِ بِالإِيمَانِ، يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ حَبِيبَهُ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (13/ 486): الفرائض جمع فريضة، وهي المواريث، وخصت المواريث باسم الفرائض من قوله تعالى في سورة النساء آية (7): {. . نَصِيبًا مَفْرُوضًا}. أي مقدرًا أو معلومًا أو مقطوعًا عن غيرهم. (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في المسند - رقم الحديث (12904)، (13990)، وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقبِ الصحابة - باب ذكر البيان بأن معاذ بن جبل كان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام - رقم الحديث (7131) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب فضل معاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي عبيدة بن الجراح - رقم الحديث (4124). (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي ص 56.

في النَّارِ، وَإِنَّهَا لَلَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} " (¬1). يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬2). وقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬3). * * * ¬

_ (¬1) سورة الفرقان آية (74) - والخبر أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23810)، والإمام البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (64) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 133) وقال: وهذا إسناد صحيح. (¬2) سورة آل عمران آية (164). (¬3) سورة الجمعة آية (2).

من قبل مولده -صلى الله عليه وسلم- إلى مولده الشريف -صلى الله عليه وسلم-

مِنْ قَبْلِ مَوْلِدِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّسَبُ النَّبَوِيُّ الشَّرِيفُ أمَّا نَسَبُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَهُوَ خَيْرُ أهْلِ الأرْضِ عَلَى الإطْلَاقِ، فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أعَلَى ذُرْوَةٍ، وأعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا شَهِدَ بهِ عَدُوُّهُ إذْ ذَاكَ أبُو سفْيَانَ (¬1) بَيْنَ يَدَيْ هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، فأشْرَفُ القَوْمِ قَوْمُهُ، وأشْرَفُ القَبَائِلِ قَبِيلتهُ، وأشْرَفُ الأفْخَاذِ فَخِذُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فهُوَ: مُحَمَّدُ (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- بنُ عَبْدِ اللَّهِ، بنِ عَبْدِ المطلبِ، بنِ هَاشِمِ، بنِ عَبْدِ مَنَافِ، بنِ قُصَيِّ، بنِ كِلابِ، بنِ مُرَّةَ، بنِ كَعْبِ، بنِ لُؤَيِّ، بنِ غَالِبِ، بنِ فِهْرِ، بنِ مَالِكِ، بنِ النَّضْرِ، بنِ كِنَانَةَ، بنِ خُزَيْمَةَ، بنِ مدْرِكَةَ، بنِ إلْيَاسَ، بنِ مُضَرَ، بنِ نِزَارِ، بنِ مَعْدِ، بنِ عَدْنَانَ (¬3). ¬

_ (¬1) جاء في حديث هِرَقْلَ مع أبي سُفْيَان أنَّهُ سأله كيفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ فقال أبو سفيان: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. رواه البخاري في صحيحه - باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-رقم الحديث (7) - ومسلم في صحيحه -رقم الحديث (1773). (¬2) قال القاضي عياض فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (7/ 246): وتسمِيَتُهُ مُحَمَّدًا وقعتْ في القُرآنِ العَظِيمِ، وذلك أنَّهُ حَمِدَ ربَّهُ قبلَ أن يَحْمَدَهُ الناسُ، وكذلك في الآخرةِ يَحْمِدُ ربَّهُ فيُشَفِّعُهُ، فيَحْمَدُهُ الناسُ، وقد خُصَّ بسورة الحَمْدِ، وبِلِوَاءَ الحَمْدِ، وبالمَقَامِ المَحْمُودِ، وشُرعَ له الحَمْدُ بعدَ الأكل، وبعدَ الشُّربِ، وبعدَ الدُّعاءِ، وبعدَ القُدُومِ من السَّفرِ، وسُمِيَتْ أُمّتهُ الحَمَّادُونَ، فجُمِعَتْ لهُ مَعَانِي الحَمْدِ وأنْوَاعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) أخرج هذا القدر من نسبه الشريف -صلى اللَّه عليه وسلم-: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وانظر طبقات ابن سعد (1/ 23 - 24) - زاد المعاد (1/ 70) - =

* أصالة نسب النبي -صلى الله عليه وسلم-

هَذَا هُوَ القَدْرُ المُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ نَسَبِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا خِلَافَ فِيهِ البَتَّةَ (¬1). قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: ولا يَصحُّ حِفْظُ النَّسَبِ فَوْقَ عَدْنَانَ (¬2) * أَصَالَةُ نَسَبِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَيْرِ القُرُونِ، وأزْكَى القَبَائِلِ، وأفْضَلِ البُطُونِ فكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وأعْظَمَهُمْ شَرَفًا. قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: وأمَّا شَرَفُ نَسَبِهِ، وكَرَمُ بَلَدِهِ، ومَنْشَؤُهُ فَمِمَّا لا يَحْتَاجُ إِلَى إقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ، ولا بَيَانِ مُشْكِلٍ، ولا خَفِيٍّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نُخْبَةُ بَنِي هَاشِمٍ، وسُلَالَةُ قُرَيْشٍ وصَمِيمُهَا، وأشْرَفُ العَرَبِ، وأعَزُّهُمْ نَفَرًا مِنْ قبَلِ أبِيهِ وأُمِّهِ ومِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ أكْرَمِ بِلَادِ اللَّهِ عَلَى اللَّهِ وعَلَى عِبَادِهِ (¬3). روَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدم قَرْنًا فَقَرْنًا، حتَّى كُنْتُ مِنَ القَرْنِ الذِي كُنْتُ مِنْهُ" (¬4). ¬

_ = تاريخ الطبري (1/ 497) - البداية والنهاية (2/ 653) - دلائل النبوة للبيهقي (1/ 181). (¬1) انظر زاد المعاد (1/ 70). (¬2) انظر شرح السنة (13/ 193). (¬3) انظر كتاب الشفا للقاضي عياض (1/ 77). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب صفة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3557) - وأخرجه الإِمام أحمد في المسند - رقم الحديث (9392).

وجَاءَ في حَدِيثِ هِرَقْلَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ سَأله: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ فقَالَ أبُو سُفْيَانَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ (¬1). ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ وَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ اصْطفَى كنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ، واصْطفَى قُرَيْشًا مِنْ كنَانَةَ، واصْطفَى مِنْ قُريْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، واصْطفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ" (¬2). وأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عنِ المُطَّلِبِ بنِ أَبِي ودَاعَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جاءَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَأَنَّهُ سمعَ شَيْئًا، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المِنْبَرِ، فَقَالَ: "مَنْ أنَا؟ " قَالُوا: أنْتَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَق الخَلْقَ، فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقتَيْنِ، فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبائِلَ، فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ قَبِيلةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فأنّا خَيْرُكُمْ بَيْتًا، وخَيْرُكُمْ نَفْسًا" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (7) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل - رقم الحديث (1773). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب فضل نسب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2276) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16987). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1788) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب فضل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3935) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (6338).

طهارة نسب النبي -صلى الله عليه وسلم-

طَهَارَةُ نَسَبِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَنَقَّلُ مِنْ أصْلَابِ الآبَاءَ الطَّاهِرِينَ إِلَى أرْحَامِ الأُمَّهَاتِ الطَّاهِرَاتِ لَمْ يَمَسَّ نَسَبُهُ الشَّرِيفَ شَيْءٌ مِنْ سِفَاحِ وأدْرَانِ الجَاهِلِيَّةِ، بلْ هُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ سُلَالَةٍ كُلُّهُمْ سَادَةٌ أشْرَافٌ أطْهَارٌ. رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بالشَّوَاهِدِ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، ولَمْ أخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدم إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وأُمِّي، لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الجَاهِلِيَّةِ شَيءٌ" (¬1). قَالَ الدُّكْتُورْ مُحَمَّد أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى جَرَتْ سُنَّتُهُ أَنْ لا يَبْعَثَ نَبِيًّا إلَّا في وَسَطٍ مِنْ قَوْمِهِ شَرَفًا، ونَسَبًا، فَقَدْ كَانَ في الذُّرْوَةِ مِنْ هَذِهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَا مِنْ آبَائِهِ إلَّا كَانَ غَنِيًّا بالفَضَائِلِ والمَكَارِمِ، ومَا مِنْ أُمٍّ مِنْ أُمَّهَاتِهِ إلَّا وَهِيَ أَفْضَلُ نِسَاءِ قَوْمِهَا نَسَبًّا ومَوْضِعًا، ولَمْ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 57)، وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى ص 42، وأورده الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ في البداية والنهاية (1/ 658)، وقال: هذا مرسل جيد. قلتُ: وللحديثِ شَوَاهدٌ عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَرْتَقِي بها إلى الحَسَنِ -وانظر صحيح الجامع للألباني رحمه اللَّه- رقم الحديث (3225).

تَزَلْ هَذِهِ الفَضَائِلُ، والكَمَالَاتُ البَشَرِيَّةُ تَنْحَدِرُ مِنَ الأُصُولِ إِلَى الفُرُوعِ حتَّى تَجَمَّعَتْ كُلُّهَا في سُلَالَةِ وَلَدِ آدم ومُصَاصَةِ (¬1) بَنِي إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * * * ¬

_ (¬1) يقال: فُلانٌ مُصَاصُ قَومِهِ: أي أخْلَصُهُمْ نَسَبًا. انظر لسان العرب (13/ 123). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (1/ 185) للدكتور محمَّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ.

أسرة النبي -صلى الله عليه وسلم-

أُسْرَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُعْرَفُ أُسْرَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأُسْرَةِ الهَاشِمِيَّةِ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وسَنَذْكُرُ فِيمَا يَلِي شَيْئًا مِنْ أخْبَارِ هَاشِمٍ ومَنْ بَعْدَهُ. * هَاشِمُ بنُ عَبْدِ مَنَافٍ: كَانَ هَاشِمٌ -واسْمُهُ عَمْرٌو- رَجُلًا مُوسِرًا ذَا شَرَفٍ كَبِيرٍ، وقَدْ تَوَلَّى هَاشِمٌ السِّقَايَةَ (¬1) والرِّفَادَةَ (¬2) مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ حِينَ تَقَاسَمَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ وبَنُو عَبْدِ الدَّارِ المَنَاصِبَ فِيمَا بَيْنَهُمَا. وسُمِّيَ هَاشِمًا لِأَنَّهُ أوَّلُ مَنْ هَشَمَ الثَّرِيدَ (¬3) لِقَوْمِهِ بِمَكَّةَ وأطْعَمَهُ، وهُوَ أوَّلُ مَنْ سَنَّ الرِّحْلَتَيْنِ لِقُرَيْشِ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ والصَّيْفِ، وَكَانَ يُطْعِمُ الحُجَّاجَ أوَّلَ مَا يُطْعِمُ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ بِمَكَّةَ، وبِمِنًى، والمُزْدَلِفَةِ، وعَرَفَةَ، وكَانَ يَثْرُدُ لَهُمُ الخُبْزَ واللَّحْمَ، والخُبْزَ والسَّمْنَ، والسَّوِيقَ (¬4) والتَّمْرَ، ويَجْعَلُ لَهُمُ المَاءَ ¬

_ (¬1) السِّقَايَةُ: هي جَمْعُ المَاءِ مِنْ آبَار مكَّةَ المُخْتَلِفَةِ، ووضْعُهَا قُرْبَ الكَعْبَةِ، وقَدْ تُحَلَّى بشَيْءٍ من التَّمْرِ أو الزَّبِيبِ فيَشْرَبُ الحَجِيجُ منها. انظر النهاية (2/ 220). (¬2) الرِّفَادَةُ: هو طعامٌ يُوضَعُ للحُجَّاجِ على سَبِيلِ الضِّيَافَةِ. النهاية (2/ 220). (¬3) قال الحافظ في الفتح: (10/ 691): الثَّرِيدُ: بفتح الثاء وكسر الراء هو خَلْطُ الخُبْزِ بِمَرَقِ اللَّحْمِ، وهشَمَ: أي كسَرَ الخُبْزَ. (¬4) السَّوِيق: هو قمح أو شعير يُقلى ثم يُطْحن، فيتزوَّد به، ملتويًا بماء أو سمن =

فَيَسْقُونَ بِمِنًى إِلَى أَنْ يَصْدُرُوا (¬1) مِنْهَا فتَنْقَطِعَ الضِّيَافَةُ. وفِيهِ يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزِّبَعْرَى: عَمْرُو الذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ (¬2) عِجَافُ سُنَّتْ إلَيْهِ الرِّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا ... سَفَرُ الشِّتَاءِ ورِحْلَةُ الأصْيَافِ ومِنْ حَدِيثِ هَاشِمٍ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ تَزَوَّجَ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو أحَدِ بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، وكانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أُحَيْحَةَ بنِ الجَلَّاحِ مِنَ الأَوْسِ، وكَانَ مِنْ عِظَمِ شَرَفِهَا أَنَّ العِصْمَةَ بِيَدِهَا (أيْ هِيَ التِي تُطَلِّقُ) إذَا كَرِهَتْ رَجُلًا فَارَقَتْهُ، فَخَطَبَها هَاشِمٌ فَعَرَفَتْ شَرَفَهُ ونَسَبَهُ فزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا، وأقَامَ عِنْدَهَا أيّامًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، وهِيَ عِنْدَ أهْلِهَا قَدْ حَمَلَتْ بِشَيْبَةَ، فمَاتَ هَاشِمٌ بِغَزَّةَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، ووَلَدَتْ امْرَأتُهُ سَلْمَى طِفْلًا وَسَمَّتْهُ شَيْبَةَ، وكَانَ لِهَاشِمٍ أرْبَعُ بَنِينَ وهُمْ: شَيْبَةُ، وأَسَدٌ، وأبُو صَيْفِيٍّ، ونَضْلَةُ، وخَمْسُ بَنَاتٍ هُنَّ: الشَّفَّاءُ، وخَالِدَةُ، وضعِيفَةُ، ورقَيَّةُ، وَحَيَّةُ، وفي رِوايَةٍ حَنَّةُ (¬3). * عَبْدُ المُطَّلِبِ بنُ هَاشِمٍ: أوْصَى هَاشِمٌ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِلَى أخِيهِ المُطَّلِبِ فَصَارَتِ السِّقَايَةُ والرِّفَادَةُ إلَيْهِ مِنْ ¬

_ = أو عسل. انظر شرح المواهب (2/ 353) - لسان العرب (6/ 438). (¬1) صَدَرَ: رجَعَ. انظر لسان العرب (7/ 301). (¬2) مسنتون: أي أصابتهم السَّنة، والسَّنة هي الجَدْبُ، يقال: أخذتهم السَّنةُ إذا أجدبوا وأُقحطوا. انظر النهاية (2/ 371). (¬3) انظر تفاصيل ذلك في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 34) - تاريخ الطبري (1/ 504) - البداية والنهاية (2/ 655).

* وفاة المطلب بن عبد مناف

بَعْدِهِ، وكَانَ ذَا شَرَفٍ في قَوْمِهِ، وَفَضْلٍ، وكانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّيهِ: الفَيْضَ لِسَخَائِهِ وفَضْلِهِ. ولَمَّا صَارَ شَيْبَةُ بنُ هَاشِمٍ وَصِيفًا (¬1) أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ سَمعَ بِهِ، المُطَّلِبُ فَرَحَلَ في طَلَبِهِ فَلَمَّا رَآه عَرَفَ شَبَهَ أبِيهِ فِيهِ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وضَمَّهُ إلَيْه، وَكَسَاهُ حُلَّةً، وأَرْدَفه عَلَى رَاحِلَتِهِ فَقَالَ شَيْبَةُ لِعَمِّهِ: لَسْتُ بِمُفَارِقٍ أمِّي إلَّا أَنْ تأْذَنَ لِي, فَسَألهَ المُطَّلِبُ أَنْ تُرْسِلَهُ مَعَهُ فَأَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: إنِّي غَيْرُ مُنْصَرِفٍ حتَّى أخْرُجَ بِهِ مَعِي، إِنَّ ابنَ أخِي قَدْ بَلَغَ وهُوَ غَرِيبٌ في غَيْرِ قَوْمِهِ، ونَحْنُ أهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ فِي قَوْمِنَا، نَلِي كَثِيرًا مِنْ أَمْرِهِمْ، وقَوْمُهُ وبَلَدُهُ وعَشِيرتُهُ خَيْر لَهُ مِنَ الإقَامَةِ في غَيْرِهِمْ، فَأَذِنَتْ له فَاحْتَمَلَهُ فَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ مُرْدِفَهُ عَلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هذا المُطَّلِبُ اشْترَى عَبْدًا فُسُمِّيَ شَيْبَةُ عَبْدَ المُطَّلِبِ. فَقَالَ المُطَّلِبُ: وَيْحَكُمْ! إنَّمَا هُوَ ابْنُ أخِي هَاشِمٍ قَدِمْتُ بِهِ مِنَ المَدِينَةِ (¬2). * وفَاةُ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ: فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ المُطَّلِبِ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى تَرَعْرَعَ ثُمَّ إِنَّ المُطَّلِبَ بنَ عَبْدِ مَنَافٍ خَرَجَ تَاجِرًا فَهَلَكَ في مَنْطِقَةِ رَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ اليَمَنِ، فَوَليَ بَعْدَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ السِّقَايَةَ، والرِّفَادَةَ فَأَقَامَهَا لِلنَّاسِ، وأَقَامَ لِقَوْمِهِ مَا كَانَ آبَاؤُهُ يُقِيمُونَ ¬

_ (¬1) الوَصِيفُ: هُوَ الغُلَامُ دُونَ المُرَاهِقِ. لسان العرب (15/ 316). (¬2) انظر تاريخ الطبري (1/ 501، 502) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 37) - الرَّوْض الأُنُف (1/ 23).

قَبْلَهُ لِقَوْمِهِمْ مِنْ أمْرِهِمْ، وكَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ جَسِيمًا أبْيَضَ، وَسِيمًا طِوَالًا فَصِيحًا، مَا رَآهُ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَحَبَّهُ، وَشَرُفَ في قَوْمِهِ شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِ، وأحَبَّهُ قَوْمُهُ، وعَظُمَ خَطَرُهُ فَيهِمْ حَتَّى عُرِفَ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ: "بِشَيْبَةَ الحَمْدِ" لِكَثْرَةِ حَمْدِ النَّاسِ إيَّاهُ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "الفَيَّاضُ" لِجُودِهِ، ويُقَالُ لَهُ: "مُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ"؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ مِنْ مَائِدَتِهِ لِلطَّيْرِ والوُحُوشِ عَلَى رُؤُوسِ الجِبَالِ. ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بِالكَرَمِ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ والطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَ حُصَيْنٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ، كَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ خَيْرًا لِقَوْمِهِ مِنْكَ: كَانَ يُطْعِمُهُمُ الكَبِدَ والسَّنَامَ. . . (¬1). هذَا ولَمْ يَكُنْ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَظِيمًا عِنْدَ قُرَيْشٍ فَحَسْبُ وَإِنَّمَا كَانَ عَظِيمًا كَذَلِكَ في جَمِيعِ أنْحَاءِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، فَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ ذَهَبَ إِلَى اليَمَنِ مُهَنِّئًا بِالمُلْكِ عِنْدَمَا تَوَلَّى مَعْدِيكَرِبَ سَيْفُ بنُ ذِي يَزَنٍ عَرْشَ اليَمَنِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ كَانَ ذُو مَكَانَةٍ عِنْدَ مُلُوكِ العَرَبِ كَمَا يَدُلُّ في الوَقْتِ نَفْسِهِ عَلَى مَكَانَتِهِ عِنْدَ قُرَيْشٍ حتَّى أنَّهُ كَانَ رَئِيسًا لِوَفْدِهَا فِي هَذِهِ المُهِمَّاتِ العَظِيمَةِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19992) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2525) - وأورده الحافظ في الإصابة (2/ 76) وصحح إسناده. (¬2) انظر شرح المواهب (1/ 271).

أهم الأحداث في حياة عبد المطلب

أَهَمُّ الأحْدَاثِ فِي حَيَاةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ومِنْ أهَمِّ الأحْدَاثِ التِي وَقَعَتْ فِي حَيَاةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ أمْرَانِ: حَفْرُ بِئْرِ زَمْزَمَ، وحَادِثُ الفِيلِ. * أمَّا زَمْزَمُ (¬1): فَكَانَتْ سُقْيَا مِنَ اللَّهِ، وخُلَاصَةُ أمْرِهَا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: إنِّي لَنَائِمٌ في الحِجْرِ إذْ أتَانِي آتٍ (¬2) فقَالَ لِي: احْفِرْ طَيْبَةَ (¬3) قَالَ: قُلْتُ: ومَا طَيْبَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجِعِي، فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي، فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ (¬4) ¬

_ (¬1) زَمْزَمُ: هي البِئْرُ المعرُوفَةُ في مكَّةَ المُكَرَّمة. انظر النهاية (2/ 282). وجاء في فضلِ مائِهَا أحاديثُ كثِيرةٌ منها: روى مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2473) عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّها مُبَارَكَةٌ، إنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ". قال الإمام النووي في شرح مسلم (16/ 26): أي أنَّها تُشْبعُ شَارِبَهَا كمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَامُ. (¬2) أي في المَنَامِ. (¬3) قال السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 258): لأنها للطيِّبِيَن والطيِّباتِ مِنْ ولَدِ إبرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ عليهِمَا السَّلام. (¬4) قال السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 258): وهو اسمٌ صَادِقٌ عليها أيضًا لأنَّهَا فاضَتْ للأبرارِ، وغاضَتْ عَنِ الفُجَّارِ.

قَالَ: قُلْتُ: وَمَا بَرَّةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ الغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجِعِي، فَنِمْتُ فِيهِ، فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرِ المَضْنُونَةَ (¬1) قَالَ: قُلْتُ: ومَا المَضْنُونَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ الغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجِعِي، فَنِمْتُ فِيهِ، فجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ (¬2) قَالَ: قُلْتُ: ومَا زَمْزَمُ؟ قال: لَا تُنْزَفُ (¬3) أبَدًا، ولَا تُذَمُّ (¬4) تَسْقِي الحَجِيجَ الأعْظَمَ، وهِيَ بَيْنَ الفَرْثِ (¬5) والدَّمِ، عِنْدَ نَقْرَةِ الغُرَابِ الأَعْصَمِ (¬6) عِنْدِ قَرْيَةِ النَّمْلِ (¬7). قَالَ: فَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ شَأْنَهَا، وَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وعَرَفَ أنَّهُ قَدْ صَدَقَ، غَدَا بِمِعْوَلِهِ، ومَعَهُ ابْنُهُ الحَارِثُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ولَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ، فَحَفَرَ فَلَمَّا بَدَا لِعَبْدِ المُطَّلِبِ الطَّيَّ، كَبَّرَ فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أنَّهُ قَدْ أدْرَكَ حَاجَتَهُ، فَقَامُوا ¬

_ (¬1) قال السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 258 - 259): لأنها ضُنَّ بها على غَيْرِ المُؤْمِنين، فلا يَتَضَلَّعُ منها مُنَافِقٌ، والتَّضَلُّعُ يعنِي مَنْ أكْثَرَ مِنَ الشُّربِ حتى تَمَدَّدَ جَنْبُهُ وأضْلَاعُهُ، فقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن آيةَ ما بيننا وبين المنافقينَ، أنهم لا يتضلَّعونَ من زمزم" رواه ابن ماجه في سننه - رقم الحديث (3061) وإسناده ضعيف. (¬2) زمزَم: سُميت بذلك لكَثْرَةِ مائِهَا. انظر النهاية (2/ 282). (¬3) لا تُنْزَفُ: بضم التاء وفتح الزاي: أي لا يَفْنَى ماؤُهَا على كثرةِ الاسْتِقَاءِ. النهاية (5/ 36). (¬4) لا تُذَمُّ: أي لا تُعَابُ. انظر النهاية (2/ 156). (¬5) الفَرْثُ: الكَرْشُ وما فِيهَا. لسان العرب (10/ 208). (¬6) الغُرَابُ الأعْصَمُ: الذي في جنَاحَيْهِ بَيَاضٌ. انظر النهاية (3/ 226). (¬7) قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 261): أما قرية النَّمْلِ، ففيها مِنَ المُشاكَلَةِ أيضًا والمُنَاسَبَةِ: أَنَّ زمزمَ هيَ عَيْنُ مكَّةَ التي يَرِدُهَا الحَجيجُ، والعُمَّارُ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، فيَحْمِلُونَ إليها البُرَّ والشَّعِيرَ، وغير ذلك وهي لا تُحْرَثُ ولا تُزْرعُ، وقريةُ النَّملِ لا تُحْرَثُ ولا تُبْذَرُ وتَجْلِبُ الحُبُوبَ إلى قَرْيَتِهَا مِنْ كُلِّ جانِبٍ.

إلَيْهِ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ المُطَّلِبِ إنَّهَا بِئْرُ أبِينَا إسْمَاعِيلَ، وإنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا، فَقَالَ: مَا أنَا بِفَاعِلٍ، إِن هَذَا الأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: فأنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا، قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إلَيْهِ، قَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدٍ "هُذَيْمٌ" قَالَ: نَعَمْ، وكَانَتْ فِي مَنْطِقَةِ مَعَانٍ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ، فَخَرَجَوُا إلَيْهَا، وخَرَجَ مَعَ عَبْدِ المُطَّلِبِ عِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِعِشْرِينَ رَجلٍ مِنْ قَبَائِلِهَا فَلَمَّا كَانُوا بِالفَقِيرِ مِنْ طَرِيقِ الشَّامِ أَوْ حَذْوِهِ فَنِيَ مَاءُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وأصْحَابِهِ، فَظَمِئُوا حتَّى أيْقَنُوا بالهَلَكَةِ، فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إنَّا بِمَفَازَةٍ، ونَحْنُ نَخْشَى عَلَى أنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أصَابَكُمْ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ المُطَّلِبِ مَا صَنَعَ القَوْمُ، ومَا يَتَخَوَّفُ عَلَى نَفْسِهِ وأصْحَابِهِ، قَالَ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ قَالُوا: مَا رَأْيُنَا إلَّا تَبَعٌ لِرَأْيِكَ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَإِنِّي أرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمُ الآنَ مِنْ الْقُوَّةِ، فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارُوهُ، حتَّى يَكُونَ آخِرُكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ جَمِيعًا، فَحَفَرُوا القُبُورَ، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ المَوْتَ عَطَشًا، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ إلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ، لَا نَضْرِبُ فِي الأرْضِ ولَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا، لَعَجْزٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً بِبَعْضِ البِلَادِ، ارْتَحِلُوا، وَقَامَ عَبْدُ المُطَّلِبِ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ، انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ، فَكَبَّر عَبْدُ المُطَّلِبِ، وَكَبَّرَ

* روايات غير صحيحة

أصْحَابُهُ، وشَرِبُوا جَمِيعًا، واسْتَقَوْا ثُمَّ دَعَا القَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالَ لَهُمْ: هَلُمُّوا إِلَى المَاءِ، فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ، فَشَرِبُوا واسْتَقَوْا، وعَرَفُوا فَضْلَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ وَاللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ لَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إِنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا المَاءَ بِهَذِهِ الفَلَاةِ لَهُوَ الذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ، فَارْجعْ إِلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا، فَرَجَعَ ورَجَعُوا مَعَهُ، ولَمْ يَصِلُوا إِلَى الكَاهِنَةِ، وخَلُّوا بَيْنَهُ وبَيْنَ زَمْزَمَ (¬1). وحِينَئِذٍ نَذَرَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لَئِنْ آتَاهُ اللَّهُ عَشَرَةَ أبْنَاءٍ وبَلَغُوا أَنْ يَمْنَعُوهُ، لَيَنْحَرَنَّ أحَدَهُمْ عِنْدَ الكَعْبَةِ. * رِوَايَاتٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ: وأمَّا مَا ذَكَرَهُ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬2): مِنْ أنَّهُ لَمَّا حَفَرَ عَبْدُ المُطَّلِبِ زَمْزَمَ، وَجَدَ فِيهَا غَزَالًا، وسِلَاحًا مِنْ ذَهَبٍ، فَكُلُّهَا رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ، لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ. * * * ¬

_ (¬1) أخرج قصة حفر زمزم على يد عبد المطلب: البيهقي في دلائل النبوة (1/ 93). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 38).

حديث الفيل

حَدِيثُ الفِيلِ وَأَمَّا حَادِثُ الفِيلِ فَهُوَ حَادِثٌ عَظِيمٌ، لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُهُ فِي تَارِيخِ العَرَبِ، وكَانَ دلِيلًا عَلَى ظُهُورِ حَادِثٍ أكْبَرَ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ بِالعَرَبِ خَيْرًا، وَأَنَّ لِلْكَعْبَةِ شَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهَا مِنْ بُيُوتِ الدُّنْيَا، ومَرَاكِزِ العِبَادَةِ، وقَدْ نِيطَتْ بِهَا رِسَالَةٌ ودَوْرٌ فِي تَارِيخِ الدِّيَانَاتِ، ومَصِيرِ الإِنْسَانِيَّةِ، لابُدَّ أَنْ تُؤَدِّيَهُ، وَأَنْ تَقُومَ بِهِ (¬1). وكَانَ مِنْ خَبَرِ هَذَا الحَادِثِ أَنَّ أَبْرَهَةَ الأَشْرَمَ عَامِلُ النَّجَاشِيِّ عَلَى اليَمَنِ بَنَى بِصَنْعَاءَ كَنِيسَةً عَظِيمَةً، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا في زَمَانِهَا بِشَىْءٍ مِنَ الأَرْضِ، سَمَّاهَا القُلَّيْسَ (¬2)، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ: إنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ أيُّهَا المَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ، ولَسْتُ بِمُنْتَهٍ حتَّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجَّ العَرَبِ. فلَمَّا تَحَدَّثَتِ العَرَبُ بِكِتَابِ أبْرَهَةَ ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، سَمِعَ رَجُلٌ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 77. (¬2) قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 112): . . . وكان أبرَهةُ قد اسْتَذَلَّ أهلَ اليَمَنِ في بُنْيَانِ هذهِ الكَنِيسَةِ الخَسِيسَة، وكان ينقلُ إليها العدد من الرُّخام المُجَزَّع، والحِجَارة المَنْقوشة بالذَّهب من قَصْرِ بلقيس صاحِبَةِ سليمان عليهِ السَّلامُ، ونَصَبَ فيها صُلْبانًا من الذَّهب والفضة، وكان أراد أن يرفع في بِنَائِها حتى يُشرف منها على عَدَن، وكان حكمه في العامل إذا طَلَعَتْ عليه الشمس ولم يُكمل عَمَلَهُ أن يَقْطع يَدَهُ.

كِنَانَةَ فَعَزَّ عَلَيْهِ الأَمْرُ، وهُوَ مِنَ العَرَبِ الذِينَ رَضَعُوا بِلِبَانِ حُبِّ الكَعْبَةِ وتَعْظِيمِهَا، لَا يَعْدِلُونَ بِهَا بَيْتًا، وَلَا يَرَوْنَ عَنْهَا بَدِيلًا، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الكَنِيسَةَ فَدَخَلَهَا لَيْلًا فَلَطَّخَ قِبْلَتَهَا بِالعَذِرَةِ وَجَمَعَ جِيَفًا فَأَلْقَاهَا فِيهَا. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أبْرَهَةُ وحَلَفَ لَيَسِيرَنَّ إِلَى البَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ سَارَ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ، وخَرَجَ مَعَهُ بِتِسْعَةِ فِيَلَةٍ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فِيلًا، واخْتَارَ لِنَفْسِهِ فِيلًا مِنْ أَكْبَرِ الفِيَلَةِ، وكَانَ اسْمُهُ "مَحْمُودًا"، وسَمِعَتْ بِذَلِكَ العَرَبُ، فنَزَلَ عَلَيْهِمْ كَالصَّاعِقَةِ، وأَعْظَمُوهُ، ورَأَوْا جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ، حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الكَعْبَةِ بَيْتَ اللَّهِ الحَرَامَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ وكَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ اليَمَنِ، ومُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ: (ذُو نَفَرٍ)، فَدَعَا قَوْمَهُ، وَمَنْ أجَابَهُ مِنْ سَائِرِ العَرَبِ إِلَى حَرْبِ أبْرَهَةَ، وجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ الحَرَامِ، ومَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وإخْرَابِهِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ، فَهُزِمَ (ذُو نَفَرٍ) وأصْحَابُهُ، وأُخِذَ لَهُ (ذُو نَفَرٍ) فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَلَمَّا أَرَادَ أبْرَهَةُ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ (ذُو نَفَرٍ): أيُّهَا المَلِكُ، لَا تَقْتُلْنِي فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنْ قَتْلِي، فَتَرَكَهُ مِنَ القَتْلِ وحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ، ثُمَّ مَضَى أبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ، حتَّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ عَرَضَ لَهُ (نُفَيْلُ بنُ حَبِيبٍ الخَثْعَمِيُّ) فِي قَبِيلَتَيْ خَثْعَمَ: شَهْرَانِ، ونَاهِسٍ، ومَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ العَرَبِ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أبْرَهَةُ، وأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ أسِيرًا، فَأُتِيَ بِهِ إِلَى أبْرَهَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ، قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أيُّهَا المَلِكُ لا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ العَرَبِ، وهَاتَانِ يَدَايَ لَكَ عَلَى قَبِيلَتَيْ خَثْعَمٍ: شَهْرَانِ وَنَاهِسٍ بِالسَّمْع والطَّاعَةِ،

فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ، حتَّى إذَا مَرَّ بالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بنُ مُعَتِّبٍ الثَّقَفِيُّ فِي رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ، فَقَالُوا لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ، إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ مُطِيعُونَ، لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، ولَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا البَيْتَ الذِي تُرِيدُ -يَعْنُونَ اللَّاتَ، وهُوَ بَيْتٌ لَهُمْ بِالطَّائِفِ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الكَعْبَةِ-، إِنَّمَا تُرِيدُ البَيْتَ الذِي بِمَكَّةَ، ونَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ، فَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ، فَبَعَثُوا مَعَهُ رَجُلًا هُوَ أَبُو رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّة، فَخَرَجَ أبْرَهَةُ، ومَعَهُ الدَّلِيلُ حَتَّى أنْزَلَهُ المُغَمَّسَ (¬1)، وهُنَاكَ أمَرَ أبْرَهَةُ أصْحَابَهُ بالغَارَةِ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ، فبَعَثَ رَجُلًا مِنَ الحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ (الأَسْوَدُ بنُ مَقْصُودٍ) عَلَى خَيْلٍ لَهُ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى مَكَّةَ، فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ قُرَيْشٍ، وغَيْرَهُمْ، فأَصَابَ مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ هَاشِمٍ جَدِّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وسَيِّدُهَا، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ، وكِنَانَةُ، وهُذَيْلٌ، ومَنْ كَانَ بِذَلِكَ الحَرَمِ بِقِتَالِهِ، ثُمَّ عَرَفُوا أنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، فَتَرَكُوا ذَلِكَ. وبَعَثَ أبْرَهَةُ (حُنَاطَةَ الحِمْيَرِيَّ) إِلَى مَكَّةَ، وقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ سَيِّدِ أهْلِ هذَا البَلَدِ وشَرِيفِهَا، ثُمَّ قُلْ لَهُ: إِنَّ المَلِكَ يَقُولُ لَكَ: إنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا البَيْتِ، فَإنْ لَمْ تَعْرِضُوا لَنَا دُونَهُ بِحَرْبٍ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِي دِمَائِكُمْ، فَإنْ هو لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ (حُنَاطَةُ) مَكَّةَ، واجْتَمَعَ بِعَبْدِ المُطَّلِبِ أخْبَرَهُ بِمَا أمَرَهُ بِهِ أبْرَهَةُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: واللَّهِ مَا نُرِيدُ ¬

_ (¬1) المُغَمَّسُ: مَوضِعٌ قُربَ مكَّةَ، في طَريقِ الطَّائِفِ. انظر معجم البلدان (5/ 188).

* دخول عبد المطلب على أبرهة الحبشي

حَرْبَهُ، ومَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الحَرَامُ، وبَيْتُ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وحَرَمُهُ، وإنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ، فَقَالَ حُنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ مَعِيَ إِلَيْهِ، فانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ، ومَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ، حتَّى أتَى العَسْكَرَ فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفَرٍ، وكَانَ لَهُ صَدِيقًا، حتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وهُوَ فِي مَحْبَسِهِ، فقَالَ لَهُ: يَا ذَا نَفَرٍ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ: ومَا غَنَاءُ رَجُلٍ أسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا؟ مَا عِنْدِي غَنَاءٌ في شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ، إلَّا أَنَّ (أُنَيْسًا) سَائِقَ الفِيلِ صَدِيقٌ لِي، وسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ فأُوصِيهِ بِكَ، وأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وأسْأَلَهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى المَلِكِ، فَتُكَلِّمَهُ بِمَا بَدَا لَكَ، ويَشْفَعُ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إنْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: حَسْبِي، فَبَعَثَ ذُو نَفَرٍ إِلَى (أُنَيْسٍ) فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ، والوُحُوشَ فيِ رُؤُوسِ الجِبَالِ، وقَدْ أَصَابَ لَهُ المَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، فاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْتَ. * دُخُولُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَلَى أبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ: فَفَعَلَ أُنَيْسٌ، وَأَذِنَ أبْرَهَةُ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ بِالدُّخُولِ عَلَيْه، وكَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ أوْسَمَ النَّاسِ، وأجْمَلَهُمْ، وأعْظَمَهُمْ، فلَمَّا رَآهُ أبْرَهَةُ أَجَلَّهُ، وأعْظَمَهُ، وأكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، وكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَنَزَلَ أبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ، وأجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ:

قُلْ لَهُ حَاجَتَكَ؟ فقَالَ لهُ ذَلِكَ التَّرْجُمَانُ، فقَالَ: حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ المَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أصَابَهَا لِي، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ أبْرَهَةُ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: قَدْ كُنْتَ أعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أتُكَلِّمُنِيُ فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أصَبْتُهَا لكَ وتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ ودِينُ آبَائِكَ، قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟ فقَالَ لَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: إنِّي أنَا رَبُّ الإِبِلِ، وإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَمْنَعُهُ، فَقَالَ أبْرَهَةُ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي، قاَل: أنْتَ وذَاكَ. فَأَمَرَ أبْرَهَةُ أَنْ يُرَدَّ إبِلُ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَبَضَهَا قَلَّدَها (¬1) النِّعَالَ وأشْعَرَهَا (¬2) وجَعَلَهَا هَدْيًا، وَبَثَّهَا فِي الحَرَمِ كَيْ يُصَابَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَغْضَبَ رَبُّ الحَرَمِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ المُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُهُ، وهُوَ آخِذٌ بِحَلَقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ ويَقُولُ: لَاهُمَّ إِنَّ المَرْءَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ ... فَامْنَعْ رِحَالَكْ لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ومَحَالُهُمْ ... غَدْوًا مَحَالَكْ إنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وقِبْلَتَنَا ... فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ وأشَارَ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَلَى قَوْمِهِ بالتَّفَرُّقِ في الشِّعَابِ، والتَّحَرُّزِ في رُؤُوسِ الجِبَالِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الجَيْشِ (¬3)؛ لِأَنَّهُ رَأَى أَنْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِأَبْرَهَةَ ¬

_ (¬1) تقْلِيدُ البُدْنِ: أن يُجعل في عُنُقِها شِعار يُعلم به أنها هَدْيٌ. لسان العرب (11/ 276). (¬2) أشَعْرَ البَدَنَةَ: أعلَمَهَا، وهو أن يشُقَّ جلدها أو يطعنَهَا في أسْمِنَتِهَا في أحد الجانِبَين حتى يَظهَرَ الدَّمُ ويعرف أنها هَدْي. انظر لسان العرب (7/ 135). (¬3) مَعَرَّةُ الجَيْشِ: أي أذَى الجَيْشِ. انظر النهاية (4/ 291).

* وصول الطير الأبابيل

وجُنُودِهِ، وَأَنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا سَيَحْمِيهِ. وتَهَيَّأَ أبْرَهَةُ لِدُخُولِ مَكَّةِ، وعَبَّأَ جَيْشَهُ (¬1)، وهَيَّأَ فِيلَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي وَادِي (مُحَسِّرٍ) بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى بَرَكَ الفِيلُ، ولَمْ يَقُمْ لِيَقْدَمَ إِلَى الكَعْبَةِ، ويُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا وجَّهُوا الفِيلَ إِلَى مَكَّةَ أقْبَلَ نُفَيْلُ بنُ حَبِيبٍ الخَثْعَمِيُّ حتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الفِيلِ، ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ، فَقَالَ: ابْرُكْ مَحْمُودُ، فَإِنَّكَ في بَلَدِ اللَّهِ الحَرَامِ، ثُمَّ أرْسَلَ أُذُنَهُ، فبَرَكَ الفِيلُ، وخَرَجَ نُفَيْلٌ يَشْتَدُّ حتَّى أَصْعَدَ في الجَبَلِ، وضَرَبُوا الفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَضَرَبُوا رَأْسَهُ لِيَقُومَ فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، ووَجَّهُوهِ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ووَجَّهُوهُ إِلَى المَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، ووجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ. * وُصُولُ الطَّيْرِ الأَبَابِيلِ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ أرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا أبَابِيلَ (¬2) مِنَ البَحْرِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا: ثَلَاثَةُ أحْجَارٍ، حَجَرٌ في مِنْقَارِهِ، وحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، وحَجْمُ الحِجَارَةِ كحَجْمِ الحُمُّصِ أَوِ العَدَسِ، لَا يُصِيبُ مِنْهُمْ أحَدًا إلَّا صَارَ تَتَقَطَّعُ أعْضاؤُهُ ويَهْلَكُ، ولَيْسَ كُلُّهُمْ أصَابَتْ، وخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّريقَ الذِي مِنْهُ جَاؤُوا، ويَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ نُفَيْلٌ حِينَ رَأَى مَا أنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ: ¬

_ (¬1) عَبَّأَ جَيْشَهُ: أي رتَّبَهم في مواضعِهِم وهيَّأهُمْ للحَرْبِ. انظر النهاية (3/ 153). (¬2) أبَابِيلُ: أي جَمَاعَاتٌ يتبع بعضُهَا بَعضًا. تفسير ابن كثير (8/ 487).

* هلاك أبرهة الأشرم

أيْنَ المَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ ... والأَشْرَمُ المَغْلُوبُ لَيْسَ الغَالِبُ وقَالَ أيْضًا: ألَا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا ... نَعَمْنَاكُمْ مَعَ الإِصْبَاحِ عَيْنَا رُدَينَةُ، لَوْ رَأَيْتِ فَلَا تُرِيهِ ... لَدَى جَنْبِ المُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا إذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أمْرِي ... ولَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَنَا حَمِدْتُ اللَّهَ إذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا ... وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا وكُلُّ القَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنًا فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، ويَهْلَكُونَ بِكُلِّ مَهْلَكٍ. * هَلَاكُ أبْرَهَةَ الأشْرَمِ: وَأَمَّا أبْرَهَةُ فبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَاءً تَسَاقَطَتْ بِسَبَبِهِ أنَامِلُهُ (¬1)، أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، ولَمْ يَصِلْ إِلَى صَنْعَاءَ إلَّا وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، وانْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ، فَمَاتَ شَرَّ مِيتَةٍ. يقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (¬2). فلمَّا رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى الْحَبَشَةَ عَنْ مَكَّةَ، وأصَابَهُمْ بِمَا أصَابَهُمْ بِهِ مِنَ النِّقْمَةِ ¬

_ (¬1) الأنَامِلُ: هي رؤُوسُ الأصَابعِ. انظر لسان العرب (14/ 295). (¬2) سورة الفيل آية (1 - 5).

أعْظَمَتِ العَرَبُ قُرَيْشًا، وقَالُوا: هُمْ أهْلُ اللَّهِ، قَاتَلَ اللَّهُ عَنْهُمْ وكَفَاهُمُ العَدُوَّ، وازْدادُوا تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ الحَرَامِ، وإيمَانًا بِمَكَانِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وقَالُوا في ذَلِكَ أشْعَارًا يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِالحَبَشَةِ، ومَا رَدَّ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ، مِنْهَا مَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزِّبَعْرَي: تَنَكَّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إنَّهَا ... كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا لَمْ تُخْلَقِ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ ... إذْ لَا عَزِيزَ مِنَ الأَنَامِ يَرُومُهَا سَائِلْ أمِيرَ الجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى ... ولَسَوْفَ يُنْبِي الجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا سِتُّونَ ألْفًا لَمْ يَؤُوبُوا أرْضَهُمْ ... بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الإِيَابِ سَقِيمُهَا دَانَتْ بِهَا عَادٌ وجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ ... واللَّهُ مِنْ فَوْقِ العِبَادِ يُقِيمُهَا وقَدْ وَقَعَ هَذَا الحَادِثُ في شَهْرِ المُحَرَّمِ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ بِخَمْسِينَ أَوْ بِخَمْسٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً مِنَ اللَّهِ، ومُقَدِّمَةً لِبِعْثَةِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ فِي مَكَّةَ ويُطَهِّرُ الكَعْبَةَ مِنَ الأوْثَانِ، ويُعِيدُ إلَيْهَا مَا كَانَ لَهَا مِنْ رِفْعَةٍ وشَأْنٍ، وتَكُونُ لِدِينِهِ صِلَةٌ عَمِيقَةٌ دَائِمَةٌ بهَذَا البَيْتِ. واسْتَعْظَمَ العَرَبُ هَذَا الحَادِثَ فَأرَّخُوا بِهِ، وقَالُوا: وَقَعَ هَذَا فِي عَامِ الفِيلِ، ووُلِدَ فُلَانُ في عَامِ الفِيلِ، ووَقَعَ هَذَا بَعْدَ عَامِ الفِيلِ بِكَذَا مِنَ السِّنِينَ (¬1). ¬

_ (¬1) تفاصيل قِصَّةِ أصحاب الفيلِ انظرها في: البداية والنهاية (2/ 565) سيرة ابن هشام (1/ 76) - الرَّوْض الأُنُف (1/ 117) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 144) - دلائل النبوة للبيهقي (1/ 115).

نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده

نَذْرُ عَبْدِ المُطَّلِبِ ذَبْحَ أحَدِ أَوْلادِهِ رَأَيْنَا مَا لَقِيَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ مِنْ قُرَيْشٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يحْفِرَ بِئْرَ زَمْزَمَ، أحَسَّ بالضَّعْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصِيرٌ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُهُ الحَارِثُ، فَنَذَرَ للَّهِ تَعَالَى لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ، ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ حتَّى يَمْنَعُوهُ لَيَنْحَرَنَّ أحَدَهُمْ عِنْدَ الكَعْبَةِ. وفِعْلًا يُقَدِّرُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، ويُرْزَقُ عَشَرَةَ أَبْنَاءٍ غَيْرَ البَنَاتِ وهُمْ: 1 - الحَارِثُ وهُوَ أكْبَرُهُمْ وأمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ جُنْدُبٍ. 2 - الزُّبَيْرُ وأمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بنِ عَائِذٍ المَخْزُومِيَّةُ. 3 - حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- وأمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبٍ. 4 - أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ العُزَّى وأمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ هَاجَرَ. 5 - المُقَوَّمُ وأمُّهُ هَالَةُ. 6 - ضِرَارٌ وهُوَ شَقِيقُ العَبَّاسِ وأمُّهُ نَتْلَةُ. 7 - أَبُو طَالِبٍ وأمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بنِ عَائِذٍ المَخْزُومِيَّةُ. 8 - عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ شَقِيقُ أَبِي طَالِبٍ والزُّبَيرِ.

* خروج القدح على عبد الله

9 - العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- وأمُّهُ نَتْلَةُ. 10 - حَجَلٌ وأمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبٍ. وَأَمَّا البَنَاتُ فَسِتٌّ وهُنَّ: صَفِيَّةُ، وأمُّ حَكِيمٍ وهِيَ البَيْضَاءُ، وعَاتِكَةُ، وأُمَيْمَةُ، وأرْوَى، وبَرَّةُ (¬1). فلَمَّا بَلَغَ بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ عَشَرَةً، وعَرَفَ أنَّهُمْ سَيَمْنَعُونَهُ جَمَعَهُمْ ثُمَّ أخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ، ودَعَاهُمْ إِلَى الوَفَاءِ بالنَّذْرِ فَأَطَاعُوهُ، وقَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قَدَحًا ثُمَّ يَكْتُبَ فِيهِ اسْمَهُ ثُمَّ ائْتُونِي، فَفَعَلُوا ثُمَّ أتَوْهُ، فَدَخَلَ عَلَى (هُبَلٍ) وهُوَ صَنَمٌ في جَوْفِ الكَعْبَةِ، وَقَالَ لِصَاحِبِ القِدَاحِ (¬2): اضْرِبْ عَلَى بَنِيَّ هَؤُلَاءِ بِقِدَاحِهِمْ، وأخْبَرَهُ بِنَذْرِهِ الذِي نَذَرَ فَفَعَلَ الرَّجُلُ. * خُرُوجُ القَدَحِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ: وكَانَ عَبْدُ اللَّهِ أحَبَّ وَلَدِ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَيْهِ، وكَانَ يَقُولُ: لَئِنْ صُرِفَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَنَا بِخَيْرٍ. فَضَرَبَ بِالْقِدَاحِ فَخَرَجَ القَدَحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فأَخَذَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ بِيَدِهِ ¬

_ (¬1) انظر الطبقات لابن سعد (1/ 41) - البداية والنهاية (2/ 650) - الرَّوْض الأُنُف (1/ 271). (¬2) الأقْدَاحُ: هي الأزْلَامُ التي كانت في الجاهلية عليها مكتوبٌ الأمرُ والنهيُ، افعل، ولا تفعل، كان الرجل منهم يضعها في وِعَاءٍ له، فإذا أراد سَفَرًا أو زَوَاجًا أو أمرًا مهمًّا أدخل يده، فأخرَجَ منها زلمًا، فإذا خرج الأمر مضى لشأنِهِ، وإن خرج النَّهي كَفَّ عنه، ولم يفعله. انظر النهاية (2/ 281).

* فداء عبد الله بمائة من الإبل

وأَخَذَ الشَّفْرَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ إِلَى الكَعْبَةِ لِيَذْبَحَهُ فَمَنَعَتْهُ قُرَيْشٌ، وَلَا سِيَّمَا إخْوَتُهُ وأخْوَالُهُ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ. فقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: فَكَيْفَ أصْنَعُ بِنَذْرِي؟ فأشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ عَرَّافَةً بِالحِجَازِ، فَيَسْتَأْمِرَهَا فذَهَبَ إِلَيْهَا عَبْدُ المُطَّلِبِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا شَرَحَ لَهَا تَفَاصِيلَ القِصَّةِ، فَقَالَتْ: كَمِ الدِّيَةُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: عَشَرَةٌ مِنَ الإِبِلِ، قَالَتْ: اضْرِبُوا القِدَاحَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وعَلَى عَشْرٍ مِنَ الإِبِلِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزِيدُوهَا عَشْرًا حتَّى يَرْضَى رَبُّهُ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ. * فِدَاءُ عَبْدِ اللَّهِ بِمِائَةٍ مِنَ الإِبِلِ: فَلَمَّا رَجَعُوا قَرَّبُوا عَبْدَ اللَّهِ، وعَشْرًا مِنَ الإِبِلِ فَخَرَجَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَزَادُوا عَشْرًا، فَخَرَجَتْ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَزِيدُ مِنَ الإِبِلِ عَشْرًا عَشْرًا، ولَا تَقَعُ القُرْعَةُ إلَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنْ بَلَغَتِ الإِبِلُ مِائَةً (¬1) فَوَقَعَتِ القُرْعَةُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: لَقَدْ رَضِيَ رَبُّكَ يا عَبْدَ المُطَّلِبِ، فَقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: لَا حَتَّى أَضْرِبَ عَلَيْهَا بِالقِدَاحِ ثَلَاثًا، فَفَعَلَ، وفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَخْرُجُ القِدَاحُ عَلَى الإِبِلِ، ثُمَّ نُحِرَت وتُرِكَتْ لَا يُصَدُّ عَنْهَا إنْسَانٌ، ولَا طَيْرٌ ولَا سَبُعٌ (¬2). ¬

_ (¬1) روى ابن سعد في الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 41) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: كانت الدِّيَةُ يومئذٍ عَشْرًا من الإبلِ، وعبد المطلبِ أوَّلُ من سَنّ ديةَ النَّفْسِ مائةً من الإبل، فجَرَتْ في قريش والعرب مائة من الإبل، وأقرَّها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما كانت عليه. (¬2) انظر الطبقات لابن سعد (1/ 41) - البداية والنهاية (2/ 650) - الرَّوْض الأُنُف (1/ 271).

* حديث واه

* حَدِيثٌ وَاهٍ: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: "أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ"، فَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (¬1)، وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِقَوْلِهِ: إِسْنَادُهُ وَاهٍ. وَأَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا (¬2). وَأَوْرَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْفَتَاوَى، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ (¬3). وَأَوْرَدَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي السِّلْسِلَةِ الضَّعِيفَةِ، وَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب تواريخ المتقدِّمينَ من الأنبياء والمرسلين باب ذِكر من قال: إن الذَّبِيحَ إسحاق بن إبراهيم عليهِ السَّلامُ - رقم الحديث (4102). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (7/ 35). (¬3) أورده العجلوني في كشف الخفاء (1/ 199). (¬4) انظر السلسلة الضعيفة - رقم الحديث (331) (1677).

زواج عبد الله بن عبد المطلب

زَوَاجُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ولَمَّا بَلَغَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً، وكَانَ شَابًّا نَسِيبًا جَمِيلًا، وَسِيمًا غَضَّ الإِهَابِ، قَوِيَّ البُنْيَانِ أَرَادَ أبُوهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَزَوَّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ، بنِ زُهْرَةَ، بنِ كِلَابِ، بنِ مُرَّةَ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ أفْضَلُ امْرَأَةٍ في قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا (¬1)، وأبُوهَا سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وشَرَفًا، فَبَنَى (¬2) بِهَا عَبْدُ اللَّهِ في مَكَّةَ (¬3). قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فكَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا، وأعْظَمَهُمْ شَرَفًا مِنْ قِبَلِ أبِيهِ وأُمِّهِ (¬4). * قِصَّةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ومُنْكَرَةٌ: رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ، وابْنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ: أَنَّ امْرَأَةً تعَرَّضَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ والِدِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأرَادَتْ مِنْهُ أَنْ يَزْنِيَ بِهَا، وذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهَا رَأَتْ في وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ نُورًا سَاطِعًا، فَلَمَّا تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ أُمَّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَوَقَعَ بِهَا، ذَهَبَ ذَلِكَ النُّورُ الذِي كَانَ في وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ، ¬

_ (¬1) أفضلُ امرَأةٍ من قُريش نسبًا مِنْ جهة الأب، ومَوْضعًا مِنْ جهة الأم. انظر شرح الزرقاني على المواهب (1/ 103). (¬2) البِنَاءُ: هو الدُّخولُ بالزوجة. انظر النهاية (1/ 156). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 193). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 194).

* وفاة عبد الله بن عبد المطلب

ثُمَّ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى المَرْأَةِ، وَقَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ فِي الذِي عَرَضْتِ عَلَيَّ؟ فَقَالَتْ: لَا، مَرَرْتَ وفي وَجْهِكَ نُورٌ سَاطِعٌ، ثُمَّ رَجَعْتَ ولَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ النُّورُ، فَلَيْسَ لِي بِكَ اليَوْمَ حَاجَةٌ (¬1). وهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُنْكَرَةٌ سَنَدًا وَمَتْنًا، ومَنْ يَقْرَأُ الرِّوَايَاتِ المُخْتَلِفَةَ عَنْهَا يُدْرِكُ مَدَى الاخْتِلَافِ والاضْطِرَابِ في سَوْقِهَا سَوَاءً في تَعْيِينِ المَرْأَةِ، إذْ مَرَّةً هِيَ خَثْعَمِيَّةٌ، وأخْرَى أسَدِيَّةٌ قُرَشِيَّةٌ، اسْمُهَا قُتَيْلَةُ، وثَالِثَةً عَدَوِيَّةٌ اسْمُهَا لَيْلَى، وكَذَلِكَ فِي صِفَةِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَمَا الْتَقَتْهُ، فَمَرَّةً هُوَ مُطَيَّنُ الثِّيَابِ، وأُخْرَى هُوَ في زِينَتِهِ (¬2). قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَة رَحِمَهُ اللَّهُ: وفِي الحَقِّ أنِّي فِي شَكٍّ مِنْ هَذَا العَرْضِ (¬3)، . . . واللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّةِ هَذِهِ القِصَّةِ (¬4). * وفَاةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ: ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَى الشَّامِ في عِيرٍ (¬5) مِنْ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ يَحْمِلُونَ تِجَارَاتٍ، فَفَرَغُوا مِنْ تِجَارَاتِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَمَرُّوا بالمَدِينَةِ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ، فقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أنَا أتَخَلَّفُ عِنْدَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن سعد في طبقاته (1/ 44) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 192) - والبيهقي في دلائل النبوة (01/ 107). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة الصحيحة (1/ 95) للدكتور أكرم العمري. (¬3) أي عَرْضِ هذه المرأةِ نفسهَا على عبدِ اللَّه والدِ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (1/ 164) للدكتور محمَّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ. (¬5) العِيرُ: هي الإبِل التي كانوا يُتَاجِرون عليها. انظر النهاية (3/ 297).

* ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتيم الأب

أخْوَالِي بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، فأقَامَ عِنْدَهُمْ مَرِيضًا شَهْرًا، ومَضَى أصْحَابُهُ فَقَدِمُوا مَكَّةَ، فَسَأَلَهُمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالُوا: خَلَّفْنَاهُ عِنْدَ أخْوَالِهِ بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، وهُوَ مَرِيضٌ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ المُطَّلِبِ أكْبَرَ وَلَدِهِ الحَارِثَ فَوَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّي ودُفِنَ في دَارِ النَّابِغَةِ، وهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، فَرَجَعَ الحَارِثُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَى أبِيهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فأخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَدْ تُوُفِيَ، فَوَجِدَ (¬1) عَلَيْهِ عَبْدُ المُطَّلِبِ، وإخْوَتُهُ وأخَوَاتُهُ وَجْدًا شَدِيدًا (¬2). * وُلِدَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتِيمَ الأَبِ: ولَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَمْلًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، ابنَ شَهْرَيْنِ، فَقَدْ رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وصَحَّحَهُ عَنْ قَيْسِ (¬3) بنِ مَخْرَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: تُوُفِّيَ أبُوهُ وأُمُّهُ حُبْلَى (¬4) بِهِ (¬5). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: والمَقْصُودُ أَنَّ أُمَّهُ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، تُوُفِّيَ أبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وهُوَ حَمْلٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عَلَى المَشْهُورِ (¬6). ¬

_ (¬1) وَجِدَ: بكسر الجيم وفتحها أي حَزِنَ. لسان العرب (15/ 219). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 46) - زاد المعاد (1/ 75) - الرَّوْض الأُنُف (1/ 283) - السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 665). (¬3) هو قيسُ بنُ مَخْرَمَةَ بن المُطَّلِبِ القرشِي المُطَّلِبي، وُلِدَ هو ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عام واحد، وكان من المؤلَّفَةِ قلوبهم، وكان مِمَّنْ حَسُنَ إسلامه. انظر الإصابة (5/ 379). (¬4) امرأةٌ حُبْلَى: أي حَامل. انظر لسان العرب (3/ 31). (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التاريخ - باب زيارته -صلى اللَّه عليه وسلم- قبر أمه - رقم الحديث (4247) - وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. (¬6) انظر البداية والنهاية (2/ 665).

* كم كان عمر عبد الله لما توفي؟

وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ: واخْتُلِفَ فِي وَفَاةِ أبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ تُوُفِّيَ ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَمْلٌ، أَوْ تُوُفِّيَ بَعْدَ وِلَادَتِهِ؟ عَلَى قَولَيْنِ: أصَحُّهُمَا أنَّهُ تُوُفِّيَ ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَمْلٌ (¬1). * كَمْ كَانَ عُمُرُ عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا تُوُفِّيَ؟ وتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هَذَا هُوَ أَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ (¬2). * مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَبِيهِ: وَجَمِيعُ مَا خَلَّفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَمْسَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَقِطْعَةَ غَنَمٍ، وَجَارِيَةً حَبَشِيَّةً اسْمُهَا: "بَرَكَةُ" وَهِيَ أُمُّ أَيْمَنَ (¬3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (1/ 75). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 46) - شرح المواهب (1/ 204). (¬3) هيَ أمُّ أيمنَ الحَبَشِيَّةُ حاضِنَةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أسلَمَتْ قديمًا، وهاجرتْ إلى الحبشةِ، وإلى المدينة، زوَّجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن حارثة -رضي اللَّه عنه-، فرُزِقَتْ منه ابنها أسامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وتوفيت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في خلافة عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (8/ 358). روى الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1771): عن ابن شهاب الزهري قال: وكان مِنْ شأن أُمِّ أيمن، أُم أسامة بن زيد، أنها كانت وَصيفَةً -أي أمَةً- لعبد اللَّه بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما وَلَدَتْ آمنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، بعدما توفي أبوه، فكانت أمُّ أيمن تحضنه، حتى كبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأعتَقَهَا. (¬4) الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 46).

من المولد الشريف إلى نزول الوحي

مِنَ الْمَوْلِدِ الشَّرِيفِ إِلَى نُزُولِ الوَحْي وِلادَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفِي نَهَارِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ عَامِ الْفِيلِ وُلِدَ سَيِّدُ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا هُوَ المَشْهُورُ عِنْدَ الجُمْهُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ فَقَالَ: "فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ" (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ الْفِيلِ (¬3). وَكَوْنُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وُلِدَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ حِكَمٌ مِنْهَا: 1 - مَا فِي شَرْعِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ شَبَهِ زَمَنِ الرَّبِيعِ، فَإِنَّهُ أَعْدَلُ الْفُصُولِ، وَشَرْعُهُ أَعْدَلُ الشَّرَائِعِ. ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (1/ 663). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصوم - باب استحباب صيام ثلاثةِ أيَّام من كُلِّ شهر وصوم يوم عَرَفة وعاشُوراء والاثنين والخميس - رقم الحديث (1162) (198). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17891) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5968) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8772).

* علامات ظهرت عند ولادته -صلى الله عليه وسلم-

2 - وَلِأَنَّ فِي ظُهُورِهِ فِيهِ إِشَارَةٌ لِمَنْ تَفَطَّنَ لَهَا إِلَى اشْتِقَاقِ لَفْظَةِ رَبِيعٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفَاؤُلًا حَسَنًا بِبِشَارَةِ أُمَّتِهِ، فَالرَّبِيعُ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَمَّا في بَطْنِهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، ومَوْلِدُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي رَبِيعٍ إِشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِعَظِيمِ قَدْرِهِ، وأنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ (¬1). * عَلَامَاتٌ ظَهَرَتْ عِنْدَ وِلَادَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ظَهَرَتْ بَعْضُ الْعَلَامَاتِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ ذَلِكَ: * ظُهُورُ نُورٍ مِنْ أُمِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ س عَنِ العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ بِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإنَّ آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ لَمُنْجَدِلٌ (¬2) في طِينَتِهِ، وسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ (¬3)، وبِشَارَةُ أخِي عِيسَى (¬4)، ورُؤْيَا أُمِّي التِي رَأَتْ حِينَ ¬

_ (¬1) انظر شرح المواهب (1/ 249). (¬2) أي مُلقى على الجدالة، وهي الأرض. انظر النهاية (1/ 240). (¬3) قال اللَّه تَعَالَى في سورة البقرة آية (129) على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. (¬4) قال اللَّه تَعَالَى في سورة الصف آية (6) على لسان عيسى عليهِ السَّلامُ، وهو يُبَشِّر بنِي إسرائيل بِبِعْثَةِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.

وَضَعَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أضَاءَتْ لَهَا مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ" (¬1). ورَوَى الحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ خَالِدِ بنِ مَعْدَانَ، عَنْ أصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُمْ قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ؟ فقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ، وبُشْرَى عِيسَى، ورَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أضَاءَتْ لَهُ بُصْرَى، وبُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ" (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وتَخْصِيصُ الشَّامِ بِظُهُورِ نُورِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إشَارَةٌ إِلَى اسْتِقْرَارِ دِيِنِهِ وَثُبُوتِهِ بِبِلَادِ الشَّام، ولِهَذَا تَكُونُ الشَّامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَعْقِلًا لِلْإِسْلَامِ وأهْلِهِ، وبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عَليهِ السَّلامُ إِذَا نَزَلَ بِدِمَشْقَ بِالْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ البَيْضَاءِ مِنْهَا (¬3)، ولِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ". وفي رِوَايَةِ البُخَارِيِّ، قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّامِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (17163) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6404) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (3619 - 4230). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4230) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 730)، وقال: إسناده جيد. (¬3) أخرج نزول عيسى عليهِ السَّلامُ بدمشق عند المَنَارة البيضاء: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الفتن وأشْرَاطُ الساعة - باب ذكر الدجال - رقم الحديث (2937). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاعتصام - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزالُ طائِفَةٌ من أمَّتِي ظَاهِرِينَ على الحقِّ" - رقم الحديث (7311) - وأخرجه في كتاب التوحيد - باب =

* ظهور النجم

قَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: إنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُمْ (¬2). وقاَل النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ: ويُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مُفَرَّقَةٌ بَيْنَ أنْوَاعِ المُؤْمِنِينَ، مِنْهُمْ: شُجْعَانٌ مُقَاتِلُونْ، ومِنْهُمْ فُقَهَاءُ، ومِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ، ومِنْهُمْ زُهَّادُ، وآمِرُونَ بالمَعْرُوفِ ونَاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ، ومِنْهُمْ أَهْلُ أنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْخَيْرِ، ولا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ، بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ في أَقْطَارِ الأَرْضِ (¬3). قُلْتُ: وَالَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ. * ظُهُورُ النَّجْمِ: رَوَى ابنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: واللَّهِ إنِّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ (¬4) ابنُ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ، أعْقِلُ كُلَّ مَا سَمِعْتُ، إذْ سَمِعْتُ ¬

_ = قول اللَّه تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} [النحل: 40]- رقم الحديث (7459) (7460) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتِي ظاهِرِينَ على الحَقِّ" - رقم الحديث (1920) (1921). وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/ 444). (¬1) انظر صحيح البخاري - كتاب الاعتصام - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتِي ظاهِرِينَ على الحَقِّ". (¬2) أخرجه الحاكم في علوم الحديث، فيما قاله الحافظ في الفتح (15/ 227): وإسناده صحيح. (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (13/ 57). (¬4) أيْفَعَ الغُلامُ: إذا شَارَفَ الاحْتِلَامَ ولمَّا يَحْتَلِمْ. انظر النهاية (5/ 258).

* وقع رافعا رأسه إلى السماء

يَهُودِيًّا يَصْرَخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أُطُمٍ (¬1) بِيَثْرِبَ: يا مَعْشَرَ يَهُودَ، حتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، قَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ مَالَكَ؟ ، قَالَ: طَلَعَ اللَّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدَ الذِي وُلِدَ بِهِ (¬2). * وَقَعَ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ: رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ وابْنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمِّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: . . . ثُمَّ وَضَعْتُهُ، فَمَا وَقَعَ كَمَا يَقَعُ الصِّبْيَانُ، وَقَعَ وَاضِعًا يَدَهُ بِالْأَرْضِ، رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ (¬3). * عَلَامَاتٌ مَشْهُورَةٌ لَكِنَّهَا غَيرُ صَحِيحَةٍ: وَهَذِهِ العَلَامَاتُ لَمْ تَثْبُتْ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهَا مَشْهُورَةٌ، فَمِنْهَا: 1 - أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ -صلى اللَّه عليه وسلم- ارْتَجَّ إِيْوَانُ كِسْرَى. 2 - سَقَطَتْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً مِنْ إيوَانِ كِسْرَى. 3 - خَمَدَتِ النَّارُ التِي كَانَ يَعْبُدُهَا المَجُوسُ. 4 - غَاصَتْ بُحَيْرَةُ "سَاوَة". 5 - انْهَدَمَتِ المَعَابِدُ التِي كَانَتْ حَوْلَهَا -أيْ حَوْلَ بُحَيْرَةِ "سَاوَة"- (¬4). ¬

_ (¬1) الأُطُمُ: بضم الهمزة: بنَاءٌ مُرتفعٌ كالحُصُونِ. انظر النهاية (1/ 57). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 196). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6335) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 202). (¬4) أخرج ذلك الإمام الذهبي في السيرة النبوية (1/ 44) وقال: هذا حديث منكر غريب - =

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذِهِ الآثَارَ الضَّعِيفَةَ: وهَذَا الكَلَامُ تَعْبِيرٌ غَلَطٌ عَنْ فِكْرَةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ مِيلَادَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ حَقًّا إِيذَانًا بِزَوَالِ الظُّلْمِ وانْدِثَارِ (¬1) عَهْدِهِ، وانْدِكَاكِ مَعَالِمِهِ. . . فَلَمَّا أحَبَّ النَّاسُ -بَعْدَ انْطِلَاقِهِمْ مِنْ قُيُودِ الْعَسْفِ (¬2) - تَصْوِيرَ هذِهِ الحَقِيقَةِ، تَخَيَّلُوا هَذِهِ الإِرْهَاصَاتِ (¬3)، وأَحْدَثُوا لَهَا الرِّوَايَاتِ الوَاهِيَةِ، ورَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غَنِيٌّ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، فإنَّ نَصِيبَهُ الضَّخْمَ مِنَ الوَاقِعِ المُشَرِّفِ يُزَهِّدُنَا في هذِهِ الرِّوَايَاتِ وأشْبَاهِهَا (¬4). قَالَ أَحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ: تَجَلى مَوْلِد الْهَادِي وَعَمَّتْ ... بَشَائِرُهُ الْبَوَادِيَ وَالْقِصَابَا وَأَسْدَتْ لِلْبَرِيَّةِ بِنْتُ وَهْبٍ ... يَدًا بَيْضاءَ طَوَّقَتِ الرِّقابا لَقَدْ وَضَعَتْهُ وَهَّاجًا مُنِيرًا ... كَمَا تَلِدُ السَّمَاوَاتُ الشِّهَابَا فَقَامَ عَلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ نُورًا ... يُضِيءُ جِبَالَ مَكَّةَ وَالنِّقَابَا * * * ¬

_ = والبيهقيُّ في دلائل النبوة (1/ 126 - 127). قال الدكتور عبد المعطي قلعه جي محقق دلائل النُّبوَّة للبيهقي: "وهذا حديثٌ ليس بصحيح". (¬1) اندَثَرَ: أي بَلِي. انظر لسان العرب (4/ 289). (¬2) العَسْفُ: الظُّلْمُ. انظر لسان العرب (9/ 206). (¬3) إرهَاصَاتٌ: أي مُقَدِّمات. انظر لسان العرب (5/ 343). (¬4) انظر فقه السيرة ص (58 - 59) للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ.

ختان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

خِتَانُ (¬1) رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَمَّا خِتَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَالصَّحِيحُ أَنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ جَدَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَتَنَهُ يَوْمَ سَابِعِهِ عَلَى عَادَةِ العَرَبِ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فِي الاسْتِيعَابِ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ سَابِعِهِ، وجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً (¬2). وَمَالَ كَمَالُ الدِّينِ بنُ الْعَدِيمِ (¬3)، وابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (¬4) إِلَى هَذَا، مِنْ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- خُتِنَ يَوْمَ سَابِعِهِ عَلَى يَدِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ. وَأَمَّا الأحَادِيثُ التِي تَذْكُرُ أَنَّ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وُلِدَ مَخْتُونًا، فكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، فَمِنْهَا: ما رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (11/ 530): الخِتَان بكسر الخاء وفتح التاء مصدر خَتَنَ: أي قَطَعَ، والخَتْنُ: بفتح الخاء قَطْعُ بعضٍ مَخْصُوص مِنْ عُضْوٍ مَخْصُوص. وقال الماوردي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (11/ 530): خِتَانُ الذَّكر قطعُ الجِلْدَة التي تُغَطِّي الحَشَفة. (¬2) انظر الاستيعاب (1/ 151). (¬3) انظر زاد المعاد (1/ 81). (¬4) انظر الاستيعاب (1/ 151).

قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِنْ كَرَامَتِي عَلَى رَبِّي أَنِّي وُلِدْتُ مَخْتُونًا ولَمْ يَرَ أَحَدٌ سَوْأَتِي" (¬1). ورَوَى ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عنِ العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَخْتُونًا مَسْرُورًا (¬2)، قَالَ: فَأَعْجَبَ ذَلِكَ عَبْدَ المُطَّلِبِ وحَظِيَ عِنْدَهُ، وَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ (¬3). قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ولَيْسَ إسْنَادُ حَدِيثِ العَبَّاسِ هَذَا بِالقَائِمِ (¬4). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَدِيثِ العَبَّاسِ: وهَذَا الحَدِيثُ في صِحَّتِهِ نَظَرٌ. . .، وقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ صِحَّتَهُ، لِمَا وَرَدَ لَهُ مِنَ الطُّرُقِ حتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وفي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ (¬5). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: ويُقَالُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وُلِدَ مَخْتُونًا مَسْرُورًا، ورُوِيَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ، ذَكَرَهُ أَبُو الفَرَجِ ابنُ الجَوْزِيِّ في "المَوْضُوعَاتِ" ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 154) - والحلية - رقم الحديث (3026) وانظر ضعيف الجامع للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (5310) - والسلسلة الضعيفة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (6270). (¬2) أي مَقْطُوعُ الحَبْلِ السِّرِّي. (¬3) أخرجه ابن سعد في الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 48) - وانظر السلسلة الضعيفة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (6270). (¬4) انظر الاستيعاب (1/ 151). (¬5) انظر البداية والنهاية (1/ 668).

* فرح عبد المطلب بولادة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

ولَيْسَ فِيهِ حَدِيثٌ ثَابِتٌ، ولَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُولَدُ مَخْتُونًا (¬1). . . وقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاضِلَيْنِ، صَنَّفَ أَحَدُهُمَا مُصَنَّفًا في أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وُلِد مَخْتُونًا، وأَجْلَبَ فِيهِ مِنَ الأَحَادِيثِ التِي لَا خِطَامَ لَهَا وَلا زِمَامَ، وهُوَ كَمَالُ الدِّينِ بنُ طَلْحَةَ، فَنَقَضَهُ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّينِ بنُ العَدِيمِ، وبَيَّنَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خُتِنَ عَلَى عَادَةِ العَرَبِ، وكَانَ عُمُومُ هَذِهِ السُّنَّةِ لِلْعَرَبِ قَاطِبَةً مُغْنِيًا عَنْ نَقْلٍ مُعَيَّنٍ فِيهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). وَأَمَّا مَا قَالَهُ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ: وقَدْ تَوَاتَرَتِ الأَخْبَارُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وُلِدَ مَخْتُونًا، مَسْرُورًا (¬3)، فَقَدْ تَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ في تَلْخِيصِهِ بِقَوْلِهِ: لا أعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَوَاتِرًا. * فَرَحُ عَبْدِ المُطَّلِبِ بِوِلَادَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ولَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ آمِنَةُ، أرْسَلَتْ إِلَى جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ تُخْبِرُهُ بِوِلادَةِ حَفِيدِهِ، فَفَرِحَ عبدُ المُطَّلِبِ بِحَفِيدِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- واسْتَبْشَرَ بِهِ. ¬

_ (¬1) قلتُ: ممن وُلِدَ مختونًا: ابن صياد، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (38683) بسند صحيحٍ عن أم سلمة - رضي اللَّه عنها - قالت: ولدته أمه مسرورًا مختونًا. يعني ابن صياد. وروى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه - رقم الحديث (20831) بسند صحيح عن عروة بن الزبير قال: وُلِدَ ابن صيَّادٍ أعور مختتنًا. (¬2) انظر زاد المعاد (1/ 80). (¬3) انظر المستدرك للحاكم (3/ 498).

* ختان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم سابعه وتسميته محمدا

قَالَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (¬1) -رضي اللَّه عنه- يَمْدَحُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وأنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتْ ... الأرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ فَنَحْنُ في ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي ... النُّورِ وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ * خِتَانُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ سَابِعِهِ وتَسْمِيَتُهُ مُحَمَّدًا: وَلَمَّا كَانَ اليَومُ السَّابعُ مِنْ وِلادَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَتَنَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَلَى عَادَةِ العَرَبِ، وعَقَّ عَنْهُ بِكَبْشٍ، وجَعَلَ لَهُ مَأْدُبَةً، وسَمَّاهُ مُحَمَّدًا (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- ولَمْ يَكُنِ العَرَبُ يَأْلَفُونَ هَذَا الاِسْمَ، فَاسْتَغْرَبَهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، وسَأَلُوا عَبْدَ المُطَّلِبِ فَقَالُوا: لِمَ رَغِبْتَ بهِ عَنْ أَسْمَاءِ أهْلِ بَيْتِهِ؟ فَأَجَابَهُمْ: أرَدْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وخَلْقُهُ فِي الأَرْضِ (¬3). وقِيلَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ مُحَمَّدًا: أَنَّ عَبْدَ المُطَّلِبِ كَانَ مُسَافِرًا إِلَى الشَّامِ مَعَ ¬

_ (¬1) هو العباس بن عبد المطلب بن هاشم عَمُّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وُلِدَ قبل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بسنتين، وكان -رضي اللَّه عنه- من أطْوَلِ الرجال، وأحسنِهِم صُورة، وأبْهَاهُم، وأجْهَرِهِم صَوتًا، مع الحلم الوافر، والسُؤْدَة، وكان قد وُكِلَ إليه في الجاهلية السِّقَاية والعِمَارة، وحضَرَ بيعَةَ العَقَبَة مع الأنصار قَبْلَ أن يُسْلِم، وأسلم -رضي اللَّه عنه- قبل الفتح، ومات -رضي اللَّه عنه- بالمدينة سنة 32 هـ. انظر أسد الغابة (2/ 543). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 669): قال بعض العلماء: ألهَمَهُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أن سمُّوه محمدًا؛ لما فيه من الصِّفات الحَمِيدة؛ ليَلْتَقِي الاسم والفعل، ويتطابَقَ الاسم والمُسَمَّى في الصُّورة والمعنى، كما قال حسَّان بن ثابت -رضي اللَّه عنه-: وشَقَّ لهُ مِنِ اسمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فذُو العرشِ مَحْمُودٌ وهذا محمدُ (¬3) انظر دلائل النبوة للبيهقي (1/ 113).

ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِلتِّجَارَةِ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي الشَّامِ الْتَقَوْا بِرَاهِبٍ، فَسَأَلَهُمْ: مِنْ أيْنَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ بِلَادَكُمْ سَيَخْرُجُ مِنْهَا نَبِيٌّ، فَسَأَلُوهُ مَا اسْمُ النَّبِيِّ قَالَ: "اسْمُهُ مُحَمَّدٌ"، ولَمْ يَكُنْ اسْمُ مُحَمَّدٍ مَعْرُوفًا عِنْدَ العَرَبِ. فَلَمَّا رَجَعَ هَؤُلَاءَ الأَرْبَعَةُ عَزَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْ رُزِقَ بِمَوْلُودٍ يُسَمِّيهِ مُحَمَّدًا. عَبْدُ المُطَّلِبِ كَبُرَ، فَلَمَّا رُزِقَ ابْنُهُ عبدُ اللَّهِ وَلَدًا سَمَّاهُ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَهُمْ: سُفْيَانُ بنُ مُجَاشِعٍ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وأُحَيْحَةُ بنُ الْجَلَّاحِ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا، وحِمْرَانُ بنُ رَبِيعَةَ سَمَّى ابْنَهُ مُحَمَّدًا، هَؤُلَاءِ أوَّلُ مَنْ سَمَّى مُحَمَّدًا فِي العَرَبِ، كَمَا قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ الأُنُفِ (¬1). قَالَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-: أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ ... مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ ويَشْهَدُ وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وهَذَا مُحَمَّدُ نَبِيُّ أتَانَا بَعْدَ يَأْسٍ وَفَتْرَةٍ ... مِنَ الرُّسْلِ وَالأَوْثَانُ فِي الْأَرْضِ تُعْبَدُ ¬

_ (¬1) انظر الروض الأنف (1/ 820) وتعقَّبه الحافظ في الفتح (7/ 247) بقوله: وهذا حَصْرٌ مردُود، وقد جَمَعْتُ أسماء من تسمى بذلك في جزءٍ مفرَدٍ، فبلغوا نحوَ العِشْرين لكنْ مع تَكَرُّرٍ في بعضهم ووهمٍ في بعض فيتلخَّص منهم خمسَةَ عشر نَفْسًا.

فَأَمْسَى سِرَاجًا مُسْتَنِيرًا وَهَادِيًا ... يَلُوحُ كَمَا لَاحَ الصَّقِيلُ المُهَنَّدُ وأنْذَرَنَا نَارًا وَبَشَّرَ جَنَّةً ... وعَلَّمَنَا الإسْلَامَ فَاللَّهَ نَحْمَدُ وأنْتَ إِلَهُ الْخَلْقِ رَبِّي وخَالِقِي ... بِذَلِكَ مَا عَمَّرْتُ في النَّاسِ أَشْهَدُ تَعَالَيْتَ رَبَّ النَّاسِ عَنْ قَوْلِ مَنْ دَعَا ... سِوَاكَ إِلَهًا أَنْتَ أَعَلَى وأَمْجَدُ لَكَ الخَلْقُ والنَّعْمَاءُ والأَمْرُ كُلُّهُ ... فَإِيَّاكَ نَسْتَهْدِي وإيَّاكَ نَعْبُدُ (¬1) * * * ¬

_ (¬1) انظر ديوان حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- ص 54.

رضاع النبي -صلى الله عليه وسلم-

رَضَاعُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أَرْضَعَتْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- هِيَ أُمُّهُ آمِنَةُ، قِيلَ أرْضَعَتْهُ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، وقِيلَ سَبْعًا، وقِيلَ تِسْعًا. ثُمَّ أرْضَعَتْهُ ثُوَيْبَةُ (¬1) لَبَنَ ابنٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ "مَسْرُوحٌ" (¬2)، أَرْضَعَتْهُ أَيَّامًا، قَبْلَ أَنْ تَقْدُمَ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ، وكانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْ قَبْلَهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ (¬3) -رضي اللَّه عنه-، وأرْضَعَتْ بَعْدَهُ أبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الأسَدِ المَخُزوِمِيَّ (¬4) -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (10/ 181): ثويبةُ مَوْلاةُ أبي لهَبٍ، ذكرها ابن منده في الصحابة، وقال: اختلف في إسلامِهَا. وقال في الإصابة (8/ 60): وفي باب من أرضع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من طبقات ابن سعد (1/ 51) ما يدلُّ على أنها لم تُسْلِم، ولكن لا يدفع قول ابن منده بهذا. وقال أبو نعيم: لا نعلمُ أحدًا ذكر إسلامَهَا غيره. وقال ابن الجوزيِّ في صفة الصفوة (1/ 31): ولا نعلم أحدًا ذكر أنَّها أسلمت. (¬2) قال الحافظ في الإصابة (8/ 61): لم أقف في شيء من الطرق على إسلام ابنها مسروح، وهو محتمل. (¬3) هو حمزةُ بن عبدِ المطلب أبو عمَارَة، القُرشي الهاشمي، عَمُّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخوه من الرَّضاعة، أرضعتهما ثُويبةُ مولاة أبي لهب، وُلِدَ قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسنتين، وقيل: بأربع، وأسلم في السنة الثانية من البِعْثة ولازَمَ نَصْرَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهاجر معه، وشَهِدَ بدرًا، وقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- على يَدِ وحشِيِّ بن حَرْبٍ في غزوة أُحد، وذلك في شوال من السنة الثالثة للهجرة، ودُفِنَ هو وعبد اللَّه بن جحش في قبرٍ واحِدٍ. انظر الإصابة (2/ 105). (¬4) هو عبد اللَّه بن عبد الأسدِ المخزومي السَّيد الكبير، من السابقين الأولين إلى الإِسلام، أسلم بعد عشرة أنفس، وكان أخو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرَّضاعةِ، وهو ابنُ عَمَّةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمه بَرَّة بنتِ =

فَكانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَمُّهُ حَمْزَةُ، وأبُو سَلَمَةَ إِخْوَةً مِنَ الرَّضَاعَةِ. روَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنَّا نُحَدَّثُ أنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: "بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ " (¬1)، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي (¬2) في حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أرْضَعَتْنِي وأبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةٌ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ ولَا أَخَوَاتِكُنَّ" (¬3). ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ألَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ؟ فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهَا لا تَحِلُّ لِي، إنَّهَا ابْنَةُ أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، ويَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ ما يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" (¬4). ¬

_ = عبد المطلب، شَهِدَ بَدْرًا وأُحدًا وماتَ بعدَ أُحُدٍ بشَهْر، في جمادى الآخرة سنة 3 هجرية. انظر أسد الغابة (4/ 475). (¬1) قال الحافظ في الفتح (10/ 179): هو استفهامُ اسْتِثْبَاتٍ لرَفْعِ الإِشْكَالِ، أو استفهامُ إنْكَارٍ، والمعنى أنها إنْ كَانَ بنت أبي سلمة مِنْ أمِّ سلمة، فيكون تحريمها مِنْ وَجْهَيْن: الأوَّل أنها رَبِيبَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والثاني أنها ابْنَةُ أَخِيهِ منَ الرَّضَاعَةِ. (¬2) الرَّبِيبَةُ: بنت الزوجة من زوجٍ آخر. انظر النهاية (2/ 166). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب (21) - رقم الحديث (5101). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الشهادات - باب الشهادة على الأنساب. . . - رقم الحديث (2645) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب (21) - رقم الحديث (5100) - =

* استرضاعه -صلى الله عليه وسلم- في بني سعد

* اسْتِرْضَاعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَنِي سَعْدٍ: ثُمَّ الْتَمَسَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَرَاضِعَ عَلَى عَادَةِ أهْلِ مَكَّةَ الذِينَ كَانُوا يُؤْثِرُونَ إِذَا وُلِدَ لَهُمْ وَلَدٌ أَنْ يَلْتَمِسُوا لَهُ مُرْضِعَةً مِنَ البَادِيَةِ، وسَبَبُ الْتِمَاسِ المَرَاضِعِ لِأَوْلَادِهِمْ أُمُورٌ، ذكَرَهَا الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ فَمِنْهَا: 1 - لِيَنْشَأَ الطِّفْلُ في الأَعْرَابِ، فَيَكُونَ أفْصَحَ لِلِسَانِهِ. 2 - لِيَكُونَ أجْلَدَ (¬1) لِجِسْمِهِ، وأجْدَرَ أَنْ لا يُفَارِقَ الهَيْئَةَ المَعَدِّيَةَ، كمَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- اخْشَوْشِنُوا، وَاخْشَوْشِبُوا (¬2)، واخْلَوْلِقُوا، وتَمَعْدَدُوا (¬3) كَأَنَّكُمْ مَعَدّ (¬4)، وإيَّاكُمْ والتَّنَعُّمَ (¬5). 3 - حتَّى يَكُونَ أنْجَبَ لِلْوَلَدِ وأصْفَى لِلذِّهْنِ (¬6). قَالَ الشَّيْخُ محمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وتَنْشِئَةُ الأوْلَادِ في البَادِيَةِ ¬

_ = ومسلم في صحيحه - كتاب الرضاعة - باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة - رقم الحديث (1447) (12) (13). (¬1) الجَلَدُ: بفتح الجيم: القُوَّة. انظر النهاية (1/ 275). (¬2) اخشَوْشَبَ الرجل: إذا كان صُلبًا خَشِنًا في دينه، ومَلْبسه، ومَطْعمه، وجَميع أحواله. انظر النهاية (2/ 31). (¬3) يُقال: تَمَعْدَدَ الغُلام: إذا شَبَّ وغَلُظ. انظر النهاية (4/ 291). (¬4) مَعدّ: بفتح الميم وتشديد الدال: هي قبيلة معروفة، وكان أهلها أهل غِلَظ، وقَشَف. انظر النهاية (4/ 291). (¬5) أخرج قول عمر -رضي اللَّه عنه-: الطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 339) - وإسناده صحيح. (¬6) انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 287).

* إقبال المراضع

لِيَمْرَحُوا في كَنَفِ الطَّبِيعَةِ، ويَسْتَمْتِعُوا بِجَوِّهَا الطَّلْقِ وشُعَاعِهَا المُرْسَلِ، أدْنَى إِلَى تَزْكِيَةِ الفِطْرَةِ، وإنْمَاءِ الأَعْضَاءِ والمَشَاعِرِ، وإطْلَاقِ الأَفْكَارِ والعَوَاطِفِ، . . . وكَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّرْبِيَةِ يَوَدُّ لَوْ تَكُونُ الطَّبِيعَةُ هِيَ المَعْهَدُ الأَوَّلُ لِلطِّفْلِ حتَّى تَتَّسِقَ مَدَارِكُهُ مَعَ حَقَائِقِ الكَوْنِ الذِي وُجِدَ فِيهِ (¬1). قَالَ أحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ: يا أفْصَحَ النَّاطِقِينَ الضَّادَ قَاطِبَةً ... حَدِيثُكَ الشَّهْدُ عِنْدَ الذَّائِقِ الفَهِمِ حُلِّيتَ مِنْ عُطْلٍ جِيدَ البَيَانُ بِهِ ... فِي كُلِّ مُنْتَثِرٍ في حُسْنِ مُنْتَظِمِ بِكُلِّ قَوْلٍ كَرِيمٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... تُحْيِي القُلُوبَ وتُحْيِي مَيِّتَ الهِمَمِ * إقْبَالُ المَرَاضِعِ: أقْبَلَتِ المَرَاضِعُ مِنَ البَادِيَةِ يَلْتَمِسْنَ تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ الأَشْرَافِ، فَاسْتَرْضَعَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لِحَفِيدِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- امْرَأَةً مِنْ قَبِيلَةِ سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، وهِيَ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ (¬2)، وزَوْجُهَا الحَارِثُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، المُكَنَّى بِأَبِي كَبْشَةَ مِنْ نَفْسِ القَبِيلَةِ. ¬

_ (¬1) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 60. (¬2) هي حَلِيمة بنتُ أبي ذؤيب السَّعدية من مُضَر، أرضعَتْ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثمَّ قَدِمت مع زوجها على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقِبَ حنين، فقام إليها، وبَسَطَ لها رِدَاءَهُ فجلست عليه، وأسلمت هي وزوجها الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. انظر الإصابة (8/ 87).

* قصة حليمة في استرضاعه -صلى الله عليه وسلم-

* قِصَّةُ حَلِيمَةَ في اسْتِرْضَاعِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: تَذْكُرُ حَلِيمَةُ قِصَّةَ رَضَاعِهَا لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَقُولُ: خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا، وابنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ، في نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، تَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ بِمَكَّةَ، قالَتْ: وذَلِكَ في سَنَةٍ شَهْبَاءَ (¬1)، لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانٍ (¬2) لِي قَمْرَاءَ (¬3)، مَعَنَا شَارِفٌ (¬4) لنَا وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ (¬5)، ومَا نَنَامُ لَيْلَنَا أجْمَعَ مِنْ صَبِيِّنَا الذِي مَعَنَا، مِنْ بُكَائِهِ منَ الجُوعِ، ومَا فِي ثَدْيَيَّ مَا يُغْنِيهِ، ومَا فِي شَارِفِنا ما يُغَذِّيهِ ولَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الغَيْثَ، والفَرَجَ، فَخَرَجْتُ عَلَى أتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أدَمْتُ الرَّكْبَ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وعَجَفًا (¬6)، حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فَمَا مِنَّا امْرَأَةٌ إلَّا وقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتَأْبَاهُ، إِذَا قِيلَ لَهَا أَنَّهُ يَتِيمٌ، وذَلِكَ أنَّا إِنَّمَا كُنَّا نَرْجُو المَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصَّبِيِّ، فكُنَّا نَقُولُ: يَتِيمٌ، ومَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أمُّهُ وَجَدُّهُ؟ فكُنَّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ، فَمَا بَقِيَتِ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي، فَلَمَّا أَجْمَعْنَا الاِنْطِلَاقَ، والذَّهَابَ، قُلْتُ لِصَاحِبِي: وَاللَّهِ إنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي، ولَمْ ¬

_ (¬1) سَنَةٌ شَهْبَاءُ: أي ذاتُ قَحْطٍ، وجَدْب، والشَّهْباء هي الأرض البَيْضاء التي لا خُضْرَة فيها لِقِلَّةِ المَطَر. النهاية (2/ 457). (¬2) الأتانُ: الحمارَة الأنثى خاصة. النهاية (1/ 25). (¬3) القَمْرَاءُ: أي الشديدُ البياض. النهاية (4/ 93). (¬4) الشَّارِفُ: هي الناقة المُسِنَّةُ. النهاية (2/ 415). (¬5) ما تَبِضُّ بقَطْرَةٍ: أي ما يَقْطُرُ منها لبن. النهاية (1/ 131). (¬6) العَجَفُ: أي الهُزَالُ. النهاية (3/ 169).

آخُذْ رَضِيعًا، وَاللَّهِ لَأَذْهَبَنَّ إِلَى ذَلِكَ اليَتِيمِ فَلَآخُذَنَّهُ، قَالَ: لا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فأخَذْتُهُ، ومَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلَّا أنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ. قالَتْ: فَلَمَّا أَخَذْتُهُ، رَجَعْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي، فَلَمَّا وَضَعْتُهُ في حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ حتَّى رَوِيَ، وشَرِبَ مَعَهُ أخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، ثُمَّ نَامَا، ومَا كُنَّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وقَامَ زَوْجِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ، فَإِذَا هِيَ حَافِلٌ (¬1) فَحَلَبَ مِنْهَا وشَرِبَ، وشَرِبْتُ مَعَهُ حتَّى انْتَهَيْنَا رِيًّا وشِبَعًا، فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، قَالَتْ: يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أصْبَحْنَا: تَعْلَمِي واللَّهِ يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ أخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً، قالَتْ: فقُلْتُ واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو ذَلِكَ، قالَتْ: ثُمَّ خَرَجْنَا ورَكِبْتُ أتَانِي، وحَمَلْتُهُ عَلَيْهَا مَعِي، فَوَاللَّهِ لَقَطَعْتُ بِالرَّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ حُمُرِهِمْ حتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ لِي: يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَيْحَكِ أَرْبِعِي عَلَيْنَا (¬2)، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أتَانُكِ التِي كُنْتِ خَرَجْتِ عَلَيْهَا؟ فأَقُولُ لَهُنَّ: بَلَى وَاللَّهِ، إنَّهَا لَهِيَ هِيَ، فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا. قَالَتْ: ثُمَّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ، ومَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ (¬3) مِنْهَا، فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيَّ حِينَ قَدِمْنَا بهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبّنًا، ¬

_ (¬1) نَاقَةٌ حَافِلٌ: أي كثيرة اللبن. النهاية (1/ 393). (¬2) أرْبِعِي: أي ارفُقِي واقْتَصِري. النهاية (2/ 172). (¬3) يُقال أرضٌ جَدْبَاء: أي لا نَبَات بها. انظر النهاية (1/ 235).

فَنَحْلِبُ ونَشْرَبُ، ومَا يَحْلِبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ، ولَا يَجِدُهَا في ضَرْعٍ، حَتَّى كَانَ الحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ: وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ فَتَرُوحُ أغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبّنًا (¬1). فَهَذِهِ مِنْ بَرَكَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، وزَوْجِهَا الحَارِثِ. ولَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ حتَّى مَضَتْ سَنَتَاهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفَطَمَتْهُ ¬

_ (¬1) أخرج قِصَّةَ استِرْضَاعِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بادِيَةِ بَنِي سعد: ابن حبَّان في صحيحه - رقم الحديث (6335) بإسناد منقطع - وابن إسحاق في السيرة (1/ 199) وجَوّد إسناده الذهبي في سيرته (1/ 52). وضعف الألباني هذا الخبر في كتابه "دِفَاعٌ عن الحديثِ النَّبوي والسيرة". قُلت: وهناك شواهد كثيرة وثابتة، تدل على استرضاع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في بادية بني سعد منها: * ما رواه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (162) (261) - في قصة شقِّ صدره -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو غُلام، وهي تتفق مع رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17648) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4288) - وابن إسحاق (1/ 201) بسند حسن في شق صدره -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مُسْتَرضَعٌ في بادية بني سعد. * ومنها ما رواه ابن إسحاق في السيرة (1/ 203) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 679) بَسَندٍ جيِّد قَوِي، عن خالد بن مَعْدان، عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: يا رسول اللَّه أخبرنا عن نفسك؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعم أنا دَعْوة أَبِي إبراهيم، وبُشرى عِيسى عليهِ السَّلامُ، ورأتْ أمِّي حيثُ حَمَلت بي أنَّه خرَج منها نُورٌ أضاءَتْ لهُ قُصُور الشَّام، واستُرْضِعْتُ في بَنِي سعدِ بن بَكْرٍ. . .". * ومنها ما رواه ابن إسحاق في السيرة (4/ 141) بسند حسن في قِصَّة قُدُوم وفْدِ هَوَازِن إلى الرسول وهو بالجِعرانة مُنْصَرَفَهُ من حُنين، ولفظه: . . . فقام رجل من هَوَازن، ثُمَّ أَحَدُ بني سعد بن بكر، فقال: يا رسول اللَّه، إنَّما في الحَظَائِرِ -أي الأسر- عَمَّاتُكَ وخَالاتُكَ وحَوَاضِنُكَ اللاتي كُنَّ يَكْفَلْنَكَ.

وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشِبُّ شَبَابًا لا يُشْبِهُ الغِلْمَانَ فَلَمْ تَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حتَّى كَانَ غُلَامًا كَأَنَّهُ ابنُ أرْبَعِ سِنِينَ. قَالَتْ حَلِيمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ تَعَالَى يُرِيَنَا البَرَكَةَ ونَتَعَرَّفُهَا، حتَّى بَلَغَ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَنَتَيْنِ، فَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لا يَشِبُّهُ الغِلْمَانُ (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: فَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشِبُّ في يَوْمِهِ شَبَابَ الصَّبِيِّ في الشَّهْرِ ويَشِبُّ في الشَّهْرِ شَبَابَ الصَّبِيِّ في سَنَةٍ (¬2). قَالَ البَرْدُونِيُّ: وَشَبَّ طِفْلُ الْهُدَى المَنْشُودِ مُتَّزِرًا ... بِالْحَقِّ مُتَّشِحًا (¬3) بِالنُّورِ وَالنَّارِ فِي كَفِّهِ شُعْلَةٌ تَهْدِي وفِي فَمِهِ ... بُشْرَى وفِي عَيْنَيْهِ إِصْرَارُ أَقْدَارِ وفِي مَلَامِحِهِ وَعْدٌ وفِي دَمِهِ ... بُطُولَةٌ تَتَحَدَّى كُلَّ جَبَّارِ (¬4) قالَتْ حَلِيمَةُ: فَقَدِمْنَا بهِ عَلَى أُمِّهِ زَائِرِينَ لَهَا، ونَحْنُ أحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا، لِمَا كُنَّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ، فكَلَّمْنَا أُمَّهُ، وقُلْتُ لَهَا: لَوْ تَرَكْتِ بُنَيَّ عِنْدِي حتَّى يَغْلَظَ، فإنِّي أخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب صفته -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخباره - رقم الحديث (6335) - وإسناده منقطع، لكن للقصَّة شواهد كثيرةٌ ثابتةٌ صحيحةٌ كما مَرَّ قبل قليل. (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 51). (¬3) تَوَشَّحَ الرجل بِثَوبِهِ: إذا لبسه. انظر لسان العرب (15/ 306). (¬4) انظر ديوان البردوني ص 507.

قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حتَّى رَدَّتْهُ مَعَنَا (¬1). وَهَكَذَا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ. * * * ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 201) - السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 51) - وجود الذهبي إسناده.

حادثة شق صدره الشريف -صلى الله عليه وسلم-

حَادِثَةُ شَقِّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَعَتْ حَادَثِةُ شَقِّ صَدْرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ فِي بَادِيَةِ بَنِي سَعْدٍ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ، والحَاكِمِ فِي المُسْتَدْرَكِ عَنْ عُتْبَةَ بنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أوَّلُ شَأْنِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بنِ بَكْرٍ، فَانْطَلَقْتُ أنَا وابْنٍ لَهَا فِي بَهْمٍ (¬1) لنَا، ولَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا، فَقُلْتُ: يا أَخِي، اذْهَبْ فَأْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا (¬2)، فَانْطَلَقَ أَخِي، ومَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ، فَأَقْبَلَ طَيْرَانِ أبْيَضَانِ، كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي (¬3)، فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي إِلَى القَفَا، فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي، فَشَقَّاهُ، فأخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ، فقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءِ ثَلْجٍ، فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءِ بَرَدٍ، فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ، فَذَرَّاهَا (¬4) فِي قَلْبِي، ثُمَّ ¬

_ (¬1) البَهْمُ: بفتح الباء: جَمْع بَهْمَة، وهي ولد الضَّأْنِ الذكر والأنثى. انظر النهاية (1/ 165). (¬2) هي حَلِيمة السعدية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬3) تَبَادَرَ القَوْم: أسْرَعُوا. انظر لسان العرب (1/ 340). (¬4) ذَرَّاها: أي نَثَرها.

قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ، فَحَاصَهُ (¬1)، وخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، . . . ثُمَّ انْطَلَقَا وتَرَكَانِي، وَفَرِقْتُ (¬2) فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالذِي لَقِيتُهُ، فأشْفَقَتْ عَلَيَّ أَنْ يَكُونَ أُلْبِسَ (¬3) بِي، قَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ، فَرَحَلَتْ بَعِيرًا لَهَا، وَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، ورَكِبَتْ خَلْفِي حتَى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي، فقَالَتْ: أَوَأَدَّيْتُ أَمَانَتِي وذِمَّتِي؟ وحَدَّثَتْهَا بِالذِي لَقِيتُ، فَلَمْ يَرُعْهَا ذَلِكَ، وقَالَتْ: إنِّي رَأَيْتُ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ" (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَاهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ القَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءَ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ (¬5)، ثُمَّ أَعَادَهُ في مَكَانِهِ، وجَاءَ الغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرِهِ (¬6)، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلْ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وهُوَ مُنْتَقِعُ (¬7) اللَّوْنِ. ¬

_ (¬1) حَاصَهُ: خَاطَهُ. انظر لسان العرب (3/ 394). (¬2) الفَرَقُ: بالتَّحريك الخوف والفزع. انظر النهاية (3/ 392). (¬3) أُلْبِسَ: أي خُولِطْتُ في عَقْلي. انظر النهاية (4/ 196). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17648) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4288) - وأورد الإمام الذهبي في سيرته (1/ 52) - وصحح إسناده - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (1/ 203) عن خالد بن معدان بسند حسن، وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 679) - وقال: وهذا إسناده جيد قوي. (¬5) قال الإمام النووي في شرح مسلم (1/ 187): أي جمعه وضمَّ بعضه على بعض. (¬6) الظِّئْرُ: المُرْضِعَةُ غير ولدها. انظر النهاية (3/ 140). (¬7) قال الإمام النووي في شرح مسلم (1/ 187): مُنْتَقِعُ اللون: أي مُتَغَيِّر اللون.

* عمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما شق صدره

قَالَ أنَسٌ: وقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ المَخِيطِ فِي صَدْرِهِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: والحِكْمَةُ مِنْ شَقِّ صَدْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ صَغِيرٌ: نَزْعُ العَلَقَةِ السَّوْدَاءَ التِي مِنْ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْ كُلِّ بَشَرٍ، ثُمَّ إِخْرَاجُهَا بَعْدَ خَلْقِهَا كَرَامَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، فَهُوَ أَدَلُّ عَلَى مَزِيدٍ مِنَ الرِّفْعَةِ وَالكَرَامَةِ، وبِنَزْعِهَا مِنْهُ نَشَأَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَكْمَلِ الأَحْوَالِ مِنَ العِصْمَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ (¬2). * عُمُرُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ: ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَنَّ عُمُرَ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ الشَّرِيفُ، ابْنُ سَنَتَيْنِ، ولَفْظُهُ: قالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا (¬3). وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: أَنَّ عُمُرَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا شُقَّ صَدْرُهُ الشَّرِيفُ، أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ، ولَفْظُهُ: قَالَتْ حَلِيمَةُ: وَلَمَّا بَلَغَ أرْبَعَ سِنِينَ كَانَ يَغْدُو مَعَ أَخِيهِ وأُخْتِهِ فِي الْبَهْمِ. . . (¬4). قَالَ الزَّرْقَانِيُّ في شَرْحِ المَوَاهِبِ: والرَّاجِحُ أَنَّ شَقَّ صَدْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السموات - رقم الحديث (162) (261). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 604). (¬3) استَجْفَرَ الصَّبِيُّ: إذا قَوِي على الأكل، وأصله في أوْلَادِ المَعْزِ إذا بلغَ أربعةَ أشْهُرٍ، وفُصِل عن أمِّهِ، وأخذ في الرعي، قيل له: جَفْر. انظر النهاية (1/ 268). وانظر الخبر في سيرة ابن هشام (1/ 201). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 53).

* تكرار شق الصدر

الرَّابِعَةِ، كمَا جَزَمَ بهِ الحَافِظُ العِرَاقِيُّ في نَظْمِ السِّيرَةِ (¬1)، وتِلْمِيذُهُ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في سِيرَتِهِ، وهِيَ صَغِيرَةٌ مُفِيدَةٌ (¬2). * تَكْرَارُ شَقِّ الصَّدْرِ: وقَدْ تَكَرَّرَ شَقُّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرَ هَذِهِ المَرَّةِ، فَمِنْهَا: * المَرَّةُ الثَّانِيَةُ: وهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- كَانَ جَرِيئًا عَلَى أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْهَا غَيْرُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَوَّلُ مَا رَأَيْتَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ؟ فَاسْتَوَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسًا، فَقَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَ أبَا هُرَيْرَةَ، إنِّي لَفِي صَحْرَاءٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ وأشْهُرٍ، وَإِذَا بِكَلَامٍ فَوْقَ رَأْسِي، وإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ: أهُوَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَقْبَلَانِي بِوُجُوهٍ لَمْ أَرَهَا لِخَلْقٍ قَطُّ، وأَرْوَاحٍ لَمْ أَجِدْهَا مِنْ خَلْقٍ قَطُّ، وثِيَابٍ لَمْ أَرَهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ، فَأَقْبَلَا إِلَيَّ يَمْشِيَانِ، حَتَّى أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَضُدِي (¬3)، لَا أَجِدُ لِأَخْذِهِمَا مَسًّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا ¬

_ (¬1) ولفظهُ: أَقامَ في سَعْدِ بنِ بَكْر عِندَهَا ... أَربعةً سنينَ تَجْنِي سَعْدَهَا وَحينَ شَقَ صَدَرهُ جِبريلُ ... خَافَتْ عَليهِ حَدثًا يَؤُولُ (¬2) انظر شرح المواهب (1/ 282). (¬3) العَضُدُ: ما بين الكتف والمرفق. انظر النهاية (3/ 228).

* المرة الثالثة: عند المبعث

لِصَاحِبِهِ: افْلُقْ (¬1) صَدْرَهْ، فَهَوَى أَحَدُهُمَا إِلَى صَدْرِي، فَفَلَقَهَا فِيمَا أَرَى بِلَا دَمٍ وَلَا وَجَعٍ، فَقَالَ لَهُ: أَخْرِجْ الغِلَّ والحَسَدَ، فأخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ العَلَقَةِ، ثُمَّ نَبَذَهَا فَطَرَحَهَا، فقَالَ لَهُ: أَدْخِلِ الرَّأْفَةَ والرَّحْمَةَ، فَإِذَا مِثْلُ الذِي أَخْرَجَ يُشْبِهُ الفِضَّةَ، ثُمَّ هَزَّ إبْهَامَ رِجْلِيَ اليُمْنَى، فَقَالَ: اغْدُ وَاسْلَمْ، فَرَجَعْتُ بِهَا أَغْدُو بِهِ رِقَّةً عَلَى الصَّغِيرِ ورَحْمَةً لِلْكَبِيرِ" (¬2). * المَرَّةُ الثَّالِثَةُ: عِنْدَ المَبْعَثِ: روَى الطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . هَبَطَ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ إِلَى الأَرْضِ، فَسَلَقَنِي لِحَلَاوَةِ القَفَا (¬3)، وشَقَّ عَنْ بَطْنِي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ أعَادَهُ فِيهِ، ثُمَّ كَفَأَنِي كَمَا يَكْفَأُ الإِنَاءَ، ثُمَّ خَتَمَ فِي ظَهْرِي حَتَّى وَجَدْتُ مَسَّ الخَاتَمِ، ثُمَّ قَالَ لِي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ولَمْ أَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ" (¬4). * المَرَّةُ الرَّابِعَةُ: عِنْدَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وأنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَليهِ السَّلامُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا ¬

_ (¬1) الفَلْقُ: الشَّقُّ. انظر النهاية (3/ 423). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21261). (¬3) سَلَقَنِي لِحَلَاوَةِ القَفَا: أي أضْجَعَني على وسط القَفَا، لم يَمِلْ بي إلى أحَدِ الجَانِبَيْنِ. انظر النهاية (1/ 418). (¬4) أخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1643).

فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ. . ." وذَكَرَ حَدِيثَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: ثُمَّ وَقَعَ شَقُّ الصَّدْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ العُرُوجِ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ لِيَتَأَهَّبَ لِلْمُنَاجَاةِ (¬2). ويَتَرَجَّحُ لَدَيْنَا -بَعْدَ دِرَاسَةِ أسَانِيدِ هَذِهِ الأحَادِيثِ- أَنَّ الذِي صَحَّ فِي هَذِهِ الحَادِثَةِ -أَيْ حَادِثَةِ شَقِّ الصَّدْرِ- أَنَّهَا وَقَعَتْ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ: الأُولَى: وهُوَ صَغِيرٌ عِنْدَ ظِئْرِهِ فِي بَنِي سَعْدٍ، كَمَا فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه-. والثَّانِيَةُ: فِي لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ، ومَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬3). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وجَمِيعُ مَا وَرَدَ فِي شَقِّ الصَّدْرِ، واسْتِخْرَاجِ القَلْبِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ مِمَّا يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ دُونَ التَّعَرُّضِ لِصَرْفِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِصَلَاحِيَةِ القُدْرَةِ، فَلَا يَسْتَحِيلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب كيف فُرضت الصلوات في الإسراء؟ - رقم الحديث (349) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات - رقم الحديث (163). ورواه البخاري في صحيحه من طريق مالك بن صعصعة -رضي اللَّه عنه- كتاب مناقب الأنصار - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات - رقم الحديث (164). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 604). (¬3) انظر الموسوعة الحديثية (19/ 252). (¬4) انظر فتح الباري (7/ 605).

* خاتم النبوة

وَلَعَلَّ أحَادِيثَ شَقِّ الصَّدْرِ تُشِيرُ إِلَى هَذِهِ الحَصَانَاتِ التِي أَضْفَاهَا اللَّهُ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَعَلَتْهُ مِنْ طُفُولَتِهِ بِنَجْوَةٍ قَصِيَّةٍ عَنْ مَزَالِقِ الطَّبْعِ الإِنْسَانِيِّ، ومَفَاتِنِ الحَيَاةِ الأَرْضِيَّةِ (¬1). * خَاتَمُ النُّبُوَّةِ: وهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قِطْعَةِ لَحْمٍ نَاتِئَةٍ، عَلَيْهَا شَعْرٌ عِنْدَ كَتِفِهِ الأَيْسَرِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَجْمُهَا قَدْرُ بَيْضَةِ الحَمَامَةِ (¬2). وهَذَا الخَاتَمُ الذِي يُعْرَفُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، هُوَ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّبَوِيَّةِ في الكُتُبِ السَّابِقَةِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِصَّةُ بَحِيرَا الرَّاهِبِ، وَقِصَّةُ إِسْلَامِ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ -رضي اللَّه عنه-، كَمَا سَيَأْتِي. وهَذَا الخَاتَمُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ وُلِدَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِنَّمَا تَكَوَّنَ بَعْدَ الوِلَادَةِ، وأنَّهُ عَلَى الأَصَحِّ كَانَ بَعْدَ حَادِثَةِ شَقِّ الصَّدْرِ، وهُوَ صَغِيرٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). قَالَ العُلَمَاءُ: والسِّرُّ في وَضْعِ الخَاتَمِ عِنْدَ كَتِفِهِ الأَيْسَرِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ القَلْبَ فِي تِلْكَ الجِهَةِ؛ ولِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وذَلِكَ المَوْضِعُ يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة ص 63 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ. (¬2) انظر فتح الباري (7/ 254). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 255). (¬4) انظر فتح الباري (7/ 256) - الرَّوْض الأُنُف (1/ 294) - صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 80).

رَوَى الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في الشَّمَائِلِ بِسَنَدٍ صَحِيِحِ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ العَوَقِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ -رضي اللَّه عنه- عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْنِي خَاتَمَ النُّبُوَّةِ- فَقَالَ: كَانَ فِي ظَهْرِهِ بِضْعَةٌ نَاشِزَةٌ (¬1). ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، ودَعَا لِي بِالبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ (¬2). ورَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ خَاتَمًا فِي ظَهْرِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ (¬3). وأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَرْجَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا. أَوْ قَالَ: ثَرِيدًا، . . . قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، ¬

_ (¬1) بِضْعَةٌ ناشِزَةٌ: أي قِطْعَةُ لَحْمٍ مُرْتَفِعَةٌ عنِ الجِسْمِ. انظر النهاية (5/ 48). والحديث أخرجه الترمذي في: الشمائل - رقم الحديث (22) - وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (2093). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (8/ 80): الحَجَلَةُ: واحدة الحِجال، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعُرى هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب خاتم النبوة - رقم الحديث (3541) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب إثبات خاتم النبوة وصفته - رقم الحديث (2345). (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب إثبات خاتم النبوة وصفته - رقم الحديث (2345).

* روايات ضعيفة

فنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، عِنْدَ نَاغِضِ (¬1) كَتِفِهِ اليُسْرَى، جُمْعًا (¬2) عَلَيْهِ خِيَلَانُ (¬3) كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ (¬4). ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ لِي رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقْتَرِبْ مِنِّي"، فَاقْتَرَبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: "أَدْخِلْ يَدَكَ، فَامْسَحْ ظَهْرِي". قَالَ: فَأَدْخَلْتُ يَدِيَ فِي قَمِيصِهِ، فَمَسَحْتُ ظَهْرَهُ، فَوَقَعَ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ إِصْبَعِي، قَالَ: فَسُئِلَ عَنْ خَاتَمِ النُّبُوَّةِ؟ فَقَالَ: شَعَرَاتٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وفِي رِوَايَةِ الحَاكِمِ في المُسْتَدْرَكِ: قَالَ -رضي اللَّه عنه-: شَعَرٌ مُجْتَمِعُ عِنْدَ كَتِفَيْهِ (¬5). * رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ: روَى ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (80/ 15): الناغِضُ: هو أَعْلى الكَتِفِ. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (80/ 15): جُمْعًا: فمعناه كجمعِ الكَفِّ وهو صُورته بعد أَنْ تُجْمَعَ الأصابعُ وتَضُمها. (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (80/ 15): الخِيَلان: جمع خَالٍ وهوَ الشَّامَةُ في الجسد. (¬4) الثَّآليلُ: جمعُ ثُؤْلُولٍ: وهوَ هذهِ الحَبَّةُ التي تَظْهَرُ في الجلد كالحمّصَة فما دونها. انظر النهاية (1/ 200). والحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب إثبات خاتم النبوة وصفته - رقم الحديث (2346) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20770). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20732) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4254).

* عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أمه الحنون آمنة

قَالَ: كَانَ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فِي ظَهْرِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِثْلَ البُنْدُقَةِ مِنْ لَحْمٍ، عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (¬1). قال الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا -يُرِيدُ الخَاتَمَ- كَانَتْ كَأَثَرِ مِحْجَمٍ (¬2)، أَوْ كَالشَّامَةِ السَّوْدَاءَ، أَوِ الخَضْرَاءِ، أَوْ مَكْتُوب عَلَيْهَا: "مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ"، أَوْ "سِرْ فَأَنْتَ مَنْصُورٌ"، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، ولَا تَغْتَرَّ بِمَا وَقَعَ مِنْهَا فِي صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ، فَإِنَّهُ غَفَلَ حَيْثُ صَحَّحَ ذَلِكَ، واللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * عَوْدَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أُمِّهِ الحَنُونِ آمَنَةَ: وَبَعْدَ حَادِثِ شَقِّ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَشِيَتْ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرَدَّتْهُ إلَى أُمِّهِ، وكَانَ قَدْ بَلَغَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ العُمُرِ خَمْسَ سَنَوَاتٍ. قَالَتْ حَلِيمَةُ: قَالَ لِي أَبُوهُ (أيْ زَوْجُهَا الحَارِثُ): يا حَلِيمَةُ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ، فَأَلْحِقِيهِ بِأَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ بِهِ. قالَتْ: فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ، فَقَالَتْ آمِنَةُ لِحَلِيمَةَ: مَا أَقْدَمَكِ بِهِ، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب صفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخباره - رقم الحديث (6302). (¬2) المِحْجَمُ: بكسر الميم: الآلةُ التي يجتمع فيها دَمُ الحِجَامة عند المَصِّ. انظر النهاية (1/ 335). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 256).

* وفاة آمنة أم النبي -صلى الله عليه وسلم-

وَقَدْ كُنْتِ حَرِيصَةً عَلَيْهِ، وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ حَلِيمَةُ: إنَّهُ قَدْ بَلَغَ اللَّهُ بِابْنِي وَقَضَيْتُ الذِي عَلَيَّ، وتَخَوَّفْتُ الأَحْدَاثَ عَلَيْهِ، فَأَدَّيْتُهُ إِلَيْكِ كَمَا تُحِبِّينَ، فَقَالَتْ آمِنَةُ: مَا هَذَا شَأْنُكِ، فَأَصْدِقِينِي خَبَرَكِ. قالَتْ حَلِيمَةُ: فَلَمْ تَدَعْنِي حتَّي أَخْبَرتُهَا، فقَالَتْ آمِنَةُ: أَفتَخَوَّفْتِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ؟ قالَتْ حَلِيمَةُ: نَعَمْ، فَقَالَتْ آمِنَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، وَإِنَّ لِابْنِي لَشَأْنًا دَعِيهِ عَنْكِ (¬1) * وَفَاةُ آمِنَةَ أُمِّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ولَمَّا بَلَغَ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّ سِنِينَ تُوُفِّيَتْ وَالِدَتُهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ بِالْأَبْوَاءَ (¬2)، وهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ زِيَارَةٍ قَامَتْ بِهَا مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلَي أَخْوَالِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، بِالْمَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج قصة استرضاع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند حليمة السعدية: ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6335) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 202) - وسندها منقطع، لكن للقِصَّة شواهد صحيحة -كما ذكرنا- تدل علي صحة القصة. (¬2) الأبْوَاءُ: سُمِّيت بذلك: لتَبَوُّءَ السُّيُول بها، وهي قَرْيَةٌ مِنْ أعمال الفُرع من المدينة، بينها وبين الجُحْفَةِ مما يَلِي المدينة ثلاثة وعشرون مِيلًا، وقيل: الأبواء جَبَل على يَمين آرَةَ، ويمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة، وهناك بلد يُنْسب إلى هذا الجبل. انظر معجم البلدان (1/ 73). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 204).

* زيارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ ولَهُ مِنَ العُمُرِ سِتُّ سِنِينَ (¬1). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ولا خِلَافَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ "بِالْأَبْوَاءِ" مُنْصَرَفَهَا مِنَ المَدِينَةِ مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِهِ، ولَمْ يَسْتَكْمِلْ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ سِنِينَ (¬2). * زِيَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْرَ أمِّهِ: وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَزُورُ قَبْرَ أُمِّهِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأَذِنَ لِي" (¬3). ورَوَي الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَزَلَ بِنَا، ونَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، وعَيْنَاهُ ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (8/ 426). (¬2) انظر زاد المعاد (1/ 75). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب استئذان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربه عَزَّ وَجَلَّ في زيارة قبر أمه - رقم الحديث (976) - وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (9688).

تَذْرِفَانِ (¬1) فَقَامَ إلَيهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-, فَفَدَّاهُ بِالْأَبِ والأُمِّ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالَكَ؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي في الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) ذَرَفَتِ العَيْنُ: إذا جرى دمعها. انظر النهاية (2/ 147). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23003).

كفالة جده عبد المطلب

كَفَالَةُ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَمَّا تُوُفِّيَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ أُمُّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَعَتْ أُمُّ أَيْمَنَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ، فَضَمَّهُ، وَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ، ورَقَّ عَلَيْهِ رِقَّةً لَمْ يَرِقَّهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ يُقَرِّبُهُ مِنْهُ ويُدْنِيهِ، ويَدْخُلُ عَلْيِه إِذَا خَلَا، وَإِذَا نَامَ، وَكَانَ عَبْدُ المُطَّلِبِ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا قَالَ: عَلَيَّ بِابْنِي فَيُؤْتَى بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ (¬1). * قِصَّة تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ مَحَبَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَي الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ كِنْدِيرِ بنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَجَجْتُ في الجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا أنَا بِرَجُلٍ يَطُوفُ بالبَيْتِ، وهُوَ يَرْتَجِزُ، ويَقُولُ: رَبِّ رُدَّ إِلَيَّ رَاكِبِي مُحَمَّدَا ... رُدَّهُ إِلَيَّ وَاصْطَنِعْ عِنْدِي يَدَا فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فقَالُوا: عَبْدُ المُطَّلِبِ بنُ هَاشِمٍ، بَعَثَ بِابْنِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ، ولَمْ يَبْعَثْهُ فِي حَاجَةٍ إِلَّا أَنْجَحَ (¬2) فِيهَا، وقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ والْإِبِلُ، فَاعْتَنَقَهُ، وقَال: يَا بُنَيَّ لَقَدْ جَزِعْتُ عَلَيْكَ جَزَعًا لَمْ أَجْزَعْهُ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ، ¬

_ (¬1) انظر الطبقات لابن سعد (1/ 55). (¬2) أنْجَحْتَ حَاجَتَهُ: إذا قَضَيْتَهَا له. انظر لسان العرب (14/ 44).

* جلوس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فراش عبد المطلب

وَاللَّهِ لا أَبْعَثُكَ فِي حَاجَةٍ أَبَدًا، وَلَا تُفَارِقُنِي بَعْدَ هَذَا أبدًا (¬1) * جُلُوسُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى فِرَاشِ عَبْدِ المُطَّلِبِ: وكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ المُطَّلِبِ، فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، فكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ، ولا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إجْلَالًا لِعَبْدِ المُطَّلِبِ فكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْتِي وهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ، حتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ، فَيَأْخُذَهُ أعْمَامُهُ لِيُؤَخِّرُوهُ عَنْهُ، فيَقُولُ عَبْدُ المُطَّلِبِ: دَعُوا ابْنِي يَجْلِسُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمَّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرُّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ (¬2). * وَفَاةُ عَبْدِ المُطَّلِبِ: ولَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَمَانِي سَنَوَاتٍ تُوُفِّيَ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، إلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنَ العُمُرِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَمَانِ سِنِينَ (¬3). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَفِلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ، وتُوُفِّيَ ولرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحْوُ ثَمَانِ سِنِينَ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4240) - وصححه، ووافقه الذهبي. (¬2) أخرج ذلك: البيهقي في دلائل النبوة (2/ 22) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 205) - وإسناده حسن. (¬3) انظر تفسير ابن كثير (8/ 426). (¬4) انظر زاد المعاد (1/ 75).

* كفالة أبي طالب للنبي -صلى الله عليه وسلم-

* كَفَالَةُ أَبِي طَالِبٍ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَوْصَى عَبْدُ المُطَّلِبِ وَلَدَهُ أبَا طَالِبٍ بِكَفَالَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَحِفْظِهِ، وحِيَاطَتِهِ؛ وذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهَ وَالِدَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَبَا طَالِبٍ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، أُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بنِ عَائِذٍ، فقَامَ أَبُو طَالِبٍ بِحَقِّ ابْنِ أَخِيهِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَضَمَّهُ إِلَى وَلَدِهِ، بَلْ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ (¬1). رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ المُطَّلِبِ قَبَضَ أَبُو طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ، فكَانَ يَكُونُ مَعَهُ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ لَا مَالَ لَهُ، وَكَانَ يُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُبًّا شَدِيدًا لَا يُحِبُّهُ وَلَدَهُ، وَكَانَ لَا يَنَامُ إِلَّا إِلَى جَنْبِهِ، وَيَخْرُجُ فَيَخْرُجُ مَعَهُ، وَكَانَ يَخُصُّهُ بالطَّعَامِ، وَكَانَ إِذَا أَكَلَ عِيَالُ أَبِي طَالِبٍ جَمِيعًا، أَوْ فُرَادَى لَمْ يَشْبَعُوا، وَإِذَا أَكَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَبِعُوا، فكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُغْذِيَهُمْ قَالَ: كَمَا أنْتُمْ حَتَّى يَحْضُرَ ابْنِي، فَيَأْتِي رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَأْكُلَ مَعَهُمْ (¬2). * سَفَرُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الشَّامِ مَعَ عَمِّهِ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا (¬3) ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 216). (¬2) انظر الطبقات لابن سعد (1/ 56) - وسندها ضعيف، لكن لِحُبِّ أبي طالب لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قصصًا صحيحة، منها ما ظَهَرَ في قِصَّةِ بَحيرا الراهب، كما سيأتي. (¬3) شَارَفَ الشَّيْءَ: دنَا منه وقَارَبَ أن يَظْفَرَ به. انظر لسان العرب (7/ 91).

عَلَى الرَّاهِبِ (¬1) -يَعْنِي بَحِيرَا (¬2) - هَبَطُوا (¬3)، فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ، فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، ولا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ، قَالَ: وَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ العَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ العَقَبَةِ (¬4)، لَمْ تَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، ولَا يَسْجُدَانِ إلَّا لِنَبِيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ (¬5) كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أتَاهُمْ بِهِ، وكَانَ هُوَ -أَي الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي رِعْيَةِ الإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ -أيْ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَقْبَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ القَوْمِ، وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ (¬6) ¬

_ (¬1) قال السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 313): وقع في سيرة الإمام الزهري: أن بَحِيرا كان حَبْرًا من أحبَارِ يَهُودِ تَيْمَاء. وتعقبه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 691) وقال: الذي يظهر من سِيَاقِ القِصَّةِ، أنه كان راهبًا نَصْرَانِيًّا، واللَّه أعلم. (¬2) قال الحافظ في الإصابة (1/ 405): بَحِيرا بفتح الباء وكسر الحاء. قلت: جَزَم الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (3/ 222)، في ترجمة سعيد بن عقبة: بأن بَحِيرا لم يُدْرِكِ البِعْثَةَ، وأقره علي ذلك الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/ 283). (¬3) هَبَطُوا: أي نَزَلُوا. انظر لسان العرب (15/ 18). (¬4) العَقَبَةُ: الطَّرِيقُ في الجَبَل. انظر لسان العرب (9/ 306). (¬5) غُضْرُوفُ الكَتِفِ: هو رأس لَوْحِه. انظر النهاية (3/ 333). (¬6) الفَيْءُ: الظِّلُّ. انظر لسان العرب (10/ 360).

* اختلاف العلماء في تصحيح هذا الحديث

الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فقَالَ بَحِيرَا: انْظُرُوا إِلَي فَيْءَ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم عَلَيْهِمْ، وهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بهِ إِلَى الرُّومِ، فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ في هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيق إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وإنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، فَبُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا، فقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ، هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قالُوا: لَا، قَالَ: فَبَايَعُوهُ، وأَقَامُوا مَعَهُ عِنْدَهُ. قَالَ: فَقَالَ الرَّاهِبُ بَحِيرَا: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيكُّمْ وَليُّهُ؟ قال أَبُو طَالِبٍ: فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبَعَثَ مَعَهُ أبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ (¬1). * اخْتِلَافُ العُلَمَاءِ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الحَدِيثِ: اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في تَصْحِيحِ هذَا الحَدِيثِ، فَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ الحَافِظُ في الإِصَابَةِ، والحَاكِمُ، والأَلْبَانِيُّ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب ما جاء في نبوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3948).

* إنكار الإمام الذهبي لهذه القصة

قَالَ الحَافِظُ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ القَسطَلَّانيُّ في المَوَاهِبِ: الحَدِيثُ رجَالُهُ ثِقَاتٌ، ولَيْسَ فِيهِ مُنْكَرٌ سِوَى هَذِهِ اللَّفْظَةٌ -وهِيَ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَتُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا مُدْرَجَةٌ فِيهِ مُقْتَطَعَةٌ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ، وَهْمًا مِنْ أَحَدِ رُواتِهِ (¬1). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ: وَقَعَ فِي كتَابِ التِّرْمِذِيِّ، وغَيْرِهِ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه-، وهُوَ مِنَ الغَلَطِ الوَاضِحِ، فإِنَّ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه- إِذْ ذَاكَ لَعَلَّهُ لَمْ يَكُن مَوْجُودًا، وإنْ كَانَ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَ عَمِّهِ، وَلَا مَع أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬2) * إِنْكَارُ الإِمَامِ الذَّهَبِيِّ لِهَذِهِ القِصَّةِ: أمَّا الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ فَقَدْ أَنْكَرَ الحَدِيثَ، فَقَال: وهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكرٍ؟ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ أصْغَرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ, وأَيْنَ كَانَ بِلَالٌ فِي هَذَا الوَقْتِ؟ فإنَّ أبَا بَكْرٍ لَم يَشْتَرِهِ إِلَّا بَعْدَ المَبْعَثِ، ولَمْ يَكُنْ وُلِدَ بَعْدُ، وأيْضًا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمِيلَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ؟ لِأَنَّ ظِلَّ الغَمَامَةِ يَعْدِمُ فَيْءَ الشَّجَرَةِ التِي نَزَلَ تَحْتَهَا، "ولَمْ نَرَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَّر أبَا طَالبٍ قَطُّ بِقَوْلِ الراهِبِ، ولَا تَذَاكَرَتْهُ قُرَيْشٌ، ولا حَكَتْهُ أُولَئِكَ الأَشْيَاخُ، مَعَ تَوَفُّرِ هِمَمِهِمْ ودَوَاعِيهِمْ عَلَى حِكَايَةِ مِثلِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَهَرَ ¬

_ (¬1) انظر شرح المواهب (1/ 376). (¬2) انظر زاد المعاد (1/ 75).

* رعيه -صلى الله عليه وسلم- للغنم

بَيْنَهُمْ أَيَّمَا اشْتِهَارٍ، ولَبَقِيَ عِنْدَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِسُّ النُّبُوَّةِ، ولَمَا أَنْكَرَ مَجِيءَ الوَحْيِ إِلَيْهِ أَوَّلًا بِغَارِ حِرَاءٍ، وأتَى خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَائِفًا عَلَى عَقْلِهِ. . . وأَيْضًا فَلَوْ أَثَّر هَذَا الخَوْفُ فِي أَبِي طَالِبٍ وَرَدَّهُ، كَيْفَ كَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا لِخَدِيجَةَ؟ وفِي الحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُنْكَرَةٌ، تُشْبِهُ ألْفَاظَ الطُرُقِيَّةِ (¬1)، مَعَ أَنَّ ابْنَ عَائِذٍ قَدْ رَوَى مَعْنَاهُ فِي مَغَازِيهِ دُونَ قَوْلهِ: وبَعَثَ مَعَهُ أبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا (¬2). قُلْتُ: وَقَعَ عِنْدَ ابنِ إِسْحَاقَ (¬3) بِنَحْوِ سِيَاقِ التِّرْمِذِيِّ، ولَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ولَكِنَّهَا بِدُونِ سَنَدٍ، فَيُسْتَأْنَسُ بِرِوَايَتِهِ لِإِمَامَتِهِ في المَغَازِي. ورَحِمَ اللَّهُ أَحْمَد شَوْقِي حَيْثُ قَالَ: لَمَّا رَآهُ بَحِيرَا قَالَ نَعْرِفُهُ ... بِمَا حَفِظْنَا مِنَ الْأَسْمَاءَ وَالسِّيَمِ (¬4) * رَعْيُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- للْغَنَمِ: قَالَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: وكَانَ أَبُو طَالِبٍ لَا مَالَ لَهُ (¬5). ¬

_ (¬1) الطُّرُقِيَّة: هم الصُّوفِية. (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للإمام الذهبي (1/ 58). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 217). (¬4) السيّم: جمع سيمة، وهي العلامة. انظر لسان العرب (6/ 441). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الفتح آية (29): {. . .سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}. (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 56).

فَلَمَّا عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ بَدَأَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي صِبَاهُ بِرَعْي الغَنَمِ، وَرَعَاهَا لِبَعْضِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَبِذَلِكَ ضَرَبَ مَثَلًا عَالِيًا مِنْ صِغَرِهِ فِي اكْتِسَابِ الرِّزْقِ بِالْكَدِّ، وَالتَّعَبِ. قَالَ أَحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي شَبَابِهِ ... لَا يَدَعُ الرِّزْقَ وَطَرْقَ بَابِهِ أَيُّ رسُولٍ أَوْ نَبِيٍّ قَبْلَهُ ... لَمْ يَطْلُبِ الرِّزْقَ وَيَبْغِ سُبْلَهُ؟ مُوسَى الكَلِيمُ اسْتُؤْجِرَ اسْتِئْجَارًا ... وَكَانَ عِيسَى (¬1) فِي الصِّبَا نَجَّارًا رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الغَنَمَ"، فقَالَ أصْحَاُبهُ: وأنْتَ؟ فقَالَ: "نَعَمْ، كنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ (¬2) لِأَهْلِ مَكَّةَ" (¬3). ورَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ والطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ حَزْنٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بُعِثَ مُوسَى وَهْوُ رَاعِي غَنَمٍ، ¬

_ (¬1) لم يَثْبُتْ أَنَّ عيسى عليهِ السَّلامُ كان نَجارًا، وإنما كان كما قال اللَّه تَعَالَى في كتابه الكريم عنه: أنه يَشْفي المَرضى، ويُبْرِئُ الأكمه، ويُحْيِي الموتى بإذن اللَّه. وثبت في صحيح مسلم - رقم الحديث (2379) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَانَ زَكَرِيَّا نجارًا". (¬2) قال الحافظ في الفتح (5/ 199): القِيرَاطُ: هو جُزْءٌ من الدِّينارِ والدِّرهم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب السلم - باب الإجارة رقم الحديث (2262).

* الحكمة في رعي الأنبياء عليهم السلام للغنم

وبُعِثَ دَاوُدُ وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ، وبُعِثْتُ أَنَا، وأنَا أَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِي بِأَجْيَادَ" (¬1). * الحِكْمَةُ فِي رَعْيِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لِلْغَنَمِ: قَالَ العُلَمَاءُ: الحِكْمَةُ فِي إِلْهَامِ الأَنْبِيَاءَ مِنْ رَعْيِ الغَنَمِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أمُورٌ، مِنْهَا: 1 - أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمُ التَّمَرُّنُ بِرَعْيِهَا عَلَى ما يَكْفُلُونَهُ مِنَ القِيَامِ بِأَمْرِ أُمَّتِهِمْ. 2 - أَنَّ فِي مُخَالَطَتِهَا مَا يُحَصِّلُ لَهُمْ الحِلْمَ والشَّفَقَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيِهَا وَجَمْعِهَا بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي المَرْعَى، وَنَقْلِهَا مِنْ مَسْرَحٍ إِلَى مَسْرَحٍ، ودَفع عَدُوِّهَا مِنْ سَبُعٍ وَغَيْرِهِ كالسَّارِقِ، وَعَلِمُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا، وشدَّةَ تَفَرُّقِهَا مَعَ ضَعْفِهَا، وَاحْتِيَاجِهَا إِلَى المُعَاهَدَةِ أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْرَ عَلَى الأُمَّةِ، وعَرَفُوا اخْتِلَافَ طِبَاعِهَا وتَفَاوُتَ عُقُولهَا فَجَبَرُوا كَسْرَهَا، ورَفَقُوا بِضَعِيفِهَا، وأحْسَنُوا التَّعَاهُدَ لَهَا، فَيَكُونُ تَحَمُّلُهُمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أسْهَلُ مِمَّا لَوْ كُلِّفوا القِيَامَ بِذَلِكَ مِنْ أوَّلِ وَهْلَةٍ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ التَّدْرِيجِ عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الغَنَمِ. 3 - خُصَّتِ الغَنَمُ بِذَلِكَ؛ لِكَوْنِهَا أَضْعَفَ مِنْ غَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّ تَفَرُّقَهَاَ أَكْثَرُ مِنْ تَفَرُّقِ الإِبِلِ والبَقَرِ؛ لِإِمْكَانِ ضبْطِ الإِبِلِ والبَقَرِ بِالرَّبْطِ دُونَهَا فِي العَادَةِ المَأْلُوفَةِ، ومَعَ أكْثَرِيَّةِ تَفَرُّقِهَا، فَهِيَ أَسْرَعُ انْقِيَادًا مِنْ غَيْرِهَا. ¬

_ (¬1) أَجْيَادٌ: بفتح الهمزة وسكون الجيم، جَبَلٌ بِمَكَّةَ. انظر النهاية (1/ 31). والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (450) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1407).

* فوائد الحديث

4 - أَنَّ فِيهِ كَسْبًا مَادِّيًّا مِنْ عَمَلِ اليَدِ، وأفْضَلُ الكَسْبِ مَا كَانَ مِنْ عَمَلِ اليَدِ. فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ المِقْدَامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ الكِنْدِيِّ -رضي اللَّه عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا (¬1) مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ" (¬2). 5 - وفِي ذِكْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الخَلْقِ عَلَى اللَّهِ مَا كَانَ مِنْ عَظيمِ التَّوَاضُعِ لِرَبِّهِ، والتَّصْرِيحِ بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِ، وعَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَال الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي الحَدِيثِ: 1 - فَضْلُ العَمَلِ بِالْيَدِ، وتَقْدِيمُ مَا يُبَاشِرُهُ الشَّخْصُ بِنَفْسِهِ عَلَى ما يُبَاشِرُهُ بِغَيْرِهِ. 2 - والحِكْمَةُ في تَخْصِيصِ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلامُ بِالذِّكْرِ، أَنَّ اقْتِصَارَهُ فِي أَكْلِهِ عَلَى مَا يَعْمَلُهُ بِيَدِهِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الحَاجَةِ؛ لِأنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ، كَمَا ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (5/ 26): المراد بالخَيْرِيَّةِ ما يَسْتَلْزِمُ العمل باليدِ مِنَ الغنى عن الناس. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب البيوع - باب كسب الرجل وعمله بيده - رقم الحديث (2072). (¬3) انظر فتح الباري (5/ 200).

* شهود النبي -صلى الله عليه وسلم- حرب الفجار

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (¬1)، وَإِنَّمَا ابْتَغَى الأَكْلَ مِنْ طَرِيقِ الأَفْضَلِ، ولِهَذَا أَوْرَدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قِصَّتَهُ في مَقَامِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ خَيْرَ الكَسْبِ عَمَلُ اليَدِ، وهَذَا بَعْدَ تَقْرِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لنَا، ولاسِيَّمَا إِذَا وَرَدَ في شَرْعِنَا مَدْحُهُ وتَحْسِينُهُ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2). 3 - وفِيهِ أَنَّ التَّكَسُّبَ لَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ. 4 - وفِيهِ أَنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ أَوْقَعُ فِي نَفْسِ سَامِعِيهِ (¬3). * شُهُودُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرْبَ الفِجَارِ (¬4): وَلَمَّا بَلَغَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَقِيلَ عِشْرُونَ سَنَةً، هَاجَتْ حَرْبُ الفِجَارِ، وكَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ، وبَيْنَ قَيْسٍ وَأحْلَافِهَا، وكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ، وكِنَانَةَ: حَرْبُ بنُ أُمَيَّةَ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِي أوَّلِ النَّهَارِ لِقَيْسٍ عَلَى قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ، حتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِقُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ، وَقَدْ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْضَ أيَّامِهِ، وكَانَ يَنْبُلُ عَلَى عُمُومَتِهِ: أيْ يُجَهِّزُ لَهُمُ النَّبْلَ لِلرَّمْي، وقِيلَ يَرُدُّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ (¬5). ¬

_ (¬1) في سورة "ص" آية (26). (¬2) سورة الأنعام آية (90). (¬3) انظر فتح الباري (5/ 27). (¬4) الفِجَارُ: بكسر الفاء علي وزن قِتَال، سُمِّيت بذلك لِوُقُوعِهَا في الأشهرِ الحُرُمِ التي حرم اللَّه فيها القتال. انظر النهاية (3/ 371). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (1/ 221) بدون إسناد - وانظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 60).

* شهود النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف الفضول

* شُهُودُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِلْفَ الفُضُولِ: قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ: كَانَ حِلْفُ الفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمعَ بِهِ، وأشْرَفَهُ في العَرَبِ (¬1). وكَانَ هَذَا الحِلْفُ في ذِي القَعْدَةِ في شَهْرٍ حَرَامٍ، بَعْدَ حَرْبِ الفِجَارِ بِشَهْرٍ وقِيلَ بَأَرْبَعِ أَشْهُرٍ. وسَبَبُ هَذَا الحِلْفِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ (زُبَيْدٍ) بِالْيَمَنِ قَدِمَ مَكَّةَ ببضَاعَةٍ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ العَاصُ بنُ وَائِلٍ، وأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ، فَاستَدْعَى عَلَيْهِ الزُّبَيْدِيُّ الأَحْلَافَ: عَبْدَ الدَّارِ، ومَخْزُومًا، وجُمَحًا، وَسَهْما، وَعَدِيَّ بنَ كَعْبٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ، وَانْتَهَرُوهُ. فلَمَّا رَأَى الزُّبَيْدِيُّ الشَّرَّ، صَعِدَ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقُرَيْشٌ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَنَادَى بِأَبْيَاتِهِ المَشْهُورِةِ، يَصِفُ فِيهَا ظُلَامَتَهُ، رَافِعًا صَوْتَهُ: يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضاعَتَهُ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ ومُحْرِمٌ أَشْعَثُ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ ... يَا لَلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ والَحَجَرِ إِنَّ الحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ كَرَامَتُهُ ... ولَا حَرَامَ لِثَوْبِ الفَاجِرِ الغَدِرِ فَقَامَ الزُّبَيْرُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: مَا لِهَذَا مَتْرُوكٌ فَاجْتَمَعَتْ بَنُو هَاشِمٍ، وَزُهْرَةُ، وبَنُو تَيْمِ بنِ مُرَّةَ، في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَدْعَانَ ¬

_ (¬1) انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 242).

وتَعَاقَدُوا، وتَحَالفوا بِاللَّهِ، لَيَكُونُنَّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ المَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ، حتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِ حَقُّهُ، فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ هَذَا الحِلْفَ (حِلْفَ الفُضُولِ) وقَالُوا: لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلَاءَ في فَضْلٍ مِنَ الأَمْرِ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ، فَانتزَعُوا مِنْهُ سِلْعَةَ الزُّبَيْدِيِّ فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ. وقِيلَ: سُمِّيَ حِلْفَ الفُضُولِ، لِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ دُعِيَ إِلَيْهِ، ثَلَاثَةٌ، كُلُّهُمُ اسْمُهُ الفَضْلُ، وهُمْ: الفَضْلُ بنُ فُضَالة، والفَضْلُ بنُ وَدَاعَةَ، والفَضْلُ بنُ الحَارِثِ (¬1). وقَدْ شَهِدَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذَا الحِلْفَ، فَقَدْ رَوَى الْحُمَيْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرٍ قَالَا: قَالَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ شَهِدْتُ في دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَدْعَانَ (¬2) حِلْفًا، لَوْ دُعِيتُ بِهِ في الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ" (¬3). ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 169) - الروض الأنف (2/ 242). (¬2) عبدُ اللَّهِ بنُ جَدْعَان: رجُلٌ من بني تَميم بن تَيْمِ بن مُرَّة، في قريش، وهو ابنُ عَمِّ والد أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وكان شَريفًا من أشْرَافها، وكان أحد الأجْوَاد المَشْهُورين في الجاهلية، وكان كثير الطعام، أدرَكَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبْلَ البِعْثَةِ. انظر كتاب الأعلام للزركلي (4/ 76). روى الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (214) عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: قلت: يا رسول اللَّه، ابن جدعان، كان في الجاهلية يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المسكين، فهل ذاك يَنْفعُهُ؟ ، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يَنْفَعُهُ، إنه لمْ يَقُلْ يومًا: رَبِّ اغفِرْ لِي خَطِيئَتِي يومَ الدِّينِ". (¬3) أخرجه الحُمَيدي فيما نقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 696) - وإسناده صحيح.

عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شَهِدْتُ حِلْفَ المُطيَّبِينَ (¬1) مَعَ عُمُومَتِي، وأَنا غُلَامٌ، فمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ (¬2)، وإنِّي أَنْكُثُهُ" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) قال البيهقي في دلائل النبوة (2/ 39): زعم بعض أهلُ السِّيَر أنه أراد حلف الفضول، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُدْرِك حِلْفَ المُطيَّبِينَ. وعلَّق الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 696) على كلام البيهقي بقوله: وهذا لا شكَّ فيه، وذلك أن قريشًا تحالفُوا بعدَ موتِ قُصَيٍّ، وتنازعوا في الذي كان جعله قُصَيٌّ لابنه عَبْدِ الدار من السِّقَاية، والرِّفادة، واللِّواء، والنَّدْوة، والحِجَابة، وقامت مع كل طائفة من قبائل قريش، وتحالفوا علي النُّصْرَة لحِزْبِهِمْ، فأحضَرَ أصحاب بني عبد مناف جَفْنَةً فيها طِيبٌ، فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا، فلما قامُوا مسحوا أيديهم بأركانَ البيتِ، فسُمُّوا المُطيَّبِينَ، وكان هذا قديمًا. قال ابن الأثير في النهاية (3/ 408): وإنما سَمَّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حِلْفَ الفُضُول بالمُطَيبين، مع أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَشْهَدْ حلف المُطَيَّبين؛ لأنه كان شَبِيهًا به في التَّنَاصح، والأخذ للضعيفِ من القَوِيِّ، وللغريب من القاطن. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 145): حُمر النعم هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1655) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (441) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4373).

خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتجارة خديجة رضي الله عنها

خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بتِجَارَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وفِي الخَامِسَةِ والعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ المُبَارَكِ خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تاجِرًا إِلَي الشَّامِ في مَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وكانَتْ خَدِيجَةُ نِجْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَة تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ، وَمَالٍ، تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ في مَالِهَا وتُضَارِبُهُمْ (¬1) إيَّاهُ، بِشَيْءٍ تَجْعَلُهُ لَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ، وعِظَمِ أمَانَتِهِ وكَرَمِ أخْلَاقِهِ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالِهَا إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا وتُعْطِيَهُ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَبِلَهُ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهَا. وفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنَا رَجُلٌ لَا مَالَ لِي، وقَدِ اشْتَدَّ الزَّمَانُ عَلَيْنَا، وهَذِهِ عِيرُ قَوْمِكَ وقَدْ حَضَرَ خُرُوجُهَا إِلَي الشَّامِ، وخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تَبْعَثُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِكَ فِي عِيرَاتِهَا (¬2)، فَلَوْ جِئتهَا فَعَرَضْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهَا لَأَسْرَعَتْ إِلَيْكَ، لِمَا يَبْلُغُهَا عَنْكَ مِنْ طَهَارَتِكَ، وفَضْلِكَ عَلَى غَيْرِكَ، فَبَلَغَ خَدِيجَةَ الخَبَرُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وقَالَتْ لَهُ: أنَا أُعْطِيكَ ضِعْفَ مَا أُعْطِي رَجُلًا مِنْ ¬

_ (¬1) المُضَاربَةُ: هيَ أن تُعْطِي مَالًا لغَيْرِكَ يتَّجِرُ فيه فيكون له سَهْمٌ معلومٌ من الرِّبْحِ، وهي مفاعلةٌ مِنَ الضَّرْبِ في الأرض، السَّيْر فيها للتِّجَارَةِ. انظر النهاية (3/ 72). (¬2) عِيرَاتُهَا: جمعُ عِيرٍ، وهي الإبل بأحْمَالِهَا. انظر النهاية (3/ 297).

قَوْمِكَ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: هَذَا رِزْقٌ قَدْ سَاقه اللَّهُ إِلَيْكَ. فَخَرَجَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَالِهَا، وخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا "مَيْسَرَةُ" (¬1) وجَعَلَ عُمُومَتُهُ يُوصُونَ بِهِ أَهْلَ العِيرِ، حتَّى قَدِمَا "بُصْرَى" مِنَ الشَّامِ، فنَزَلَا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ يُقَالُ لَهُ "نَسْطُورٌ" فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ فَقَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ: هذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الحَرَمِ، فقَالَ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ قَطُّ إِلَّا نَبِيٌّ (¬2). ثُمَّ قَالَ لِمَيْسَرَةَ: أَفِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لَا تُفَارِقُهُ، فقَالَ: هُوَ نَبِيٌّ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءَ. ثُمَّ بَاعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِلْعَتَهُ التِي خَرَجَ بِهَا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مُلَاحَاةٌ (¬3)، فقَالَ لَهُ: احْلِفْ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وإِنِّي لَأَمُرُّ فَأُعْرِضُ عَنْهُمَا"، فَقَالَ الرَّجُلُ: القَوْلُ قَوْلُكَ، ثُمَّ اشْترَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، وأَقْبلَ قَافِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (6/ 189): لم أقِفْ علي رِوَايةٍ صريحةٍ بأنه بَقِيَ إلي البعثة. (¬2) قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 323): يُرِيدُ ما نزل تحتَهَا هذه السَّاعة إلا نَبِي، ولم يُرِد ما نزل تحتها قَطُّ إلا نبي، لبُعْدِ العَهْدِ بالأنبياء قبل ذلك، والشَّجَرَةُ لا تُعَمَّر في العَادَةِ هذا العُمُر الطويل حتى يَدْري أنه لم يَنْزِل تحتها إلا عِيسَى عليهِ السَّلامُ، أو غَيْرُهُ من الأنبياء. (¬3) المُلَاحَاةُ: المُلَاومَةُ والمُبَاغَضَهُ، ثم كثر ذلك حتى جعلت كل ممانعة ومدافعة، ملاحاة. انظر لسان العرب (12/ 259).

* رواية ضعيفة لاضطرابها

وكَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْقَى عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَحَبَّةَ مِنْ مَيْسَرَةَ، فكَانَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ، فَلَمَّا كَانُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، قَالَ مَيْسَرَةُ: يَا مُحَمَّدُ انْطَلِقْ إِلَى خَدِيجَةَ فَأَخْبِرْهَا بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهَا عَلَى وَجْهِكَ، فَإِنَّهَا تَعْرِفُ ذَلِكَ لَكَ، فَتَقَدَّمَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِي سَاعَةِ الظَّهِيرَةِ، وخَدِيجَةُ فِي عِلِّيَّةٍ (¬1) لَهَا فَرَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، ومَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ، فَأَرَتْهُ نِسَاءَهَا فَعَجِبْنَ لِذَلِكَ، ودَخَلَ عَلَيْهَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَبَّرَهَا بِمَا رَبِحُوا فِي وَجْهِهِمْ، فَسُرَّتْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ مَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَتْ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ هَذَا مُنْذُ خَرَجْنَا مِنَ الشَّامِ، وأخْبَرَهَا بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ "نَسْطُورٌ"، ثُمَّ بَاعَتْ خَدِيجَةُ مَا جَاءَ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تِجَارَةٍ فَرَبِحَتْ ضِعْفَ مَا كَانَتْ تَرْبَحُ، وأَضْعَفَتْ لَهُ ضعْف مَا كَانَتْ تُعْطِي رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ (¬2). * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لِاضْطِرَابِهَا: روَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه فِي السُّنَنِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لِاضْطِرَابِهِ عَنِ السَّائِبِ بنِ أَبِي السَّائِبِ قَالَ: جِيءَ بِي إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُعَلِّمُوني بهِ، قَدْ كَانَ صَاحِبِي فِي الجَاهِلِيَّةِ". ¬

_ (¬1) العِلِّيَّةُ: الغُرْفَةُ في الطابق الثاني من الدَّارِ فوقه، وجمعها عَلَالِي. انظر النهاية (3/ 267). (¬2) أخرج قِصة خُروج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في مالِ خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ابن سعد في طبقاته (1/ 61 - 62) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 224) بدون إسناد - وأوردها الإمام الذهبي في سيرته (1/ 62) من طريق المحاملي، عن عبد اللَّه بن شبيب، وهو واه، ثم قال بعد أَنْ سَاقَ القصة: وهو حديث منكر.

قُلْتُ: نَعَمْ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ. فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا سَائِبُ، انْظُرْ أَخْلَاقَكَ التِي كنْتَ تَصْنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَاجْعَلْهَا فِي الإِسْلَامِ، أَقْرِ (¬1) الضَّيْفَ، وأَكْرِمِ اليَتِيمَ، وأحْسِنْ إِلَى جَارِكَ" (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: وهَذَا الحَدِيثُ فِيمَنْ كَانَ شَرِيكُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُضْطَرِبٌ جِدًّا (¬3)، فَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِلسَّائِبِ بنِ أَبِي السَّائِبِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِأَبِيهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِقَيْسِ بنِ السَّائِبِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بنَ السَّائِبِ-، وهَذَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ. وذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ السَّائِبَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا (¬4)، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وبَايَعَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحَسُنَ إسْلَامُهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) قَرى الضَّيْفَ: أضَافَهُ. انظر لسان العرب (11/ 149). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15500) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (4836) - وابن ماجه في سننه - رقم الحديث (2287) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (3216). (¬3) ممن أعلَّ هذا الحديث بالاضطراب: ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 141) - والسُهيلي في الروض الأنف (3/ 172). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 325). (¬5) انظر تهذيب التهذيب (1/ 682).

زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خديجة رضي الله عنها

زَوَاجُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَدِيجَةَ (¬1) رَضِيَ اللَّه عَنْهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُسَمَّى سَيِّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، وتُسَمَّى الطَّاهِرَةَ وذَلِكَ لِشِدَّةِ عَفَافِهَا، وكانَتْ نَقِيَّةً ذَاتَ عَقْلٍ وَاسِعٍ، وَحَسَبٍ، ومَالٍ. لَمَّا سَمِعَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِعَظِيمِ أمَانَةِ الرسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحُسْنِ أخْلاقِهِ، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 512): خَدِيجةُ سيِّدةُ نِسَاءِ العالمين في زَمَانها أم القاسم القرشية الأسدية، وهي ممن كَمُل من النِّساء، وكانت عاقِلَةً جَلِيلةً دَيّنة مصونةً كَرِيمَةً: من أهل الجنة، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُثنِي عليها، ويُفَضِّلُهَا على سائر أمَّهَات المؤمنين، ويُبَالِغُ في تَعْظِيمِهَا، وهي أوَّل مَنْ تزوَّجها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي بنتُ خُويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تجتمعُ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قُصَيٍّ، وهي مِنْ أقرب نِسَائِهِ إليه في النَّسَبِ، ولم يتزوَّج من ذُرِّيَّةِ قُصي غيرها إلا أُمَّ حَبِيبَة، وكانت تُسَمى في الجاهلية الطَّاهرة، وقد تزَّوجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبلَ البِعْثَةِ بخمسَ عشْرَةَ سَنَة، وكانت مُوسِرَة، وولدت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولادَهُ كُلهم، إلا إبراهيم. وكانت أوَّل من آمنَ باللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَدَّق بما جاء به، فخَفَّفَ اللَّه بذلك عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكان لا يَسْمع شيئًا يَكْرَهُهُ منَ الرَّدِّ عليه، فيرجع إليها إلا ثَبَّتَتْه وتُهَوِّن عليه أمْرَ الناس، وقد تقدَّم في أبواب بدءِ الوحْيِ بيان تَصْدِيقها للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أوَّل وهْلَةٍ، ومن ثباتها في الأمر ما يدل علي قوة يَقِينِها، ووفُورِ عَقْلِها، وصِحَّة عَزْمِها، لا جَرَم كانت أفضل نسائه على الراجح، روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: أتى جبريل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه هذه خديجة قد أتَتْ معها إنَاء فيه إدَام، أو طعَام، أو شَرَاب، فإذا هي أتَتْكَ، فاقرأ عليها السلام من ربِّهَا، ومِنِّي، وبَشِّرْهَا ببيْتٍ في الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ لا صَخَبَ فيهِ ولا نَصَبَ.

وصِدْقِ حَدِيثِهِ، أَحَسَّتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا وَجَدَتْ ضَالَّتَهَا المَنْشُودَةَ فِيهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ رَجُلٌ لا تَسْتَهْوِيهِ حَاجَةٌ، وأنَّهُ لا يَتَطَلَّعُ إِلَى مَالٍ، ولا إِلَى جَمَالٍ، فَحَدَّثَتْ بِمَا في نَفْسِهَا إلى صَدِيقَتِهَا نَفِيسَةَ بِنْتِ مُنَيَّةَ، فَذَهَبَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ فَرَضِيَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ. وسَأَدَعُ نَفِيسَةَ بِنْتَ مُنَيَّةَ تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ زَوَاجِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ نَفِيسَةُ: كَانَتْ خَدِيجةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً حَازِمَةً جَلْدَةً، شَرِيفَةً، مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنَ الكَرَامَةِ والخَيْرِ، وهِيَ يَوْمَئِذٍ أوْسَطُ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وأعْظَمَهُمْ شَرَفًا، وأكْثَرَهُمْ مَالًا، وَكُلُّ قَوْمِهَا حَرِيصٌ عَلَى نِكَاحِهَا لَوْ قَدِرَ عَلَى ذَلِكَ، قَدْ طَلَبُوهَا وبَذَلُوا لَهَا الأَمْوَالَ، فأرْسَلَتْنِي دَسِيسًا (¬1) إلى مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ رَجَعَ في عِيرِهَا مِنَ الشَّامِ، فقُلْتُ: يا مُحَمَّدُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ فقَالَ: مَا بِيَدِي مَا أَتَزَوَّجُ بهِ، قُلْتُ: فإنْ كُفِيتَ ذَلِكَ، ودُعِيتَ إلى الجَمَالِ، والمَالِ والشَّرَفِ، والكَفَاءَةِ ألَا تُجِيبُ؟ قَالَ: فَمَنْ هِيَ؟ قُلْتُ: خَدِيجَةُ، قَالَ: وكَيْفَ لِي بِذَلِكَ؟ قَالَتْ: قُلْتُ عَلَيَّ، قَالَ: فأنَا أفْعَلُ، قَالَتْ نَفِيسَةُ: فَذَهَبْتُ فأخْبَرْتُ خَدِيجَةَ، فأرْسَلَتْ إِلَيْهِ أنِ ائْتِ لِسَاعَةِ كذَا وكذَا، وأرْسَلَتْ إلى عَمِّهَا عَمْرِو بنِ أَسَدٍ لِيُزَوِّجَهَا، فَحَضَرَ، لِأَنَّ أبَاهَا مَاتَ قَبْلَ حَرْبِ الفِجَارِ (¬2). ¬

_ (¬1) الدَّسِيسُ: مَن يُرسَلُ سِرًا ليأتي بالأخبار. انظر لسان العرب (4/ 345). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 62).

* خطبة أبي طالب

* خُطْبَةُ أَبِي طَالِبٍ: ثُمَّ إِنَّ رسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ، فَأَقَرُّوا لَهُ ذَلِكَ، ورَضَوْهَا زَوْجَةً لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخَرَجَ مَعَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وعَمُّهُ حَمْزَةُ، حتَّى دَخَلُوا عَلَى عَمْرِو بنِ أَسَدٍ (¬1) عَمِّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَخَطَبُوا إِلَيْهِ ابْنَةَ أَخِيهِ، وحَضَرَ العَقْدَ رُؤَسَاءُ مُضَرَ، فقامَ أَبُو طَالِبٍ فَخَطَبَ فقَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الذِي جَعَلَنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ، وزَرْعِ إسْمَاعِيلَ، وضِئْضِئِ (¬2) مَعْدٍ، وجَعَلَنَا حَضَنَةَ بَيْتِهِ وسُوَّاسَ (¬3) حَرَمِهِ، وجَعَلَ لنَا بَيْتًا مَحْجُوجًا، وحَرَمًا آمِنًا، وجَعَلَنَا الحُكَّامَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ ابنَ أخِي هَذَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ لا يُوزَنُ بِرَجُلٍ إِلَّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا، ونُبْلًا، وفَضْلًا، وعَقْلًا، فَإِنْ كَانَ في المَالِ قُلٌّ، فإنَّ المَالَ ظِلٌّ زَائِلٌ، وأمْرٌ ¬

_ (¬1) هذا هو قول الجمهور، من أن ولي خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في زواجها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو: عمُّها عمرو بن أسد. قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 325): وهو الصحيح؛ لأن أباها خُوَيْلد كان قد هَلك قبْلَ حَرْبِ الفِجَار. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/ 701): المُجْمَع عليه أن عمَّها عمرو بن أسد هو الذِي زوَّجَها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) الضِّئْضِئُ: الأصْلُ. انظر النهاية (3/ 64). (¬3) السِّياسَةُ: هي القِيَام علي الشيء بما يصلحه. انظر النهاية (2/ 378). ومنه قول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3455) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1842) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كانت بَنُو إسرائيل تَسُوسُهُمُ الأنبِيَاءُ". أي تتولي أمورهم كما تفعل الأمَرَاءُ والوُلاة بالرَّعِيَّة. انظر النهاية (2/ 378).

حَائِلٌ، ومُحَمَّدٌ مِمَّنْ قَدْ عَرَفْتُمْ قَرَابَتَهُ، وقَدْ خَطَبَ إلَيْكُمْ رَاغِبًا كَرِيمَتَكُمْ خَدِيجَةَ، وقَدْ بَذَلَ لَهَا مِنَ الصَّدَاقِ مَا حَكَمَ عَاجِلُهُ، وآجِلُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا وَنَشًّا (¬1)، وهُوَ وَاللَّهِ بَعْدَ هَذَا لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ وخَطَرٌ جَلِيلٌ جَسِيمٌ. فَكَانَ جَوَابُ وَلِيِّ خَدِيجَةَ: هَذَا البِضْعُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ (¬2). وبَنَى (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا وَنَحَرَ جَزُورًا أَوْ جَزُورَيْنِ، وأطْعَمَ النَّاسَ، فكَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَها رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا، حتَّى مَاتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬4). قَالَ البُوصِيرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ورَأَتْهُ خَدِيجَةُ وَالتُّقَى وَالزُّهـ ... ــــــــــــدُ فِيهِ سَجِيَّةٌ وَالْحَيَاءُ وَأَتَاهَا أَنَّ الغَمَامَةَ وَالسَّرْحَ (¬5) ... أَظَلَّتْهُ مِنْهُمَا أَفْيَاءُ وَأَحَادِيثُ أَوْ وَعْدُ رَسُولِ اللَّهِ ... بِالْبَعْثِ حَانَ مِنْهُ الْوَفَاءُ فَدَعَتْهُ إِلَى الزَّوَاجِ وَمَا ... أَحْسَنَ أَنْ يُبْلُغَ المُنَى الأَذْكِيَاءُ ¬

_ (¬1) النَّشُّ: نِصْفُ الأُوقِيَّة، وهو عِشْرُونَ درهمًا. انظر النهاية (5/ 48). (¬2) يُرِيدُ أنه كفءٌ كريمٌ لا يُرَدُّ نكَاحُهُ. انظر النهاية (4/ 39). (¬3) لبِنَاءُ: الدُّخُولُ بالزَّوْجَةِ. انظر النهاية (1/ 156). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 226). (¬5) السَّرْحُ: هيَ الشَّجَرَةُ التي صَارَتْ أغْصَانُهَا تَتَدَلَّي عليه. انظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 191).

* رواية ضعيفة

* رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدٌ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرَ خَدِيجَةَ، وَكَانَ أَبُوهَا يَرْغَبُ أَنْ يُزَوِّجَهُ (¬1)، فَصَنَعَتْ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَدَعَتْ أَبَاهَا وَنَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَطَعِمُوا وَشَرِبُوا حَتَّى ثَمِلُوا (¬2)، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ لِأَبِيهَا: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَخْطُبُنِي، فزَوِّجْنِي إِيَّاهُ، فزَوَّجَهَا إِيَّاهُ فَخَلَّقَتْهُ (¬3) وَأَلْبَسَتْهُ حُلَّةً، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالْآبَاءِ، فَلَمَّا سُرِّي (¬4) عَنْهُ سُكْرُهُ، نَظَرَ فَإِذَا هُوَ مُخَلَّقٌ وَعَلَيْهِ حُلَّة، فَقَالَ: مَا شَأْنِي، مَا هَذَا؟ قَالَتْ: زَوَّجْتَنِي مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا أُزَوِّجُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ! لَا، لَعَمْرِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَمَا تَسْتَحِي! تُرِيدُ أَنْ تُسَفِّهَ نَفْسَكَ عِنْدَ قُرَيْشٍ؟ تُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّكَ كُنْتَ سَكْرَانٌ؟ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ حَتَّى رَضِيَ (¬5). قُلْتُ: أَوْرَدَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ نَحْوَ هَذَا الْخَبَرِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ، ثُمَّ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا غَلَطٌ وَوَهْلٌ، وَالثَّبْتُ عِنْدَنَا ¬

_ (¬1) قال السندي في شرح المسند (3/ 97): قوله: يرغب أن يزوِّجه: أي عن أن يزوجه، لا في أن يزوجه كما يفيده النظر فيما بعد. (¬2) ثملوا: أي سكروا. انظر لسان العرب (2/ 128). (¬3) فخلَّقته: بتشديد اللام أي وضعت عليه الخلوق، وهو نوع من الطيب. انظر النهاية (2/ 68). (¬4) قال السندي في شرح المسند (3/ 97): سُرِّي عنه: بضمِّ السين وتشديد الراء أي أزيل وكُشف عنه. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2849).

* عمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لما تزوج خديجة

الْمَحْفُوظُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَبَاهَا خُوَيْلِدَ بنَ أَسَدٍ مَاتَ قَبْلَ الْفِجَارِ، وَأَنَّ عَمَّهَا عَمْرَو بْنَ أَسَدٍ زَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). قُلْتُ: وَبِهِ قَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ، ذَكَرَهُ ابنُ الْأَثِيرِ (¬2)، وَبِهِ قَالَ أَيْضًا الْمُبرِّدُ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ (¬3). * عُمْرُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ: وكَانَ عُمُرُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً، وذَلِكَ بَعْدَ رُجُوعِهِ منَ الشَّامِ بِشَهْرَيْنِ، وكَانَ عُمُرُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَوْمَئِذٍ أرْبَعِينَ سَنَةً (¬4). وكانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرَجُلَيْنِ أَوَّلُهُمَا: عَتِيقُ بنُ عَائِدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ، وجَارِيَةً اسْمَهَا: هِنْدٌ، فتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا صَيْفِيُّ بنُ أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا، وثَانِيهِمَا: أَبُو هَالَةَ بنِ مَالِكٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، واسْمُهُ هِنْدٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا اسْمُهُ هَالَةُ، وَوَلَدًا اسْمُهُ هِنْدٌ أَيْضًا، وجَارِيَةً اسْمُهُا زَيْنَبُ. وقَدِ ابْتَنَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي البَيْتِ الذِي كَانَتْ ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 63). (¬2) انظر أسد الغابة (5/ 261). (¬3) انظر الروض الأنف (1/ 324). (¬4) قال الإمام الصالحي في سيرته الشامية (2/ 166): وهو الصَّحِيحُ الذي عليه الجمهور.

* حديث موضوع

تَسْكُنُهُ، وفِيهِ وَلَدَتْ جَمِيعَ أَوْلَادِهَا، وفِيهِ تُوُفِّيَتْ، ولَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَاكِنًا فِيهِ حَتَّى خَرَجَ إِلَى المَدِينَةِ مُهَاجِرًا فَأَخَذَهُ عَقِيلُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ: رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحَمْدُ للَّهِ الذِي أَطْعَمَنِي الخَمِيرَةَ، وأَلْبَسَنِي الحَرِيرَ، وزَوَّجَنِي خَدِيجَةَ، وكُنْتُ لَهَا عَاشِقًا" (¬2). فهَذَا الحَدِيثُ مَوْضُوعٌ، لا يَصِحُّ عَنِ المَعْصُومِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * أَوْلَادُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَدَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْلَادَهُ جَمِيعًا عَدَا إِبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ (¬3) القِبْطِيَّةَ. وكَانَ أَوَّلُ مَنْ وُلدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَدِيجَةَ قَبْلَ البِعْثَةِ: القَاسِمُ، وبِهِ يُكَنَّى -صلى اللَّه عليه وسلم-، رَوَي ابْنُ مَاجَه في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا عَنِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل زواج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في: سيرة ابن هشام (1/ 224) الروض الأنف (1/ 324) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 68 - وما بعدها) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 62). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4893). (¬3) هِيَ مَارِيَةُ بنتُ شَمْعُونَ أهْدَاهَا المُقَوْقِسُ صاحِبُ الإسْكَنْدَرِيَّةِ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سنة سبع من الهجرة، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَطَؤُهَا بِمِلْكِ اليَمِينِ، وضربَ عليها معَ ذلكَ الحِجَابَ، فحَمَلَتْ منهُ، ووَضَعَتْ ابنَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إبراهيم، وتُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في خِلَافَةِ عُمَرَ بنِ الخطاب -رضي اللَّه عنه-، وذلك في المحرم سنة 16 هـ. انظر الإصابة (8/ 310).

قَالَ: لمَّا تُوُفِّيَ القَاسِمُ ابنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يا رسُولَ اللَّهِ، دَرَّت لُبَيْنَةُ القَاسِمِ، فَلَوْ كَانَ اللَّهُ أبْقَاهُ حتَّى يَسْتَكْمِلَ رَضَاعَهُ، فقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ إتْمَامَ رَضَاعِهِ في الجَنَّةِ". قَالَتْ: لَوْ أَعْلَمُ ذلِكَ يا رَسُولَ اللَّه، لَهَوَّنَ عَلَيَّ أَمْرَهُ. فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهِ فَأُسْمِعَكِ صَوْتَهُ". قَالَتْ: يا رسُولَ اللَّه، بَلْ أُصَدِّقُ اللَّهَ ورَسُولَهُ (¬1). ثُمَّ زَيْنَبُ (¬2) , ثمَّ رُقَيَّةُ (¬3)، ثمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ (¬4)، ثمَّ فَاطِمَةُ (¬5)، ثُمَّ وُلِدَ لهُ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الصَّلاة على ابنِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1512). (¬2) هيَ زَيْنَبُ بنتُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي أكبَرُ بناتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأوَّل مَنْ تزوَّج منهُنَّ، تزوجها ابن خَالَتِهَا أَبُو العاص بنُ الرَّبِيع العَبْسِيُّ -رضي اللَّه عنه-، أمُّهُ هالةُ بنتُ خُويلد. أسلمَتْ زَيْنَبُ، وهاجَرَتْ مع أبيها -صلى اللَّه عليه وسلم-، وماتَتْ سنة (8 هـ). انظر الإصابة (8/ 151). (¬3) هِيَ رُقَيَّةُ بنتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وُلدَت رُقَيَّةُ وعُمُرُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثٌ وثَلَاثُونَ سَنَة، وتزوَّجَهَا عُثْمَانُ بنُ عفَّان -رضي اللَّه عنه- بمكة، وهاجرَتْ معه إلى أرضِ الحَبَشَةِ، وولَدَتْ لهُ هُنَاكَ ابْنًا فسمَّاهُ: عَبْدَ اللَّهِ، فكان عُثمان -رضي اللَّه عنه- يُكنّي به، وماتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يومَ وقْعَةِ بَدْرٍ، ودُفِنَتْ يومَ جَاءَ زَيْدُ بن حارثَةَ -رضي اللَّه عنه- بَشِيرًا بما فتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يومَ بَدْرٍ. انظر أسد الغابة (5/ 285). (¬4) هيَ أُمُّ كُلْثُومٍ بنتُ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وهيَ أكبَرُ من فَاطِمَةَ، وتزوَّجَها عثمانُ بن عفانَ -رضي اللَّه عنه- بعدَ وَفَاةِ أُخْتِهَا رُقَيّة، وهذا في جمادى الآخرة سنة (3 هـ)، ولَمْ تَلِدْ مِنْ عُثْمَانَ وَلَدًا، وتُوُفيت سنة (9 هـ)، وصلَّى عليها رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر الاستيعاب (4/ 506). (¬5) هي فاطِمَةُ بنتُ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سَيِّدَةُ نسَاءِ العَالَمِينَ في زَمَانِهَا، وهي أصْغَرُ بنَاتِ رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وُلدَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سنة إحدى وأربعين من مَوْلدِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفيت =

* تعيير المشركين بانقطاع نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم-

الإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُلَقَّبُ بالطَّيِّبِ والطَّاهِرِ؛ لأَنَّهُ وُلدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ. قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ وُلِدَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَهَلْ وُلِدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ أَوْ قَبْلَهَا؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وصَحَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وُلدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وهَلْ هُوَ الطَّيِّبُ والطَّاهِرُ؟ أمْ هُمَا غَيْرُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: والصَّحِيحُ أنَّهُمَا لقبَانِ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). وقَدْ مَاتَ بَنُوهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُمْ صِغَارٌ، فَمَاتَ القَاسِمُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ سِنًّا تُمَكِّنُهُ مِنَ المَشْيِ، وقِيلَ سِنًّا تُمَكِّنُهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ، ثُمَّ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ، وهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ. وَأَمَّا بَنَاتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَكُلّهُنَّ أَدْرَكْنَ الإِسْلَامَ، وأَسْلَمْنَ، وعِشْنَ حَتَّى تَزَوَّجْنَ وَكُلُّهُنَّ مِتْنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مَا عَدَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ (¬2). * تَعْيِيرُ المُشْرِكِينَ بِانْقِطَاعِ نَسَبِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ المُشْرِكُونَ يُعَيِّرُونَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِانْقِطَاعِ أَثَرِهِ، لِوَفَاةِ أَوْلَادِهِ الذُّكُورِ، ¬

_ = رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعد وفاة أبيها -صلى اللَّه عليه وسلم- بسِتَّةِ أشْهُرٍ، وكانت أوَّلَ أهْلِهِ لُحُوقًا به، وصلَّى عليها علىُّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، وكان عُمُرُهَا لمَّا تُوُفِّيَتْ تِسْعًا وعِشْرِينَ سَنَة، وقيل: ثَلَاثِينَ سنة، وقِيلَ: خَمْسًا وثَلَاثِينَ سنة. انظر الإصابة (8/ 262). (¬1) زاد المعاد (1/ 101). (¬2) انظر سبل الهدى والرَّشاد في سيرة خير العباد (11/ 16) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 69) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 63).

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَاتَ القَاسِمُ، وهُوَ أَوَّلُ مَيْتٍ مِنْ وَلَدِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ ثُمَّ مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ العَاصُ بنُ وَائِلٍ: لقدِ انْقَطَعَ وَلَدُهُ فَهوَ أَبْتَرُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (¬1). قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وقَدْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ- أَنْ لَا يَعِيشَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَدٌ مِنَ الذُّكُورِ، حَتَّى لا يَكُونَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِافْتِتَانِ بَعْضِ النَّاسِ بِهِمْ، وَادِّعَائِهِمْ لَهُمُ النُّبُوَّةَ، فَأَعْطَاهُ الذُّكُورَ تَكْميلًا لِفِطْرَتِهِ البَشَرِيَّةِ، وقَضَاءً لِحَاجَاتِ النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَلئَلَّا يَنْتَقِصَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في كَمَالِ رُجُولَتِهِ شَانِئٌ، أَوْ يَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ مُتَقَوِّلٌ، ثُمَّ أَخَذَهُمْ فِي الصِّغَرِ، وأَيْضًا لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ عَزَاءٌ وَسَلْوَى لِلذِينَ لا يُرْزَقُونَ البَنِينَ، أَوْ يُرْزَقُونَهُمْ ثُمَّ يَمُوتُونَ، كَمَا أَنَّهُ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الِابْتِلَاءِ، وأشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ، فَالْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة الكوثر آية (3) - والخبر في الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 63). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء الكتاب والسنّة (1/ 224) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ.

بناء الكعبة ودرء فتنة عظيمة

بِنَاءُ الكَعْبَةِ وَدَرْءُ فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ الكَعْبَةُ (¬1) هِيَ أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (¬2). رَوَى الشَّيْخَانِ في صحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ في الأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: "المَسْجِدُ الحَرَامُ" (¬3). وقَدْ تَعَرَّضَتِ الكَعْبَةُ لِلْعَوَادِي التِي زَعْزَعَتْ بُنْيَانَهَا، وَصَدَّعَتْ جُدْرَانَهَا، وَقَبْلَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَمْسِ سِنِينَ (¬4) جَرَفَ مَكَّةَ سَيْلٌ عَرِمٌ انْحَدَرَ إِلَى البَيْتِ الحَرَامِ، فَأَوْشَكَتِ الكَعْبَةُ مِنْهُ عَلَى الِانْهِيَارِ، وكَانَ قَدْ أَصَابَهَا مِنْ قَبْلُ حَرِيقٌ ¬

_ (¬1) كلُّ شيءٍ عَلا وارْتَفَعَ فهو كَعْبٌ, ومنه سُمِّيَت الكَعْبَة، للبيتِ الحرامِ، وقيلَ: سُمِّيَتْ به لتَكَعُّبِهَا أي تَرْبِيعِهَا. انظر النهاية (4/ 155). (¬2) سورة آل عمران آية (96). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأنبياء - رقم الحديث (3366) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - رقم الحديث (520). (¬4) اختلف في وقتِ بِنَاءِ الكعبةِ، فروى عبد الرزاق في "مصنفه" رقم الحديث (9103) عن ابن جريج عن مُجَاهد قال: . . حتى إذا كان قبل مبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخمسة عشر سنة، بنته قريش. . وبه جزم موسى بن عُقبة في مَغَازِيهِ، والذي جزم به ابن إسحاق أَنَّ بُنْيَانَ الكعبةِ كان قَبْلَ المَبْعَثِ بخمْسِ سِنِينَ. قال الحافظ في الفتح (4/ 233): وقول ابن إسحاق أشهر، ويُمكنُ الجَمْعُ بينهما بأنْ يكُونَ الحَريقُ تقدَّم وقتُهُ على الشُّرُوعِ في البِنَاءِ.

بِسَبَبِ امْرَأَةٍ كَانَتْ تُجَمِّرُهَا، وكَانَتِ الكَعْبَةُ رَضْمًا (¬1) فَوْقَ القَامَةِ، فَاضْطُرَّتْ قُرَيْشٌ إِلَى تَجْدِيدِ بِنَائِهَا حِرْصًا عَلَى مَكَانَتِهَا، وحِفَاظًا عَلَى حُرْمَتِهَا، وقَدِ اتَّفَقَتْ قُرَيْشٌ عَلَى أَنْ لَا يُدْخِلُوا في بِنَاءِ الكَعْبَةِ مِنْ كَسْبِهِمْ إِلَّا طَيِّبًا، فَلَا يُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بغِيٍّ (¬2) ولا بَيع رِبًا، وَلَا مَظْلَمَةَ أَحَدٍ مِنَ النَّاس (¬3). فَلَمَّا أَرَادَتْ قُرَيْشٌ هَدْمَهَا تَهَيَّبُوا، وخَافُوا مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ أذًى، لِأَنّ أَكْثَرَهُمْ شَاهَدَ مَا الذِي حَدَثَ لِأَبْرَهَةَ الحَبَشِيِّ عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يَهْدِمَ الكَعْبَةَ، فَقَالَ لَهُمُ الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ: أتُرِيدُونَ بِهَدْمِهَا الإِصْلَاحَ، أمِ الإِسَاءَةَ؟ قَالُوا: بَلِ الإِصْلَاحَ، فقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ المُصْلِحِينَ، وأَخَذَ المِعْوَلَ، وشَرَعَ يَهْدِمُ، فَقَالَ الوَليدُ: قُومُوا سَاعِدُونِي، فقَالُوا: لَا، نَنْتَظِرُ إلى الغَدِ، فَإِنْ أُصِيبَ الوَليدُ لَنْ نَهْدِمَ مِنْهَا شَيْئًا، وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وإنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ صُنْعَنَا فهَدَمْنَا. فَأَصْبَحَ الوَليدُ مِنْ لَيْلَتِهِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ، فَهَدَمُوا مَعَهُ، وهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا خَيْرًا، حَتَّى إِذَا انتهَى الهَدْمُ بِهِمْ إِلَى الأَسَاسِ، أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عليهِ السَّلامُ أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ (¬4) آخِذ بَعْضهَا بِبَعْضٍ. ¬

_ (¬1) الرَّضْمُ: أن تُنَضَّدَ الحجارَةُ بَعْضُهَا علي بعضٍ مِنْ غيرِ مِلَاطٍ. انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 336). (¬2) البَغِيُّ: هي المُسْتَعْمَلَةُ بالزِّنَا. انظر النهاية (1/ 143). (¬3) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة (1/ 227): هذا يَدُلُّ علي أَنَّ العربَ كان الكَثِيرونَ منهم يَتَحَرَّونَ المَكَاسِبَ الحَلَالَ، وَأَنَّ الرِّبَا كان طَارِئًا عليهِمْ مِنَ اليَهُودِ. (¬4) الأسْنِمَةُ: جمع سَنَامٍ وهو أَعْلى الظَّهْرِ، وأرادَ أَنَّ الحِجَارَةَ دخلَ بعضُهَا في بعضٍ كما تَدْخُلُ عِظَامُ السَّنَامِ بعضُهَا في بَعْضٍ، فشَبَّهَهَا بِهَا. انظر النهاية (2/ 367).

فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا، وأَدْخَلَ عَتَلَةً (¬1) بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيَقْلَعَ بِهَا أَحَدَهُمَا، فَلَمَّا تَحَرَّكَ الحَجَرُ تَنَقَّصَتْ (¬2) مَكَّةُ بِأَسْرِهَا، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الأَسَاسِ. وقَدِ اشْترَكَ سَادَةُ مَكَّةَ، ورِجَالَاتُهَا في أَعْمَالِ الهَدْمِ والبِنَاءِ، فَقَسَمُوا الكَعْبَةَ وجَعَلُوا لِكُلِّ قَبِيلَةٍ جُزْءًا مِنْهَا، فكَانَ شِقُّ البَابِ (¬3) لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وزُهْرَةَ، وكَانَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ، وَالرُّكْنِ اليَمَانِيِّ لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ، وكَانَ ظَهْرُ الكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ، وسَهْمٍ ابْنَيْ عَمْرِو بنِ هَصِيصِ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، وكَانَ شِقُّ الحِجْرِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ، ولبَنِي أَسَدِ بنِ العُزَّى بنِ قُصَىٍّ، ولبَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ، وَهُوَ الحَطِيمُ (¬4). وقدْ شَارَكَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ أعْمَامِهِ في البِنَاءِ، ونَقْلِ الحِجَارَةِ، وكَانَ عُمُرُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذْ ذَاكَ خَمْسًا وثَلَاثِينَ سَنَةً (¬5). رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُ: أَنَّ ¬

_ (¬1) العَتَلَةُ: حَدِيدَةٌ كَبِيرَةٌ يُقْلَعُ بها الشَّجَرُ والحَجَرُ. النهاية (3/ 163). (¬2) تَنَقَّصَتْ: اهْتَزَّتْ. (¬3) الشِّقُّ: النَّاحيةُ والجَانبُ. انظر لسان العرب (7/ 166). (¬4) الحَطِيمُ: على خِلافٍ فيهِ، لكنْ أشهَرُها أنه حِجْرُ إسماعيل عليهِ السَّلامُ، وسُمِيَ الحَطِيم لاِزْدِحَامِ الناس فيه حتى يَحْطِمَ بعضُهُم بعضًا، وقِيل: لأنَّ العربَ كَانَتْ تَطْرَحُ فيهِ ثِيَابَهَا التي تَطُوفُ فيها، وتتركها حتى تَتَحَطَّمَ وتَفْسُدَ بِطُولِ الزمان. انظر النهاية (1/ 388). (¬5) هذا هُوَ الصَّحِيحُ في عُمُرِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ بُنِيَت الكعبةُ، وقد ثبت ذلك في مصنف عبد الرزاق الصنعاني - رقم الحديث (9106) - وإسناده صحيح.

رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يا ابنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ، فجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيانًا -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وفِي لفظٍ: لَمَّا بُنِيَتِ الكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعَبَّاسٌ يَنْقُلَانِ الحِجَارَةَ، فقَالَ العَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَكبتِكَ، فَخَرَّ إلى الأَرْضِ، وطَمَحَتْ (¬2) عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "أَرِنِي إِزَارِي، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ" (¬3). فَلَمَّا بَلَغَتِ القَبَائِلُ في البُنْيَانِ مَوْصعَ الحَجَرِ الأَسْوَدِ (¬4) تَنَازَعُوا فِيمَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب كراهية التعري في الصلاة - رقم الحديث (364) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحيض - باب الاعتناء بحفظ العورة - رقم الحديث (340) (77). (¬2) طَمَحَ: أي امْتَدَّ وعَلَا. انظر النهاية (3/ 125). (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 25): وفي الحديث أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مَصُونًا عَمَّا يُسْتَقْبَحُ قَبْلَ البعثةِ وبعدها، وفيه النهي عن التَّعَرِّي بحضْرَةِ النَّاسِ. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مكة وبنيانها - رقم الحديث (1582) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحيض - باب الاعتناء بحفظ العورة - رقم الحديث (340). (¬4) الحَجَرُ الأسْوَدُ: هو أفضَلُ وأطْهَرُ الأحْجَارِ على وَجْهِ الأَرْضِ، وقد وَرَدَ في فَضْلِ تَقْبِيلِهِ أحاديثُ كَثِيرَة منها: ما رواه ابن حبان في صحيحه بسند صحيح - رقم الحديث (3711) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لهذَا الحَجَرِ لِسَانًا وشَفَتَيْنِ يَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ يوم القِيَامَةِ بِحَقٍّ". وروى ابن حبان في صحيحه بسند قوي - رقم الحديث (3698) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَسْحُ الحَجَرِ والرُّكْنِ اليَمَانِي يَحُطُّ الخَطَايَا حَطًّا".

* صاحب العقل الكبير

يَضَعُهُ، فَكُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَحْظَى بِهَذَا الشَّرَفِ، حتَّى كَادَتِ الحَرْبُ أَنْ تَشْتَعِلَ بَيْنَهُمْ في أَرْضِ الحَرَمِ، فَهُنَا قَامَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ، وقَرَّبُوا جَفْنَةً مَمْلُوءَةً بِالدَّمِ وتَعَاقَدَتْ هِيَ وبَنُو عَدِيِّ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ عَلَى المَوْتِ، وأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي تِلْكَ الجَفْنَةِ فَسُمُّوا (لَعْقَةَ الدَّمِ). فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أرْبَعَ لَيَالٍ، أَوْ خَمْسًا، حتَّى أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَ عُقَلَائِهِمْ وَهُوَ (أَبُو أُمَيَّةَ بنُ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ)، وَالِدُ أمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَ عَامَئِذٍ أَسَنَّ رَجُلٍ في قُرَيْشٍ، فقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُريشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ (¬1) فَرَضُوا وقَبِلُوا هَذَا الرَّأْيَ جَمِيعًا. * صَاحِبُ العَقْلِ الكَبِيرِ: فَأَشْخَصُوا أبْصَارَهُمْ إلى بَابِ المَسْجِدِ، واشْرَأَبَّتِ (¬2) الأَعْنَاقُ إِلَى مَنْ يَا تُرَى يَكُونُ هَذَا الدَّاخِلُ، فَإِذَا بهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَرْسَلَهُ لِيُخَلِّصَ قُرَيْشًا مِنْ هَذَا الشَّرِّ المُسْتَطِيرِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الأَمِينُ رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّدٌ. فَلَمَّا انتهَى إِلَيْهِمْ أخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَعْطَاهُمُ ¬

_ (¬1) المعروفُ اليوم ببابِ السَّلام. (¬2) اشْرَأَبَّتْ: أي ارتفعَتْ. انظر النهاية (2/ 408).

* ضيق النفقة الحلال

الحَلِّ العَظِيمِ، فقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلُمَّ إِلَيَّ ثَوْبًا"، فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ الحَجَرَ الأَسْوَد فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ: "لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا"، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ (¬1). وهَكَذَا دَرَأَ (¬2) رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحَرْبَ عَنْ قُرَيْشٍ، بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ فَوْقَهَا حِكْمَةٌ، وكَانَتْ مُقَدِّمَةُ دَرْئِهِ لِلْحُرُوبِ، والشُّرُورِ عَنِ الشُّعُوبِ، وَالأُمَمِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، بِحِكْمَتِهِ وتَعَالِيمِهِ ورِفْقِهِ، وتَلَطُّفِهِ في الأُمُورِ، والإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، كَمَا كَانَ رَحْمَةً لِلْمُتَخَاصِمِينَ، والمُتَحَارِبِينَ فِي قَوْمٍ بُسَطَاءَ أُمِّيِّينَ (¬3). * ضِيقُ النّفَقَةِ الحَلَالِ: ومَعَ جُهْدِ قُرَيْشٍ في بِنَاءَ الكَعْبَةِ، فَقَدْ ضَاقَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ الطَّيِّبَةُ عَنْ إتْمَامِ البَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلامُ، فَاضْطُرُّوا إِلَى أنِ يَقْتَطِعُوا مِنْهُ قِطْعَةً مِنْ جِهَتِهِ الشَّمَالِيَّةِ، وبَنَوْا عَلَى هَذَا الجُزْءَ الذِي احْتَجَزُوهُ جِدَارًا قَصِيرًا لِلْإِعْلامِ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) أخرج تفاصيل تحكيم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في وضع الحجر الأسود: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15504) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5596) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (115) - والحاكم في المستدرك رقم الحديث (1726) (1727) - وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه - رقم الحديث (9106) - وإسناده صحيح. (¬2) دَرَأَ: دَفَعَ. انظر لسان العرب (4/ 314). (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 112.

مِنَ البَيْتِ، وهُوَ مَا يُعْرَفُ بِالحِجْرِ (¬1). وَكَانَ ارْتِفَاعُ الكَعْبَةِ تِسْعَةَ أذْرُعٍ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، وَكَانَ لهَا بَابَانِ: بابٌ شَرْقِيٌّ، وبابٌ غَرْبِيٌّ لِيَدْخُلَ النَّاسُ منْ بَابٍ ويَخْرُجُوا منَ البَابِ الآخَرِ، فلمَّا بَنَتْهَا قُرَيْشٌ زَادُوا في ارْتِفَاعِهَا تِسْعَةَ أذْرُعٍ أُخْرَى، واقْتَصَرُوا عَلَى بَابٍ وَاحِدٍ، ورَفَعُوا بابَهَا عَنِ الأَرْضِ، فَصَارَ لا يُصْعَدُ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى سُلَّمٍ لِيُدْخِلُوا مَنْ يَشَاؤُونَ، ويَمْنَعُوا مَنْ يَشَاؤُونَ. رَوَى الشَّيخانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لهَا: "يا عَائِشَةُ! لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بالبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وأَلْزَقْتُهُ بالأَرْضِ، وجَعَلْتُ لهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وبَابًا غَرْبيًّا فَبَلَغْتُ بهِ أسَاسَ إبْرَاهِيمَ" (¬2). ورَوَى الشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الْجَدْرِ (¬3) أَمِنَ البَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: فَلِمَ لَمْ ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 78): وهوَ مِنَ البَيْتِ، ولذلك لا يَصِحُّ الطَّوَافُ إلا مِنْ ورائِهِ، وسُمِّيَ بذلك لأنَّهُ حُجِرَ، أي اقْتُطِعَ مِنَ الكَعْبَةِ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مكة وبنيانها - رقم الحديث (1586) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب نقض الكعبة وبنائها - رقم الحديث (1333). (¬3) الجَدْرُ: بفتح الجيم وسكون الدال، هُوَ الحِجْرُ لِمَا فيهِ من أصُولِ حائِطِ البيْتِ، وهو اسمُ الحائِطِ المُسْتَدِيرِ إلى جانبِ الكَعْبَةِ الغَرْبيّ. انظر النهاية (1/ 239) - فتح الباري (4/ 235).

* فوائد الحديث

يُدْخِلُوهُ في البَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ"، قلتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: "فَعَلَ ذلِكَ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاؤُوا، ويَمْنَعُوا مَنْ شَاؤُوا، ولَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالجَاهِلِيَّةِ فأخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ في البَيْتِ، وَأنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ" (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفي حَدِيثِ بِنَاءِ الكَعْبَةِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - اجْتِنَابُ وَليِّ الأَمْرِ ما يَتَسَرَّعُ النَّاسُ إلى إنْكَارِهِ، وما يَخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدَ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ في دِينٍ أَوْ دُنْيَا. 2 - وفِيهِ تَألُّفُ قُلُوبِهِمْ بمَا لا يُتْرَكُ فِيهِ أمْرٌ وَاجِبٌ. 3 - وفِيهِ تَقْدِيمُ الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ مِنْ دَفع المَفْسَدَةِ، وجَلْبِ المَصْلَحَةِ، وأنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِدَفع المَفْسَدَةِ. 4 - وفِيهِ أَنَّ المَفْسَد إِذَا أَمِنَ وُقُوعُهَا عَادَ اسْتِحْبَابُ عَمَلِ المَصْلَحَةِ. 5 - وفيهِ حَدِيثُ الرَّجُلِ مَعَ أهْلِهِ في الأُمُورِ العَامَّةِ. 6 - وفيهِ حِرْصُ الصَّحَابَةِ عَلَى امْتِثَالِ أوَامِرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مكة وبنيانها - رقم الحديث (1584) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جدر الكعبة وبابها - رقم الحديث (1333) (405). (¬2) انظر فتح الباري (4/ 242).

حفظ الله تعالى، نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أدران الجاهلية

حِفْظُ اللَّهِ تَعَالَى، نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَدْرَانِ (¬1) الجَاهِلِيَّةِ ظَلَّتْ حَيَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى البِعْثَةِ حَيَاةً فَاضِلَةً شَرِيفَةً، لَمْ تُعْرَفْ لَهُ فِيهَا هَفْوَةٌ، ولَمْ تُحْصَ عَلَيْهِ فِيهَا زَلَّةٌ، لَقَدْ شَبَّ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحُوطُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ، ويَحْفَظُهُ مِنْ أقْذَارِ الجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُهُ لهُ مِنْ كَرَامَتِهِ ورِسَالَتِهِ، حتَّى صَارَ أفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وأحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وأكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وأحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وأعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وأصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وأعْظَمَهُمْ أمَانَةً، وأبْعَدَهُمْ مِنَ الفُحْشِ والأَخْلَاقِ التِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، حتَّى صَارَ مَعْرُوفًا "بالأَمِينِ" -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يُعَدِّدُ نِعَمَهُ عَلَى عَبْدِهِ ورَسُولهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وسَلَامُهُ عَلَيْهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. .} وذَلِكَ أَنَّ أبَاهُ تُوُفِّيَ، وهُوَ حَمْلٌ في بَطْنِ أُمِّهِ عَلَيهِ السَّلامُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ، وله مِنْ العُمُرِ سِتُّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ في كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، إلى أَنْ ¬

_ (¬1) الدَّرَنُ: الوَسَخُ. انظر النهاية (2/ 108). ومنه حديثُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (528) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (667) - ولفظه: "أَرَأَيْتُمْ لوْ أَنَّ نَهْرا ببابِ أحَدِكم يغْتَسِلُ منهُ كُلَّ يومٍ خَمْسَ مرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ ". قالوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شيءٌ. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فذلكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا". (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (1/ 235).

* بغضت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأصنام

تُوُفِّيَ، وله مِنَ العُمُرِ ثَمَانِ سِنِينَ، فكَفِلَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، ثمَّ لَمْ يَزَلْ يَحُوطُهُ ويَنْصُرُهُ ويَرْفَعُ مِنْ قَدْرر ويُوَقِّرُهُ، ويَكُفُّ عَنْهُ أَذَى قَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ، هذَا وأبُو طَالِبٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وكُلّ ذَلِكَ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، إلى أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِقَلِيلٍ، فأقْدَمَ عَلَيْهِ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَجُهَّالُهُمْ، فاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَه الهِجْرَةَ مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِمْ إِلَى بَلَدِ الأَنْصَارِ مِنَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، كَمَا أجْرَى اللَّهُ تَعَالَى سُنَّتَهَ عَلَى الوَجْهِ الأَتَمِّ والأَكْمَلِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ آوَوْهُ، وَنَصَرُوهُ، وحَاطُوهُ، وقَاتَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ، وكُلُّ هَذَا مِنْ حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى لَه وَكَلَاءَتِهِ وعِنَايَتِهِ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * بُغّضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأصْنَامُ: ونَشَأَ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلِيمَ العَقِيدَةِ، صَادِقَ الإيمَانِ، عَمِيقَ التَّفَكُّرِ، غَيْرَ خَاضِعٍ لِتُرَّهَاتِ الجَاهِلِيَّةِ، فَمَا عُرِفَ عَنْهُ أَنَّهُ سَجَدَ لِصَنَمٍ قَطُّ، أَوْ تَمَسَّحَ بِهِ، أَوْ ذَهَبَ إلى عَرَّافٍ أَوْ كَاهِنٍ، بَلْ بُغِّضَ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الأَصْنَامِ، والتَّمَسُّحُ بِهَا، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنِي جَارٌ لِخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهُ سَمعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ لِخَدِيجَةَ: "أَيْ خَدِيجَةُ، وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ اللَّاتَ، وَاللَّهِ لَا أَعْبُدُ العُزَّى أَبَدًا". قَالَ: فتَقُولُ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خَلِّ اللَّاتَ، خَلِّ العُزَّى (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (8/ 426). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17947).

* بغض إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشعر

ولَمَّا لَقِيَ بَحِيرَا الرَّاهِبَ، قَالَ لَهُ بَحِيرَا: أسْأَلُكَ بِاللَّاتِ والعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أسْأَلُكَ عَنْهُ، وكَانَ بَحِيرَا سَمعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا، فقَالَ لهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَسْأَلْنِي بِحَقِّ اللَّاتِ والعُزَّى شَيْئًا، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضِي لَهُمَا" (¬1). وَرَوَى النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . كَانَ صَنَمَانِ مِنَ نُحَاسٍ يُقَالُ لَهُمَا: إسَافٌ، وَنَائِلَةُ يَتَمَسَّحُ بهِمَا المُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا (¬2)، فَطَافَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وطُفْتُ مَعَهُ، فلَمَّا مَرَرْتُ، مَسَحْتُ بِهِ، فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَمَسَّهُ"، قَالَ زَيْدُ: فَطُفْنَا، فَقُلْتُ في نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حتَّى أَنْظُرَ ما يَكُونُ، فَمَسَحْتُهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَمَسَّهُ، أَلمْ تُنْهَ؟ ". قَالَ زَيْدٌ: فَوَالَّذِي أكْرَمَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ ما اسْتَلَمَ صَنَمًا قَطُّ حتَّى أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بالذِي أَكْرَمَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ (¬3). * بُغِّضَ إلى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الشِّعْرُ: وكَذَلِكَ بُغِّضَ إِلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْلُ الشِّعْرِ (¬4) فَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ شِعْرًا، أَوْ ¬

_ (¬1) تقدَّم تخريج حديث بَحِيرا الرَّاهِب، وأنه صحيح. (¬2) يعنِي حَوْلَ الكَعْبَةِ. (¬3) أخرجه النسائي في السنن الكبري - كتاب المناقب - باب زيد بن عمرو بن نفيل - رقم الحديث (8132) - والذهبي في السيرة النبوية (1/ 73) وقال: هذا حديث حسن - وأورده الحافظ في الفتح (4/ 308) - وقوى إسناده. (¬4) روي الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25020) - والطيالسي في مسنده - رقم =

أَنْشَأَ قَصِيدَةً، أَوْ حَاوَلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ لا يَتَلاءَمُ ومَقَامُ النُّبُوَّةِ، ولَمْ يَكُنِ الشُّعَرَاءُ بِذَوِي الأخْلَاقِ، والسِّيرَةِ المَرْضِيَّةِ، فَلا عَجَبَ أَنْ نَزَّهَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَنِ الشِّعْرِ، والرِّسَالَةُ تَقْتَضِي انْطِلَاقًا في الأُسْلُوبِ والتَّعْبِيرِ، والشِّعْرُ تَقَيُّدٌ والْتِزَامٌ، وصَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (¬1). ومَعَ هَذَا فَقَدْ كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتَذَوَّقُ ما فِي الشِّعْرِ مِنْ جَمَالٍ، وَحِكْمَةٍ، ورَوْعَةٍ، ويَسْتَنْشِدُهُ أصْحَابَهُ أحْيَانًا (¬2)، ولا عَجَبَ فَهُوَ القَائِلُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا، وإنَّ مِنَ الشِّعْرِ حَكْمَةً" (¬3). ¬

_ = الحديث (1593) بسند صحيح علي شرط الشيخين عن أبي نوفلِ بنِ أبي عَقْرب قال: سألتُ عائشةَ: هل كَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُتَسَامَعُ عِنْدَهُ الشِّعْرُ؟ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ أبْغَضَ الحَدِيثِ إليهِ. (¬1) سورة يس آية (69). (¬2) روى الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2255) عن الشَّريدِ بن سُوَيدٍ الثَّقَفي -رضي اللَّه عنه- قال: رَدِفْتُ رسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَومًا، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ معكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بنِ أَبِي الصِّلْتِ شَيئًا؟ "، قلتُ: نَعَمْ قال: "هِيه" فأنشَدْتُهُ بَيتًا، فَقَالَ: "هِيه" ثم أنشَدْتُهُ بيتًا، فَقَالَ: "هِيه" حتَّى أنشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ. قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 10): ومقصودُ الحديثِ أَنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- استَحْسَنَ شِعْرَ أُميَّة، واستزادَ مِنْ إنشادِهِ؛ لِمَا فيهِ من الإقْرَارِ بالوَحْدَانِيَّةِ والبَعْثِ، ففيهِ جوازُ إنشادِ الشِّعْر الذي لا فُحْشَ فيه وسَمَاعُهُ، سَواءً شِعْرُ الجاهليّة وغيرهم، وَأَنَّ المَذْمُومَ منَ الشِّعر الذي لا فُحْشَ فيه إنما هو الإكثار مِنْهُ، وكَوْنه غَالبًا علي الإنْسَانِ، فأمَّا يَسِيرُهُ فلا بأسَ بإنْشَادِهِ، وسَمَاعِهِ، وحِفْظِهِ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح باب الخطبة - رقم الحديث (5146) - وأخرجه في كتاب الأدب - باب (90) - رقم الحديث (6145).

* لم يشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمرا، ولا قرب من فاحشة

وهُوَ القَائِلُ لِحَسَّانِ بنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1): "اهْجُ المُشْرِكِينَ، فإنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ" (¬2). * لَمْ يَشْرَبْ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْرًا، وَلَا قَرُبَ مِنْ فَاحِشَةٍ: ولَمْ يَشْرَبْ خَمْرًا قَطُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا اقْتَرَفَ فَاحِشَةً، ولا انْغَمَسَ فِيمَا كَانَ يَنْغَمِسُ فيهِ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ حِينَئِذٍ مِنَ اللَّهْوِ، واللَّعِبِ، والمَيْسِرِ، ومُصَاحبَةِ الأشْرَارِ ومُعَاشَرَةِ القِيَانِ (¬3)، . . . عَلَى ما كَانَ عَلَيْهِ مِنْ فتوَّةٍ وشَبَابٍ، وشَرَفٍ ونَسَبٍ، وعِزَّةِ قَبِيلَةٍ، وكَمَالٍ، وجَمَالٍ، وغَيْرِهَا مِنْ وَسَائِلِ الإغْرَاءِ. ولقَدْ كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَذْكُرُ ذلكَ، وهُوَ كَبِيرٌ، ويَعُدُّهُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيهِ، وعِصْمَتِهِ لَهُ، فقدْ رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ والحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "ما هَمَمْتُ بِقَبِيحٍ مِمَّا يَهُمُ بهِ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ مِنْهُمَا، قُلْتُ لَيْلَةً لِفَتًى كَانَ مَعِيَ منْ قُرَيْشٍ بِأَعْلَى مَكَّةَ في غَنَمٍ لِأَهْلِنَا ¬

_ (¬1) هو حسَّانُ بنُ ثابتِ بنِ المُنْذِرِ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ -رضي اللَّه عنه-، شاعرُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسيِّدُ الشُّعَرَاءِ المُؤْمِنِينَ، والمؤيَّدُ بِرُوحِ القُدُسِ، كان يَضَعُ لهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْبرًا في المَسْجِدِ يقُومُ عليهِ يُنَافِحُ عنهُ، عاشَ -رضي اللَّه عنه- سِتِّينَ سنَةً في الجاهليَّةِ، وسِتِّينَ سنةً في الإسلامِ، وماتَ -رضي اللَّه عنه- في خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ سنةَ أربعٍ وخَمْسِين منَ الهجرة. انظر الإصابة (2/ 55). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجعِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الأحزاب - رقم الحديث (4124) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2486). (¬3) القِيَانُ: الإِمَاءُ المُغَنِّيَاتُ. انظر النهاية (4/ 118).

* كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقف بعرفة مع الناس

نَرْعَاهَا: أبْصِرْ لِي غَنَمِي حتَّى أسْمُرَ (¬1) هذِهِ اللَّيْلةَ كَمَا يَسْمُرُ الفِتْيَانُ، قَالَ: نَعَمْ، فَخَرَجْتُ، فلَمَّا جِئْتُ أدْنَى دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ، سَمِعْتُ غِنَاءً وصَوْتَ دُفُوفٍ ومَزَامِيَر، قُلْتُ: ما هَذَا؟ قالُوا: فُلَانٌ تَزَوَّجَ فُلَانَةً، لِرَجُلٍ منْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَهَوْتُ بذَلِكَ الغِنَاءَ وبذَلِكَ الصَّوْتِ حتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فَنِمْتُ، فمَا أيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، فَرَجَعْتُ إلى صَاحِبِي، فقَالَ: مَا فَعَلْتَ؟ فأخْبَرْتُهُ، ثُمَّ فَعَلْتُ لَيْلَة أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجْتُ، فَسَمِعْتُ مِثْلَ ذلكَ، فَقِيلَ لِي مِثْلَ ما قِيلَ لِي، فسَمِعْتُ كَمَا سَمِعْتُ، حتَّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي، فمَا أيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إلى صَاحِبِي، فَقَالَ لِي: مَا فَعَلْتَ؟ فقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا". قَالَ رسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَوَاللَّهِ ما هَمَمْتُ بَعْدَهُمَا بِسُوءِ مِمَّا يَعْمَلُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ حتى أكْرَمَنِي اللَّهُ بِنُبُوَّتهِ" (¬2). * كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقِفُ بِعَرَفَةَ معَ النَّاسِ: وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بَعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وذَلِكَ ¬

_ (¬1) السَّمَرُ: همُ القومُ الذينَ يَسْمَرُونَ بالليلِ أي يَتَحَدَّثُونَ. انظر النهاية (2/ 359). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب بدء الخلق - رقم الحديث (6272) - والحاكم في المستدرك - كتاب التوبة والإنابة - باب عصمة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من عمل الجاهلية قبل النبوة - رقم الحديث (7693).

* كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معروفا بالأمانة

مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يَصْنَعُ ما تَصْنَعُ قُرَيْشٌ مِنْ عَدَمِ وُقُوفِهَا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، ووُقُوفُهَا بِالمُزْدَلِفَةِ، فَقَدْ رَوى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جبيْرِ بنِ مُطْعِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَدَخَلْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاقِفًا مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ. . . (¬1). * كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعْرُوفًا بالأَمَانَةِ: وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَحَلَّ ثِقَةِ النَّاسِ وأمَانَاتِهِمْ، لا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى وَدِيعَةٍ مِنَ الوَدَائِعِ إِلَّا أدَّاهَا لَهُ، ولا يَأْتَمِنُهُ أَحَدٌ عَلَى سِرٍّ أَوْ كَلامٍ إِلَّا وَجَدَهُ عِنْدَ حُسْنِ الظَّنِّ بهِ، فلا عَجَبَ أَنْ كَانَ مَعْرُوفًا في قُرَيْشٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بالأمِينِ. * كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ: وَكَانَ الصِّدْقُ مِنْ صِفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَارِزَةِ، شَهِدَ لهُ بِذَلِكَ العَدُوُّ والصَّدِيقُ، ولمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلى النَّاسِ جَمِيعًا، وأمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الأقْرَبِينَ، صارَ يُنَادِي بُطُونَ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا حضَرُوا قَالَ لَهُمْ: "أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ، أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ كُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا قَطُّ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الوقوف بعرفة - رقم الحديث (1664) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب في الوقوف. . . - رقم الحديث (1220). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} - رقم الحديث (4770) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} - رقم الحديث (4971) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} - رقم الحديث (208).

* كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصولا للرحم

ولمَّا قَالَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ لِأَبِي سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ -وَكَانَ لَمْ يَزَلْ مُشْرِكًا-: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا، فقَالَ هِرَقْلُ: فَقَدْ عَرَفْتُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ويَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ (¬1). قَالَ أحْمَد شَوْقي رَحِمَهُ اللَّهُ: بِسِوَى الأَمَانَةِ في الصِّبَا والصِّدْقِ لَمْ ... يَعْرِفْهُ أَهْلُ الصِّدْقِ والأُمَنَاءُ يا مَنْ لَهُ الأَخْلَاقُ مَا تَهْوَى الْعُلَا ... مِنْهَا ومَا يَتَعَشَّقُ الكُبَرَاءُ لَوْ لَمْ تَقُمْ دِينًا لَقَامَتْ وَحْدَهَا ... دِينًا تُضِيءُ بِنُورِهِ الآنَاءُ زَانَتْكَ فِي الخُلُقِ العَظِيمِ شَمَائِلٌ ... يُغْرَى بِهِنَّ ويُولَعُ الكُرَمَاءُ * كان رسُوُل اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصُولًا للرَّحِمِ: وَكَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصُولًا لِلرَّحِمِ، عَطُوفًا عَلَى الفُقَرَاءِ، وذَوِي الحَاجَةِ، ويُقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينُ الضَّعِيفَ، ويَمْسَحُ بِيَدَيْهِ بُؤْسَ البَائِسِينَ، ويُفَرِّجُ كَرْبَ المَكْرُوبِينَ، وقَدْ وَصَفَتْهُ بهَذَا أُمُّ المُؤْمِنِينَ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في بَدْءِ الوَحْيِ، فقالتْ: كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ (¬2)، وتُكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (7) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل. . - رقم الحديث (1773). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 174): الكَلُّ: بفتح الكاف، وأصلُهُ الثِّقَلُ، ويدخل في حَمْلِ الكَلِّ الإنفاقُ علي الضَّعِيفِ، واليتيمِ والعِيَالِ، وغير ذلك. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب رقم (3) - رقم الحديث (3) - =

ومِنْ هَذَا العَرْضِ المُوجَزِ نَرَى أَنَّ حيَاةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ البِعْثَةِ كَانَتْ أمْثَلَ حيَاةٍ وأكْرَمَهَا، وأحْفَلَهَا بِمَعَانِي الإِنْسَانِيَّةِ، والشَّرَفِ، والكَرَامَةِ، وعَظَمَةِ النَّفْسِ، ثُمَّ نَبَأَهُ اللَّهُ تَعَالَى وبَعَثَهُ، فنَصَتْ هَذِهِ الفَضَائِلُ وترَعْرَعَتْ، وما زَالَتْ تَسْمُو فُرُوعُهَا، وتَرْسُخُ أُصُولُهَا، وتَتَّسِعُ أفْيَاؤُهَا حتَّى أضْحَتْ فَرِيدَةً في تَارِيخِ الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا. إِنَّ هذِهِ الحَيَاةَ الفَاضِلَةَ المُثْلَى لَمِنْ أكْبَرِ الدَّلَائِلِ عَلَى ثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَا سَمِعْنَا في تَارِيخِ الدُّنْيَا قَدِيمِهَا، وحَدِيثِهَا أَنَّ حَيَاةً كُلَّهَا فَضْلٌ وكَمَالٌ، وهُدًى ونُورٌ، وحَقٌّ وخَيْرٌ، كحَيَاةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَمْ يُعْهَدْ في تَارِيخِ البَشَرِ أَنَّ شَخْصًا يَسْمُو عَلَى كُلِّ مُجْتَمَعِهِ وهُوَ يَعِيشُ فيهِ، ويَنْشَأُ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ نَقَائِصِهِ ومَثَالِبِهِ، وهُوَ نَابِعٌ مِنُه، ولا أَنَّ نُورًا يَنْبَعِثُ مِنْ وَسَطِ ظُلُمَاتٍ، ولا طَهَارَةً تَنْبُعُ مِنْ وَسَطِ أدْنَاسٍ، وأرْجَاسٍ، ولا أَنَّ عِلْمًا يكُونُ مِنْ بَيْنِ جَهَالَاتٍ وخُرَافَاتٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لحِكْمَةٍ، وأَمْرًا جَرَى عَلَى غَيْرِ المَعْهُودِ والمَأْلُوفِ، ومَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِعْدَادِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلنُّبُوَّةِ (¬1). قَالَ البُوصِيرِيُّ: كَفَاكَ بِالعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَةً ... في الجَاهِلِيَّةِ والتَّأْدِيبِ في الْيُتْمِ ¬

_ = ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (160). (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبو شهبة (1/ 239).

قَالَ ابنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ: فَشَبَّ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واللَّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ ويَحْفَظُهُ، ويَحُوطُهُ مِنْ أقْذَارِ الجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ بهِ مِنْ كَرَامَتِهِ ورِسَالَتِهِ، حتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا، وأفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وأحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وأكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وأحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وأعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وأصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وأعْظَمَهُمْ أمَانةً، وأبْعَدَهُمْ مِنَ الفُحْشِ والأَخْلَاقِ التِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ، تَنَزُّهًا وتَكَرُّمًا، حتَّى مَا اسْمُهُ في قَوْمِهِ إِلَّا "الأمِينُ"، لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الأُمُورِ الصَّالِحَةِ (¬1). وَقَالَ القَاضِي عِياضٌ: وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَجْبُولًا عَلَيْهَا -أيْ الأخْلَاقِ الحَمِيدَةِ- في أصْلِ خِلْقَتِهِ وَأَوَّلِ فِطْرَتِهِ، لمْ تَحْصُلْ لهُ بِاكْتِسَابٍ ولا رِيَاضَةٍ إِلَّا بِجُودٍ إلَهِيٍّ وخُصُوصِيَّهٍ رَبَّانِيَّةٍ (¬2). وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والذِي لا رَيْبَ فيهِ: أَنَّ المُصْطَفَى -صلى اللَّه عليه وسلم- كان مَعْصُومًا قَبْلَ الوَحْي، وبَعْدَهُ، وقَبْلَ التَّشْرِيعِ مِنَ الزِّنَى قَطْعًا، ومِنَ الخِيَانَةِ والكَذِبِ، والسُّكْرِ، والسُّجُودِ لِوَثَنٍ، والاسْتِقْسَامِ بالأزْلَامِ، ومِنَ الرَّذَائِلِ، والسَّفَهِ وبَذَاءِ اللِّسَانِ، وكَشْفِ العَوْرَةِ، فَلَمْ يَكُنْ يطُوفُ عُرْيَانًا، ولا كَانَ يَقِفُ يَوْمَ عَرَفَةَ مَعَ قَوْمِهِ بِمُزْدَلِفَةٍ، بلْ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ، وبِكُلِّ حالٍ لَوْ بَدَا مِنْهُ شَيْءٌ منْ ذَلِكَ لَمَا كَانَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ لِأَنَّهُ كَانَ لا ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 220). (¬2) انظر الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 89).

* قلق غامض وعدم ترقب لنبوة أو رسالة

يَعْرِفُ، ولَكِنْ رُتْبَةُ الكَمَالِ تَأْبَى وُقُوعَ ذَلِكَ مِنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وَقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ قَرَأْنَا سِيَرَ الحُكَمَاءِ والفَلاسِفَةِ، والعَبَاقِرَةِ، والمُصْلِحِينَ، وأَصْحَابَ النِّحَلِ، والمَذَاهِبِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، فمَا وَجَدْنَا حَيَاةَ أحَدٍ مِنْهُمْ تَخْلُو مِنَ الشُّذُوذِ عنِ الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، والتَّفْكِيرِ الصَّحِيحِ، والخُلُقِ الرَّضِيِّ، إمَّا مِنْ نَاحِيَةِ العَقِيدَةِ والتَّفْكِيرِ، وإمَّا مِنْ نَاحِيَةِ السُّلُوكِ والأخْلَاقِ، وغَايَةُ مَا يُقَالُ في أسْمَاهُمْ وأزْكَاهُمْ: كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَنْ تُعَدَّ مَعَايِبُهُ! حَاشَا الأنْبِيَاءَ والمُرْسَلِينَ، فَقَدْ نَشَّأَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَلَى أكْمَلِ الأَحْوَالِ، وعَظِيمِ الأخْلَاقِ، وقدْ بَلَغَ الذُّرْوَةَ في الكَمَالِ خَاتَمُهُمْ وسَيِّدُ البَشَرِ كُلِّهِمْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * قَلَقٌ غَامِضٌ وَعَدَمُ تَرَقُّبٍ لِنُبُوَّةٍ أَوْ رِسَالَةٍ: وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجِدُ في نَفْسِهِ قَلَقًا غَامِضًا لا يَعْرِفُ مَصْدَرُهُ ولَا مَصِيرَهُ، ومَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِهِ لَحْظَةً، مَا اللَّهُ مُكْرِمُهُ بِهِ مِنَ الوَحْي والرِّسَالَةِ، ولا يَحْلُمُ بِذَلِكَ في يَوْمٍ مِنَ الأيَّامِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 130، 131). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبو شهبة (1/ 240). (¬3) سورة الشورى آية (52).

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} (¬1). إِنَّ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَسْتَشْرِفُ للنُّبُوَّةِ، ولا يَحْلُمُ بهَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُلْهِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى الخَلْوَةَ لِلْعِبَادَةِ تَطْهِيرًا، وإعْدَادًا رُوحِيًّا لَتَحَمُّلِ أعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، ولَوْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَشْرِفُ للنُّبُوَّةِ لَمَا فَزعَ مِنْ نُزُولِ الوَحْي عَلَيْهِ، ولَمَا نَزَلَ إلى خَدِيجَةَ يَسْتَفْسِرُهَا عَنْ سِرِّ تِلْكَ الظَّاهِرَةِ التِي رَآهَا في غَارِ حِرَاءٍ، ولَمْ يَتَأَكَّدْ مِنْ أَنَّهُ رسُولٌ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الوَحْي عَلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ فَتْرَةِ الوَحْي (¬2). وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وتَرْبِيَتِهِ، أَنْ نَشَأَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمِّيًّا لا يَقْرَأُ ولا يَكْتُبُ، فَكَانَ أبْعَدَ عَنْ تُهَمَةِ الأَعْدَاءِ، وَظِنَّةِ المُفْتَرِينَ، وإلى ذَلِكَ أشَارَ القُرْآنُ الكَرِيمُ: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (¬3). وقَدْ لَقَّبَهُ القُرْآنُ الكَرِيمُ بِالأُمِّيِّ فقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (¬4). * * * ¬

_ (¬1) سورة القصص آية (86). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة دروس وعبر ص 48 للدكتور مصطفى السباعي. (¬3) سورة العنكبوت آية (48). (¬4) سورة الأعراف آية (157).

إرهاصات البعثة

إِرْهَاصَات (¬1) البِعْثَةِ * حَجْبُ الشَّيَاطِينِ عَنِ اسْتِرَاقِ (¬2) السَّمْعِ عِنْدَ قُرْبِ مَبْعَثِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قال ابنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا تَقَارَبَ أمْرُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وحَضَرَ مَبْعَثُهُ، حُجِبَتِ الشَّيَاطِينُ عَنِ السَّمْعِ، وحِيلَ (¬3) بَيْنَهَا وبَيْنَ المَقَاعِدِ التِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاستِرَاقِ السَّمْعِ فِيهَا، فَرُمُوا بالنُّجُومِ، فَعَرَفَتِ الجِنُّ أَنَّ ذلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِي العِبَادِ، يقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ بَعَثَهُ، وهُوَ يَقُصُّ علَيْهِ خَبَرَ الجِنِّ إذْ حُجِبُوا عَنِ السَّمْع، فَعَرَفُوا ما عَرَفُوا، ومَا أنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ رَأَوْا مَا رَأَوْا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (¬4) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ¬

_ (¬1) الإرهَاصَاتُ: أي المُقَدِّمَاتُ. انظر لسان الرب (5/ 343). (¬2) تَسْتَرِقُ السَّمْعَ: من السَّرِقَةِ، أي أنها تَسْتَمِعُ الخبرَ مِنَ السَّماءِ مُخْتَفِيَةً كَمَا يفعلُ السَّارقُ. انظر النهاية (2/ 326). (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 674): حِيلَ: بكسر الباء أي حُجِرَ ومُنِعَ. (¬4) سورة الجن آية (1 - 6).

* متى حدث هذا الرصد؟

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} (¬1). فَلَمَّا سَمِعَتِ الجِنُّ القُرْآنَ عَرَفَتْ أَنَّهَا إِنَّمَا مُنِعَتْ مِنَ السَّمْعِ قَبْلَ ذلِكَ، لِئَلَّا يَشْكُلَ الوَحْيُ بِشَيْءٍ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَيَلْتَبِسَ عَلَى أهْلِ الأَرْضِ ما جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فيهِ، لِوُقُوعِ الحُجَّةِ، وقَطْعِ الشُّبْهَةِ، فآمَنُوا وصَدَّقُوا، ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، {قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). * مَتَى حَدَثَ هَذَا الرَّصدُ (¬3)؟ : اخْتُلِفَ في هَذَا الرَّصْدِ هَلْ كَانَ قَبْلَ البِعْثَةِ أمْ بَعْدَهَا؟ وهَلْ كَانَ مُسْتَمِرًّا أمْ عَلَى فَتَرَاتٍ؟ رَوَى الشَّيْخانِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا قَرَأَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الجِنِّ وَمَا رَآهُمْ (¬4)، انْطَلَقَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ¬

_ (¬1) سورة الجن آية (9 - 10). (¬2) سورة الأحقاف آية (29 - 30) - وانظر الخبر في سيرة ابن هشام (1/ 241 - 242). (¬3) التَّرَصُّدُ: التَّرَقُّبُ. انظر لسان العرب (5/ 223). (¬4) قال البيهقي في دلائل النبوة (2/ 227): وهذا الذي حكاه ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنما هو في أوَّل ما سمعت الجنّ قِراءة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعلِمَتْ بحَالِهِ، وفي ذلك الوقتِ لمْ يَقْرَأ عليهم، ولم يَرَهُمْ، كما حكاه، ثم أتَاهُ داعِي الجِنِّ مرَّة أُخرى، فذهب معهُ، وقرأ عليهمُ القُرْآن، كما حكاه عبدُ اللَّه بن مسعودٍ -رضي اللَّه عنه-، ورأى آثارهُمْ، وآثَارَ نِيرَانِهِمْ، واللَّهُ أعلمُ.=

عَامِدِينَ (¬1) إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلى قَوْمِهِمْ، فقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ، قَالُوا: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءَ إِلَّا شَيْءٌ حَدَثَ، فاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا، فَانْظُرُوا ما هَذَا الذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَانْطَلَقَ الذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ بِنَخْلَةٍ (¬2) عَامِدًا إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الفَجْرِ (¬3)، فلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ، اسْتَمَعُوا لَهُ، وقَالُوا: هَذَا وَاللَّهِ الذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءَ، قَالَ: فَهُنَالِكَ حِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَقَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} الآية، فأنْزَلَ اللَّهُ ¬

_ = وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 562): فيُجْمَعُ بين ما نَفَاهُ، وما أثْبَتَةُ ابنُ عبَّاسٍ، وغيره بتعدُّدِ وُفُودِ الجِنِّ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمَّا ما وَقَعَ بمكَّةَ فكان لِاسْتِمَاعِ القرآن، والرُّجُوعِ إلى قَوْمِهِمْ مُنذرينَ كما وقعَ في القرآن، وَأَمَّا في المدينةِ فَلِلسُّؤَالِ عنِ الأحكامِ، وذلكَ بَيِّنٌ في الحَدِيثَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، ويحتمل أَنْ يَكُونَ القُدُومُ الثاني كَانَ أيضًا بِمَكَّةَ، وهو الذي يَدُلُّ عليه حديثُ ابنِ مسعودٍ، وأما حديث أبي هُريرة فليسَ فيه تَصْرِيحٌ بأن ذلك وقعَ بالمدينةِ، ويحتملُ تَعَدُّدَ القُدُومِ بمكَّةَ مرتين، وبالمدينة أيضًا. (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 674): عَامِدِينَ: أي قَاصِدِينَ. (¬2) نخلة: هو موضع بالحجاز قريب من مكة، فيه نخل وزرع. انظر معجم البلدان (8/ 381). (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 675): ولا يُعَكّر على ذلك إلا قوله في هذا الخبر إنهم رأوْهُ يُصلي بأصحابه صَلاةَ الفَجْرِ. . . فيكونُ إطلاقُ صَلاةِ الفَجْرِ في حديث الباب باعتبارِ الزَّمَانِ، لا لكونِهَا إحدى الخَمْسِ المَفْرُوضَةِ لَيْلَةَ الإسْرَاءِ، فتكونُ قصَّةُ الجِنَّ متقدِّمةً مِنْ أوَّلِ المَبْعَثِ.

عَلَى نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ. . .}، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ (¬1). وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ والإمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الجِنُّ يَسْتَمِعُونَ الوَحْيَ فيَسْتَمِعُونَ الكَلِمَةَ فَيَزِيدُونَ فِيهَا عَشْرًا، فَيَكُونُ مَا سَمِعُوا حَقًّا، ومَا زَادُوهُ بَاطِلًا، وَكَانَتِ النُّجُومُ لا يُرْمَى بهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ أحَدُهُمْ لا يَأْتِي مَقْعَدَهُ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ يُحْرِقَ ما أصَابَ، فشَكَوْا ذَلِكَ إلى إبْلِيسَ، فقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا مِنْ أمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَبَثَّ جُنُودَهُ، فإذا هُمْ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْ نَخْلَةٍ، فأتَوْهُ فأخْبَرُوهُ، فقَالَ: هَذَا الحَدَثُ الذِي حَدَثَ في الأَرْضِ (¬2). قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ: ذَكَرَ عبدُ الرَّزَّاقِ، في تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الرَّمْي بِالنُّجُومِ: أكَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، ولَكِنَّهُ إذْ جَاءَ الإِسْلَامُ غُلِّظَ وَشُدِّدَ (¬3). وفي قَوْلهِ تَعَالَى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب الجهر بقراءة صلاة الفجر - رقم الحديث (773) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قال ابن عباس: لِبَدًا أعوانًا - رقم الحديث (4921) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن - رقم الحديث (449). (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة الجن - رقم الحديث (3613)، وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (2482). (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 676): وهذا جمعٌ حسن.

* هل انقطع هذا الرمي بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟

وَشُهُبًا}، ولَمْ يَقُلْ: حُرِسَتْ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ، فلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا، وذَلِكَ لِيَنْحَسِمَ أمْرُ الشَّيَاطِينِ، وتَخْلِيطُهُمْ، ولتَكُونَ الآيَةُ أَبْيَنَ، والحُجَّةُ أقْطَعَ، وإِنْ وُجِدَ اليَوْمَ كَاهِنٌ، فَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بِمَا أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَرْدِ الشَّيَاطِينِ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّغْلِيظَ والتَّشْدِيدَ كَانَ زَمَنَ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ بَقِيَتْ مِنْهُ، أعْنِي مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ بَقَايَا يَسِيرَةٌ بِدَلِيلِ وُجُودِهِمْ عَلَى النُّدُورِ في بَعْضِ الأزْمِنَةِ، وفِي بَعْضِ البِلَادِ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} فَمَعْنَاهُ الشُّهُبُ كَانَتْ تَرْمِي فَتُصِيبُ تَارَةً ولا تُصِيبُ تَارَةً أُخْرَى، وبَعْدَ البِعْثَةِ أصَابَتْهُمْ إصَابَةً مُسْتَمِرَّةً فَوَصَفُوهَا لِذَلِكَ بالرَّصْدِ، لأَنَّ الذِي يَرْصُدُ الشَّيْءَ لا يُخْطِئُهُ، فيَكُونُ المُتَجَدِّدُ دَوَامُ الإِصَابَةِ لا أصْلُهَا، وَأَمَّا قَوْلُ السُّهَيْلِيِّ: لَوْلَا أَنَّ الشِّهَابَ قَدْ يُخْطِئُ الشَّيْطَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَجَوَابُهُ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّعَرُّضُ مَعَ تَحَقُّقِ الإِصَابَةِ لِرَجَاءَ اخْتِطَافِ الكَلِمَةِ، وإلْقَائِهَا قَبْلَ إصَابَةِ الشِّهَابِ، ثُمَّ لا يُبَالِي المُخْتَطِفُ بِالإِصَابَةِ لِمَا طُبعَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ (¬2). * هَلْ انْقَطَعَ هَذَا الرَّمْيُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمْ لَا؟ : فإنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الرَّمْيُ غُلِّظَ وشُدِّدَ بِسَبَبِ نُزُولِ الوَحْي، فَهَلِ انْقَطَعَ ¬

_ (¬1) انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 356) (¬2) انظر فتح الباري (9/ 677).

بِانْقِطَاعِ الوَحْي -أَيْ بِمَوْتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمْ لَا. .؟ . فالجَوَابُ: يُؤْخَذُ منْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ المُتَقَدِّمِ، فَفِيهِ: قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، ومَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنَّهَا لا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، ولَكِنْ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. . . قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَوَاتِ بَعْضًا، حتَّى يَبْلُغ الخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطِفُ الجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ. . . " (¬1). فيؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ التَّغْلِيظِ والحِفْظِ لَمْ يَنْقَطِعْ لِمَا يَتَجَدَّدُ مِنَ الحَوَادِثِ التِي تُلْقَى بِأَمْرِهِ إِلَى المَلَائِكَةِ، فإنَّ الشَّيَاطِينَ مَعَ شِدَّةِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ بَعْدَ البَعْثِ لَمْ يَنْقَطِعْ طَمَعُهُمْ في اسْتِرَاقِ السَّمْعِ في زَمَن النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فكيْفَ بِمَا بَعْدَهُ. وقدْ قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- لِغَيْلَانَ بنِ سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا طَلَّقَ نِسَاءَهُ: إنِّي لَأَظُنُّ الشَّيْطَانَ فِيمَا يَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ سَمعَ بِمَوْتِكَ، فَقَذَفَهُ فِي نَفْسِكَ. . (¬2). فهَذَا ظَاهِرٌ في أَنَّ اسْتِرَاقَهُمُ السَّمْعَ اسْتَمَرَّ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكَانُوا يَقْصِدُونَ اسْتِمَاعَ الشَّيْءِ مِمَّا يَحْدُثُ فَلا يَصِلُونَ إلى ذَلِكَ، إِلَّا إنِ اخْتَطَفَ أحَدُهُمْ بِخِفَّةِ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان - رقم الحديث (2229). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4631) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4156) - وإسناده صحيح.

* وهم ابن إسحاق وابن سعد

حَرَكَتِهِ خَطْفَةً، فَيَتْبَعُهُ الشِّهَابُ، فَإِنْ أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا لِأَصْحَابِهِ فَأَتَتْ وإِلَّا سَمِعُوهَا، وتَدَاوَلُوهَا، وهَذَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِ الإِمَامِ السُّهَيْلِيِّ المُقَدَّمِ ذِكْرُهُ (¬1). * وَهْمُ ابْنِ إسْحَاقَ وابنِ سَعْدٍ: قُلْتُ: ذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ (¬2)، وابْنُ سَعْدٍ (¬3): أَنَّ إسْلَامَ الجِنِّ والْتِقَائَهُمْ بالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يَقْرَأُ القُرْآنَ -لِأَوَّلِ مَرَّةٍ- كَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الطَّائِفِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ذَكَرَ مُحَمَّدُ بنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ قِصَّةَ خُرُوجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الطَّائِفِ، ودُعَائِهِ إيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وإبَائِهِمْ عَلَيْهِ، فَذَكَرَ القِصَّةَ بِطُولِهَا، وأورَدَ ذَلِكَ الدُّعَاءَ الحَسَنَ: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وقِلَّةَ حِيلَتِي. . إِلَى آخِرِهِ". قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ بَاتَ بِنَخْلَةٍ، فَقَرَأَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ القُرْآنِ، فَاسْتَمَعَهُ الجِنُّ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وهَذَا صَحِيحٌ، ولَكِنْ قَوْلُهُ: إِنَّ الجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الجِنَّ كَانَ اسْتِمَاعُهُمْ في ابْتِدَاءِ الإيحَاءَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 677). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 35). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 102). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (7/ 290).

* حديث ضعيف

وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: والذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الحَدِيثِ (¬1) الذِي فِيهِ المُبَالَغَةُ في رَمْيِ الشُّهُبِ لِحِرَاسَةِ السَّمَاءِ مِنِ اسْتِرَاقِ الْجِنِّ السَّمْعَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ المَبْعَثِ النَّبَوِيِّ، وإنْزَالِ الوَحْي إلى الأَرْضِ، فَكَشَفُوا ذَلِكَ إِلَى أَنْ وَقَفُوا عَلَى السَّبَبِ، ثُمَّ لمَّا انْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ، وأسْلَمَ مَنْ أسْلَمَ، قَدِمُوا فَسَمِعُوا، فأسْلَمُوا، ثُمَّ تَعَدَّدَ مَجِيئُهُمْ حَتَّى فِي المَدِينَةِ (¬2). وَقَالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ فِي الفَتْحِ: والذِي تَضَافَرَتْ بِهِ الأَخْبَارُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَهُمْ في أوَّلِ البِعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ ... فَتَكُونُ قِصَّةُ الجِنِّ مُتَقَدِّمَةً مِنْ أوَّلِ المَبْعَثِ، وهَذَا المَوْضِعُ مِمَّا لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِمَّنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلامِهِمْ في شَرْحِ هَذَا الحَدِيثِ (¬3). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: وَأَمَّا مَا أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ، وأبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ لِي رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ الجِنِّ: "مَا فِي إِدَاوَتِكَ (¬4)؟ ، أَوْ رَكْوَتِكَ؟ " (¬5). ¬

_ (¬1) هو حديثُ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الذِي ذكَرْنَاهُ قَبْلَ قَلِيلٍ مِنْ أمْرِ التِبَاسِ الأمْرِ على الجِنِّ، وبسَبَبِ إرسَالِ الشُّهُبِ عليهم. (¬2) انظر فتح الباري (7/ 563). (¬3) انظر فتح الباري (9/ 674). (¬4) الإدَاوَةُ: بكَسْرِ الهمزةِ إنَاءٌ صَغِيرٌ من جِلْدٍ يُتَّخَذُ للمَاءِ. انظر النهاية (1/ 36). (¬5) الرَّكْوَةُ: بفتحِ الرَّاء إناءٌ صغيرٌ مِنْ جِلدٍ يُشْرَبُ فيهِ الماءُ. انظر النهاية (2/ 237).

قلتُ: نَبِيذٌ، قَالَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، ومَاءٌ طَهُورٌ"، فتَوَضَّأَ مِنْهُ (¬1). فهَذَا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ، فإنَّ رسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ لَيْلَةَ لِقَائِهِ بِالجِنِّ أَوَّلَ مَرَّةٍ. قال الحافِظُ في الفَتْحِ: هذَا الحَدِيثُ أطْبَقَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ عَلَى تَضْعِيفِهِ (¬2). قُلْتُ: وقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ لَيْلَةَ الجِنِّ مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلَ مَرَّةٍ-، ولَفْظُهُ: قَالَ عَلْقَمَةُ: قُلْتُ لِابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: هَلْ صَحِبَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ الجِنِّ مِنْكُمْ أَحَدٌ؟ فقَالَ: مَا صَحِبَهُ مِنَّا أَحَدٌ، ولَكِنَّا قَدْ فَقَدْنَاهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُلْنَا: أُغْتِيلَ؟ اسْتُطِيرَ (¬3)؟ مَا فَعَلَ؟ قَالَ: فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فلَمَّا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ -أَوْ قَالَ فِي السَّحَرِ- إِذَا نَحْنُ بهِ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ، فقُلْنَا: يا رسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرُوا الذِي كَانُوا فِيهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الطهارة - باب الوضوء بالنبيذ - رقم الحديث (88) - وأبو داود في سننه - كتاب الطهارة - باب الوضوء بالنبيذ - رقم الحديث (84) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3782) (3810) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5047). (¬2) انظر فتح الباري (1/ 471). (¬3) قال النووي في شرح مسلم (4/ 141): معنى استُطِير: أي طارت به الجنّ.

* تعدد وفود الجن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-

فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهُ أتَانِي دَاعِي الجِنِّ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ". قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: فانْطَلَقَ بِنَا، فَأَرَانِي آثَارَهُمْ، وآثَارَ نِيرَانِهِمْ (¬1). * تَعَدُّدُ وفُودِ الجِنِّ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثَبَتَ تَعَدُّدُ وُفُودِ الجِنِّ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّ الذِينَ جَاؤُوا أَوَّلًا كَانَ سَبَبُ مَجِيئِهِمْ مَا ذُكِر في الحَدِيثِ مِنْ إرْسَالِ الشُّهُبِ، وسَبَبُ مَجِئِ الذِينَ في قِصَّةِ ابنِ مَسْعُودٍ (¬2) أَنَّهُمْ جَاؤُوا لِقَصْدِ الإسْلَامِ، وسَمَاعِ القُرْآنِ، والسُّؤَالِ عَنْ أَحْكَامِ الدِّينِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (¬3)، وهُوَ مِنْ أَقْوَى الأَدِلَّةِ عَلَى تَعَدُّدِ القِصَّةِ، فإنَّ أبَا هُريرَةَ إِنَّمَا أسْلَمَ بَعْدَ الهِجْرَةِ، والقِصَّةُ الأُولَى كَانَتْ عَقِبَ المَبْعَثِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الجَهْرِ بالقرآن في الصبح والقراءة على الجنّ - رقم الحديث (450) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4149). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن - رقم الحديث (450) (150) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4149). (¬3) حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أخرجه: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب ذكر الجن - رقم الحديث (3860). (¬4) انظر فتح الباري (9/ 678).

مقدمات نزول الوحي

مُقَدِّماتُ نُزُول الْوَحْي فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بَدَأَتْ تَلُوحُ آثَارُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمِنْ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَالْآثَارِ: * أَوَّلًا: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ: أوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ النُّبُوَّةِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ (¬1)، فكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ (¬2)، حَتَّى مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ بُدِئَ بِالْوَحْيِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. روَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَاُ بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ (¬3). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 34) بُدِئَ بالرُّؤيَا الصَّادقَةِ ليكُونَ تَمْهِيدًا وتَوْطِئَةً لليَقَظَةِ. وفي رواية أخرى في الصَّحيح: الرُّؤيا الصَّالِحَة. قال الحافظ في الفتح (14/ 377): وهُمَا بمعنى واحِدٍ بالنِّسبةِ إلى أمُورِ الآخِرَةِ في حقِّ الأنبياءِ، وأما بالنِّسبَةِ إلى أمُورِ الدُّنْيَا فالصَّالحَةُ في الأصلِ أخَصُّ، فرُؤْيَا النَّبِيِّ كلّهَا صَادِقَةٌ وقدْ تكُونُ صَالِحَةً وهي الأكثرُ، وغيرُ صالِحَةٍ بالنِّسْبَةِ للدُّنْيَا كَمَا وقعَ في الرُّؤْيَا يَوْمَ أحُدٍ. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 34): المُرَادُ بِفَلَقِ الصُّبْحِ ضِيَاؤُهُ، وخُصَّ بالتَّشْبِيهِ لِظُهُورِهِ الواضِحِ الذي لا شَكَّ فيهِ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب رقم (3) - رقم الحديث (3) =

* ثانيا: حب النبي -صلى الله عليه وسلم- للخلوة

* ثَانِيًا: حُبُّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْخَلْوَةِ: وَلَمَّا تَقَارَبَتْ سِنُّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْأَرْبَعِينَ حَبَّبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ، فكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَهْجُرُ مَكَّةَ كُلَّ عَامٍ لِيَقْضيَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ (¬1)، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثُ (¬2) بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. ¬

_ = - وأخرجه في كتاب التفسير - باب (1) - رقم الحديث (4923) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (160). (¬1) حِراءٌ: بكسر الحاء، غارٌ صَغيرٌ في جبَلٍ من جِبَالِ مكَّةَ، يُعرف بجبَلِ النُّورِ. انظر النهاية (1/ 362). قال ابن أبي جَمْرَةَ فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (14/ 377): الحكمةُ في تَخْصِيصِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتَّخَلِّي في غَارِ حِرَاءٍ أَنَّ المُقِيمَ فيه كان يُمْكِنُهُ رُؤيةُ الكعبةِ، فيجتَمِعُ لِمنْ يَخْلُو فيه ثلاثُ عِبَادَاتٍ: الخَلْوة، والتَّعَبُّدُ، والنَّظَرُ إلى البيتِ. (¬2) يَتَحَنَّثُ: أي يَتَعَبَّدُ. انظر النهاية (1/ 432). قال الحافظ في الفتح (9/ 736): . . . وهذا يلتفت إلى مَسْألةٍ أُصُوليّةٍ، وهو أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- هَلْ كَانَ قبلَ أَنْ يُوحى إليهِ مُتَعبدًا بشريعةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ؟ . قال الجمهور: لا؛ لأنه لو كان تَابعًا لاسْتَبْعَدَ أن يكونَ مَتْبُوعًا، ولأنَّه لو كَانَ لنُقِل مَنْ كان ينسب إليه، وقِيل: نَعَمْ، واختلَفُوا في تعِيينه على ثمَانِيَةِ أقوالٍ: أحدُها آدم عليهِ السَّلامُ، والثَّاني نوحٌ عليهِ السَّلامُ، والثالث إبراهيم عليهِ السَّلامُ ذهب إليه جماعةٌ واستدلوا بقوله تَعَالَى في سورة النحل آية (123): {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا. . .}، والرَّابعُ مُوسى عليهِ السَّلامُ، والخامسُ عِيسى عليهِ السَّلامُ، والسادس بكلّ شيء بلغَهُ عن شَرْعِ نبيٍّ من الأنبياء وحجته قوله تَعَالَى في سورة الأنعام آية (90): {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، والسَّابع الوقفُ، ولا تَخْفى قوة الثالثِ، ولاسيما مع ما نُقِلَ من ملازمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الحج والطَّواف، ونحو ذلك مما بَقِيَ عندهم من شريعةِ إبراهيم عليهِ السَّلامُ، واللَّه أعلم.

وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَزَوَّدُ لِخَلْوَتِهِ لِبَعْضِ لَيَالِي الشَّهْرِ، فَإِذَا نَفَدَ ذَلِكَ الزَّادُ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَزَوَّدُ قَدْرَ ذَلِكَ، فَيُقِيمُ فِي حِرَاءَ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، وَيَقْضِي وَقْتَهُ فِي التَّفْكِيرِ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ مَشَاهِدِ الْكَوْنِ، وَفِيمَا وَرَاءَهَا مِنْ قُدْرَةٍ مُبْدِعَةٍ، حَتَّى وَصَلَ مِنَ الصَّفَاءَ وَالْإِشْرَاقِ إِلَى مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ انْعَكَسَتْ فِيهَا أَشِعَّةُ الْغُيُوبِ عَلَى صفْحَةِ قَلْبِهِ الْمَجْلُوَّةِ، فَأَصْبَحَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصُّبْحِ (¬1). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَاُ بدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ. . . ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ (¬2). وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا قَضَى جِوَارَهُ (¬3) مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ الْكَعْبَةَ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجعُ إِلَى بَيْتِهِ. ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 85. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بَدْءِ الوحي - باب (3) - رقم الحديث (3) - وأخرجه في كتاب التعبير - باب أوَّلُ ما بُدِئَ به رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي- رقم الحديث (6982) - ومسلم في صحيحه- كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (160). (¬3) الجِوَارُ: الاعْتِكَافُ. انظر النهاية (1/ 302). قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 400): والفرقُ بينَ الجِوَار والاعتِكافِ، أن الاعتكاف لا يكُونُ إلا داخِلَ المَسْجِدِ، وأما الجِوَارُ فإنه قَدْ يكُونُ خارِجَهُ.

* ثالثا: تسليم الحجر والشجر على النبي -صلى الله عليه وسلم-

وَظَلَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْوَحْيُ وَهُوَ فِي إِحْدَى خَلَوَاتِهِ تِلْكَ (¬1). * ثَالِثًا: تَسْلِيمُ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ" (¬2). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ والْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ، وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬3). وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِكَرَامَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ، كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَسَّرَ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب رقم (3) - رقم الحديث (3) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (160). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب فضل نسب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وتسليم الحجر عليه قبل النبوة - رقم الحديث (2277). (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب ما جاء في آيات نبوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم - رقم الحديث - (3954) - والحاكم في المستدرك - كتاب آيات رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باب سلام الأشجَارِ والجِبَال عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4296). (¬4) حسَرَ: انْكَشَفَ. انظر لسان العرب (3/ 168).

* رابعا: سماع النبي -صلى الله عليه وسلم- الصوت ورؤيته الضوء

عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ (¬1) مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬2)، قَالَ: فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَوْلَهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَشِمَالِهِ، وَخَلْفِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ، مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (¬3). * رَابِعًا: سَمَاعُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّوْتَ وَرُؤْيَتُهُ الضَّوْءَ: رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَيَرَى الضَّوْءَ (¬4) سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ (¬5). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ ¬

_ (¬1) الشِّعْبُ: ما انْفَرَجَ بينَ جَبَلَيْنِ. انظر لسان العرب (7/ 126). (¬2) قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 399): وهذا التَّسْليمُ الأظهَرُ فيه أَنْ يَكونَ حَقِيقةً، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أنْطَقَهُ إنْطاقًا كما خَلَقَ الحَنِينَ في الجِذْعِ. أخرج قصة حنين الجذع: البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3583) (3584) (3585). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 271). (¬4) قال القاضي عياض في شرح مسلم (8/ 85): أي صَوْتُ الهَاتِفِ به مِنَ المَلائِكَةِ، ويرى الضَّوْءَ أي نُورَ المَلائِكَةِ، ونُورَ آياتِ اللَّه تَعَالَى حتى رَأى المَلَكَ بَعَيْنِهِ، وشَافَهَهُ بِوَحْيِ اللَّه تَعَالَى. (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب كم أقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة والمدينة - رقم الحديث (2353) (123).

عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِخَدِيجَةَ "إِنِّي أَرَى ضَوْءًا وَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جُنُنٌ"، فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ يَا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ! ثُمَّ أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِنْ يَكُ صَادِقًا، فَإِنَّ هَذَا نَامُوسٌ (¬1) مِثْلُ نَامُوسِ مُوسَى، فَإِنْ بُعِثَ وَأَنَا حَيٌّ فَسَأُعَزِّرُهُ (¬2)، وَأَنْصُرُهُ، وَأُومِنُ بِهِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) النَّامُوسُ: صَاحِبُ سِرِّ الخَيْرِ، أَرَادَ بهِ جِبْرِيلَ عليهِ السَّلامُ؛ لأنَّ اللَّه تَعَالَى خصَّهُ بالوَحْيِ والغَيْبِ اللَّذَيْنِ لا يَطَّلعُ عليهمَا غيرُه. انظر النهاية (5/ 104). (¬2) التَّعْزِيرُ: هاهُنَا معناهُ الإعَانةُ، والتَّوْقِيرُ، والنَّصْرُ مرَّةً بعد مرَّةٍ. انظر النهاية (3/ 206). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الأعراف آية (157): {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2845).

الأحداث من نزول الوحي إلى الهجرة

الأَحْدَاثُ مِنْ نُزُولِ الوَحْي إِلَى الهِجْرَةِ نُزُولُ الْوَحْي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَمَّا تَكَامَلَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَخَرَجَ إِلَى حِرَاءٍ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ، بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَعَثَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ (¬1). قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُعِثَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ (¬2). وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا كَمُلَ لَهُ أَرْبَعُونَ، أَشْرَقَ عَلَيْهِ نُورُ النُّبُوَّةِ، وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ، وَبَعَثَهُ إِلَى خِلْقِهِ، وَاخْتَصَّهُ بِكَرَامَتِهِ، وَجَعَلَهُ أَمِينَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3902). (¬2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (81/ 15). (¬3) انظر زاد المعاد (1/ 76).

* حديث عائشة رضي الله عنها

وَقَالَ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ يُوسُفٍ الصَّرْصَرِيُّ (¬1) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَتَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ فَأَشْرَقَتْ ... شمْسُ النُّبُوَّةِ مِنْهُ فِي رَمَضَانِ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْله تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: "فِيهِ وُلِدْتُ، وَفِيهُ أُنْزِلَ عَلَيَّ" (¬3). * حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلْنَسْتَمِعْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ بَدْءِ الْوَحْي، قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ ¬

_ (¬1) هو الشَّيخ جمالُ الدِّين أبو زكرِيَّا يحيى بن يُوسف الصَّرْصَرِيُّ نسبة إلى صَرْصَرَ قرية على فرسَخَيْنِ من بَغدادَ، العلَّامةُ الحافظ اللُّغَوي، كان إليه المُنْتَهَى في معرفةِ اللُّغة، وحُسْنِ الشِّعْرِ، وديوانُه ومدائحُهُ سائرةٌ، يُشَبَّهُ في عصرهِ بحسَّان بن ثابت -رضي اللَّه عنه-، وكان صالحًا قُدوَةً كثيرَ التلاوةِ، عظيمَ الاجتهادِ صَبُورًا قَنُوعًا، قَتَلَهُ التَّتَارُ يومَ دخَلُوا بغدادَ سنة (656 هـ). انظر شذرات الذهب (5/ 286). (¬2) سورة البقرة آية (185). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. . . - رقم الحديث (1162) (198).

الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ (¬1) فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، . . . حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ (¬2) وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (¬3) حَتَّى بَلَغَ مِنِّيَ الْجَهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي" (¬4)، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ (¬5) فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّيَ الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي"، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (¬6) الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي"، فَقَالَ: ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 735): أي في أوَّل المُبْتَدآت مِنْ إيجاد الوحي الرُّؤيا، وأما مُطْلَقُ ما يدلُّ على نبُوَّته، فتقدَّمَتْ له أشياء مثل: تسليمِ الحَجَر كما ثبت في صحيح مسلم. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 35): أي الأمرُ الحقُّ، وسُمِّيَ حَقًّا لأنه وحيٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى. (¬3) في رواية ابن إسحاق في السيرة (1/ 273): فَغَتَّنِي. قال ابن الأثير في النهاية (3/ 308): الغَتُّ والغَطُّ سواءٌ، كأنَّه أراد عصَرَنِي عَصْرًا شَدِيدًا حتى وجَدْتُ منه المَشَقَّةَ. (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 172): أرسَلَنِي: أي أطْلَقَنِي. (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/ 35): أي ما أُحْسِنُ القِرَاءَةَ، فلمَّا قال ذلك ثلاثًا قِيلَ له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي لا تقرؤُهُ بقوَّتِكَ ولا بمَعْرِفَتِكَ، لكن بحَوْلِ ربِّكَ وإعانَتِهِ، فهو يُعَلِّمُكَ، كما خلقكَ، وكما نَزَعَ عنكَ عَلَقَ الدَّمِ، وغَمْزَ الشَّيْطَانِ في الصِّغَرِ، وعلّم أُمَّتَكَ حتى صارَتْ تَكْتُبُ بالقلَمِ بعدَ أَنْ كَانَتْ أُمِّيَّةً. . .، والتقدير: لسْتُ بقَارِئٍ البَتَّةَ. (¬6) قال الحافظ في الفتح (9/ 738): والحكمةُ في هذا الغَطِّ لإظهارِ الشِّدَّةِ، والجِدِّ في الأمر تَنْبِيهًا على ثِقَلِ القولِ الذي سَيُلقى إليه، فلما ظهر أنه صَبَرَ على ذلك أُلْقِيَ إليه. ولعل الحِكْمَةَ في تكريرِ الإقراءِ الإشارةُ إلى انْحِصَارِ الإيمان الذي يَنْشَأُ الوحيُ بسببِهِ في ثلاثٍ: القولُ، والعملُ، والنيَّةُ، وَأَنَّ الوحي يشتملُ على ثلاثٍ: التوحيدُ، والأحكامُ والقصصُ، وفي تكريرِ الغَطِّ الإشارة إلى الشَّدائدِ الثلاثِ التي وقعتْ لهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي: الحَصْرُ في الشِّعْبِ، وخروجُه في الهجرةِ، وما وقع له يوم أُحدٍ، وفي الإرسالاتِ الثلاثِ إشارة إلى حصولِ التيسيرِ له عقب الثلاث المذكورةِ: في الدنيا، والبَرْزَخِ، والآخرةِ.

{اقْرَأْ بِاسْمِ (¬1) رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. فَرَجَعَ بِهَا (¬2) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْجُفُ فُؤَادُهُ (¬3)، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَهَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" (¬4)، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ (¬5)، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخَبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ (¬6) عَلَى نَفْسِي"، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا (¬7) وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا (¬8)، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 172): هذا دليلٌ صريحٌ في أَنَّ أوَّلَ ما نزلَ من القرآن اقرأ، وهذا هو الصواب الذي عليهِ الجماهيرُ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 36): أي بالآياتِ أو بالقِصَّةِ. (¬3) قال الحافظ في الفتح (14/ 381): الحكمةُ في العُدُولِ عن القَلْبِ إلى الفُؤَادِ أن الفُؤَادَ وِعَاءُ القَلْبِ على ما قاله أهل اللغة، فإذا حصل للوعاءِ الرَّجَفَانُ حصلَ لِمَا فيهِ، فيكونُ في ذكْرِهِ من تعظيمِ الأمرِ ما ليس في ذِكْرِ القَلْبِ. (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (1/ 173): معنى زَمِّلُونِي أي: غَطُّونِي بالثياب، ولُفُّونِي بها. وقال الحافظ في الفتح (9/ 739): قال -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك لشدَّةِ ما لَحِقَهُ من هَوْلِ الأمر، وجرَتِ العادة بسُكُونِ الرِّعْدَةِ بالتَّلْفِيفِ. (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/ 36): الرَّوْعُ: أي الفَزَعُ. (¬6) قال الحافظ في الفتح (1/ 36): والخشيةُ المذكورةُ اختلفَ العلماءُ في المُرَادِ بها على اثْنَيْ عَشَرَ قولًا. . . وأولى هذه الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب هوَ المَوْتُ من شِدَّةِ الرُّعْبِ أو المَرَضِ. (¬7) قال الحافظ في الفتح (1/ 36): معناهَا النَّفْي والإبعَادُ. (¬8) قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 17): انظر كيفَ استَدَلَّتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بما فيه -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الصِّفَاتِ الفاضلةِ، والأخلاقِ والشِّيَمِ، على أَنَّ مَنْ كان كذلك لا يُخْزَى أبدًا، فَعَلِمَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بكمَالِ عَقْلهَا وفِطْرَتِهَا، أن الأعمال الصالحةَ، والأخلاقَ الفاضلةَ =

الْكَلَّ (¬1)، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ (¬2)، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ (¬3)، فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسِد بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ-، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ (¬4) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُوسَى (¬5)، يَا لَيْتَنِي فِيهَا. . . . ¬

_ = والشِّيَمَ الشَّرِيفَةَ، تناسب أشكالها مِنْ كرامَةِ اللَّهِ، وتأييدهِ، وإحسانِهِ، ولا تناسِبُ الخِزْيُ والخُذْلَانُ، وإنما يُنَاسبه أضدَادُهَا، فمن رَكَّبهُ اللَّه على أحسنِ الصفات وأحسنِ الأخلاق والأعمالِ إنما يَلِيقُ به كرامته وإتمامُ نعمتهِ عليهِ. (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 174): الكَلُّ: بفتح الكاف وأصله الثِّقَلُ، ومنه قول اللَّه تَعَالَى في سورة النحل آية (76): {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ}، ويدخُلُ في حَمْلِ الكَلِّ الإنفاقُ على الضَّعِيفِ، واليَتِيمِ، والعِيَالِ وغير ذلك. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 175): أي تُعْطِي الناسَ ما لا يَجِدُونَهُ عندَ غيركَ مِنْ نفائسِ الفَوَائدِ، ومكارمِ الأخلاق، أو تُكْسِب المالَ العظيمَ الذي يَعْجُزُ عنه غيرُك، ثم تَجُودَ به في وجُوهِ الخيرِ وأبواب المكارم. (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 176): النَّوَائِبُ جمعُ ناِئبَةٍ وهي الحَادِثَةُ، وإنما قَالَتْ: نوائِب الحقّ، لأن النائبةَ قد تكون في الخير، وقد تكونُ في الشّرِّ. (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (6982): ". . . وكان يكتبُ الكتابَ العربيَّ، فيكتبُ بالعربيةِ مِنَ الإنْجِيلِ". (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/ 38): قال على موسى ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيًا: لأنَّ كتابَ مُوسى عليهِ السَّلامُ مُشْتَمِلٌ على أكثر الأحكامِ، بخلافِ عيسى؛ ولأنَّ موسى عليهِ =

جَذَعًا (¬1)، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَمُخْرِجِيَّ (¬2) هُمْ؟ " قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا (¬3)، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ (¬4) وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ (¬5). ¬

_ = السَّلامُ بُعِثَ بالنِّقْمَةِ على فِرْعَوْنَ ومَنْ معه، بخلافِ عيسى، أو قاله تَحْقيقًا للرِّسالةِ، لأن نُزُول جِبريلَ على موسى متَّفقٌ عليه بين أهلِ الكتابِ، بخلافِ عيسى فإنَّ كثيرًا من اليهودِ يُنكرونَ نُبُوَّتَهُ. (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 39): الجَذَعُ: هو الصَّغيرُ منَ البَهائمِ، كأنه تمنَّى أن يكون عِنْدَ ظُهور الدُّعاء إلى الإسلام شَابًّا ليكونَ أمكَنَ لنَصْرِهِ، وبهذا يتبيَّنُ سِرُّ وصْفِهِ بكونهِ كان كَبِيرًا أعمى. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 39) (14/ 382): استبعدَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُخْرِجُوهُ، لأنه لم يكنْ فيه سببٌ يقتضِي الإخراجَ، لما اشتملَ عليه مِنْ مَكارمِ الأخلاقِ التي تقدَّم من خديجةَ وصْفُهَا. ويحتملُ أن يكون انزعاجُهُ كان مِنْ جِهةِ خَشْيَةِ فَواتِ ما أمَّلهُ من إيمانِ قومهِ باللَّه، وإنقاذِهِمْ من ضُرِّ الشِّرْكِ، وأدْنَاسِ الجاهليةِ، ومنْ عذابِ الآخرةِ، وليتمَّ لهُ المرادُ من إرساله إليهم، ويحتملُ أن يكونَ انْزَعَجَ منَ الأمْرَيْنِ مَعًا. (¬3) قال الحافظ في الفتح (1/ 39): أي قَوِيًّا، مأخوذٌ من الأزْرِ وهوَ القُوَّة، ويحتمل أن يكون من الإزَارِ، أشار بذلك إلى تَشْمِيرِهِ في نُصْرَتِهِ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/ 40): أي لم يَلبثْ، وأصلُ النُّشُوبِ التَعَلُّقُ، أي لم يتعلَّقُ بشيءٍ من الأمورِ حتى مَاتَ. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - رقم الحديث (3) - وأخرجه في كتاب التعبير - باب أول ما بُدئ به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصَّالحة - رقم الحديث (6982) - وأخرجه مسلم - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (160).

* رواية مرسلة ضعيفة

قَالَ أَحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنُودِيَ اقْرَأْ تَعَالَى اللَّهُ قَائِلُهَا ... لَمْ تَتَّصِلْ قَبْلَ مَنْ قِيلَتْ لَهُ بِفَمِ هُنَاكَ أَذَّنَ لِلرَّحْمَنِ فَامْتَلَأَتْ ... أَسْمَاعُ مَكَّةَ مِنْ قُدْسِيَّةِ النَّغَمِ فَلَا تَسَلْ عَنْ قُرَيْشٍ كَيْفَ حَيْرتُهَا ... وَكَيْفَ نُفْرَتُهَا فِي السَّهْلِ وَالْعَلَمِ (¬1) تَسَاءَلُوا عَنْ عَظِيمٍ قَدْ أَلمَّ بِهِمْ ... رَمَى الْمَشَايِخَ وَالْوَالِدَانَ بِاللَّمَمِ (¬2) يَا جَاهِلِينَ عَلَى الْهَادِي وَدَعْوَتِهِ ... هَلْ تَجْهَلُونَ مَكَانَ الصَّادِقِ الْعَلَم * رِوَايَةٌ مُرْسَلَةٌ ضَعِيفَةٌ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ عُبَيْدِ بنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: جَاءَنِي جِبْرِيلُ، وَأَنَا نَائِمٌ، بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ. . (¬3). وَهَذ الرِّوَايَةُ مَعَ ضَعْفِهَا مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ فِي اليَقَظَةِ لَا فِي المَنَامِ، وَالمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي اليَقَظَةِ لَا فِي المَنَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) العَلَمُ: الجبَلُ. انظر لسان العبر (9/ 373). (¬2) اللَّمَمُ: هي صِغَارُ الذُّنُوبِ. انظر لسان العرب (12/ 332). ومنهُ قوله تَعَالَى في سورة النَّجم آية (32): {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. . .}. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 273).

* فتور الوحي

* فُتُورُ الْوَحْي (¬1): فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَوَّلِ مَرَّةٍ رَأَى جِبْرِيلَ عليهِ السَّلامُ فِيهَا، مُدَّةً يَسِيرَةً، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: حُبِسَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَجَعَلَ يَخْلُو فِي حِرَاءٍ (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَكَانَ ذَلِكَ -أَيْ فُتُورُ الْوَحْي- لِيَذْهَبْ مَا كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَدَهُ مِنَ الرَّوْعِ، وَليَحْصُلَ لَهُ التَّشَوُّفُ إِلَى الْعَوْدِ (¬3). * رِوَايَةٌ مُرْسَلَةٌ ضَعِيفَةٌ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلُهُ: . . . حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى (¬4) بِذَرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِي مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ (¬5)، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْي غَدَا ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 40): فتورُ الوحي عِبارةٌ عَنْ تأخُّرِهِ مُدَّةً منَ الزَّمانِ. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (15033). (¬3) انظر فتح الباري (1/ 40). (¬4) أوْفَى: أي أشْرَفَ وطَلَعَ. انظر النهاية (5/ 184). (¬5) الجَأْشُ: القَلْبُ، يقال: فلانٌ رابِطُ الجَأْشِ: أي ثَابِتُ القَلْبِ لا يَرْتَاعُ، ولا ينزَعِجُ للعظَائِمِ والشَّدَائِدِ. انظر النهاية (1/ 225).

* مدة فتور الوحي

لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذَرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ (¬1). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَهَذِهِ الْقِصَّةُ وَهِيَ مِنْ بَلَاغَاتِ الزُّهْرِيِّ، وَلَيْسَ مَوْصُولًا (¬2). قُلْتُ: وَلذَلِكَ لَمْ يَرْوِ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْي، وَإِنَّمَا رَوَاهَا فِي كِتَابِ التَّعْبِيرِ، لِيُبَيِّنَ ضَعْفَهَا. * مُدَّةُ فُتُورِ الْوَحْي: أَمَّا مُدَّةُ فُتُورِ الْوَحْي فَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ أَيَّامًا (¬3)، وَهَذَا الَّذِي يَتَرجَّحُ بَلْ يَتَعَيَّنُ، وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ مِنْ أَنَّهَا دَامَتْ سِنَتَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ فَلَا يَصِحُّ بِحَالٍ بَعْدَ إِدَارَةِ النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ (¬4). قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّدْ أَبُو شَهْبَة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالَّذِي أُرَجِّحُهُ وَأَمِيلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا كَانَتْ أَيَّامًا، وَأَنَّ أَقْصَاهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا، أَمَّا أَنْ يَقْضِي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثَ سَنِينَ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنِصْف مِنْ عُمُرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ غَيْرِ وَحْيِ وَدَعْوَةٍ فَهَذَا مَا لَا تَقْبَلُهُ الْعُقُولُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلٌ صَحِيحٌ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التعبيرِ - بابُ أوَّل ما بُدِئَ به رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي - رقم الحديث (6982). (¬2) انظر فتح الباري (14/ 383) - وانظر السِّلسلةَ الضَّعيفة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (4858). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 94). (¬4) انظر الرَّحيق المختوم ص 69. (¬5) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوءِ القرآنِ والسُّنةِ للدكتور محمد أبو شهبة (1/ 264).

* نزول الوحي مرة ثانية والأمر بالدعوة إلى الله تعالى

* نُزُولُ الْوَحْي مَرَّةً ثَانِيَةً وَالْأَمْرُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: لَمَّا عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعْرِفَةَ الْيَقِينِ أَنَّهُ أَضْحَى نَبِيًّا للَّهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَهُ هُوَ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَصَارَ تَشَوُّقُهُ وَارْتِقَابُهُ لِمَجِيءِ الْوَحْي سَبَبًا فِي ثَبَاتِهِ، وَاحْتِمَالِهِ عِنْدَمَا يَعُودُ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَثْنَاءَ فَتْرَةِ الْوَحْي يَذْهَبُ إِلَى غَارِ حِرَاءٍ، فَيَخْلُو فِيهِ، وَبَيْنَا هُوَ نَازِلٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا سَادًّا مَا بَيْنَ الْأُفُقِ، فَرُعِبَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي"، فزَمَّلُوهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (¬1). إِنَّهُ النِّدَاءُ الْعُلْوِيُّ الْجَلِيلُ، لِلْأَمْرِ الْعَظِيمِ الثَّقِيلِ. . . نَذَارَةُ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِيقَاظُهَا، وَتَخْلِيصُهَا مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَوْجِيهُهَا إِلَى طَرِيقِ الْخَلَاصِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَوَانِ. . . وَهُوَ وَاجِبٌ ثَقِيلٌ شَاقٌّ، حِينَ يُنَاطُ بِفَرْدٍ مِنَ الْبَشَرِ -مَهْمَا يَكُنْ نَبِيًّا رَسُولًا- فَالْبَشَرِيَّةُ مِنَ الضَّلَالِ وَالْعِصْيَانِ، وَالتَّمَرُّدِ، وَالْعُتُوِّ، وَالْعِنَادِ، وَالْإِصْرَارِ، وَالِالْتِوَاءِ، وَالتَّفَصِّي مِنَ هَذَا الْأَمْرِ، بِحَيْثُ تَجْعَلُ ¬

_ (¬1) سورة المدثر آية (1 - 5).

مِنَ الدَّعْوَةِ أَصْعَبَ وَأَثْقَلَ مَا يُكَلَّفُهُ إِنْسَانٌ مِنَ الْمَهَامِّ فِي هَذَا الْوُجُودِ (¬1). رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي، قَالَ فِي حَدِيثِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ (¬2) مِنْهُ حَتَّى هَوِيتُ (¬3) إِلَى الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي"، فَأَنَزْلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إِلَى قَوْلهِ تَعَالَى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قَالَ: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا (¬5) عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا". ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن لسيد قطب (6/ 3754). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 179): أي فزِعْتُ ورُعِبْتُ. (¬3) هويت: أي سَقَطْتُ. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 179). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - سورة المدثر - رقم الحديث (4926) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (161). (¬5) قال الحافظ في الفتح (9/ 743): كأنَّ الحِكمَةَ في الصَّبِّ بعدَ التَّدَثُّرِ طلبُ حُصُولِ السُّكُونِ لما وقع في الباطنِ من الانزِعَاجِ، أو أَنَّ العادَةَ أَنَّ الرِّعْدةَ تعقبُهُا الحُمَّى، وقد عُرفَ مِنَ الطِّبِّ النبويِّ معالجتُهَا بالماءِ البَارِدِ.

قَالَ: فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، فنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (¬1). كَانَتْ هَذِهِ أَوَّلُ آيَاتٍ نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْي، وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَوَامِرُ الْمُتَتَابِعَةُ الْقَاطِعَةُ إِيذَانًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَنَّ الْمَاضِي قَدِ انْتَهَى بِمَنَامِهِ وَهُدُوئِهِ وَسَلَامِهِ، وَأَنَّهُ أَمَامَ عَمَلٍ جَدِيدٍ يَسْتَدْعِي الْيَقَظَةَ، وَالتَّشْمِيرَ، وَالْإِنْذَارَ، وَالْإِعْذَارَ، فَلْيَحْمِلِ الرِّسَالَةَ، وَيُنْذِرِ النَّاسَ، وَلْيَأْنَسْ بِالْوَحْيِ، وَلْيَصْبِرْ عَلَى عَنَائِهِ، فَإِنَّهُ مَصْدَرُ رِسَالَتِهِ وَمَدَدُ دَعْوَتِهِ (¬2). فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَظَلَّ قَائِمًا بَعْدَهَا أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا! لَمْ يَسْتَرِحْ، وَلَمْ يَسْكُنْ، وَلَمْ يَعِشْ لِنَفْسِهِ وَلَا لِأَهْلِهِ، قَامَ وَظَلَّ قَائِمًا عَلَى دَعْوَةِ اللَّهِ. . . يَحْمِلُ عَلَى عَاتِقِهِ الْعِبْءَ الثَّقِيلَ البَاهِظَ، وَلَا يَنُوءُ بِه، عِبْءُ الْأَمَانَةِ الْكُبْرَى فِي هذِهِ الأَرْضِ، عِبْءُ البَشَرِيَّةِ كُلِّهَا، عِبْءُ العَقِيدَةِ كُلِّهَا، وعِبْءُ الكِفَاحِ والجِهَادِ فِي مَيَادِينَ شَتَّى. . . عَاشَ في المَعْرَكَةِ الدَّائِبَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًا، لَا يُلْهِيهِ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ في خِلَالِ هَذَا الأَمَدِ، مُنْذُ أَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ الْعُلْوِيَّ الْجَلِيلَ، وَتَلَقَّى مِنْهُ التَّكْلِيفَ الرَّهِيبَ. . جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا وَعَنِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا خَيْرَ الْجَزَاءِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب وربك فكبر - رقم الحديث (4924) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (161) (257). (¬2) انظر فقه السِّيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 90. (¬3) في ظلال القرآن (6/ 3742 - 3743) لسَيِّد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ.

* نزول سورة المزمل

* نُزُولُ سُورةِ الْمُزَّمِّلِ: ثُمَّ نزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ المُدَّثِّرِ مُبَاشَرَةً سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ، فقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (¬1). وَالسُّورَةُ تَعْرِضُ صفْحَةً مِنْ تَارِيخِ هذ الدَّعْوَةِ. . . تَبْدَأُ بِالنِّدَاءَ الْعُلْوِيِّ الكَرِيمِ بِالتَّكْلِيفِ الْعَظِيمِ. . . وَتُصَوِّرُ الإِعْدَادَ لَهُ وَالتَّهْيِئَةَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالصَّلَاةِ، وَتَرْتِيلِ القُرْآنِ، والذِّكْرِ الخَاشِعِ المُتَبَتِّلِ، والِاتِّكَالِ عَلَى اللَّهِ وحْدَهُ، والصَّبْرِ عَلَى الأَذَى، والهَجْرِ الجَمِيلِ للمُكَذِّبينَ. قُمْ. . قُمْ لِلْأَمْرِ العَظِيمِ الذِي ينتَظِرُكَ، والْعِبْءَ الثَّقِيلِ المُهَيَّأِ لَكَ. قُمْ لِلْجَهْدِ وَالنَّصَبِ وَالْكَدِّ وَالتَّعَبِ. قُمْ فَقَدْ مَضَى وَقْتُ النَّوْمِ وَالرَّاحَةِ. . قُمْ فَتَهَيَّأْ لِهذَا الأمْرِ واسْتَعِدَّ. . . . أَجَلْ مَضَى عَهْدُ النَّوْمِ ومَا عَادَ مُنْذُ اليَوْمِ إِلَّا السَّهَرُ والتَّعَبُ والجِهَادُ الطَّوِيلُ الشَّاقُّ (¬2). * افْتِرَاضُ قِيَامِ اللَّيْلِ: وَكَانَ قِيَامُ الليْلِ فُرِضَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَلَى أَصْحَابِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ حَوْلًا كَامِلًا حتَّى وَرِمَتْ أَقْدَامُهُمْ، فأنْزَلَ ¬

_ (¬1) سورة المزمل الآيات (1 - 4). (¬2) في ظلال القرآن (6/ 3744) لسيِّد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ.

اللَّهُ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى. . .} (¬1). فصَارَ قِيَامُ الليْلِ تَطَوُّعًا بعْدَ فَرْضِيَّيهِ. روَى الإِمَامُ مسلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بنِ هِشَامٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قالَتْ: أَلسْتَ تَقْرأُ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}؟ . قُلْتُ: بَلَى. قالَتْ: فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ افْتَرَضَ قِيَامَ الليْلِ في أوَّل هذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأصحاُبهُ حَوْلًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا (¬2) اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ، في آخِرِ هذِهِ السُّورَةِ، التَّخْفِيفَ، فَصارَ قِيَامُ الليْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ (¬3). قال الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: في قَوْلِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هَذَا، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صَارَ تَطَوُّعًا فِي حَقِّ رسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- والأُمَّةِ، فأمَّا الأُمَّةُ فهُوَ تَطَوُّعٌ في حَقِّهِمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فاختَلَفُوا في نَسْخِهِ في حَقِّهِ، والأصَحُّ عِنْدَنَا نَسْخُهُ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المزمل آية (20). (¬2) قولُها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وأمسَكَ اللَّه خَاتِمَتَهَا: تعني أنها مُتَأخِّرَةُ النُّزول عمَّا قبلها، وهي قوله تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ. . .} إلى آخر سورة المزمل. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب جامع صلاة الليل، ومن نامَ عنه أو مرض - رقم الحديث (746). (¬4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 23).

* وهم ابن إسحاق في نزول سورة الضحى

قَالَ أحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّم مَا أَرَدْتَ عَلَى ... نَزِيلِ عَرْشِكَ خَيْرِ الرُّسْلِ كُلِّهِمِ مُحْيِي اللَّيَالِي صَلَاةً لَا يُقَطِّعُهَا ... إِلَّا بِدَمْعٍ مِنَ الْإِشْفَاقِ مُنْسَجِمِ مُسَبِّحًا لَكَ جُنْحَ اللَّيْلِ مُحْتَمِلًا ... ضُرًّا (¬1) مِنَ السُّهْدِ (¬2) أَوْ ضُرًّا مِنَ الْوَرَمِ رَضِيَّةً نَفْسُهُ لَا تَشْتَكِي سَأَمًا ... وَمَا مَعَ الْحُبِّ إِنْ أَخْلَصْتَ مِنْ سَأَمِ يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى آلٍ لَهُ نُخَبٍ ... جَعَلْتَ فِيهِمْ لِوَاءَ الْبَيْتِ وَالْحَرَمِ بِيضُ الْوُجُوهِ وَوَجْهُ الدَّهْرِ ذُو حلكٍ ... شُمُّ الْأُنُوفِ وَأَنْفُ الْحَادِثَاتِ حَمِي * وَهْمُ ابنِ إسْحَاقَ في نُزُولِ سُورَةِ الضُّحَى: قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ فَتَرَ الوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ، حتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَحْزَنَهُ، فجَاةُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضُّحَى، يُقْسِمُ لَهُ رَبُّهُ، وَهُوَ الَّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ، مَا وَدَّعَهُ، وَمَا قَلَاهُ، فَقَالَ تَعَالَ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا ¬

_ (¬1) الضَّرَة: شدة الحال. انظر لسان العرب (8/ 45). (¬2) السُّهْدُ: القليل من النوم. انظر لسان العرب (6/ 408).

* رواية الشيخان في صحيحيهما أصح

سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (¬1). * رِوَايَةُ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا أَصَحُّ: روَى الشَّيْخَانِ في صحِيحَيْهِمَا عَنْ جُنْدُبِ بنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: اشْتَكَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتِيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ (¬2) فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرُبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى. . .} (¬3). وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ سُورَةُ الضُّحَىُ نَزَلَتْ فِي فَتْرَةٍ أخْرَى غَيْرِ هذِهِ الفَتْرَةِ الَّتِي كَانَتْ بَعْدَ ابْتِدَاءَ الْوَحْي، فَإِنَّ تِلْكَ دَامَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْتُ فِي فَتْرَةِ الوَحْي، وَأَمَّا هذِهِ فَلَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، فاخْتَلَطَتَا وَاشْتَبَهَتَا ¬

_ (¬1) سورة الضحى - والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 278). (¬2) قال الحافظ في الفتح (3/ 313): هي أُمُّ جميلٍ العَوْرَاءُ بنتُ حَرْبٍ، وهي أُختُ أبي سُفيان بنِ حَربٍ، وامرأةُ أبي لَهَبٍ، وكانتْ هذهِ المرأةُ تَمْشِي بالنَّمِيمَةِ بينَ الناسِ، وكانت تُعَيِّرُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالفَقْرِ، ثم كانت معَ كثْرَةِ مالِهَا تَحْمِلُ الحَطَبَ على ظَهْرِهَا، لشِدَّةِ بُخْلِهَا، وكانت تَطْرَحُ الشَّوْكَ بالليلِ على طريق النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد بشَّرَها اللَّه تَعَالَى بالنارِ فقال اللَّه تَعَالَى في سورة المسد آية (5): {. . . فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} أي في عُنُقِهَا حبلٌ منْ نَارٍ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التهجد - باب ترك القيام للمريض - رقم الحديث (1124) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب سورة الضحى - رقم الحديث (4950) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى المشركين - رقم الحديث (1797) (15).

* مراتب الوحي وشدة نزوله

عَلَى بَعْضِ العُلَمَاءِ (¬1). ورَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ مَسْأَلةً وَدِدْتُ أنِّي لَمْ أَكُنْ سَأَلْتُهُ، قُلْتُ: أَيْ رَبِّ قَدْ كَانَتْ قَبْلِيَ الأنْبِيَاءُ، مِنْهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لَهُ الرِّيحَ، ثُمَّ ذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومِنْهُمْ ومِنْهُمْ يَذْكُرُ مَا أُعْطُوا. قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُ؟ قُلْتُ: بَلَى، أَيْ رَبِّ. قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُ؟ قلتُ: بلَى، أيْ رَبِّ. قَالَ: ألَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا (¬2) فأَغْنَيْتُ؟ قلتُ: بلَى، أيْ رَبِّ. قَالَ: ألَمْ أشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قلْتُ: بَلَى، أَيْ رَبِّ" (¬3). * مَرَاتبُ الوَحْي وَشِدَّةُ نُزُولِهِ: لِلْوَحْيِ مَرَاتِبُ شَتَّى بَعْضُهَا أَيْسَرُ مِنْ بَعْضٍ: إحْدَاهَا: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَكَانَتْ مَبْدَأَ وَحْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا ¬

_ (¬1) وانظر فتح الباري (9/ 727)، والبداية والنهاية (3/ 21). (¬2) العَائِلُ: الفَقِيرُ. انظر لسان العرب (9/ 502). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3966).

جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. ثَانِيهَا: مَا كَانَ يُلْقِيهِ الْمَلَكُ في رُوعِهِ وقَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهُ، فعَنْ ابنِ مسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ، نَفَثَ في رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ عَلَى أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ" (¬1). ثَالِثُهَا: أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَتَمَثَّلُ لَهُ المَلَكُ رَجُلًا، فيُخَاطِبُهُ حتَّى يَعِي عَنْهُ ما يَقُولُ لهُ، وفِي هذ المَرْتَبَةِ كَانَ يَرَاهُ الصَّحَابَةُ أحْيَانًا (¬2). رَابِعُهَا: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ في مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وكَانَ أشَدُّهُ عَلَيْهِ، فيَتَلَبَّسُ بِهِ المَلَكُ حتَّى إِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ (¬3) عَرَقًا في اليَوْمِ الشَّدِيدِ البَرْدِ، وحتَّى إِنَّ نَاقَتَهُ لَتَبْرُكُ بِهِ إِلَى الأَرْضِ إِذَا كَانَ رَاكِبَهَا، ولَقَدْ جَاءَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الوَحْيُ كَذَلِكَ، وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَتْ تَرُضُّهَا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب البيوع - باب إن اللَّه لا يُنالُ فَضْلُهُ بمَعْصِيَةٍ - رقم الحديث (2181) - وأبو نعيم في الحلية (10/ 26) - وهو حديث صحيح بشواهده. (¬2) انظر حديث عمر -رضي اللَّه عنه- في: صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان - رقم الحديث (8)، وفيه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يا عُمَرُ أتدرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قلتُ: اللَّهُ ورسوله أعلمُ، قال: "فَإِنَّهُ جبريلُ أتَاكُمْ يُعَلِّمكمْ دِينكُمْ". (¬3) يتفصَّدُ: أي يسيلُ. انظر النهاية (3/ 403). (¬4) قال الحافظ في الفتح (9/ 138): تَرَضُّهَا: أي تَدُقُّهَا.

رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ الحَارِثَ بنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَألَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ: يا رسُولَ اللَّهِ: كيفَ يَأْتِيكَ الوَحْيُ؟ فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهُوَ أشَدُّهُ عَلَيَّ، فيُفْصَمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وأحْيَانًا يتَمَثَّلُ لِيَ المَلَكُ رَجُلًا فيكَلِّمُنِي فَأَعِي ما يَقُولُ" (¬1). وعَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ولَقَدْ رأيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الوَحْيُ في اليَوْمِ الشَّدِيدِ (¬2) البَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا (¬3). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنْهَا أيضًا أَنَّهَا قَالَتْ: . . . فَأخَذَهُ ما كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ (¬4) عِنْدَ الْوَحْي، حتَّى إنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ (¬5) مِنَ العَرَقِ، في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب عرق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في البردِ، وحينَ يأتيهِ الوحيُ - رقم الحديث (2333) (87). (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 32): وفي هذا دَلالةٌ على كثرةِ مُعَاناةِ التَّعَبِ، والكَرْبِ عند نُزُولِ الوحيِ، لِما فيه منْ مُخَالَفَةَ العَادَةِ، وهو كثرةُ العرَقِ في شِدَّةِ البردِ، فإنهُ يشعُرُ بوجُودِ أمرٍ طارئٍ زَائدٍ على الطِّباعِ البَشَرِيَّةِ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب عرق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في البرد - رقم الحديث (2333). (¬4) تأخُذُهُ البُرَحَاءُ: أي شِدَّةُ الكرب مِنْ ثِقَلِ الوَحْي. انظر النهاية (1/ 113). (¬5) قال الحافظ في الفتح (9/ 418): الجُمانُ هو اللُّؤْلُؤُ، فشُبِّهَتْ قَطَرَاتُ عَرَقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجُمَانِ لمُشَابهتها في الصِّفَاتِ والحُسْنِ.

اليَوْمِ الشَّاتِي مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ (¬1). خَامِسُهَا: أَنَّهُ يَرَى الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا، فَيُوحِي إِلَيْهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوحِيَهُ، وهَذَا وَقَعَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ في سُورَةِ النَّجْمِ (¬2). سَادِسُهَا: مَا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ منْ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَغَيْرِهَا (¬3). سَابِعُهَا: كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لهُ مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةِ مَلَكٍ، كَمَا كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليهِ السَّلامُ، وهذِهِ المَرْتَبَةُ هِيَ ثَابِتَةٌ لِمُوسَى عليهِ السَّلامُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا. . .} - رقم الحديث (4750) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب في حديث الإفك - رقم الحديث (2770). (¬2) أخرج الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب معنى قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: ولقدْ رآهُ نزلةً أخرى - رقم الحديث (177) عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لمْ أرَهُ -يعني جبريل عليهِ السَّلامُ- على صُورتهِ التي خُلِقَ عليها غيرَ هاتينِ المَرَّتَيْنِ، رأيته مُنْهَبطًا مِنَ السماء سَادًّا عِظَمُ خلقهِ ما بين السماء إلى الأرض". وروى الترمذي في جامعه بسند صحيح - كتاب التفسير - باب ومن سورة والنجم - رقم الحديث (3562) عن مَسْروقٍ قال: عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: . . . لم يَرَ محمّد -صلى اللَّه عليه وسلم- جبريل عليهِ السَّلامُ في صُورتِهِ إلا مرَّتين: مرَّة عند سِدْرَة المُنْتَهَى، ومرَّة في جِيَادٍ لهُ ستمائة جَنَاحٍ قد سَدَّ الأُفُق. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسْرَاءِ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السَّموات وفرض الصلوات - رقم الحديث (162).

قَطْعًا بِنَصِّ القُرْآنِ (¬1)، وَثُبُوُتُهَا لِنَبِيِّنَا -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ فِي حَدِيثِ المِعْرَاجِ (¬2). وقَدْ زَادَ بَعْضُهُمْ مرْتَبَةً ثَامِنَةً، وهيَ: تَكْلِيمُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ كِفَاحًا مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، وهذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى ربَّهُ تبَارَكَ وتَعَالَى، وهِيَ مَسْأَلةُ خِلَافٍ بَيْنَ السَّلَفِ والخَلَفِ (¬3). قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الوَحْيُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أنْوَاعٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (¬4)، قَالَ بعْضُ أهْلِ التَّفْسِيرِ: الوَحْيُ الأَوَّلُ: مَا أرَاهُمْ فِي المَنَامِ، قَالَ عبَيْدُ بنُ عُمَيْرٍ: رُؤْيَا الأنْبِيَاءَ وَحْيٌ وَقَرَأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (¬5). وَقَالَ غَيْرُ واحِدٍ منْ أهْلِ التَّفْسِيرِ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ¬

_ (¬1) قال تَعَالَى في سورة الأعراف آية (143): {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السموات وفرض الصلوات - رقم الحديث (162). (¬3) انظر زاد المعاد لابن القيم (1/ 79). (¬4) سورة الشورى آية (51). (¬5) سورة الصافات آية (102).

* خوف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من نسيان القرآن

كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عليهِ السَّلامُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ حتَّى قَالَ: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (¬1)، وقولُهُ تَعَالَى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} فهُوَ إرْسَالُ الرُّوحِ الأمِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (¬2). وقد كان لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- جميع هذه الأنواع، فقال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ في رؤياه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} (¬3). * خَوْفُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ نِسْيَانِ القُرْآنِ: وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخَافُ مِنْ نِسْيَانِ الوَحْي، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، في قولِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعَالِجُ (¬4) مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ. . فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬5) قَالَ: جَمْعَهُ في صَدْرِكَ وَتَقْرَأهُ، . . {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. .، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أتَاهُ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلامُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قرَأَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا أقْرَأهُ (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأعراف آية (143). (¬2) سورة الشعراء الآية (193 - 194). (¬3) سورة الفتح آية (28) - وانظر كلام الإمام البغوي في شرح السنة (13/ 324). (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/ 43): المعالجة: هي محاولة الشيء بمشقة. (¬5) سورة القيامة آية (16 - 17). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - رقم الحديث (5) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب فإذا قَرَآناهُ فاتَّبعْ قُرْآنَهُ - رقم الحديث (4929) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الاستماع للقراءة - رقم الحديث (448) (148).

* أدوار الدعوة في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومراحلها

* أدْوَارُ الدَّعْوَةِ في حيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَرَاحِلُهَا: مُنْذُ أَنْ تَلَقَّى النبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمْرَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ في قولهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ. . وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} قامَ مِنْ فَوْرِهِ يدْعُو النَّاسَ إلى عِبَادَةِ اللَّه وحْدَهُ، ويَعْرِضُ عليهِمُ الأَخْذَ بهَذَا الدِّينِ الذِي أرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وقدْ مرَّتِ الدَّعْوَةُ في حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنْذُ بِعْثَتِهِ إلى وَفَاتِهِ بِفَتْرَتَيْنِ، تَمْتَازُ إحْدَاهُمَا عنِ الأُخْرَى تَمَامَ الامْتِيَازِ، وهُمَا: 1 - الفتْرَةُ المَكِّيَّةُ، واسْتَمَرَّتْ ثلاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ تَقْرِيبًا. 2 - الفترَةُ المَدَنِيَّةُ، واسْتَمَرَّتْ عَشْرَ سَنوَاتٍ كامِلَةٍ. وتَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنَ الفَتْرَتَيْنِ عَلَى مَرَاحِلَ، لِكُلٍّ منْهَا خِصَائِصُ تَمْتَازُ بِهَا عَنْ غَيْرِهَا، ويظْهَرُ ذلِكَ جَلِيًّا بَعْدَ النَّظَرِ في الظُّرُوفِ التِي مرَّتْ بها الدَّعْوَةُ خِلَالَ الدَّوْرَيْنِ. يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الفَتْرَةِ المَكِيَّةِ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ: 1 - المَرْحَلَةُ الأُولَى: الدَّعْوَةُ السِّرِّيَّةُ، واسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ. 2 - المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: الدَّعْوَةُ جَهْرًا، وبِاللِّسَانِ فَقَطْ، دُونَ قِتَالٍ، مِنْ بِدَايَةِ السَّنَةِ الرَّابعَةِ للبِعْثَةِ، حتَّى الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ.

أمَّا الفَتْرَةُ المَدَنِيَّةُ فيُمْكِنُ تَقْسِيمُهَا إِلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ: * المَرْحَلَةُ الأولَى: مَرْحَلَةٌ أُثِيرَتْ فيِها القَلَاقِلُ والفِتَنُ، وأُقِيمَتْ فيهَا العَرَاقِيلُ منَ الدَّاخِلِ، وزَحَفَ فيهَا الأعْدَاءُ إِلَى المَدِينَةِ لِاسْتِئْصَالِ خَضْرَائِهَا مِنَ الخَارجِ. واسْتَمَرَّتْ هذهِ المَرْحَلَةُ إِلَى عَامِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ سنةَ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ. * المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: مرْحَلَةُ الهُدْنَةِ معَ الزَّعَامَةِ الوَثَنِيَّةِ، واسْتَمَرَّتْ حتَّى فَتْحِ مكَّةَ، في رَمَضَانَ سنةَ ثَمَانٍ منَ الهِجْرَةِ، وهِيَ مَرْحَلَةُ دَعْوَةِ المُلُوكِ، والأُمَرَاءِ إِلَى الإسْلَامِ. * المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: مرحَلَةُ دُخُولِ النَّاسِ في دِينِ اللَّهِ أفْوَاجًا، وهِيَ مرْحَلةُ تَوَافُدِ القَبَائِلِ والأقْوَامِ إِلَى المَدِينَةِ، واسْتَمَرَّتْ إِلَى انْتِهَاءِ حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 74.

الدعوة السرية

الدَّعْوَةُ السِّرِّيةُ بَدَأ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يدْعُو إِلَى الإسْلَامِ سِرًّا (¬1) لِئَلَّا يُفَاجِئَ أَهْلَ مَكَّةَ بِما يُهَيِّجُهُمْ علَيْهِ، فَجَعَلَ يَعْرِض الإسْلامَ عَلَى أَلْصَقِ الناسِ بِهِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وأصْدِقَائِهِ، ويَعْرِضُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَوَسَّمُ فِيهِ خَيْرًا مِمَّنْ يَعْرِفُهُمْ بِحُبِّ الحَقِّ، وَالخَيْرِ، ويَعْرِفُونَهُ بِالصِّدْقِ والصَّلَاحِ (¬2). * إسْلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ أوَّلُ مَن آمنَ به -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ النِّسَاءَ، بَلْ أوَّلُ مَنْ آمنَ به عَلَى الإطْلَاقِ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قَالَ ابنُ الأثِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: خَدِيجَةُ أوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ أَسْلَمَ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، لمْ يَتَقَدَّمْهَا رَجُلٌ ولا امْرَأَةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) قلتُ: ممَّا يدلُّ على أن الدَّعوة أول ما بدأت كانت سِرِّية، ما رواه الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (832) عن عمرو بن عَبَسَة -رضي اللَّه عنه- قال: . . . سمعتُ بِرَجُلٍ بمكَّة يخبرُ أخبارًا، فقعَدْتُ على راحِلَتِي، فقدمتُ عليه، فإذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُسْتَخْفِيًا. . . (¬2) الرحيق المختوم ص 75. (¬3) انظر أسد الغابة (5/ 260).

* إسلام علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-

وَقَالَ الحَافِظُ في الإصَابَةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأوَّلُ مَنْ صَدَّقَتْ ببعْثَتِهِ مُطْلَقًا (¬1) وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وآمَنَتْ به خدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ، وصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ، ووَازَرَتْهُ عَلَى أمْرِهِ، وكانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ، وصدَّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ، فخَفَّفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكان رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمَّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدٍّ عليْهِ، وتَكْذِيبٍ لَهُ، فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ، إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا، تُثَبِّتُهُ وتُخَفِّفُ عَلَيْهِ، وتُصَدِّقُهُ وتُهَوِّنُ علَيْهِ أمْرَ النَّاسِ، رحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى (¬2). * إسْلامُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3): ثُمَّ أسْلَمَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- ابْنُ عَمِّ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ حِينَ أسْلَمَ، وكَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ عَلَى الصَّحِيحِ (¬4)، ولَمْ يَعْبُدِ الأوْثَانَ قَطُّ لِصِغَرِهِ، ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (8/ 99). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 277). (¬3) هو عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ، ابنُ عَمِّ النبىِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أوَّلُ من أسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ، وُلد قبلَ البِعْثَةِ بعشرِ سنينَ على الصَّحيح، فرُبِّيَ في حِجْرِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يُفَارقْهُ، وشَهِدَ معه المَشَاهِدَ كُلَّها إلا غزْوَةَ تَبُوك، وزوَّجهُ ابنتهُ فاطمةَ، منَاقِبُهُ وفضائِلُهُ كثيرةٌ، حتَّى قال الإمام أحمدُ: لم يُنْقَلْ لِأَحَدٍ منَ الصَّحابَةِ ما نُقلَ لِعَلِيٍّ، قُتل -رضي اللَّه عنه- في صَبِيحَةَ يومِ الجُمُعة، في السابع عشر من رمضان، سنة أربعين من الهجرة. انظر الإصابة (4/ 464). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 566): الأصحُّ في سِنِّ عليّ -رضي اللَّه عنه- حينَ المبعثِ كَانَ عَشْرَ سنين.

وكَانَ فِي حِجْرِ (¬1) النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصِّبْيَانِ (¬2). روَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وابْنُ إسْحَاقَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُجَاهِدِ بنِ جَبْرٍ قَالَ: كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، ومِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ، وأرَادَهُ بِهِ مِنَ الخَيْرِ: أَنَّ قُرَيْشًا أصَابَتْهُمْ أزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ، فقَالَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمِّهِ العَبَّاسِ، وَكَانَ مِنْ أيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: يَا أبَا الفَضْلِ إِنَّ أخَاكَ أبَا طَالِبٍ كَثِيرُ العِيَالِ، وقَدْ أصَابَ النَّاسَ مَا ترى مِنْ هَذِهِ الأزْمَةِ، فانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ نُخَفِّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ، آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا، وتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا فَنَكْفُلُهُمَا عَنْهُ. فَقَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-: نَعَمْ، فانْطَلَقَا حتَّى أتَيَا أبَا طَالِبٍ، فقَالَا لَهُ: إنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عنْكَ مِنْ عِيَالِكَ حتَّى تَنْكَشِفَ عنِ النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ: إِذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلًا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا، فأخَذَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وأَخَذَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- جَعْفَرًا -رضي اللَّه عنه- فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فلَمْ يَزَلْ عَلِيُّ -رضي اللَّه عنه- مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، فاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- وَآمَنَ بِهِ، وَصَدَّقَهُ، وأخَذَ العبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- جَعْفَرًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولمْ يَزَلْ جَعْفرُ -رضي اللَّه عنه-، معَ العبَّاسِ -رضي اللَّه عنه- حتَّى أسْلَمَ، واسْتَعنَى عَنْهُ (¬3). ¬

_ (¬1) يُقالُ: نَشَأ فلانٌ في حِجْرِ فُلانٍ: أي حَفْظِهِ وسِتْرِه. انظر لسان العرب (3/ 59). (¬2) انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 426) - ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 161 - 165) - سيرة ابن هشام (1/ 282). (¬3) أخرج ذلك: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كفالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعيال أبي طالب - رقم الحديث (6522) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 282).

* إسلام زيد بن حارثة -رضي الله عنه-

* إسْلامُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬1): ثمَّ أسلَمَ مَوْلاهُ (¬2) زيدُ بنُ حَارِثَةَ الكَلْبِيّ -رضي اللَّه عنه-، وهُوَ أوَّلُ مَنْ أسْلَمَ مِنَ المَوَالِي، ويُقَالُ لَهُ حِبُّ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ الذِي آثَرَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى وَالِدِهِ وأهْلِهِ. وسَبَبُ وُجُودِهِ عِنْدَ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ وَحَسَّنَهُ، وابْنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ: أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ (¬3) قَدِمَ مِنَ الشَّامِ بِرَقِيقٍ، فِيهِمْ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، فدَخَلَتْ عليهِ خدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدَ، فَقَالَ لهَا: اخْتَارِي أيَّ هَؤُلَاءِ الغِلْمَانِ شِئْتِ، فهُوَ لَكِ، فاختارَتْ زَيْدًا فأخَذَتْهُ، فلمَّا رآهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْجَبَهُ فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا، فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فأعْتَقَهُ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وتَبَنَّاهُ، فَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بنَ مُحَمَّدٍ، وذلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَ أبُوهُ حَارِثَةُ قَدْ جَزِعَ عليهِ جَزَعًا ¬

_ (¬1) هو زَيْدُ بن حَارِثَةَ بن شُرَحْبِيلَ، أبو أسامة، وحِبُّ رسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان لخديجةَ أوَّلًا، فوَهَبَتْهُ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ النُّبوةِ، فتَبَنَّاهُ، فكان يُقال له: زيدُ بن محمد، ولم يَزَل كذلك حتى أنزل اللَّه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} "الأحزاب آية 5"، وهاجرَ وشَهِدَ بَدْرًا وما بَعْدَها، إلى أن بَعَثَهُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامَ ثمانٍ للهجرةِ أمِيرًا على جيش مُؤْتَةَ، فلقُوا الروم هنالك في جَمْعٍ عَظِيمٍ في معركة مُؤْتَةَ، فقُتلَ هنالكَ -رضي اللَّه عنه-، وعُمْرُه خمس وخمسُونَ سنة. انظر الإصابة (2/ 494). (¬2) المَوْلَى: هو المَمْلُوكُ الذي أُعْتِقَ. انظر النهاية (5/ 198). (¬3) هو حَكِيمُ بنُ حِزَامِ بن خُوَيْلِدٍ، ابنُ أخِي خَدِيجة بنتِ خُويلد زَوْجِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وُلد في جَوْفِ الكعبَةِ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، تأخَّرَ إسلامه حتى أسلَمَ عامَ الفَتْحِ. وَكَانَ مِنَ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وأعطاهُ رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ حُنَيْن مِائَةَ بَعِيرٍ، ثم حَسُنَ إسْلامُهُ. مات -رضي اللَّه عنه- سنة (60 هـ)، وقيل غير ذلك. انظر أسد الغابة (2/ 44).

شَدِيدًا، وبكَى عليهِ حِينَ فَقَدَهُ، وَقَالَ فِيهِ: بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ ولَمْ أدْرِ مَا فَعَلْ ... أحَيٌّ فَيْرْجَى أمْ أتَى دُونَهُ الأَجَلْ فَوَ اللَّهِ ما أدْرِي وإنِّي لسَائِلٌ ... أغَالَكَ بعْدِي السَّهْلُ أمْ غَالَكَ الجَبَلْ ويَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَكَ الدَّهْرُ أَوْبَةٌ (¬1) ... فَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا رُجُوعُكَ لِي بَجَلْ (¬2) تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إِذَا غَرْبُهَا أَفَلْ (¬3) وإنْ هَبَّتِ الأرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ (¬4) العَيْشِ فِي الأَرْضِ جَاهِدًا ... ولَا أسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الإِبِلْ ¬

_ (¬1) الأوب: الرجوع. انظر لسان العرب (1/ 258). (¬2) البَجَل: العجب. انظر لسان العرب (1/ 319). (¬3) أفلت الشمس: غابت. انظر لسان العرب (1/ 167). ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام آية (76) على لسان إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}. (¬4) النَصُّ: منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها. انظر لسان العرب (14/ 163).

حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي ... فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ فلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ بِمَكَّةَ قدِمَهَا لِيَفْدِيَهُ، فدَخَلَ حَارِثَةُ وَأخُوهُ عَلَى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: يا ابنَ عبدِ اللَّهِ! يا ابنَ عبدِ المُطَّلِبِ! يا ابنَ هَاشِمٍ! يا ابنَ سَيِّدِ قَوْمِه! أنْتُمْ أَهْلُ الحَرَمِ، وجِيرَانُهُ وعِنْدَ بَيْتِهِ، تَفُكُّونَ العَانِي، وتُطْعِمُونَ الأسِيرَ، جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا عِنْدَكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا، وَأحْسِنْ إلَيْنَا في فِدَائِهِ، فإنَّا سَنَرْفَعُ لَكَ فِي الفِدَاءِ. فَقَالَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هُوَ"؟ قَالَا: زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَدَعَى رسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدًا، فَقَالَ لَهُ: "إنْ شِئْتَ فَأقِمْ عِنْدِي، وإنْ شِئْتَ فَانْطَلِقْ مَعَ أبِيكَ"، فَقَالَ زَيْدٌ: بَلْ أُقِيمُ عِنْدَكَ، ومَا أنَا بِالذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أحَدًا، أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الأبِ وَالأمِّ، فقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أتَخْتَارُ العُبُودِيَّةَ عَلَى الحُرِّيَّةِ، وعَلَى أبِيكَ وعَمِّكَ وأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنِّي قَدْ رَأيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا، ما أنَا بِالذي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أحَدًا أبَدًا، فَلَمْ يَزَلْ زَيْدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَصَدَّقَهُ، وأسْلَمَ، وصَلَّى مَعَهُ، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬1) قَالَ: أنَا زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية رقم (5). (¬2) أخرج ذلك: الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب زيد بن حارثة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4149) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 284).

* بنات النبي -صلى الله عليه وسلم-

* بَنَاتُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: كذَلِكَ سَارَعَ إِلَى الإِسْلَامِ بَنَاتُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لأنَّهُ لا شَكَّ في تَمَسُّكِهِنَّ قَبْلَ البِعْثَةِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أبُوهُنَّ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ، وحُسْنِ السِّيرَةِ، والتَّنَزُّهِ عمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ مِنْ عِبَادَةِ الأصْنَامِ، والوُقُوعِ في الآثَامِ، وفي اقْتِدَائِهِنَّ بِأُمِّهِنَّ في المُسَارَعَةِ إلى الإِيمَانِ. قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وَأَمَّا بَنَاتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فكُلُّهُنَّ أدْرَكْنَ الإِسْلَامَ، فأسْلَمْنَ وهَاجَرْنَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * إسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- (¬2): أوَّلُ مَنْ أسْلَمَ مِنْ خَارجِ بَيْتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- فَهُوَ أوَّلُ مَنْ آمَنَ بالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الرِّجَالِ البَالِغِينَ الأَحْرَارِ، وَكَانَ صَدِيقًا للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ البِعْثَةِ، وهُوَ أَصْغَرُ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ تَقْرِيبًا، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ، وأَمَانَتِهِ، وحُسْنِ سجِيَّيهِ، وكَرَمِ أخْلَاقِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الكَذِبِ عَلَى ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 227). (¬2) هوَ عبد اللَّه بن عثمان بن عامرٍ القُرَشِيُّ التَيْمِيُّ، صدِّيقُ هذ الأمةِ، وخَلِيفَة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولد بعد الفِيل بسنتينِ وأشهر، صَحِبَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبلَ البِعْثَةِ، وسبقَ إلى الإيمان، واستَمَرَّ معهُ طُولَ إقامَتِهِ بمَكَّةَ، ورَافَقَهُ في الهِجْرَةِ، وفي الغارِ، وفي المَشَاهِدِ كُلِّهَا إلى أن ماتَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان لَقَبُهُ عَتِيقًا، واشتهِرَ بهِ، وهو أفضَلُ هذهِ الأمَّة بعد نَبِيِّها -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومناقِبُهُ تَفُوقُ الحَصْرَ. تُوُفي -رضي اللَّه عنه- يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة. انظر الإصابة (4/ 145).

* الأدلة على تقدم إسلام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

الخَلْقِ، وَلِهَذَا مَا إِنْ ذَكَرَ لَهُ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ بَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، ولَمْ يتَلَعْثَمْ. قَالَ الرَّسُولُ-صلى اللَّه عليه وسلم- عنَه: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كبْوَةٌ (¬1)، ونَظَرٌ، وَتَرَدُّدٌ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، مَا عَكَمَ (¬2) عَنْهُ حِينَ ذَكرْتُهُ لَهُ، وَمَا تَرَدَّدَ فِيهِ" (¬3). * الأَدِلَّةُ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: قُلْتُ: الأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ-رضي اللَّه عنه- أوَّلُ مَنْ أسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَمَا بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ: ألَسْتُ أحَقَّ النَّاسِ بِهَا؟ ألَسْتُ أوَّلَ مَنْ أسْلَمَ؟ (¬4). وروَى الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ والإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ ولَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ البَغَوِيِّ في مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ وسَنَدُهُ حَسَنٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ ¬

_ (¬1) الكَبْوَةُ: هي الوَقْفَةُ كَوَقفةِ العَاثِرِ، أو الوَقْفَةُ عِنْدَ الشَّيءِ يكرَهُهُ الإنسان. انظر النهاية (4/ 127). (¬2) قال ابن هشام في السيرة (1/ 288): عَكَمَ: أي تَلَبَّث. (¬3) أورد هذا الحديث ابن الأثير في جامع الأصول (8/ 585) -وعزاه إلى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (1/ 288) وإسناده منقطع. (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب في مناقب أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3997) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6422).

قَالَ: سَأَلْتُ ابنَ عبَّاسٍ -رضي اللَّه عنه-: مَنْ أوَّلُ مَنْ أسْلَمَ؟ ، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ قَالَ: أمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانٍ -رضي اللَّه عنه-: إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا (¬1) مِنْ أخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أخَاكَ أبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا التَّالِيَ الثَّانِيَ المَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وأوَّلُ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا والثَّانِيَ اثْنَيْنِ فِي الغَارِ المُنِيفِ وَقَدْ ... طافَ العَدُوُّ بِهِ إذْ صَعَّدَ الجَبَلَا وَكَانَ حِبَّ (¬2) رَسُول اللَّهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ البَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلَا خَيْرُ البَرِيَّةِ أتْقَاهَا وأرَأَفَهَا ... بَعْدَ النَّبِيِّ وأوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا (¬3) قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وفي مَدْحِ حَسَّانَ الذِي قَالَ فِيهِ، وسَمِعَهُ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَمْ يُنْكِرْهُ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ أوَّلُ مَنْ أسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي ¬

_ (¬1) الشَّجْوُ: الحُزْنُ. انظر النهاية (2/ 401). (¬2) الحِبُّ: أي مَحْبُوبُهُ. انظر النهاية (1/ 316). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب استنشاده -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَدْحِ الصديق - رقم الحديث (4470) - وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة رقم الحديث (103) - وأخرجه البغوي في معجم الصحابة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -بسند حسن- وانظر الأبيات في ديوان حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- ص 179. (¬4) الرَّوْض الأُنُف (1/ 431).

* منزلته -رضي الله عنه- في قريش ودعوته للإسلام

بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكوا لِي صَاحِبِي؟ " مَرَّتَيْنِ (¬1). * مَنْزِلَتُهُ -رضي اللَّه عنه- فِي قُرَيْشٍ وَدَعْوَتُهُ لِلإِسْلَامِ: قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا أسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، أظْهَرَ إسْلَامَهُ، ودَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، . . . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مُؤَلَّفًا (¬2) لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلًا، وكَانَ أنْسَبَ (¬3) قُريْشٍ لِقرَيْشٍ، وأعْلمَ قرَيْشٍ بِهَا وَبِمَا، كَانَ فِيهَا مِنْ خيرٍ وشرٍّ، وكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا، ذَا خُلُقٍ ومَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ، ويَأْلفونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الأمْرِ، لِعِلْمِهِ، وتِجَارَتهِ، وحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى الإِسْلَامِ مَنْ وثِقَ به مِنْ قَوْمِهِ، مِمَّنْ يَغْشَاهُ، ويَجْلِسُ إِلَيْهِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا" - رقم الحديث (3661). (¬2) قال الإمام السندي في شرح المسند (15/ 107): أي هُوَ مَحَلُّ ومَظِنَّةٌ للإِلْفِ، لحُسْنِ خُلُقِهِ، وكَرَمِ طَبْعِهِ، ومَحَبَّتِهِ لغَيْرِهِ، مثلَ ما يُحِبُّ لنفسِهِ. (¬3) يُقالُ: رجُلٌ نَسَّابَةٌ: أي بَليغُ العِلْمِ بالأنسَابِ. انظر النهاية (5/ 39). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 286).

ذكر من أسلم على يد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

ذِكْرُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- فأسْلَمَ بِدُعَائِهِ -رضي اللَّه عنه-: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ (¬1)، والزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ (¬2)، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ (¬3)، وسَعْدُ بنُ أَبِي وقَّاصٍ (¬4)، . . . . ¬

_ (¬1) هو عُثْمانُ بنُ عَفَّان بن أَبِي العَاصِ، أميرُ المؤمنينَ، وُلدَ بعدَ الفِيلِ بِسِتِّ سنين على الصَّحيح، أسلمَ قَدِيمًا وهاجَرَ الهجرَتَيْنِ، وزَوَّجَهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنَتَيْهِ رُقيَّةَ، وأمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فلذلكَ كَانَ يُلقَّب ذَا النُّورَيْنِ. وهو أحدُ العشَرَةِ المُبَشَّرِينَ بالجنَّةِ. قُتلَ يومَ الجُمُعَةِ لثمان عشرةَ خَلَتْ من ذِي الحجة بعدَ العَصْر سنة خمس وثلاثين للهجرة، ودُفِن ليلة السبت بين المغرب والعشاء، وهو ابنُ اثنينِ وثَمَانين سنة وأَشهُر على الصحيح المشهور. انظر الإصابة (4/ 377). (¬2) هو الزُّبير بنُ العَوَّام بن خُوَيلد، حَوَاري رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأمه صَفِية بنتُ عبدِ المُطَّلِبِ عَمَّة رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. أسلمَ قَدِيمًا، وَكَانَ عُمُرُهُ إذْ ذاكَ خمسَ عشرَةَ سنة على المَشْهُورِ، ولا خِلَافَ أَنَّهُ لم يبلغ العِشرين، وهو أحدُ العشَرَةِ المَشْهُودِ لهم بالجنَّة، قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وعمرُهُ أربعٌ وسِتُّونَ سنةً، وقيلَ أربعٌ أو سبعٌ وخَمْسُون سنة، قتَلَهُ عَمْرُو بن جُرْمُوزٍ قبَّحه اللَّه. انظر أسد الغابة (2/ 209). (¬3) هو عبد الرحمنِ بن عَوْفٍ، أبو محمد الزهري من السَّابِقِينَ إلى الإسلام. هاجر إلى الحبشةِ، ثُمَّ إلى المدينة، وشهِدَ بَدْرًا، وأُحدًا، والمشَاهِدَ كُلَّها، ومناقبه -رضي اللَّه عنه- كثيرة، توفي سنة ثنتين وثلاثين عن خمس وسبعين سنة، ودُفِن بالبقِيع. انظر الإصابة (4/ 290). (¬4) هو سعْدُ بن مالكٍ، أبو إسحاق، أسلمَ قَدِيمًا سابع سَبْعَةٍ، وهو ابنُ تِسْعَ عشرة سنة. وهو أحد العشَرَةِ المشهُودِ لهم بالجنَّة، وهو أول من رَمَى بِسَهْمٍ في سبيل اللَّه، وكان مُجابَ الدَّعوَةِ مَشْهورًا بذلك. =

وطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (¬1). فكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الذِينَ سَبَقُوا النَّاسَ هُمُ الرَّعِيلُ الأَوَّلُ، وطَلِيعَةُ الإِسْلَامِ. فجَاءَ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ، وأسْلَمُوا وأصْبَحُوا مِنْ جُنُودِ الإِسْلَامِ المُخْلِصِينَ لِدَعْوَتِهِ. ثمَّ تَلاهُمْ جَمْعٌ آخَرُ منَ المُسْلِمِينَ الأوَائِلِ وهُمْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ (¬2)، وأَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأسَدِ (¬3)، والأرْقَمُ بنُ أَبِي الأَرْقَمِ (¬4)، وعُثْمَانُ ¬

_ = توفِّي -رضي اللَّه عنه- بقَصْرِهِ بالعَقِيقِ قُرْب المدينة، فحُمِلَ إلى المسجِدِ النبوي، وذلك في سنة إحدى وخمسين، وقيل: لسِت، وقيل: سبع، وعمره ثلاث وثمانون سنة، وهو آخر العشرة المبَشَّرين بالجنةِ وفاةً. انظر أسد الغابة (2/ 307). (¬1) هو طلحَةُ بنُ عُبَيد اللَّه، القُرَشِيُّ التّيْمِيُّ، أحدُ العشَرَةِ المشهُودِ لهم بالجنَّة، وأحدُ السِّتة أصحاب الشُّورى الذين نَصَّ عليهم عُمَر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، بقوله: تُوُفِّي رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهوَ عنهُمْ راضٍ. قُتلَ -رضي اللَّه عنه- يومَ وقْعَةِ الجَمَل في العاشِرِ من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وقد استَكْمَلَ مِنَ العُمُرِ يومئذٍ أربعًا وسِتِّين سنة. انظر الإصابة (3/ 430). (¬2) هُوَ عامرُ بنُ عبدِ اللَّه بنِ الجَرَّاحِ، أحدُ العَشَرَةِ المشهُودِ لهم بالجنَّةِ، وأمِينُ هذه الأمَّة. أسلمَ قَدِيمًا وشَهِدَ المَشَاهِدَ كُلَّها، توفي -رضي اللَّه عنه- بطَاعُونِ عَمَوَاسٍ سنة ثماني عشرة، وله ثمان وخمسون سنة -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (2/ 518). (¬3) هو عبدُ اللَّه بن عبدُ الأسَدِ القُرَشي المَخْزُومِيُّ، يكنى أبا سَلَمة، وهو ابن عمَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أمُّه بَرَّة بنت عبدِ المطلب، وهو أخُو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحمزةُ بن عبد المطلب من الرَّضاعةِ، أرضعتْهُمْ ثُوَيْبَةُ مَوْلاةُ أبي لَهَبٍ. منَ السَّابقين الأولين إلى الإسلام، شَهِد بدرًا وأُحُدًا، ومات في جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة. انظر أسد الغابة (3/ 11). (¬4) هُوَ الأرْقَمُ بنُ أَبِي الأَرْقَمِ، القُرَشِيُّ المَخْزُومِيُّ، كان مِنَ السَّابقينَ الأولينَ إلى =

بنُ مَظْعُونٍ (¬1) وأخَوَاهُ قُدَامَةُ (¬2) وعَبْدُ اللَّهِ (¬3)، وعُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ (¬4)، وَسَعِيدُ بنُ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ (¬5)، وامْرَأتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ ¬

_ = الإسلام، شَهِدَ بَدْرًا، وهُوَ الذي اسْتَخْفَى رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في دَارِهِ، والمسلمون معه بَمَكَّةَ لمَّا خَافُوا المُشْرِكين. توفي -رضي اللَّه عنه- سنة ثلاث وخمسين، وهو ابنُ ثلاثٍ وثمانينَ سنة، ودُفِنَ بالبقيع -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (1/ 196). (¬1) هو عُثْمَانُ بن مظعُونٍ الجُمَحِيُّ، من سَاداتِ المُهَاجرين. أسلم بعد ثلاثةَ عشَرَ رَجُلًا، وهاجرَ الهِجْرَتَيْنِ، وشَهِدَ بدرًا، وكان مِنْ أشَدِّ الناس اجْتِهَادًا في العبادة، يصُومُ النَّهَارَ، ويقُومُ اللَّيْلَ، ويعتَزِلُ النِّسَاءَ. توفي -رضي اللَّه عنه- بعدَ شُهُودِهِ بَدْرًا في السنة الثانية من الهجرة، وهو أوَّل مَنْ مات بالمدينةِ من المُهَاجرين، وأول من دُفن بالبَقِيعِ منهم. انظر الإصابة (4/ 381). (¬2) هو قُدَامَةُ بنُ مَظْعُونٍ القرشِيُّ الجُمَحِيُّ، وهو خالُ حَفْصَةَ وعبد اللَّه ابنَيْ عُمَرَ بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين، مِنَ السَّابِقِينَ الأوَّلين إلى الإسلام، وشَهِدَ بَدْرًا، وأُحُدًا، وسَائِر المشَاهِدِ معَ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. تُوُفِّي -رضي اللَّه عنه- سنة ست وثلاثين من الهجرةِ، وهو ابن ثمان وستين سنة. انظر أسد الغابة (3/ 478). (¬3) هو عبد اللَّه بن مَظْعُون الجُمَحِيُّ، من السابقين إلى الإسلامِ، هاجَرَ إلى الحبشَةِ الهِجْرة الثانية، وشَهِدَ بَدرًا، وتوفي -رضي اللَّه عنه- في خِلافَةِ عُثْمَانَ بن عفَّان سنة ثلاثين من الهجرة وهو ابنُ سِتِّين سنة. انظر أسد الغابة (3/ 81). (¬4) هو عُبَيْدَةُ بن الحارِثِ بن عبدِ المطلب القُرَشِيُّ، كان من السَّابقين إلى الإسلام، وشَهِدَ عبيدةُ بدرًا، وقُتِل فيها -رضي اللَّه عنه- وذلك سنةَ اثنتين من الهجرة. انظر الإصابة (4/ 353). (¬5) هو سَعِيدُ بنُ زَيْدِ بن عَمْرِو بن نُفَيْلٍ القُرَشِيُّ العَدَوِيُّ، أحدُ العَشَرَةِ المَشْهُودِ لهم بالجنة، وهو ابنُ عَمِّ عُمَرَ بن الخَطاب -رضي اللَّه عنه-، وكان صِهْرَ عُمَرَ زَوْجَ أختِهِ فاطِمَةَ بنتِ الخطاب. أسلمَ قَدِيمًا، وكان مُسْتَجَابَ الدَّعْوة. تُوُفي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالعقيق، فحُمِلَ إلى المدينة سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، وهو ابن بِضْعٍ وسَبْعِينَ. انظر أسد الغابة (2/ 325).

الخَطَّابِ (¬1)، وأسْمَاءُ (¬2) بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وأُمُّ الفَضْلِ، وهِيَ لُبَابَةُ الكُبْرَى بِنْتُ الحَارِثِ (¬3)، وخَبَّابُ بنُ الأرَتِّ (¬4)، وعُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ (¬5)، وعُمَيْرُ بنُ أَبِي ¬

_ (¬1) هي فاطمَةُ بنتُ الخطَّاب القُرَشِيَّةُ العَدَوِيُّة، أختُ عمرَ بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين، أسلَمَتْ قَدِيمًّا أَوَّل الإسلام مع زَوْجِهَا سَعِيد، قبل إسلام أخِيهَا عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (8/ 218). (¬2) هي أسماءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدَيق، زوجِ الزُّبَيْرِ بن العوام، ووالِدَةُ عبد اللَّه بنِ الزُّبَيْرِ، وهِيَ أُخْتُ أُمِّ المؤمِنِين عَائشَة لأبيها، أسلمت قَدِيمًا بمَكة، وهي ذاتُ النِّطَاقَيْنِ، بلغتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مائةَ سنةٍ لم يَسْقُطْ لها سِنٌّ، ولم يُنْكَرْ لهَا عَقْلٌ. تُوفيت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعدَ مَقْتَلِ ابنها عبدِ اللَّه بأيَّامٍ، وذلك في سنة ثلاث وسبعين للهجرةِ. انظر أسد الغابة (5/ 209). تنبيه مهم جدًّا: ذكر ابن إسحاق في السيرة (1/ 290) وغيره إسلامَ عائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، في السنة الأولى للبعثة، وهو وَهْمٌ؛ لأن عائشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لم تكنْ وُلدَتْ، فكيف تكونُ أسلمَتْ؟ وكان مولدُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سنة أربع، وقيل: سنة خمس بعد النبوة. (¬3) هي لُبَابَةُ بنت الحارث، الهِلَالِيَّة، زوجةُ العبَّاس بنِ عبد المطلب -رضي اللَّه عنه-، وهيَ أُختُ أُمِّ المؤمنين مَيْمُونَةَ، وخالةُ خَالِدِ بن الوَليدِ، وأختُ أسماءَ بِنْتُ عُمَيْسٍ لِأُمِّهَا. توفِّيت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في خلافة عُثْمَانَ بن عَفَّان قبل زَوْجِها العباس. انظر الإصابة (8/ 299). (¬4) هو خَبَّابُ بنُ الأرَتِّ، حَلِيفٌ لبَنِي زُهْرَةَ، كان حَدّادًا يعمل السُّيُوفَ في الجاهلية، فأصابه سَبْيٌ فَبِيعَ بمَكَّةَ. كان -رضي اللَّه عنه- من السَّابقين الأولين إلى الإسلام، ومِمَّنْ عُذِّب في سبيل اللَّه تَعَالَى، وشَهِدَ بَدرًا، وأُحدًا، والمشَاهِدَ كُلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. نزلَ الكُوفَةَ ومات بها، وهو أوَّل من دُفِنَ بالكوفَةِ مِنَ الصَّحَابة، وكان موته سنة سبع وثلاثين من الهجرة وعمره ثلاث وستون سنة -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (2/ 103). (¬5) هو عُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ، أسلم سابعَ سَبْعَةٍ في الإِسْلَامِ، وهاجَرَ إلى الحبَشَةِ، وهو ابنُ أربعينَ سنةً، ثم عَاد إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بمَكةَ، وشَهِدَ بَدْرًا، والمَشَاهِدَ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أقرَّهُ على البصْرَةِ، فاستَعْفَى عُمَرَ عن وِلايتها، فأبى أن يُعْفِيَه، =

* تسامع الناس دعوة الإسلام

وقَّاصٍ (¬1) أخُو سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ (¬2) حَليِفُ بنِي زُهْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ. * تَسَامُعُ النَّاسِ دَعْوَةَ الإِسْلَامِ: ثُمَّ بَدَأَ النَّاسُ يَتَسَامَعُونَ بِرِسَالَةِ الإِسْلَامِ، وسَارَعَ الفُقَرَاءُ إِلَى الدُّخُولِ في الإِسْلَامِ، فأسْلَمَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ القَارِي (¬3)، وسَلِيطُ بنُ عَمْرٍو (¬4)، وأخُوهُ حَاطِبٌ (¬5)، . . . . ¬

_ = فقال -رضي اللَّه عنه-: اللهُمَّ لا تَرُدَّنِي إليها، فَسَقَطَ عن راحلته، فمات سنة سبع عشرة، وهو مُنْصَرِفٌ من مَكَّةَ إلى البصرة بموضعٍ يُقَالُ له: مَعْدِنُ بني سُليم. انظر أسد الغابة (3/ 201). (¬1) هو عُمَيْرُ بنُ أَبِي وقَّاصٍ القرشي الزهري، أخُو سَعْدٍ، قَدِيمُ الإسلام، مُهَاجِرِيٌّ، شَهِد بَدرًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقُتِل فيها وهو ابن ستّ عشرة سنة، وذلك في السنة الثانية للهجرة. انظر أسد الإصابة (4/ 602). (¬2) هو عبدُ اللَّه بن مسعودٍ، الإمام الحَبْرُ، فقيهُ الأُمَّة. من السَّابِقِينَ الأولينَ، هاجرَ الهِجْرَتَيْنِ إلى الحبشةِ، وإلى المدينةِ، وهُوَ أوَّل من جَهَرَ بالقرآن، وأخذ مِنْ فَمِ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- سبعين سورة، ما ينازِعُهُ فيها أحد، وشَهِدَ بدرًا، وأُحُدًا، والخَنْدَقَ، وبيعَةَ الرِّضْوَانِ، وسائرَ المَشَاهِد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومناقِبُهُ غَزِيرَةٌ. توفي -رضي اللَّه عنه- بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين، ودُفِن بالبقيع وعمره ثلاث وستون سنة. انظر أسد الغابة (3/ 74). (¬3) هو مَسْعُود بن عمرو بن رَبِيعَةَ القَارِئُ، أسلمَ قَديمًا، وكان على المَغَانِمِ يوم حُنَيْن، وأمرَهُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَحْبِسَ السَّبايا والأموال بالجِعرَانَةِ. انظر الإصابة (6/ 80). (¬4) هو سَلِيطُ بن عَمْرٍو القُرَشي العَامِري، كان من المُهَاجِرِين الأولين مِمَّنْ هاجرَ الهِجْرَتَيْن، وهو الذِي بعثَهُ رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هَوْذَةَ بنِ عَلِيٍّ الحَنَفِي مَلِكِ اليَمَامة، وذلك سنة ست أو سبع من الهجرة. انظر أسد الغابة (2/ 366). (¬5) هوَ حاطِبُ بن عَمْرٍو القُرَشي العامري، أسلمَ قَبْلَ دُخُول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقَمِ بن أبي الأرقَمِ، وهو أوَّلُ مَنْ هاجَرَ إلى أَرضِ الحبَشَة، وشَهِدَ بَدْرًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر الإصابة (2/ 6).

وعَيَّاشُ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ (¬1)، وامْرَأَتُهُ أسْمَاءُ بِنْتُ سَلَامَةَ (¬2)، وخُنَيْسُ بنُ حُذَافَةَ (¬3) وعَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ (¬4)، وعبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ (¬5)، وأخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ بنُ جَحْشٍ (¬6)، ¬

_ (¬1) هو عَيَّاشُ بن أبي رَبِيعة، أخُو أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّه، أسلم قَدِيمًا، وهاجر إلى أَرضِ الحَبشَة، وهاجر إلى المدينة، ثم خَدَعَهُ أبو جَهل، والحارِث بن هِشَام، فرجَعَ معهُمَا، فأوثَقَاهُ وحبَسَاهُ بمَكَّةَ، ولما مُنِعَ عيَّاشٌ منَ الهجرة قنَتَ رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعو للمُسْتَضْعَفِينَ بمَكَّة، ويُسَمِّي منهم: الوَليد بن الوَليد، وسَلَمة بن هِشَام، وعَيَّاش بن أبي ربيعة. وقتل عَيَّاش -رضي اللَّه عنه- في معرَكَةِ اليَرْموك. انظر الإصابة (3/ 623). (¬2) هي أسماءُ بنتُ سَلَامَة، كانت من المُهَاجِرَات، هاجَرَت مع زَوْجِهَا عيَّاش بن أبي ربيعة إلى أَرضِ الحَبَشة، وولَدَتْ لهُ عَبْدَ اللَّه بن عَيَّاشٍ، ثم هاجرَت إلى المدينة. انظر أسد الغابة (5/ 210). (¬3) هو خُنَيْسٌ -بالتصغير- بنُ حُذَافَةَ القُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ، كان من السّابقين إلى الإسلام، هاجر إلى الحبشة، ثُمَّ رجع فهاجر إلى المدينة، وشَهِدَ بدرًا، وأصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ يوم أُحُدٍ فمات منها، وكان زوج حفصةَ بنت عمر بن الخطاب، فلما تُوُفِّي تزَّوجها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر الإصابة (2/ 290). (¬4) هو عامرُ بنُ رَبِيعَةَ، كان أحدَ السَّابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة، ومعه امرأتُهُ لَيْلى بنت أبي حثمة، وهاجر إلى المدينة، وشَهِد بدرًا وما بعدها. توفي -رضي اللَّه عنه- سنة اثنين وثلاثين، وقيل سبع وثلاثين بعد قَتلِ عُثْمَانَ بأيَّام. انظر الإصابة (3/ 469). (¬5) هو عبدُ اللَّه بن جَحْشٍ، أُمُّهُ أمَيْمَةُ بنتُ عبدِ المطلب عَمَّةُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أسلمَ قبلَ دُخُول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، وهاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ إلى أرض الحَبَشة، وهاجَرَ -رضي اللَّه عنه- إلى المَدِينة بأهلِهِ، ثم شَهِدَ بَدْرًا، وقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- في أُحُدٍ. وكان عُمُرُهُ حِينَ قُتِلَ في أحُدٍ نَيِّفًا وأربعينَ سَنَةً. انظر أسد الغابة (2/ 565). (¬6) هو عَبد بنُ جَحْشٍ، يُكنى عبدٌ هذا أبا أَحْمَدَ، وغَلَبَتْ عليه كُنْيَتُهُ، وكان -رضي اللَّه عنه- من السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلام، وكان أعمى، وكان شاعرًا، وهو مِمَّنْ هاجرَ إلى أَرضِ الحَبَشة مع =

وجَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ (¬1)، وامْرَأتُهُ أسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ (¬2)، وحَاطِبُ بنُ الحَارِثِ (¬3)، وامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ المُجَلَّلِ (¬4)، . . . . ¬

_ = أخيهِ عبد اللَّه، ثم هاجَرَ إلى المدينةِ، وشَهِدَ بَدْرًا والمشَاهِدَ كُلَّهَا، وتوفي بعد وفَاةِ أُخْتِهِ زَيْنَبَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ في سنة عشرين هجرية. انظر الإصابة (7/ 5). (¬1) هو جَعْفَرُ بنُ أبي طالِبٍ الهَاشِمِيُّ، ابنُ عَمِّ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان أشْبَهَ الناس برسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَلْقًا وخُلُقًا، مِنَ السَّابقين إلى الإسلام. هاجَرَ إلى الحَبَشَة، فأسلم النَّجَاشِيُّ، ومن تَبِعَهُ على يَدَيْهِ، ثم هاجَرَ منها إلى المدينة، فقدِمَ والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخَيبرَ، فتَلَقَّاهُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- واعْتَنَقَهُ. ثم أمَّرَهُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على جَيْشِ غزْوَةِ مُؤْتَةَ إن قُتِلَ زَيْدُ بنُ حارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، واستشْهِدَ -رضي اللَّه عنه- في مُؤْتَةَ، وكانُ عُمُره -رضي اللَّه عنه- حين قُتِلَ إحدى وأربعين سنة. انظر الإصابة (1/ 327). (¬2) هي أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ الخَثْعَمِيَّةُ. أسلمَتْ قَدِيمًا، وهاجَرَت إلى أرض الحبشةِ مَعَ زَوْجِهَا جعفر بن أبي طالب، ثم هاجَرَت إلى المدينة. ولمَّا استشهِدَ زَوْجُها جعفر في غزوة مُؤْتَة، زوَّجهَا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا بكْرٍ الصِّدِّيق -رضي اللَّه عنه-، فولدَتْ لهُ مُحَمَّدًا وقْتَ الإحرَامِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، ثم توفي الصِّدِّيق -رضي اللَّه عنه- فغَسَّلَتْهُ. فلما ماتَ أَبُو بكرٍ الصديقُ -رضي اللَّه عنه- تزوَّجَها عليُّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، فولَدَتْ لهُ يَحْيى، ولا خِلافَ في ذلك. كَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُفَسِّرُ الأحلامَ، وكان عُمَرُ بن الخَطَّاب -رضي اللَّه عنه- يسألُهَا عن تَفْسِير الأحلامِ. انظر الإصابة (8/ 14). (¬3) هو حَاطِبُ بنُ الحَارِثِ الجُمَحِيُّ، هاجرَ هو وزوجُهُ فاطمةُ بنت المُجَلَّل القرشية العامرية إلى أرض الحبشة، فولدتْ له ابنَيْه محمدًا والحارث، ومات -رضي اللَّه عنه- بأرض الحبشة. انظر أسد الغابة (1/ 411). (¬4) هي فَاطِمَةُ بنتُ المُجَلَّلِ القُرَشِيَّةُ العَامِرِيَّةُ، أمُّ جَمِيل، كانت من السَّابقين إلى الإسلام، وممَّنْ هاجرَ إلى الحبشة هي وزوجُهَا حاطِبُ بن الحَارِثِ، وتوفي زوْجُهَا بالحبَشَةِ، وقدِمَتْ هِيَ وابناهَا إلى المَدِينَةِ. انظر الإصابة (8/ 277).

وأخُوهُ حَطَّابُ بنُ الحَارِثِ (¬1)، وامرَأتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ (¬2)، ومَعْمَرُ بنُ الحَارِثِ (¬3)، والسَّائِبُ بنِ مَظْعُونٍ (¬4)، والمُطَّلِبُ بنُ أزْهَرَ (¬5)، وامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أبي عوفٍ (¬6)، ونُعَيْمُ بنُ عَبْدِ اللَّه النَّحَّامُ (¬7)، . . . . ¬

_ (¬1) هو حَطَّابُ بنُ الحَارِثِ القُرَشي الجُمَحِيُّ، هاجر -رضي اللَّه عنه- إلى أرض الحبشة مع أخيه حَاطب ومعه امرأته فكيهَةُ بنتُ يَسَار، ومات حَطَّابٌ في الطرِيقِ إلى أرض الحبشةِ، لم يَصِلْ إِلَيْهَا. انظر أسد الغابة (2/ 33). (¬2) هي فكَيْهَةُ بنتُ يَسَارٍ امرأةُ حَطَّابِ بن الحارثِ الجُمَحِيِّ، ذكرها ابن إسحاق فيمنْ أسْلَمَ قَدِيمًا من المهاجرات، وقال ابن سعد: أسلمَتْ قَدِيمًا بمكة وبايَعَتْ وهَاجَرَتْ الهجرتَيْن. انظر الإصابة (8/ 282). (¬3) هو مَعْمَرُ بنُ الحَارِثِ القُرَشِي الجُمَحِيُّ أخو حَاطِبٍ وحَطَّابٍ، أسلمَ قبلَ دُخُولِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- دارَ الأَرقمِ، وهاجَرَ إلى المدينة، وشَهِدَ بَدرًا، وأُحُدًا والمشاهِدَ كلهَا، وتوفي في خِلافةِ عُمَر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (4/ 172). (¬4) هو السَّائبُ بن مَظْعُونٍ الجُمَحِيُّ، أسلم في أول الإسلام، وهاجَرَ إلى الحبشة الهجرة الثانيةَ، وشَهِدَ بدرًا، والمشَاهِدَ كلهَا، وقُتل -رضي اللَّه عنه- في معركةِ اليَمَامة في خلافة أبي بكرٍ الصِّديق -رضي اللَّه عنه-، وعمره بضع وثلاثون سنة. انظر الإصابة (3/ 20). (¬5) هو المُطَّلِبُ بنُ أزْهَرِ بنِ عَبْدِ عَوْفٍ القُرَشِيُّ، من السابقين إلى الإسلام، ومِنْ مُهَاجِرَةِ الحبشة، وبها مات. انظر أسد الغابة (4/ 139). (¬6) هي رَمْلَةُ بنتُ أَبِي عَوْفِ بن صبرَةَ بنِ سَهْمٍ، أسلمت بمَكة قديمًا، وبايعت وهاجرَت مع زوجها المطلبِ بن أزهرٍ إلى الحبشة، وولدت له ابنهُ عبد اللَّه. انظر الإصابة (8/ 143). (¬7) هو نُعَيمُ بن عبدِ اللَّه النَّحَّام القُرَشِي العَدَوِيُّ. أسلم -رضي اللَّه عنه- قَدِيمًا أوَّل الإسلام. ولم يُهَاجر إلى المدينة إلا بعد سِت سنين للهجرة عام الحُدَيْبِيَةِ، وذلك بسببِ إنْفَاقِهِ على أرَامِلِ قومه، ثم شَهِدَ ما بعدها من المَشَاهِدِ، فلما قَدِمَ المدينة كان معه أربعُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فاعتنَقَهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبَّلهُ، وقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- يوم اليَرْمُوكِ شَهِيدًا سنة خمس عشرة في =

وعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ (¬1) مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وخَالِدُ بنُ سَعِيدِ بنِ العَاصِ (¬2)، وامْرَأَتُهُ أَمَيمَةُ بِنْتُ خَلَفٍ (¬3)، وأَبُو حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ (¬4)، ووَاقِدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ (¬5)، وخَالِدٌ (¬6)، ¬

_ = خلافة عمر -رضي اللَّه عنه-، وقيل استُشْهِدَ بأجْنَادِينَ سنة ثلاث عشرة في خلافة أبي بكر -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (4/ 246). (¬1) هو عامرُ بنُ فُهَيْرَةَ، مولى أبي بَكر الصِّدِّيق، وكان مَمْلُوكا للطُّفيْلِ بن عبدِ اللَّه بن سخبرةَ، فأسلم، وهو مَمْلوك، فاشترَاهُ أبو بكر الصِّدِّيق من الطفيْلِ، فأعتقَهُ، وأسلم -رضي اللَّه عنه- قبل أن يَدْخُلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دارَ الأرقمِ، وكان حسَنَ الإسلام، وعُذّبَ في اللَّه -رضي اللَّه عنه-، وشهد عامِرٌ غزوَةَ بَدْرٍ، وأُحُدٍ، وقُتِل -رضي اللَّه عنه- يوم بِئْرِ معونة سنة أربع من الهجرة، وهو ابن الأربعين سنة. انظر الإصابة (3/ 482). (¬2) هو خالدُ بن سَعِيدِ بن العاصِ القُرَشي الأمَوِيُّ، أحد السابقين الأولين، وهاجر -رضي اللَّه عنه- إلى الحبشَةِ مع امرَأتِهِ أُمَيْمَةُ بنتُ خَالِدٍ الخُزَاعِيَّةُ، وولدت له ابنهُ سَعِيد، وهاجر إلى المدينة مع جَعْفَرِ بن أَبِي طالبٍ، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخيبر، ثم استعْمَلَهُ أَبُو بكر على جيشٍ من جيوشِ المسلمين حينَ بعثَهُم إلى الشام، فَقُتِل بِمَرْجِ الصُّفْرَةِ سنة أربع عشرة في صَدْرِ خِلافَةِ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (2/ 202). (¬3) هي أمَيْمَةُ بنتُ خَلَفٍ الخُزَاعِيَّة، وهي زوج خَالِدِ بن سَعِيدِ بن العاصِ، من السابقات إلى الإسلام، هاجرت إلى الحبشة وولدت له سعيد. انظر أسد الغابة (5/ 220). (¬4) هو أبو حُذَيْفَةَ بن عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ، واسمُهُ مِهْشَمٌ، وقيل: هُشَيْمٌ، من المهاجرين الأوَّلين، وهاجر الهجرتين جميعًا، وشهد بدرًا، وأُحدًا، والمَشَاهد كلها، وقُتِل -رضي اللَّه عنه- يوم اليمامة شهيدًا وهو ابن ثلاث أو أربع وخمسين سنة. انظر الإصابة (7/ 74). (¬5) هو وَاقِدُ بنُ عَبْدِ اللَّه بنِ مَنَافٍ اليَرْبُوعِيُّ، أسلم قَبْلَ دخول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- دار الأرقم، وهو أول من قتَل كافرًا في الإسلام، قتَل عَمْرَو بن الحَضْرَمِيِّ أول مَقْتُولٍ من المشركين في الإسلام، وشَهِد بدرًا، وأُحدًا، والمَشَاهِدَ كلهَا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، تُوفي -رضي اللَّه عنه- في خِلافة عمر بن الخطاب. انظر أسد الغابة (4/ 303). (¬6) هو خالدُ بن البُكَيْرِ اللَّيْثيُّ الكِنَانيُّ، من السابقين إلى الإسلام، وشهد بدرًا، وقُتِل -رضي اللَّه عنه- =

وَعَامِرٌ (¬1)، وعَاقِلٌ (¬2)، وإيَاسٌ (¬3) بَنُو البُكَيْرِ بنِ عَبْدِ يَالِيلَ، وعَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ (¬4)، وصُهَيْبُ بنُ سِنَانٍ (¬5) حَلِيفِ بَنِي تَيْمِ بنِ مُرَّهَ، . . . . ¬

_ = يوم الرَّجِيعِ في صفر سنة أربعٍ من الهجرة، وكان عُمُرُه -رضي اللَّه عنه- لما قُتل: ابن أربع وثلاثين سنة -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (2/ 194). (¬1) هو عامرُ بن البُكَيْرِ، من السابقين الأولين، وشَهِدَ بَدْرًا هو وأخوتُهُ: إيَاسٌ، وعَاقِلٌ، وخالدٌ، وقُتِل عامرٌ -رضي اللَّه عنه- في معركة اليَمَامة شهيدًا. انظر أسد الغابة (2/ 511). (¬2) هو عاقلُ بن البُكَيْرِ، كان -رضي اللَّه عنه- من السابقين إلى الإسلام هو وأخوته: خالدٌ، وإيَاسٌ، وعامرٌ، وشهد هو وإخوته بدرًا. انظر الإصابة (3/ 466). (¬3) هو إياسُ بن البُكَيْر، من السابقين إلى الإسلام، أسلم -رضي اللَّه عنه- ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في دارِ الأرقم، وكان -رضي اللَّه عنه- من المُهَاجِرِينَ الأولين، وشهِدَ هو وأخوتُهُ بدرًا، وشهد -رضي اللَّه عنه- أُحدًا، والخنْدَقَ، والمشاهِدَ كُلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفي -رضي اللَّه عنه- سنة أربع وثلاثين. انظر أسد الغابة (1/ 178). (¬4) هو عَمَّارُ بن ياسِرٍ المِذْحَجِيُّ ثم العَنْسِيُّ، مولى بني مَخْزُومٍ، أحد السابقين الأولين، وأمُّه سُمَيَّةُ، وهي أوَّل من استُشْهِدَ في سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، واختُلِفَ في هِجْرَته إلى الحبشة، وهاجرَ إلى المدينة، وشَهِدَ بدرًا، والمشاهِدَ كلها مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. قُتِل -رضي اللَّه عنه- مع عليٍّ بن أبي طالب بِصِفِّينَ في ربيع الأول سنة سبع وثلاثين، وله ثلاث وتسعون سنة، ودَفنَهُ عليّ في ثِيَابِهِ، ولم يُغَسِّلْهُ. انظر الإصابة (4/ 473). (¬5) هو صُهَيْبُ بن سِنَانٍ النِّمْرِيُّ، ويُعرف بالرُّومِيِّ، لأنهُ أقام في الرُّومِ مُدَّةً، وهو مِنْ أهل الجزيرةِ، سُبِيَ من قَرْيَةِ نِينَوَى في العراق، ثمَّ إنهُ جُلِبَ إلى مكة، فاشْتَرَاهُ عبد اللَّه بن جَدْعَان القُرَشِيُّ التَيْمِي، وكان -رضي اللَّه عنه- من السابقين الأوَّلين، وكان -رضي اللَّه عنه- من المُسْتَضْعَفِينَ بمَكة الذين عُذِّبُوا. وهاجر إلى المدينةِ، وكان -رضي اللَّه عنه- في لسَانِهِ عُجْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وتوفي -رضي اللَّه عنه- بالمدينة سنة ثمان وثلاثين في شوال، وقيل: سنة تسع وثلاثين وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقيل وهو ابنُ سَبْعِين سنة ودُفِنَ بالمدينة. انظر أسد الغابة (2/ 461).

وبِلَالُ بنُ رَبَاحٍ الحَبَشِيُّ (¬1)، ومُصْعَبُ بنُ عُمَيْر (¬2)، وعَمْرُو بنُ عبَسَةَ (¬3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ. أسْلَمَ هَؤُلَاءَ سِرًّا، وكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْتَمعُ بِهِمْ، ويُرْشِدُهُمْ إِلَى الدِّينِ مُسْتَخْفِيًا، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ كَانَتْ لا تَزَالُ فَرْدِيَّةً وسِرِّيَّةً، وَكَانَ الوَحْيُ قَدْ تَتَابَعَ وحَمِيَ بَعْدَ نُزُولِ أوَائِلِ سُورَةِ المُدَّثِّرِ، وكَانَتِ الآيَاتُ وقِطَعُ السُّوَرِ التِي تَنْزِلُ في هَذَا الزَّمَانِ آيَاتٍ قَصِيرَةً، ذَاتَ فَوَاصِلَ رَائِعَةٍ مَنِيعَةٍ، وإيقَاعَاتٍ هَادِئَةٍ خَلَّابَة تَتَنَاسَقُ معَ ذَلِكَ الجَوِّ الهَامِسِ الرَّقِيقِ، تَشْتَمِلُ عَلَى تَحْسِينِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ، ¬

_ (¬1) هو بِلالُ بنُ رَبَاحٍ، مَوْلى أبي بكر الصِّدِّيق، مُؤَذِّنُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من السَّابِقِينَ الأوَّلين. اشتَرَاهُ أبو بكر الصِّدِّيق -رضي اللَّه عنه-، ثم أعْتَقَهُ، فلزِمَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأذَّنَ له، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- ممن عُذِّب في اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وشَهِدَ -رضي اللَّه عنه- بدرًا والمَشَاهد كلها، ومات في دمشق، وذلك في سنة عشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة. انظر الإصابة (1/ 455). (¬2) هو مُصْعَبُ بن عُمَيْم، البَدْرِيُّ القُرَشِيُّ، كان -رضي اللَّه عنه- فَتى مَكَّة شَبَابًا وجَمَالًا، أسلمَ قَدِيمًا والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في دار الأرقم بن أَبِي الأرقَمِ، وكتَمَ إسلامَهُ خَوْفًا من أُمِّهِ وقَوْمِهِ، فعلمَهُ عثمانُ بنُ طَلْحَةَ، فأعلَمَ أهْلَهُ فأوْثَقُوهُ، فلمْ يَزَلْ محبُوسًا إلى أن هَرَبَ معَ مَنْ هاجَرَ إلى الحبَشَةِ، ثم هاجَرَ إلى المدينة بعد بَيْعَةِ العَقَبَةِ الأولى ليُعَلِّمَ الناس القُرْآن، ويُصَلِّيَ بِهِمْ، وشَهِدَ مُصْعَبُ بَدرًا، ثم أحدًا، واستشهد بأُحُدٍ، قتلَهُ ابنُ قَمِئَةَ اللَّيْثيُّ لعنَهُ اللَّه. وكان عمره -رضي اللَّه عنه- عندما استُشْهِدَ أربعينَ سنة أو أكثر قليلًا. انظر أسد الغابة (4/ 134). (¬3) هو عَمْرُو بن عَبَسَةَ، أبو نَجِيع السُّلَمِيُّ البَجَلِيُّ، أسلمَ قديمًا أول الإسلام. وهاجر إلى المدينة، وكان قُدُومُهُ المدينة بعد مُضِيِّ بدرٍ، وأُحُدٍ، والخندف، ونزل بعد ذلك بالشام. قال الحافظ: وأظُنُّهُ ماتَ في أواخر خِلافَةِ عُثْمَانَ، فإنني لمْ أرَ لهُ ذِكْرًا في الفِتْنَةِ، ولا في خِلافَةِ مُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (4/ 545).

وتَقْبِيحِ تَلْوِيثِهَا بِالشَّهَوَاتِ، تَصِفُ الجَنَّةَ والنَّارَ كَأَنَّهُمَا رَأْيَ عَيْنٍ، تَسِيرُ بالمُؤْمِنِينَ فِي جَوٍّ آخَرَ غَيْرِ الذِي فِيهِ المُجْتَمَعُ البَشَرِيُّ آنذَاكَ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم ص 76.

بداية فرض الوضوء والصلاة

بدَايَةُ فَرْضِ الوُضُوءِ (¬1) والصَّلاةِ كَانَ مِنْ أوَائِلِ مَا نَزَلَ: الأَمْرُ بالوُضُوءَ والصَّلَاةِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ جِبْرِيلَ عليهِ السَّلامُ، أتاهُ في أوَّلِ ما أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ الوُضُوءَ والصَّلَاةَ (¬2). ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ والحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . دَخَلَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهِيَ تَبْكِي، فقَالَتْ: هَؤُلاءَ المَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ تَعَاقَدُوا عَلَيْكَ لوْ قَدْ رَأَوْكَ، . . . فَقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا بُنيَّةُ، ايتِيني بِوَضُوءٍ"، فتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمُ المَسْجِدِ (¬3). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وهَذَا الحَدِيثُ يَصْلُحُ عَلَى مَنْ أنْكَرَ وُجُودَ الوُضُوءِ قَبْلَ الهِجْرَةِ، لا عَلَى مَنْ أنْكَرَ وُجُوبَهُ حِينَئِذٍ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 313): الوُضُوءُ بالضمِّ هو الفِعْلُ، وبالفتح الماءُ الذي يتوَضَّأُ به على المشهور فِيهِما، وهو مشْتَقٌّ مِنَ الوضَاءَةِ، وسمِّي بذلك؛ لأنَّ المُصَلِّي يَتَنَظَّفُ فَيَصِيرُ وَضِيئًا. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17480). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2762) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب المعجزات - رقم الحديث (6502) - والحاكم في المستدرك - كتاب الطهارة - باب يغتسل من أربع - رقم الحديث (600). (¬4) انظر فتح الباري (1/ 314).

* أما أمر الصلاة

* أَمَّا أمْرُ الصَّلَاةِ: فقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (¬1)، قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِير في تَفْسِيرِ هذ الآيَةِ: كَانَتْ الصَّلَاةُ المَفْرُوضَةُ قَبْلَ الإِسْرَاءِ ثِنْتيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ في وَقْتِ الفَجْرِ، وقَبْلَ الغُرُوبِ في وَقْتِ العَصْرِ، وقِيامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا، ثُمَّ نُسِخَ في حَقِّ الأمَّةِ وُجُوُبهُ، ثمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ كُلَّهُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءَ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ (¬2). وَقَالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬3)، قَالَ: هِيَ صَلاةٌ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ رَكْعَتَانِ غُدْوَةً، ورَكْعَتَانِ عَشِيَّةً، فيَكُونُ هذَا مِمَّا نُسِخَ، واللَّهُ أعْلَمُ (¬4). وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ الإِسْرَاءِ يُصَلِّي قَطْعًا، وكَذَلِكَ أصْحَاُبهُ، ولَكِنِ اخْتُلِفَ هَلْ افترِضَ قَبْلَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ شَيْءٌ مِنَ الصَّلَوَاتِ أمْ لَا؟ فَيَصِحُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الفَرْضَ أوَّلًا كَانَ صَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وصَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِهَا، والحُجَّةُ فِيهِ قَوْلُه تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا. . .} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة ق آية (39). (¬2) تفسير ابن كثير (7/ 409). (¬3) سورة غافر آية (55). (¬4) انظر تفسير القرطبي (18/ 372). (¬5) سورة طه آية (130) - وانظر كلام الحافظ في فتح الباري (9/ 675).

استخفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في دار الأرقم

استِخْفَاءُ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- والمُسْلِمِينَ في دَارِ الأَرْقَمِ كَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأمُرُ أصْحَابَهُ بِالْتِزَامِ الحَيْطَةِ، والحَذَرِ، والتَّخَفِّي، وعَدَمِ الإعْلَانِ عَنِ الإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَقْضِيَ اللَّهُ أمْرَهُ، فكانُوا إِذَا أرَادُوا الصَّلاةَ خَرَجُوا إِلَى الشِّعَابِ، فَاسْتَخْفَوا فِيهَا بِصَلاتِهِمْ عَنْ أنْظَارِ قُرَيْشٍ، وقَدْ بَقُوا عَلَى ذَلِكَ طِيلَةَ مُدَّةِ الدَّعْوَةِ السِّرِّيَّةِ. * أوَّلُ دَمٍ أُهْرِيقَ في الإِسْلَامِ: وبَيْنَمَا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- فِي نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكَّةَ، إِذَا بِجَمَاعَةٍ مِنَ المُشْرِكِينَ يَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وهُمْ يُصَلُّونَ، فاسْتَنْكَرُوا عَمَلَهُمْ، وعَابُوا عَلَيْهِمْ ما يَصْنَعُونَ، فَلَمْ يَتْرُكْهُمُ المُشْرِكُونَ حتَّى قَاتَلُوهُمْ، واضطر المُسْلِمُونَ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَضَرَبَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أحَدَ المُشْرِكِينَ بِلَحْيِ (¬1) بَعِيرٍ فَشَجَّهُ، فكَانَ هَذَا أوَّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الإِسْلَامِ (¬2). رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قَالَ: أَنَّ ¬

_ (¬1) لَحْيُ البَعِيرِ: همَا العَظْمَانِ اللذَنِ فِيهما الأسنانُ مِنْ داخِلِ الفَمِ، ويكونُ للإنسَانِ والدَّابَّةِ. انظر لسان العرب (12/ 259). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 300) - والكامل في التاريخ (1/ 658).

سَعْدَ بنَ أَبِي وقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أوَّلُ مَنْ أَهْرَاقَ دَمًا في سَبِيلِ اللَّهِ (¬1). هَذَا الحَادِثُ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى المُسْلِمِينَ خِلَالَ صَلاتِهمْ في الشِّعَابِ، حَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى نُصْحِ المُسْلِمِينَ بالتَّخَفِّي، والْتِزَامِ البُيُوتِ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ حتَّى تَسْتَقِرَّ الأَحْوَالُ، وخَاصَّةً أَنَّ المُسْلِمِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ القُوَّةِ مَا يُوَاجِهُونَ بِهِ قُرَيْشًا، ودَخَلَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابهُ دَارَ الأَرْقَمِ بنِ أَبِي الأَرْقَمِ المَخْزُومِيِّ عَلَى الصَّفَا، وكَانَتْ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَعْيُنِ المُشْرِكِينَ ومَجَالِسِهِمْ، فاتَّخَذَهَا مَرْكَزًا لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ولِاجْتِمَاعِهِ بالمُسْلِمِينَ مِنْ أَجْلِ الإِرْشَادِ والتَّعْلِيمِ، ويَتَعَهَّدُهُمْ بِالتَّرْبِيَةِ حتَّى كَوَّنَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمْ أُناسًا يَسْتَهِينُونَ بِكُلِّ الآلَامِ والبَلاءِ في سَبِيلِ دِينهِمْ، وعَقِيدَتِهِمْ، وكَانَ مَنْ يُرِيدُ الإِسْلامَ يَأْتِي إِلَيْهَا مُسْتَخْفِيًا خَشْيَةَ أَنْ يَنَالَهُ أذًى مِنْ قُرَيْشٍ. ومَكَثَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ في دَارِ الأَرْقَمِ بنِ أَبِي الأَرْقَمِ إِلَى أَنْ صَدَع رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدَّعْوَةِ كَمَا سَيَأْتِي. مرَّتْ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، والدَّعْوَةُ لَمْ تَزَلْ سِرِّيَّةً فَرْدِيَّةً، وخِلَالَ هَذِهِ الفَتْرَةِ تَكَوَّنَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ تَقُومُ عَلَى الأُخُوَّةِ والتَّعَاوُنِ، وتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وتَمْكِينهَا مِنْ مَقَامِهَا، ثُمَّ تَنَزَّلَ الوَحْيُ يُكَلِّفُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمُعَالَنَتِهِ قَوْمَهُ، ومُجَابَهَةِ بَاطِلِهِمْ، ومُهَاجَمَةِ أصْنَامِهِمْ جِهَارًا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كان سعد -رضي اللَّه عنه- أول من أَهْرَاقَ دَمًا في سبيل اللَّه - رقم الحديث (6169). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 96.

الجهر بالدعوة

الجَهْرُ بالدَّعْوَةِ وأوَّلُ ما نَزَلَ بهَذَا الصَّدَدِ قولُهُ تَعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1). والسُّورَةُ التِي وَقَعَتْ فِيهَا الآيَةُ -وهِيَ سُورَةُ الشُّعَرَاءَ- ذُكِرَتْ فِيهَا أوَّلًا قِصَّةُ مُوسَى عليهِ السَّلامُ مِنْ بِدَايَةِ نُبُوَّتِهِ إِلَى هِجْرَتِهِ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ، ونَجَاتِهِمْ مِنْ فِرْعَونَ وقَوْمِهِ، وإغْرَاقِ آلِ فِرْعَونَ مَعَهُ، وقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ القِصَّةُ عَلَى جَمِيعِ المَرَاحِلِ التِي مَرَّ بِهَا مُوسَى عَليهِ السَّلامُ خِلالَ دَعْوَةِ فِرْعَونَ وقَوْمِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وهَذَا التَّفْصِيلُ إِنَّمَا جِيءَ بِهِ حِينَ أُمِرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِدَعْوَةِ قَوْمِهِ إِلَى اللَّهِ، لِيَكُونَ أَمَامَهُ، وأَمَامَ أَصْحَابِهِ نَمُوذَجًا لِمَا سَيَلْقَونَهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، والِاضْطِهَادِ حِينَمَا يَجْهَرُونَ بالدَّعْوَةِ، ولِيَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أمْرِهِمْ مُنْذُ بِدَايَةِ دَعْوَتِهِمْ. ¬

_ (¬1) سورة الشعراء الآيات من: (214 - 216).

ومِنْ نَاحِيَةٍ أخْرَى تَشْتَمِلُ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى ذِكْرِ مَألِ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وعَادٍ، وثَمُودَ، وقَوْمِ إبْرَاهِيمَ، وقَوْمِ لُوطٍ، وأصْحَابِ الأَيْكَةِ -عِلَاوَةً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أمْرِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ- لِيَعْلَمَ الذِينَ سَيَقُومُونَ بِالتَّكْذِيبِ بِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أمْرُهُمْ، وبِمَا سَيَلْقَوْنَ مِنْ مُؤَاخَذَةِ اللَّهِ إنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى التَّكْذِيبِ، وليَعْرِفَ المُؤْمِنُونَ أَنَّ حُسْنَ العَاقِبَةِ لَهُمْ لَا لِلْمُكَذِّبِينَ (¬1). ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬2). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أمَرَ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، وَأَنْ يُبادِيَ النَّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ، وكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمْرَهُ، واسْتَترَ بِهِ إِلَى أَنْ أمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلاثَ سِنِينَ -فِيمَا بَلَغَنِي- مِنْ مَبْعَثِهِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). رَوَى الإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ما زَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُسْتَخْفِيًا، حتَّى نَزَلَتْ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فَخَرَجَ هُوَ وأصْحَابُهُ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 78. (¬2) سورة الحجر آية (94). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 299). (¬4) انظر تفسير الطبري (7/ 549)، وتفسير ابن كثير (4/ 551).

* الدعوة في الأقربين

* الدَّعْوَةُ فِي الأَقْرَبِينَ: بَدَأَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَتَنْفِيذِ أمْرِ ربِّهِ، فكَانَ أوَّلَ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَنْ دَعَا جَمِيعَ ذَوِيهِ وأَهْلِ قَرَابَتِهِ، وعَشِيرَتِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، ونَفَرٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَاجْتَمَعَ أرْبَعُونَ أَوْ خَمْسَة وأرْبَعُونَ رَجُلًا، فَصَنَعَ لَهُمْ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ عَلَيْهِ رِجْلُ شَاةٍ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وبَقِيَ الطَّعَامُ كَمَا هُوَ كَأنَّهُ لَمْ يُمَسَّ، ثُمَّ دَعَا بِغُمَرٍ (¬1) مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبُوا حتَّى رَوَوْا وبَقِيَ الشَّرَابُ كأنَّهُ لَمْ يُمَسَّ، فَلَمَّا انْتَهَوْا مِنْ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْبِرُهُمْ بِمَا أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وأرَادَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُكْمِلَ كَلَامَهُ ويَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَابْتَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ الْكَلَامَ، وَقَالَ: هَؤُلَاءَ هُمْ عُمُومَتُكَ وبَنُو عُمُومَتِكَ فتَكَلَّمْ بِمَا تُرِيدُ وَدعَ الصُّبَاةَ (¬2)، واعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِقَوْمِكَ بِالْعَرَبِ قَاطِبَةً طَاقَهٌ، وَأَنَّ أحَقَّ مَنْ أخَذَكَ فَحَبَسَكَ بَنُو أبِيكَ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَهُوَ أيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ أَنْ تَثِبَ عَلَيْكَ بُطُونُ قُرَيْشٍ وتُمِدَّهَا العَرَبُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا جَاءَ عَلَى بَنِي أبِيهِ بِشَرٍّ مِمَّا جِئْتَهُمْ بِهِ. فتَفَرَّقَ القَوْمُ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذَلِكَ المَجْلِسِ. ثُمَّ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَانِيَةً، وصَنَعَ لَهُمْ مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ مَا صَنَعَ أوَّلَ ¬

_ (¬1) الغُمَر: بضم الغين وفتح الميم، هوَ القَدَحُ الصَّغِيرُ. انظر النهاية (3/ 345). (¬2) يُقالُ: صَبَأَ فُلانٌ إذا خَرَجَ مِنْ دِينٍ إلى دِينٍ غيره، وكانت العرب تُسَمِّي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّابِئَ، لأنه خرجَ مِنْ دِين قُرَيش إلى دينِ الإسلام. انظر النهاية (3/ 3).

مَرَّةٍ، فأَكَلُوا وشَرِبُوا، ثُمَّ خَطَبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "الحَمْدُ للَّهِ أحْمَدُهُ وأسْتَعِينُهُ، وأؤُمِنُ بِهِ، وأتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وأشهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الرَّائِدَ (¬1) لَا يَكْذِبُ أهْلَهُ، وَاللَّهِ لَوْ كَذَبْتُ النَّاسَ جَمِيعًا مَا كَذَبْتُكُمْ، ولَوْ غَرَرْتُ النَّاسَ جَمِيعًا مَا غَرَرْتُكُمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهُ إِلَّا هُوَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِلَى النَّاسِ كَافَّة، وَاللَّهِ لَتَمُوتُنَّ كَمَا تَنَامُونَ، وَلَتُبْعَثُنَّ كَمَا تَسْتَيْقِظُونَ، وَلَتُحَاسَبُنَّ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَتُجْزَوُنَّ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَبِالسُّوءِ سُوءًا، وَإِنَّهَا لَجَنَّةُ أبَدًا أَوْ لَنَارٌ أَبَدًا، وَاللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا فِي العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ، إنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أَنْ يَكُونَ أخِي وَصَاحِبِي؟ ". فقَالَ أَبُو طَالِبٍ: مَا أَحَبَّ إِلَيْنَا مُعَاوَنَتَكَ، وَأَقْبَلَنَا لِنَصِيحَتِكَ، وَأَشَدَّ تَصْدِيقًا لِحَدِيثِكَ، وهَؤُلَاءِ بَنُو أبِيكَ مُجْتَمِعُونَ، وَإِنَّمَا أنَا أحَدُهُمْ غَيْرَ أنِّي أسْرَعُهُمْ إِلَى مَا تُحِبُّ، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَا أزَالُ أَحُوطُكَ، وَأَمْنَعُكَ غَيْرَ أَنَّ نَفْسِي لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى فِرَاقِ دِينِ عَبْدِ المُطَّلِبِ (¬2). ثُمَّ تَكَلَّمَ سَائِرُ القَوْمِ كَلَامًا لَيَّنًا غَيْرَ أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ ¬

_ (¬1) أصْلُ الرَّائِدِ: الذي يَتَقَّدُم القومَ يُبْصِرُ لهم الكَلَأَ ومَسَاقِطَ الغَيْثِ. انظر النهاية (2/ 250). (¬2) أخرج ذلك كلَّه: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1371) وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1220) - وإسناده صحيح.

* الدعوة على جبل الصفا

المُطَّلِبِ! هَذِهِ وَاللَّهِ السَّوْأَةُ، خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى يَدَيْهِ غَيْرُكُمْ، فَإِنْ أَسْلَمْتُمُوهُ حِينَئِذٍ ذَلَلْتُمْ، وَإِنْ مَنَعْتُمُوهُ قُتِلْتُمْ. فَقَالَتْ صَفِيَّةُ عَمَّةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي طَالِبٍ: أيْ أُخَيَّ! أيَحْسُنُ بِكَ خُذْلَانُ ابْنِ أَخِيكَ؟ فَوَاللَّهِ مَا زَالَ العُلَمَاءُ يُخْبِرُونَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ عَبْدِ المُطَّلِبِ نَبِيٌّ فَهُوَ هُوَ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَذَا وَاللَّهِ البَاطِلُ وَالْأَمَانِيُّ، وكَلَامُ النِّسَاءِ فِي الحِجَالِ (¬1)، إِذَا قَامَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ، وقَامَتْ مَعَهَا العَرَبُ فَمَا قُوَّتُنَا بِهِمْ؟ فَوَاللَّهِ مَا نَحْنُ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَكْلَةُ رَأْسٍ (¬2)، فَقَالَ أَبُو طَالبٍ: واللَّهِ لَنَمْنَعَنَّهُ مَا بَقِينَا (¬3). * الدَّعْوَةُ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا (¬4): بَعْدَمَا تَأَكَّدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تَعَهُّدِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بِحِمَايَتِهِ، أخَذَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُفَكِّرُ فِي وَسِيلَةٍ جَدِيدَةٍ يُبَلِّغُ فِيهَا قَوْمَهُ رِسَالَةَ رَبِّهِ، فَصَعِدَ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَبَلَ الصَّفَا ذَاتَ يَوْمٍ ¬

_ (¬1) الحَجَلَةُ: بَيْتٌ كالقُبَّةِ يُسْتَرُ بالثِّيَابِ، وتُجمَعُ على حِجَالٍ. انظر النهاية (1/ 334). (¬2) ما هُمْ إلا أكَلَةُ رَأْسٍ: أي قَلِيلٍ، قدر ما يُشْبعهُم رأسٌ واحِدٌ. انظر لسان العرب (1/ 171). (¬3) انظر الكامل في التاريخ (1/ 660)، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (2/ 322). (¬4) الصَّفَا والمَرْوَةُ: هُمَا جبلانِ بينَ بَطْحَاء مكة والمسجد، أما الصَّفا فمكان مُرْتَفِعٌ من جبلِ أَبِي قُبَيْسٍ بينهُ وبين المسجِدِ الحرام عَرْضُ الوادِي، ومن وَقَفَ على الصَّفا كان بِحِذَاءَ الحَجَرِ الأسوَدِ. انظر معجم البلدان (5/ 192).

فَقَالَ: "يَا صَبَاحَاهُ" (¬1)، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الَّذِي يَهْتِفُ (¬2)؟ ، قَالُوا: مُحَمَّدٌ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرَأَيْتُكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " (¬3)، قالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ"، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ! ألِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ ، فنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ (¬4) وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ. . .} (¬5). ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) هذه كلمَةٌ تقُولُهَا العرَبُ إذا صاحُوا للغَارَةِ؛ لأنَّهُم أكثر ما يُغِيرُونَ عند الصَّبَاحِ، ويسمُّون يومَ الغارَةِ يومَ الصَّبَاحِ، فكأن القائل: يا صَبَاحَاهُ، يقول: قد غَشِيَنَا العَدُوُّ. انظر لسان العرب (7/ 273). (¬2) يَهْتِفُ: يُنَادِي. انظر النهاية (5/ 211). (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 451): أرادَ بذلكَ تَقْرِيرَهُمْ بأنهم يَعْلَمُونَ صِدْقهُ إذا أخْبَرَ عن الأمرِ الغائِبِ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (9/ 763): أَبُو لَهَبٍ هوَ ابنُ عبدِ المُطَّلِبِ واسمُهُ عبدُ العُزَّى، وكُنِّيَ أبا لَهَبٍ إما بِابنِهِ لهَب، وإما بشدَّةِ حمْرَةِ وجْنَتِهِ، وقد أخرج الفاكهي من طريق عبد اللَّه بن كثير، قال: إنما سُمِّيَ أبا لَهَب؛ لأن وَجْهَهُ كان يتَلَهَّبُ من حسْنِهِ. ووافق ذلك ما آل إليه أمرُهُ من أنَّه سيَصْلى نارًا ذات لَهَبٍ، ولهذا ذُكر في القرآن بكُنْيَتهِ دونَ اسمه، ولكونه بها أشْهَر. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب وأنذر عَشِيرتك الأقربين - رقم الحديث (4770) - وباب سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} - رقم الحديث (4971) (4972) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في قوله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} - رقم الحديث (208).

-صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، قَالَ: "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ (¬1) لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ويَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ! سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا" (¬2). ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُرَيْشًا، فَاجْتَمَعُوا، فَعَمَّ وخَصَّ، فَقَالَ: "يَا بَنِي كعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ! أَنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كعْبٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ! يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ! أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا" (¬3). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 452): باعتبار تَخْلِيصِهَا منَ النار، كأنه قال: أسلموا تَسْلَمُوا من العذَاب، فكان ذلك كالشِّراء، كأنهم جَعَلوا الطاعة ثَمَنَ النَّجَاةِ، وفيه إشارةٌ إلى أن النفُوسَ كلها مُلكٌ للَّه تَعَالَى، وَأَنَّ مَنْ أطاعه حقَّ طاعتهِ في امتثالِ أوامرِهِ واجتنابِ نَوَاهيهِ وفَّى ما عليه من الثَّمَنِ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب وأنذر عَشِيرَتك الأقربين - رقم الحديث (4771) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في قوله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} - رقم الحديث (206). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في قوله تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} - رقم الحديث (204). =

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وفِي الحَدِيثِ: 1 - أَنَّ الأَقْرَبَ لِلرَّجُلِ مَنْ كَانَ يَجْمَعُهُ هُوَ وَجَدٌّ أعَلَى، وكُلُّ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُ فِي جَدٍّ دُونَ ذَلِكَ كَانَ أقْرَبَ إِلَيْهِ. 2 - وَفِيهِ السِّرُّ فِي الأَمْرِ بِإِنْذَارِ الأقْرَبِينَ أوَّلًا أَنَّ الحُجَّةَ إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ تَعَدَّتْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وإلَّا فكَانُوا عِلَّةً لِلْأَبْعَدِينَ في الِامْتِنَاعِ، وَأَنْ لَا يَأْخُذَهُ مَا يَأْخُذُهُ القَرِيبُ لِلْقَرِيبِ مِنَ العَطْفِ وَالرَّأْفَةِ فِيُحَابِيَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ والتَّخْوِيفِ، فَلِذَلِكَ نَصَّ لَهُ عَلَى إنْذَارِهِمْ (¬1). هَذِهِ الصَّيْحَةُ العَالِيَةُ هِيَ غَايَةُ البَلَاغِ، فَقَدْ فَاصَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْمَهُ عَلَى دَعْوْتِهِ، وأوْضَحَ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ هُوَ حَيَاةُ الصِّلَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ، وَأَنَّ عَصَبِيَّةَ القَرَابَةِ التِي تَقُومُ عَلَيْهَا العَرَبُ ذَابَتْ فِي حَرَارَةِ هَذَا الإِنْذَارِ الآتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَبِيرَ المَنْزِلَةِ فِي بَلَدِهِ مَرْمُوقًا بِالثِّقةِ والمَحَبَّةِ، وهَا هُوَ ذَا يُوَاجِهُ مَكَّةَ بِمَا تَكْرَهُ، وَيَتَعَرَّضُ لِخِصَامِ السُّفَهَاءِ والكُبَرَاءِ، وأوَّلُ قَوْمٍ يُغَامِرُ بِخُسْرَانِ مَوَدَّتهمْ هُمْ عَشِيرَتُهُ الأقْرَبُونَ، لَكِنْ هَذِهِ الآلَامُ تَهُونُ في سَبِيلِ الحَقِّ ¬

_ = قال الحافظ في الفتح (12/ 30): والبِلَالُ بمعنَى البَلَلِ وهو النَّدَاوَةُ، وأُطْلقَ ذلك على الصِّلَةِ كما أُطْلِقَ اليَبْسُ على القَطِيعَةِ؛ لأن النَّدَاوةَ من شأنهَا تَجْمِيعُ ما يحصلُ فيها وتأليفُهُ، بخلاف اليَبْسِ فمِنْ شأنِهِ التَّفْرِيق. (¬1) انظر فتح الباري (9/ 452).

* الصدع بالدعوة وردود فعل قريش

الذِي شَرَحَ اللَّهُ بِهِ صَدْرَهُ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ بَعْدَ هَذَا الإنْذَارِ ومَكَّةُ تَمُوجُ بالغَرَابَةِ والِاسْتِنْكَارِ، وتَسْتَعِدُّ لِحَسْمِ هَذِهِ الثَّوْرَةِ التِي انْدَلَعَتْ بَغْتَةً، وتَخْشَى أَنْ تَأْتِيَ عَلَى تَقَالِيدِهَا ومَوْرُوثَاتِهَا (¬1). * الصَّدْعُ بالدَّعْوَةِ ورُدُودُ فِعْلِ قُرَيْشٍ: لَمَّا أظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الدَّعْوَةَ لِلْإِسْلَامِ، وَصَدَعَ بالحَقِّ كَمَا أمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، ولَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ، حتَّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وعَابَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، أعْظَمُوهُ ونَاكَرُوهُ (¬2)، وأجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ وعَدَاوَتِهِ، إِلَّا عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ الذِي حَدَبَ (¬3) عَلَيْهِ، ومَنَعَهُ وقَامَ دُونَهُ (¬4). ومَضَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في دَعْوَتِهِ مُظْهِرًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ، ومُعَكِّرًا عَلَى خُرَافَاتِ الشِّرْكِ وتُرَّهَاتِهِ (¬5)، ويَذْكُرُ حَقَائِقَ الأصْنَامِ، وَمَا لَهَا مِنْ قِيمَةٍ فِي الحَقِيقَةِ، يَضْرِبُ بِعَجْزِهَا الأمْثَالَ، ويُبَيِّنُ بِالبَيِّناتِ أَنَّ مَنْ عَبَدَهَا وجَعَلَهَا وَسِيلَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 97. (¬2) المُنَاكَرَةُ: أي المُحَارَبة. انظر النهاية (5/ 100). (¬3) حَدَبَ عليهِ: أي عَطَفَ وأشْفَقَ عَليه. انظر النهاية (1/ 337). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 301). (¬5) التُّرَّهَاتُ: هي كنايةٌ عنِ الأباطيلِ، واحِدُها تُرَّهَة بضم التاء وفتح الراء المشددة، وهي في الأصل الطرق الصِّغار المُتَشَعِّبَةُ عن الطريق الأعظم. انظر النهاية (1/ 184). (¬6) انظر الرحيق المختوم ص 80.

* وفد قريش إلى أبي طالب

إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ فَاجَأَ العَرَبَ بِمَا لَمْ يَكُوُنوا يَأْلفُونَهُ، وقَدِ اسْتَنْكَرُوا دَعْوَتَهُ أشَدَّ الِاسْتِنْكَارِ، وكَانَ كُلُّ هَمِّهِمُ القَضَاءَ عَلَيْهِ وعَلَى أَصْحَابِهِ، فكَانَ ذَلِكَ رَدًّا تَارِيخِيًّا عَلَى بَعْضِ دُعَاةِ القَوْمِيَّةِ الذِينَ زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَّمَا كَانَ يُمَثِّلُ في رِسَالَتِهِ آمَالَ العَرَبِ ومَطَامِحَهُمْ حِينَذَاكَ، وهُوَ زَعْمٌ مُضْحِكٌ تَرُدُّهُ وَقَائِعُ التَّارِيخِ الثَّابِتَةُ كَمَا رَأَيْنَا، وما حَمَلَ هذَا القَائِلُ وأمْثَالُهُ عَلَى هذَا القَوْلِ إِلَّا الغُلُوُّ فِي دَعْوَى القَوْمِيَّةِ وجَعْلِ الإِسْلَامِ أمْرًا مُنْبَثِقًا مِنْ ذَاتيَّةِ العَرَبِ وتَفْكِيرِهِمْ، وهَذَا إنْكَارٌ وَاضِحٌ لِنُبُوَّةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخَفْضٌ عَظِيمٌ لِرِسَالَةِ الإِسْلَامِ (¬1). * وَفْدُ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ: فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ وَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُعْتِبُهُمْ (¬2) مِنْ شَيْءٍ أنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، ورَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ أبا طَالِبٍ قَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ وقَامَ دُونَهُ فلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ أشْرَافِ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، وهُمْ: عُتْبَةُ وشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وأَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، وأَبُو البَخْتَرِيِّ، والأسْوَدُ بنُ المُطَّلِبِ، وأَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ، والوَليدُ بنُ المغِيرَةِ، ونُبَيْهٌ ومُنَبِّهٌ ابْنَا الحَجَّاجِ، والعَاصُ بنُ وَائِلٍ، فقالُوا: يا أبَا طَالِبٍ! إِنَّ ابنَ أخِيكَ قَدْ شبَّ آلِهَتَنَا وعَابَ دِينَنَا، وسَفَّهَ أحْلَامَنَا (¬3)، وضَلَّلَ آبَاءَنَا، فإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وإمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فنكْفِيكَهُ، فقَالَ لَهُمْ أَبُو ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 49. (¬2) لا يُعْتِبُهُمْ: اْي لا يُرْضِيهِمْ. انظر لسان العرب (9/ 30). (¬3) الأحلام: العقول. انظر النهاية (1/ 416).

* موقف الوليد بن المغيرة

طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، ورَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا، فانْصَرَفُوا عَنْهُ (¬1). * مَوْقِفُ الوَلِيدِ بنِ المُغِيرَةِ: روَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صحِيحٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الوَليدَ بنَ المُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فكَأنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أبَا جَهْلٍ، فأتاهُ فقَالَ: يَا عَمُّ! إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لكَ مَالًا، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أتَيْتَ مُحَمَّدًا، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أنِّي مِنْ أكْثَرِهَا مَالًا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ، أَوْ أنَّكَ كَارِهٌ لهُ، قَالَ: ومَاذَا أقُولُ؟ فَوَاللَّهِ ما فِيكُمْ رَجُلٌ أعْلَمَ بِالأشْعَارِ مِنِّي، ولا أعْلَمَ بِرَجَزِهِ، ولَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، ولا بأشْعَارِ الجِنِّ، واللَّهِ مَا يُشْبِهُ الذِي يقُولُ شَيْئًا منْ هَذَا، ووَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلهِ الذِي يَقُولُ حَلَاوَةٌ، وإنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةٌ (¬2)، وإنَّهُ لَمُثْمِرٌ أعْلَاهُ، مُغْدِقٌ (¬3) أسْفَلُهُ، وإنَّهُ لَيَعْلُو ومَا يُعَلَى، وإنَّهُ لَيَحْطِمُ ما تَحْتَهُ، قَالَ: لا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حتَّى تقُولَ فيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي حتَّى أُفكِّرَ، فلَمَّا فكَّرَ قَالَ: هذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، يَأْثُرُهُ (¬4) عَنْ غَيْرِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 301 - 302). (¬2) الطَّلاوَةُ: أي رَوْنَقًا وحُسْنًا. انظر النهاية (3/ 125). (¬3) الغَدَقُ: المَطَرُ الكَثِيرُ. انظر لسان العرب (10/ 24). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الجن آية (16): {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}. -وأراد الوليد: أن القرآن نَدِيٌّ وطَرِيٌّ. (¬4) يُؤْثَرُ: أي يُرْوَي ويُحْكَى عنه. انظر النهاية (1/ 26). (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب مدح كلام اللَّه تَعَالَى من لسان الكافر - رقم الحديث (3926).

فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (¬1). قَالَ أحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الذِّكْرُ آيَةُ رَبِّكَ الكُبْرَى التِي ... فِيهَا لِبَاغِي المُعْجِزَاتِ غِنَاءُ صَدْرُ البَيَانِ لَهُ إِذَا الْتَقَتِ اللُّغَى ... وتَقَدَّمَ البُلَغَاءُ والفُصَحَاءُ نُسِخَتْ بِهِ التَّوْرَاةُ وهْيَ وَضِيئَةٌ ... وتَخَلَّفَ الإنْجِيلُ وَهْوَ ذَكَاءُ لَمَّا تَمَشَّي فِي الحِجَازِ حَكِيمُهُ ... فُضَّتْ عُكَاظُ بِهِ وقَامَ حِرَاءُ أزْرَى بِمَنْطِقِ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَيَانِهِمْ ... وَحْيٌ يُقَصِّرُ دُونَهُ البُلَغَاءُ حَسَدُوا فَقَالُوا شَاعِرٌ أَوْ سَاحِرٌ ... ومِنَ الحَسُودِ يَكُونُ الِاسْتِهْزَاءُ قَدْ نَالَ بِالْهَادِي الكَرِيمِ وبِالْهُدَى ... مَا لَمْ تَنَلْ مِنْ سُؤْدُدٍ سَيْنَاءُ أمْسَى كَأنَّكَ مِنْ جَلَالِكَ أُمَّةٌ ... وكَأنَّهُ مِنْ إِنْسِهِ بَيْدَاءُ يُوحِي إلَيْكَ الفَوْزَ فِي ظُلُمَاتِهِ ... مُتَتبِّعًا تُجْلَى بهِ الظَّلْمَاءُ دِينٌ يُشَيَّدُ آيَةً فِي آيَةٍ ... لَبِنَاتُهُ السُّوَرَاتُ والأضْوَاءُ الحَقُّ فِيهِ هُوَ الأَسَاسُ وكَيْفَ لَا ... واللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ البَنَّاءُ ¬

_ (¬1) سورة المدثر آية (11 - 25).

* تشاور قريش لصد الحجاج عن استماع الدعوة

* تَشَاوُرُ قُرَيْشٍ لِصَدِّ الحُجَّاجِ عَنِ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَةِ: اسْتَمَرَّ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى ما هُوَ عَلَيْهِ يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى، ويَدْعُو إِلَيْهِ حتَّى اقْتَرَبَ مَوْسِمُ الحَجِّ، وعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ وُفُودَ العَرَبِ سَتَقْدُمُ عَلَيْهِمْ، واحْتَارُوا في أمْرِ الرَّسُولِ-صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَيْفَ يَحُولُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الحُجَّاجِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ صَادِقٌ أمِينٌ، فَاتَّفَقُوا أَنْ يَصِفُوا الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنَّهُ سَاحِرٌ، وهُوَ رَأْيُ الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ لَعَنَهُ اللَّهُ. وبَعْدَ أنِ اتَّفَقَتْ قُرَيْشٌ عَلَى هذَا القَرَارِ بَاشَرُوا في تَنْفِيذهِ، فَجَلَسُوا بِسُبُلِ النَّاسِ حِينَ قَدِمُوا المَوْسِمَ، لا يَمُرُّ بهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وذَكَرُوا لهُ أمْرَهُ. والذِي تَوَلَّى كِبْرَ ذَلِكَ هُوَ أَبُو لَهَبٍ، فقَدْ كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتْبَعُ النَّاسَ إِذَا وَافَى المَوْسِمَ في مَنَازِلهِمْ، وفِي عُكَاظٍ (¬1) ومِجَنَّةٍ (¬2) وذِي المَجَازِ (¬3) يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ويُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وأَبُو لَهَبٍ خَلْفَهُ يقُولُ: لا تُطِيعُوهُ ولا تَسْمَعُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ صَابِئٌ كذَّابٌ. روَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بنِ عِبَادٍ الدَّيْلِيِّ (¬4) وَكَانَ جَاهِلِيًّا أسْلَمَ، فقَالَ: رأيْتُ رسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بَصَرَ ¬

_ (¬1) عُكَاظٌ: موضِعٌ بِقُرْبِ مَكةَ، كانت تُقَامُ به في الجاهلية سوقٌ يُقِيمونَ فيه أيَّامًا. انظر النهاية (3/ 257). (¬2) مِجَنَّةٌ: هو مَوْضِعٌ بأسفَلِ مَكَّةَ على أميالٍ، وكان يقَامُ بها للعرَبِ سوق. انظر النهاية (4/ 257). (¬3) ذِي المَجَازِ: هو مَوْضِعُ سوق على مسافةِ فرسَخٍ من عَرَفَةَ كانت تقومُ في الجاهليَّة ثمانية أيَّام. انظر معجم البلدان (5/ 66). (¬4) هو رَبِيعَةُ بن عِبَادٍ الدَّيْلِيُّ يُعدُّ في أهل المدينة، وعُمِّر عُمُرًا طَوِيلًا. قال الحافظ في الإصابة (2/ 390): ماتَ في خِلافةِ الوَليد.

* قصيدة أبي طالب الشهيرة

عَيْنِي بِسُوقِ ذِي المَجَازِ يقُولُ: "يا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا لا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا"، ويَدْخُلُ في فِجَاجِهَا (¬1)، والنَّاسُ مُقْتَصُّونَ (¬2) علَيْهِ، فمَا رأيْتُ أحَدًا يقُولُ شَيْئًا، وهُوَ لا يَسْكُتُ يَقُولُ: "أيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" إِلَّا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلًا أحْوَلَ وَضِيئَ الوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ (¬3) يقُولُ: إنَّهُ صَابِئٌ (¬4) كَاذِبٌ، فقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالُوا: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ وهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ، قُلْتُ: مَنْ هذَا الذِي يُكَذِّبُهُ؟ قالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (¬5). * قَصِيدَةُ أَبِي طَالِبٍ الشَّهِيرَةُ: وأدَّى ذلِكَ إِلَى أَنْ صَدَرَتْ (¬6) العَرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَوْسِمِ، فَانْتشَرَ ذِكْرُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بِلَادِ العَرَبِ كُلِّهَا، وخَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ العَرَبِ (¬7) أَنْ يَرْكَبُوه مَعَ قَوْمِهِ، فقَالَ قَصِيدَتَهُ المَشْهُورَةَ التِي تَعَوَّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكَّةَ وبِمَكَانِهِ مِنْها، وتَوَدَّدَ فِيهَا أشْرَافَ قَوْمِهِ، وهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّمٍ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا تَارِكَهُ لِشَيْءٍ أبَدًا حتَّى يَهْلِكَ دُونَهُ. فقَالَ: ¬

_ (¬1) الفِجَاجُ: جمعُ فَجٍّ، وهو الطريق الواسع. انظر النهاية (3/ 370). (¬2) قال السِّنْدِيُّ في شرح المسند (9/ 176): مقتَصُّونَ عليه: أي مجْتَمِعُونَ عليه تَعَجُّبًا مما يقول. (¬3) غَدِيرَتَيْنِ: هي ضَفَائِرُ، وهي كذلك الذَّوَائِبُ. انظر النهاية (3/ 310). (¬4) كانت العربُ تُسَمِّي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّابئ؛ لأنه خرجَ مِنْ دين قُرَيش إلى دينِ الإسلام، ويُسَمُّون مَنْ يدخلُ في دِينِ الإسلام مَصْبُوًّا. انظر النهاية (3/ 3). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16023) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب كتب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6562). (¬6) صَدَرَ: رَجَعَ. انظر النهاية (3/ 15). (¬7) الدَّهْمَاءُ: الجمَاعَةُ مِنَ الناس. انظر لسان العرب (4/ 431).

ولَمَّا رَأَيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ فِيهِمُ ... وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَى والوَسَائِلِ وقَدْ صَارَ حَوْلَنَا بِالعَدَاوَةِ والأَذَى ... وقَدْ طَاوَعُوا أمْرَ العَدُوِّ المُزَايِلِ (¬1) وقَدْ حَالفوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً (¬2) ... يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ (¬3) صَبَّرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ (¬4) ... وأبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ (¬5) وأحْضَرْتُ عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وإخْوَتِي ... وأمْسَكْتُ مِنْ أثْوَابِهِ بالوَصَائِلِ ومِنْهَا: أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ ومِنْ كَاشِحٍ (¬6) يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ ... ومِنْ مُلْحِقٍ في الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلِ وثَوْرٍ ومَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا (¬7) مَكَانَهُ ... ورَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ ونَازِلِ وبِالْبَيْتِ حَقُّ البَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةٍ ... وبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وبِالْحَجَرِ المُسَوَّدِ إذْ يَمْسَحُونَهُ ... إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى والأَصَائِلِ ومَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ ¬

_ (¬1) المُزَايِلُ: أي التَّبَايُنُ والتَّفَرُّقُ. انظر لسان العرب (6/ 128). (¬2) أظِنَّةً: أي مُتَّهَمِينَ. انظر لسان العرب (8/ 271). (¬3) الأنَامِلُ: جمعُ أنْمُلَةٍ وهي رؤوس الأصابع. انظر لسان العرب (14/ 295). (¬4) سَمْرَاء سَمْحَةٍ: أي فَرَسٍ سَرِيعَةٍ. انظر لسان العرب (6/ 356). (¬5) الأبيض: أي السيف، والعَضْبُ: أي القاطع. انظر لسان العرب (9/ 252). المَقَاوِلُ: المُلُوك. انظر لسان العرب (11/ 353). (¬6) الكَاشِحُ: هو العدُوُّ المُبْغِضُ. انظر لسان العرب (12/ 99). (¬7) ثَورٌ وثَبِيرٌ وحِرَاءٌ: جبالٌ بمكَّةَ. انظر النهاية (1/ 202 - 223 - 362).

ومِنْهَا: كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكَ مَكَّةً ... وَنَظْعَنُ إِلَّا أمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ (¬1) كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَبْزِي (¬2) مُحَمَّدًا ... وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ ونُناضِلِ ونُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ ... ونُذْهَلَ عَنْ أبْنَائِنَا والحَلَائِلِ (¬3) ويَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الحَدِيدِ إلَيْكُمُ ... نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ وحَتَّى ترى ذَا الضِّغْنَ يَرْكَبُ ردعَهُ (¬4) ... مِنْ الطَّعْنِ فِعْلَ الأنْكَبِ (¬5) المُتَحَامِلِ وإنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ جَدَّ مَا أرَى ... لَتَلْتَبِسَنَّ أسْيَافُنَا بالْأَمَاثِلِ (¬6) بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلَ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ (¬7) ... أخِي ثِقَةٍ حَامِي الحَقِيقَةِ بَاسِلِ ومِنْهَا: ومَا تَرَكَ قَوْمٌ لَا أبَا لَكَ سَيِّدًا ... يَحُوطُ الذِّمَارَ غَيْرَ ذَرِبٍ مُوَاكِلِ (¬8) ¬

_ (¬1) بَلابِلٌ: هي وُسْوَاسُ الصَّدْرِ. انظر لسان العرب (1/ 493). (¬2) نَبْزِي مُحَمدًا: أي نَسْلُبُهُ ونَغْلِبُ عليه. انظر سيرة ابن هشام (1/ 312). (¬3) الحَلائِلُ: الزَّوْجاتُ، واحِدَتُهَا: حليلة. انظر لسان العرب (3/ 296). (¬4) الضِّغن: الحقد. انظر لسان العرب (8/ 68). يقال للقتيل: ركب رَدْعه: إذا خَرَّ لوجهه على دمه. انظر لسان العرب (5/ 188). (¬5) الأنْكَبُ: المَائِلُ. انظر لسان العرب (14/ 275). (¬6) أماثل القوم: خيارهم. انظر لسان العرب (13/ 23). (¬7) السميدع: الكريم السيد. انظر لسان العرب (6/ 357). (¬8) الذِّمَارُ: ما يَلْزَمُكَ حِمَايَتُهُ. انظر لسان العرب (5/ 57). ذَرِبٍ: هو الفاحِشُ البذيء. انظر لسان العرب (5/ 31). مواكل: عاجز كثير الاتكال على غيره. انظر لسان العرب (15/ 387).

وأبْيَضُ يُسْتَسْقَى الغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ (¬1) اليَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الهَلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ ومِنْهَا: وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السِّقَايَةِ فِيهِمُ ... ونَحْنُ الكَدَى مِنْ غَالِبٍ والكَوَاهِلُ شَبَابٌ مِنَ المُطَّيِّبِينَ وَهَاشِمٍ ... كَبِيضِ السُّيُوفِ بَيْنَ أيْدِي الصَّيَاقِلِ (¬2) ومِنْهَا: لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْتُ وجْدًا بِأَحْمَدٍ ... وإِخْوَتِهِ دَأْبَ المُحِبِّ المُوَاصِلِ فَلَا زَالَ فِي الدُّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا ... وزَيْنًا لِمَنْ وَاللَّهِ رَبَّ المَشَاكِلِ فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أيُّ مُؤَمِّلٍ ... إِذَا قَاسَهُ الحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ... يُوَالِي إِلَاهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُنَّةٍ ... تَجُرُّ عَلَى أشْيَاخِنَا فِي المَحَافِلِ لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ... مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٍ ... لَدَيْنَا ولَا يَعْنِي بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ (¬3) ... تَقَصَّرُ عَنْهُ سُورَةُ (¬4) المُتَطَاوِلِ ¬

_ (¬1) الثِّمال: الملجأ والغياث والمطعم في الشدة. انظر لسان العرب (2/ 130). (¬2) الصياقل: السيوف اللامعة. انظر لسان العرب (7/ 377). (¬3) الأَرُومَةُ: بفتح الهمزة: الأصْلُ. انظر النهاية (1/ 44). (¬4) السُّورَةُ: بضم السين هي المَنْزِلَةُ الرَّفِيعة. انظر لسان العرب (6/ 427).

* ما نزل بشأن ابن أم مكتوم -رضي الله عنه-

حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وحَمَيْتُهُ ... ودَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَا (¬1) والكَلَاكِلِ (¬2) فأيَّدَهُ رَبُّ العِبَادِ بِنَصْرِهِ ... وأظْهَرَ دِينًا حَقُّهُ غَيْرُ بَاطِلِ (¬3) إِلَى آخِرِ القَصِيدَةِ، وهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ جِدًّا. قَالَ فِيهَا الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذِهِ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ بَلِيغَةٌ جِدًّا، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَهَا إِلَّا مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ، وهِيَ أفْحَلُ مِنَ المُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، وأبْلَغُ فِي تَأْدِيَةِ المَعْنَى فِيهَا جَمِيعًا (¬4). * مَا نَزَلَ بِشَأْنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ (¬5) -رضي اللَّه عنه-: كَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو أشْرَافَ قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، ولَا يَأْلُو (¬6) جُهْدًا فِي نُصْحِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا مَعَ نَفَرٍ مِنْ زُعَمَائِهِمْ وكُبَرَائِهِمْ، فِيهِمُ: الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ، وعُتْبَةُ، وشَيْبةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، يَتَأَلَّفُهُمْ ويَعْرِضُ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، إذْ أقبَلَ عَمْرُو ¬

_ (¬1) الذُّرا: جمع ذُرْوَة، وهي أعْلَى سَنَامِ البَعِير. انظر لسان العرب (5/ 41). (¬2) الكَلاكِلُ: جمعُ كَلْكَلٍ، وهو الصَّدْرُ من كل شيء. انظر لسان العرب (12/ 146). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 309). (¬4) انظر البداية والنهاية (3/ 63). (¬5) مختلف في اسمه، فأهل المدينة يقولون: عبد اللَّه، وأهل العراق يقولون: عمرو بنُ أمِّ مكتومٍ القُرَشِيُّ، وهو ابنُ خالِ خَدِيجَةَ أمِّ المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أسلمَ قَدِيمًا، كَانَ مِنَ المهاجِرينَ الأوَّلين، قدم المدينةَ قبل أَنْ يُهَاجِرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَخْلِفَهُ على المدينةِ في عَامَّةِ غَزَوَاتِهِ يُصَلِّي بالناس، خَرَجَ -رضي اللَّه عنه- إلى القادِسِيَّةِ، فشَهِدَ القِتَالَ، واستشهِدَ هناك، وكان معه اللِّواءُ حِينئذ. انظر الإصابة (4/ 494). (¬6) لا يألُوا: أي لا يُقَصِّرُ. انظر النهاية (1/ 64).

بنُ أمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى -رضي اللَّه عنه-، فَجَعَلَ يَسْأَلُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَسْتَقْرِئُهُ القُرْآنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى أضْجَرَهُ، وذَلِكَ أَنَّهُ شَغَلَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ أمْرِ الوَليدِ وأصْحَابِهِ، ومَا طَمعَ فِيهِ مِنْ إسْلَامِهِمْ، فلَمَّا أكْثَرَ عَلَيْهِ القَوْلَ خَافَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَى ذَلِكَ المِسْكِينِ الأَعْمَى يُنَفِّرُ عَنْهُ قُلُوبَ أُولَئِكَ الزُّعَمَاءِ، فأعْرَضَ عَنْهُ وعَبَسَ في وَجْهِهِ، وأقْبَلَ عَلَى الآخَرِينَ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، ونَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. . .} إِلَى قَوْلهِ تَعَالَى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} (¬1). قَالَ ابنُ إسْحَافَ: أيْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ بَشِيرًا ونَذِيرًا، لَمْ أَخُصَّ بِكَ أحَدًا دُونَ أَحَدٍ، فَلَا تَمْنَعْهُ مِمَّنْ ابْتَغَاهُ، ولا تَتَصَدَّيَنَّ بِهِ لِمَنْ لا يُرِيدُهُ (¬2). رَوَى الحَاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وعِنْدَهَا رَجُلٌ مَكْفُوفٌ، وهِيَ تُقَطِّعُ لَهُ الْأُتْرُجَّ (¬3) وتُطْعِمُهُ إيَّاهُ بالعَسَلِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ؟ ، قَالَتْ: هَذَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الذِي ¬

_ (¬1) سورة عبس آية (1 - 14). (¬2) أخرج قِصَّةَ ابنِ أم مكتوم -رضي اللَّه عنه-: ابن حبان في صحيحه - كتاب البر والصلة - باب فصل من البرِّ والإحسان - رقم الحديث (535) - والترمذي في جامعه - باب ومن سورة عبس - رقم الحديث (3621) - وإسناده صحيح على شرط مسلم - وانظر سيرة ابن هشام (1/ 401) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 422). (¬3) الأتْرُجُّ: هي فاكِهَةٌ مَعْرُوفَةٌ، واحدَتُهُ تُرُنْجَةٌ، وأُتْرُجَّةٌ. انظر فتح الباري (10/ 82) - ولسان العرب (2/ 25).

عَاتَبَ اللَّه تَبارَكَ وتَعَالَى فِيهِ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ: أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَعِنْدَهُ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمَا، فنَزَلَتْ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. . .} ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ (¬1). قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا قَصَدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَأْلِيفَ هَؤُلَاءِ الكُفَّارِ، ثِقَةً بِمَا كَانَ فِي قَلْبِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ مِنَ الإِيمَانِ، كَمَا قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: "إنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ، خَشْيَةَ أَنْ يُكِبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ" (¬2). ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعَالَى حَبِيبَهُ ونَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى لَا تَنْكَسِرَ قُلُوبُ أَهْلِ الصُّفَّةِ (¬3)، أَوْ لِيُعْلَمَ أَنَّ المُؤْمِنَ الفَقِيرَ خَيْرٌ مِنَ الغَنِيِّ الكَافِرِ، وكَانَ النَّظَرُ إِلَى المُؤْمِنِ أوْلَى، وإنْ كَانَ فَقِيرًا أصْلَحُ وأَوْلَى مِنَ الأَمْرِ الآخَرِ، وهُوَ الإِقبالُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ طَمَعًا في إيمَانِهِمْ، وإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَوْعًا مِنَ المَصْلَحَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب تعظيمِ أهل بيتِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لابنِ أمِّ مكتوم - رقم الحديث (6730). (¬2) أخرج هذا الحديث: البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة - رقم الحديث (27) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه - رقم الحديث (150). (¬3) أهلُ الصُّفَّةِ: هم فُقَرَاءُ المُهَاجرينَ، ومَن لم يكنْ له منهم مَنْزِلٌ يَسْكُنُهُ، فكانوا يأوُون إلى موضِعٍ مُظلّلٍ في مسجدِ المدينةِ يسْكُنُونَهُ. انظر النهاية (3/ 35). (¬4) انظر تفسير القرطبي (22/ 72).

* حديت لا أصل له

* حَدِيتٌ لَا أَصْلَ لَهُ: قُلْتُ: وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُمِّ مَكْتُومٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ لَهُ: "أَهْلًا أَوْ مَرْحَبًا بِالَّذِي عَاتَبَنِي فِيهِ رَبِّي" (¬1). قَالَ الْأَلْبَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السِّلْسِلَةِ الضَّعِيفَةِ: لَا أَعْلَمُ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أورد هذا الحديث: الواحدي في أسباب النزول (ص 479) بدون إسناد - وعلَّقه القرطبي في تفسيره (22/ 71) عن سفيان الثوري. (¬2) انظر السلسلة الضعيفة للألباني رحمه اللَّه (3/ 635).

إسلام أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-

إِسْلامُ أبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- الذِي يَظْهَرُ أَنَّ إسْلَامَ أَبِي ذَرٍّ الغِفَارِيِّ، واسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، تَأَخَّرَ بَعْدَ البِعْثَةِ بِعِدَّةِ سَنَوَاتٍ كَمَا سَأُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬1) مِنْ أَنَّهُ -رضي اللَّه عنه- أسْلَمَ فِي بِدَايَةِ الدَّعْوَةِ السِّرِّيَّةِ، فَفِيهِ نَظَرٌ. وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- يَبْحَثُ عَنِ الحَقِّ، وقِصَّةُ إسْلَامِهِ -رضي اللَّه عنه- أخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مَعَ تَغَايُرٍ بَيْنَهُمَا. * رِوَايَةُ الإِمَامِ مُسْلِمٍ وأحْمَدَ (¬2) واللَّفْظُ لِأَحْمَدَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ. . . أنا وأخِي أُنيْسٌ، وأُمُّنَا، . . . فقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ، فاكْفِنِي حتَّى آتِيَكَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَرَاثَ (¬3) عَلَيَّ، ثمَّ أتانِي، فقُلْتُ: ما حبَسَكَ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أرْسَلَهُ عَلَى دِينِكَ. فقُلْتُ: مَا يَقُولُ النَّاسُ لَهُ؟ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 431). (¬2) قَدَّمْتُ رواية الإمام مسلم والإمام أحمد على رواية البخاري، لأن فيهَا تَفْصِيلًا أكثر. (¬3) رَاثَ: أي أبْطَأَ. انظر النهاية (2/ 261).

قال: يَقُولُونَ: إنَّهُ شَاعِرٌ وسَاحِرٌ وكَاهِنٌ -وكَانَ أُنَيْسُ شَاعِرًا-. فقَالَ أُنَيْسٌ: قَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكُهَّانِ، فَمَا يَقُولُ بِقَوْلهِمْ، وقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أقْرَاءِ الشِّعْرِ (¬1)، فَوَاللَّهِ مَا يَلْتَئِمُ لِسَانُ أَحَدٍ أَنَّهُ شِعْرٌ، واللَّهِ إنَّهُ لَصَادِقٌ، وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. فقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: هَلْ أَنْتَ كَافِيَّ حتَّى أنْطَلِقَ فَأَنْظُرَ؟ (¬2) قَالَ: نَعَمْ، فكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ، فإنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ (¬3)، وتَجَهَّمُوا (¬4) لَهُ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: فَانْطَلَقْتُ حتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فتَضعَّفْتُ (¬5) رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أيْنَ هذَا الرَّجُلُ الذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فأشَارَ إِلَيَّ، وَقَالَ: الصَّابِئُ، فَمَالَ أَهْلُ الوَادِي عَلَيَّ بِكُلِّ مَدَرَةٍ (¬6)، وَعَظْمٍ حتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعَتُ حِينَ ارْتَفَعَتُ، كَأَنِّي نُصُبٌ أحْمَرُ (¬7)، ¬

(¬1) أقْرَاءُ الشِّعْرِ: أي طرُقُ الشِّعْرِ وأنوَاعهُ وبُحُورُهُ. انظر النهاية (4/ 28). (¬2) في رواية مسلم في صحيحه قال -رضي اللَّه عنه-: فاكفِنِي حتَّى أذهَبَ فأنْظُرَ. (¬3) شَنِفُوا له: أي أبْغَضُوهُ. انظر النهاية (2/ 451). (¬4) تَجَهَّمَنِي القَوْمُ: إذا لَقُونِي بالغِلْظَةِ، والوجه الكَرِيهِ. انظر النهاية (1/ 311). (¬5) قال الإمام النووي في شرح مسلم (16/ 24): يعني نَظَرْتُ إلى أضْعَفِهِمْ، فسألتُهُ؛ لأن الضَّعِيفَ مأمُونُ الغائِلَةِ غَالبًا. (¬6) المَدَرُ: هو الطِّينُ المُتَمَاسِكُ. انظر النهاية (4/ 264). (¬7) النُّصُبُ: بضم النون هو الصَّنَمُ، وكانوا في الجاهلية يَنْصُبُونَ الصنم، ويَذْبَحونَ عنده، فيَحْمَرُّ بالدم، ويَقْصِدُ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ مِنْ كْرَةِ الدِّماءِ التي سَالتْ منهُ صار كأنَّهُ الصَّنَمُ المُمْتَلِئُ بالدِّماء من كثرةِ ما يُذْبَحُ عنده. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 24) - النهاية (5/ 52).

فأتَيْتُ زَمْزَمَ فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا، وغَسَلْتُ عَنِّي الدَّمَ، ولقدْ لَبِثْتُ ثَلَاثِينَ، بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ما كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ (¬1) بَطْنِي، ومَما وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ (¬2) جُوعٍ. قَالَ -رضي اللَّه عنه-: فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إضْحِيَانَ (¬3)، إذْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أصْمِخَةِ (¬4) أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا يَطُوفُ بالبَيْتِ غَيْرُ امْرَأَتيْنِ، فَأتتَا عَلَيَّ، وهُمَا تَدْعُوَانِ إسَافَ ونَائِلَةَ (¬5)، فَقُلْتُ: أنْكِحُوا أحَدَهُمَا الآخِرَ، فمَا ثنَاهُمَا ذَلِكَ، فَأتتَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: وَهَنٌ (¬6) مِثْلُ الخَشَبَةِ، غَيْرَ أنِّي لَمْ أَكْنِي، فَانْطَلَقتَا تُوَلْوِلَانِ، وتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ أنْفَارِنَا! قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وهُمَا هَابِطَانِ مِنَ الجَبَلِ، فَقَالَا: "مَا لَكُمَا؟ ". ¬

_ (¬1) العُكَنُ: بضم الغَيْن: الأطْوَاءُ في البَطْنِ منَ السِّمَنِ. انظر لسان العرب (9/ 345). (¬2) قال النووي في شرح مسلم (16/ 24): سَخْفَة الجُوعِ: بفتح السين وضمها، وهي رِقَّةُ الجُوع وضَعْفُهُ وهُزَالُهُ. (¬3) قال النووي في شرح مسلم (16/ 24): الإضْحِيَانِ: بكسر الهَمْزَةِ والحَاءِ، أي مُضِيئَةٌ. (¬4) قال النووي في شرح مسلم (16/ 25): أصْمِخَتُهُمْ: جمع صِمَاخ، وهو الخَرْقُ الذي في الأذُنِ يُفْضِي إلى الرَّأْسِ، والمراد بأصمختِهِمْ هنَا: آذانُهُمْ أي نَامُوا. (¬5) إسافُ ونائِلَة: هما صَنَمانِ تزعُمُ العربُ أنهما كانا رَجُلًا وامرأةً زنيا في الكعبة فمُسِخَا، وإسَاف بكسر الهمزة وقد تُفتح. انظر النهاية (1/ 51). (¬6) قال النووي في شرح مسلم (16/ 25): وهَنٌ: بفتح الهاء، هو كِنايةٌ عن كل شيءٍ، وأكثر ما يُستعملُ كنايةً عن الفَرْجِ والذَّكر، فقال لهما: ومثل الخشبةِ بالفرجِ، وأراد بذلك سَبَّ إسافٍ ونائلةَ، وغيظِ الكُفار.

قَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الكَعْبَةِ وأسْتَارِهَا. قَالَا: "مَا قَالَ لَكُمَا؟ ". قَالَتَا: قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلَأُ الفَمَ (¬1). قال أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ وصَاحِبُهُ حتَّى اسْتَلَمَ الحَجَرَ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ صَلَّى، فلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أتَيْتُهُ، فكنْتُ أوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلَامِ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ. فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وعَلَيْكَ السَّلَامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ"، ثُمَّ قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِمَّنْ أَنْتَ؟ ". قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ، فَوَضَعَهَا عَلَى جَبْهَتِهِ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أنِّي انتمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، ثمَّ قَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ومَتَى كُنْتَ هَاهُنَا؟ " قُلْتُ: كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ. فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ ". قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَ طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حتَّى تَكَسَّرَتْ عُكْنُ بَطْنِي، ومَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سَخْفَةَ جُوعٍ. فقَالَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهَا مُبارَكَةٌ، إنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ". ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح مسلم (16/ 25): أي عَظِيمة لا شيءَ أقْبَحَ منها.

فقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، قَالَ: فَفَعَلَ. فانْطَلَقَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، حتَّى فتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: فكَانَ ذَلِكَ أوَّلَ طَعَامٍ أكَلْتُهُ بِهَا، فَلَبِثْتُ مَا لَبِثْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقَالَ: "إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، ولَا أحْسِبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌّ عَنِّي قَوْمَكَ؟ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ ويَأْجُرَكَ فِيهِمْ؟ ". قَالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: فَانْطَلَقْتُ حتَّى أتَيْتُ أخِي أُنَيْسًا، فقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أنِّي أسْلَمْتُ وصَدَّقْتُ. قَالَ أُنيْسٌ: فَمَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ (¬1)، فإنِّي قَدْ أسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، ثُمَّ أتَيْنَا أُمَّنَا، فقَالَتْ: فَمَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فإنِّي أسْلَمْتُ وصَدَّقْتُ، فَاحْتَمَلْنَا حتَّى أتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارٍ، فأسْلَمَ نِصْفُهُمْ، وكَانَ يَؤُمُّهُمْ إيمَاءُ بنُ رَخَصَةَ الْغِفَارِيُّ، وكَانَ سَيِّدَهُمْ. ثُمَّ قَدِمَتْ قَبِيلَةُ غِفَارٍ عَلَى رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ فِي المَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ، وَأُحُدٍ، وصَادَفَ قُدُومُهُمْ قُدُومَ قَبِيلَةِ أسْلَمَ، فَلَمَّا أعْلَنُوا إسْلَامَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ" (¬2). ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح مسلم (16/ 26): أي لا أكرهُه، بل أدخُلُ فيه. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي ذر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2473) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21525).

* رواية الإمام البخاري

* رِوَايَةُ الإِمَامِ البُخَارِيِّ: وفِي رِوَايَةِ البُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- مَبْعَثَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلهِ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسَمعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ-رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ، فتَزَوَّدَ، وَحَمَلَ شَنَّةً (¬1) لَهُ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأتَى الْمَسْجِدَ، فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولَا يَعْرِفُهُ، وكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حتَّى أدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ، فَرَآه عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآه تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حتَّى أصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى المَسْجِدِ، وظَلَّ ذَلِكَ اليَوْمَ ولَا يَرَاهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى أمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجِعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فقَالَ: أمَا نَالَ (¬2) لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ؟ فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حتَّى إِذَا كَانَ اليَوْمُ الثَّالِثُ فَعَادَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فأقَامَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: ألَا تُحَدِّثُنِي مَا الذِي أقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لتُرْشِدَنَّنِي فَعَلْتُ، فَفَعَلَ، فأخْبَرَهُ. ¬

_ (¬1) الشَّنَّةُ: القربة. انظر النهاية (2/ 453). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 566): نَالَ: أي حَانَ.

* الأدلة على تأخر إسلام أبي ذر -رضي الله عنه-

فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وهُوَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا أصْبَحْتَ فَاتْبَعْنِي. . . فانْطَلَقَ يَقْفُوهُ (¬1)، حتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودَخَلَ مَعَهُ، فسَمعَ مِنْ قَوْلهِ، وأسْلَمَ مَكَانَهُ. فقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْجعْ إِلَى قَوْمِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيكَ أمْرِي" (¬2). * الأدِلَّةُ عَلَى تَأَخُّرِ إسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: 1 - ضِيَافَةُ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- لِأَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ أَبِي ذَرٍّ وَقَعَتْ بَعْدَ المَبْعَثِ بِأَكْثَرَ مِنْ سِنَتَيْنِ بِحَيْثُ يَتَهَيَّاُ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَسْتَقِلَّ بِمُخَاطَبَةِ الغَرِيبِ ويُضِيفَهُ، فَإِنَّ الأَصَحَّ فِي سِنِّ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- حِينَ المَبْعَث كَانَ عَشْرَ سِنِينَ (¬3). 2 - قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: "إنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، لَا أَرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ". قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: فإنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ كَانَ قُرْبَ الهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬4). ¬

_ (¬1) يَقْفُوهُ: أي يَتْبَعُهُ، وقفاه وراءَهُ وخلفَهُ. انظر النهاية (4/ 83). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام أبي ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3861). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 566). (¬4) انظر فتح الباري (7/ 568).

* أحاديث ضعيفة

3 - قَوْلُ أُنَيْسٍ -رضي اللَّه عنه- لِأَخِيهِ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: لَقِيتُ رَجُلًا يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ عَلَى دِينِكَ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أبَا ذَرٍّ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ لِقَائِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَمْ يَنتشِرْ أَمْرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الجَزِيرَةِ إِلَّا بَعْدَ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ مِنْ بِعْثَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأخُّرِ إسْلَامِهِ -رضي اللَّه عنه-. * أحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ: روَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، والحَاكِمُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رُبُعَ الإِسْلَامِ، أسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةٌ، وأنا الرَّابعُ، أتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ لَه: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوله، فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "مَنْ أَنْتَ؟ ". فَقُلْتُ: إنِّي جُنْدُبٌ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ (¬1). ورَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي رُبُعُ الإِسْلَامِ، لَمْ يُسْلِمْ قَبْلِي إِلَّا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَبُو بَكْرٍ، وبِلَالٌ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7134) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ضربِ قُرَيش أبا ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5510). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ضرب قريش أبا ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5509).

أساليب قريش في محاربة النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعوته

أسَالِيبُ قُرَيْشٍ في مُحَارَبَةِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ودَعْوَتِهِ لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُسْتَمِرٌّ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ، لا يَصْرِفُهُ عَنْ دَعْوَتهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ، فَكَّرُوا مَرَّةً أخْرَى، واخْتَارُوا لِقَمْعِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ أسَالِيبَ مِنْهَا: 1 - إثَارَةُ الشُّبُهَاتِ حَوْلَ مَصْدَرِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وبَثُّ الدِّعَاياتِ الكاذِبَةِ، ونَشْرُ الإيرَاداتِ الوَاهِيَةِ حَوْلَ تَعَالِيمِهِ، وحَوْلَ شَخْصِيَّتهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والإكثارُ مِنْ ذَلِكَ بِحَيثُ لا يَبْقَى لِلْعَامَّةِ مَجَالٌ في تَدَبُّرِ دَعْوَتِهِ، فكانُوا يَقُولُونَ {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَر} (¬1)، وكانُوا يَقُولُونَ عنِ القُرْآن: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (¬2)، {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (¬3)، وكانُوا يَقُولُونَ عَنْ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} (¬4). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: كَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنِي- كَثِيرًا ما يَجْلِسُ عِنْدَ ¬

_ (¬1) سورة النحل آية (103). (¬2) سورة الفرقان آية (5). (¬3) سورة الفرقان آية (4). (¬4) سورة الفرقان آية (7).

المَرْوَةِ إلى مَبْيَعَةِ غُلامٍ نَصْرَانِيٍّ يُقالُ لهُ: جَبْرٌ، عَبْدٌ لابنِ الحَضْرَمِيِّ، فكانُوا يقُولُونَ: واللَّهِ ما يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مما يأتِي بهِ إلا جَبْرٌ النَّصْرَانِيُّ، غُلامُ ابنِ الحَضْرَمِيِّ، فأنزلَ اللَّهُ في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (¬1). قَالَ ابنُ هِشَامٍ: يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ: أي يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، والإلْحَادُ: المَيْلُ عَنِ الحَقِّ (¬2). 2 - من أسَالِيبِهِمْ أَيْضًا: مُعَارَضَةُ القُرْآنِ بأسَاطِيرِ الأوَّلينَ لإِشْغَالِ النَّاسِ بها عَنْهُ، فقدْ ذُكِرَ أَنَّ النَّضْرَ بنَ الحَارِثِ (¬3) وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيشٍ، ومِمَّنْ يُؤْذِي رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَنْصُبُ لهُ العَدَاوَةَ، كَانَ قَدِمَ الحِيرَةَ (¬4)، وتَعَلَّمَ بها أحادِيثَ مُلُوكِ الفُرْسِ، وأحَادِيثَ رُسْتُمٍ، فَكَانَ إِذَا جَلَسَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَجْلِسًا ¬

_ (¬1) سورة النحل آية (103) - والخبر في سيرة ابن هشام (6/ 2) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة النحل - رقم الحديث (3414) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- وإسناده صحيح. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 7). (¬3) هذا الرَّجلُ مِنْ أشَدِّ مَنْ عَانَدَ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ أُسِر في غَزْوَةِ بدرٍ الكبرى، فَقُتِلَ كافرًا، قتَلَهُ عَلِيُّ بن أبي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بأمْرٍ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) الحِيرَةُ: بكسر الحاء، مدِينةٌ على ثَلاثةِ أمْيَالٍ منَ الكُوفَةِ على مَوْضِعٍ يُقَالُ لهُ النَّجَفُ، كانتْ مَسْكَنَ مُلُوكِ العَرَبِ في الجاهليةِ من زَمَنِ نَضْرٍ ثم لَخْمِ النُّعمانِ وآبائِهِ، وقيل: إنَّما سُمِّيت الحِيرة لأنَّ تُبَّعًا لمَّا أقبلَ بجيوشه فَبَلغَ موضِعَ الحِيرَةِ ضَلَّ دليلُهُ، وتحيَّر فسُمِّيت الحِيرَة. انظر معجم البلدان (3/ 201).

فَذَكَّرَ فيهِ باللَّهِ، وحَذَّرَ قَوْمَهُ ما أصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الأمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ، خَلفَهُ في مَجْلِسِهِ إِذَا قَامَ، ثُمَّ قَالَ: أنَا وَاللَّهِ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ، وما حَدِيثُهُ إِلَّا أسَاطِيرُ الأوَّلينَ اكْتَتَبَهَا، فَهَلُمَّ إلَيَّ، فأَنَا أُحَدِّثُكُمْ أحْسَنَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ يُحَدِّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ ورُسْتُمٍ، ثُمَّ يَقُولُ: بِمَاذَا مُحَمَّدٌ أحْسَنُ حَدِيثًا مِنِّي؟ . قَالَ ابنُ هِشَامٍ: وهُوَ الذِي قَالَ -فِيمَا بَلَغَنِي-: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللَّهُ (¬1). رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ في النَّضْرِ بنِ الحَارِثِ ثَمَانُ آيَاتٍ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (¬2)، وكُلُّ ما ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الأسَاطِيرِ (¬3) مِنَ القُرْآنِ (¬4). ونَزَلَ في النَّضْرِ بنِ الحَارِثِ -قبَّحَهُ اللَّهُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (93) - والخبَرُ في سيرة ابن هشام (1/ 337). اختُلِفَ فيمن نَزَلت فيهِ هذه الآية، فقِيل: في مُسَيْلَمَةَ الكذَّاب، وقيل: عبدِ اللَّه بن سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ، وقيل: النَّضْرِ بنِ الحَارث، واللَّهُ أعلم. وانظر تفسير ابن كثير (3/ 302) - تفسير القرطبي (8/ 457). (¬2) سورة القلم آية (15). (¬3) قال الإمام السُّهيلي في الرَّوْض الأُنُف (2/ 53): واحدُ الأسَاطِيرِ أُسْطُورَةٌ كأُحْدُوثَة وأحَادِيث، وهو ما سَطَرَهُ الأوَّلُونَ. (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 337). (¬5) سورة الجاثية آية (7 - 8).

3 - ومِنْ أسَالِيبِهِمْ: السُّخْرِيةُ والاسْتِهْزَاءُ والتَّكْذِيبُ، وقدْ لَجَأَتْ قُرَيْشٌ إلى هَذَا الأُسْلُوبِ لِتَخْذِيلِ المُسْلِمِينَ، وتَوْهِينِ قُوَاهُمُ المَعْنَوِيَّةَ، فَرَمَوْا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجُنُونِ: {وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (¬1). ووَصَمُوهُ (¬2) بالسِّحْرِ والكَذِبِ وقَوْلِ الشِّعْرِ: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (¬3)، {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} (¬4). قال ابنُ إسحاقَ: وَكَانَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا تَلا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، ودَعَاهُمْ إلى اللَّهِ تَعَالَى، قالُوا يَهْزَؤُونَ بِهِ: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ (¬5) مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ (¬6) وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (¬7)، فانزلَ اللَّهُ تَعَالَى عَليهِ في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا ¬

_ (¬1) سورة الحجر (6). (¬2) وصم الشيء: عابه. انظر لسان العرب (15/ 320). (¬3) سورة ص آية (4). (¬4) سورة الأنبياء آية (5). (¬5) قَالَ الرَّاغِبُ الأصفَهَانيُّ في مُفْرَداتِ القرآن ص 444: الكِنَانُ: الغِطَاءُ الذي يُكَنُّ فيه الشَّيْءُ، والجَمْعُ أكِنَّةٌ نحوُ غِطَاءٌ وأغْطِيَةٌ، قال اللَّه تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} قِيلَ مَعْنَاهُ في غِطَاءٍ عَنْ تَفَهُّمِ مَا تُورِدُهُ عَلَيْنَا. . . (¬6) قال الراغِبُ الأصْفَهاني في مُفردات القرآن ص 544: الوَقْر: الثِّقَلُ في السَّمْعِ. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 161): أي آذاننا صَمَمٌ عمَّا جِئْتَنَا به. (¬7) سورة فصلت آية (5).

يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا}. أيْ كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَكَ ربَّكَ إِنْ كُنْتَ جَعَلْتَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، وبَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ، أي: إنِّي لَمْ أفْعَلْ ذَلِكَ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} أي ذَلِكَ ما تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ ما بَعَثْتُكَ بهِ إِلَيْهِمْ {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} أيْ أَخْطَؤُوا المَثَلَ الذِي ضَرَبُوا لكَ، فَلا يُصِيبُونَ بهِ هُدًى، ولا يَعْتَدِلُ لَهُمْ فيهِ قَوْلٌ: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} أي: قَدْ جِئْتَ تُخْبِرُنَا أنَّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إِذَا كُنَّا عِظَامًا ورُفَاتًا، وذَلِكَ ما لا يَكُونُ {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬1) أيْ: الذِي خَلَقَكُمْ مِمَّا تَعْرِفُونَ، فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ بِأَعَزَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ (¬2). 4 - مُسَاوَمَاتٌ حَاوَلُوا بِهَا أَنْ يَلْتَقِي الإسْلامُ والجَاهِلِيَّةُ في مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ بأنْ يَتْرُكَ المُشْرِكُونَ بَعْضَ ما هُمْ عَلَيْهِ، ويَتْرُكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْضُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ (¬3) فَيُدْهِنُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (45 - 51). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 353). (¬3) قال الإمام القرطبي في تفسيره (21/ 147): الإدِّهَانُ: هُوَ اللِّين والمُصَانَعَةُ. (¬4) سورة القلم آية (9).

قَالَ الإِمَامُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ: وَدَّ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ لَوْ تَلِينُ لَهُمْ في دِينِكَ بِإِجَابَتِكَ إيَّاهُمْ إِلَى الرُّكُونِ إِلَى آلِهَتِهِمْ، فَيَلِينُونَ لَكَ في عِبَادَتِكَ إِلَهَكَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثنَاؤُهُ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّهْنِ شَبَّهَ التَّلْيِينَ في القَوْلِ بِتَلْيِينِ الدُّهْنِ (¬1). قَالَ ابنُ إسْحَاقٍ: اعْترَضَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ -فِيمَا بَلَغَنِي- الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ بنِ أسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى، والوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ، وأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، والعَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وكانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ (¬2) في قَوْمِهِمْ، فقَالُوا: يا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وتَعْبُدُ ما نَعْبُدُ، فنَشْتَرِكَ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمَّا نَعْبُدُ، كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيرًا مِمَّا تَعْبُدُ، كُنْتَ قَدْ أخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (¬3). أيْ: إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، إِلَّا أَنْ أعْبُدَ مَا تَعْبُدُونَ، فَلا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ مِنْكُمْ، لَكُمْ دِينُكُمْ جَمِيعًا وَليَ دِينِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن جرير الطبري (12/ 182). (¬2) ذَوِي الأسْنَانِ: هُمُ الأكَابِرُ والأشْرَافُ. انظر النهاية (2/ 371). (¬3) سورة الكافرون بكاملها. (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 400).

وحَسَمَ اللَّهُ مُفَاوَضَاتهمُ المُضْحِكَةَ بِهَذِهِ المُفَاصَلَةِ الجَازِمَةِ (¬1) . . . لَعَلَّ اخْتِلاطَ تَصَوُّرَاتِهِمْ، واعْتِرَافِهِمْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى مَعَهُ. . . لَعَلَّ هَذَا كَانَ يُشْعِرُهُمْ أَنَّ المَسَافَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرِيبَةٌ، يُمْكِنُ التَّفاهُمُ عَلَيْهَا، بِقِسْمَةِ البَلَدِ بَلَدَيْنِ، والِالْتِقَاءِ في مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ، مَعَ بَعْضِ التَّرْضِيَاتِ الشَّخْصِيَّةِ! . ولِحَسْمِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى المُحَاوَلَةِ، والمُفَاصَلَةِ الحَاسِمَةِ بينَ عِبَادَةٍ وعِبَادَةٍ، ومَنْهَجٍ ومَنْهَجٍ، وتَصَوُّرٍ وتَصَوُّرٍ، وطَرِيقٍ وطَرِيقٍ. . نَزَلَتْ هذِهِ السُّورَةُ (¬2)، بِهَذا الجَزْمِ، وبِهَذَا التَّوْكِيدِ. وبِهَذَا التَّكْرَارِ. لِتُنْهِيَ كُلَّ قَوْلٍ، وتَقْطَعَ كُلَّ مُسَاوَمَةٍ، وتُفَرِّقَ نِهَائِيًّا بَيْنَ التَّوْحِيدِ والشِّرْكِ، وتُقِيمَ المَعَالِمَ وَاضِحَةً، لا تَقْبَلُ المُسَاوَمَةَ والجَدَلَ في قَلِيلٍ ولا كَثِيرٍ (¬3). قال ابنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا جَلَسَ في المَسْجِدِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ المُسْتَضعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ: خَبَّابٌ، وَعَمَّارٌ، وأَبُو فكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، وصُهَيْبٌ، وأشْبَاهُهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، هَزَأَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، فقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَؤُلَاءِ أَصْحَاُبهُ كَمَا تَرَوْنَ، أهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالهُدَى الحَقِّ؟ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا ما سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، ومَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بهِ ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 85. (¬2) سورة الكافرون بكاملها. (¬3) انظر في ظلال القرآن (6/ 3991).

دُونَنَا، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} إِلَى قَوْلهِ تَعَالَى: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا معَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اطْرُدْ هَؤُلَاءَ لَا يَجْتَرِؤُنَ عَلَيْنَا، قَالَ: وكُنْتُ أَنَا، وابْنُ مَسْعُودٍ، ورَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وبِلَالٌ، ورَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا، فَوَقَعَ في نَفْسِ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (52 - 54) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 6). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل سعد بن أبي وقَّاص -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2413) (46) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر سُؤالِ المُشركين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- طرْدَ الفُقَراءِ عنه - رقم الحديث (6573).

تعذيب قريش للمسلمين

تَعْذِيبُ قُرَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ مَضَى رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، ويَئِسَتْ قُرَيْشٌ مِنْهُ، وأدْرَكَتْ ألَّا جَدْوَى مِنْ تِلْكَ الأَسَالِيبِ التِي سَلَكَتْهَا مَعَهُ في كَفِّ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ والقَضَاءِ علَيْهَا، فاجْتَمَعَ رُؤُوسُ المُشْرِكِينَ وقَرَّرُوا اللُّجُوءَ إِلَى العُنْفِ، والقُوَّةِ في مُحَارَبَةِ الإِسْلَامِ والمُنْتَمِينَ إِلَيْهِ، وأصْدَرُوا أوَامِرَهُمْ إِلَى القَبَائِلِ لِيَصُبُّوا العَذَابَ والْأَذَى عَلَى كُلِّ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ، ويُعَذِّبُونَهُمْ بالضَّرْبِ، والجُوعِ، والعَطَشِ، وبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ (¬1). فكَانَتْ فِتْنَةً شَدِيدَةَ الزِّلْزَالِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ، فَافْتُتِنَ مَنِ افْتُتِنَ، وعَصَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ شَاءَ، ومَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: . . . فحَمَى اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيفًا مُعَظَّمًا في قُرَيْشٍ، مُطَاعًا في أهْلِهِ، وأَهْلُ مَكَّةَ لا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 354).

* المجاهرون بالظلم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-

مُكَاشَفَتِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الأَذَى، وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ أحْكَمِ الحَاكِمِينَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بَقَاؤُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، لِمَا في ذَلِكَ مِنَ المَصَالِحِ التِي تَبْدُو لِمَنْ تَأَمَّلَهَا (¬1). * المُجَاهِرُونَ بِالظُّلْمِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ المُجَاهِرُونَ بِالظُّلْمِ لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِهِ: 1 - عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (¬2). 2 - ابنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ (¬3). 3 - عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ (¬4). 4 - شَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ (¬5). 5 - عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ (¬6). 6 - أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ (¬7). 7 - الحَكَمُ بنُ أَبِي العَاصِ بنِ أُمَيَّةَ (¬8). ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 19 - 20). (¬2) ماتَ بعدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكبرى كَافرًا. (¬3) أسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وحَسُنَ إسْلامُهُ. (¬4) قُتِلَ كافِرًا في غزْوَةِ بَدْر الكبرى. (¬5) قُتِلَ كافِرًا في غزْوَةِ بَدْر الكبرى. (¬6) أُسِرَ في غزوَةِ بَدرٍ الكبرى، ثم أمَرَ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتْلِهِ، فقُتِلَ كافرًا. (¬7) أسْلَمَ في فَتْحِ مَكةَ وحَسُن إسلامه. (¬8) أسْلَمَ في فَتْحِ مَكةَ وحَسُن إسلامه.

8 - النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ (¬1). 9 - أَبُو البَخْتَرِيِّ بنُ العَاصِي بنِ هِشَامٍ (¬2). 10 - أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ (¬3). 11 - الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ (¬4). 12 - العَاصُ بنُ وَائِلٍ (¬5). 13 - أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ (¬6). 14 - أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ (¬7). فَهَؤُلاءَ كَانُوا أشَدَّ عَلَى المُؤْمِنِينَ مُثَابَرَةً بالأذَى، ومَعَهُمْ سَائِرُ قُرَيْشٍ، فَمِنْهُم يُعَذِّبُونَ مَنْ لا مَنَعَةَ لَهُ، ولا جِوَارَ مِنْ قَوْمِهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُؤْذُونَ. قَالَ ابنُ إسْحَاقٍ: وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الفَاسِقُ الذِي يُغْرِي بِهِمْ في رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذَا سَمعَ بالرَّجُلِ قَدْ أسْلَمَ، لهُ شَرَفٌ ومَنَعَةٌ، أنَّبَهُ وأخْزَاهُ، وَقَالَ: ترَكْتَ دِينَ أبِيكَ وهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، لنُسَفِّهَنَّ حِلْمَكَ، ولنُفَيِّلَنَّ (¬8) رَأْيَكَ، ولَنَضَعَنَّ ¬

_ (¬1) أُسِرَ في غزوةِ بَدْرٍ الكُبْرى، وأمَرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَتْلِهِ، فقُتل كَافرًا. (¬2) قُتِلَ في غَزْوَةِ بدرٍ الكُبْرى كافرًا. (¬3) هُوَ فِرْعَونُ هذِهِ الأمَّة قُتِلَ في غَزْوَةِ بَدرٍ الكُبْرى كافرًا لعَنَه اللَّه تَعَالَى. (¬4) ماتَ قَبْلَ غزوةِ بَدرٍ الكُبْرى كافرًا. (¬5) ماتَ قَبْلَ غزوةِ بَدرٍ الكُبْرى كافرًا. (¬6) قُتل في غزوةِ بَدرٍ الكُبْرى كافرًا قتَله بِلال -رضي اللَّه عنه-. (¬7) قتله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوة أُحُدٍ كافرًا، وهو الوَحِيدُ الذي قتلهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬8) فَيَّلَ رأيَهُ: أي ضَعَّفَهُ وخَطَّأَهُ. انظر الوسيط (2/ 715).

* صور من التعذيب والإيذاء

شَرَفَكَ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ: واللَّهِ لنكْسِدَنَّ تِجَارَتَكَ، ولَنُهْلِكَنَّ مَالَكَ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ وأَغْرَى بِهِ (¬1) * صُوَرٌ مِنَ التَّعْذِيبِ والإِيذَاءِ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وابنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ أوَّلَ مَنْ أظْهَرَ إِسْلامَهُ سَبْعَةٌ: رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَبُو بَكْرٍ، وعَمَّارٌ، وأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وصُهَيْبٌ، وبِلالٌ، والمِقْدَادُ، فأمَّا رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فمَنَعَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فأخَذَهُمُ المُشْرِكُونَ وألْبَسُوهُمُ أدْرَاعَ الحَدِيدِ، وصَهَرُوهُمْ في الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ إِلَّا وقَدْ وَاتَاهُمْ (¬2) عَلَى ما أرَادُوا إِلَّا بِلالٌ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ في اللَّهِ، وهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الوِلْدَانَ، فجَعَلُوا يَطُوفُونَ بهِ في شِعَابِ مَكَّةَ، وهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ (¬3). * تَعْذِيبُ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-: كَانَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- يأخُذُهُ عَمُّهُ الحَكَمُ بنُ أَبِي العَاصِ فيُوثِقُهُ رِبَاطًا ويَقُولُ لهُ: أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ آبَائِكَ إلى دِينٍ مُحْدَثٍ؟ واللَّهِ لا أَحُلُّكَ أبَدًا حتَّى تَدَعَ ما أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فيَقُولُ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 357). (¬2) واتَاهُمْ: أي وَافَقَهُمْ. انظر لسان العرب (1/ 67). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3832) - وأخرجه ابن ماجه في سننه - في المقدمة - رقم الحديث (150).

* تعذيب الزبير بن العوام -رضي الله عنه-

عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: واللَّهِ لا أدَعُهُ أبَدًا ولا أُفَارِقُهُ، فَلَمَّا رَأَى الحَكَمُ صَلَابَتَهُ في دِينِهِ ترَكَهُ (¬1). * تَعْذِيبُ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- يَأْخُذُهُ عَمُّهُ ويَلُفُّهُ في حَصِيرٍ، ويُدَخِّنُ عَلَيْهِ بالنَّارِ، ويَقُولُ لَهُ: ارْجعْ إِلَى الكُفْرِ، فيَقُولُ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه-: لا أكْفُرُ أَبَدًا (¬2). * تَعْذِيبُ زِنِّيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مِنَ الذِينَ عُذِّبُوا: امْرَأَةٌ يُقَالُ لهَا: زِنِّيرَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أعْتَقَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَذَهَبَ بَصَرُهَا حِينَ أعْتَقَهَا، فقَالَتْ قُرَيْشٌ: ما أذْهَبَ بَصَرَهَا إِلَّا اللَّاتُ والعُزَّى، فَقَالَتْ: كَذَبُوا وبَيْتِ اللَّهِ، ما تَضُرُّ اللَّاتُ والعُزَّى ومَا تَنْفَعَانِ، فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرَهَا (¬3). * تَعْذِيبُ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَمَّا مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَدْ رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: أَنَّ مُصْعَبَ بنَ عُميْرٍ كَانَ فتَى مَكَّةَ شَبَابًا وجَمَالًا، وَكَانَ أبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَليئَةً كَثِيرَةَ المَالِ تَكْسُوهُ أحْسَنَ ما يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ وأَرَقَّهُ، وَكَانَ أعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَانَ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (3/ 31). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب كان عَمُّ الزُّبير يُعلِّق الزبير في حصير - رقم الحديث (5601) - وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 113) - وهو مرسل صحيح. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 355) - البداية والنهاية (3/ 64) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 283).

* تعذيب النهدية وبنتها

رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَذْكُرُهُ ويَقُولُ: "ما رَأيْتُ بِمَكَّةَ أحَدًا أحْسَنَ لِمَّةً (¬1)، ولا أرَقَّ حُلَّةً ولا أنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ"، فبَلَغَهُ أَنَّ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ في دَارِ الأَرْقَمِ بنِ أَبِي الأَرْقَمِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فأسْلَمَ وصَدَّقَ بهِ، وخَرَجَ فكَتَمَ إسْلامَهُ خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وقَوْمِهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سِرًّا، فَبَصُرَ بهِ عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ يُصَلِّي فأخْبَرَ أُمَّهُ وقَوْمَهُ، فأخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ فلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ في الهِجْرَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ المُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، فَرَجَعَ مُتَغَيِّرَ الحَالِ قَدْ حَرَجَ -يَعْنِي غَلُظَ- فكفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ (¬2). * تَعْذِيبُ النَّهْدِيَّةِ وبِنْتِهَا: مِنَ الذِينَ عُذِّبُوا امْرَأَةٌ يُقالُ لَهَا: النَّهْدِيَّةُ وبِنْتُهَا، وكانتا لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَمَرَّ بِهِمَا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وقَدْ بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا بِطَحِينٍ لَهَا، وهِيَ تَقُولُ: واللَّهِ لا أُعْتِقُكُمَا أبَدًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: حِلْ يَا أُمَّ فُلانٍ (¬3)، فَقالَتْ: حِلْ، أَنْتَ أفْسَدْتَهُمَا فَأعْتِقْهُمَا، قَالَ: قَدِ ابْتَعْتُهُمَا (¬4)، وهُمَا حُرَّتَانِ (¬5). * تَعْذِيبُ سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ -يُوثِقُ سَعِيدَ بنَ زَيْدِ بنِ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ -رضي اللَّه عنه- ويُعَذِّبُهُ عَلَى إسْلَامِهِ. ¬

_ (¬1) اللِّمَةُ: بكسْرِ اللامِ، شَعْرُ الرَّأس إذا كَانَ فَوقَ الوَفْرَةِ. انظر لسان العرب (12/ 333). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 62). (¬3) حِلْ يا أُمَّ فُلانٍ: أي تَحَلَّلِي مِنْ يَمِينِكِ. انظر لسان العرب (3/ 300). (¬4) ابتاع الشيء: اشتراه. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (1/ 355) - البداية والنهاية (3/ 64) - سبل الهدى والرشاد (2/ 361).

* تعذيب جارية بني مؤمل

رَوى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: واللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي (¬1) وإنَ عُمَرَ لَمُوثِقِي (¬2) عَلَى الإِسْلامِ وقَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ (¬3). * تَعْذِيبُ جَارِيَةِ بَنِي مُؤَمَّلٍ: مِنَ الذِينَ عُذِّبُوا جَارِيَةٌ لِبَنِي مُؤَمَّلٍ -وهُمْ حَيٌّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ- وَكَانَ الذِي يُعَذِّبُهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ عَلَى الشِّرْكِ، فَيُعَذِّبُهَا حتَّى يَمَلَّ، فيَقُولُ لَهَا: إنِّي اعْتَذِرُ إلَيْكِ، إنِّي لَمْ أتْرُكْكِ إِلَّا مَلَالَةً، فتَقُولُ -رضي اللَّه عنه-: كذَلِكَ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ (¬4). * تَعْذِيبُ بِلالِ بنِ رَبَاحٍ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ بِلالُ بنُ رَبَاحٍ -رضي اللَّه عنه-، مَوْلَى لِبَعْضِ بَنِي جُمَحٍ، يُخْرِجُهُ سَيِّدُهُ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ- إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسُ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ، فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ في بَطْحَاءَ مَكَّةَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بالصَّخْرَةِ العَظِيمَةِ، فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: لا تَزَالُ هَكَذَا حتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وتَعْبُدَ اللَّاتَ والعُزَّى، فيَقُولُ وهُوَ في ذَلِكَ البَلَاءَ: أَحَدٌ أَحَدٌ (¬5). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 569): والمعنَى رأيتُ نَفسي. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 569): أي رَبَطه بسبَبِ إسلامِهِ إهانَةً لهُ وإلْزَامًا بالرُّجوع عن الإسلام. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام سعيد بن زيد -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3862). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 356) - البداية والنهاية (3/ 64) - سبل الهدى والرشاد (2/ 361). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (1/ 354) - زاد المعاد (3/ 20).

* رواية ضعيفة

قَالَ الشَّيخُ عَلِي الطَّنْطاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وتَشْغَلُهُ لَذَّةُ المُنَاجَاةِ، عَنْ لَذْعَةِ العَذَابِ، ونَشْوَةُ الأمَلِ بالجَنَّةِ، عَنْ شِقْوَةِ الألَمِ فِي الدُّنْيَا (¬1). * رِوَايَةٌ ضعِيفَةٌ: وَأَمَّا ما رَواهُ ابنُ إسْحَاقَ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ -أيْ عَلَى بِلالٍ -رضي اللَّه عنه- وهُوَ يُعَذَّبُ، وهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، . . . فَقَالَ وَرَقَةُ لِأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ: لَئِنْ قتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا -أيْ عَلَى الإِسْلامِ- لَأتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا (¬2). قال الحَافِظُ ابنُ كثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ: وفِيهِ نَظَرٌ (¬3). وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: هذا مُرْسَلٌ، ووَرَقَةُ لَوْ أدْرَكَ هَذَا لَعُدَّ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا مَاتَ الرَّجُلُ في فترَةِ الوَحْي بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وقَبْلَ الرِّسَالَةِ، كَمَا في الصَّحِيحِ (¬4). * تَعْذِيبُ آل يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: كَانَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ وأُمُّهُ وأبُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ الذِينَ يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ لِيَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ، فَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ، وعَلَى رَأْسِهِمْ أَبُو جَهْلٍ ¬

_ (¬1) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 14. (¬2) الحَنَانُ: الرَّحْمةُ والعَطْفُ، أرادَ: لَأَجْعَلَنَّ قبرَهُ مَوْضِعَ حَنَانٍ، أي مَظَنَّةً منْ رَحْمة اللَّه، فأتمَسَّح بهِ مُتَبَرِّكًا، فيرجعُ ذلك عَارًا عليكم، وسُبَّةً عِند الناس. انظر النهاية (1/ 435). وانظر الخَبَر في سيرة ابن هشام (1/ 355). (¬3) انظر البداية والنهاية (3/ 64). (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 352).

لَعَنَهُ اللَّهُ يَخْرُجُونَ بِهِمْ إِلَى الأَبْطُحِ إِذَا حَمِيَتِ الرَّمْضَاءُ، فَيُعَذِّبُونَهُمْ بِحَرِّهَا، فَمَرَّ بهم رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُمْ يُعَذَّبُونَ فقال: "صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ فإنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةُ" (¬1). فَمَاتَ ياسِرٌ في العَذَابِ، وَأَمَّا سُمَيَّةُ أُمّ عَمَّارٍ فَطَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ- بِحَرْبَةٍ في قُبُلِهَا فَمَاتَتْ، وهِيَ أوَّلُ شَهِيدَةٍ في الإِسْلامِ (¬2) وَأَمَّا عَمَّارٌ -رضي اللَّه عنه- فنَزَلَ عَلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ بالعَذَابِ الشَّدِيدِ بالحَرْقِ تَارَةً، وبالتَغْرِيقِ تَارَةً أُخْرَى، ولَمْ يَزَلِ المُشْرِكُونَ يُعَذِّبُونَهُ حتَّى سَبَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فترَكُوهُ، فأَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يَبْكِي، فَجَعَلَ رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَمْسَحُ عَنْ عَيْنَيْهِ، ويَقُولُ له: "مَا وَرَاءَكَ؟ " قال شَرٌّ يا رَسُولَ اللَّهِ! مَا تُرِكْتُ حتَّى نِلْتُ مِنْكَ وذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ " قَالَ مُطْمَئِنًّا بالإيمَانِ، فقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ عَادُوا فَعُدْ"، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب مَعْرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب إيذَاءِ الكفار آل ياسِرٍ - رقم الحديث (5696) - وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه، ووافقه الذهبي - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 282). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 65) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 282) - سيرة ابن هشام (1/ 357). (¬3) سورة النحل آية (106). والخبرُ أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة النحل - رقم الحديث (3413) - وقال: هذا حديث صحيح على شَرْط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقرَّه الذهبي.=

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ المُكْرَهُ عَلَى الكُفْرِ، إبْقَاءً لِمُهْجَتِهِ (¬1)، ويَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْتِلَ، كَمَا كَانَ بِلالٌ -رضي اللَّه عنه- يَأْبى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وهُمْ يَفْعَلُونَ بهِ الأفَاعِيلَ، حتَّى إِنَّهُمْ لَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ العَظِيمَةَ عَلَى صَدْرِهِ في شِدَّةِ الحَرِّ، ويَأْمُرُونَهُ أَنْ يُشْرِكَ باللَّهِ فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ، وهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. ويَقُولُ: واللَّهِ لَوْ أعْلَمُ كَلِمَةً هِيَ أغْيَظُ لَكُمْ مِنْهَا لَقُلْتُهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرْضَاهُ، وكذَلِكَ حَبِيبُ بنُ زَيْدٍ الأنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬2) لَمَّا قَالَ لَهُ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ: أتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: أتَشْهَدُ أنِّي رسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لا أسْمَعُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَطِّعُهُ إِرَبًا إرَبًا (¬3) وهُوَ ثَابِتٌ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ. ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والأَفْضَلُ والأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ المُسْلِمُ عَلَى دِينِهِ، ولَوْ أَفْضَى إِلَى قتلِهِ (¬4). ¬

_ = وأوردَهُ الحافظ في الفتح (12/ 278) وقال: هو مُرْسل ورجاله ثِقاتٌ، وذكره من عدة طُرق مُرسلة، وقال: وهذه المَرَاسيل يُقوِي بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. (¬1) المُهْجَةُ: الرُّوحُ. انظر لسان العرب (13/ 206). (¬2) هوَ حَبِيبُ بنُ زَيْدٍ الأنْصَارِيُّ الخَزْرَجِيُّ، شَهِدَ العَقَبَةَ، وشَهِدَ أُحُدًا والخَنْدَقَ والمشَاهِدَ معَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أرسَلَهُ الرسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مُسَيْلَمَةَ الكَذَّاب، صَاحِبَ اليَمَامَةِ، فَكَانَ مُسيلمَةُ إذا قال له: أتشهَدُ أَنَّ محمدًا رسول اللَّه؟ قال: نَعَمْ، وإذا قال: أتشهَدُ أني رسول اللَّه؟ قال: أنا أصَمُّ لا أسْمَعُ، فَفَعَلَ ذلك مِرَارًا، فَقَطَّعَهُ مُسيلمَةُ عُضْوًا عُضْوًا حتى ماتَ -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (1/ 421). (¬3) الإرَبُ: العُضْوُ. انظر النهاية (1/ 39). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (4/ 606).

* تعذيب أبي فكيهة -رضي الله عنه-

* تَعْذِيبُ أَبِي فكَيْهَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬1): وَكَانَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُخْرِجُونَ أَبَا فكَيْهَةَ -رضي اللَّه عنه- نِصْفَ النَّهَارِ في حَرٍّ شَدِيدٍ، وهُوَ مُقَيَّدٌ بالحَدِيدِ، فيَبْطَحُونَهُ في الرَّمْضَاءِ، ويَضَعُونَ الصَّخْرَةِ عَلَى ظَهْرِهِ حتَّى لا يَعْقِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حتَّى هاجَرَ إلى الحَبَشَةِ في الهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ (¬2). * تَعْذِيبُ خَالِدِ بنِ سَعِيدِ بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-: مِنَ الذِين عُذِّبُوا خَالِدُ بنُ سَعِيدِ بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يَلْزَمُ رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُصَلِّي في نواحِي مَكَّةَ خَالِيًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ أبَا أُحَيْحَةَ فَدعَاهُ فكلَّمَهُ أَنْ يَدَعَ ما هُوَ عَلَيْهِ، فقال خَالِدٌ: لا أدعُ دِينَ مُحَمَّدٍ حتَّى أمُوتَ عَلَيْهِ، فضَرَبَهُ أَبُو أُحَيْحَةَ بِقَرَّاعَةٍ (¬3) في يَدِهِ حتَّى كَسَرَها عَلَى رَأْسِهِ، ثُمّ أمَرَ بهِ إلى الحَبْسِ، وضَيَّقَ عَلَيْهِ، وأجَاعَهُ وأعْطَشَهُ، حتَّى لقَدْ مَكَثَ في حَرِّ مَكَّةَ ثَلاثًا ما يَذُوقُ مَاءً، فَرَأَى خَالِدٌ فُرْجَةً فَخَرَجَ، فتَغَيَّبَ عَنْ أبِيهِ في نَوَاحِي مَكَّةَ حتَّى هَاجَرَ إلى الحَبَشَةِ في الهِجْرَةِ الثَّانِيَة (¬4). ¬

_ (¬1) اسمُهُ يَسَارٌ -رضي اللَّه عنه-، وكان يُعذَّب في اللَّه، فاشتراه أبو بكر الصديق وأعتقَهُ، وهاجَرَ إلى الحبشَةِ الهجرةَ الثانية، ومات -رضي اللَّه عنه- قبلَ غزوَةِ بَدْرٍ الكُبْرى. انظر الإصابة (7/ 268). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (4/ 380). (¬3) القَرَّاعُ: التِّرْسُ. انظر لسان العرب (11/ 121). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 366).

* تعذيب صهيب الرومي -رضي الله عنه-

* تَعْذِيبُ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ -رضي اللَّه عنه-: مِنَ الصَّحَابَةِ المُسْتَضْعَفِينَ الذِينَ عُذِّبُوا في مَكَّةَ صُهَيْبُ بنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ -رضي اللَّه عنه-. رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ قَالَ: كَانَ صُهَيْبُ بنُ سِنَانٍ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ كَانُوا يُعَذَّبُونَ في اللَّهِ بِمَكَّةَ (¬1). * مِحْنَةُ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- مَعَ أُمِّهِ: أَمَّا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، فإنَّ أُمَّهُ (¬2) حَلفَتْ أَنْ لا تُكَلِّمَهُ أبَدًا حتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وقالَتْ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ أوْصَاكَ بِوَالِدَيْكَ، وأنَا أُمُّكَ وأنَا آمُرُكَ بِهَذَا، لَتَدَعَنَّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لا آكُلُ ولا أَشْرَبُ حتَّى أمُوتَ، فتعَيَّرُ بِي فيُقَالُ: يا قَاتِلَ أُمِّهِ. فَقَالَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-: لا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ! فإنِّي لا أدَعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فمَكَثَتْ ثَلاثًا لَمْ تَأْكُلْ حتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الجَهْدِ، فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: يَا أُمَّهْ! واللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا، ما ترَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ لا تَأْكُلِي. فَلَمَّا رَأَتْ مِنْهُ الجِدَّ أكَلَتْ. فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 121). (¬2) قال الحافظ في الفتح (4/ 12): اسمُ أمِّ سَعْدِ بنِ أَبِي وقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-: حَمْنَةُ بفتح الحاء وسكون الميم، بنتُ سُفيانَ بنِ أمَيَّة، وهي ابنَةُ عَمِّ أبي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ، ولمْ أرَ في شَيْءٍ من الأخبار أنَّها أسْلَمَتْ.

* تعذيب خباب بن الأرت -رضي الله عنه-

بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (¬1)، وقَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬2). * تَعْذِيبُ خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ -رضي اللَّه عنه-: أَمَّا أشَدُّ مَنْ عُذِّبَ مِنَ الصَّحَابَةِ فَهُوَ خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، قال عَنْ نَفْسِهِ -رضي اللَّه عنه-: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمًا أخَذُونِي فَأَوْقَدُوا لِي نَارًا ثُمَّ سَلَقُونِي (¬3) فِيهَا، ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي، فمَا اتَّقَيْتُ الأرْضَ إِلَّا بِظَهْرِي، قَالَ: ثُمَّ كُشِفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرَصَ (¬4). وفي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُوقِدُونَ لَهُ نَارًا فَمَا يُطْفِئُهَا إِلَّا وَدَكُ (¬5) ظَهْرِهِ (¬6). وَرَوَى الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَارِثَةَ بنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى خَبَّابٍ، وقَدِ اكْتَوَى في بَطْنِهِ، فَقَالَ: ما أَعْلَمُ أحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَقِيَ مِنَ البَلاءِ مَا لَقِيتُ (¬7). ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت آية (8). (¬2) سورة لقمان آية (15). والخبر أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب فضل سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه - رقم الحديث (2748). (¬3) سَلَقَهُ: أحْرَقَهُ. انظر لسان العرب (6/ 335). (¬4) أخرجه ابن ماجه في سننه - المقدمة - باب فضائل خباب - رقم الحديث (153) - وإسناده صحيح - وابن سعد في طبقاته (3/ 88). (¬5) الوَدَكُ: هو دَسَمُ اللَّحْمِ، ودُهْنُهُ الذِي يَخْرُجُ منه. انظر النهاية (5/ 148). (¬6) انظر حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 195). (¬7) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في النهي عن التمني للموت - رقم الحديث (970) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1030) =

ولَمَّا مَرَّ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى قَبْرِهِ، وهُوَ مُنْصَرِفٌ مِنْ صِفِّينَ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ خَبَّابًا أسْلَمَ رَاغِبًا، وهَاجَرَ طَائِعًا، وعَاشَ مُجَاهِدًا، وابْتُلِيَ في جِسْمِهِ أحْوَالًا، ولَنْ يُضِيعَ اللَّهُ أَجْرَهُ (¬1). وقَائِمَةُ المُعَذَّبِينَ في اللَّهِ طَوِيلَةٌ ومُؤْلمَةٌ جِدًّا، فَمَا مِنْ أحَدٍ عَلِمُوا بِإِسْلَامِهِ إِلَّا تَصَدَّوْا لَهُ وآذَوْهُ. قَالَ الشَّيْخُ عَلِيّ الطَّنْطَاوِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: احْتَمَلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّ شَيْءٍ الضَّرْبَ، والجَرْحَ، والحَرْقَ، والجُوعَ، والسَّهَرَ، واسْتَحْلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ المَرَائِرَ، واسْتَحَبُّوا بَعْضَ المَكَارِهِ إلى النُّفُوسِ إِنْ كَانَ فِيهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى (¬2). فَلَمْ تَلْقَ قُرَيْشٌ نَجَاحًا في صَرْفِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ. قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد سَعِيد رَمَضَان البُوطِي: أوَّلُ ما قَدْ يَخْطُرُ في بَالِ المُتَأَمِّلِ، حِينَمَا يَرَى قِصَّةَ ما لَقِيَهُ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ مِنَ المُشْرِكِينَ، مِنْ صُنُوفِ الإيذَاءِ والعَذَابِ، هُوَ أَنْ يَتَسَاءَلَ: فِيمَ هَذَا العَذَابُ الذِي لَقِيَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ وهُمْ عَلَى حَقٍّ؟ ولِمَاذَا لَمْ يَعْصِمْهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ، وهُمْ جُنُودُهُ ¬

_ = وأصل الحديث في صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب تمني المريض الموت - رقم الحديث (5672) - ومسلم في صحيحه - كتاب الذكر والدعاء - باب تمني كراهة الموت - رقم الحديث (2681). (¬1) انظر تحفة الأحوذي (4/ 13). (¬2) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 14.

وفيهِمْ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُونَ إلى دِينِهِ، ويُجَاهِدُونَ في سَبِيلِهِ؟ . والجَوَابُ: مِنْ أجْلِ إظْهَارِ صِدْقِ الصَّادِقِينَ، وَكَذِبِ الكَاذِبِينَ، فَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ لِدَعْوَى الإِسْلامِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فَقَطْ، لاسْتَوَى الصَّادِقُ والكَاذِبُ، ولَكِنَّ الفِتْنَةَ والِابْتِلَاءَ، هُمَا المِيزَانُ الذِي يُمَيِّزُ الصَّادِقَ مِنَ الكَاذِبِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة للبوطي (77 - 78).

إعتاق أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- للمستضعفين

إِعْتَاقُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- لِلْمُسْتَضْعَفِينَ أَمَّا وَاهِبُ الحُرِّيَّاتِ ومُحَرِّرُ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَهُوَ الذِي عُرِفَ بَيْنَ قَوْمِهِ بأنَّهُ يَكْسِبُ المَعْدُومَ، ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيْفَ، ويُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ (¬1)، لَمْ يَنْغَمِسْ في إثْمٍ فِي جَاهِلِيَّتِهِ، مَأْلُوفٌ في قَوْمِهِ، يَسِيلُ قَلْبُهُ رِقَّةً ورَحْمَةً عَلَى الضُّعَفَاءَ والأرِقَّاءَ، أنْفَقَ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ مَالِهِ في شِرَاءَ العَبِيدِ، وعِتْقِهِمْ للَّهِ، وفي اللَّهِ، ذَلِكُمُ المُحَرِّرُ لِلْعَبِيدِ هُوَ صِدِّيقُ هَذِهِ الأمَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- (¬2). * ومِنْ هَؤُلاءِ الكِرَامِ الذِينَ أَعْتَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: 1 - بِلالُ بنُ رَبَاحٍ -رضي اللَّه عنه-: فَقَدْ رَوى ابنُ إسْحَاقٍ أَنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- مَرَّ عَلَى أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، وهُوَ يُعَذِّبُ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لهُ أَبُو بَكْرٍ: ألَا تَتَّقِي اللَّهَ في هَذَا المِسْكِينِ؟ حتَّى مَتَى؟ قال: أَنْتَ الذِي أفْسَدْتَهُ فأنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أفْعَلُ، ¬

_ (¬1) انظر شُهرةَ أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- بهذه الصِّفات: في صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار- باب هِجْرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (1/ 345) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ.

عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلَدُ (¬1) منهُ وأقْوَى، عَلَى دِينِكَ، أُعْطِيكَهُ بِهِ. قَالَ أُمَيَّةُ: قَدْ قَبِلْتُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: هُوَ لَكَ، فأعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- غُلَامَهُ ذَلِكَ، وأخَذَ بِلالًا رضي اللَّه عنه، فَأَعْتَقَهُ (¬2). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في مُسْنَدِ مُسَدَّدٍ (¬3) عَنْ مَعْمَرِ بنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: كَانَ بِلالٌ -رضي اللَّه عنه- لِأَيْتَامِ أَبِي جَهْلٍ، فَعَذَّبَهُ، فَبعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا، فقَالَ له: اشْتَرِ بِلالًا، فَأَعْتِقْهُ (¬4) وفي رِوَايَةِ ابنِ أَبِي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَيْسِ بنِ أَبِي حَازِمٍ، قال: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا بِخَمْسِ أوَاقٍ، قالُوا: لَوْ أَبَيْتَ إِلَّا أُوقِيَّةً لَبِعْنَاكَهُ، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: لَوْ أبَيْتُمْ إِلَّا مِائَةَ أُوقِيَّةٍ لَأَخَذْتُهُ (¬5). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَيُجْمَعُ بَيْنَ القِصَّتَيْنِ بأنَّ كُلًّا مِنْ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، ¬

_ (¬1) الجَلَدُ: القُوَّةُ والصَّبْرُ. انظر النهاية (1/ 275). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 355). (¬3) هو الإمام الحافظُ الحُجَّة مُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَدٍ، أحدُ أعْلام الحديث، وُلد في حُدودِ الخَمْسِينَ ومِئَةٍ من الهجرة، وتُوفي في سنة ثمانٍ وعِشرين ومئتينِ، وهو شيخُ الإمامِ البُخاري، وأبي داود، وأبي زُرْعة، وغيرهم. انظر سير أعلام النبلاء (10/ 591). (¬4) أورده الحافظ في الفتح (5/ 161). (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (37744) - وأورده الحافظ في الفتح (7/ 470) - وصحح إسناده. الأُوقِيَّةُ: بِضَمِّ الهمزَةِ: تُسَاوِي أرْبَعِينَ دِرْهمًا، يَعْنِي اشْترَاهُ مِنْ أَبِي جَهْلٍ بمِائتَيْ دِرْهَمٍ. انظر النهاية (1/ 80).

* إنما أريد وجه الله

وأبِي جَهْلٍ كَانَ يُعَذِّبُ بِلَالًا، ولَهُمَا نَصِيبٌ فِيهِ (¬1). رَوى الإمامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وأعْتَقَ سَيِّدَنَا، يَعْنِي بِلَالًا (¬2). 2 - أَبُو فكَيْهَةَ -رضي اللَّه عنه- اشْتَرَاهُ، وأَعْتَقَهُ. 3 - عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- اشْترَاهُ، وأعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ، وقَدْ شَهِدَ عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ غَزْوَةَ بَدْرٍ، وأُحُدٍ، وقُتِل في فَاجِعَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا سنة أَرْبَعٍ لِلْهِجْرَةِ. 4 - زَنِّيرَةُ اشْتراهَا، وأعْتَقَهَا. 5 - جَارِيَةُ بَنِي مُؤَمَّلٍ، وَكَانَ الذِي يُعَذِّبُهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فاشْترَاهَا، وأعْتَقَهَا. 6 - النَّهْدِيَّةُ وابْنَتُهَا، وكانَتَا لِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَمَرَّ بِهِمَا، فاشْتَرَاهُمَا، وأعْتَقَهُمَا (¬3). * إِنَّمَا أُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ: ولَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- يَقْصِدُ بِعَمَلِهِ مَحْمَدَةً، ولا جَاهًا، وَلا ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 162). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب بلال بن رباح -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3754). (¬3) انظر تفاصيل تحرير أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- للعَبيدِ في: سِيرة ابن هشام (1/ 355) - والبداية والنهاية (3/ 64) - زاد المعاد (3/ 21).

دُنْيَا، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ذِي الجَلَالِ والإكْرَامِ. رَوى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ: يا بُنَيَّ إنِّي أرَاكَ تُعْتِقُ رِقَابًا ضِعَافًا، فَلَوْ أنَّكَ إذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أعْتَقْتَ رِجَالًا جُلْدًا يَمْنَعُونَكَ، ويَقُومُونَ دُونَكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يا أبَتِ إنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ، للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فيه -رضي اللَّه عنه-: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ: ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ نَزَلَتْ في أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، حتَّى إِنَّ بَعْضَهُم حَكَى الإجْمَاعَ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ، ولا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا، وأَوْلَى الأمَّةِ بِعُمُومِهَا، فإنَّ لفظَهَا لفظُ العُمُومِ، وهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) ¬

_ (¬1) سورة الليل آية (5 - 21) - والخبر أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} - رقم الحديث (3997) - والإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (66) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 356).

الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}، ولَكنَّهُ مُقَدَّمُ الأمَّةِ، وسَابِقُهُمْ في جَمِيعِ هَذِهِ الأوْصَافِ، وسَائِرِ الأوْصَافِ الحَمِيدَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًّا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلاهُ، ونُصْرَةِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ ودَنَانِيرَ بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ربِّهِ الكَرِيمِ، ولَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، ولَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وإحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ والرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ القَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬1) وهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، يَوْمَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ عَلَى الكُفْرِ مَا أَسْلَمَ بَعْدُ-: أمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ لَكَ كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ (¬2)، وَكَانَ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- قَدْ أغْلَظَ لَهُ فِي المَقَالَةِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ العَرَبِ ورُؤَسَاءِ القَبَائِلِ، فكَيْفَ بِمَنْ عَدَاهُمْ؟ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (¬3). ¬

_ (¬1) هو عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودِ الثَّقَفِيُّ، أحدُ الأكابرِ في قَوْمِهِ، وهو الذِي عنَاه اللَّه تَعَالَى في القُرآن على لِسَان الكفَّار في سورة الزخرف آية (31): {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. والمَقْصُودُ بالرَّجلينِ الوَليدُ بنُ المُغِيرةِ في مَكةَ، وعُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ في الطَّائف، وأسلَمَ -رضي اللَّه عنه- بعدَ غزوَةِ الطَّائِفِ في السنة الثامنة للهجرة، واسْتَأْذَنَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَرْجعَ إلى قومه يَدْعُوَهم إلى الإسلام، فقال له الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنِّي أخَافُ أن يَقْتُلُوكَ، فخرج إلى قومه يَدْعُوَهُمْ إلى الإسلامِ، فَقتَلُوه -رضي اللَّه عنه- انظر الإصابة (4/ 406). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد، والمُصَالحة مع أهلِ الحُرُوب - رقم الحديث (2731) - وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (18928) - (18910). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (8/ 422).

* أول من جهر بالقرآن

* أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالقُرْآنِ: ومَعَ كُلِّ هَذِهِ الابْتِلَاءَاتِ التِي تَعَرَّضَ لَهَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَّا أَنَّ الحَمَاسَ فِيهِمْ كَانَ عَظِيمًا لِدَعْوَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُوُنوا يَجْرُؤُونَ عَلَى الجَهْرِ بالقُرْآنِ أَمَامَ قُرَيْشٍ، وأَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بالقُرْآنِ بِمَكَّةَ بَعْدَ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا رَقِيقًا، ولَكِنَّهُ فِي المِيزَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ أثْقَلُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ (¬1). وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أوَائِلِ مَنْ أسْلَمَ، فَقَدْ أخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، والحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْهُ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي سَادِسَ سِتَّةٍ مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ غَيْرُنَا (¬2). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مُرْسَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- اجْتَمَعَ يومًا أصْحَابُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالُوا: واللَّهِ ما سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا القُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطُّ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ؟ . ¬

_ (¬1) روى الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (3991) - وأبو داوود الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (353) - بسند صحيح عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- أنَّه كان يَجْتَنِي سِواكًا من الأرَاكِ، وكان دَقِيقَ السَّاقَيْن، فجعلتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ القَوْمُ منه، فَقَالَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِمَّ تَضْحَكُونَ"؟ قالوا: يا نَبِيَّ اللَّه، من دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أثْقَلُ في المِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ". (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7062) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذِكْرِ منَاقب عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5419)

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ: أنَا، قَالُوا: إنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنَ القَوْمِ إِنْ أرَادُوهُ، قَالَ: دَعُونِي فإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيَمْنَعُنِي، قَالَ: فَغَدَا ابنُ مَسْعُودٍ حتَّى أَتَى المَقَامَ في الضُّحَى، وقُرَيْشٌ في أنْدِيَتِهَا، فَقَامَ عِنْدَ المَقَامِ، ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَافِعًا صَوْتَهُ: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} قَالَ: ثُمَّ اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَأُ فِيهَا، قَالَ: وتَأَمَّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا يَقُولُ ابنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالَ: ثُمَّ قَالُوا: إنَّهُ لَيَتْلُو بَعْضَ ما جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ في وَجْهِهِ، وجَعَلَ يَقْرَأُ حتَّى بلَغَ ما شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وقَدْ أثَّرُوا في وَجْهِهِ، فقَالُوا لَهُ: هَذَا الذِي خَشِينَا عَلَيْكَ، فقَالَ: ما كَانَ أعْدَاءُ اللَّهِ أهْوَنَ عَلَيَّ مِنْهُمْ الآنَ، ولَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنَّهُمْ بِمِثْلِهَا، قَالُوا: حَسْبُكَ فَقَدْ أسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ (¬1). ورَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صحِيحِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا أعْرِفُ أحَدًا أقْرَبَ سَمْتًا (¬2) وَهَدْيًا (¬3) وَدَلًّا (¬4) بِالنَّبِيِّ -رضي اللَّه عنه- مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1535) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 351). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 474): سَمْتًا: أي خُشُوعًا. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 474): هَدْيًا: أي طَرِيقَةً. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 474): دَلًّا: أي سِيرَةً وحَالَةً وهَيْئَة، وكأنَّهُ مأخُوذٌ ممَّا يَدُلُّ ظاهرُ حالهِ على حُسْنِ فِعَالِهِ. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب مناقب عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3762) - وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (23308).

* اشتداد أذى قريش

* اشْتِدَادُ أَذَى قُرَيْشٍ: واشْتَدَّتْ ضَرَاوَةُ المُشْرِكِينَ بِالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حتَّى سَامُوهُمْ أَلْوَانًا مِنَ العَذَابِ فكانُوا يَأْخُذُونَهُمْ، ويُلْبِسُونَهُمْ أدْرَاعَ الحَدِيدِ، ثُمَّ يَصْهَرُونَهُمْ في الشَّمْسِ (¬1). رَوَى ابنُ إسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قال: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ: أكَانَ المُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أصْحَابِ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ العَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ في تَرْكِ دِينِهِمْ؟ قال: نَعَمْ واللَّهِ، إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ أحَدَهُمْ، ويُجِيعُونَهُ، ويُعَطِّشُونَهُ حتَّى ما يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الذِي نَزَلَ بِهِ، حَتَّى يُعْطِيَهُمْ ما سَأَلُوهُ مِنَ الفِتْنَةِ، حتَّى يَقُولُوا له: اللَّاتُ والعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، حتَّى إِنَّ الجُعْلَ (¬2) لَيَمُرُّ بِهِمْ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَهَذَا الجُعْلَ إلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، افْتِدَاءً مِنْهُمْ مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ (¬3). * شَكْوَى الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فلَمَّا طَالَ العَذَابُ عَلَى المُسْلِمِينَ ذَهَبَ خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رسُولِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3832) - ابن ماجه في سننه - المقدمة - باب في فضائل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (150) وإسناده حسن. (¬2) الجُعْلُ: هو حَيَوان مَعرُوفٌ كالخُنْفُسَاءِ. انظر النهاية (1/ 268). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 357).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَنْجِدُ بِهِ مِنْ هَذَا العَذَابِ، فَيَضْرِبُ لَهُمْ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمْثَالَ، ويَعِظُهُمْ ويُذَكِّرُهُمْ، فَيَرْجِعُونَ رَاضِينَ مُطْمَئِنِّينَ صَابِرِينَ عَلَى البَلَاءِ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: ألَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ ألَا تَدْعُو لَنَا (¬1)؟ . فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ (¬2) يُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ، فيجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فيشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، ومَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ويُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، ومَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ (¬3) حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صنْعَاءَ (¬4) إِلَى حَضْرَمَوْتٍ لا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" (¬5). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (14/ 327): طَلَبُ خبَّابٍ الدُّعاءَ منَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الكفَّارِ دَالٌّ على أَنَّهُمْ كانوا قدِ اعْتَدَوْا عليهِ بالأذَى ظُلْمًا وعُدْوَانًا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (14/ 328): فيهِ تَسْلِيَةٌ لهُم وإشارَةٌ إلى الصَّبرِ حتى تَتَقَضَّى المُدَّةُ المَقْدُورَةُ، وإلى ذلكَ الإشارةُ بقولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "ولكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ". (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 556): المرادُ بالأمرِ الإسْلَام. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 326): يحتملُ أن يُريدَ صَنْعَاءَ اليَمَنِ، وبينها وبينَ حَضْرَمَوت وهي من اليَمن أيضًا مسَافَة بعيدةٌ نحو خَمْسَة أيامٍ، ويحتمل أَنْ يُريدَ صَنْعَاء الشَّام والمسافَةُ بينَهَا أكْترُ بِكَثِيرٍ، والأوَّلُ أقْرَبُ. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3612) - وأخرجه في كتاب مناقب الأنصار - بابُ ما لَقِيَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة - رقم الحديث (3852) - وأخرجه في كتاب الإكراه - باب من =

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ رسُولَ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَجْمَعْ أصْحَابَهُ عَلَى مَغْنَمٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ، إنَّهُ أزَاحَ الغِشَاوَةَ عَنِ الأعْيُنِ، فأبْصَرَتِ الحَقَّ الذِي حُجِبَتْ عَنْهُ دَهْرًا، ومَسَحَ الرَّانَ عَنِ القُلُوبِ، فَعَرَفَتِ اليَقِينَ الذِي فُطِرَتْ عَلَيْهِ، وحَرَمَتْهَا الجَاهِلِيَّةُ مِنْهُ. إنَّهُ وصَلَ البَشَرَ بِرَبِّهِمْ، فرَبَطَهُمْ بِنَسَبِهِمُ العَرِيقِ، وسَبَبِهِمُ الوَثِيقِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ حَيَارَى مَحْسُورِينَ، إنَّهُ وازَنَ للنَّاسِ بَيْنَ الخُلُودِ والفَنَاءِ، فآثَرُوا الدَّارَ الآخِرَةَ عَلَى الدَّارِ الزَّائِلَةِ، وخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أصْنَامٍ حَقِيرَةٍ وإِلَهٍ عَظِيمٍ، فازْدَرَوا الأوْثَانَ المَنْحُوتَةَ، وتَوَجَّهُوا لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ. وَكَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبُثُّ عَنَاصِرَ الثِّقَةِ في قُلُوبِ رِجَالِهِ، ويُفِيضُ عَلَيْهِمْ ما أفَاضَهُ اللَّهُ عَلَى فؤادِهِ مِنْ أمَلٍ رَحِيبٍ في انْتِصَارِ الإِسْلَامِ، وانْتِشَارِ مَبَادِئِهِ وزَوَالِ سُلْطَانِ الطُّغَاةِ أَمَامَ طَلَائِعِهِ المُظَفَّرَةِ في المَشَارِقِ والمَغَارِبِ (¬1). * * * ¬

_ = اختَار الضَّرب والقتال والهَوَان على الكفر - رقم الحديث (6943) - وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (21057). (¬1) انظر فقه السيرة ص 105 للشيخ محمد الغزالي.

استهزاء المشركين بالنبي -صلى الله عليه وسلم-

اسْتِهْزَاءُ المُشْرِكِينَ بالنَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ تِلْكَ الاعْتِدَاءَاتُ بالنِّسْبَةِ للمُسْلِمِينَ ولا سِيَّمَا المُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ، أَمَّا بالنِّسْبَةِ إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا شَهْمًا وَقُورًا، ذَا شَخْصِيَّةٍ فَذَّةٍ تَتَعَاظَمُهُ نُفُوسُ الأعْدَاءِ والأصْدِقَاءِ بِحَيْثُ لا يُقَابَلُ مِثْلُهَا إِلَّا بالإِجْلالِ والتَّشْرِيفِ مِنْ قِبَلِ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، وكان مَعَ ذَلِكَ في مَنَعَةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ. لِذَلِكَ لَمْ تَسْتَطِعْ قُرَيْشٌ -بَادِئَ الأمْرِ- أَنْ تَبْطِشَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وتَعْتَدِيَ عَلَيْهِ كَمَا فَعَلَتْ بِالمُسْلِمِينَ، فجَعَلُوا يَهْمِزُونَهُ ويَسْتَهْرئُونَ بهِ ويُخَاصِمُونَهُ، وَكَانَ عَلَى رَأْسِ المُسْتَهْزِئِينَ: أَبُو لَهَبٍ عَمُّهُ، وعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، والحَكَمُ بنُ أَبِي العَاصِ، والأسْوَدُ بنُ المُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ، والأسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، والوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ، والعَاصُ بنُ وَائِلٍ، وأَبُو جَهْلِ بنِ هِشَامٍ (¬1). * عَدَاوَةُ أُمِّ جَمِيلٍ زَوْجَةِ أَبِي لَهَبٍ: رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، أَقْبَلَتِ ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 268) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 134).

الْعَوْرَاءُ أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ، وَلَهَا وَلْوَلَةٌ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ (¬1)، وَهِيَ تَقُولُ: مُذَمَّمًا أَبَيْنَا ... ودِينَهُ قَلَيْنَا (¬2) وأمْرَهُ عَصَينَا وَالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: يَا رسُولَ اللَّهِ! قَدْ أَقْبَلَتْ وأَنَا أَخَافُ أَنْ تَرَاكَ، فقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهَا لَنْ تَرَانِي"، وقَرَأَ قُرآنا فَاعْتَصَمَ بِهِ كَمَا قَالَ، وقَرَأَ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} (¬3). فَوَقَفَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَلَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَي أُخْبِرْتُ أَنَ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ "مَا هَجَاكِ، فَوَلَّتْ، وَهِيَ تَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي بِنْتُ سَيِّدِهَا (¬4) وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِشَوَاهِدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، جَاءَتَ امْرَأَةُ أَبِي ¬

_ (¬1) الفِهرُ: هوَ الحَجَرُ مِلْءُ الكف، وقيل: هو الحجر مُطلقًا. انظر لسان العرب (10/ 341). (¬2) قَلَيْتُهُ: أبْغَضْتُهُ وكَرِهْتُهُ. انظر لسان العرب (11/ 293). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الضحى آية (3): {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}. (¬3) سورة الإسراء آية (45). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب أم جميل عميت عن رؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3428).

* شدة عداوة أبي لهب للرسول -صلى الله عليه وسلم-

لَهَبٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا رَآهَا أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا امْرَأَةٌ بَذِيئَةٌ (¬1)، وَأَخَافُ أَنْ تُؤْذِيَكَ، فَلَوْ قُمْتَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي" فَجَاءَتْ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، قَالَ: لَا، وَمَا يَقُولُ الشِّعْرَ، قَالَتْ: أَنْتَ عِنْدِي مُصَدَّقٌ، وَانْصَرَفَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ تَرَكَ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، لَمْ يَزَلْ مَلَكٌ يَسْترنِي عَنْهَا بِجَنَاحِهِ" (¬2). وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مذَمَّمًا ثُمَّ يَسُبُّونَهُ، فكَانَ رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "ألَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللَّهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعْنَهُمْ، يَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا، ويَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وأنَا مُحَمَّدٌ" (¬3). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَانَ الكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ شِدَّةِ كَرَاهِيَتَهِمْ فِي النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ الدَّالِّ عَلَى المَدْحِ فَيَعْدِلُونَ إِلَى ضِدِّهِ، فَيَقُولُونَ مُذَمَّمٌ، وَإِذَا ذَكَرُوهُ بِسُوءٌ قَالُوا: فَعَلَ اللَّهُ بِمُذَمَّمٍ، وُمذَمَّمٌ لَيْسَ هُوَ اسْمُهُ، ولا يُعْرفُ بِهِ فكَانَ الذِي يَقَعُ مِنْهُمْ في ذَلِكَ مَصْرُوفًا إِلَى غَيْرِهِ (¬4). * شِدَّةُ عَدَاوَةِ أَبِي لَهَبٍ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَمَّا زَوْجُهَا أَبُو لَهَبٍ فَقَدْ بَلَغَ مِنْ أمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ¬

_ (¬1) البذيء: الفاحش من الرجال، والأنثى: بذيئة. انظر لسان العرب (1/ 350). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاربخ - باب المعجزات - رقم الحديث (6511). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب ما جاء في أسماء رسول اللَّه الحديث (3533) - وأخرجه الإمام أحمد في السند - رقم الحديث (7331). (¬4) انظر فتح الباري (7/ 250).

* شدة عداوة عتيبة بن أبي لهب

الأسْوَاقِ، والمَجَامِعِ، ومَوَاسِمِ الحَجِّ، ويُكَذِّبُهُ، فَقَدْ روَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بنِ عِبَادٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسُوقِ ذِي المَجَازِ يَقُولُ: "يا أيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا"، وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا (¬1)، والنَّاسُ مُقْتَصُّونَ (¬2) عَلَيْهِ، وورَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الوَجْهِ ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ إنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا الذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (¬3). وفِي رِوَايَةِ ابنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، قَالَ: ورَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بالحِجَارَةِ، وقَدْ أَدْمَى عُرْقُوبَيْهِ (¬4) وكَعْبَيْهِ (¬5). * شِدَّةُ عَدَاوَةِ عُتَيْبَةَ (¬6) بنِ أَبِي لَهَبٍ: وتَسَلَّطَ عُتَيْبَةُ بنُ أَبِي لَهَبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَذَى، وشَقَّ قَمِيصَهُ، ¬

_ (¬1) الفج: الطريق الواسع. انظر لسان العرب (10/ 185). (¬2) قال السندي في شرح المسند (9/ 176): مُقتصُّون: مجتمعون. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16023) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب كتب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6562). (¬4) العُرْقُوبُ: هوَ الوَتَرُ الذِي خَلْفَ الكَعْبَيْنِ بَيْنَ مِفْصَلِ القَدَمِ والسَّاقِ من ذَوَاتِ الأرْبَعِ، وهو منِ الإنسَان فُوَيْقَ العَقِبِ. انظر النهاية (3/ 200). (¬5) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر مُقَاسَاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يُقاسي من قومِه في إظهارِ الإسلام - رقم الحديث (6562). (¬6) قال الحافظ في الفتح (5/ 508): عُتَيْبَةُ بالتَّصْغيرِ مَاتَ كَافرًا.

* أمية بن خلف وهمزه للرسول -صلى الله عليه وسلم-

فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا (¬1) مِنْ كِلَابِكَ". فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ رسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجَ عُتَيْبَةُ فِي قَافِلَةٍ إِلَى الشَّامِ، فنَزَلَ مَنْزِلًا، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: إنِّي أخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ، قَالُوا لَهُ: كَلَّا، فَحَطُّوا مَتَاعَهُمْ حَوْلَهُ، وقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فجَاءَ الأسَدُ وهَجَمَ عَلَيْهِ، فَقتَلَهُ (¬2). * أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ وهَمْزُهُ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ إِذَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَمَزَهُ (¬3) ولَمَزَهُ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} (¬4). تَعْكِسُ هَذِهِ السُّورَةُ صُورَةً مِنَ الصُّوَرِ الوَاقِعِيَّةِ في حَيَاةِ الدَّعْوَةِ فِي عَهْدِهَا الأَوَّلِ، وهِيَ فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ نَمُوذَجٌ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ بِيئَةٍ. . . صورَةُ اللَّئِيمِ الصَّغِيرِ ¬

_ (¬1) الكَلْبُ في اللغة: يُطْلَقُ على كُلِّ سَبُعٍ عَقُورٍ. انظر لسان العرب (12/ 134). (¬2) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب سورة أبي لهب - رقم الحديث (4037) - وقال صحيح الإسناد - وأورده الحافط في الفتح (2/ 514): وحسن إسناده وأورده الشوكاني في نيل الأوطار (9/ 234): وحسن إسناده. (¬3) قال ابن هشام في السيرة (1/ 394): الهُمَزَةُ: هوَ الذِي يشْتُمُ الرَّجُلَ عَلانِيَةً. (¬4) سورة الهمزة بكَاملهَا - وانظر الخبر في: سيرة ابن هشام (1/ 394) - سبل الهدى والرشاد (2/ 464).

النَّفْسِ، الذِي يُؤْتَى المَالَ فَتُسَيْطِرُ نَفْسُهُ بِهِ، حَتَّى مَا يُطِيقُ نَفْسَهُ! ويَرُوحُ يَشْعُرُ أَنَّ المَالَ هُوَ القِيمَةُ العُلْيَا فِي الحَيَاةِ. القِيمَةُ التِي تَهُونُ أمَامَهَا جَمِيعُ القِيَمِ وجَمِيعُ الأقْدَارِ. أقْدَارُ النَّاسِ، وأقْدَارُ المَعَانِي. وأقْدَارُ الحَقَائِقِ. وأنَّهُ وقَدْ مَلَكَ المَالَ فَقَدْ مَلَكَ كَرَامَاتِ النَّاسِ وأقْدَارَهُمْ بِلَا حِسَابٍ. ومِنْ ثَمَّ يَنْطَلِقُ في هَوَسٍ (¬1) بِهَذَا المَالِ يَعُدُّهُ ويَسْتَلِذُّ تَعْدَادَهُ، وتَنْطَلِقُ فِي كَيَانِهِ نَفْخَةٌ فَاجِرَةٌ، تَدْفَعُهُ إلى الاسْتِهَانَةِ بأقْدَارِ النَّاسِ وكَرَامَتِهِمْ، ولَمْزِهِمْ وهَمْزِهِمْ. . . يَعِيبُهُمْ بِلِسَانِهِ ويَسْخَرُ مِنْهُمْ بِحَرَكَاتِهِ. سَوَاءً بِحِكَايَةِ حَرَكَاتِهِمْ وأصْوَاتِهِمْ، أَوْ بِتَحْقِيرِ صِفَاتِهِمْ وسِمَاتِهِمْ. . . وبالقَوْلِ والإشَارَةِ، بالغَمْزِ واللَّمْزِ، باللَّفْتَةِ السَّاخِرَةِ والحَرَكَةِ الهَازِئَةِ! . وهِيَ صُورَةٌ لَئِيمَةٌ حَقِيرَةٌ مِنْ صُوَرِ النُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ حِينَ تَخْلُو مِنَ المُرُوءَةِ وتَعْرَى مِنَ الإيمَانِ. والإسْلَامُ يَكْرَهُ هَذِهِ الصُّورَةَ الهَابِطَةَ مِنْ صُوَرِ النُّفُوسِ بِحُكْمِ تَرَفُّعِهِ الأخْلَاقِيِّ، وقَدْ نَهَى عَنِ السُّخْرِيَةِ واللَّمْزِ والعَيْبِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى. إِلَّا أَنَّ ذِكْرَهَا هُنَا بِهَذَا التَّشْنِيعِ والتَّقْبِيحِ مَعَ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ، يُوحِي بأنَّهُ كَانَ يُوَاجِهُ حَالَةً وَاقِعِيَّةً مِنْ بَعْضِ المُشْرِكِينَ تِجَاهَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وتِجَاهَ المُؤْمِنِينَ. . فَجَاءَ الرَّدُّ عَلَيْهَا في صُورَةِ الرَّدْعِ الشَّدِيدِ، والتَّهْدِيدِ الرَّعِيبِ (¬2). ¬

_ (¬1) الهَوَس: طرفٌ من الجنون. انظر لسان العرب (15/ 159). (¬2) انظر في ظلال القرآن (6/ 3972).

* مجادلة أبي بن خلف

* مُجَادَلةُ أُبِيِّ بنِ خَلَفٍ: أَمَّا أَخُوهُ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ (¬1) فَجَاءَ يَوْمًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَظْمٍ بَالٍ، فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرِمَ (¬2)، ثُمَّ فتَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ نَفَخَهُ نَحْوَ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: نَعَمْ أنَا أقُولُ ذَلِكَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ وإِيَّاكَ بَعْدَمَا تَكُونَانِ هَكَذَا، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ. فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬3). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، والطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّلاةَ يَوْمًا، فَقَالَ: "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وبُرْهَانًا ونَجَاةً يَوْمَ ¬

_ (¬1) أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ قتَلهُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ أُحُدٍ، وهو الوَحِيدُ الذي قتلهُ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلمَّا قتلَهُ: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ على رَجُلٍ قتَلَهُ رسول اللَّه". أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب ما أصاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الجِرَاح يوم أُحد - رقم الحديث (4073) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب اشْتِدَاد غضب اللَّه على مَنْ قتله -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1793). (¬2) أَرِمَ: أي بَلِيَ. انظر النهاية (1/ 43). (¬3) الآيات من سورة يس (78 - 83) - والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 399).

القِيَامَةِ، ومَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا ولَا بُرْهَانًا ولَا نَجَاةً، وكَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ فِرْعَونَ، وقَارُونَ، وهَامَانَ، وأُبِيٍّ صَاحِبِ العِظَامِ" (¬1). وَعِنْدَ الحَاكِمِ في المُسْتَدْرَكِ أَنَّ هَذِهِ الآيَاتِ نَزَلَتْ في: العَاصِ بنِ وَائِلٍ. فأخْرَجَ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ العَاصُ بنُ وَائِلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَظْمٍ حَائِلٍ (¬2) فَفَتَّهُ، فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ أيَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا بَعْدَمَا أَرِمَ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ يَبْعَثُ اللَّهُ هَذَا، يُمِيتُكَ، ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ نَارَ جَهَنَّمَ". قَالَ: فنَزَلَتِ الآيَاتُ: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. . .} (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ سَوَاءً كَانَتْ هَذهِ الآيَاتُ نَزَلَتْ في أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، أَوْ فِي العَاصِ بنِ وَائِلٍ، أو فِيهِمَا، فَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ أنْكَرَ البَعْثَ، والأَلِفُ واللَّامُ في قَوْلهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} لِلْجِنْسِ، يَعُمُّ كُلَّ مُنْكِرٍ لِلْبَعْثِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6576) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3180). (¬2) حاَئِلٌ: أي مُتَغَيِّرٌ قدْ غَيَّرَه البِلَى. انظر النهاية (1/ 445). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة يس - رقم الحديث (3659). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (6/ 594).

* أشقى القوم عقبة بن أبي معيط لعنه الله

* أشْقَى القَوْمِ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعِيطٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ عُقْبَةَ بنَ أَبِي مُعَيْط صَنَعَ طَعَامًا، ثُمَّ دَعَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أنَا بِالذِي آكُلُ مِنْ طَعَامِكَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأنِّي رَسُولُ اللَّهِ"، فَقَالَ عُقْبَةُ: اطْعَمْ يَا ابْنَ أخِي، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أنَا بِالذِي أفْعَلُ حَتَّى تَقُولَ"، فتَشَهَّدَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِذَلِكَ، فَطَعِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ طَعَامِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ -وَكَانَ صَاحِبَهُ- فأتَاهُ فَقَالَ: صَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ؟ . فَقَالَ عُقْبَةُ: لا، وَاللَّهِ مَا صَبَوْتُ، ولَكِنْ دَخَلَ عَلَيَّ الرَّجُلُ فَأَبَى أَنْ يَطْعَمَ مِنْ طَعَامِي إِلَّا أَنْ أشْهَدَ لَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ، فَشَهِدْتُ لَهُ، فَطَعِمَ، فَقَالَ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ: ما أنَا الذِي أرْضَى عَنْكَ أبَدًا حَتَّى تَأْتِيَهُ فتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ، فذَهَبَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعِيطٍ لَعَنَهُ اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبزَقَ في وَجْهِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (¬1). ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (2/ 470) - سيرة ابن هشام (1/ 399) - البداية والنهاية (3/ 97).

* الأخنس بن شريق

هُنَا يَعْرِضُ القُرْآنُ مَشْهَدًا مِنْ مَشَاهِدِ ذَلِكَ اليَوْمِ، يُصَوِّرُ نَدَمَ الظَّالِمِينَ الضَّالِّينَ. يَعْرِضُ عَرْضًا طَوِيلًا مَدِيدًا، يُخَيَّلُ لِلسَّمْعِ أَنَّهُ لَنْ يَنْتهِيَ ولَنْ يَبْرَحَ. مَشْهَدُ الظَّالِمِ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ النَّدَمِ، وَالأَسَفِ، وَالأَسَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}. ويَصْمُتُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ حَوْلهِ، ويَرُوحُ يَمُدُّ في صَوْتِهِ المُتَحَسِّرِ، ونَبَرَاتِهِ الأَسِيفَةِ، والإيقَاعُ المَمْدُودُ يَزيدُ المَوْقِفَ طُولًا ويَزِيدُ أثَرَهُ عُمْقًا. حَتَّى لَيَكَادُ القَارِئُ لِلْآيَاتِ، والسَّامِعُ يُشَارِكَانِ في النَّدَمِ والأَسَفِ والأسَى! (¬1). * الأخْنَسُ بنُ شُرَيْقٍ (¬2): وهَذَا الرَّجُلُ هُوَ مِنْ أشْرَافِ القَوْمِ، ومِمَّنْ يُسْتَمَعُ مِنْهُ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُصِيبُ مِنْهُ ويَرُدُّ عَلَيْهِ، ونَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (5/ 2560). (¬2) هو الأخْنَسُ الثَّقَفِيُّ، حَلِيفُ بنِي زُهْرَةَ، اسمُهُ أُبَيّ، وإنَّما لقّبَ الأخْنَسَ، لأنه رَجَعَ بِبَنِي زُهْرَةَ من بَدْرٍ لمَّا جاءهُمُ الخَبَرُ أن أبا سُفْيان نَجَا بالعِيرِ، فقيل: خَنَسَ الأخْنَسُ بِبَنِي زُهرة، فُسمي بذلك، ثمَّ أسْلَم الأخنس فكان من المُؤَلَّفَة قُلوبهم، وشَهِدَ حُنَينًا، ومات في أوَّل خِلافةِ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. قال ابن عطية: ما ثَبَتَ قَطُّ أن الأخنس أسْلَمَ، وتعقَّبه الحافظُ في الإصابة (1/ 192) بقولِهِ: قدْ أثبَتَهُ في الصَّحابَةِ من تقدم ذكره، ولا مَانِعَ أن يُسْلِم ثم يَرْتَدَّ ثم يَرْجعَ إلى الإسلام، واللَّه أعلمُ.

* الوليد بن المغيرة

هَمَّازٍ (¬1) مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (¬2) (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ (¬3) بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (¬4). * الوَلِيْدُ بنُ المُغِيرَةِ: وَكَانَ الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ مِمَّنْ يُجَادِلُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ويَنَالُ مِنْهُ، وَيَقُولُ: أيُنْزَلُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وأُتْرَكُ وأنَا كَبِيرُ قُرْيْشٍ وسَيِّدُهَا؟ ويُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ سَيِّدُ ثَقِيفٍ، فنَحْنُ عَظِيمَا القَرْيَتَيْنِ، فنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ (¬5) عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ (¬6) نَحْنُ ¬

_ (¬1) الهَمْزُ: الغِيبَةُ والوَقِيعَةُ في النَّاسِ، وذكر عيوبهم. انظر النهاية (5/ 236). (¬2) يعنِي الذِي يَمْشِي بينَ الناسِ، ويُحَرِّشُ بينَهُم، وينقلُ الحَدِيثَ لفَسَادِ ذاتِ البَيْنِ، وهي الحَالِقَةُ. انظر النهاية (5/ 105). (¬3) العُتُلُّ: هوَ الفَظُّ الغَلِيظُ. انظر لسان العرب (9/ 39). روى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4918) - والإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2853) عن حارِثَة بن وَهْبٍ الخُزَاعي قال: سمعتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولُ: "ألَا أخبِرُكمْ بأهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِر". والجَوَّاظُ: هو المُخْتَالُ في مَشْيَتِهِ. انظر النهاية (1/ 304). (¬4) الزَّنيمُ: هو المُلْصَقُ في القَوْمِ، وليسَ مِنْهم. انظر تفسير ابن كثير (8/ 193) - وانظر النهاية (2/ 285). والخَبَرُ في: سيرة ابن هشام (1/ 398) - والرَّوْض الأُنُف (2/ 146). (¬5) قال ابنُ عباسٍ، وعكرِمَة، ومحمَّد بنُ كعبٍ، وقتادَةُ، والسّدِّي: المُرَادُ بالقَرْيَتَيْنِ مكَّة والطَّائف، واختلفُوا في تَعْيِينِ الرَّجلِ المُرَادِ، فعنْ قتادَةَ: أرَادُوا الوَليدَ بنَ المُغِيرة مِنْ أهل مَكة، وعُرْوَةَ بنَ مَسعُود الثَّقَفي منْ أَهْلِ الطَّائفِ. انظر الإصابة (4/ 406). (¬6) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 226): أيْ ليْسَ الأمْرُ مَرْدُودًا إِلَيْهِمْ، بلْ إلى اللَّه تَعَالَى، واللَّه أعلم حيثُ يَجْعَلُ رِسالاتِهِ، فإنه لا يُنْزِلُهَا إلا على أزْكَى الخَلْقِ قَلْبًا ونَفْسًا، وأشْرَفِهِمْ بَيْتًا، وأطْهَرِهِمْ أَصْلًا.

* تهكم العاص بن وائل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). * تَهَكُّمُ (¬2) العَاصِ بنِ وَائِلٍ (¬3) بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَمَّا العَاصُ بنُ وَائِلٍ فَإِنَّهُ كَانَ أَيْضًا مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَة لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ العَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ: لقدِ انْقَطَعَ نَسْلُهُ، وَكَانَ إِذَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: دَعُوهُ، فإنَّمَا هُوَ رَجُلٌ أبْتَرُ لا عَقِبَ لَهُ، لَوْ قَدْ مَاتَ لانْقَطَعَ ذِكْرُهُ (¬4) واسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ. ¬

_ (¬1) سورة الزخرف آية (31 - 32) - وانظر الخبر في سيرة ابن هشام (1/ 398) - البداية والنهاية (3/ 97) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 147) - سبل الهدى والرشاد (2/ 467). (¬2) التهكم: التكبر. انظر لسان العرب (15/ 111). (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 356): هوَ العَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وهوَ والِدُ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- الصَّحابِيُّ المَشْهُورُ، وَكَانَ لهُ قَدْر في الجَاهِلِيَّةِ، ولم يُوَفَّقْ للإسلامِ، وَكَانَ مَوْتُهُ بمَكَّةَ قبلَ الهِجْرَةِ، وهوَ أحَدُ المُسْتَهْزِئِينَ. قال عبدُ اللَّه بنُ عمرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سمِعْتُ أَبِي يقولُ: عاشَ أَبِي خَمْسًا وثَمَانِينَ سَنَة، وإنه ليَرْكَبُ حِمَارًا إلى الطائِفِ فيَمْشِي عنْهُ أكثَرَ مِمَّا يَرْكَبُ، ويُقَالُ: إِنَّ حِمَارَهُ رَمَاهُ على شَوْكَةٍ أصَابَتْ رِجْلَهُ، فانتفَخَتْ فمَاتَ مِنْهَا. (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 505): حاشَا وكَلَّا، بلْ قدْ أبقَى اللَّهُ ذِكْرَهُ على رُؤُوسِ الأشْهَادِ، وأوجَبَ شَرْعهُ على رِقَابِ العِبادِ، مُسْتَمِرًّا على دَوَامِ الآبَادِ، إلى يَوْمِ الحَشْرِ والمَعَادِ، صلواتُ اللَّه وسلامُهُ عليهِ دَائِمًا إلى يَوْمِ التَّنَادِ. وقال حَسَّان بن ثابت -رضي اللَّه عنه-: أغَرٌّ عليهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ ... منَ اللَّهِ مشْهُودٌ يلُوحُ ويَشْهَدُ وضَمَّ الإلَه اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ في الخَمْسِ المُؤَذِّنُ أشْهَدُ وشَقَّ له مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو العَرْشِ مَحْمُودٌ وهَذَا مُحَمَّدُ

* قصة تبين شدة كفر العاص بن وائل

فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) صَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (¬1). * قِصَّةٌ تُبَيِّنُ شِدَّةَ كُفْرِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا (¬2) في الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتقَاضَاهُ، فَقَالَ: لا أُعْطِيكَ حتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أمُوتَ وأُبْعَثَ، فَسَأُوتَى مَالًا وَوَلَدًا فَأَقْضِيَكَ. فنَزَلَتْ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ ¬

_ (¬1) سورة الكوثر بكاملها - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 7). قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (2/ 182): الأبتَرُ: هوَ الذِي لا عَقِبَ لهُ يَتْبَعُهُ، فإذا نَظَرْتَ إلى العاصِ بنِ وَائِلٍ الذِي نزلتْ فيه هذهِ الآيةُ، وكان ذَا وَلَدٍ وعَقِبٍ، وولدُهُ عمرٌو وهِشَام ابنَا العَاصِ بنِ وائلٍ، فكيفَ يَثْبُتُ لهُ البَتْرُ، وانْقِطَاعُ الوَلَدِ، وهوَ ذُو وَلَدٍ ونَسْلٍ؟ . فالجوابُ: أَنَّ العاصَ وَإِنْ كَانَ ذَا وَلَدٍ فقد انقَطَعَتِ العِصْمَةُ بينَهُ وبَيْنَهُمْ، فليسُوا بأتْبَاعٍ لَهُ؛ لأنَّ الإسلامَ قدْ حَجَزَهُمْ عنْهُ، فلا يَرِثُهُمْ ولا يَرِثُونَهُ، وهمْ مِنْ أتْبَاعِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأزْوَاجُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّهَاتُهُمْ، فهُم وجَمِيعُ المُؤْمنِينَ أتْبَاعُ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنُّيا، وأتباعُهُ في الآخِرَةِ ليَسْقِيَهُمْ منْ حوضِهِ الكَوْثَرِ يوَم القِيَامَةِ، وَأَمَّا عدوُّ اللَّه العَاصُ بنُ وائِلٍ على هذا هُوَ الأبتَرُ على الحَقِيقةِ، إذْ قدِ انقطَعَ ذَنَبُهُ وأتْبَاعُهُ، وصارُوا تَبَعًا لمُحمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) قال الحافظ في الفتح (5/ 42): القَيْنُ بفتحِ القافِ هو الحَدَّادُ، ثمَّ صارَ كل صَائِغٍ عندَ العَرَبِ قَينًا.

* الكافر لا ينفعه شيء في الآخرة

الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (¬1). * الكَافِرُ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فِي الآخِرَةِ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَنَّ العَاصَ بنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ أَوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، فَأَعْتَقَ ابْنُهُ هِشَامٌ خَمْسِينَ رَقَبَةً، فَأرَادَ ابْنُهُ عَمْرٌو أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ الخَمْسِينَ البَاقِيَةَ، فَقَالَ: حَتَّى أسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي أوْصَى أَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ مِائَةُ رَقَبَةٍ، وَإِنَّ هِشَامًا أعْتَقَ عَنْهُ خَمْسِينَ، وبَقِيَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ رَقَبَةً، أَفَأُعْتِقُ عَنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ: بَلَغَهُ ذَلِكَ" (¬2). * النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ الزِّبَعْرَى: وكَانَ النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ الزِّبَعْرَى (¬3) مِمَّنْ نَصَبَ العَدَاوَةَ ¬

_ (¬1) سورة مريم الآيات (77 - 80). والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب البيوع - باب ذكر القَيْنِ والحَدَّاد - رقم الحديث (2091) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} - رقم الحديث (4734) - ومسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب سؤال اليهود الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الروح - رقم الحديث (2795). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الوصايا - باب ما جاء في وصية الحربي يُسلم - رقم الحديث (2883) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9260). (¬3) هو عبدُ اللَّه بن الزِّبَعْرَى القُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ، كَانَ مِنْ أشَدِّ الناسِ على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- =

لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا مَعَ الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ في المَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وفِي المَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، فكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى أفْحَمَهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} (¬1). ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ لعَبْدِ اللَّهِ بنِ الزِّبَعْرَى: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ لابْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ آنِفًا ومَا قَعَدَ، وقَدْ زَعَمَ مُحَمَّد أنَّا ومَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ، فقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزِّبَعْرَى: أمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، فَسَلُوا مُحَمَّدًا: أَكُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ في جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ؟ . فنَحْنُ نَعْبُدُ المَلَائِكَةَ، واليَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، والنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابنَ ¬

_ = وعلى المسلمينَ بلِسَانِهِ ونفْسِه وَكَانَ مِنْ أشْعَرِ الناسِ وأبْلَغِهِمْ، حتى قالوا: أَنَّهُ أشْعَرُ قريشٍ قَاطِبَةً. ثمَّ أسلمَ في فَتْحِ مَكَّةَ، وحسُنَ إسلامُهُ، واعتذرَ إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَبِلَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُذْرَهُ. انظر الإصابة (4/ 76). (¬1) سورة الأنبياء آية (98 - 100).

مَرْيَمَ، فَعَجِبَ الوَليدُ، ومَنْ كَانَ مَعَهُ في المَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّه بنِ الزِّبَعْرَى، ورَأَوْا أَنَّهُ قَدِ احْتَجَّ وخَاصَمَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قَوْلِ ابنِ الزِّبَعْرَى، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُلُّ مَنْ أحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، ومَنْ أمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ". فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} (¬1). يَعْنِي عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ، وعُزَيْرٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ومَنْ عُبِدُوا مِنَ الأحْبَارِ والرُّهْبَانِ الذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، فَاتَّخَذَهُمْ مَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ أرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أُولَئِكَ عَنِ النَّارِ مُبْعَدُونَ لا يَدْخُلُونَهَا أَبَدًا. ونَزَلَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ أمْرِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وعَجِبَ الوَليدُ، ومَنْ حَضَرَهُ مِنْ حُجَّتِهِ وخُصُومَتِهِ، قوله تَعَالَى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (¬2) (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الأنبياء آية (101 - 102). (¬2) أي يَضْحَكُونَ. انظر تفسير ابن كثير (7/ 234). (¬3) سورة الزخرف آية (57).

ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ (¬1) فَلَا تَمْتَرُنَّ (¬2) بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (¬3). رَوَى الإِمَامُ أحمَدُ في مُسْنَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِقُرَيْشٍ: "يَا مَعْشَرَ قُريْشٍ، إنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ"، وقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ، ومَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ، فقَالُوا: يا مُحَمَّدُ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وعَبْدًا مِنْ عِبَادِ ¬

_ (¬1) قال ابن إسحاق في السيرة (1/ 398) في تفسير هذه الآية: أي ما وُضِعت على يديه من الآيات، من إحْيَاءِ المَوْتى، وإبراءِ الأسقام، فكفَى به دَلِيلًا على عِلْمِ السَّاعَةِ. وتعقَّبه الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 236) فقال: وفي هذا نَظَم. . . والمرادُ بذلك نُزُولُهُ عليه السلام قبل يَوْم القِيَامَةِ، كَمَا قال تبارك وتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عليه السلام، ثم {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [سورة النساء آية (159)]، ويؤيِّدُ هذا المَعْنى القراءَةُ الأخْرَى "وإنه لَعَلَمٌ للسَّاعَةِ" أي: أمَارَةٌ ودَلِيلٌ على وُقُوعِ السَّاعة. وقد تواتَرَت الأحاديثُ عن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه أخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى ابنِ مريمَ عليه السلام قبلَ يَوْمِ القِيَامَةِ إمَامًا عَادِلًا، وحَكَمًا مُقْسِطًا. (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 236): أي لا تشُكُّو فيها، إنهَا واقِعَةٌ وكائِنَةٌ لا مَحَالة. (¬3) سورة الزخرف آية (59 - 61). والخبر أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (986) (988) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب مذاكرة الساعة - رقم الحديث (3501) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 397).

* فرعون هذه الأمة لعنه الله تعالى

اللَّهِ صَالِحًا، فَلَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَإِنَّ آلِهَتَهُمْ لَكُمَا تَقُولُونَ. قَالَ: فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ: قُلْتُ: مَا يَصِدُّونَ؟ قَالَ: "يَضُجُّونَ"، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: "هُوَ خُرُوجُ عِيسَى ابنُ مَريمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمِ القِيَامَةِ" (¬1). وروَى الإمامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ" (¬2)، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬3). * فِرْعَونُ هَذِهِ الأُمَّةِ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا أَبُو جَهْل -لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعَلَى أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَا جَاءَ بِهِ مِنَ الحَقِّ، ويُؤْذِيهِ بِالقَوْلِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2918) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر البيان بأنَّ عيسى ابن مريم عليه السلام مِنْ أعْلام الساعة - رقم الحديث (6817). (¬2) قال المباركفوري رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تحفة الأحوذي (9/ 124): والمعنى ما كَانَ ضَلَالتُهُمْ ووقُوعُهُمْ في الكفرِ إلا بِسَبَبِ الجِدَالِ، وهو الخُصُومةُ بالباطلِ مع نَبِيِّهِمْ، وطلبُ المُعْجِزَةِ منهُ عِنَادًا أو جُحُودًا. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22164) - والترمذي في جامعه - كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة الزخرف - رقم الحديث (3535).

رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ والنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ- يَوْمًا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! يُخَوِّفُنَا مُحَمَّدٌ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، يَزْعُمُ أَنَّهَا شَجَرَةٌ في النَّارِ يُقَالُ لَهَا شَجَرَةُ الزَّقُومِ، والنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ، إِنَّمَا الزَّقُومُ التَّمْرُ والزُّبْدُ، هَاتُوا تَمْرًا وزُبْدًا وتَزَقَّمُوا (¬1)، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ (¬2) يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} (¬3). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ لَأَمَرَّتْ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ عَيْشَهُمْ، فكَيْفَ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا الزَّقُّومُ" (¬4). ولَقِيَ أَبُو جَهْل مَرَّةً رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: واللَّهِ يا مُحَمَّدُ لَتَتْرُكَنَّ سَبَّ آلِهَتِنَا أَوْ لَنَسُبَّنَّ إلَهَكَ الذِي تَعْبُدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ ¬

_ (¬1) الزَّقُّومُ: من الزَّقَمِ: أي اللَّقْمِ الشَّدِيدِ. انظر النهاية (2/ 277). (¬2) المُهْلُ: هوَ القَيْحُ والصَّدِيدُ الذي يَذُوبُ فَيَسِيلُ منَ الجَسَدِ، ومنهُ قِيلَ للنُّحَاسِ الذَّائِبِ: مُهْلٌ. انظر النهاية (4/ 319). (¬3) سورة الدخان آية (43 - 46) -والخبر أخرجه الإمام أحمد في مسنده- رقم الحديث (3546) - والنسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (11420). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2735) - وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2765) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب صفة جهنم - باب ما جاء في صفة شراب أهل النار - رقم الحديث (2767).

يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1) فكَفَّ عَنْدَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ سبِّ (¬2) آلِهَتِهمْ، وجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه تَعَالَى (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَقُولُ اللَّه تَعَالَى نَاهِيًا لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- والمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ المُشْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ أعْظَمُ مِنْهَا، وهِيَ مُقَابَلَةُ المُشْرِكِينَ بِسَبِّ إِلَهِ المُؤْمِنِينَ، وهُوَ اللَّه لَا إلَهَ إِلَّا هُوَ. ومِنْ هَذَا القَبِيلِ -وهُوَ تَرْكُ المَصْلَحَةِ لِمَفْسَدَةٍ أرْجَحَ مِنْهَا- مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ والِدَيْهِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "يَسُبُّ الرَّجُلُ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (108). (¬2) لم يكنْ رسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَّابًا، ولا شَتَّامًا، ولا فَحَّاشًا، وإنما كان يَنْفِي عن آلهة المُشْرِكين ما كانوا يتَوَهَّمُونَهُ لها من صِفَاتٍ لا تليقُ إلا باللَّه سُبحانه وتَعَالَى، ويَصِفُهَا بما وصَفَهَا اللَّه به في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}، وقوله تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} وقوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} وقوله تَعَالَى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وغير ذلكَ ممَّا أنزلهُ اللَّه عليه في تَعْرِيَةِ آلهتهم المَزْعُومةِ ممَّا كانوا يعتقدونَهُ فيها. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 395) - سبل الهدى والرشاد (2/ 470). (¬4) أخرج هذا الحديث: الإمام البخاري في صحيحه -كتاب الأدب - باب لا يسب الرجل والديه - رقم الحديث (5973) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان الكبائر وأكبرها - رقم الحديث (90) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 314 - 315).

* قصة الإراشي

* قِصَّةُ الإِراشِيِّ: قَالَ ابنُ إسْحاقَ: وَقَدْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بنُ هِشامٍ مَعَ عَداوَيهِ لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وبُغْضِهِ إيّاهُ، وَشِدَّتِهِ عَلَيْهِ، يُذِلُّهُ اللَّهُ له إِذَا رَآهُ (¬1). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إراشٍ (¬2) بِإِبِلٍ له إِلَى مَكَّةَ، فابْتَاعَهَا (¬3) مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ، فَمَطَلَهُ (¬4) بِأَثْمانِها، فَأقْبَلَ الإرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادٍ (¬5) مِنْ قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ناحِيَةِ المَجْلِسِ جالِسٌ، فَقالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! مَنْ رَجُلٌ يُؤْدِينِي (¬6) عَلَى أَبِي الحَكَمِ بنِ هِشامٍ، فَإِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي، فَقالَ لَهُ أَهْلُ المَجْلِسِ: أتَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الجالِسَ -لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُمْ يَهْزَؤُونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنَ العَداوَةِ- اذْهَبْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْدِيكَ عَلَيْهِ، فأَقْبَلَ الإرَاشِيُّ حتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ أبا الحَكَمِ بنَ هِشامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقٍّ لِي، وأنَا غَرِيبٌ، ابْنُ سَبِيلٍ، وقَدْ سَأَلْتُ هَؤُلاءَ القَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤْدِيني عَلَيْهِ، يَأْخُذُ لِي حَقِّي مِنْهُ، فأشَارُوا لِي إلَيْكَ، فَخُذْ لِي حَقِّي مِنْهُ، يَرحَمُكَ اللَّهُ. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 426). (¬2) إرَاشٌ: بكسر الهمْزَة: اسمُ قَبِيلَةٍ وهُمْ بَطْن من خَثْعَمٍ. انظر الرَّوْض الأُنُف (2/ 177). (¬3) ابْتاعَ: اشْتَرَى. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬4) المَطْلُ: هو التَّسْوِيفُ والمُدَافَعَةُ بالعِدَةِ والدَّينِ. انظر لسان العرب (13/ 134). (¬5) النَّادِي: مجْتَمَعُ القَوْمِ وأهْلُ المَجْلِسِ. انظر النهاية (5/ 31). (¬6) يُؤْدِيني على فلانٍ: أي يُعِينُنِي على أخْذِ حَقِّي مِنْهُ. انظر لسان العرب (1/ 100).

فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: انْطَلِقْ إِلَيْهِ، وَقامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَمَّا رَأَوْهُ قامَ مَعَهُ قالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ انْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ؟ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بابَهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ إِلَيَّ، فخَرَجَ إِلَيْهِ، وما في وَجْهِهِ قَطْرَةُ دَمٍ، وقَدِ انْتَقَعَ لَوْنُهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ، لا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الذِي لَهُ، فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ لِلْإِراشِيِّ "الْحَقْ لِشَأْنِكَ"، فَأَقْبَلَ الإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ المَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزاهُ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ واللَّهِ أَخَذَ لِي حَقِّي. فَلَمَّا جَاءَ الرَّجُلُ الذِي أرْسَلُوهُ لِيَرَى ما يَصْنَعُ أَبُو جَهْلٍ، قالُوا لَهُ: وَيْحَكَ مَاذَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: عَجَبًا مِنَ العَجَبِ، واللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بابَهُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ لَهُ: أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ، فَأَعْطَاهُ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ أَبُو جَهْلٍ، فَلَامُوهُ، وقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ! مَا لَكَ؟ واللَّهِ مَا رَأيْنا مِثْلَ مَا صَنَعْتَ قَطُّ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَيْحَكُمْ! ! واللَّهِ ما هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ بابِي، وسَمِعْتُ صَوْتَهُ، فَمُلِئْتُ مِنْهُ رُعْبًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَيْهِ، وإِنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ فَحْلًا مِنَ الإِبِلِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هامَتِهِ (¬1)، وَلَا قَصَرَتِهِ (¬2)، وَلَا أَنْيابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَواللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي (¬3). ¬

_ (¬1) الهَامَةُ: الرَّأسُ. انظر لسان العرب (15/ 162). (¬2) القَصَرَةُ: أصْلُ العُنُقِ. انظر لسان العرب (11/ 189). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 427).

* قصة أخرى

* قِصَّةٌ أُخْرَى: مِنَ الْقِصَصِ التِي تُبَيِّنُ اسْتِهْزاءَ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (¬1) قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ جُنُودَ اللَّهِ الذِينَ يُعَذِّبُونَكُمْ في النَّارِ، ويَحْبِسُونَكُمْ فِيها تِسْعَةَ عَشَرَ، وأنْتُمْ أكْثَرُ النَّاسِ عَدَدًا، وَكَثْرَةً، أفَيَعْجُزُ كُلُّ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ؟ . فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (¬2). قَالَ الحافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَفْسِيرِهِ: أيْ ما يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ وَكَثْرَتَهُمْ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ وتَعالَى، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّمَا هُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ فَقَطْ، . . . وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الإِسْراءِ الْمَروِيِّ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ في صِفَةِ البَيْتِ المَعْمُورِ الذِي في السَّماءِ السَّابِعَةِ: ". . . فَإِذا هُوَ يَدخُلهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ إِلَيهِ" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المدثر آية (30). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 350). (¬3) أخرج هذا القدر من حديث الإسراء والمعراج: الإمام البخاري في صحيحه - كتاب =

* تيقن أبي جهل لعنه الله من صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* تيَقُّنُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ مِنْ صِدْقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ والحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَدْ نَعْلَمُ يا مُحَمَّدُ إنَّكَ تَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، ولا نُكَذِّبُكَ، ولَكِنْ نُكذِّبُ الذِي جِئْتَ بِهِ، فأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬1). تِلْكَ صُوَرٌ مِنِ اسْتِهْزاءِ المُشْرِكِينَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقَدْ كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحزِنُهُ ما يَلْقَى مِنْهُمْ كَغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءَ. قَالَ ابنُ إسْحاقَ: ومَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ وبِأَبِي جَهْلِ بنِ هِشامٍ فَهَمَزُوهُ واسْتَهْزَؤُوا بِهِ، فَغاظَهُ ذَلِكَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ في ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ ¬

_ = بدء الخلق - باب ذكر الملائكة عليهم السلام - رقم الحديث (3207) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات - حديث رقم (162) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 270). (¬1) سورة الأنعام آية (33). والخبرُ أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الأنعام - رقم الحديث (3317) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام - رقم الحديث (3283) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (615).

* ركانة بن عبد يزيد يصارع الرسول -صلى الله عليه وسلم-

سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (¬1). قَالَ الحافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى في هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تَكْذِيبِ مَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَوَعْدٌ له، وللْمُؤْمِنِينَ بِهِ بالنُّصْرَةِ والعاقِبةِ الحَسَنَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ (¬2). ومضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي رِسالَةِ الدَّعْوَةِ والبَلَاغِ صابِرًا مُحْتَسِبًا، مُؤَدِّيًا إِلَى قَوْمِهِ النَّصِيحَةَ، فَلَمَّا تَمَادَوْا في الشَّرِّ، وأكْثَرُوا الِاسْتِهْزاءَ كَفاهُ اللَّهُ تَعَالَى المُسْتَهْزِئِينَ بِهِ فأنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (¬3). * رُكَانَةُ بنُ عَبْدِ يَزِيدَ (¬4) يُصارع الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ رُكَانَةَ بنَ عَبْدِ يَزِيدَ صارَعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عَلَى مِائَةٍ مِنَ الغَنَمِ، فَلَمَّا كَانَ في الثَّالِثَةِ، قَالَ: يا مُحَمَّدُ ما وَضَعَ ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (10) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 9) - والبداية والنهاية (3/ 114). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 242). (¬3) سورة الحجر آية (95 - 96) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 22 - 23). (¬4) هو رُكَانَةُ بنُ عبدِ يزِيدَ بنِ هاشِمٍ المُطَّلبِيُّ، كان مِنْ أشَدِّ الناس، وهو الذِي صارَعَهُ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- مرَّتينِ أو ثَلاث، وأسلمَ رُكانَةُ يوم فتح مكَّةَ، وقيل أسلمَ عَقِبَ مُصارَعَتِهِ الرَّسولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وتوفى في خلافَةِ عُثمان، وقيل: تُوفي سنةَ اثنتينِ وأربعين. انظر أسد الغابة (2/ 199).

* رسل قريش إلى أحبار يهود وامتحانهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-

ظَهْرِي عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أبْغَضَ إِلَيَّ مِنْكَ، وأَنَا أشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقامَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورَدَّ عَلَيْهِ غَنَمَهُ (¬1). * رُسُلُ قُرَيْشٍ إِلَى أحْبَارِ يَهُودَ وامْتِحَانُهُمُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قالَتْ قُرَيْشٌ لِلْيَهُودِ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ عَنْهَ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ (¬2)، فَسَأَلُوهُ، فنَزَلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3). فَقَالُوا: لَمْ نُؤْتَ مِنَ العِلْمِ نَحْنُ إِلَّا قَلِيلًا، وقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ يُؤْتَ التَّوْرَاةَ، فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬4). ¬

_ (¬1) أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 112) - وعزاه إلى أبي بكر الشافعي وجود إسناده. (¬2) زاد ابن إسحاق في السيرة (1/ 337): أنهم سألُوه أيضًا عن أصحابِ الكهْفِ، وعن ذِي القَرنَيْنِ. (¬3) سورة الإسراء آية (85). (¬4) سورة الكهف آية (109). والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2309) - وابن حبان في صحيحه - كتاب العلم - باب إباحَةِ كتْمَان العالمِ بعضَ ما يعلم - رقم الحديث (99).

* آية الروح مكية أم مدنية؟ .

* آيَةُ الرُّوحِ مَكِّيَّةٌ أَمْ مَدَنِيَّةٌ؟ . قُلْتُ: وَقَعَ في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ اليَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الرُّوحِ، وهُوَ في المَدِينَةِ، فَعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَيْنَمَا أنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَرْثٍ (¬1)، وهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ (¬2)، إذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ فقالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ (¬3)؟ لا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءِ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَكانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الوَحْيُ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬4). قَالَ الحافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: قَدْ يُجابُ عَنْ هَذَا: بأنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ بالمَدِينَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً كَمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ بأَنَّهُ يُجِيبُهُمْ عَمَّا سَأَلُوهُ بِالآيَةِ المُتَقَدِّمِ إنْزالُها عَلَيْهِ (¬5). وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: يُمْكِنُ الجَمْعُ بِأَنْ يَتَعَدَّ النُّزُولُ بِحَمْلِ سُكُوتِهِ في ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 113): أي موضع الزرع. (¬2) العَسِيبُ: هو جَرِيدَةُ النَّخْلِ. انظر النهاية (3/ 212). (¬3) ما رَابَكُمْ إليهِ: ما حاجتكم إليه. انظر النهاية (2/ 260). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} - رقم الحديث (4721) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين - باب سُؤالِ اليهُودِ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الروح - رقم الحديث (2794). (¬5) انظر تفسير ابن كثير (5/ 114).

* عناد الكفار وموقفهم من القرآن الكريم

المَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَى تَوَقُّعِ مَزِيدِ بَيَانٍ في ذَلِكَ، وَإِنْ ساغَ هَذَا وإلَّا فَمَا فِي الصَّحِيحِ أصَحُّ (¬1). * عِنَادُ الكُفَّارِ ومَوْقِفُهُمْ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ: قَالَ ابنُ إسْحاقَ: فَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِما عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ، وعَرَفُوا صِدْقَهُ فِيمَا حَدَّثَ، ومَوْقِعَ نُبُوَّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بهِ مِنْ عِلْمِ الغُيُوبِ حِينَ سَأَلُوهُ عَمَّا سَأَلُوُهُ عَنْهُ، حَالَ الحَسَدُ مِنْهُمْ له بَيْنَهُمْ وبَيْنَ اتِّبَاعِهِ وتَصْدِيقِهِ، فَعَتَوْا عَلَى اللَّهِ، وتَرَكُوا أمْرَهُ عَيانًا، ولَجُّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، فَقَالَ قائِلُهُمْ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (¬2): أيْ اجْعَلُوهُ لَغْوًا وباطِلًا، واتَّخِذُوهُ هُزُوا لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَهُ بِذَلِكَ، فإِنَّكُمْ إِنْ ناظَرتُمُوهُ أَوْ خاصَمْتُمُوهُ يَوْمًا غَلَبَكُمْ. فلَمَّا قالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، جَعَلُوا إِذَا جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالقُرْآنِ، وهُوَ يُصَلِّي، يتفَرَّقُونَ عَنْهُ، ويأبَوْنَ أَنْ يَسْتَمِعُوا له، فَكَان الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا أرادَ أَنْ يَسْتَمعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْضَ ما يَتْلُو مِنَ القُرآنِ وهُوَ يُصلِّي، اسْتَرَقَ (¬3) السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا (¬4) مِنْهُمْ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمعُ مِنْهُ ذَهَبَ خَشْيَةَ أذَاهُمْ، فَلَمْ يَسْتَمعْ، وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَوْتَهُ، فَظَنَّ الذِي يَسْتَمعُ أَنَّهُمْ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 319). (¬2) سورة فصلت آية (26). (¬3) استَرَقَ السَّمْعَ: أي أنَّه يَسْتَمِعُهُ مُخْتَفِي كما يفعَلُ السَّارِقُ. انظر النهاية (2/ 326). (¬4) الفَرَقُ: بالتحريكِ الخَوْفُ والفَزَعُ. انظر النهاية (3/ 392).

* استماع زعماء قريش إلى القرآن سرا

لا يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِراءَتِهِ، وسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ أصَاخَ (¬1) لَهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ (¬2) رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُما، في سَبَبِ نُزُولِ قَوْلهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (¬3). قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مخْتَفٍ بِمَكَّةَ، كَانَ إِذَا صَلَّى بأصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالقُرْآنِ، فإذَا سَمِعَ المُشْرِكُونَ سَبُّوا القُرْآنَ ومَنْ أنْزَله، ومَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}: أيْ بِقِراءَتِكَ، فَيَسْمَعَ المُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا القُرْآنَ، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عَنْ أَصْحَابِكَ، فَلا تُسْمِعْهُمْ {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا. . .} (¬4). * اسْتِماعُ زُعَماءِ قُرَيْشٍ إِلَى القُرْآنِ سِرًّا: وَكَانَ أشْرَافُ قُرَيْشٍ يَسْتَشْعِرُونَ حَلاوَةَ القُرْآنِ في قُلُوبِهِمْ، ولَكِنَّهُمْ يُكَابِرُونَ. ¬

_ (¬1) أصاخ له: استمع وأنصت له. نظر لسان العرب (7/ 450). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 350). (¬3) سورة الإسراء آية (110). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} - رقم الحديث (4722) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب التوسُّط في القراءة في الصَّلاة الجهرِيَّة - رقم الحديث (446).

رَوَى ابنُ إسْحَاقَ: أَنَّ ثَلاثَةً مِنْ زُعَماءِ قُريْشٍ، هُمْ: أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَربٍ، وأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، والأَخْنَسُ بنُ شُرَيْقٍ، خَرَجُوا لَيْلَةً لَيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ في بَيْتهِ، فأخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمعُ فِيهِ، وَكُلٌّ لا يَعْلَمُ بِمَكانِ صاحِبِهِ، فباتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فتَلاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضهُمْ لِبَعْضٍ: لا تَعُودُوا، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ في نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَباتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حتَّى إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ ما قَالُوا أوَّلَ مَرَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَباتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعاهَدَ ألَّا نَعُودَ، فتَعاهَدُوا عَلَى ذلك، ثُمَّ تَفَرَّقُوا. فَلَمَّا أَصْبَحَ الأَخْنَسُ بنُ شُرَيْقٍ أَخَذَ عصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أتَى أبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أخْبِرْنِي يا أبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: يا أبا ثَعْلَبَةَ: واللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أشْياءً أعْرِفُهَا وأعْرِفُ ما يُرادُ بِهَا، وسَمِعْتُ أشْيَاءَ ما عَرَفْتُ مَعْنَاهَا، ولا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الأَخْنَسُ: وأَنَا والذِي حَلَفْتُ بِهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أتى أبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ لَهُ: يا أبَا الحَكَمِ: ما رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ

* الكبر والحسد منعا أبا جهل من الإسلام

مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ تَنازَعْنا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ، أطْعَمُوا فَأَطْعَمْنا، وحَمَلُوا فَحَمَلْنا، وأعْطُوا فَأَعْطَيْنا، حَتَّى إِذَا تحَاذَيْنا عَلَى الرَّكْبِ، وكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ (¬1)، قَالُوا: مِنّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ؟ واللَّهِ لا نُؤْمِنِ بِهِ أبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ. فَقامَ عَنْهُ الأخْنَسُ وتَرَكَهُ (¬2). * الْكِبْرُ والْحَسَدُ مَنَعَا أَبَا جَهْلٍ مِنَ الْإِسْلامِ: رَوَى البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ: عَنِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: إِنَّ أوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنِّي كُنْتُ أمْشِي أنَا وأَبُو جَهْلِ بنُ هِشامٍ في بَعْضِ أزِقَّةِ (¬3) مَكَّةَ، إِذْ لَقِيَنا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي جَهْلٍ: "يا أبَا الحَكَمِ! هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى رَسُولِهِ أدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يا مُحَمَّدُ هَلْ أَنْتَ مُنْتهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنا، هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ؟ . فنَحْنُ نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ، فوَاللَّهِ لَوْ أنِّي أعْلَمُ أَنَّ ما تَقُولُ حَقًّا ما اتَّبَعتُكَ فانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقْبَلَ عَلَيَّ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: فَواللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا ¬

_ (¬1) أي تَساوَيْنا في الشَّرَفِ والمَنْزِلَةِ. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 352 - 353) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 206). قال الحافظ في الإصابة (1/ 192): ذكر الذُّهلي في "الزُّهريات" بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب. . . وذكر قصة استماع زعماء قريش. (¬3) الزُّقاقُ: الطَّرِيقُ. انظر النهاية (2/ 277).

يَقُولُ حَقٌّ، ولَكِنْ بَنِي قُصَيٍّ قَالُوا: فِينَا الحِجَابَةُ، فَقُلْنا نَعَمْ، فَقَالُوا فِينَا النَّدْوَةُ، فَقُلْنا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالُوا: فِينَا اللِّوَاءُ، فَقُلْنا: نَعَمْ، قَالُوا: فِينَا السِّقايَةُ، فَقُلْنا: نَعَمْ، ثُمَّ أطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا، حتَّى إِذَا تَحاكَّتِ الرُّكَبُ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ، واللَّهِ لا أَفْعَلُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 207).

الهجرة الأولى إلى الحبشة

الهِجْرَةُ الأُولَى إِلَى الحَبَشَةِ اسْتَمَرَّتْ قُرَيْشٌ في قَسْوَتها عَلَى المُسْلِمِينَ، وَتَفَنَّنُوا في إِيذائِهِمْ، فَلَمْ يَرْعَوا فِيهِمْ قَرابَةً، وتَخَطَّوا حُدُودَ الإِنْسانِيَّةِ، وَكَانَ اضْطِهادُهُمْ لَهُمْ يَزْدادُ ضَراوَةً يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ حَتَّى ضَاقَ بِالمُسْلِمِينَ المُقَامُ في مَكَّةَ، وأخَذُوا يُفَكِّرُونَ في حِيلَةٍ تنجِّيهِمْ مِنَ العَذابِ الألِيمِ. وفي هَذِهِ الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ كَانَتْ سُورَةُ الكَهْفِ قَدْ نَزَلَتْ، وفِيها إِشَارَةٌ إِلَى الهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الكُفْرِ عِنْدَ خَشْيَةِ الفِتْنَةِ، ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الزُّمَرِ تُشِيرُ إِلَى الهِجْرَةِ أَيْضًا، وتُعْلِنُ بِأنَّ أرْضَ اللَّهِ لَيْسَتْ ضَيِّقَةً {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). وَكَانَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ عَلِمَ أَنَّ أصْحَمَةَ النَّجاشِيَّ مَلِكَ الحَبَشَةِ مَلِكٌ عادِلٌ، لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ أبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصحابِهِ، وقَدْ رَأَى ما يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ البَلَاءِ، وما يُصِيبُهُمْ مِنَ القَهْرِ والأَذَى، وهُوَ لا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ، قَالَ لَهُمْ: "لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، فإنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ" (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الزمر آية (10). وانظر الرحيق المختوم ص 92. (¬2) أخرج هذا الحديث ابن هشام في السيرة (1/ 358) بدون سند - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 301) - وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (3190) وجود إسناده.

* عدد المهاجرين إلى الحبشة

قَالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطاوِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ودَعاهُمُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَا هُوَ أشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، إِلَى فِراقِ الوَطَنِ، وتَركِ الأَهْلِ، وَأَنْ يَمْشُوا فِرارًا بِدِينِهِمْ إِلَى بِلادٍ لَيْسُوا مِنْهَا، ولَيْسَتْ مِنْهُمْ، ولا لِسَانها لِسانُهُمْ، ولا دِينُها دِينُهُمْ، إِلَى الحَبَشَةِ، فَخَرَجُوا مِنْ مَنازِلهِمْ وهَجَرُوا أهْلِيهِمْ، ومَشَوْا إِلَى الحَبَشَةِ، فَلَحِقَهُمْ أَذَى قُرَيْشٍ إلى الحَبَشَةِ، وأَوْغَلَتْ قُرَيْشٌ في كُفْرِها وصَدِّها وعِنادِها، ولَكِنْ هَلْ تَقْدِرُ قُرَيْشٌ أَنْ تُطْفِئَ نُورَ اللَّهِ تَعَالَى؟ (¬1). * عَدَدُ المُهاجِرِينَ إِلَى الحَبَشَةِ: فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ مَخَافَةَ الفِتْنَةِ، وفرارًا إِلَى اللَّهِ بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلُ هِجْرَةٍ في الإِسْلامِ، وَذَلِكَ في رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الخَامِسَةِ لِلْبِعْثَةِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وأرْبَعَ نِسْوَةٍ (¬2). وأَوَّلُ مَنْ خَرَجَ إِلَى الحَبَشَةِ هُوَ عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، ومَعَهُ زَوْجُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ إسْحَاقَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدٌ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهُما -أَيْ عُثْمانُ وَرُقَيَّةُ- لَأَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بَعْدَ لُوطٍ وإبْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 14. (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 98) - زاد المعاد (3/ 26) - البداية والنهاية (3/ 74) - وفتح الباري (7/ 584). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر أوَّل =

أَمَّا البَاقُونَ مِنَ الرِّجَالِ، وهُمُ العَشَرَةُ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- الحَادِيَ عَشَرَ: أَبُو حُذَيْفَةَ بنُ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، والزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ، ومُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وعَبْدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوْفٍ، وأَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأسَدِ، وعُثْمانُ بنُ مَظْعُونٍ، وعامِرُ بنُ رَبِيعَةَ، وأَبُو سَبْرَةَ بنُ أَبِي رُهْمٍ، وسُهَيْلُ بنُ بَيْضاءَ، وَأَبُو حاطِبُ بنُ عَمْرٍو. وَأَمَّا النِّسْوَةُ الثَّلَاثُ ورابِعَتُهُنَّ رُقَيَّةُ بنتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كمَا ذَكَرْتُ آنفًا فَهُنَّ: سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو زَوْجَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ بنِ عُتْبَةَ، وَوَلَدَتْ بِالحَبَشَةِ ابْنَها مُحَمَّدَ بنَ أَبِي حُذَيْفَةَ، وأُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ زَوْجَةُ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الأسَدِ، وَوَلَدَتْ بِالحَبَشَةِ ابْنَتَها زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، ولَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ زَوْجَةُ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ، فَهَؤُلاءُ أوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَى الحَبَشَةِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ عُثْمانُ بنُ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬1). وَكَانَ رَحِيلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَسَلُّلًا في الخَفَاءَ، وَقَدْ خَرَجُوا مُتَّجِهِينَ إِلَى البَحْرِ، مِنْهُمُ الرَّاكِبُ والمَاشِي، ووَفَّقَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ سَاعَةَ جاؤُوا سَفِينَتَيْنِ لِلتِّجَارَةِ حَمَلُوهُمْ فِيهِمَا إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ بِنِصْفِ دِينَارٍ، وفَطِنَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ، فَخَرَجَتْ فِي آثَارِهِمْ، لَكِنْ عِنْدَمَا بَلَغَتْ قُرَيْشٌ السَّاحِلَ كَانَ ¬

_ = من هاجر بعدَ لُوط وإبراهيم عليهما السلام - رقم الحديث (6933) - وأورده الحافظ في الإصابة (8/ 138) ونسبه إلى ابن منده، وقال: إسناده واهٍ - وانظر السلسلة الضعيفة للألباني - رقم الحديث (4464). (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 359 - 360) - فتح الباري (7/ 584) - الطبَّقات الكُبْرى لابن سعد (1/ 98).

* سجود كفار قريش

المُسْلِمُونَ قَدِ انْطَلَقُوا آمِنِينَ (¬1). وأقامَ المُسْلِمُونَ في الحَبَشَةِ بِخَيْرِ دارٍ عِنْدَ خَيْرِ جارٍ بَقِيَّةَ رَجَبٍ، وشَعْبَانَ إِلَى رَمَضَانَ، ثُمَّ عادُوا إِلَى مَكَّةَ (¬2) -كَمَا سَيَأْتِي-. * سُجُودُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ: في رَمَضانَ مِنَ السَّنَةِ الخامِسَةِ لِلْبِعْثَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الحَرَمِ، وَكَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ كَبِيرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، كَانَ فِيهِ سَادَاتُها وكُبَرَاؤُهَا، فَأخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتْلُو سُورَةَ النَّجْمِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ السَّجْدَةَ سَجَدَ، وسَجَدَ مَعَهُ القَوْمُ جَمِيعًا، المُسْلِمُونَ والمُشْرِكُونَ، إِلَّا رَجُلَانِ، هُما: أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، والمُطَّلِبُ بنُ أَبِي وَدَاعَةَ. رَوى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أوَّلَ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيها سَجْدَةٌ "والنَّجْمِ"، قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ، إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وهُوَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ (¬3). ورَوَى الإِمَامُ أحمَدُ في مُسْنَدِهِ والحاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ المُطَّلِبِ بنِ أَبِي وَداعَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَجَدَ في النَّجْمِ، وسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 98) - زاد المعاد (3/ 21). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 99). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} - رقم الحديث (4863) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب سجود التلاوة - رقم الحديث (576).

* قصة الغرانيق

ولَمْ أسْجُذ مَعَهُمْ -وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ- فَلا أدَعُ السُّجُودَ فِيهَا أبَدًا (¬1). قَالَ الإِمَامُ السِّنْدِيُّ في شَرحِ المُسْنَدِ: قَوْله -رضي اللَّه عنه-: فَلا أَدَعُ السُّجُودَ فِيهَا أبَدًا: تَقْرِيعٌ عَلَى فَوْتهِ في ذَلِكَ اليَوْمِ، أيْ حَيْثُ فاتَنِي في ذَلِكَ اليَوْمِ، فَكَيْفَ أتْرُكُ بَعْدَهُ، بلْ ألْتَزِمُ بَعْدُ جَبْرًا لِمَا فَاتَ (¬2). * قِصَّةُ الغَرانِيقِ (¬3): ذَكَرَ بَعْضُ المُؤَرِّخِينَ قِصَّةً باطِلَةً مُخْتَلَقَةً تُعْرَفُ بِاسْمِ "قِصَّةِ الغَرَانِيقِ"، وهِيَ قِصَّةٌ افْتَرَاهَا بَعْضُ الزَّنادِقَةِ، وزَعَمُوا فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَقَرَّبَ إِلَى المُشْرِكِينَ بِمَدْحِ أصْنَامِهِمْ، وأنَّهُ قَالَ عَنْها بَعْدَ أَنْ تَلا قَوْلَهُ تَعَالَى {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (¬4) قَالَ: "تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى"، وزَعَمُوا أَنَّ المُشْرِكِينَ أعْلَنُوا رِضَاهُمْ عَمَّا تَلا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَجَدُوا مَعَهُ حِينَ سَجَدَ (¬5). واسْتِنادًا إِلَى القُرْآنِ والسُّنَّةِ فَإِنَّ القِصَّةَ باطِلَةٌ ومَوْضُوعَةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15464) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر المطلب بن أبي وَداعة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6722) - وأورده الحافظ في الإصابة (6/ 104) - وصحح إسناده. (¬2) انظر شرح السندي لمسند الإمام أحمد (8/ 323). (¬3) الغَرَانِيقُ: هاهُنَا الأصنَامُ، وهي في الأصلِ الذُّكُورُ منْ طُيُورِ الماءِ، واحدها: غُرنُوقٌ سُمِّي به لِبَيَاضِهِ. انظر النهاية (3/ 327). (¬4) سورة النجم آية (19 - 20). (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 99).

* أقوال العلماء في بطلان هذه القصة

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (¬1)، وَقَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬2). وصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَتَقَرَّبْ لِصَنَمٍ قَطُّ حتَّى أكْرَمَهُ اللَّه بِالنُّبُوَّةِ، وأنَّهُ ما هَمَّ بِعَمَلٍ مِنْ أعْمَالِ الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ إِلَّا عَصَمَهُ اللَّه تَعَالَى -كمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ-، فكَيْفَ يَكُونُ في الإِسْلامِ؟ . * أقْوالُ العُلَمَاءِ في بُطْلانِ هَذِهِ القِصَّةِ: وَقَدْ طَعَنَ في صِحَّةِ القِصَّةِ جَمْعٌ مِنَ العُلَمَاءِ: قَالَ القاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ لَمْ يُخْرِجْها أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصِّحَّةِ، ولا رَوَاهَا ثِقَةٌ بِسَنَدٍ سَلِيمٍ مُتَّصِلٍ، وإنَّمَا أُولِعَ بِهَا، وبِمِثْلِها المُفَسِّرُونَ والمُؤَرِّخُونَ المُولَعُونَ بِكُلِّ غَرِيبٍ، المُتَلَقِّفُونَ مِنَ الصُّحُفِ كُلَّ صَحِيحٍ وسَقِيمٍ، ومَنْ حُكِيَتْ هَذِهِ الحِكَايَةُ عَنْهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ والتَّابِعِينَ لَمْ يُسْنِدْها أَحَدٌ مِنْهُمْ، ولا رَفَعَها إِلَى صَاحِبٍ، وأَكْثَرُ الطُّرُقِ عَنْهُمْ فِيهَا ضَعِيفَةٌ واهِيَةٌ (¬3). وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا ما يَروِيهِ الإِخْبَارِيُّونَ والمُفَسِّرُونَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ ما جرَى عَلَى لِسانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الثَّناءِ عَلَى ¬

_ (¬1) سورة الحاقة آية (44 - 46)، والوَتينُ هو: العِرقُ الذي القَلْبُ مُعَلَّقٌ فِيهِ. انظر تفسير ابن كثير (8/ 218). (¬2) سورة النجم آية (3 - 4). (¬3) انظر كتاب الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 132 - 133) للقاضي عياض.

آلِهَةِ المُشْرِكِينَ في سُورَةِ النَّجْمِ فَباطِلٌ لا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ، لا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ العَقْلِ؛ لِأَنَّ مَدْحَ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ، ولا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلا أَنْ يَقُولَهُ الشَّيْطانُ عَلَى لِسَانِهِ، ولا يَصِحُّ تَسْلِيطُ الشَّيْطانِ عَلَى ذَلِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ هاهُنا قِصَّةَ الغَرَانِيقِ، وَمَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرَةِ مِنْ أَرْضِ الحَبَشَةِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمُوا، وَلَكِنَّهَا مِنْ طُرُقٍ كُلّها مُرْسَلَةٌ، ولَمْ أرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صحِيحٍ، واللَّهُ أعْلَمُ (¬2). وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَزْعُمُ بَعْضُ المُغَفَّلِينَ أَنَّهُ وَقَعَتْ هُدْنَةٌ حَقًّا بَيْنَ الإِسْلامِ والوَثَنِيَّةِ أساسُها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَقَرَّبَ إِلَى المُشْرِكينَ بِمَدْحِ أصْنَامِهِمْ، والاعْتِرافِ بِمَنْزِلَتِهَا! وَأَنَّ هَذِهِ الهُدْنَةَ الوَاقِعَةَ هِيَ التِي أعَادَتِ المُسْلِمِينَ مِنَ الحَبَشَةِ. . . ومَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَدْحِ الأَصْنَامِ؟ يُجِيبُ هَؤُلاءَ المُغَفَّلُونَ بِأنَّهُ قَالَ: تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلَا. وَإِنَّ شَفاعَتَهُنَّ لتُرْتَجَى؟ وأيْنَ وَضَعَ هَذِهِ الكَلِماتِ؟ وَضَعَها في سُورَةِ (النَّجْمِ) مُقْحَمَةٌ وَسَطَ الآياتِ التِي جَاءَ فِيهَا ذِكْرُ هَذِهِ الأصْنَامِ. ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (5/ 64). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (5/ 441).

فَأَصْبَحَتْ هَكَذا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ. . .}. ويَكُونُ مَعْنَى الكَلامِ عَلَى هَذَا: خَبِّرُوني عَنْ أصنامِكُمْ أهِيَ كَذَا كَذَا؟ إِنَّ شَفاعَتَها مَرجُوَّةٌ، إِنَّها أسْمَاءٌ لا حَقَائِقَ لَها. إنَّها خُرافاتٌ ابْتُدِعَتْ واتُّبِعَتْ. ما لَكُمْ جَعَلْتُمُوهَا إِنَاثًا ونَسَبْتُمُوها للَّهِ تَعَالَى، وأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ نِسْبَةَ الإنَاثِ لَكُمْ؟ تِلْكَ قِسْمَةٌ جائِرَةٌ! فَهَلْ هَذَا كَلامٌ يصْدُرُ عَنْ عاقِلٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْزِلَ به وَحْيٌ حَكِيمٌ؟ ولَكِنْ هَذَا السُّخْفُ وُجِدَ مَنْ يَكْتبُهُ ويَنْقُلُهُ. إِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَوْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بِاخْتِلاقِ كَلامٍ عَلَيْهِ لقطِعَ عُنقهُ بِنَصِّ الكِتَابِ الذِي جَاءَ بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬1). والذِي في الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرَأَ سُورَةَ (النَّجْمِ) في مَحْفَلٍ يَضُمُّ مُسْلِمِينَ ومُشْرِكِينَ، وخَواتِيمُ هَذِهِ السُّورَةِ -أيْ سُورَةِ النَّجْمِ- قَوَارعُ تَطِيرُ لَها القُلُوبُ، فَلَمَّا أخَذَ صَوْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَهْدُرُ بِهَا، ويَرْعُدُ بِنَذْرِها حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) ¬

_ (¬1) سورة الحاقة آية (44 - 47).

* لماذا سجد الكفار إذا؟

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬1)، كَانَتْ رَوْعَةُ الحَقِّ قَدْ صَدَّعَتِ العِنادَ في نُفُوسِ المُسْتَكْبِرِينَ والمُسْتَهْزِئِينَ، فَمَا تَمالَكُوا أَنْ يَخِرُّوا للَّهِ سَاجِدِينَ، مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ. . . (¬2). * لِمَاذَا سَجَدَ الكُفَّارُ إذًا؟ والصَّحِيحُ أَنَّ هَؤُلاءِ الكُفَّارَ إنَّمَا سَجَدُوا لِبَلاغَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وأنَّهُمْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ يَسْمَعُونَ القُرآنَ مِنْ غَيْرِ تَشْوِيشٍ. قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الرَّحْمَنِ المُبارَكْفُورِيُّ: إِنَّ أُولَئِكَ الكُفَّارَ لَمْ يَكُوُنوا سَمِعُوا كَلامَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّ أسْلُوبَهُمْ المُتَواصِلَ كَانَ هُوَ العَمَلُ بِما تَواصَى بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، مِنْ قَوْلهِمْ: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (¬3) فَلَمَّا باغَتَهُمْ بِتِلاوَةِ هَذِهِ السُّورَةِ -أيِ النَّجْمِ- وَقَرَعَ آذانَهُمْ كَلامٌ إلَهِيٌّ رائِعٌ خَلَّابٌ لا يُحَاطُ بِرَوْعَتِهِ وجَلالَتِهِ البَيَانِ، تَفانَوْا عَمَّا هُمْ فِيهِ، وبَقِيَ كُلُّ واحِدٍ مُصْغِيًا إِلَيْهِ، لا يَخْطُرُ بِبالِهِ شَيْءٌ سِواهُ، حَتَّى إِذَا تَلا خَواتِيمَ هَذهِ السُّورَةِ قَوارعَ تَطِيرُ لَها القُلُوبُ: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) ¬

_ (¬1) سورة النجم آية (53 - 61). (¬2) انظر فقه السيرة ص (111 - 112). (¬3) سورة فصلت آية (26).

* قصص كثيرة تدل على انبهار الكفار بالقرآن

فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ثم قرأ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬1). ثُمَّ سَجَدَ، لَمْ يَتَمالَكْ أَحَدٌ نَفْسَهُ حَتَّى خَرَّ ساجِدًا، وفِي الحَقِيقَةِ كَانَتْ رَوْعَةُ الحَقِّ قَدْ صَدَّعَتِ العِنادَ في نُفُوسِ المُسْتَكْبِرِينَ والمُسْتَهْزِئِينَ، فَمَا تَمَالَكُوا إِلَّا أَنْ يَخِرُّوا للَّهِ ساجِدِينَ. وسُقِطَ في أيْدِيهِمْ لَمَّا أحَسُّوا أَنَّ جَلالَ كَلامِ اللَّهِ لَوَى زِمامَهُمْ، فارْتَكَبُوا عَيْنَ ما كَانُوا يَبذُلُونَ قُصَارَى جُهْدِهِمْ في مَحوِهِ وإفْنائِهِ، وَقَدْ تَوالَى عَلَيْهِمُ اللَّوْمُ والعِتابُ مِنْ كُلِّ جانِبٍ، مِمَّنْ لَمْ يَحضُرْ هَذَا المَشْهَدَ مِنَ المُشْرِكِينَ، وعِنْدَ ذَلِكَ كَذَبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وافتروْا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى أصنامِهِمْ بِكَلِمَةِ تَقْدِيرٍ، وأنَّهُ قَالَ عَنْها: "تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلَى، وَإِنَّ شَفاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى" جاؤُوا بِهَذا الإِفْكِ المُبِينِ، لِيَعْتَذِرُوا عَنْ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولَيْسَ يُسْتَغْرَبُ هَذَا مِنْ قَوْمٍ كَانُوا يَألَفُونَ الكَذِبَ، ويُطِيلُونَ الدَّسَّ والِافْتِراءَ (¬2). * قِصَصٌ كَثِيرَة تَدُلُّ عَلَى انْبِهَارِ الكُفَّارِ بِالقُرآنِ: قُلْتُ: القِصَصُ كَثِيرَةٌ التِي تَدُلُّ عَلَى انْبِهارِ الكُفَّارِ بِالقُرآنِ الكَرِيمِ، وأنَّهُمْ ¬

_ (¬1) سورة النجم آية (53 - 62). (¬2) انظر الرحيق المختوم ص 93.

* عودة مهاجري الحبشة

لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَقِفُوا أمَامَ بَلاغَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ الإِمَامُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ في قِصَّةِ إسْلامِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ جُبيْرٌ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ في المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (¬1) (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} كادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ صَعْصَعَةَ بنِ مُعاوِيَةَ عَمِّ الفَرَزْدَقِ، قَالَ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَرَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، قَالَ: حَسْبِي لا أُبالِي أَنْ لا أَسْمَعَ غَيْرَها (¬3). * عَوْدَةُ مُهاجِرِي الحَبَشَةِ: وَتَرَامَتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ إِلى مُهَاجِرَةِ الحَبَشَةِ، ولَكِنْ في صُوَرَةٍ تَخْتَلِفُ تَمامًا عَنْ صُورَتها الحَقِيقِيَّةِ، بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أسْلَمُوا، وَقَدْ سَجَدُوا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ المُهاجِرُونَ: عَشائِرُنا أحَبُّ إِلَيْنَا، فَخَرَجُوا مِنَ الحَبَشَةِ راجِعِينَ إِلَى مَكَّةَ، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 584): ذكرَ اللَّه سبحانه وتَعالَى العلَّة التي عاقَتْهُمْ عن الإيمانِ، وهيَ عدمُ اليَقِينَ الذِي هوَ مَوْهِبَةٌ مِنْ اللَّه تَعَالَى ولا يَحْصُلُ إلا بِتَوْفِيقِهِ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحة - كتاب التفسير - باب سورة الطور - رقم الحديث (4854) وراجع ما كتبه القاضي عياض رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى - (فصل إعجازُ القُرآن) لتِرَى القِصَصَ الكثيرَةَ في انبِهارِ هؤلاءِ الكُفَّارِ بالقُرآن. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20593).

* عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- يدخل بجوار

وهَذا في شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الخامِسَةِ لِلْبِعْثَةِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا دُونَ مَكَّةَ بِساعَةٍ تَبَيَّنَتْ لَهُمُ الحَقِيقَةُ، وعَرَفُوا أَنَّ المُشْرِكِينَ أشَدُّ ما يَكُوُنونَ خُصُومًا للَّهِ ورَسُولِهِ وللْمُسْلِمِينَ، فَهَمُّوا بالرُّجُوعِ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَغْنا مَكَّةَ، فَدَخَلُوا مَكَّةَ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا مُسْتَخْفِيًا، أَوْ في جِوَارِ رَجُلٍ مِنْ قُريْشٍ، وَعَادَ بَعْضُهُمْ إِلَى الحَبَشَةِ (¬1). * عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- يَدْخُلُ بِجِوَارٍ: كَانَ مِمَّنْ دَخَلَ مَكَّةَ فِي جِوارٍ عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه-، دَخَلَ في جِوَارِ الوَلِيدِ بنِ المُغِيرَة، فَلَمَّا رَأَى ما يُفْعَلُ بالمُسْلِمِينَ مِنَ الأَذَى، قَالَ: واللَّهِ إِنَّ غُدُوِّي ورَواحِي آمِنًا بِجِوارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وأصْحَابِي وأهْلُ دِيني يَلْقَوْنَ مِنَ البَلَاءَ وَالْأَذَى في اللَّهِ مَا لَا يُصِيبُنِي، لَنَقْصٌ كَبِيرٌ في نَفْسِي، فَمَشَى إلى الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أبَا عَبْدِ شَمْسٍ، وَفَتْ ذِمَّتُكَ، وَقَدْ رَدَدْتُ إلَيْكَ جِوارَكَ، فَقَالَ لَهُ الوَليدُ: لِمَ يا ابْنَ أخِي؟ لَعَلَّهُ آذاكَ أحدٌ مِنْ قَوْمِي، وَأَنْتَ في ذِمَّتِي؟ قَالَ: لا، ولَكِنِّي أرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ، فَقَالَ الوَليدُ لَهُ: فانْطَلِقْ إِلَى المَسْجِدِ، فارْدُدْ عَلَيَّ جِوارِي عَلانِيَة كَمَا أجَرتُكَ عَلانِيَةً، فانْطَلَقا حَتَّى أتَيَا المَسْجِدَ، ققالَ الوَليدُ: هَذَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوارِي، فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقَ، وَقَدْ وَجدْتُهُ وَفيًّا كَرِيمَ الجِوارِ، ولَكِنِّي قَدْ أحْبَبْتُ أَلَّا أسْتَجِيرَ بِغَيْرِ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 99) - البداية والنهاية (3/ 74) - زاد المعاد (3/ 21) - سيرة ابن هشام (1/ 402).

اللَّهِ، فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَقَالَ الوَلِيدُ: أُشْهِدُكُمْ أنِّي بَرِيءٌ مِنْ جِوارِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانٌ، ولَبِيدُ بنُ رَبِيعَةَ في مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُنْشِدُهُمْ -قَبْلَ إسْلَامِهِ- فَجَلَسَ عُثْمَانُ مَعَهُمْ، فَقَالَ لَبِيدٌ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللَّه باطِلُ ... . . . . . . . . . . . فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ، فَقَالَ لَبِيدٌ: . . . . . . . . . ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ قَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْتَ، نَعِيمُ الجَنَّةِ لا يَزُولُ. فَقَالَ لَبِيدٌ: يا مَعْشَرَ قُريْشٍ! واللَّهِ ما كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ، فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ في سُفَهاءً مَعَهُ، قَدْ فارَقُوا دِينَنا، فَلا تَجِدَنَّ في نَفْسِكَ مِنْ قَوْلِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتَّى شَرِيَ (¬1) أَمْرُهُمَا، فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ، والوَليدُ بنُ المُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى ما بَلَغَ مِنْ عُثْمَانَ، فَقَالَ الوَلِيدُ لِعُثْمانَ: أَمَا وَاللَّهِ يا ابْنَ أخِي إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أصابَها لَغَنِيَّةٌ، لَقَدْ كُنْتَ في ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ، فَخَرَجْتَ مِنْهَا، وكُنْتَ عَنِ الذِي لَقِيتَ غَنِيًّا، ثُمَّ ضَحِكُوا، فَقَالَ عُثْمَانُ: بَلْ كُنْتُ إِلَى الذِي لَقِيتُ فَقِيرًّا، واللَّهِ إِنَّ عَيْنيَ الصَّحِيحَةَ التِي لَمْ تُلْطَمْ لفَقِيرَةٌ إِلَى مَا أصَابَ أُخْتَها في اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِي فِيمَنْ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْكُمْ أُسْوَةٌ، وإِنِّي واللَّهِ لَفِي جِوارِ مَنْ هُوَ أعَزُّ مِنْكَ، وَأَقْدَرُ يا أبا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقَالَ لَهُ ¬

_ (¬1) شَرِيَ الأَمرُ بينهُما: أي عَظُمَ وتَفاقَمَ. انظر النهاية (2/ 420).

* أبو سلمة بن عبد الأسد -رضي الله عنه- يدخل مكة في جوار

الوَلِيدُ: إِنْ شِئْتَ أجَرتُكَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لا حاجَةَ لِي في جِوارِكَ (¬1). * أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأَسَدِ -رضي اللَّه عنه- يدخلُ مَكَّةَ في جِوارٍ: ودَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ -رضي اللَّه عنه- في جِوَارِ خَالِهِ أَبِي طَالِبٍ، فَسَعَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالُوا له: يا أبا طَالِبٍ، لَقَدْ مَنَعْتَ ابْنَ أخِيكَ مُحَمَّدًا، فَمَا لَكَ ولِصَاحِبِنا تَمْنَعُهُ مِنَّا؟ . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إنَّهُ اسْتَجارَ بِي وهُوَ ابْنُ أُخْتِي، وَإِنْ أنَا لَمْ أمْنَعْ ابْنَ أُخْتِي لَمْ أَمْنَعْ ابنَ أَخِي، فَقامَ أَبُو لَهَبٍ غاضِبًا، وَقَالَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، واللَّهِ لَقَدْ أكْثَرتُمْ عَلَى الشَّيْخِ، ما تَزالُونَ تَتَواثَبُونَ عَلَيْهِ في جِوارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ! واللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ عَنْهُ، أَوْ لَنَقُومَنَّ مَعَهُ في كُلِّ ما قامَ فِيهِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَا أرَادَ! فَقَالُوا: بَلْ نَنْصَرِفُ عَمَّا تَكْرَهُ يا أبَا عُتْبَةَ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ وَليًّا ومُناصِرًا لَهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمعَ أَبُو طَالِبٍ مِنْهُ ذَلِكَ طَمِعَ فِيهِ ورَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ في شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ قَصِيدَةً يُحَرِّضُ فِيهَا أبَا لَهَبٍ عَلَى نُصرَتِهِ، ونُصرَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: وَإِنَّ امْرَأً أَبُو عُتَيْبَةَ عَمُّهُ ... لَفِي رَوْضَةٍ مَا أَنْ يُسامَ المَظَالِمَا أَقُولُ لَهُ وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي ... أبا مُعْتِبٍ ثَبَتْ سَوادَكَ قائِما ولَا تَقْبَلَنَّ الدَّهْرَ مَا عِشْتَ خُطَّةً ... تُسَبُّ بِهَا إِمَّا هَبَطْتَ المَواسِمَا وَوَلِّ سَبِيلَ العَجْزِ غَيْرَكَ مِنْهُمُ ... فَإِنَّكَ لَمْ تُخْلَقْ عَلَى العَجْزِ لازِمَا ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 407).

* وهم ابن سعد في أن ابن مسعود -رضي الله عنه- رجع إلى الحبشة

وَحَارِبْ فَإِنَّ الحَرْبَ نُصْفٌ ولَنْ تَرَى ... أَخَا الحَرْبِ يُعْطَى الخَسْفَ حَتَّى يُسَالِمَا وكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْكَ عَظِيمَةً ... وَلَمْ يَخْذُلُوكَ غانِمًا أَوْ مُغارِمَا جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلًا ... وَتَيْمًا ومَخْزُومًا عُقُوقًا ومَأْثَما بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدٍّ وَأُلْفَةٍ ... جَمَاعَتَنا كَيْمَا يَنالُوا المَحَارِمَا كَذَبْتُمْ وبَيْتِ اللَّهِ نُبْزِي مُحَمَّدًا ... ولَمَّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشِّعْبِ قائِمَا (¬1) ولَكِنَّ أبَا لَهَبٍ لَمْ يَسْتَجِبْ لِأَخِيهِ أَبِي طَالِبٍ في نُصْرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسَارَ في رَكْبِ قُرَيْشٍ. * وَهْمُ ابنِ سَعْدٍ في أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- رَجَعَ إِلَى الحَبَشَةِ: قُلْتُ: ذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ (¬2): أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ، وأنَّهُ رَجَعَ إِلَى الحَبَشَةِ حتَّى قَدِمَ في المَرَّةِ الثَّانِيَةِ إِلَى المَدِينَةِ مَعَ مَنْ قَدِمَ. وتَعَقَّبَهُ ابنُ القَيِّمِ فَقَالَ: وَرُدَّ هذا بِأنَّ ابنَ مَسْعُودٍ شَهِدَ -رضي اللَّه عنه- بَدرًا، وأجْهَزَ عَلَى أَبِي جَهْلٍ، وأصْحَابُ هَذِهِ الهِجْرَةِ إنَّمَا قَدِمُوا المَدِينَةَ مَعَ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- وأَصْحَابِهِ بَعْدَ بَدْرٍ بأرْبَعِ سِنِينَ أَوْ خَمْسٍ. فَإنْ قِيلَ: بَلْ هَذَا الذِي ذَكَرَهُ ابنُ سَعْدٍ يُوافِقُ قَوْلَ زَيْدِ بنِ أرْقَمَ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلاةِ، يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ، وهُوَ إِلَى جَنْبِهِ في الصَّلاةِ حتَّى ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 409). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 99).

نَزَلَتْ، {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬1) فأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الكَلَامِ (¬2). وزَيْدُ بنُ أَرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3) مِنَ الأنْصَارِ، والسُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ، وحِينَئِذٍ فابْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- سَلَّمَ عَلَيْهِ لَمَّا قَدِمَ وهُوَ في الصَّلاةِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى سَلَّمَ، وأعْلَمَهُ بِتَحْرِيمِ الكَلَامِ، فاتَّفَقَ حَدِيثُهُ وحَدِيثُ زَيْدِ بنِ أرْقَمٍ. ونَقُولُ: يُبْطِلُ هَذَا شُهُودُ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، بَدْرًا، وأَهْلُ الهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا قَدِمُوا عامَ خَيْبَرَ مَعَ جَعْفَرٍ -رضي اللَّه عنه- وأَصْحَابِهِ، ولَوْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- مِمَّنْ قَدِمَ قَبْلَ بَدْرٍ، لَكانَ لِقُدُومِهِ ذِكْرٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ قُدُومَ مُهاجِرِي الحَبَشَةِ إِلَّا في القَدْمَةِ الأُولَى بِمَكَّةَ، والثَّانِيَةُ عامَ خَيْبَرٍ مَعَ جَعْفَرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَمَتَى قَدِمَ ابنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- في غَيْرِ هاتَيْنِ المَرَّتَيْنِ، وَمَعَ مَنْ؟ . ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (238). (¬2) أخرجَ هذا الحديثَ الإِمَامُ البخارِيُّ في صحيحه - كتاب العمل بالصلاة - باب ما يُنْهى منَ الكلام في الصلاة - رقم الحديث (1200) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} - رقم الحديث (4534) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب المَساجد ومواضع الصلاة - باب تحريم الكلام في الصلاة - رقم الحديث (539). (¬3) هو زيدُ بن أرْقَمٍ الخَزْرَجِيُّ الأنصَاريُّ، استُصْغِرَ يومَ أُحُدٍ، وأَوَّلُ مشاهِدِهِ الخَنْدَقُ، وقِيلَ المُرَيْسِيعُ، وغزَا معَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سبعَ عشْرَةَ غَزْوَة ثَبتَ ذلكَ في الصّحيح، وله قِصَّةٌ مشهُورةٌ في نزول سُورة المُنَافِقِينَ، وهوَ الذي سَمعَ عبدَ اللَّه بنَ أبَيِّ بنِ سَلُولَ يقُول: ليُخرِجَنَّ الأعَزُّ منها الأذَلَّ، فأخبر رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسَأل رسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنَ سَلُولٍ فأنْكَرَ، فأنزل اللَّه تَعَالَى تصديقَ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-، ثبتَ ذلك في الصَّحيحين، وفيه قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّه قدْ صَدَّقَكَ يا زَيْدُ"، ماتَ -رضي اللَّه عنه- بالكوفة أيامَ المُخْتار سنة ست وستين وقيل سنة ثمان وستين. انظر الإصابة (2/ 487).

* مفاوضات قريش مع أبي طالب في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-

وبِنَحْوِ الذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابنُ إسْحَاقَ، قَالَ: وبَلَغَ أصْحَابَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذِينَ خَرَجُوا إِلَى الحَبَشَةِ إِسْلامُ أَهْلِ مَكَّةَ، فأقْبَلُوا لَمَّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ، بَلَغَهُمْ أَنَّ إسْلامَ أَهْلِ مَكَّةَ كَانَ باطِلًا، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِجِوارٍ، أَوْ مُسْتَخْفِيًا، فَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ مِنْهُمْ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ، فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا فَذَكَرَ مِنْهُمْ: عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1). فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِحَدِيثِ زَيْدِ بنِ أرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه-؟ قِيلَ: قَدْ أُجِيبَ عَنْهُ بِجَوابَيْنِ، أحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أُذِنَ فِيهِ بِالمَدِينَةِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهُ. والثَّانِي: أَنَّ زَيْدَ بنَ أرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ مِنْ صِغارِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ في الصَّلَاةِ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ، فَلَمَّا بَلَغُهُمْ انْتَهَوْا، وزَيْدٌ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ بأنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ في الصَّلَاةِ إِلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ولَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ لَكانَ وَهْمًا مِنْهُ (¬2). * مُفاوَضَاتُ قُرَيْشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ في أَمْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أيْقَنَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ بَطْشَهَا بِالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَنَيْلَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 402). (¬2) انظر زاد المعاد (3/ 22 - 23).

لَمْ يَصْرِفِ النَّاسَ عَنِ الاسْتِجابَةِ لِدَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ طُرُقَ الِاسْتِهْزاءِ أَوْ تَشْوِيهِ مَعالِمِ الدِّينِ لَمْ تُفْلحْ في الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَجَأَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أسْلُوبِ المُفاوَضَاتِ مَرَّةً أُخْرَى (¬1). فَذَهَبُوا إِلَى أَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا لَهُ: يَا أبَا طَالِبٍ، إِنَّ لَكَ سِنًّا وشَرَفًا ومَنْزِلَةً فِينَا، وإِنَّ ابْنَ أخِيكَ يُؤْذِينَا في نَادِينَا وفِي مَجْلِسِنَا، وإنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْناكَ مِنِ ابْنِ أخِيكَ فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإنَّا واللَّه لا نَصبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبائِنا، وتَسْفِيهِ أحْلامِنا (¬2) وعَيْبِ آلِهَتِنا، حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا، أَوْ ننازِلَهُ وإيَّاكَ في ذَلِكَ حَتَّى يَهْلِكَ أحَدُ الفَرِيقَيْنِ. فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِراقُ قَوْمِهِ وعَداوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا خُذْلانِهِ، فَبَعَثَ عَقِيلًا (¬3) ابْنَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا جَاءَ ¬

_ (¬1) لا تذكرُ المصادر التاريخية زمَنَ هاتَيْنِ الوِفادَتَيْن -أقصدُ الوِفادَةَ الثانِيَةَ، وهي طلبَ قُرَيْشٍ مِنْ أبي طالبٍ تَسْليمَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وستأتي في الفِقْرَةِ التاليةِ- لكنْ يَبْدُو بعدَ التأمُّل في القرائن والشَّواهد أنهما كانَتَا في أواسطِ السنَةِ السَّادسَةِ منَ النبوَّة. انظر الرحيق المختوم ص 98. (¬2) سَفَّهَ أحلامَنا: أي اسْتَخَفَّ بعُقُولِنَا، وأولُو الأحْلامِ: أي ذَوُوا الألبابِ، والعُقُولِ. انظر النهاية (1/ 416). (¬3) هو عَقِيلُ بنُ أبي طَالبٍ، ابنُ عمِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان عَقِيلٌ ممَّنْ خرجَ معَ المُشْرِكينَ إلى بَدْرٍ مُكْرهًا، فأُسِرَ يومئذٍ وكان لا مالَ لَهُ، فَفداهُ عمُّهُ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-. ثم أتى عَقِيل مُسْلِمًا قبلَ الحُدَيْبِيَةِ، وهاجرَ إلى النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سنةَ ثمانٍ منَ الهجرةِ، وشهِدَ غزوَةَ مُؤْتَةَ. قال الحافظ في الإصابة (4/ 438): ولمْ يُسْمَعْ لَهُ بذِكْرٍ في غزوَةِ الفتْحِ ولا حُنَيْنٍ كأنَّه كان مَرِيضًا، أشارَ إلى ذلكَ ابنُ سعد في طبقاته (4/ 341)، لكنْ روى الزُّبير بن بَكَّار بسندهِ =

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُ: يا ابْنَ أخِي، إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جاؤُوني، فزَعَمُوا أنَّكَ تُؤْذِيهِمْ في نادِيهِمْ، وفِي مَجْلِسِهِمْ فَانْتَهِ عَنْ ذَلِكَ، وأَبْقِ عَلَيَّ، وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الأَمْرِ ما لا أُطِيقُ. فَحَلَّقَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَصَرِهِ إِلَى السَّماءِ، فَقَالَ: "تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تُشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً". فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: واللَّهِ، ما كَذَبَ ابْنُ أخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا (¬2) ثُمَّ أطْلَقَ أَبُو طَالبٍ أبْيَاتَهُ المَشْهُورَةَ في نُصْرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقاَل: واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بَجَمْعِهِمْ ... حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرابِ دَفِينَا فامْضِي لِأَمْرِكَ ما عَلَيْكَ غَضَاضَةً (¬3) ... أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا ¬

_ = إلى الحسنِ بنِ عليّ: أن عَقِيلًا كان ممَّن ثبتَ يومَ حُنَيْنٍ، وكان -رضي اللَّه عنه- عالِمًا بأنسابِ قُرَيْشٍ ومآثِرِها ومَثَالِبهَا. وفي تاريخ البخاري الأصغر بسندٍ صحيحٍ أَنَّ عَقِيلًا ماتَ في أوَّل خلافةِ يَزِيد قبل الحَّرة. انظر الإصابة (4/ 438). (¬1) حلّقَ بِبَصرِهِ إلى السَّماء: رفَعَهُ. انظر النهاية (1/ 409). (¬2) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر عقيل بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6526) - وإسناده حسن - وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (92). (¬3) ما عليك غضاضة: أي ذل. انظر لسان العرب (10/ 82).

* رواية مشهورة ضعيفة

وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أنَّكَ نَاصِحِي ... فَلَقَدْ صَدَقْتَ وكُنْتَ قِدَمَ أَمِينَا وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا لَوْلا المَلَامَةُ أَوْ حَذَارِي سُبَّةً ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذاكَ أَمِينَا (¬1) * رِوايَةٌ مَشْهُورَةٌ ضَعِيفَةٌ: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ المَشْهُورَةُ، وهِيَ قَوْلُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا عَمُّ، واللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِي، والقَمَرَ في يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، ما تَرَكْتُهُ. . . " (¬2). فَهِيَ رِوايَةٌ ضَعِيفَةٌ. * طَلَبُ قُرَيْشٍ تَسْلِيمَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَلَمَّا رَأَتْ قُريشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَاضٍ في دَعْوَتِهِ، وَأَنَّ أبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خُذْلانَ ابْنِ أخِيهِ وإسْلامَهُ، وإجْمَاعَهُ لِفِراقِهِمْ في ذَلِكَ وعَداوَتهِمْ، مَشَوْا إِلَيْهِ بِعُمارَةَ بنِ الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ فَقَالُوا لَهُ: يا أبَا طَالِبٍ: قَدْ جِئْناكَ بِفَتَى قُرَيْشٍ جَمالًا، ونَسَبًا، ونَهادَةً (¬3)، وشِعْرًا. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 303) - البداية والنهاية (3/ 47) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 7). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 303) - وانظر السلسلة الضعيفة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (909). (¬3) نَهادَةٌ: أي قَوِيًا ضَخْمًا. انظر النهاية (5/ 118).

* مناصرة بني هاشم والمطلب لأبي طالب

فَخُذْهُ فَلَكَ نَصْرُهُ وعَقْلُهُ (¬1) ومِيراثُهُ، واتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أخِيكَ هَذَا الذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ، ودِينَ آبائِكَ، وفَرَّقَ جَماعَةَ قَوْمِكَ، وسَفَّهَ أحْلامَهُمْ، فَنَقُلَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أجْمَعُ لِلْعَشِيرَةِ، وأفْضَلُ في عَواقِبِ الْأُمُورِ مَغَبَّةً، وإنَّما هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: واللَّهِ ما أنْصَفْتُمُونِي، أتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أكْفُلُهُ لَكُمْ، وأُعْطِيَكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ؟ ما هَذَا بِالنَّصَفِ، تَسُومُونَنِي (¬2) سَوْمَ العَرِيرِ (¬3) الذَّلِيلِ، هَذَا واللَّهِ لا يَكُونُ أَبَدًا. فَقَالَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ: واللَّهِ يا أبَا طَالِبٍ لَقَدْ أنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وجَهِدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُهُ، فَمَا أرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: واللَّهِ ما أنْصَفْتُمُونِي، ولَكِنَّكَ قَدْ أجْمَعْتَ خُذْلانِي ومُظاهَرَةً عَلَيَّ، فاصْنَعْ ما بَدَا لَكَ (¬4). * مُنَاصَرَةُ بَنِي هَاشِمٍ والمُطَّلبِ لِأَبِي طَالِبٍ: فَهُنَا قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى ما تَصْنَعُ قُرَيْشٌ بِالمُسْلِمِينَ، في بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إلى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنع رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والقِيامِ دُونَهُ، ¬

_ (¬1) العَقْلُ: الدِّيَةُ. انظر النهاية (3/ 252). (¬2) المُسَاوَمَةُ: المُجاذَبَةُ بينَ البائِعِ والمُشْتَرِي على السِّلعَةِ وفضلِ ثَمَنِها. انظر النهاية (2/ 382). (¬3) العَرِيرُ: أي دَخِيلًا غَرِيبًا ولمْ أكُنْ مِنْ صَمِيمِهِمْ. انظر النهاية (3/ 185). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 97) - سيرة ابن هشام (1/ 303) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 8).

* محاولة الطغاة اغتيال الرسول -صلى الله عليه وسلم-

فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وأجَابُوهُ إِلَى ما دَعاهُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَمِّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ في ذَلِكَ قَصِيدَةً يَمْدَحُهُمْ، ويُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وافَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الحَدْبِ (¬1) عَلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنُّصْرَةِ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ مِنْهَا: إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّها، وصَمِيمُهَا وَإِنْ حُصِّلَتْ أشْرافُ عَبْدِ مَنَافِهَا ... فَفِي هَاشِمٍ أشْرافُهَا، وقَدِيمُهَا وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا ... هُوَ المُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وكَرِيمِهَا تَداعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وسَمِينُهَا ... عَلَيْنا فَلَمْ تَظْفَرْ، وَطَاشَ حُلُومُهَا (¬2) * مُحَاوَلَةُ الطُّغَاةِ اغْتِيَالَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وبَعْدَ فَشَلِ مُفَاوَضَاتِ قُرَيْشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ، اشْتَدَّ مَكْرُ زُعَمَائِهَا، وأجْمَعُوا عَلَى قتلِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا كَانَ مَساءُ اللَّيْلَةِ التِي عَرَضُوا فِيهَا عُمارَةَ بنَ الوَليدِ عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فُقِدَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجاءَ أَبُو طَالِبٍ وعُمُومَتُهُ إِلَى مَنْزِلهِ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَجَمَعَ أَبُو طَالِبٍ فِتْيانًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وبَنِي المُطَّلِبِ ثُمَّ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ حَدِيدَةً صَارِمَةً، ثُمَّ لِيَتْبَعْنِي إِذَا دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَلْيَنْظُرْ كُلُّ فَتًى مِنْكُمْ فَلْيَجْلِسْ إِلَى عَظِيمٍ مِنْ عُظَمائِهِمْ فِيهِمْ ابنُ الحَنْظَلِيَّةِ، يَعْنِي أبا جَهْلٍ، فَإِنَّهُ ¬

_ (¬1) الحَدْبُ: العَطْفُ. انظر النهاية (1/ 337). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 306).

لَمْ يَغِبْ عَنْ شَرٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ. فَقَالَ الفِتْيانُ: نَفْعَلُ، فَجاءَ زَيْدُ بنُ حارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- فَوَجَدَ أبَا طَالِبٍ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، فَقَالَ: يا زَيْدُ: أحْسَسْتَ ابنَ أخِي؟ قَالَ: نَعَمْ كُنْتُ مَعَهُ آنِفًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لا أدْخُلُ بَيْتيَ أبَدًا حَتَّى أراهُ، فَخَرَجَ زَيْدٌ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ فِي دَارِ الأَرْقَمِ، ومَعَهُ أصْحَابُهُ يَتَحَدَّثُونَ، فأخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَجاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يا ابْنَ أخِي أيْنَ كُنْتَ؟ أَكُنْتَ في خَيْرٍ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: نَعَمْ، قَالَ: ادْخُلْ بَيْتَكَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أصْبَحَ أَبُو طَالِبٍ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَوَقَفَ بِهِ عَلَى أنْدِيَةِ قُرَيْشٍ، ومَعَهُ الفِتْيانُ الهَاشِمِيُّونَ والمُطَّلِبِيُّونَ، فَقَالَ: يا مَعْشَرَ قُريْشٍ هَلْ تَدْرُونَ ما هَمَمْتُ بِهِ؟ قَالُوا: لا، فَأَخْبَرَهُمُ الخَبَرَ، وَقَالَ لِلْفِتْيَانِ: اكْشِفُوا عَمَّا في أيْدِيكُمْ، فكشَفُوا، فإذا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَهُ حَدِيدَةٌ صَارِمَةٌ، فَقَالَ: واللَّهِ لَوْ قَتَلْتُمُوهُ ما بَقيت مِنْكُمْ أحَدًا حَتَّى نَتَفَانَى نَحْنُ وأنْتُمْ، فانْكَسَرَ القَوْمُ، وَكَانَ أشَدُّهُمُ انْكِسارًا أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى (¬1). ورَوى البَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُما قَالَ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ تَوَاصَوْا بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيَقْتُلُوهُ، مِنْهُمْ: أَبُو جَهْلٍ، والوَلِيدُ بنُ المُغِيرَةِ، وَنفَرٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا سَمِعُوا قِراءَتَهُ أرْسَلُوا الوَليدَ لِيَقْتُلَهُ، فانْطَلَقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى المَكَانِ الذِي كَانَ يُصَلِّي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ، فَجَعَلَ يَسْمَعُ قِراءتَهُ وَلَا يَراهُ، فانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ ذَلِكَ، فأَتَاهُ أَبُو ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لأبي سعد (1/ 97).

جَهْلٍ، والْوَلِيدُ، ونَفَرٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى المَكَانِ الذِي هُوَ فِيهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي سَمِعُوا قِراءَتَهُ، فَيَذْهَبُونَ إِلَى الصَّوْتِ فَإِذا الصَّوْتُ مِنْ خَلْفِهِمْ، فَيَنتهُونَ إِلَيْهِ فَيَسْمَعُونَ أَيْضًا مِنْ خَلْفِهِمْ، فانْصَرَفُوا وَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَذَلِكَ قَوْلهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (¬1). وَلَمْ تَزَلْ فِكْرَةُ اغْتِيالِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَزْدادُ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ وغَيْرُهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا ما تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وشَتْمِ آبَائِنَا، وتَسْفِيهِ أحْلامِنَا، وشَتْمِ آلِهَتِنَا، وإنِّي أُعاهِدُ اللَّه لَأَجْلِسَنَّ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ ما أُطِيقُ حَمْلَهُ، فَإِذا سَجَدَ فِي صَلاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ، فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوِ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنافٍ مَا بَدَا لَهُمْ، فَقَالُوا: واللَّهِ ما نُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أبَدًا، فامْضِ لِمَا تُرِيدُ. فَلَمَّا أصبَحَ أَبُو جَهْلٍ أخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ، ثُمَّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنتظِرُهُ، وَغَدا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا كَانَ يَغْدُو، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ وَقِبْلَتُهُ إِلَى الشَّامِ، فَكَان إِذَا صَلَّى صَلَّى بَيْنَ الرّكْنِ اليَمانِيِّ والحَجَرِ الأَسْوَدِ، وجَعَلَ الكَعْبَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّامِ، فَقامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي، وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ فَجَلَسُوا في أنْدِيَتهِمْ يَنتظِرُونَ ما أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- احْتَمَلَ ¬

_ (¬1) سورة يس آية (9)، والخبر في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 196).

أَبُو جَهْلٍ الحَجَرَ، ثُمَّ أقبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا مُنْتَقِعًا (¬1) لَوْنُهُ مَرْعُوبًا، قَدْ يَبِسَتْ يَداهُ عَلَى حَجَرِهِ، حَتَّى قَذَفَ الحَجَرَ مِنْ يَدِهِ، وقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: مالَكَ يَا أبَا الحَكَمِ؟ قَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ ما قُلْتُ لَكُمُ البَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الإِبِلِ، لا واللَّهِ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هامَتِهِ (¬2) وَلَا مِثْلَ قَصَرَتِهِ (¬3) وَلَا أَنْيابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي. قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: "ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) مُنْتَقِع: متغير. انظر لسان العرب (14/ 267). (¬2) الهَامَةُ: الرَّأسُ. انظر لسان العرب (15/ 162). (¬3) القَصَرَةُ: أصلُ العُنُقِ. انظر لسان العرب (11/ 189). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 335) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 206) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 190).

إسلام حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-

إِسْلامُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- (¬1) وَخِلَالَ هَذَا الْجَوِّ الْمَشْحُونِ بِالظُّلْمِ والطُّغْيانِ أَسْلَمَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ عَمُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخُوة مِنَ الرَّضاعَةِ، وَكانَ -رضي اللَّه عنه- أسَنَّ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ والْأَوَّلُ أَصَحُّ (¬2). * سَبَبُ إِسْلامِهِ -رضي اللَّه عنه-: وَسَبَبُ إِسْلامِهِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ أَبا جَهْلٍ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ الصَّفا فَآذَاهُ، وشَتَمَهُ، وَنالَ مِنْهُ بَعْضَ ما يَكْرَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَاكِتٌ لَا يُكَلِّمُهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، وَكَانَتْ مَوْلاةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَدْعانَ في مَسْكَنٍ لَهَا عَلَى الصَّفَا تَسْمَعُ ذَلِكَ، فَلَم يَلْبَثْ أَنْ أَقْبلَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) اختُلِفَ في سَنَةِ إسلامِهِ -رضي اللَّه عنه-، فعنْدَ ابن سعد في طبقاته (3/ 7) بسند ضعيفٍ: أنهَا في السنَةِ السَّادسةِ منَ البعثَةِ. وقِيل: في السنةِ الثانيِةِ منَ البِعثةِ، وبه جزمَ الحافظُ في الإصابةِ (2/ 105)، وابنُ الأثير في أسد الغابة (2/ 50). (¬2) قال ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 423): قيل: إِنَّ حَمزة -رضي اللَّه عنه- أسَنُّ مِنْ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأربعِ سنينَ، وهذا لا يَصِحُّ عندي؛ لأنَّ الحديثَ الثابِتَ أن حمزة وأبا سَلَمة عبد اللَّه بن عبدِ الأسد، أرضَعَتْهُما ثُوَيْبَةُ مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أَنْ تكونَ أرضعتهُما في زَمانَيْنِ.

مُتَوَشِّحًا (¬1) قَوْسَهُ راجِعًا مِنْ قَنْصٍ (¬2) لَهُ. فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَوْلاةُ، قالَتْ لَهُ: يَا أبَا عُمَارَةَ! لَوْ رَأَيْتَ ما لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٌ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ، وَجَدَهُ هَاهُنَا جَالِسًا فَآذَاهُ وَسَبَّهُ، وبَلَغَ مِنْهُ ما يَكْرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ. فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- الغَضَبُ لِمَا أرادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرامَتِهِ -وَكَانَ حَمْزَةُ أَعَزَّ فَتًى في قُرَيْشٍ وَأَشَدَّ شَكِيمَةً (¬3) - فانْطَلَقَ يَسْعَى مُصَمِّمًا أَنَّهُ إِذَا لَقِيَ أبَا جَهْلٍ بَطَشَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إِلَيْهِ جالِسًا في الْقَوْمِ، فَأقبلَ نَحْوَهُ حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ القَوْسَ، فَضَرَبَهُ بِهِ، فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أتَشْتُمُ ابْنَ أخِي وأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ ما يَقُولُ؟ فَرُدَّ عَلَيَّ ذَلِكَ إنِ اسْتَطَعْتَ، فَقامَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أبَا جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أبَا عُمَارَةَ، فَإِنِّي واللَّهِ قَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا. وَعَادَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَيْتهِ، وَقَدْ ساوَرَتْهُ الْوَسَاوِسُ الشَّيْطَانِيَّةُ والهَواجِسُ النَّفْسِيَّةُ، كَيْفَ ترَكْتَ دِينَ قَوْمِكَ، واتَّبَعْتَ هَذَا الصَّابِئَ، لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ، ثُمَّ الْتَمَسَ -رضي اللَّه عنه- التَّوْفِيقَ والرُّشْدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ في قَلْبِي، وإلَّا فاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ مَخْرَجًا، فبَاتَ ¬

_ (¬1) مُتَوَشِّحًا: أي مُتَقَلِّدًا. انظر لسان العرب (15/ 306). (¬2) القَنَصُ: الصَّيْدُ. انظر لسان العرب (11/ 319). (¬3) يُقال: فلانٌ شديدُ الشَّكِيمَةِ: إذا كان عَزيزَ النفْسِ أبِيًّا قَويًا. انظر النهاية (2/ 444).

-رضي اللَّه عنه- بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ مِثْلَهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطانِ حَتَّى أصْبَحَ، فَغَدا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: يا ابْنَ أخِي! إنِّي وَقَعْتُ في أمْرٍ لا أعْرِفُ المَخْرَجَ مِنْهُ، وإقامَةُ مِثْلِي عَلَى مَا لَا أَدْرِي: أَرُشْدٌ هُوَ أمْ غَيٌّ شَدِيدٌ (¬1)! ! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثهِ الذِي يُنِيرُ القُلُوبَ، ويُطَمْئِنُ النُّفُوسَ، ويُذْهِبُ ظُلُمَاتِ الشَّكِّ والوَسَاوِسِ، فَذَكَّرَهُ وبَشَّرَهُ، وأنْذَرَهُ، فَثبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الإيمَانَ في قَلْبِهِ، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: أشْهَدُ إنَّكَ لَصادِقٌ، فَأَظْهِرْ دِينَكَ يا ابْنَ أخِي، فَواللَّهِ ما أُحِبُّ أَنَّ لِي ما أظَلَّتْهُ السَّماءُ، وأَنَا عَلَى دِينيَ الْأَوَّلِ. وسُرَّ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِسْلامِ عَمِّهِ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- أيَّما سُرُورٍ، وعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ عَزَّ وامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ (¬2). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وكمَا يَقُولُ البَعْضُ طَلَبْنَا العِلْمَ لِلدُّنْيَا فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلدِّينِ (¬3)! كَانَ إسْلامُ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- أوَّلَ الأَمْرِ ¬

_ (¬1) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النَّبوِيَّة (1/ 300): هذا يدلُّ على حصَافَةٍ في العقلِ، وأصَالةٍ في التفكيرِ، واعتدِادٍ بالنَّفْسِ، وَأَنَّ القوم كانوا أصحابَ عُقُولٍ ومَواهِبَ، وأنَّهُمْ كانوا أهلًا لكل تَوْجيهٍ نَبَوِيٍّ كَريمٍ حتى صارُوا خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنَّاسِ. (¬2) أخرج قِصةَ إسلام حمزةَ بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه-: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر إسلام حمزة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4930) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 328) - وإسناده صحيح. (¬3) قائِلُ هذهِ العبارةِ: هُوَ الإِمَامُ البحر أبو حامد الغزالي، المتوفى سنة 505 هـ. قال عنه الذهبي في السير (19/ 322): الشيخ الإمام البحر، حجة الإِسلام، أعجوبة =

أَنَفَةَ رَجُلٍ أبَى أَنْ يُهَانَ ابْنُ أخِيهِ، ثُمَّ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ فاسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، واعْتَزَّ بِهِ المُسْلِمُونَ أيَّمَا اعْتِزازٍ (¬1). * * * ¬

_ = الزمان، زين الدين أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، صاحب التصانيف، والذكاء المفرط. (¬1) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 116.

إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-

إسْلامُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ (¬1) -رضي اللَّه عنه- ثُمَّ أيَّدَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعَالَى الإِسْلَامَ والمُسْلِمِينَ بإِسْلامِ الفارُوقِ عُمَرَ بنِ الخَطّابِ العَدَوِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِحِدَّةِ الطَّبْعِ وقُوَّةِ الشَّكِيمَةِ، وَكَانَ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَداوَةً للمُسْلِمِينَ، وطالَما لَقُوا مِنْهُ ألْوانَ الْأذَى حتَّى يَئِسُوا مِنْ إسْلامِهِ. * دُعاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلامَ بِأَحَبِّ ¬

_ (¬1) هو عُمَرُ بن الخَطَّابِ بنِ نُفَيْل القُرَشِيُّ العَدَوِيُّ، أبو حفصٍ، أميرُ المؤمنينِ، كَانَ فِي أوَّلِ الأَمْرِ شَدِيدًا عَلى المُسلمِينَ، ثُمَّ أسلمَ، فَكَانَ إسلامُهُ فتحًا لَهُمْ، وفَرَجًا لهم من الضِّيقِ. قال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: ما عبَدْنا اللَّه جَهْرًا حتَّى أسلمَ عُمَرُ. ويكفِي في فَضْلِهِ -رضي اللَّه عنه- ما جاء في الصحيح: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأى الناسَ وعليهِمْ قُمُصٌ، منهَا مَا يبلُغُ الثَّدْيَ، ومنها دونَ ذلك، ورأى عمرَ فإذا عليه قَمِيصٌ يَجُرهُ، فأوَّلَهُ الدِّين، ورأى أنه أُتي له بِقَدَحٍ من لبنٍ، فشربَ وأعطى فضْلَهُ عُمَرَ، وأوَّلَهُ العِلْمَ. كانت خلافتُه -رضي اللَّه عنه- عشرَ سنينَ وستةَ أشهرٍ، ضرَبَهُ أَبُو لؤْلُؤَةَ المجُوسي قبَّحه اللَّه لأربعٍ بَقِينَ من ذي الحجة، ومكَثَ ثَلاثًا وتُوفي، وقُبِرَ مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبِي بكر، تُوفي وهو ابنُ ثمان أو تسع وخمسون سنة. انظر تهذيب التهذيب (3/ 222).

* بداية اللين عند عمر -رضي الله عنه-

هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِأَبِي جَهْلِ بنِ هِشَامٍ، أَوْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ"، فَكَانَ أحَبَّهُما إِلَيْهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ (¬1). ورَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُرسَلٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كان النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَأَى عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، أَوْ أبا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ قَالَ: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ دِينَكَ بِأَحَبِّهِمَا إلَيْكَ" (¬2). وَرَوَى الْحاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ خاصَّةً" (¬3). * بِدايَةُ اللِّينِ عِنْدَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: ذَكَرْنا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- كَانَ مِنْ أشَدِّ النّاسِ عَلَى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخبار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ باب ذكر البيانِ بأنَّ عِزَ المسلمين بإسلام عمر - رقم الحديث (6881) وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (5696) وأخرجه أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (312) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب في مناقب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4013). (¬2) أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 142) - وأورده الحافظ في الفتح (7/ 404) - وصحح إسناده إلى سعيد بن المسيب. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ومن مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رقم الحديث (4541) - وأورده الحافظ في الفتح (7/ 404) وصحح إسناده - وأخرجه ابن ماجه في سننه - في المقدمة - باب فضائل عمر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (105) - وإسناده ضعيف.

المُسْلِمِينَ، حَتَّى يَئِسَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ مِنْ إسْلامِهِ، لَكِنْ لَمَّا أرَادَ اللَّهُ لَهُ الهِدَايَةَ صَدَرَتْ مِنْهُ -رضي اللَّه عنه- بَعْضُ التَّصَرُّفاتِ التِي تُعْطِي الأَمَلَ بإسْلامِهِ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضائِلِ الصَّحَابَةِ، والحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ لَيْلَى بِنْتِ أَبِي حَثَمَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْجِ الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ عامِرِ بنِ رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَتْ: إنَّا لَنَرتَحِلُ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عامِرٌ في بَعْضِ حَاجَاتِنا، إِذْ أقْبَلَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ، وهُوَ عَلَى شِرْكِهِ، قَالَتْ: وكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ البَلَاءَ أذًى لَنَا، وَشِدَّةً عَلَيْنا. فَقَالَ عُمَرُ: إنَّهُ الانْطِلاقُ يا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، واللَّهِ لَنَخْرُجَنَّ في أَرْضِ اللَّهِ، آذَيْتُمُونَا وقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّه لنَا مَخْرَجًا، فَقَالَ: صَحِبَكُمُ اللَّه. قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ: ورَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ أَحْزَنَهُ فِيمَا رَأَى خُرُوجُنا، قَالَتْ: فَجاءَ عامِرٌ -زَوْجُهَا-، فَقُلْتُ لَهُ: يا أبا عَبْدِ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا، وَرِقَّتَهُ، وحُزْنَهُ عَلَيْنا، قَالَ: أطَمِعْتِ في إسْلَامِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: لا يُسْلِمُ الذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمارُ الخَطَّابِ. قَالَتْ: قَالَ عامِرٌ ذَلِكَ يَأْسًا لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتهِ عَلَى الْإِسْلَامِ (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (371) - والحاكم في =

* إسلام أخته فاطمة وزوجها

* إسْلَامُ أُخْتِهِ فَاطِمَةَ وَزَوْجِهَا: وَكَانَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَدْ سَبَقَتْهُ إِلَى الْإِسْلَامِ هِيَ وَزَوْجُها سَعِيدُ بنُ زَيْدٍ وَهُوَ أحَدُ العَشَرَةِ المبشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وهُوَ ابْنُ عَمِّهَا، وكانَا يُخْفِيانِ إسْلامَهُمَا، وَكانَ خَبَّابُ بنُ الْأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه- مِنْ قُدَماءَ المُسْلِمِينَ يَخْتَلِفُ إِلَى فاطِمَةَ وزَوْجِها يُقْرِئُها القُرْآنَ (¬1). * قِصَّةُ إِسْلَامِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَيْتهِ أخَذَ يُفَكِّرُ في أمْرِ لَيْلَى بِنْتِ أَبِي حَثَمَةَ وزَوْجِهَا عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ، وكَيْفَ تَفَرَّقَتْ قُرَيْشٌ، وهَاجَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى الحَبَشَةِ، فَقَالَ: كَيْفَ يَحْدُثُ هَذَا؟ مَنْ وَراءَ كُلِّ هَذه الأَحْدَاثِ؟ وَراءَ كُلِّ هَذِهِ الأَحْدَاثِ مُحَمَّدٌ فَعَزَمَ عَلَى قتلِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَخَرَجَ -رضي اللَّه عنه- مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ قتلَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْتَمعُ مَعَ أصْحَابِهِ في بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أرْبَعِينَ ما بَيْنَ رِجالٍ وَنساءٍ، مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وحَمْزَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أجْمَعِينَ آثرُوا المُقامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَى الحَبَشَةِ. ¬

_ = المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أم عبد اللَّه ليلى بنت أبي حثمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6979). (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 380) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 120) - البداية والنهاية (3/ 86).

فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ العَدَوِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ، فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُ يا عُمَرُ؟ قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا هَذَا الصَّابِئَ، الذِي فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ، وسَفَّهَ أحْلامَهَا، وَعَابَ دِينَهَا، وَسَبَّ آلِهَتَها، فَأَقْتُلَهُ! . فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: واللَّهِ لَقَدْ غَرَّتْكَ نَفْسُكَ يا عُمَرُ! أترَى بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، وبَنِي زُهْرَةَ تارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الأَرْضِ، وَقَدْ قتلْتَ مُحَمَّدًا؟ . أَفَلَا تَرْجعُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ؟ قَالَ: وَأَيُّ أَهْلِ بَيْتي؟ قَالَ: أُخْتُكَ فَاطِمَةُ، وزَوْجُها سَعِيدُ بنُ زَيْدٍ قَدْ واللَّهِ أَسْلَمَا، وتَابَعَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينهِ، وتَرَكَا دِينَكَ الذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، فارْجعْ إِلَى أَهْلِ بَيْتكَ، فَأَقِمْ أمْرَهُمْ. فَرَجَعَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عامِدًا إِلَى أُخْتِهِ وزَوْجِهَا، وعِنْدَهُما خَبَّابُ بنُ الْأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه- مَعَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا (سُورَةُ طَهَ) يُقْرِئُهُما إيَّاهَا -وَكَانَ خَبَّابٌ يَخْتَلِفُ إلَيْهِما ويُقْرِئُهُما القُرآنَ- وفي رِوايَةٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْمَعُ الرَّجُلَ والرَّجُلَيْنِ إِذَا أسْلَما عِنْدَ الرَّجُلِ الذِي في يَدِهِ السَّعَةُ يَكُونَانِ مَعَهُ يُصِيبَانِ مِنْ طَعَامِهِ، وَقَدْ ضَمَّ إِلَى زَوْجِ أُخْتِ عُمَرَ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ أَسْلَمَ أحَدُهُمَا: خَبَّابٌ، فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ، تَغَيَّبَ خَبَّابٌ -رضي اللَّه عنه- في مَخْدَعٍ (¬1) لَهُمْ، وأخَذَتْ فاطِمَةُ الصَّحِيفَةَ فَجَعَلَتْها فَخِذَها -أيْ تَحْتَ فَخِذِها-، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إِلَى البَيْتِ قِراءَةَ خَبَّابٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِما قَالَ: ما هَذِهِ الهَيْنَمَةُ (¬2) التِي سَمِعْتُها عِنْدَكُمْ؟ فَقَالا: مَا عَدَا حَدِيثًا ¬

_ (¬1) المَخْدَعُ: هوَ البيتُ الصَّغيرُ الذي يكون داخلَ البيتِ الكبيرِ. انظر النهاية (2/ 15). (¬2) الهَيْنَمَةُ: الكلامُ الخَفِيُّ الذي لا يُفهم. انظر لسان العرب (15/ 148).

تَحَدَّثْنَاهُ بَيْنَنَا، قَالَ: فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوتُمَا؟ فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بنُ زَيْدٍ زَوْجُ فاطِمَةَ: يَا عُمَرُ أرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الحَقُّ في غَيْرِ دِينِكَ؟ فَضَرَبَ عُمَرُ سَعِيدَ بنَ زَيْدٍ ضَربَةً شَدِيدَةً، فَسَقَطَ، فَقامَتْ فاطِمَةُ لَتَمْنَعَ زَوْجَها سَعِيدًا مِنْ عُمَرَ، فَضَرَبَهَا عُمَرُ فَشَجَّهَا حَتَّى سَالَ مِنْهَا الدَّمُ، فَلَمَّا فَعَلَ عُمَرُ بِهِمْ ذَلِكَ قَالا لَهُ: نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا، وآمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولهِ، فاصْنَعْ ما بَدا لَكْ! ! . فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ ما بِأُخْتِهِ مِنَ الدَّمِ نَدِمَ عَلَى ما صَنَعَ، وارْعَوَى (¬1)، وهَدَأَتْ نَفْسُهُ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: أعْطِينِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ التِي سَمِعْتُكُمْ تَقْرَأُونَها آنِفًا، أنْظُرْ ما هَذَا الذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -وَكانَ عُمَرُ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ- فَقالَتْ لَهُ أُخْتُهُ فاطِمَةُ: إنَّا نَخْشاكَ عَلَيْهَا، قَالَ: لا تَخافِي، وحَلَفَ لَهَا بآلِهَتِهِ لَيَرُدَّنَّهَا إلَيْهَا إِذَا قَرَأَها، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، طَمِعَتْ في إسْلامِهِ، فَقالَتْ لَهُ: يا أخِي إنَّكَ نَجِسٌ عَلَى شِرْكِكَ، وإنَّهُ لا يَمَسُّها إِلَّا المُطَهَّرُونَ، فَقُمْ فاغْتَسِلْ، فَقامَ عُمَرُ فاغْتَسَلَ، فَأَعْطَتْهُ الصحِيفَةُ، فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬2). حَتَّى انتهَى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3). ¬

_ (¬1) ارْعَوَى: كفَّ وارْتَدَع. انظر لسان العرب (5/ 253). (¬2) سورة طه آية (1 - 5). (¬3) سورة طه آية (14).

فَرَقَّ قَلْبُهُ، وَقَالَ: ما أحْسَنَ هَذَا الكَلَامَ وأكْرَمَهُ، ما يَنْبَغِي لِمَنْ يَقُولُ هَذَا الكَلَامَ أَنْ يُعْبَدُ مَعَهُ غَيْرُهُ، دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ خَبَّابٌ خَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ له: أَبْشِر يا عُمَرُ، فَإِنِّي واللَّهِ لَأَرجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ بِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أَوْ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ"، فَاللَّهَ اللَّه يا عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَدُلَّنِي يا خَبَّابُ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ، فَقَالَ له خَبَّابٌ: هُوَ في دارِ أَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ بِأَسْفَلِ الصَّفَا، مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ، فتَوَشَّحَهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَصْحَابِهِ في دَارِ الأَرْقَمِ، فَضَرَبَ البَابَ، فَقامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فنَظرَ مِنْ خَلَلِ (¬1) البابِ فَرَآهُ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ فَزِعٌ، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، وَوَجِلَ القَوْمُ، فَقَالَ لَهُمْ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه-: مَا لَكُمْ؟ قَالُوا: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ: افْتَحُوا لَهُ البَابَ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْناهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرًّا قتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ائْذَنْ لَهُ"، فَفَتَحُوا لَهُ، ونَهَضَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى لَقِيَهُ، فَأَخَذَ بِمَجامِعِ ثَوْبِهِ، ثُمَّ جَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَمالَكَ عُمَرُ أَنْ وَقَعَ عَلَى رُكبتَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا جَاءَ بِكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ؟ ، فَواللَّهِ مَا أرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ قَارِعَةً". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جِئْتُ لِأُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ ¬

_ (¬1) خَلَلُ البابِ: شِقُّ البابِ أو الفُرْجَةُ. انظر النهاية (2/ 69).

* قصة أخرى في خبر إسلامه -رضي الله عنه-

اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ. فكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَكْبِيرَةً، عَرَفَ مِنْهَا أَهْلُ البَيْتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَبَّرَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَكْبِيرَةً سَمِعَها أَهْلُ مَكَّةَ (¬1). * قِصَّةٌ أُخْرَى فِي خَبَرِ إِسْلَامِهِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لِانْقِطاعِهِ عَنْ شُرَيْحِ بنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: خَرَجْتُ أتَعَرَّضُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى المَسْجِدِ، فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا واللَّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج قِصةَ إسلام عمر -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمدُ في فضائل الصحابة - رقم الحديث (376) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب استقامة فاطمة على الإِسلام - رقم الحديث (6981) - وابن سعد في طبقاته (3/ 142) - وسندها ضعيف - وأخرجها ابن إسحاق في السيرة (1/ 381) بدون سند. قال الإمام البخاري فيما نقله عنه الحافظ في لسان الميزان (5/ 502) في ترجمة: قاسم بن عثمان البصري - أحدِ رُواةِ قِصةِ إسلامِ عُمر -رضي اللَّه عنه-: له أحاديث لا يتابع عليها. وقال الحافظ في لسان الميزان (5/ 503): في ترجمةِ قاسمِ بنِ عُثمان البصري حدث عنه إسحاق الأزرقُ بمتنٍ محفُوظٍ، وبقصَّة إسلام عُمَر -رضي اللَّه عنه-، وهي مُنْكَرَةٌ جِدًا. (¬2) سورة الحاقة آية (41).

* متى كان إسلام عمر -رضي الله عنه-؟

قُلْتُ: كَاهِنٌ، قَالَ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬1) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ -رضي اللَّه عنه-: فَوَقَعَ الإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ (¬2). * مَتَى كَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-؟ وَقَعَ عِنْدَ ابنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬3) أَنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- كَانَ فِي ذِي الحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْبِعْثَةِ، وهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ أسْلَمَ أبُوهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- كَانَ عُمُرُهُ سِتَّ سِنِينَ كَمَا عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬4)، وقَدِ اسْتُصْغِرَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وهُوَ ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وكَانَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، فعَلَى هَذَا يَكُونُ إسْلَامُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- قَبْلَ الهِجْرَةِ بِنَحْوٍ مِنْ أرْبَعِ سِنِينَ وذَلِكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْبِعْثَةِ، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬5). وكَانَ -رضي اللَّه عنه- فِي السَّادِسَةِ والعِشْرِينَ مِنْ عُمُرِهِ يَوْمَ أَسْلَمَ، بَعْدَ أَنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَارَ الأَرْقَمِ، وبَعْدَ أرْبَعِينَ نَفْسًا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ أحْرَارًا، قَدْ أسْلَمُوا قَبْلَهُ (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الحاقة آية (42 - 47). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (107). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 143). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (3/ 143). (¬5) انظر البداية والنهاية (3/ 89) - وفتح الباري (7/ 571). (¬6) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 143).

* انتشار خبر إسلامه -رضي الله عنه-

* انْتِشَارُ خَبَرِ إِسْلَامِهِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ والإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، لَمْ تَعْلَمْ قُرَيْشٌ بِإِسْلَامِهِ، فَقَالَ: أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ قَالَ: قِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بنُ مَعْمَرٍ الجُمَحِيُّ (¬1)، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ، أنْظُرُ مَا يَفْعَلُ، وأَنَا غُلَامٌ، أعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ، فَأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَمَا عَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي قدْ أسْلَمْتُ، ودَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ؟ قَال: فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وأَتْبَعُهُ عُمَرُ، واتَّبَعْتُ أَبِي، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! -وَهُمْ فِي أنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الكَعْبَةِ-، ألَا إِنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، ولَكِنِّي قَدْ أسْلَمْتُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ ويُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، ونَالَ مِنْهُ الْإِعْيَاءُ (¬2) فَقَعَدَ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلَّةٌ (¬3) حَتَّى وَقَفَ ¬

_ (¬1) هو جميلُ بنُ معمرِ بنِ حبيبٍ الجُمَحِيُّ، وكان لا يكتُمُ ما استُودِعه مِنْ سِرٍّ، وخبره في ذلكَ مع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- مشهورٌ لمَّا أسلم عمر، أسلمَ جميلٌ عام الفتح، وكان مُسِنًّا وشهدَ مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُنَينًا، ومات فِي خلافةِ عُمر، وحزنَ عليهِ عُمر حُزنًا شديدًا. (¬2) أي عَجَزَ وتَعِبَ. انظر النهاية (3/ 301). (¬3) الحُلَّةُ: واحدةُ الحُلَلِ، وهِيَ بُرودُ اليَمَنِ، ولا تُسمَّى حُلَّة إلا أن تكونَ ثَوبيْنِ منْ جِنْسٍ واحِدٍ. انظر النهاية (1/ 415).

* زحف المشركين لقتل عمر -رضي الله عنه-

عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: فَمَهْ؟ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أتُرِيدُونَ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا؟ خَلُّوا عَنِ الرَّجُلِ، قَالَ: فَتَرَكُوهُ. قَالَ ابنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ: يَا أَبَتِ! مَنِ الرَّجُلُ الذِي زَجَرَ القَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أسْلَمْتَ، وهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ فَقَالَ: ذَاكَ العَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ (¬1). قَالَ ابنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ، قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَبَتِ! مَنِ الرَّجُلُ الذِي زَجَرَ القَوْمَ عَنْكَ يَوْمَ أسْلَمْتَ، وهُمْ يُقَاتِلُونَكَ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، ذَاكَ العَاصُ بنُ وَائِلٍ، لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا (¬2). * زَحْفُ المُشْرِكِينَ لِقَتْلِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ زَحَفَ المُشْرِكُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب مناقب الصحابة - باب وصف إسلام عمر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6879) - والإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (372) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 89) - وقال: إسناده جيد قَويّ. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 387).

* عزة المسلمين

الدَّارِ -أيْ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ- خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ العَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونَنِي أَنْ أسْلَمْتُ، قَالَ: لَا سَبِيلَ إلَيْكَ، فَخَرَجَ العَاصُ، فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الذِي صَبَأَ، قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ (¬1)، قَالَ: فكَرَّ (¬2) النَّاسُ (¬3). * عِزَّةُ المُسْلِمِينَ: وَبِإِسْلَامِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- عَزَّ الإِسْلَامُ والمُسْلِمُونَ، وصَارُوا يَغْشَوْنَ الكَعْبَةَ ويَطُوفُونَ حَوْلَهَا، ويُصَلُّونَ لَا يَخَافُونَ قُرَيْشًا. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- (¬4). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: لِمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الجَلَدِ والقُوَّةِ فِي أمْرِ اللَّهِ تَعَالَى (¬5). ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، والحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في الصحيح، قال العاص بن وائل: فأنا له جار. (¬2) كَرَّ: رجَع. انظر لسان العرب (12/ 64). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3864) (3865). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3684). (¬5) انظر فتح الباري (7/ 404).

* آية نزلت

حَسَنٍ عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ إسْلَامُ عُمَرَ فَتْحًا، وهِجْرتُهُ نَصْرًا، وإمَارَتُهُ رَحْمَةً، واللَّهِ مَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نُصَلِّيَ حَوْلَ البَيْتِ ظَاهِرِينَ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الإِصَابَةِ: ثُمَّ أَسْلَمَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فكَانَ إسْلَامُهُ فَتْحًا عَلَى المُسْلِمِينَ، وفَرَجًا لَهُمْ مِنَ الضِّيقِ (¬2). * آيَةٌ نَزَلَتْ: ذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أنْزَلَ فِي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وأبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: والصَّحِيحُ أَنَّ الآيَةَ عَامَّةٌ، يَدْخُلُ فِيهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ (¬4). ¬

_ (¬1) قُلْتُ: يُرِيدُ ابنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- الضُّعَفَاءَ مِنْهُمْ، وإلَّا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وحَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وأمْثَالُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَنْ لَهُ مَنَعَةٌ يُصَلُّونَ عِنْدَ الكَعْبَةِ. والخبر أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (307) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب النهي عن لبس الديباج والحرير - رقم الحديث (4543). (¬2) انظر الإصابة (4/ 484). (¬3) سورة الأنعام آية (122). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (3/ 330).

وَقَالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيَّبِ، وسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬1). قَالَا: إِنَّ هَذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَمُلَ بِهِ الأَرْبَعُونَ. وَرَدَّ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَإِسْلَامُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- كَانَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَاللَّه أعْلَمُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (65). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 87).

إغراءات قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم-

إغْرَاءَاتُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَاضٍ فِي دَعْوَتِهِ، وأصْحَابُهُ يَزِيدُونَ ويَكْثُرُونَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَأَنَّ كُلَّ مُحَاوَلَاتِهَا فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَصَرْفِ النَّاسِ عَنِ الاسْتِجَابَةِ لِدَاعِي اللَّهِ تَعَالَى قَدْ فَشِلَتْ، رَأَتْ أَنْ تُجَرِّبَ أُسْلُوبًا آخَرَ مِنَ المُفَاوَضَاتِ والإِغْرَاءَ، تَعْرِضُ فِيهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَالَ، أَوِ الجَاهَ، أَوِ المُلْكَ والسُّلْطَانَ، ظنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ رُبَّمَا يُغْرِيهِ بَرِيقُ هَذهِ العُرُوضِ. * حِوَارُ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى ابنُ إسْحَاقَ: أَنَّ عُتْبَةَ بن ربِيعَةَ (¬1) -وكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وكَانَ قَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ مِنْ عُمُرِهِ- قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكُلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلُّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا، فَنُعْطِيَهُ أيَّهَا شَاءَ، ويَكُفَّ عَنَّا؟ فَقَالُوا: بَلَى يَا أبَا الوَليدِ، قُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ ¬

_ (¬1) هو عتبةُ بنُ ربيعةَ بنِ عبدِ شمسٍ، أَبُو الوليدِ، كبيرُ قُريشٍ وأحدُ ساداتِهَا فِي الجاهليةِ، كان مَوصوفًا بالرأيِ، والحِلْمِ، والفضلِ، خَطِيبًا، نافذَ القولِ، نشَأَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ حَرب بن أميَّة، أدركَ الإِسلامَ، وطَغَى، فشهِدَ بدرًا مع المشركين، وكان ضَخْمَ الجُثَّةِ، عظيمَ الهامةِ، طلبَ خَوْذَةً يلبسُهَا يومَ بدرٍ فلم يجِدْ ما يسَعُ هامَتَهُ، فاعتَجَرَ على رأسِهِ بثوبٍ لَهُ، وقُتلَ فِي غزوةِ بدرٍ الكبرى كَافرًا لعنهُ اللَّه تَعَالَى. انظر كتاب الأعلام للزركلي (4/ 200).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَال: يَا ابْنَ أخِي! إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطَةِ (¬1) فِي العَشِيرَةِ، والمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وسَفَّهْتَ بِهِ أحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ ودِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا، قَالَ: قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُلْ يَا أبَا الْوَليدِ أَسْمَعْ"، قَال: يَا ابْنَ أَخِي! إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لا نَقْطَعَ أمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ، لا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وبَذَلْنَا فِيهِ أمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَمعُ مِنْهُ، قَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أبَا الوَليدِ؟ "، قال: نَعَمْ، قَالَ: "فَاسْتَمعْ مِنِّي"، قَالَ: أفْعَلُ، فَقَال رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (¬2). ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ، أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا يَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ انتهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) وسَطَ فلانٌ فِي حَسَبِهِ سِطَةً: أي كَانَ مِنْ خِيارِ قَومه نَسَبًا وأرفعِهِم مَجْدًا. انظر لسان العرب (15/ 296). (¬2) سورة فصلت آية (1 - 5).

إِلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ سَمِعْتَ يَا أبَا الوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ! " (¬1). وفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: أَنَّ عُتْبَةَ اسْتَمَعَ حتَّى وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى قَوْلهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬2)، فَقَامَ عُتْبَةُ مَذْعُورًا، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ النَّذِيرُ (¬3). قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ النَّدْوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّ ذَلِكَ فِي هُدُوءٍ وتَأَنٍّ، ثُمَّ رَفَضَهُ فِي غَيْرِ شَكٍّ وتَأْخِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا العَرْضُ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى شَخْصِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ التِي يُمَثِّلُهَا ويَقُودُهَا، وَلَمْ يَكُنْ رَفْضُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمَا عَرَضَتْ قُرَيْشٌ، رَفْضًا عَنْ نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ فَقَطْ، بَلْ كَانَ رَفْضًا عَنْ أُمَّتِهِ إِلَى آخِرِ الْأَبَدِ. . . فَاقْتَنَعَتْ قُرَيْشٌ بِهَذِهِ المُحَاوَرَةِ، ويَئِسَتْ مِنْ مُسَاوَمَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَلَمْ تَعُدْ تَعْرِضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُباشَرَةً، وَعَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِوَاسِطَةٍ مَا عَرَضَتْهُ مِنْ قَبْلُ، وقَطَعَتْ مِنْهَا أَمَلَهَا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 330) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 47). (¬2) سورة فصلت آية (13). (¬3) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 204 - 205). (¬4) انظر كتاب إلى الإسلام من جديد لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 13.

* ما أشار به عتبة على قريش

* مَا أشَارَ بِهِ عُتْبَةُ عَلَى قُرَيْشٍ: فَلَمَّا سَمِعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مَا سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ، وَرَجَعَ إلى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الوَليدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أبَا الوَليدِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: ورَائِي أنِّي سَمِعْتُ قَوْلًا، وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، ومَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! أطِيعُونِي واجْعَلُوهَا بِي، وفِي رِوَايَةٍ: أطِيعُونِي فِي هَذَا اليَوْمِ وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، وخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ العَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى العَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أبَا الوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ (¬1). * تَصْوِيرٌ لِمَوْقِفِ قُرَيْشٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطَاوِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وهُوَ يُصَوِّرُ مَوْقِفَ قُرَيْشٍ مِنْ دَعْوَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِقُرَيْشٍ: افتحُوا لِيَ الطَّرِيقَ لِأَخْرُجَ إِلَى الأَرْضِ الفَضَاءِ، فَأَنْصُرَ الضَّعِيفَ، وأُنْجِدَ المَظْلُومَ، وأُعِيدَ ¬

_ (¬1) أخرج قصَّة إرسالِ قريشٍ عُتبة بن ربيعة إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليحاوره: ابن إسحاق في السيرة (1/ 330) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 204 - 205) - وحسن إسنادها الألباني في تحقيقه لفقه السيرة للشيخ محمد الغزالي.

لِلْبَشَرِيَّةِ كَرَامَتَهَا، ولِلْعَقْلِ سُلْطَانَهُ، قَالُوا: لَا. قَالَ: افْسَحُوا لِرِسَالَتِي لِتَنْطَلِقَ فِي الزَّمَانِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِبَلَدٍ وَاحِدٍ، وَلَا لِيَوْمٍ وَاحِدٍ، قَالُوا: لَا! وَلَكِنْ تَعَالَ نُمَلِّكْكَ إِنْ شِئْتَ عَلَيْنَا، ونَمْنَحَكَ أمْوَالَنَا ونَجْعَلَكَ سَيِّدَ هذَا البَلَدِ كُلِّهِ. وسَخِرَ التَّارِيخُ مِنْ قُرَيْشٍ. . . يَدْعُوهُمْ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليُعْطِيَهُمْ سِيَادَةَ الْأَرْضِ، وزَعَامَةَ الدُّنْيَا، ويَضَعَ فِي أيْدِيهِمْ مَفَاتِيحَ الكُنُوزِ: كُنُوزَ المَالِ، وكُنُوزَ العِلْمِ، ويَمْنَحَهُمْ مَا يَمْلِكُ كِسْرَى وقَيْصَرُ، وهُمْ يَدْعُونَهُ لِيُعْطُوهُ إمَارَةَ هَذهِ القَرْيَةِ، النَّائِمَةِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، ورَاءَ رِمَالِ الصَّحْرَاءَ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 13.

تعنت قريش وطلبهم الآيات والمعجزات

تَعَنُّتُ قُرَيْشٍ وَطَلَبُهُمُ الآيَاتِ وَالمُعْجِزَاتِ وهَكَذَا لَمْ تُفْلِحْ طُرُقُ الإِغْرَاءِ، ولَا الْإِرْهَابِ فِي كَفِّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ دَعْوَتِهِ فَهُنَا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تَطْلُبَ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخَوَارِقَ، والمُعْجِزَاتِ المَادِيَّةَ والحِسِّيَّةَ. قَالَ ابنُ إسْحَاقَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَدِيثَ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإغْرَاءَاتِهِمْ لَهُ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا شَيْئًا مِمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أضْيَقَ بَلَدًا، ولَا أقَلَّ مَاءً، وَلَا أشَدَّ عَيْشًا مِنَّا، فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ، فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الجِبَالَ التِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، ولْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، ولْيُفَجِّرْ لَنَا فِيهَا أنْهَارًا كَأنْهَارِ الشَّامِ والعِرَاقِ، ولْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، ولْيَكُنْ فِيمَنْ يَبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ: قُصَيَّ بنَ كِلَابٍ، فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخَ صِدْقٍ، فَنَسْأَلهُمْ عَمَّا تَقُولُ: أحَقٌّ هُوَ أمْ بَاطِلٌ، فَإِنْ صَدَّقَكَ وَصَنَعْتَ مَا سَأَلْنَاكَ صَدَّقْنَاكَ، وعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ، وأنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ، فَقَالَ لَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا بِهَذَا بُعِثْتُ إلَيْكُمْ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، وَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، حتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي

وبَيْنَكُمْ"، قَالُوا: فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا لَنَا، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَعَكَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، ويُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وسَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَكَ جِنَانًا وقُصورًا وكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ، يُغْنِيكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ كَمَا نَقُومُ، وتَلْتَمِسُ المَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُ، حتَّى نَعْرِفَ فَضْلَكَ ومَنْزِلَتَكَ مِنْ رَبِّكَ إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أنَا بِفَاعِلٍ، ومَا أنَا بِالذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا (¬1)، وَمَا بُعِثْتُ إلَيْكُمْ بِهَذَا، ولَكِنَّ اللَّه بَعَثَنِي بَشِيرًا ونَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أصبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ". قَالُوا: فأسْقِطِ السَّمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفًا (¬2)، كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لا نُؤْمِنُ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ". قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أفَمَا عَلِمَ رَبُّكَ أنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ، ونَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، ونَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمَ إلَيْكَ فَيُعْلِمَكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، ويُخْبِرَكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا، إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ؟ . إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكَ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِاليَمَامَةِ، يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا ¬

_ (¬1) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة (1/ 316): لأنه لا يسألُ هذا إلا من جَهِلَ رسالتَهُ، وجهِلَ سُنَنَ ربهِ، ورَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بريءٌ منهما. (¬2) قال ابن هشام في السيرة (1/ 347): الكِسَفُ: القِطَعُ منَ العَذَابِ، وواحدتهُ: كِسْفَةٌ.

* مقالة عبد الله بن أبي أمية المخزومي

وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ! . وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ، ومَا بَلَغْتَ مِنَّا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ المَلَائِكَةَ، وهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَ آخَرُ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِاللَّهِ وَالمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (¬1). * مَقَالَةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ (¬2): فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَامَ عَنْهُمْ، وقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيُّ -وهُوَ ابنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِكَ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَكَ عَلَيْهِمْ، ومَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ العَذَابِ، فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَا أُؤْمِنُ بِكَ أبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إلى السَّمَاءِ سُلَّمًا، ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ، وَأَنَا أنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تَأْتِيَهَا، وتَأْتِيَ مَعَكَ بِنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ، ثُمَّ تَأْتِيَ مَعَكَ أرْبَعَةٌ مِنَ المَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وأَيْمُ اللَّهِ، لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا ظَنَنْتُ أنِّي أُصَدِّقُكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ ¬

_ (¬1) قال ابن هشام في السيرة (1/ 347): القبيلُ: يكونُ مُقابلةً ومُعاينةً، وهو كقوله تَعَالَى في سورة الكهف آية (55): {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} أي عيانًا -والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 333 - 334). (¬2) أسلمَ -رضي اللَّه عنه- في فَتْحِ مكةَ وحسُن إسلامه.

عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أهْلِهِ حَزِينًا آسِفًا مِمَّا فَاتَهُ، مِمَّا كَانَ يَطْمَعُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إيَّاهُ (¬1). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَدَعَا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَلَّمَهُمْ، فَأَبْلَغَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ زَمْعَةُ بنُ الْأَسْوَدِ، والنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، والْأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وأُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، والعَاصُ بنُ وَائِلٍ: لَوْ جُعِلَ مَعَكَ يَا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يُحَدِّثُ عَنْكَ النَّاسَ وَيُرَى مَعَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} (¬2). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَسْيِيرِ الجِبَالِ، وتَقْطِيعَ الأَرْضِ، وبَعْثِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ مِنَ المَوْتَى، قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (¬3). وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قَوْلِهِمْ: خُذْ لِنَفْسِكَ، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جِنَانًا وقُصُورًا وكُنُوزًا، ويَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا يُصَدِّقُهُ بِمَا يَقُولُ ويَرُدُّ عَنْهُ، قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 334 - 335). (¬2) سورة الأنعام آية (8 - 9). (¬3) سورة الرعد آية (31) - والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 345).

الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} (¬1). وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قَوْلِهِمْ، قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ (¬2) وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (¬3)، أيْ: جَعَلْتُ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ بَلَاءً لِتَصْبِرُوا، ولَوْ شِئْتُ أَنْ أجْعَلَ الدُّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا يُخَالَفُوا لفَعَلْتُ. وأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّة: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ ¬

_ (¬1) سورة الفرقان آية (7 - 10) - والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 346). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 100): يقول اللَّه تَعَالَى مُخْبرًا عن جميعَ من بَعَثَهُ من الرُّسل المتقدمينَ: أنَّهم كانوا يأكُلُون الطعامَ، ويحتاجُون إلى التَّغَذِّي به {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} أي: للتكَسُّبِ والتجارَةِ، وليسَ ذلك بمُنَافٍ لحالِهم ومَنْصبهم، فإنَّ اللَّه جعل لهم من السِّمات الحسنةِ، والصِّفاتِ الجميلةِ، والأقوالِ الفاضلةِ، والأعمالِ الكاملةِ، والخوارقِ البَاهِرةِ، والأدلَّة القاهِرَة، ما يَستدلُّ به كل ذِي لُبٍّ سَليم، وبصيرةٍ مُسْتقيمة، على صِدْق ما جاؤُوا به منَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. (¬3) سورة الفرقان آية (20) - والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 346).

* الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طلبوا

خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} (¬1). وأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْلِهِمْ: إنَّا قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكَ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ رَجُلٌ بِاليَمَامَةِ، يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ، ولَنْ نُؤْمِنَ بِهِ أبَدًا: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (¬2). * الحِكْمَةُ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا لِمَا طَلَبُوا: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، والحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ الجِبَالَ عَنْهُمْ، فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ -أيْ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيَهُمُ الذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، بَلْ أسْتَأْنِي بِهِمْ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (90 - 93)، والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 346). (¬2) سورة الرعد آية (20)، والخبر في سيرة ابن هشام (1/ 348). (¬3) سورة الإسراء آية (59) -والحديث أخرجه الإمام أحمد فِي مسنده- رقم الحديث =

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإِلهِيَّةُ، والرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ، ألَّا يُجَابُوا إِلَى مَا سَأَلُوا؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ فَيُعَاجِلَهُمْ بِالعَذَابِ (¬1). وَقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: واللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لَمْ يُجِبْهُمْ عَلَى مَا سَأَلُوا -وهُوَ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ- لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا مُسْتَرْشِدِينَ وجَادِّينَ، وَإِنَّمَا سَأَلُوا مُتَعَنِّتِينَ ومُسْتَهْزِئِينَ، وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ عَايَنُوا وشَاهَدُوا مَا طَلَبُوا لَمَا آمَنُوا، ولَظَلُّوا فِي غَيِّهِمْ، وضَلالِهِمْ يَترَدَّدُونَ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (¬2). وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬3). ¬

_ = (2333) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب سأل أهل مكة أن تتنحى عنهم الجبال - رقم الحديث (3431). (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 57). (¬2) سورة الأنعام آية (109 - 111). (¬3) سورة الأنعام آية (7).

وَلهَذَا اقْتَضتِ الحِكْمَةُ الإِلهِيَّةُ، والرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ ألَّا يُجَابُو عَلَى مَا سَأَلُوا، لِأَنَّ سُنَّتَهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَنَّهُ إِذَا طَلَبَ قَوْمٌ آيَاتٍ فَأُجِيبُوا، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا عَذَّبَهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، كَمَا فَعَلَ بِعَادٍ، وثَمُودَ، وقَوْمِ فِرْعَوْنَ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (¬1). فَلَوْ أُعْطِيَتْ قُرَيْشٌ مَا سَأَلُوا مِنَ الآيَاتِ الحِسِّيَّةِ التِي اقْترَحُوهَا ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا لَأُهْلِكُوا، ولَكِنَّ اللَّه تَعَالَى -جَلَّتْ حِكْمَتُهُ- رَفَعَ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ بِفَضْلِ نَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَحْمَةً، وَلَمْ يَبْعَثْهُ نِقْمَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬2). وَلِهَذَا قِيلَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ بِالخَبَرِ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً" (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (59). (¬2) سورة الأنبياء آية (107) - وانظر كلام الدكتور محمد أبو شهبة فِي كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة (1/ 319 - 320). (¬3) أخرجه الإِمام مسلم فِي صحيحه - كتاب البر والصلة والآداب - باب النهي عن لعن الدواب وغيرها - رقم الحديث (2599).

* القرآن معجزة المعجزات

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُصْبِحْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَإِنْ أَصْبَحَتْ ذَهبًا اتَّبَعْنَاكَ، وعَرَفْنَا أَنَّ مَا قُلْتَ كَمَا قُلْتَ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أصْبَحَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ، فَتَحْنَا لَهُمْ أبْوَابَ التَّوْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا رَبِّ، لَا، بَلِ افْتَحْ لَهُمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ" (¬1). * القُرْآنُ مُعْجِزَةُ المُعْجِزَاتِ: وَلَيْسَ أدَلَّ عَلَى أَنَّ القَوْمَ كَانُوا مُتَعَنِّتِينَ وسَاخِرِينَ، ومُعَوِّقِينَ لَا جَادِّينَ مِنْ أَنَّ عِنْدَهُمُ القُرْآنُ، وهُوَ آيَةُ الآيَاتِ، وبَيِّنَةُ البَيِّنَاتِ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وأوْجُهُ إعْجَازِ القُرْآنِ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا: 1 - حُسْنُ تَأْلِيفِهِ وَالْتِئَامِ كَلِمِهِ مَعَ الإِيجَازِ والبَلاغَةِ. 2 - ومِنْهَا صُورَةُ سِيَاقِهِ وأُسْلُوبِهِ المُخَالِفِ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ أَهْلِ البَلَاغَةِ مِنَ العَرَبِ نَظْمًا ونَثْرًا حَتَّى حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الإتْيَانِ بِشَيْءٍ مِثْلِهِ مَعَ تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ، وتَقْرِيعِهِ لَهُمْ عَلَى العَجْزِ عَنْهُ. 3 - ومِنْهَا مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الأَخْبَارِ عَمَّا مَضَى مِنْ أَحْوَالِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أَحْمد فِي مسنده - رقم الحديث (3223).

والشَّرَائِعِ الدَّائِرَةِ مِمَّا كَانَ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ بَعْضَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ. 4 - ومِنْهَا الإِخْبَارُ بِمَا سَيَأْتِي مِنَ الكَوَائِنِ التِي وَقَعَ بَعْضُهَا فِي العَصْرِ النَّبَوِيِّ، وبَعْضُهَا بَعْدَهُ. 5 - ومِنْهَا الرَّوْعَةُ التِي تَحْصُلُ لِسَامِعِهِ. 6 - ومِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلُّ مِنْ تَرْدَادِهِ، وسَامِعَهُ لَا يَمُجُّهُ، ولا يَزْدَادُ بِكَثْرَةِ التَّكْرَارِ إِلَّا طَرَاوَةً وَلَذَاذَةً. 7 - ومِنْهَا أَنَّهُ آيَةٌ بَاقِيَةٌ لَا تُعْدَمُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا. 8 - ومِنْهَا جَمْعُهُ لِعُلُومٍ، وَمَعَارِفَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهَا وَلَا تَنْتَهِي فَوَائِدُهَا (¬1). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 9). (¬2) سورة العنكبوت آية (50 - 52).

الهجرة الثانية إلى الحبشة

الهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الحَبَشَةِ هُنَا عَادَتْ قُرَيْشٌ إلى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّنْكِيلِ والِاضْطِهَادِ كَأَشَدِّ مَا كَانَتْ، وأغْرَتْ سَائِرَ القَبَائِلِ بِمُضَاعَفَةِ الأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَسَطَتْ (¬1) بِهِمْ عَشَائِرُهُمْ ولَقُوا مِنْهُمْ أذًى شَدِيدًا، حَتَّى بَلَغَ الجَهْدُ واشْتَدَّ عَلَيْهِمُ البَلَاءُ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا أصَابَ أصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ البَلَاءِ أَذِنَ لَهُمْ بِالهِجْرَةِ إِلَى الحَبَشَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَكَانَتِ الهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ أشَقَّ مِنْ سَابِقَتِهَا، ولَقِيَ المُسْلِمُونَ مِنْ قُرَيْشٍ تَعَنِيفًا شَدِيدًا، ونَالُوهُمْ بِالأَذَى. * الشَّكُّ فِي هِجْرَةِ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه-: وكَانَ عِدَّةُ مَنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الهِجْرَةِ مِنَ الرِّجَالِ: ثَلَاثَةٌ وثَمَانُونَ رَجُلًا -إِنْ كَانَ فِيهِمْ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه- فَإِنَّهُ يُشَكُّ فِيهِ، واثْنَانِ وثَمَانُونَ رَجُلًا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ (¬2). قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وشَكَّ ابنُ إسْحَاقَ فِي عَمَّارِ بنِ ¬

_ (¬1) السطو: القهر بالبطش. انظر لسان العرب (6/ 260). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 368).

* وهم ابن إسحاق وغيره

يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه-: هَلْ هَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ أمْ لَا؟ . والأَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ كَالْوَاقِدِيِّ وابْنِ عُقْبَةَ، وغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ (¬1). ومِنَ النِّسَاءِ ثَمَانِي عَشْرَةَ امْرَأَةً: إحْدَى عَشْرَةَ قُرَشِيَّاتٍ، وسَبْعٌ غَيْرُ قُرَشِيَّاتٍ، وذَلِكَ عَدَا أبْنَائِهِمْ الذِينَ وُلدُوا لَهُمْ فِي الحَبَشَةِ (¬2). وكَانَ أَمِيرُهُمْ فِي هَذِهِ الهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ النَّدْوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: واسْتِعْرَاضُ قَائِمَةِ المُهَاجِرِينَ يَدُلُّ عَلَى سَعَةِ الدَّائِرَةِ البَشَرِيَّةِ، وتَنَوُّعِهَا، وشُمُولِهَا لِلطَّبَقَاتِ والمُسْتَوَيَاتِ فِي المُجْتَمَعِ المَكِّيِّ، فَفِيهَا الغَنِيُّ والفَقِيرُ، والكَهْلُ والشَّابُّ، والرِّجَالُ والنِّسَاءُ، ويَنْتَمِي أغْلَبُهُمْ إِلَى أُسْرَةٍ مَكِّيَّةٍ عَرِيقَةٍ، فَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ تَأْثِيرِ الدَّعْوَةِ وقُوَّتِهَا وشُمُولِهَا (¬4). * وَهْمُ ابنِ إسْحَاقَ وغَيْرِهِ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ (¬5)، وابْنِ إسْحَاقَ (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر الرَّوْض الأُنُف (2/ 99). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (1/ 368). (¬3) انظر طبقات ابن سعد (4/ 336). (¬4) انظر كتاب السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي ص 132. (¬5) أخرجه الإِمام أَحْمد فِي مسنده - رقم الحديث (4400) - وإسناده ضعيف، فيه حُدَيْج بن معاوية، وهو ضعيف، ومع ذلك حسن إسناده الحافظ فِي الفتح (7/ 585) - وجوده إسناده الحافظ ابن كثير فِي البداية والنهاية (3/ 76). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (1/ 360) بدون سند.

* وهم آخر لابن إسحاق وغيره

والطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ (¬1)، أَنَّ فِي هَذِهِ الهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ لِلْحَبَشَةِ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، وَعْبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، وجَمَاعَةً مِمَّنْ شَهِدُوا بَدْرًا، وهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، وجَمَاعَةٌ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا وَهْمًا، وإمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قَدْمَةٌ أُخْرَى قَبْلَ بَدْرٍ، فَيَكُونُ لَهُمْ ثَلَاثُ قَدَمَاتٍ: قَدْمَةٌ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وقَدْمَةٌ قَبْلَ بَدْرٍ، وقَدْمَةٌ عَامَ خَيْبَرَ، ولذَلِكَ قَالَ ابنُ سَعْدٍ، وغَيْرُهُ: إِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا مُهَاجَرَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وثَلَاثُونَ رَجُلًا، ومِنَ النِّسَاءِ ثَمَانُ نِسْوَةٍ، فمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَحُبِسَ بِمَكَّةَ سَبْعَةٌ، وشَهِدَ بَدْرًا مِنْهُمْ أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ رَجُلًا (¬2). * وَهْمٌ آخَرُ لِابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ: قُلْتُ: وَقَعَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ (¬3)، وابْنِ إسْحَاقَ (¬4)، والبَيْهَقِيِّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ (¬5) أَنَّ أبَا مُوسَى الأشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- فِيمَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الحَبَشَةِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (344) - وإسناده ضعيف، لضعف حُدَيْج بن معاوية. (¬2) انظر زاد المعاد (3/ 23). (¬3) أخرجه الإِمام أَحْمد في مسنده - رقم الحديث (4400) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (344) - وإسناده ضعيف لضعف حُدَيْج بن معاوية، ومع ذلك حسن إسناده الحافظ في الفتح (7/ 585)، وجود إسناده الحافظ ابن كثير فِي البداية والنهاية (3/ 76). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 361) بدون سند. (¬5) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (2/ 298) - وإسناده ضعيف، لضعف حُديج بن معاوية.

* موت خالد بن حزام -رضي الله عنه-

قَالَ البَيْهَقِيُّ: وظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أبَا مُوسَى كَانَ بِمَكَّةَ، وأنَّهُ خَرَجَ مَعَ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ. والصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ونَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بالحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بنَ أَبِي طَالِبٍ فأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ (¬1). وَتَكَلَّفَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (¬2) الجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ (¬3)، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الرِّوَايَةُ ضَعِيفَةٌ لَا تُعَارِضُ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ التِي رَوَاهَا البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. * مَوْتُ خَالِدٍ بْنِ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-: وَفِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ، مَاتَ خَالِدُ بنُ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-، مِنْ حَيَّةِ نَهَشَتْهُ (¬4)، فقدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة الحبشة - رقم الحديث (3876) - انظر كلام البيهقي فِي دلائل النبوة (2/ 300). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 585). (¬3) أعني الرواية الضعيفة التي رواها الإِمام أحمد - رقم الحديث (4400) - والطيالسي - رقم الحديث (443) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 361) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 300) - ورواية الإمام البخاري في صحيحه. (¬4) نهشته: أي لسعته. انظر لسان العرب (14/ 306).

* نبذة عن خالد بن حزام -رضي الله عنه-

قَالَ: هَاجَرَ خَالِدُ بنُ حِزَامٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فِي الطَّرِيقِ فَمَاتَ، فنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1). قَالَ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه-: وَكُنْتُ أَتَوَقَّعُهُ، وَأَنْتَظِرُ قُدُومَهُ وَأَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَمَا أَحْزَنَنِي شَيْءٌ حُزْنَ وَفَاتِهِ حِينَ بَلَغَنِي، لِأَنَّهُ قَلَّ أَحَدٌ مِمَّنْ هَاجَرَ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا مَعَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ، أَوْ ذَوِي رَحِمِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَلَا أَرْجُو غَيْرَهُ (¬2). قَالَ الْحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْأَثَرُ غَرِيبٌ جِدًّا، فَإِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَكِّيَّةٌ، وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ مَدَنِيَّةٌ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ تَعُمُّ حُكْمَهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبَ النُّزُولِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * نُبْذَةٌ عَنْ خَالِدٍ بْنِ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-: وَخَالِدُ بنُ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-، أَخُو حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-، وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، فنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية (100) - قلت: المشهور أن هذه الآية نزلت في جُندب بن ضَمرة -رضي اللَّه عنه-، وهو الذي رجحه الحافظ في الإصابة (2/ 169). (¬2) أورد هذا الخبر: ابن كثير في تفسيره (2/ 392) - والألباني في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (3218) - وحسَّن إسناده. (¬3) انظر تفسير ابن كثير (2/ 392). (¬4) انظر أسد الغابة (2/ 83).

* تعقب قريش لمهاجرة الحبشة

* تَعَقَّبُ قُرَيْشٍ لِمُهَاجِرَةِ الحَبَشَةِ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قدْ أَمِنُوا وَاطْمَأَنُّوا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، وأنَّهُمْ قَدْ أصَأبُوا بِهَا دَارًا وَاسْتِقْرَارًا، وحُسْنَ جِوَارٍ مِنَ النَّجَاشِيِّ -رضي اللَّه عنه-، ائْتَمَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَفْدًا مِنْهُمْ فَيَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَارُوا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ (¬1) وهُمَا: عَمْرُو بنُ العَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وأرْسَلُوا مَعَهُمَا الهَدَايَا لِلنَّجَاشِيِّ وَلبَطَارِقَتِهِ (¬2)، وكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتيهِ مِنْهَا الأُدْمُ (¬3). فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، فَقَالُوا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ -قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ-: إِنَّهُ قَدْ ضَوَى (¬4) إِلَى بَلَدِ المَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وجَاؤُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ، لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا قَوْمُنَا لِيَرُدَّهُمُ المَلِكُ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا المَلِكَ فِيهِمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إلَيْنَا، وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فإنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا (¬5)، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. ¬

_ (¬1) الجَلدُ: أي القَوِيُّ. انظر النهاية (1/ 275). (¬2) البَطَارقَةُ: جمعُ بِطْرِيقٍ وهوَ الحَاذِقُ بالحَرْبِ وأمُورِهَا بِلُغَةِ الرُّومِ، وهو ذُو مَنْصِبٍ مُتَقَدِّمٍ عِندهم. انظر النهاية (1/ 134). (¬3) الأُدْمُ: جمع أديم، وهو الجِلْدُ. انظر لسان العرب (1/ 96). (¬4) ضَوَى إليه: أي انضَمَّ ولجَأ. انظر لسان العرب (8/ 104). (¬5) أعَلْى بِهِمْ عَيْنًا: أي أبْصَرُ بهِم، وأعلَمُ بحَالِهم. انظر النهاية (3/ 267).

* إحضار النجاشي للمسلمين وسؤالهم

ثُمَّ إنَّهُمَا حَضَرَا إِلَى النَّجَاشِيِّ، وقَدَّمَا لَهُ الهَدَايَا، وكَانَ فِيهَا أُدْمٌ كَثِيرٌ وفَرَسٌ، وَجُبَّةُ دِيبَاجٍ، ثُمَّ كَلَّمَاهُ، فَقَالَا لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ! إِنَّهُ قَدْ ضَوَى إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وجَاؤُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وأعْمَامِهِمْ وعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأْعَلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وعَاتَبُوهُمْ فِيهِ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقَا أيُّهَا المَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وقَوْمِهِمْ. فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ كَلَامَهُمْ، وَحَلَفَ ألَّا يُسَلِّمَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ وإِلَى بِلَادِهِ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ، فَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أمْرِهِمْ. * إِحْضَارُ النَّجَاشِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ وسُؤَالُهُمْ: ثُمَّ أرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى أصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ودَعَاهُمْ، فَحَضَرُوا، وكَانُوا قَدْ أجْمَعُوا عَلَى صِدْقِهِ (¬1) فِيمَا سَاءَهُ، وسَرَّهُ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن كثير فِي تفسيره (4/ 233) فِي قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة آية 119)، قال: أي اصدُقُوا والْزَمُوا الصِّدق تكُونوا معَ أهلهِ، وتَنْجوا من المَهَالك، ويجعل لكم فَرَجًا من أمُوركُمْ، ومَخْرجًا. وروى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (6094) - والإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2607) - عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بالصِّدْق، فإن الصدق يَهْدِي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يَهدِي إلى الجنةِ، وما يزال الرَّجلُ يَصدقُ ويتحرى الصدق حتَّى يُكتبَ عِندَ اللَّه صِدِّيقًا"

فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي، وَلَا دِينِ أَحَدٍ مِنَ المِلَلِ؟ فتَوَلَّى الكَلَامَ عَنِ الصَّحَابَةِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1)، فَقَالَ لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ! كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الأصْنَامَ، ونَأْكُلُ المَيْتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، ونَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الجِوَارَ، ويَأْكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ. فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إلَيْنَا رَسُولَا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وصِدْقَهُ، وأمَانَتَهُ وعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ، لِنوحِّدَهُ ونَعْبُدَهُ، ونَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ والأَوْثَانِ، وأمَرَنَا بِصِدْقِ الحَدِيثِ، وأدَاءِ الأمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وحُسْنِ الجِوَارِ، والكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ والدِّمَاءِ، ونَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ، وقَوْلِ الزُّورِ، وأَكْلِ مَالِ اليَتِيمِ، وقَذْفِ المُحْصَنَاتِ (¬2)، وأمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّه وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ (¬3)، والزَّكَاةِ (¬4) وَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلَامِ، فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، واتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّه ¬

_ (¬1) قال أبو نعيم فِي الحلية (1/ 160): ومنهم الخَطِيبُ المِقْدَامُ، السَّخِيُّ المِطْعَامُ، خَطِيبُ العارفينَ، ومُضِيفُ المَسَاكِين، ومُهَاجرُ الهجرتينِ، ومُصَلِّي القبلتين، البَطَلُ الشُّجَاعُ الجَوَادُ الشَّعْشَاعُ، جَعْفَرُ بنُ أبي طالبٍ -رضي اللَّه عنه- فَارِقُ الخَلْقِ، ورَامِقُ الحَقِّ. (¬2) المحصنات: العفائف من النساء. انظر لسان العرب (3/ 209). (¬3) قولُ جعفرَ للنَّجاشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وأمَرَنا بالصلاةِ، أي الصَّلاة التي كانت قَبْلَ فَرْضِ الصلوات الخمسِ في الإسراءِ والمِعْراج، وقد بَيَّنْتُ ذلكَ فِي بِدَايةِ أمْرِ البِعْثَةِ، فراجِعْهُ. (¬4) وقوله -رضي اللَّه عنه-: الزَّكَاةُ، أَرادَ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ؛ لأنَّ زكاةَ المَالِ إِنَّمَا فُرِضَتْ بالمدِينَةِ.

وَحْدَهُ، فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شيْئًا، وَحَرَّمْنا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وأحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، فَعَذَّبُونَا وفتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، لَيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ، واخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، ورَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ، ورَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أيُّهَا المَلِكُ (¬1). فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ -رضي اللَّه عنه-: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ، فَبَكَى النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضلَّتْ (¬2) لِحْيَتُهُ، وبَكَتْ أسَاقِفَتُهُ (¬3)، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ جَعْفَرُ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّ هَذَا ¬

_ (¬1) قال الشيخُ أَبُو الحسنِ النَّدْوي فِي كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة، ص 134: إِنَّ كلامَ جعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أمامَ مَلِك الحَبَشَةِ، وتصوِيرَهُ للإسْلام، كلامُ حَكِيمٍ قد جَاءَ فِي أوَانِهِ ومَكانِهِ، وقدْ دَلَّ على بلاغةِ صَاحبِهِ العَقْلِيَّةِ، قبلْ أن يدُلَّ على بلاغَتِهِ العَرَبِيَّةِ البَيَانِيَّةِ، ولا يعَلَّلُ ذلكَ إِلَّا بالإلهَامِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وتأيِيدِ هذَا الدِّينِ الذي أَرادَ اللَّه أَنْ يُتِمَّ نُوره، وأن يُظْهِره على كُل دِين، ويدلُّ كذلك على سَلامةِ الفِطْرَةِ، ورَجَاحَةِ العقلِ، اللَّتَيْنِ فَاقَ فيهما بنو هاشم قريشًا، وفاقت فيهما قريش العرب كلهم، فقد فضّل جعفر -رضي اللَّه عنه- أن يكون جوابه حِكايةَ حَالٍ لِمَا كان عليهِ أهلُ الجاهليةِ فِي الجزيرةِ العَرَبيةِ، ولمَا آلَ إليه أمرُهُم بعدما أرسل اللَّه تَعَالَى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم، ودعا إلى اللَّه تَعَالَى وإلى الدِّين الحنيفِ السَّمْحِ، ومكارِمِ الأخلاقِ، وآمَنُوا بهِ واتَّبَعُوهُ، وحِكايةُ الحَالِ -خُصُوصًا إذا لم يُجَانِبْ فيه صاحِبُهَا الصَّوَابَ- أبعدُ شيءٍ عنِ المُنَاقشةِ والمُنَاظرَةِ، وأقدرُ شَيْءٍ على غَرْسِ المعاني المَقْصُودةِ، وتحقيقِ الأهداف المَنْشُودة، والتَّهَيُّؤِ للتأمُّلِ والإنصَافِ وحُسْنِ الاستِمَاعِ. (¬2) اخضَلَّتْ: أي ابْتَلَّتْ. انظر النهاية (2/ 42). (¬3) الأسَاقِفَةُ: جمعُ أُسُقُفٍ بِضمِّ الهمزةِ وهُم علماءُ النصارى. انظر النهاية (2/ 341).

* محاولة أخرى للوقيعة بين المهاجرين والنجاشي

وَالذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى (¬1) لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ (¬2) وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى رَسُولَيْ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا! فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا أَبَدًا، وَلَا يُكَادُونَ. أخْرَجَ الإِمَامُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وأصْحَابِهِ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬3). ورَدَّ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وهَذَا القَوْلُ فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ، وقِصَّةُ جَعْفَرَ مَعَ النَّجَاشِيِّ قَبْلَ الهِجْرَةِ (¬4). * مُحَاوَلَةٌ أُخْرَى لِلْوَقِيعَةِ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ والنَّجَاشِيِّ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، قَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا ¬

_ (¬1) هذه رواية الإِمام أحمد في مسنده - قال السندي فِي شرح المسند (2/ 217): لم يقل عيسى، مع أنه نبيُّهم، لما فيه من خلاف اليهود، بخلاف موسى، فلم يختلف أحدٌ من الطوائف المعلومة في نبوَّته. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (1/ 374): قال: عيسى. (¬2) المِشْكَاةُ: هي الكُوَّةُ غيرُ النَّافِذَةِ، وقيل هي الحَديدةُ التي يُعلَّق عليها القَنَاديلُ، أراد أن القرآنَ والإنجيلَ كَلامُ اللَّهِ، وأنهما مِنْ شيءٍ واحدٍ، وهوَ الوحْيُ. انظر النهاية (4/ 285). (¬3) سورة المائدة آية (83). والخبر أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب (9) - رقم الحديث (11083). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (3/ 166).

عَنْهُمْ بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ (¬1)، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا، لَكِنَّ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ أَصَرَّ عَلَى رَأْيِهِ. فَلَمَّا كَانَ الغَدُ غَدَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَقَالَ لَهُ: أيُّهَا المَلِكُ! إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمُ النَّجَاشِيُّ يَسْأَلُهُمْ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ إِلَيْهِمْ. قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ، إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ . قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى النَّجَاشِيِّ، قَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: نَقُولُ فِيهِ الذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، ورُوحُهُ، وكَلِمَتُهُ (¬2) ألقاهَا إِلَى مَرْيَمَ العَذْرَاءَ البَتُولِ (¬3). فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ الأرْضَ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا العُودَ (¬4). ¬

_ (¬1) خَضْرَاءُهُمْ: أي دَهْمَاؤُهُم وسَوَادُهُم ومُعْظمُهُم. انظر النهاية (2/ 40). (¬2) قال الإِمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (2/ 113): ومعنى كلمتِهِ: أي قال له، كما قال لِآدمَ حينَ خلقهُ من تُرابٍ: كُنْ فَيَكُونُ. (¬3) امرأةٌ بَتُولٌ: أي مُنْقَطِعَةٌ عن الرِّجالِ لا شهوَةَ لهَا فِيهِمْ. انظر النهاية (1/ 95). (¬4) قال السندي في شرح المسند (2/ 218): أي: هذا القدر، يريد: أن قدره هذا، ولا يتجاوز عنه إلى ما يقوله الظلمة من البنوة، وغيرها.

فتَنَاخَرَتْ (¬1) بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -والسُّيُومُ: الآمِنُونَ بِلِسَانِ الحَبَشَةِ- مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ جَبَلًا مِنْ ذَهَبٍ، وأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِبَطَارِقَتِهِ: رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا، فَلَا حَاجَةِ لِي بِهَا. فخَرَجَ عَمْرُو بنُ العَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ خَائِبِيْنِ، وأقَامَ المُسْلِمُونَ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ بِخَيْرِ دَارٍ، مَعَ خَيْرِ جَارٍ (¬2). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النَّجَاشِيَّ كَانَ رَجُلًا رَاشِدًا نَظِيفَ العَقْلِ، حَسَنَ المَعْرِفَةِ للَّهِ، سَلِيمَ الِاعْتِقَادِ فِي عِيسَى عَبْدِ اللَّهِ ورَسُولهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَتْ مُرُونَةُ فِكْرِهِ سِرَّ المُعَامَلَةِ الجَمِيلَةِ التِي وَفَّرَهَا لِأُولَئِكَ اللَّاجِئِينَ إِلَى مَمْلَكَتِهِ، فَارِّينَ بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ (¬3). وَقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وهَكَذَا نَرَى مِنْ هَذِهِ ¬

_ (¬1) تنَاخَرَتْ: أي تَكَلَّمَتْ، وكأنه كلامٌ معَ غضَبٍ ونُفُورٍ، والنَّخِيرُ: صَوْتُ الأنْفِ. انظر لسان العرب (14/ 81)، النهاية (5/ 27). (¬2) أخرج قصة النجاشي مع جعفر -رضي اللَّه عنه- وأصحابه: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1740) - (22498) - والحاكم فِي المستدرك - كتاب التفسير - باب قصة إسلام النجاشي - رقم الحديث (3261) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5598) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 372) - وإسنادها حسن. (¬3) انظر فقه السيرة للشيخ محمَّد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 114.

* إسلام النجاشي -رضي الله عنه-

القِصَّةِ أَنَّ مَنْ يَصْدُقِ اللَّهِ يَصْدُقْهُ، ويَنْصُرْهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ بِهِ سُوءًا، ويَجْعَلُ لَهُ مِنْ ضِيقِهِ وأزَمَاتِهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وعَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا عِبْرَةٌ لِلذِينَ يَتَصَدَّوْنَ لِلدَّعْوَةِ الإسْلَامِيَّةِ، وذَلِكَ بِأَنْ يَلْتَزِمُوا جَانِبَ الحَقِّ وَالصِّدْقِ فِي دَعْوَتِهِمْ، وَأَنْ لَا يَحُرِّفُوا فِيهَا، أَوْ يُغَيِّرُوا، أَوْ يُدَاهِنُوا تَبَعًا لِلْأَهْوَاءَ السِّيَاسِيَّةِ وغَيْرِهَا، ولْيُجَاهِرُوا بِالحَقَائِقِ الإِسْلَامِيَّةِ، ولْيَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ (¬1). * إِسْلَامُ النَّجَاشِيِّ -رضي اللَّه عنه-: وَأسْلَمَ النَّجَاشِيُّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى يَدِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وصَدَّقَ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَانَ يُخْفِي إسْلَامَهُ عَنْ قَوْمِهِ. قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ فِي السِّيَرِ: النّجَاشِيُّ، وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وكَانَ مِمَّنْ حَسُنَ إسْلَامُهُ، وَلَمْ يُهَاجِرْ، وَلَا لَهُ رُؤْيَةٌ، فَهُوَ تَابِعِيٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَصَاحِبٌ مِنْ وَجْهٍ، وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَلَّي عَلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنَّاسِ صَلَاةَ الغَائِبِ (¬2) وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ صَلَّى -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى غَائِبٍ سِوَاهُ، وسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَاتَ بَيْنَ قَوْمٍ نَصَارَى، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الذِينَ كَانُوا مُهَاجِرِينَ عِنْدَهُ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ مُهَاجِرِينَ إِلَى المَدِينَةِ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر كتاب السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبي شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ (1/ 380). (¬2) قلتُ: سأذكرُ في وفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي سنةِ تِسْع للهجرةِ تفصِيلَ صلاةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه صلاة الغَائِبِ. (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 428).

* التمكين للنجاشي في ملكه

وَقَالَ الحَافِظُ فِي الإِصَابَةِ: النَّجَاشِيُّ اسْمُهُ أصْحَمَةُ بنُ أبْحَرٍ مَلِكُ الحَبَشَةِ، والنَّجَاشِيُّ لَقَبٌ لَهُ، أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْهِ، وكَانَ رِدْءًا (¬1) لِلْمُسْلِمِينَ نَافِعًا (¬2). قُلْتُ: وَمَاتَ النَّجَاشِيُّ -رضي اللَّه عنه- فِي رَجَبَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ. * التَّمْكِينُ للنَّجَاشِيِّ فِي مُلْكِهِ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . فَوَاللَّهِ إنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ -أي النَّجَاشِيُّ- مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ، قَالَتْ: وَسَارَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وبَيْنَهُمَا عُرْضُ نَهْرِ النِّيلِ، قَالَتْ: فَقَالَ أصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ القَوْمِ، ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالخَبَرِ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-: أنَا، وَكَانَ مِنْ أحْدَثِ القَوْمِ سِنًّا. قَالَتْ: فنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً، فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ سَبِح حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ التِي بِهَا مُلْتَقَى القَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ، قَالَتْ: ودَعَوْنَا اللَّه ¬

_ (¬1) رِدْءًا: أي عَوْنًا ونَاصِرًا. انظر النهاية (2/ 195). (¬2) انظر الإصابة (1/ 347).

* بقاء المسلمين في الحبشة

تَعَالَى لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ، والتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ (¬1). قَالَتْ: ثُمَّ جَاءَ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه- وهُوَ يَسْعَى، فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ (¬2)، وهُوَ يَقُولُ: ألَا أبْشِرُوا، فَقَدْ ظفَرَ النَّجَاشِيُّ، وأهْلَكَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، ومَكَّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ، قَالَتْ أُمُّ سلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطُّ مِثْلَهَا (¬3). * بَقَاءُ المُسْلِمِينَ فِي الحَبَشَةِ: وَبَقِيَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مَعَ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي الحَبَشَةِ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، ثُمَّ قَدِمَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فكَانَ بَقَاؤُهُ فِي الحَبَشَةِ أكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سَنَوَاتٍ، وهِيَ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ، لَابُدَّ أَنَّ جَعْفَرًا قَدِ انتفَعَ بِهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلامِ، والتَّعْرِيفِ بِهِ فِي بَلَدٍ امْتَازَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ البِلَادِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالتَّسَامُحِ وإيوَاءِ المُضْطَهَدِينَ، وعُرِفَ حَاكِمُهُ بِالعَدْلِ والإِنْسَانِيَّةِ، ولَكِنْ العَهْدَ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ تَسْجِيلِ الحَوَادِثِ، ولَيْسَتْ أَمَامَنَا وثَائِقُ تَارِيخِيَّةٌ تُثْبِتُ ذَلِكَ، ولَكِنِ القِيَاسَ يَقْتَضِيهِ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الشيخ أبو الحسن النَّدْوي فِي كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة، ص 135: وَكَانَ هذا الدُّعاء من المسلمينَ للنجاشِيِّ اعتِرَافًا بحُسْنِ مَوقفِهِ منَ المهاجِرينَ المُضْطَهَدِينَ، ومكافأتَهُ على حُسْنِ صَنِيعِهِ، وَكَانَ ذلكَ مُطَابقًا لتعاليمِ الإِسلامِ الخُلُقِيَّةِ، وَلائِقًا بأخلاقِ المُسْلِمِينَ. (¬2) لَمَعَ بِثَوْبِهِ: إِذَا رَفَعَهُ وحرَّكَهُ ليَرَاهُ غيرهُ فيَجِيءَ إليه. انظر النهاية (4/ 233). (¬3) أخرج قِصَّة التمكين للنجاشي في ملكه: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1740) (22498) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 375) - وإسناده حسن. . (¬4) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 135.

* بعض الفوائد من قصة الهجرة إلى الحبشة

* بَعْضُ الفَوَائِدِ مِنْ قِصَّةِ الهِجْرَةِ إِلَى الحَبَشَةِ: قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وفِي قِصَّةِ الهِجْرَةِ إِلَى الحبَشَةِ مِنَ الفِقْهِ: - الخُرُوجُ عَنِ الوَطَنِ، وَإِنْ كَانَ الوَطَنُ مَكَّةَ عَلَى فَضْلِهَا، إِذَا كَانَ الخُرُوجُ فِرَارًا بِالدِّينِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَى إسْلَامٍ، فَإِنَّ الحَبَشَةَ كَانُوا نَصَارَى يَعْبُدُونَ المَسِيحَ، وَلَا يَقُولُونَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مَعَ النَّجَاشِيِّ، وكَيْفَ نَخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ، وسُمُّوا بِهَذ الهِجْرَةِ مُهَاجِرِينَ، وَهُمْ أصْحَابُ الهِجْرَتَيْنِ الذِينَ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالسَّبْقِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬1). - وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: أَنَّهُمْ الذِينَ صَلُّوا القِبْلَتَيْنِ، وهَاجَرُوا الهِجْرَتَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: هُمُ الذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَانْظُرْ كَيْفَ أثْنَى ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (100). قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 203): أخبرَ اللَّهُ العظيمُ أنَّه قد رضِيَ عن السَّابقين الأوَّلينَ منَ المُهَاجرينَ والأنصارِ، والذينَ اتَّبَعُوهم بإحسَانٍ، فيَا وَيْلَ من أبغَضَهُمْ أو سَبَّهُمْ، أو أبغضَ أو سَبَّ بعضهم، ولا سيما سَيِّدُ الصَّحَابَة بعد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وخيرهم، وأفضلهم، أعْنِي الصديق الأكبر والخَلِيفة الأعظَم أبَا بكر بن أبي قُحافة -رضي اللَّه عنه-، فإنَّ الطائِفَةَ المَخْذُولةَ منَ الرَّافضَةِ يُعَادُونَ أفضلَ الصحابةِ ويُبْغِضُونَهُمْ ويَسُبُّونهُم، عِيَاذًا باللَّه من ذلك، وهذا يدُل على أن عُقُولهُم مَعْكُوسة، وقلوبهم مَنْكُوسة، فأينَ هؤلاءِ مِنَ الإيمان بالقرآنِ، إذ يَسُبُّون مَنْ رضيَ اللَّه تَعَالَى عنهم؟ وَأَمَّا أهل السُّنَّةِ فإنهم يتَرَضَّوْنَ عمَّن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ويسُبُّونَ من سبَّهُ اللَّه ورسولُهُ، ويُوَالونَ مَنْ يُوَالي اللَّه، ويعادونَ من يُعادِي اللَّهَ، وهم مُتَّبِعُونَ لا مُبْتَدِعُونَ، ويقتَدُونَ ولا يَبْتَدِرُونَ ولهذا هُمْ حِزْبُ اللَّهِ المُفْلِحُونَ، وعِبَادُهُ المُؤمنون.

* أول وفد قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم-

اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الهِجْرَةِ، وهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ اللَّهِ الحَرَامِ إِلَى دَارِ كُفْرٍ، لِمَا كَانَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ احْتِيَاطًا عَلَى دِينِهِمْ، ورَجَاءَ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، يَذْكُرُونَهُ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ، وهَذَا حُكْمٌ مُسْتَمِرٌّ مَتَى غَلَبَ المُنْكَرُ فِي بَلَدٍ، وَأُوذِيَ عَلَى الحَقِّ مُؤْمِنٌ، ورَأَى البَاطِلَ قَاصِرًا لِلْحَقِّ، ورَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ آخَرَ يُخَلَّى بَيْنَهُ وبَيْنَ دِينِهِ، ويُظْهِرَ فِيهِ عِبَادَةَ رَبِّهِ، فَإِنَّ الخُرُوجَ عَلَى هَذَا الوَجْهِ حَتْمٌ عَلَى المُؤْمِنِ، وهَذ الهِجْرَةُ التِي لَا تَنْقَطِعُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: فَالهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ مِنْهَا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وخَشِيَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ (¬2). * أوَّلُ وَفْدٍ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ بِمَكَّةَ، عِشْرُونَ رَجُلًا، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنَ الحَبَشَةِ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَسْجِدِ، فَجَلَسُوا إِلَيْهِ وكَلَّمُوهُ، وسَأَلُوهُ، ورِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمَّا أرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وتَلَا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ فَاضَتْ أعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُو اللَّهِ، وآمَنُوا بِهِ، وصَدَّقُوهُ، وعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أمْرِهِ. ¬

_ (¬1) انظر الرَّوْض الأُنُف (2/ 111 - 112). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 635).

فَلَمَّا قَامُوا عَنْهُ اعْترَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُمْ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ، بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ (¬1) لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، ولَكُمْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، لَمْ نَأْلُ (¬2) أنْفُسَنَا خَيْرًا. وَيُقَالُ -وَاللَّهُ أعْلَمُ- إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ: يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ العُلَمَاءِ الأَوْليَاءِ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ¬

_ (¬1) ارْتَادَ يَرْتَادُ: أي يَنْظُرُ ويَطْلُبُ ويختَارُ الأفضلَ، مِنَ الرَّائِدِ الذي يتَقَدَّمُ القومَ يُبْصِرُ لهم الكَلَأ ومَسَاقِطَ الغَيْثِ. انظر لسان العرب (5/ 365). (¬2) لَمْ نَأْلُ أنفُسَنَا خَيْرًا: أيْ لَمْ نَقْتَصِرْ بِهَا عَنْ بُلُوغِ الخَيْرِ، يُقالُ مَا أَلوْتُ: أي ما فَعَلْتُ كَذَا، وكَذَا، أي ما قَصَّرْتُ. انظر سبل الهدى والرشاد (2/ 422). (¬3) سورة القصص آية (52 - 55). والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 5 - 6) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 306).

الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (¬1). وقَوْله تَعَالَى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (¬2). أيْ هَؤُلَاءِ المُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الذِينَ آمَنُوا بِالكِتَابِ الأَوَّلِ ثُمَّ بِالثَّانِي، يُؤْتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ بِإِيمَانِهِمْ بِالرَّسُولِ الأوَّلِ ثُمَّ بالثَّانِي، وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-فَآمَنَ بِهِ، وَاتَّبَعَهُ وَصَدَّقَهُ، وعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ سَيِّدِهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فتَزَوَّجَهَا" (¬3). وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (¬4). أيْ: لَا يُخَالِطُونَ أهْلَهُ ولَا يُعَاشِرُونَهُمْ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (¬5). وأيًّا مَنْ كَانَ الذِينَ نَزَلَتْ فِي أمْرِهِمْ هَذِهِ الآيَاتُ، فَالقُرْآنُ يَرُدُّ المُشْرِكِينَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (121). (¬2) سورة القصص آية (54). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب تعليم الرجل أمته وأهله - رقم الحديث (97) - وأخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جميع الناس - رقم الحديث (154). (¬4) سورة القصص آية (55). (¬5) سورة الفرقان آية (72) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 244).

إِلَى حَادِثٍ وَقَعَ، يَعْلَمُونَهُ، وَلَا يُنْكِرُونَهُ، كَيْ يَقِفَهُمْ وَجْهًا لِوَجْهٍ أمَامَ نَمُوذَجٍ مِنَ النُّفُوسِ الخَالِصَةِ كَيْفَ تَتَلَقَّى هَذَا القُرْآنَ، وتَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ، وتَرَى فِيهِ الحَقَّ، وتَعْلَمَ مُطَابَقتَهُ لِمَا بَيْنَ أيْدِيهَا مِنَ الكِتَابِ، ولَا يَصُدُّهَا عَنْهُ صَادٌّ مِنْ هَوَى وَلَا مِنْ كِبْرِياءٍ، وتَحْتَمِلُ فِي سَبِيلِ الحَقِّ الذِي آمَنَتْ بِهِ ما يُصِيبُهَا مِنْ أَذًى وَتَطَاوُلٍ مِنَ الجُهَلَاءِ، وتَصْبِرُ عَلَى الحَقِّ فِي وَجْهِ الأَهْوَاءِ وَوَجْهِ الإيذَاءَ. . . إنَّهَا صُورَةٌ وَضِيئَةٌ لِلنَّفْسِ المُؤْمِنَةِ المُطْمَئِنَّةِ إِلَى إيمَانِهَا. . تَفِيضُ بِالتَّرَفُّعِ عَنِ اللَّغْوِ. . كَمَا تَفِيضُ بِالسَّمَاحَةِ والوُدِّ. . وتَرْسُمُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ طَرِيقَهُ وَاضِحًا لَا لُبْسَ فِيهِ. فَلَا مُشَارَكَةَ لِلْجُهَّالِ، وَلَا مُخَاصَمَةَ لَهُمْ، وَلَا مُوْجِدَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا ضَيْقَ بِهِمْ. إِنَّمَا هُوَ التَّرَفُّعُ، والسَّمَاحَةُ، وحُبُّ الخَيْرِ حَتَّى لِلْجَارِمِ (¬1) المُسِيءِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) جَرَمَهُ: قَطَعَهُ. انظر لسان العرب (2/ 257). (¬2) انظر في ظلال القرآن (5/ 2700 - 2701) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ.

مقاطعة قريش بني هاشم وحصار الشعب

مُقَاطَعَةُ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وحِصَارَ الشِّعْبِ لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أمْرَ الإِسْلَامِ يَنْتَشِرُ ويَعْلُو، وَأَنَّ أسَالِيبَهَا كُلَّهَا بَاءَتْ بِالفَشَلِ، وَلَمْ تَمْنَعْ مِنِ انْتِشَارِ الإِسْلَامِ، وَأَنَّ مُسَاوَمَتَهَا لِأَبِي طَالِبٍ، وَللنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَعْدِه قَدْ قُوبِلَتْ بِالرَّفْضِ، أجْمَعُوا أمْرَهُمْ عَلَى المُقَاطَعَةِ. قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا، وأَصَأبُوا بِهِ أَمْنًا وَقَرَارًا، وأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَدْ أَسْلَمَ، فكَانَ هُوَ وحَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابِهِ، وجَعَلَ الإِسْلَامُ يَفْشُو في القَبَائِلِ، اجْتَمَعُوا وَائْتَمُّوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتبوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وبَنِي المُطَّلِبِ: عَلَى أَنْ لَا يُنْكِحُوا إِلَيْهِمْ، ولَا يُنْكِحُوهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيئًا، وَلَا يَبْتَاعُوا (¬1) مِنْهُمْ، وَأَنْ يُضَيِّقُوا عَلَيْهِمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ، ولَا يُخَالِطُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْقَتْلِ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا وتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى أنْفُسِهِمْ. ¬

_ (¬1) ابْتَاعَ الشيءَ: أي اشتَرَاه. انظر لسان العرب (1/ 557).

وكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورُ بنُ عِكْرِمَةَ بنِ عَامِرِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ بنِ عَبْدِ الدَّارِ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: والمَشْهُورُ أَنَّ مَنْصُورَ بنَ عِكْرِمَةَ هُوَ الذِي كَتَبَ الصَّحِيفَةَ كَمَا ذَكَرَهُ ابنُ إسْحَاقَ، فَدَعَا عَلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَشُلَّتْ يَدُهُ فَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا (¬2). فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ تَأَلُّبَ (¬3) قُرَيْشٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَامَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وبَنِي المُطَّلِبِ، ودَعَاهُمْ إلى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ ابْنِ أخِيهِ، وَحِيَاطَتِهِ والقِيَامِ دُونَهُ، فَأَجَابُوا إلى ذَلِكَ، وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يُدْخِلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شِعْبَهُمْ (¬4): شِعْبَ بَنِي هَاشِمٍ، ويَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَأَجَابُوا لِذَلِكَ فَانْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ، وبَنُو المُطَّلِبِ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ، حَتَّى كُفَّارُهُمْ دَخَلُوا الشِّعْبَ حَمِيَّةً لِلرَّحِمِ، وَالقَرَابَةِ، وَلَمْ يَشُذَّ عَنْ هَذَا الإِجْمَاعِ إِلَّا أَبُو لَهَبِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَدِ انْحَازَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَفَارَقَ بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ. وكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَخَافُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكَانَ إِذَا أَخَذَ النَّاسُ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 388). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 94). (¬3) تألَّبوا عليه: تَجَمَّعوا. انظر لسان العرب (1/ 177). (¬4) الشِّعْبُ: هو الطرِيقُ فِي الجَبَل، وما انفَرَجَ بينَ جَبَلين. انظر لسان العرب (7/ 128).

* شدة الحصار

مَضَاجِعَهُمْ، أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَتَى فِرَاشَهُ حَتَّى يَرَاهُ مَنْ أَرَادَ بِهِ مَكْرًا، فَإِذَا نَامَ النَّاسُ، أَخَذَ أَحَدَ بَنِيهِ أَوْ إخْوَتَهُ أَوْ بَنِي عَمِّهِ، فَأَضْجَعَهُ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ فُرُشِهِمْ فَيَرْقُدَ عَلَيْهَا (¬1). * شِدَّةُ الحِصَارِ: لَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالمُسْلِمُونَ فِي الشِّعْبِ ثَلَاثَ سِنِينَ، واشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِيهِنَّ البَلَاءُ وَالجَهْدُ (¬2)، فَقَدْ قَطَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ المِيرَةَ (¬3) والمَادَّةَ، وَقَطَعَتْ عَلَيْهِمُ الأَسْوَاقَ، فكَانُوا لَا يَتْرُكُونَ طَعَامًا يَدْنُو مِنْ مَكَّةَ وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوا إِلَيْهِ فَاشْتَرَوْهُ دُونَهُمْ لَيَقْتُلَهُمُ الجُوعُ، وكَانَ أَبُو لَهَبٍ يَدُورُ بَيْنَ التُّجَّارِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: غَالُوا عَلَى أصْحَابِ مُحَمَّدٍ، حَتَّى لَا يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا، وَأَنَا أدْفَعُ لَكُمْ أضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي السِّلْعَةِ قِيمَتَهَا أَضْعَافًا حَتَّى يَرْجعَ الرَّجُلُ إِلَى أَطْفَالِهِ، وهُمْ يَتَضَاغَوْنَ (¬4) مِنَ الجُوعِ، ولَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ، ويَغْدُو التُّجَّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ فيُرْبِحُهُمْ، حَتَّى جَهِدَ المُؤْمِنُونَ، وَمَنْ مَعَهُمْ جُوْعًا وَعُرْيًا، ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 273). (¬2) قُلتُ: هذه إحدى الشَّدَائِدِ الثلاثِ التي دَلَّ عليها تأوِيلُ الغَطَّاتِ الثلاثِ التي غَطّ جِبرِيلُ عليهِ السلامُ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حينَ قَال له: اقرأ، قال: ما أنا بِقَارِيٍّ فغطَّهُ جبريلُ عليه السلام ثلاثَ مرَّاتٍ، وقد فصَّلْتُ فِي ذلكَ فِي بِداية نُزُولِ الوَحْي، فراجعه. (¬3) المِيرَةُ: هي الإبلَ التي تُحمَلُ عليهَا المِيرَةُ، وهي الطعَامُ ونحوُهُ، مما يُجلَبُ للبَيْعِ. انظر النهاية (4/ 323). (¬4) يتضاغون: يبكون. انظر لسان العرب (8/ 69).

وحَتَّى سُمِعَ أصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ، واضْطُرُّوا إِلَى أَكْلِ وَرَقِ الشَّجِرَ والجُلُودِ، وهَلَكَ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ. أخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . خَرَجْتُ مِنَ اللَّيْلِ أَبُولُ، وَإِذَا أَنَا أَسْمَعُ بِقَعْقَعَةِ تَحْتَ بَوْلِي، فَإِذَا قِطْعَةٌ جِلْدِ بَعِيرٍ، فَأَخَذْتُهَا وغَسَلْتُهَا، ثُمَّ أحْرَقْتُهَا، ثُمَّ رَضَضْتُهَا (¬1) وسَفَفْتُهَا بِالمَاءَ (¬2)، وَشَرِبْتُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَاءِ، فَقَوِيتُ بِهَا ثَلَاثًا (¬3). وَضُيِّقَ الحِصَارُ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَانْقَطَعَ عَنْهُمُ العَوْنُ، وَقَلَّ الغِذَاءُ حَتَّى بَلَغَ الجَهْدُ أَقْصَاهُ، وسُمِعَ بُكَاءُ أطْفَالِهِمْ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ، وعَضَّتْهُمُ الأَزَمَاتُ العَصِيبَةُ حَتَّى رَثَى لِحَالِهِمُ الخُصُومُ، ومَعَ اكْفِهْرَارِ (¬4) الجَوِّ فِي وُجُوهِهِمْ، فَقَدْ تَحَمَّلُوا فِي ذَاتِ اللَّهِ الوَيْلَاتِ (¬5). وَقَدْ سَرَّ هَذَا الأَمْرُ كُفَّارَ قُرْيَشٍ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَبْعَث إِلَى المُحْصُورِينَ طَعَامًا إِلَّا سِرًّا مُسْتَخْفِيًا مِمَّنْ أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مِمَّنْ يَصِلُهُمْ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ (¬6) ابْنُ أَخِي السَّيِّدَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وهِشَامُ بنُ ¬

_ (¬1) رُضَاضُ الشَّيْءِ: فُتاتُهُ، وكلُّ شيءٍ كَسَرْتَهُ، فقد رضدته. انظر لسان العرب (5/ 230). (¬2) سَفَفْتُهَا بالمَاءَ: أي خَلَطْتُهَا بالماءِ. انظر لسان العرب (6/ 282). (¬3) انظر حلية الأولياء (1/ 136). (¬4) اكْفَهَرَّ: تَغَيَّرَ إلى الغُبْرَةِ مَعَ الغِلَظِ. انظر لسان العرب (12/ 130). (¬5) انظر فقه السيرة للشيخ محمَّد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 118. (¬6) أسلم حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه- فِي فَتْحِ مكةَ وحسُن إسلامه.

* بين حكيم بن حزام وأبي جهل

عَمْرٍو العَامِرِيُّ (¬1) وكَانَ أوْصَلَهُمْ لِبَنِي هَاشِمٍ، فكَانَ يَأْتِي بِالبَعِيرِ لَيْلًا فَيُوقِرُهُ (¬2) طَعَامًا، ثُمَّ يَضْرِبُهُ بِاتِّجَاهِ الشِّعْبِ، ويَتْرُكُ زِمَامَهُ لِيَصِلَ إِلَى المَحْصُورِينَ (¬3). * بَيْنَ حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ وَأَبي جَهْلٍ: وفِي ذَاتِ يَوْمٍ كَانَ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَعَهُ فِي الشِّعْبِ فَقَابَلَهُ أَبُو جَهْلٍ فتَعَلَّقَ بِهِ، وقَال لَهُ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ؟ فَوَاللَّهِ لَا تَبْرَحُ أَنْتَ وطَعَامُكَ حَتَّى أفْضَحَكَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَهُ أَبُو البَخْتَرِيِّ بنُ هِشَامٍ، فَقَالَ: مَالَكَ وَلَهُ؟ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إلى بَنِي هَاشِمٍ! . فَقَالَ لَهُ أَبُو البَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثَتْ إِلَيْهِ، أفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا؟ خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، فَأَخَذَ أَبُو البَخْتَرِيِّ لَحْيَ (¬4) بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجَّهُ، ووَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا، وحَمْزَةُ بنُ ¬

_ (¬1) أسلم هِشَامُ بن عَمرو العَامِرِيُّ -رضي اللَّه عنه- فِي فَتْحِ مَكةَ، وهوَ مِنَ المُؤَلَّفَةِ قُلوبُهم أعْطَاه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- دُونَ المِائَةِ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ. انظر الإصابة (6/ 426). (¬2) أوْقَرَ رَاحِلَتَهُ: حَمَّلها. انظر النهاية (5/ 180). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (1/ 412). (¬4) اللَّحْيَانِ: هُمَا العَظْمَانِ اللذَانِ فيهِمَا الأسنَان من داخِلِ الفَمِ. انظر لسان العرب (12/ 259).

* ولادة حبر الأمة وترجمان القرآن

عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ، وهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابَهُ، فَيَشْمَتُوا بِهِمْ. قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: ومَعَ كُلِّ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا ونَهَارًا، سِرًّا وَجَهْرًا، مُبَادِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ (¬1). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -مُعَلِّقًا عَلَى كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ-: لِأَنَّ الِاضْطِهَادَ لَا يَقْتُلُ الدَّعَوَاتِ، بَلْ يَزِيدُ جُذُورَهَا عُمْقًا وفُرُوعَهَا امْتِدَادًا، وَقَدْ كَسِبَ الإِسْلَامُ أنْصَارًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ، وكَسِبَ إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ أَنَّ المُشْرِكِينَ قَدْ بَدَؤُوا يَنْقَسِمُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ، ويَتَسَاءَلُونَ عَنْ صَوَابِ مَا فَعَلُوا، وشَرَعَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَعْمَلُ عَلَى إبْطَالِ هَذِهِ المُقَاطَعَةِ، ونَقْضِ الصَّحِيفَةِ التِي تَضَمَّنَتْهَا (¬2). * وِلَادَةُ حَبْرِ الأُمَّةِ وتَرْجُمَانِ القُرْآن: وَفِي فَتْرَةِ المُقَاطَعَةِ فِي الشِّعْبِ وُلدَ حَبْرُ الْأُمَّةِ، وتَرْجُمَانُ القُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ حَبْرُ الأُمَّةِ، وفَقِيهُ العَصْرِ، وإمَامُ التَّفْسِيرِ، أَبُو العَبَّاسِ، عَبْدُ اللَّهِ ابنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 392) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 276). (¬2) انظر كتاب فقه السيرة ص 121.

* نقض الصحيفة وإنهاء المقاطعة

القُرَشِيِّ الهَاشِمِيِّ، مَوْلدُهُ بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ. صَحِبَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَحَدَّثَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ. وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- وَسِيمًا، جَمِيلًا، مَدِيدَ القَامَةِ، مَهِيبًا، كَامِلَ العَقْلِ، ذَكِيَّ النَّفْسِ، مِنْ رِجَالِ الكَمَالِ. تُوُفِّيَ -رضي اللَّه عنه- بِالطَّائِفِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ (¬1). * نَقْضُ الصَّحِيفَةِ وإنْهَاءُ المُقَاطَعَةِ: مَكَثَ بَنُو هَاشِمٍ وبَنُو المُطَّلِبِ بِالشِّعْبِ ثَلَاثَ سِنِينَ (¬2)، حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمُ الجَهْدُ وَالأَذَى مَبْلَغَهُ كَمَا رَأَيْنَا، ثُمَّ قَامَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ أَهْلِ المُرُوءَةِ، وَالضَّمَائِرِ، فِي مُقَدِّمَتِهِمْ: هِشَامُ بنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ، الذِي تَصِلُهُ بِبَنِي هَاشِمٍ صِلَةُ قَرَابَةٍ، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ، وكَانَ قَدْ بَذَلَ جُهْدَهُ أيَّامَ الحِصَارِ، فَقَدْ مَشَى إِلَى زُهَيْرِ بنِ أَبِي أُمَيَّةَ المُخْزُومِيِّ -وكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتُ عَبْدِ المُطَّلِبِ- فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ! أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ، وتَنْكِحَ النِّسَاءَ، وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ (¬3) مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 331). (¬2) قلتُ: وعَلى هذا يكُونُ حِصَارُ الشِّعْبِ فِي مُحرم سنة سبع من المَبْعَثِ إلى السنة العاشرة من المَبعثِ، وفيها تُوفي أبو طالب. وانظر فتح الباري (7/ 590) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 101). (¬3) ابْتَاعَ الشَّيْءَ: اشْتَرَاهُ. انظر النهاية (1/ 170).

يُنْكَحُ إِلَيْهِمْ، أمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الحَكَمِ بنِ هِشَامٍ، ثُمَّ دَعَوتُهُ إلى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، مَا أَجَابَكُمْ إِلَيْهِ أَبَدًا، قَالَ: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ! فَمَاذَا أَصْنَعُ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِيَ رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا حَتَّى أَنْقُضَهَا، قَالَ: قَدْ وَجَدْتُ رَجُلًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ . قَالَ: أَنَا، قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: ابْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا. فَذَهَبَ إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: يَا مُطْعِمُ! أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ (¬1) مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، مُوَافِقٌ لِقُرَيْشٍ فِيهِ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَيْهَا مِنْكُمْ أَسْرَعُ، قَالَ: وَيْحَكَ! فَمَاذَا أصْنَعُ؟ إِنَّمَا أنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، قَالَ: قَدْ وَجَدْتُ ثَانِيًا، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أنَا، قَالَ: ابْغِنَا ثَالِثًا، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: ابْغِنَا رَابِعًا، فَذَهَبَ إلى أَبِي البَخْتَرِيِّ بنِ هِشَامٍ، فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَنْ هُوَ؟ ، قَالَ: زُهَيْرُ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَالمُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وَأَنَا مَعَكَ، قَالَ: ابْغِنَا خَامِسًا. فَذَهَبَ إلى زَمْعَةَ بنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فكَلَّمَهُ، وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقَّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ الذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ؟ . ¬

_ (¬1) البَطْنُ: مَا دُونَ القَبِيلَةِ وفَوْقَ الفَخِذِ. انظر النهاية (1/ 137).

قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ سَمَّى لَهُ القَوْمَ. فَاتَّعَدُوا (¬1) الحَجُونِ (¬2) لَيْلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ. فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، وتَعَاقَدُوا عَلَى القِيَامِ فِي الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أنَا أَبْدَؤُكُمْ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا أصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى أنْدِيَتِهِمْ (¬3)، وغَدَا زُهَيْرٌ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ! أنَأْكُلُ الطَّعَامَ، ونَلْبَسُ الثِّيَابَ، وبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ؟ وَاللَّهِ لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ القَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ المَسْجِدِ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ لَا تُشَقُّ، فَقَالَ زَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ! . فَقَالَ أَبُو البَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ، لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ. فَهُنَا قَامَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، فَقَالَ: صَدَقْتُمَا، وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إلى اللَّهِ مِنْهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا، وَقَالَ هِشَامُ بنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ، تُشُووِرَ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا المَكَانِ. ¬

_ (¬1) اتَّعَدُوا: أي تَوَاعَدُوا. انظر لسان (15/ 342). (¬2) الحَجُونِ: هوَ الجَبَل المُشْرف ممَّا يلي شِعْبَ الجَزَّارِينَ بمكةَ. انظر النهاية (1/ 335). (¬3) النَّادِي: مُجْتَمَعُ القَوْمِ وأهْلُ المَجْلِسِ. انظر النهاية (5/ 31).

* إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- عمه بنقض الصحيفة

* إِخْبَارُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمَّهُ بِنَقْضِ الصَّحِيفَةِ: وكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَخْبَرَ عَمَّهُ أبَا طَالِبٍ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أمْرِ الصَّحِيفَةِ، وأنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهَا الأَرَضَةَ (¬1) فَلَحَسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مَنْ جَوْرٍ، أَوْ ظُلْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ بُهْتَانٍ (¬2)، وَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا للَّهِ إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا. وفِي رِوَايَةٍ: لَمْ تَتْرُكِ الأَرَضَةُ اسْما للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا لَحَسَتْهُ، وبَقِيَ مَا فِيهَا مِنْ شِرْكٍ، أَوْ ظُلْمِ بَغْيٍ، وَالرِّوَايَةُ الأُولَى أَثْبَتُ (¬3)، فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ لِعَمِّهِ، قَالَ لَهُ: أرَبُّكَ أخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لَا وَالثَّوَاقِبِ (¬4) مَا كَذَبْتَنِي. * صِدْقُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا قَالَ: فَانْطَلَقَ يَمْشِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ، حَتَّى أَتَوا المَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ قُرشٌ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنْ شِدَّةِ البَلَاءِ لِيُسْلِمُوهُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَتْ أُمُورٌ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ، فَأْتُوا بِصَحِيفَتِكُمْ التِي فِيهَا مَوَاثِيقُكُمْ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ -وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الصحِيفَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِهَا- ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ لِأُعْطِيَكُمْ أَمْرًا ¬

_ (¬1) الأرَضَةُ: هِيَ دُوَيْبَةٌ تَأْكُلُ الخَشَبَ ونحوه. انظر لسان العرب (1/ 119). (¬2) البُهْتَانُ: هوَ الكَذِبُ والافْتِرَاءُ. انظر النهاية (1/ 162). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 590). (¬4) الثَّوَاقِبُ: هي الكَوَاكبُ المُضِيئَةُ. انظر لسان العرب (2/ 111).

فِيهِ نَصَفٌ (¬1) بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أخْبَرَنِي وَلَمْ يَكْذِبْنِي قَطُّ، أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَى صَحِيفَتِكُمْ التِي كتَبْتُمُ الأَرَضَةَ، فَأَكَلَتْ جَمِيعَ مَا فِيهَا إِلَّا: "بِاسِمِكَ اللَّهُمَّ" (¬2). وفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمْ تَتْرُكْ فِيهَا اسْمًا للَّهِ إِلَّا لَحَسَتْهُ، وتَرَكَتْ فِيهَا غَدْرَكُمْ وتَظَاهُرَكُمْ عَلَيْنَا بِالظُّلْمِ، فَإِنْ كَانَ الحَدِيثُ كَمَا يَقُولُ فَأَفِيقُوا، فَوَاللَّهِ لَا نُسْلِمُهُ حَتَّى نَمُوتَ عَنْ آخِرِنَا، وإِنْ كَانَ الذِي يَقُولُ بَاطِلًا دَفَعْنَا إِلَيْكُمْ صَاحِبَنَا، فَقتَلْتُمْ أَوِ اسْتَحْيَيْتُمْ، فَقَالُوا: قَدْ أَنْصَفْتَنَا رَضِينَا بِالذِي تَقُولُ، فَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ، فَوَجَدُوا الأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ صِدْقَ مَا جَاءَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ، وَنُكِسُوا عَلَى رُؤِوسِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: هَذَا سِحْرُ ابنِ أَخِيكَ، وزَادَهُمْ ذَلِكَ بَغْيًا وعُدْوَانًا. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! عَلَامَ نُحْبَسُ ونُحْصَرُ، وَقَدْ بَانَ الأَمْرُ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أنَكُمْ أَوْلَى بِالظُّلْمِ، وَالقَطِيعَةِ، والإِسَاءَةِ؟ ثُمَّ دَخَلَ هُوَ وأصْحَابُهُ بَيْنَ أسْتَارِ الكَعْبَةِ وَالكَعْبَةِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! انْصُرْنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَقَطَعَ أرْحَامَنَا، واسْتَحَلَّ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَّا، ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى الشِّعْبِ. ¬

_ (¬1) النَّصَفُ: أيْ أمْرٌ وَسَطٌ. انظر لسان العرب (14/ 166). (¬2) قال الإمام الطبري في تاريخه (1/ 553): وهي فَاتِحَةُ ما كَانَتْ تَكْتُبُ قُرَيْشٌ، تَفْتَتِحُ بها كِتَابَهَا إذا كتَبَتْ.

* آخر مفاوضات قريش مع أبي طالب

وعِنْدَ ذَلِكَ قَامَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ إِلَى الصَّحِيفَةِ فَمَزَّقَهَا، ثُمَّ مَشَى إِلَى أُولَئِكَ الرَّهْطِ مِنْ قُرَيْشٍ الذِينَ أجْمَعُوا أمْرَهُمْ عَلَى نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، فَلَبِسُوا السِّلَاحَ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى بَنِي هَاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ فَأَمَرُوهُمْ بِالخُرُوجِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، فَفَعَلُوا. وكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ الشِّعْبِ في أَوَّلِ السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنَ البِعْثَةِ (¬1). * آخِرُ مُفَاوَضَاتِ قُريشٍ مَعَ أَبِي طَالِبٍ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الشِّعْبِ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وعَادَتْ قُرَيْشٌ لِشَرِّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشِّدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابِهِ، وَظَلَّ أَبُو طَالِبٍ يَحُوطُ ابنَ أخِيهِ، ويَمْنَعُهُ إِلَى أَنْ لَاحَقَهُ المَرَضُ وَاشْتَدَّ بِهِ، وحِينَئِذٍ حَاوَلَ المُشْرِكُونَ مَرَّةً أُخْرَى أَنْ يُفَاوِضُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ يَدَيْ أَبِي طَالِبٍ، لِخَوْفِهِمْ أَنْ تُعَيِّرَهُمُ العَرَبُ إِنْ أتَوْا بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمُنْكَرٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، فَيَقُولُونَ: تَرَكُوهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ عَمُّهُ تَنَاوَلُوهُ. فَلَمَّا اشْتَكَى (¬2) أَبُو طَالِبٍ وبَلَغَ قُريْشًا ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل المقاطعة في: سيرة ابن هشام (1/ 388) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 100) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 311) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 271) - فتح الباري (7/ 589) - البداية والنهاية (3/ 93) - وروى البخاري في صحيحه - كتاب الأنصار - باب تقاسم المشركين علي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3882) - مختصرًا جدًّا عن المقاطعة. (¬2) أي مَرِضَ.

حَمْزَةَ وعُمَرَ قَدْ أسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ في قبائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، ولْيُعْطِهِ مِنَّا، وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا (¬1) أَمْرَنَا. فَمَشَى إِلَيْهِ أشْرَافُهُمْ، وَكَانُوا خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ رَجُلًا، مِنْهُمْ: عُتْبَةُ وشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وأَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، وَالعَاصُ بنُ وَائِلٍ، والأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، والأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَدَّمُوا رَجُلًا مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ عَلَى أَبِي طَالِبٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: يَا أبَا طَالِبٍ! إِنَّكَ كَبِيرُنَا وسَيِّدُنَا، فَأَنْصِفْنَا مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَمُرْهُ فَلْيَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا ونَدَعَهُ وإِلَهَهُ -وفِي لفظٍ: قَالُوا يَا أبَا طَالِبٍ! إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى، وتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الذِي بَيْنَنَا وبَيْنَ ابْنِ أخِيكَ، فَادْعُهُ، فَخُذْ لَه مِنَّا، وخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفَّ عَنْهُ، وَنَكُفَّ عَنْهُ، وليَدَعَنَا ودِينَنَا، ونَدَعَهُ ودِينَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَخَلَ البَيْتَ، وبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْرُ مَجْلِس رَجُلٍ، فَخَشِيَ أَبُو جَهْلٍ إِنْ جَلَسَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى جَنْبِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَكُونَ أَرَقَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَثَبَ فَجَلَسَ في ذَلِكَ المَجْلِسِ، وَلَمْ يَجِدِ ¬

_ (¬1) ابتَزَّهُ: أي قَهَرَهُ وغَلَبَهُ. انظر النهاية (1/ 125).

النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَجْلِسًا قُرْبَ عَمِّهِ فَجَلَسَ عِنْدَ البَابِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي! هَؤُلَاءِ أشْرَافُ قَوْمِكَ، قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ، لِيُعْطُوكَ وليَأْخُذُوا مِنْكَ، وفِي لفظٍ: هَؤُلَاءِ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ، وَقَدْ سَأَلُوكَ أَنْ تَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِهِمْ، ويَدَعُوكَ وإِلَهَكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ فَقَدْ أنْصَفُوكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ هَذِهِ، هَلْ أَنْتُمْ مُعْطِيَّ كلِمَةً إِنْ أَنْتُمْ تَكَلَّمْتُمْ بِهَا مَلَكْتُمْ بِهَا العَرَبَ، ودَانَتْ لَكُمْ بِهَا العَجَمُ؟ ". وفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: يَا ابْنَ أَخِي! مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُرِيدُ مِنْهُمْ كلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ العَجَمُ الجِزْيَةَ"، قَالَ أَبُو طَالِبٍ: كَلِمَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ"، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: نَعَمْ وأَبِيكَ، وعَشْرَ كَلِمَاتٍ. وفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَبُو جَهْلِ مِنْ بَيْنِ القَوْمِ: إِنَّ هَذِهِ لَكَلِمَةٌ مُرْبِحَةٌ، لَنُعْطيَنَّكَهَا وَعَشرًا مَعَهَا فمَا هِيَ؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَقُوُلونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ". فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا (¬1). ¬

_ (¬1) أي ما ظَلَمْتَهُم بسُؤَالِكَ. انظر النهاية (2/ 425). الشَّطَطُ: هوَ الجَوْرُ في الحُكْم. انظر لسان العرب (7/ 119). ومنهُ قوله تَعَالَى في سورة الكهف آية (14): {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوْا فَقَالُوْا رَبُّنَا =

أَمَّا زُعَمَاءُ المُشْرِكِينَ فَصفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟ إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُ، ثُمَّ قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَنَشْتُمَنَّكَ، وَإِلَهَكَ الذِي يَأْمُرُكَ بِهَذَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (¬1) (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (¬2) (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ (¬3) حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ ¬

_ = رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}. (¬1) قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وإسماعيل بن أبي خالد، وابن عيينه: أي ذِي الشَّأنِ والمَكَانَةِ. انظر تفسير ابن كثير (7/ 51). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 51): أي إِنَّ في هذا القرآن لَذِكْرًا لمن يتذَكَّر، وعِبْرة لمن يَعْتَبِرَ، وإنما لم يَنتفِعْ بهِ الكافِرُونَ لأنَّهُمْ "في عِزَّةٍ" أي اسْتِكْبَارًا عنهُ وحَمِيَّة، و"شِقَاق" أي: مُخَالفَةٍ له ومُعَانَدَةٍ ومُفَارَقَةٍ. (¬3) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 52 - 53): هذه الكلمة وهي "لَاتَ"، هِي: "لا" التِي للنَّفْي، زِيدتْ معها "التَّاءُ"، كما تزادُ في "ثَمَّ"، فيقولون: ثَمَّتَ، و"رُبَّ"، فيقولون: رُبَّتْ، وهي مَفْصُولةٌ، والوَقْفُ عليها. وأنشدَ بعضُهُم: وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ. بِخَفْضِ السَّاعة، وأهلُ اللغةِ يَقولونَ: النَّوَصُ: التَّأْخُّرُ، والبَوَصُ: التَقَدُّمُ، ولهذَا قَال تَعَالَى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}: أي ليسَ الحِينُ حِينَ فِرَارٍ ولا ذَهَابٍ.

الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ (¬1) يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (¬2). * * * ¬

_ (¬1) قال الإمام الطبري في تفسيره (10/ 552): أي: أن هذا القول الذي يقول محمد، ويدعونا إليه، من قول لا إله إلا اللَّه، شيءٌ يريده منا محمد يطلب به الاستعلاء علينا، وأن نكون له فيه أتباعًا، ولسنا مجيبيه إلى ذلك. (¬2) أخرج هذه القصة: الإمام الترمذي في جامعه - كتاب تفسير القرآن - باب سورة ص - رقم الحديث (3512) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2008) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر الإخبار عن أداء العجم الجزية إلى العرب - رقم الحديث (6686) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 31) - وإسنادها ضعيف - وأخرجها الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب سورة ص - رقم الحديث (3670) - وإسناده حسن.

وفاة أبي طالب

وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ (¬1) وَلَمْ يَلْبَثْ أَبُو طَالِبٍ أَنْ وَافَتْهُ المَنِيَّةُ، وكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الشِّعْبِ في آخِرِ السَّنَةِ العَاشِرَةِ مِنَ المَبْعَثِ (¬2)، وذَلِكَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً (¬3). ولَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ (¬4) دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وعَبْدُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 591) والإصابة (7/ 196): أبو طالب، واسمُهُ عندَ الجَمِيعِ عَبْدُ مَنَافٍ، وُلدَ قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخمس وثلاثين سنة، وكان شَقِيقَ عبدِ اللَّهِ والدَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولذلكَ أَوْصَى به عبدُ المُطَّلِبِ عِنْدَ موتِهِ فكفِلَهُ إلى أن كَبُرَ، واستمَرَّ علي نَصْرِهِ بعد أن بُعِث إلى أن مات أبو طالب، وكان يَذُبُّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَرُدُّ عنه كل من يُؤْذِيهِ، وأخباره في حِيَاطَتِهِ، والذَّبِّ عنه مَعروفة مشهورَة، ومما اشتهر من شِعْرِهِ في ذلك قوله: واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إليكَ بِجمِعِهِمْ ... حتَّى أُوسَّدَ في التُّرَابِ دَفِينَا وهو مُقيمٌ مع ذلك علي دِين قومهِ، وتوفي بعد خُرُوجه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الشِّعبِ في العَام العاشر منَ المَبْعَثِ. (¬2) قلتُ: اخْتُلِفَ في الشهر الَّذي مات فيه أبو طالب، فقيل: في رمضان، وقيل: في شوال، وقيل: في رجب. واللَّه أعلم. (¬3) انظر فتح الباري (7/ 591) - زاد المعاد (1/ 95) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 59). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (1/ 190): المراد قربَتْ وفاته، وحضَرَت دلائلها، وذلك قبل المُعَايَنهِ والنَّزْعِ، ولو كان في حالِ المُعاينة لما نَفَعَهُ الإيمان لقوله تَعَالَى في سورة النساء آية (18): {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ}. ويدُل علي أنَّه قبل المُعَاينة محاوَرَتُهُ للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعَ كُفَّارِ قريش.

بنُ أَبِي أُمَيَّةَ في نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَة أُحَاجُّ (¬1) لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (¬2). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمِّهِ: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي قُرَيْشٌ: يَقُولُونَ: ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 593): أُحَاجُّ: بتشديدِ الجيم وأصلُهُ أُحَاجِجُ، وكأنهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَهِمَ من امتِنَاع أبي طالب منَ الشَّهادَةِ في تلك الحالةِ أنَّه ظَنَّ أن ذلك لا يَنْفَعُهُ لِوُقُوعِهِ عند المَوْتِ، أو لكونه لم يتمكَّنْ من سائر الأعمالِ كالصلاةِ وغيرها، فلذلك ذَكَرَ لَهُ المُحَاجَجَةَ. (¬2) قلتُ: انظروا وتأمَّلُوا أثر الصُّحبة الفاسدةِ كيفَ جعلت أبا طالب يموتُ علي الكفر، وصَدَقَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عندَما قال: "المرءُ علي دِينِ خَليلِهِ، فليَنْظُرْ أحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ"، وفي رِواية: "مَنْ يُخَالِطْ". رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8417)، (4028) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب من يؤمر أن يجالس - رقم الحديث (4833) وإسناده جيد. وَقَالَ الشَّاعر: عنِ المرءِ لا تَسَلْ وسَلْ عن قَرِينِهِ ... فكُلُّ قَرِينٍ بالمُقَارَنِ يَقْتَدِي فَإِنْ كَانَ ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعَةً ... وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي إِذَا كُنْتَ في قومٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ ... ولا تَصحَبِ الأرْدَى فتَرْدَى مَعَ الرَّدِي (¬3) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب قصة أبي طالب - رقم الحديث (3884) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت. . - رقم الحديث (24).

* فوائد الحديث

إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ، لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬1). * فَوَائِدُ الْحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ: 1 - جَوَازُ زِيَارَةِ القَرِيبِ المُشْرِكِ وَعِيَادَتُهُ. 2 - وَفِيهِ أَنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ وَلَوْ في شِدَّةِ مَرَضِ المَوْتِ، حتَّى يَصِلَ إِلَى المُعَايَنَةِ فَلَا يُقْبَلُ، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَ} (¬2). 3 - وَفِيهِ أَنَّ الكَافِرَ إِذَا شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ نَجَا مِنَ العَذَابِ؛ لِأَنَّ الإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. 4 - وَفِيهِ أَنَّ عَذَابَ الكُفَّارِ مُتَفَاوِتٌ، وَالنَّفْعُ الذِي حَصَلَ لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ خَصَائِصِهِ بِبَرَكَةِ النِّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِنَّمَا عَرَضَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهَا مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الكَلِمَتَيْنِ صَارَتَا كَالكَلِمَةِ الوَاحِدَةِ، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَبُو طَالِبٍ كَانَ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يُقِرُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَلهَذَا قَالَ في الأَبْيَاتِ النُّونِيَّةِ: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت .. - رقم الحديث (25) (42). (¬2) سورة غافر آية (85).

* استغفار المسلمين لموتاهم الكفار

وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ صَادِقٌ ... وَلقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قَبْلُ أَمِينَا فَاقْتَصَرَ عَلَى أَمْرِهِ بِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ (¬1). * اسْتِغْفَارُ المُسْلِمِينَ لِمَوْتَاهُمُ الكُفَّارِ: وَأَخَذَ المُسْلِمُونَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَوْتَاهُمُ الذِينَ مَاتُوا وَهُمْ مُشْرِكُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2). وأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 594). (¬2) سورة التوبة آية (113). (¬3) سورة القصص آية (56). قال الحافظ في الفتح (7/ 593) - (9/ 459): أما نُزول هذهِ الآيةِ الثانيةِ فَوَاضِحٌ في قِصَّةِ أبي طالب، وأما نُزُولُ التي قبلها فَفِيهِ نظرٌ، ويظهرُ أَنَّ المُراد أن الآية المُتَعَلِّقَةَ بالاستغفارِ نَزَلت بعدَ أبي طالب بِمُدَّةٍ، وهي عامَّة في حقِّه وفي حَقِّ غيره، ويُؤَيِّدُ تأخيرَ النُّزُولِ، ما تقدَّمَ في تفسِيرِ براءَة من استغفارِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للمُنَافِقِينَ حتَّى نَزَلَ النهيُ عن ذلك، فإن ذلك يَقْتَضِي تأخِيرَ النُّزُولِ، وإن تَقَدَّمَ السَّبب، ويُشير إلى ذلك أيضًا قوله في حديثِ البابِ وأنزل اللَّه في أبي طالب: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} لأنهُ يُشْعِرُ بأن الآية الأولى نزلت في أَبِي طالب وفي غيره، والثانية نزلت فيه وَحْدَه، ويؤيِّدُ تعدُّدَ السَّبَبِ ما أخرجَ أحمدُ في مسندِهِ بسندٍ حسن - رقم الحديث (771) من طريق أبي إسحاق عن =

* عبرة وعظة لمن تدبر

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: هُوَ أعْلَمُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الغِوَايَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهَا نزلَتْ في أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ كَانَ يَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ، ويَقُومُ في صَفِّهِ ويُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا طَبِيعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ وَحَانَ أَجَلُهُ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الإيمَانِ، وَالدُّخُولِ في الإِسْلَامِ، فَسَبَقَ القَدَرُ فِيهِ، وَاخْتُطِفَ مِنْ يَدِهِ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وَللَّهِ الحِكْمَةُ التَّامَّةُ (¬1). * عِبْرَةٌ وَعِظَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ: وَإِنَّ الإِنْسَانَ لَيَقِفُ أمَامَ هَذَا الخَبَرِ مَأْخُوذًا بِصَرَامَةِ هَذَا الدِّينِ وَاسْتِقَامَتِهِ، فَهَذَا عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَافِلُهُ وحَامِيهِ وَالذَّائِدُ عَنْهُ، لَا يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ الإِيمَانَ، عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشِدَّةِ حُبِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُؤْمِنَ. ذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ إِلَى عَصَبِيَّةِ القَرَابَةِ وحُبِّ الْأُبُوَّةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَى العَقِيدَةِ. وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ هَذَا مِنْهُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لَهُ مَا كَانَ يُحِبُّهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ويَرْجُوهُ. فَأَخْرَجَ هَذَا الأَمْرَ -أَمْرَ الهِدَايَةِ- مِنْ حِصَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَعلَهُ خَاصًّا بِإِرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وتَقْدِيرِهِ. ومَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ، ومَا عَلَى الدَّاعِينَ بَعْدَهُ إِلَّا النَّصِيحَة. وَالقُلُوبُ بَعْدَ ¬

_ = أبي الخَلِيلِ عن علي قال: سمعتُ رَجُلًا يستغْفِرُ لأبويه، وهُمَا مشْرِكَانِ، فقلتُ: أيَسْتَغْفِرُ الرجلُ لأبويهِ وهُما مشركان؟ فقال: أوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إبرَاهِيمُ لأبيهِ؟ فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. . . إلى قوله تَعَالَى: تَبَرَّأَ مِنْه} (سورة التوبة آية 113 - 114). (¬1) انظر تفسير ابن كثير (6/ 246).

* دفن أبي طالب

ذَلِكَ بيْنَ أَصَابعِ الرَّحْمَنِ، وَالهُدَى وَالضَّلَالُ وِفْقَ مَا يَعْلَمُهُ مِنْ قُلُوبِ العِبَادِ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِلْهُدَى أَوْ لِلضَّلَالِ (¬1). * دَفْنُ أَبِي طَالِبٍ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ، وَالطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ فَوَارِ (¬2) أبَاكَ، ثُمَّ لَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي". قَالَ -رضي اللَّه عنه-: فَوَارَيْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُهُ، فَأَمَرَنِي، فَاغْتَسَلْتُ، وَدَعَا لِي (¬3). * مَصِيرُ أَبِي طَالِبٍ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الحَارِثِ عَنِ العَبَّاسَ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَوَاللَّهِ كَانَ يَحُوطُكَ (¬4) ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (5/ 2703). (¬2) التَّوَارِي: الاستِتَارُ، أرادَ بهِ الدَّفْنَ. انظر جامع الأصول (7/ 337). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب الرجل يموت وله قرابة مشرك - رقم الحديث (3214) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (122) - وأورده الذهبي في السيرة النبوية (1/ 193) وقال: هذا حديث حسن متصل. (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (3/ 71): يُقال: حَاطَهُ يَحُوطُهُ حَوْطًا وحِيَاطَةً: إذا صَانَهُ وحَفِظَهُ وذَبَّ عَنْهُ.

ويَغْضَبُ لَكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ في ضَحْضَاحٍ (¬1) مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ في الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ" (¬2). وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فيجْعَلُ في ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ" (¬3). وأخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ" (¬4). قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ: الحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ أبَا طَالِبٍ كَانَ تَابِعًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِجُمْلَتِهِ، إِلَّا أَنَّهُ مُثَبِّتٌ لِقَدَمَيْهِ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَسُلِّطَ العَذَابُ عَلَى قَدَمَيْهِ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 592) الضَّحْضَاحُ: هوَ استِعَارَةٌ، فإن الضَّحْضَاحَ منَ الماء ما تئلُغُ الكَعْبَ، والمعنَى أنَّه خَفَّفَ عنهُ العذابَ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب قصة أبي طالب - رقم الحديث (3883) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب شفاعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه - رقم الحديث (209). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب قصة أبي طالب - رقم الحديث (3885) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب شفاعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه - رقم الحديث (210). (¬4) رواه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب أهون أهل النار عذابًا - رقم الحديث (212) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2636).

خَاصَّةً لِتَثْبِيتِهِ إِيَّاهُمَا عَلَى مِلَّةِ آبَائِهِ (¬1). قُلْتُ: فَلَمْ يُفْلحْ أَبُو طَالِبٍ رَغْمَ كُلِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الحِيَاطَةِ وَالنَّصْرِ لِرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * * * ¬

_ (¬1) انظر الرَّوْض الأُنُف (2/ 255).

وفاة خديجة رضي الله عنها

وَفَاةُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِنَّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى الجَلِيلَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ آزَرَتْهُ في أَحْرَجِ الأَوْقَاتِ، وَأَعَانَتْهُ عَلَى إبْلَاع رِسَالَتِهِ، وشَارَكَتْهُ مَغَارِمَ الجِهَادِ المُرِّ، وَوَاسَتْهُ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، وَإِنَّكَ لِتُحِسُّ قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ عِنْدَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مِنْ زَوْجَاتِ الأَنْبِيَاءِ مَنْ خُنَّ (¬1) الرِّسَالة وَكَفَرْنَ بِرِجَالِهِنَّ، وَكُنَّ مَعَ المُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِنَّ وَآلِهِنَّ حَرْبًا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ (¬2). * وَقْتُ وَفَاتِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ (¬3). ¬

_ (¬1) قال اللَّه تَعَالَى في سورة التحريم آية (10): {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}. قال الحافظ ابن غير في تفسيره (8/ 171) في قوله تَعَالَى {فَخَانَتَاهُمَا} قال: وليسَ المرادُ في فاحِشَةٍ، بل في الدِّين، فإن نساءَ الأنبياءِ مَعْصُومَاتٌ عن الوُقُوعِ في الفاحِشَةِ، لحُرْمَةِ الأنبِيَاءِ. (¬2) انظر كتاب فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 122. (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب تزويج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة، =

* حزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها رضي الله عنها

قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَكَانَ مَوْتُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ المَبْعَثِ عَلَى الصَّوَابِ بِعَشْرِ سِنِينَ (¬1). قُلْتُ: مَاتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ في الإِسْرَاءَ والمِعْرَاجِ، لَكِنْ اخْتُلِفَ في تَعْيِينِ اليَوْمِ وَالشَّهْرِ، فَقِيلَ: بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أيَّامٍ، وقِيلَ: بِشَهْرٍ، وَقِيلَ: بِشَهْرَيْنِ (¬2). وَدُفِنَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالحَجُونِ في مَقَابِرِ أَهْلِ مَكَّةَ، ونَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حُفْرَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ الجَنَازَةِ شُرِعَتْ، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَقَدْ تُوُفِّيتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَهَا مِنَ العُمُرِ خَمْسٌ وسِتُّونَ سَنَةً، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذْ ذَاكَ في الخَمْسِينَ مِنْ عُمُرِهِ (¬3). * حُزْنُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَدْ وَجِدَ (¬4) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِفَقْدِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلَزِمَ ¬

_ = وقدومها المدينة - رقم الحديث (3896). (¬1) انظر فتح الباري (7/ 513). (¬2) انظر اختلاف الروايات في موتها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 352) - سبل الهدى والرشاد (2/ 434). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 111 - 112). (¬4) وَجِدَ: أي حَزِنَ. انظر لسان العرب (15/ 220).

* هديه -صلى الله عليه وسلم- عند المصيبة

بَيْتَهُ، وَأَقَلَّ الخُرُوجَ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. . . اجْتَمَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُصِيبَتَانِ (¬1)، فَلَزِمَ بَيْتَهُ، وَأَقَلَّ الخُرُوجَ (¬2). * هَدْيُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ المُصِيبَةِ: كَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ المُصِيبَةِ السُّكُونُ، وَالرِّضَى بِقَضَاءَ اللَّهِ، والحَمْدُ للَّهِ، وَالِاسْتِرْجَاعُ، ويَبْرَأُ مِمَّنْ خَرَّقَ لِأَجْلِ المُصِيبَةِ ثِيَابَهُ، أَوْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالنَّدْبِ والنِّيَاحَةِ، أَوْ حَلَقَ لَهَا شَعْرَهُ (¬3). * فَضْلُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ (¬4) مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ، أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ، فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامَ مِنْ رَبِّهَا (¬5) وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ ¬

_ (¬1) وهُمَا: مَوْتُ عمِّه أبي طالب، وخَدِيجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 101). (¬3) انظر زاد المعاد (1/ 508). (¬4) في رواية الإمام مسلم في صحيحه قال: أتَتْكَ. (¬5) قال ابن القيم في جلاء الأفهام ص 349: وهذه لعَمْرُ اللَّهِ خاصَّةٌ لم تَكُنْ لِسِوَاهَا.

في الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ (¬1)، لَا صَخَبَ (¬2) فِيهِ ولَا نَصَبَ" (¬3). قَالَ السُّهَيْلِيُّ: مُنَاسَبَةُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ -أَعْنِي المُنَازَعَةَ وَالتَّعَبَ- أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا دَعَا إِلَى الإِسْلَامِ أَجَابَتْ خَدِيجَةُ طَوْعًا فَلَمْ تُحْوِجْهُ إِلَى رَفْعِ صَوْتٍ، وَلَا مُنَازَعَةٍ، وَلَا تَعَبٍ في ذَلِكَ، بَلْ أَزَالَتْ عَنْهُ كُلَّ نَصبٍ، وَآنسَتْهُ مِنْ كُلِّ وِحْشَةٍ، وَهَوَّنَتْ عَلَيْهِ كُلَّ مَكْرُوهٍ، فنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْزِلُهَا الذِي بَشَّرَهَا بِهِ رَبُّها بِالصِّفَةِ المُقَابِلَةِ لِفِعَالِهَا (¬4). وَرَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ والتِّرْمِذِيُّ والإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 162): القَصَبُ: قال جمهُورُ العلماءِ: المرادُ به اللُّؤْلُؤُ المُجَوَّفُ. وقال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (1/ 417): وإنما بشَّرهَا ببَيْتٍ في الجنَّةِ من قَصَبٍ، لأنها حازَتْ قَصَبَ السَّبْقِ إلى الإيمَانِ. قال ابنُ الأثير في النهاية (4/ 59): ومعنى قَصَبُ السَّبْقِ: أي استَوْلَى عَلَى الأمر. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 518): الصَّخَبُ: هو الصِّيَاحُ والمُنَازَعَةُ برفعِ الصَّوْتِ. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 518): النَّصَبُ: هو التَّعَبُ. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب تزويج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خديجة وفضلها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (3820) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين - رقم الحديث (2432). (¬4) انظر الرَّوْض الأُنُف (1/ 417).

وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَالقَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ آسِيَةَ، ومَرْيَمَ، وخَدِيجَةَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ كَفِلَتْ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَحْسَنَتِ الصُّحْبَةَ في كَفَالَتِهَا وصَدَّقتهُ، فَآسِيَةُ رَبَّتْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وأحْسَنَتْ إِلَيْهِ، وصَدَّقَتْهُ حِينَ بُعِثَ، ومَريَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ كَفِلَتْ وَلَدَهَا أَتَمَّ كَفَالَةٍ، وأعْظَمَهَا، وصَدَّقَتْهُ حِينَ أُرْسِلَ، وخَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَغِبَتْ في تَزْوِيجِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَا، وَبَذَلَتْ في ذَلِكَ أمْوَالَهَا، وصَدَّقَتْهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ" (¬3). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَالأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرُ نِسَاءِ الأَرْضِ في عَصْرِهَا (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (7003) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب فضل خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رقم الحديث (3216) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12391). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 141). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب تزويج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خديجة وفضلها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (3815) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2430). (¬4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 161).

ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأَرْضِ خُطُوطًا أَرْبَعَةً قَالَ: "أتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ " قَالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، ومَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأةُ فِرْعَوْنَ" (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا غِرْتُ (¬2) عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُها أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فربَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلا خَدِيجَةُ؟ فَيَقُولُ: "إنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ (¬3)، وكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ" (¬4). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في المُسْنَدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2668) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن خديجة من أفضل نساء أهل الجنة - رقم الحديث (7010). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 515): فيه إثباتُ الغَيْرَةِ وأنها غيرُ مُسْتَنْكَرٍ، وُقُوعها من فاضِلاتِ النسَاءِ فضلًا عمَّنْ دُونَهُنَّ، وأن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كانت تَغَارُ من نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لكن كانت تغَارُ من خديجَةَ أكثر، وقد بَيّنَتْ سببَ ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إياها. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 516) أي كانت فاضِلةً وكانت عَافِلَةً، ونحو ذلك. (¬4) رواه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب تزويج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خديجة وفضلها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (3818).

* مكافأة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لخديجة رضي الله عنها

قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ، أَثْنَى عَلَيْهَا، فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: مَا أكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ (¬1)، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ، وصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، ورَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا (¬2) إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ" (¬3). * مُكَافَأَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَمِمَّا كَافَأَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في الدُّنْيَا أَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ في حَيَاتِهَا غَيْرَهَا، فَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ (¬4) مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمْ يَتَزَوَّجِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى خَدِيجَةَ حَتَّى مَاتَتْ، وهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيه بِيْنَ أَهْلِ العِلْم بِالأَخْبَارِ، وفِيهِ دَلِيل عَلَى عِظَمِ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 521): والمرادُ بالشّدْقَيْنِ: ما في باطنِ الفمِ فكَنَّتْ بذلِكَ عن سُقُوطِ أسنَانِهَا حتَّى لا يَبْقَى داخلِ فَمِهَا إلا اللحمِ الأحمرِ من اللِّثَةِ وغيرها. وقال النووي في شرح مسلم (15/ 164): معناه عجوزٌ كبيرَةٌ جِدًا، حتَّى سقَطَتْ أسنَانُهَا من الكِبَرِ، ولم يبقَ لِشِدْقِهَا بياضُ شيءٍ من الأسنان، إنمَا بقِيَ فيه حُمْرَةُ لِثَاتِهَا. (¬2) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 140): كان هذا الحديثُ قبل أن يُولَدَ إبراهيمُ ابن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من مارِيَة، وقبل مقدَمِهَا بالكليَّةِ وهذا مُعيَّن، فإن جميعَ أولادِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من خديجةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلا إبراهيم فمن مَارِيَهَ القِبْطِيَّة المِصْرِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬3) رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24864) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 140) وقال: تفرد به أحمد، وإسناده لا بأس به. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل خديجة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، رقم الحديث (2436).

قَدْرِهَا عِنْدَهُ، وَعَلَى مَزِيدِ فَضْلِهَا لِأَنَّهَا أَغْنَتْهُ عَنْ غَيْرِهَا وَاخْتَصَّتْ بِهِ بِقَدْرِ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ غَيْرُهَا مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَاشَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَهَا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ عَامًا، انْفَرَدَتْ خَدِيجَةُ مِنْهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا، وَهِيَ نَحْوُ الثُّلُثَيْنِ مِنَ المَجْمُوعِ، وَمَعَ طُولِ المُدَّةِ فَصَانَ قَلْبَهَا فِيهَا مِنَ الغَيْرَةِ، ومِنْ نَكَدِ الضَّرَائِرِ (¬1) الذِي رُبَّمَا حَصَلَ لَهُ هُوَ مِنْهُ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهِيَ فَضِيلَةٌ لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهَا غَيْرُهَا، وَمِمَّا اخْتُصَّتْ بِهِ سَبْقُهَا نِسَاءَ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَى الإِيمَانِ، فَسَنَّتْ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ آمَنَتْ بَعْدَهَا، فَيَكُونُ لَهَا مِثْلُ أَجْرِهِنَّ، لِمَا ثَبَتَ في الحَدِيثِ الذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (¬2) فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ "مَنْ سَنَّ في الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، كَانَ لَهُ أجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ" الحَدِيثَ. وَقَدْ شَارَكَهَا في ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرِّجَالِ، وَلَا يَعْرِفُ قَدْرَ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الثَّوَابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (¬3). وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: في هَذهِ الأَحَادِيثِ دَلِيلٌ لِحُسْنِ العَهْدِ، وحِفْظِ الوُدِّ، ورِعَايَةِ حُرْمَةِ الصَّاحِبِ، وَالعَشِيرَةِ حَيًّا وَمَيْتًا، وَإِكْرَامِ أَهْلِ ذَلِكَ الصَّاحِبِ (¬4). ¬

_ (¬1) الضَّرَائِرُ: زوجاتُ الرَّجُلِ. انظر لسان العرب (8/ 48). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم الحديث (19156). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 517). (¬4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 164).

* خصائص خديجة رضي الله عنها

* خَصَائِصُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ خَصَائِصِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: 1 - أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا. 2 - وَمِنْهَا: أَنَّ أَوْلَادَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّهُمْ مِنْهَا إِلَّا إِبْرَاهِيمَ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ مِنْ سُرِّيَتِهِ (¬1) مَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. 3 - وَمِنْهَا: أَنَّهَا خَيْرُ نِسَاءِ الأُمَّةِ. 4 - ومِنْهَا: أَنَّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَسُؤْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطُّ، وَلَمْ تُغَاضِبْهُ، وَلَمْ يَنَلْهَا مِنْهُ بَلَاءٌ، ولَا عَتْبٌ قَطُّ، وَلَا هَجْرٌ، وَكَفَى بِهَذِهِ مَنْقَبَةً وَفَضِيلَةً. 5 - وَمِنْ خَوَاصِّهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ آمَنَتْ بِاللَّهِ وَرَسُولِه -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهَا. 6 - وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعَثَ السَّلَامَ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ لَعَمْرُ اللَّهِ خَاصَّةٌ لَمْ تَكُنْ لِسِوَاهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬2). ¬

_ (¬1) السُّرِّيَّةُ: بضم السِّين وتشدِيد الراءِ المكسُورة: هي الجارِيَةُ المُتَّخَذَةُ للمِلْكِ والجِمَاعِ. انظر لسان العرب (6/ 235). (¬2) انظر جلاء الأفهام ص 348.

* النبي -صلى الله عليه وسلم- يعقد على عائشة رضي الله عنها

* النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْقِدُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ وأحْمَدُ في المُسْنَدِ، وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ، وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِي، فكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْسِمُ لِي بِيَوْمِهَا مَعَ نِسَائِهِ، قَالَتْ: وكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: مَعْنَاهُ عَقَدَ عَلَيْهَا -أَيْ عَلَى سَوْدَةَ- بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَى عَائِشَةَ، وَأَمَّا دُخُولُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهَا -أيْ سَوْدَةُ- فكَانَ قَبْلَ دُخُولهِ عَلَى عَائِشَةَ بِالاتِّفَاقِ (¬2). ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شَوَّالَ، وَبَنَى (¬3) بِي في شَوَّال (¬4)، فَأَيُّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه - كتاب الرضاع - باب جواز هبتها نوبتها لضرتها - رقم الحديث (1463) - والإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (24395). (¬2) انظر فتح الباري (10/ 391). (¬3) البِنَاءُ: هو الدُّخُول بالزَّوجَةِ. انظر النهاية (1/ 156). (¬4) شَوَّالُ: من أسمَاء الشُّهور معروفٌ، اسم الشهر الَّذي يَلِي شهر رمضان، وهو أوَّل أشهر الحج، قيل: سُمي بتشوِيلِ لَبَن الإبل، وهو تَوَلِّيهِ وإدبَارُهُ، وكانت العرب تَطَّيَّر من عقدِ المناكحٍ فيه، وتقولُ: إن المنكوحَةَ تَمتنعُ من ناكِحِهَا كما تَمتنعُ طُروقةُ الجَمَل إذا لقحتْ وشَالتْ بِذَنَبِهَا، فأبطلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طِيَرَتَهُمْ، وتزوَّج عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في شوال. انظر لسان العرب (7/ 243). قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 179): قَصَدت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بهذا الكلامِ رَدَّ ما كانت الجاهليةُ عليه، وما يتخيَّلُه بعض العوَامِّ اليوم من كَراهة التزوُّجِ والتزويج، =

كَانَ أحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي (¬1). وَكَانَ عُمُرُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَمَا عَقَدَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتُّ سِنِينَ، ودَخَلَ بِهَا في المَدِينَةِ بَعْدَ الهِجْرَةِ، وعُمْرُهَا تِسْعُ سِنِينَ. فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ ومُسْلِم في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنَا بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وبَنَى بِي وَأنَا بِنْتُ تِسعِ سِنِينَ (¬2). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، قَبْلَ مَخْرَجِهِ إِلَى المَدِينَةِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَأَنَا بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ (¬3). قَالَ الإِمَامُ النَووِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في رِوَايَةٍ: تَزَوَّجَنِي وَأَنَا بِنْتُ سَبْعٍ، وفِي أكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِنْتُ سِتٍّ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا سِتٌّ وكَسْرٌ فَفِي ¬

_ = والدخولِ في شوال، وهذا باطلٌ لا أصلَ له، وهو من آثارِ الجاهليةِ كانوا يتطيَّرون بذلك لما في اسم شوَّال من الإشَالةِ والرَّفع. (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب استحباب التزوج والتزويج في شوال، واستحباب الدخول فيه - رقم الحديث (1423). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب إنكاحِ الرجل ولده الصغار - رقم الحديث (5133) - (5134) - وأخرجه في مناقب الأنصار - باب تزويج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة - رقم الحديث (3894) - (3896) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تزويج الأب البكر الصغيرة - رقم الحديث (1422) (70). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26397).

* زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بسودة بنت زمعة رضي الله عنها

رِوَايَةٍ اقْتَصَرَتْ عَلَى السِّنِينَ، وفِي رِوَايَةٍ عَدَّتِ السَّنَةَ التِي دَخَلَتْ فِيهَا، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ السِّيَاقَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ العَقْدَ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى العَقْدِ بِسَوْدَةَ (¬2). * زَوَاجُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ بِهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وانْفَرَدَتْ بِهِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أكْثَرَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، وكَانَتْ سَيِّدَةً جَلِيلَةً نَبِيلَةً ضَخْمَةً (¬3). وكَانَتْ سَوْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ ابْنِ عَمِّهَا السَّكْرَانُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- أَخِي سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ السَّكْرَانُ أَسْلَمَ مَعَهَا قَدِيمًا، وَهَاجَرَ بِهَا إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ الهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ رَجَعَ بِهَا إِلَى مَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا قَبْلَ الهِجْرَةِ، وقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ بِالحَبَشَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 177). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 145). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 265). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (7/ 268) - الإصابة (3/ 113) - البداية والنهاية (3/ 145).

أخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، والحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ويَحْيَى، قَالَا: لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ (¬1) امْرَأَةُ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: "مَنْ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا، قَالَ: "فَمَنِ البِكْرُ؟ " قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ، عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: "وَمَنِ الثَّيِّبُ؟ " قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، آمَنَتْ بِكَ واتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ، قَالَ: "فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ". . . قَالَتْ: فَذَهَبْتُ إِلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: مَاذَا أدْخَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ مِنَ الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: أرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخْطِبُكِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: وَدِدْتُ، ادْخُلِي إِلَى أَبِي، فَاذْكُرِي ذَاكَ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أدْرَكَتْهُ السِّنُّ، قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الحَجِّ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَحَيَّتهُ بِتَحِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ، قَالَ: فَمَا شَأنكِ؟ قَالَتْ: أرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، أخْطِبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ، قَالَ: كُفْءٌ (¬2) كَرِيمٌ، مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ؟ قَالَتْ: تُحِبُّ ذَاكَ، قَالَ: ادْعُهَا لِي، فَدَعَتْهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، إِنَّ هَذِهِ تَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ¬

_ (¬1) هي خَولة بنتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ امرأةُ عثمان بن مَظْعون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. كنيتها أمُّ شَرِيكٍ، وكانت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صالحةً فاضلةً، روت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وروى عنها سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب. انظر الإصابة (8/ 116). (¬2) الكُفْءُ: النظِيرُ والمُسَاوِي، ومنه الكفاءةُ في النِّكَاحِ، وهو أن يكونَ الزوجُ مُسَاويا للمرأةِ في حَسَبِهَا ودِينها ونسَبها وبَيْتها، وغير ذلك. انظر النهاية (4/ 156).

* شدة اتباع سودة بنت زمعة رضي الله عنها لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-

قَدْ أَرْسَلَ يَخْطِبُكِ، وَهُوَ كُفْءٌ كَرِيمٌ، أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: ادْعِيهِ لِي، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ، فزَوَّجَهَا إيَّاهُ (¬1). * شِدَّةُ اتِّبَاعِ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَمْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِنِسَائِهِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: "هَذِهِ، ثُمَّ ظُهُورُ الحُصُرِ" (¬2)، قَالَ: فكُنَّ كُلُّهُنَّ يَحْجُجْنَ إِلَّا زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وسَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ، وكَانتا تَقُولَانِ: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ أَنْ سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25769) - والحاكم في المستدرك - كتاب النكاح - باب تزوِيجِ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2752). (¬2) أي: أنكُنَّ لا تَعُدْنَ تَخْرُجْنَ من بيوتكُنَّ وتلزَمْنَ الحُصُرَ، وهي جمع الحَصِيرِ الَّذي يُبْسَطُ في البيوت. انظر النهاية (1/ 380). قال البيهقي فيما نقله الحافظ عنه في الفتح (4/ 556): في هذا الحديث دليلٌ على أن المُراد وجوبُ الحج مرَّة واحدةً كالرجالِ، لا المنعَ من الزِّيارة، وفيه دليل على أن المراد بالقرار في البيوتِ ليسَ على سبيلِ الوُجُوب. قُلتُ: ولذلك قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كما في صحيح البخاري - كتاب جزاء الصيد - بابُ حج النساء - رقم الحديث (1861) قالت: قلتُ: يا رَسُول اللَّهِ ألا نَغْزُو ونُجَاهِدُ معكم؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لكِنْ أحْسَنُ الجهادِ وأجمَلُهُ الحجُّ حجٌ مَبْرُورٌ" فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فلا أدَعُ الحجَّ بعد إذا سمعتُ هذا من رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21905) - (26751) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب فرض الحج - رقم الحديث (1722) - وأخرجه الطحاوي في شرح المشكل - رقم الحديث (5603).

* جعل سودة يومها لعائشة

* جَعْلُ سَوْدَةَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ: ولَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، خَشِيَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَأَلتْهُ أَنْ يَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلَا يُفَارِقَهَا، فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلّقَهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَتْ: لَا تُطَلِّقْنِي وأَمْسِكْنِي، وَاجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعلَ، فنَزَلَتْ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلحُ خَيْرٌ} (¬1). * وَفَاةُ سَوْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَكَثَتْ سَوْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى تُوُفِّيَتْ بِالمَدِينَةِ في آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، هَذَا هُوَ المَشْهُورُ في وَفَاتِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (128) - والحديث أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة النساء - رقم الحديث (3289) - وأورده الحافظ في الإصابة (19618) - وحسَّن إسناده. (¬2) انظر الإصابة (19718) - سير أعلام النبلاء (2/ 266).

اشتداد إيذاء قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة عمه أبي طالب

اشْتِدَادُ إيذَاءِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ أبي طَالِبٍ رَأَيْنَا كَيْفَ تَتَابَعَتِ المَصَائِبُ عَلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ مِنَ الشِّعْبِ في العَامِ العَاشِرِ مِنَ البِعْثَةِ، حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، وخَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، في العَامِ نَفْسِهِ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تَتَوَالَى عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَصَائِبُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَدِ اجْترَؤُوا عَلَيْهِ، ونَالُوهُ بِالنَّكَالِ، وَالأَذَى بِالقَوْلِ وَالفِعْلِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الكَلَامِ وَالِاسْتِهْزَاءِ قَبْلَ وَفَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وعِنْدِي أَنَّ غَالِبَ مَا رُوِيَ مِنْ طَرْحِ الكُفَّارِ سَلَا الجَزُورِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ يُصَلِّي، وكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ مِنْ خَنْقِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَنْقًا شَدِيدًا، حَتَّى حَالَ دُونَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، وَكَذَلِكَ عَزْمُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ عَلَى أَنْ يَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ يصَلِّي، فَحِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ذَلِكَ، مِمَّا أشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬1). رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا زَالَتْ قُرْيشٌ كَاعَةً (¬2) حَتَّى توفِّيَ أَبُو طَالِبٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (3/ 146). (¬2) كَاعَةً: جمع كَاعٍ، وهو الجَبَانُ، أرادَ أنهم كَانُوا يجبُنُونَ عن أذى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حيَاةِ أبي طالب، فلمَّا ماتَ اجتَرَؤُوا عليهِ. انظر النهاية (4/ 156). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة الأولى إلى الحبشة - رقم الحديث =

وَرَوَى البَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا نَالَتْ مِنِّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ" (¬1). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ في حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتَّى اعْترَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْتَهُ، وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التُّرَابَ، وهِيَ تَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ لَهَا: "لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ، فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعُ أَبَاكِ" (¬2). رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ ضعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُنْتُ بَيْنَ شَرِّ جَارَيْنِ، بَيْنَ أَبِي لَهَبٍ وعُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، إِنْ كَانَا لَيَأْتِيَانِ بِالفُرُوثِ فَيَطْرَحَانِهَا عَلَى بَابِي، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَأْتُونَ بِبَعْضِ مَا يَطْرَحُونَ مِنَ الأَذَى فَيَطْرَحُونَهُ عَلَى بَابِي"، فَيَخْرُجُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَقُولُ: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! أَيُّ جِوَارٍ هَذَا؟ "، ثُمَّ يُلْقِيهِ (¬3). ¬

_ = (4302) - والبيهقي في الدلائل (2/ 350). (¬1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 350) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 30) بسند صحيح إلى عروة، لكنه مرسلًا. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 30). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 97) - وانظر السلسلة الضعيفة - رفم الحديث (4151) - وضعيف الجامع - رقم الحديث (4277) - للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ.

* قصة في إيذاء الكفار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* قِصَّةٌ في إيذَاءِ الكُفَّارِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ ابنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ أخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَئٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إِذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْط -لَعَنَهُ اللَّهُ- فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكبِهِ ودَفَعَهُ عَنِ النَبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: {أَتَقَتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِيَ اللَّهُ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَهَذَا الذِي أَجَابَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهَا: "وَكَانَ أشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ. . . "، فَذَكَرَ قِصَّتَهُ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ، وَالجَمْعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَنَدَ إِلَى مَا رَوَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا لِلْقِصَّةِ التِي وَقَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالطَّائِفِ (¬2). * قِصَّةٌ أُخْرَى في إيذَاءِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ومِمَّا لَقِيَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ مَا رَوَاهُ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَقَدْ ضَرَبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَجَعَلَ يُنَادِي، وَيَقُولُ: أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ ¬

_ (¬1) سورة غافر آية (28) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المشركين بمكة - رقم الحديث (3856). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 558).

* قصة أخرى في إيذاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ فَقَالُوا مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا ابنُ أَبِي قُحَافَةَ المَجْنُونُ (¬1). * قِصَّة أُخْرَى في إيذَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ، وأَبُو جَهْلٍ وأصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، أيُّكُّمْ يَجِيءُ بِسَلَى (¬2) جَزُورِ (¬3) بَنِي فُلَانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أشْقَى القَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، وهُوَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فنَظَرَ (¬4) حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أنْظُرُ لَا أُغْنِي (¬5) شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ (¬6)، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ (¬7) بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب خلافة أبي بكر - رقم الحديث (4481). (¬2) السَّلَى: هو الجلدُ الرقيقُ الَّذي يَخرج فيهِ الولدُ من بطنِ أُمِّهِ مَلْفُوفًا فيه، وهو بالنسبة للآدمِيَّات يسمى المَشِيمَةَ. انظر النهاية (2/ 357). (¬3) الجَزُورُ: البَعيرُ ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬4) أي: انتَظِرْ. (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/ 465): أي لا أُغْنِي في كِفِّ شرِّهم، أو لا أغيِّرُ شيئًا من فِعلهم. (¬6) قال الحافظ في الفتح (1/ 465): المَنَعَةُ بفتح النون القُوَّة، وإنما قال ذلك ابن مسعود؛ لأنه لم يكن له بمكَّة عشيرة؛ لكونه هُذَليًا. (¬7) في رواية الإمام مسلم: "ويَمِيل" أي من كثرةِ الضحِكِ أخذوا يتمَايلُونَ.

فَاطِمَةُ (¬1) فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ (¬2) بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانُوا يَرَوْنَ (¬3) أَنَّ الدَّعْوَةَ في ذَلِكَ البَلَدِ (¬4) مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وشَيْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، والوَليدِ بنِ عُتْبَةَ، وأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَرْعَى في القَلِيبِ (¬5)، قَلِيبِ بَدْرٍ (¬6). ¬

_ (¬1) هىِ فاطمةُ بنت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد وقع التصريح باسمها في رواية الإمام مسلم في صحيحه. قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة ص 124: والبنتُ في المجتمَعِ العربي تعيشُ في كنَفِ أبِيها، وتفخَرُ بقوَّتهِ، وتأنَسُ بحمايَتِه، ومما يَحُزُّ في قلب الرجل أن يرى نفسه في وضع تدفَعُ عنه ابنتهُ، وتشعُرُ بالعجزِ وقِلَّةِ النَّاصِرِ. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 466): أيْ بإهلاكِ قُريشٍ، والمرادُ الكفارُ منهم أو ممن سمي منهم، فهوَ عام أُريدَ به الخُصُوص. (¬3) قال الحافظ في الفتح (1/ 466): أي يعتقدونَ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/ 466): المراد بالبلدِ مكة. (¬5) قال العلماء: إنما أمرَ بإلقائِهِم فيه لئلا يتأذَّى الناس برِيحِهِم، وإلا فالحربيُّ لا يجبُ دفنهُ، والظاهرُ أن البِئْرَ لم يكن فيها ماء. انظر فتح الباري (1/ 468). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب إذا ألقى علي ظَهْرِ المصَلِّي قَذَر أو جِيفَة لم تفسد عليه صلاته - رقم الحديث (240)، وأخرجه كذلك في غير موضع في الصحيح - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين - رقم الحديث (1794).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - تَعْظِيمُ الدُّعَاءِ بِمَكَّةَ عِنْدَ الكُفَّارِ، وَمَا ازْدَادَتْ عِنْدَ المُسْلِمِينَ إِلَّا تَعْظِيمًا. 2 - وَفِيهِ مَعْرِفَةُ الكُفَّارِ بِصِدْقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِخَوْفِهِمْ مِنْ دُعَائِهِ، وَلَكِنْ حَمَلَهُمُ الحَسَدُ عَلَى تَرْكِ الِانْقِيَادِ لَهُ. 3 - وَفِيهِ حِلْمُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمَّنْ آذَاهُ، فَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ في مَسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ في هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمْ أَرَهُ دَعَا عَلَيْهِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ (¬1)، وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ حِينَئِذٍ لِمَا أقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ حَالَ عِبَادَةِ رَبِّهِ. 4 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ ثَلَاثًا. 5 - وَفِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِ، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَحَلُّهُ مَا إِذَا كَانَ كَافِرًا، فَأَمَّا المُسْلِمُ فَيُسْتَحَبُّ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، والدُّعَاءُ، وَالتَّوْبَةُ. 6 - وَفِيهِ قُوَّةُ نَفْسِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ مِنْ صِغَرِهَا، لِشَرَفِهَا في قَوْمِهَا ونَفْسِهَا، لِكَوْنِهَا صَرَّحَتْ بِشَتْمِهِمْ، وَهُمْ رُؤُوسُ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهَا كَمَا وَرَدَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. 7 - وَفِيهِ أَنَّ المُبَاشَرَةَ آكَدُ مِنَ السَّبَبِ، والإِعَانَةِ لِقَوْلهِ في عُقْبَةَ: "أشْقَى ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (323) - وإسناده صحيح.

* قصة أخرى في إيذاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-

القَوْمِ"، مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ: أَبُو جَهْلٍ، وهُوَ أَشَدُّ مِنْهُ كُفْرًا، وأَذًى لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكِنَّ الشَّقَاءَ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ القِصَّةِ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَكُوا في الأَمْرِ والرِّضَا، وانْفَرَدَ عُقْبَةُ بِالمُبَاشَرَةِ فكَانَ أشْقَاهُمْ، وَلِهَذَا قُتِلُوا في الحَرْبِ، وقُتِلَ عُقْبَةُ صَبْرًا (¬1). أيْ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قُتِلُوا في غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى بِاسْتِثْنَاءَ عُقْبَةَ فَإِنَّهُ كَانَ أسِيرًا فَأَمَرَ الرُّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقَتْلِهِ بِالسَّيْفِ. * قِصَّةٌ أُخْرَى في إيذَاءِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ومِمَّا لَقِيَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المُشْرِكِينَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ (¬2) مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ: واللَّاتِ وَالعُزَّى! لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَن عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ في التُّرَابِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَأتى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وهُوَ يَنْكُصُ (¬3) عَلَى عَقِبَيْهِ ويَتَّقِي بَيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَالَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا، وأجْنِحَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطفَتْهُ ¬

_ (¬1) كل من قُتِل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا. انظر النهاية (3/ 8). وانظر كلام الحافظ في فتح الباري (1/ 468). (¬2) يُريدُ به سُجوده علي التراب، من التَّعفِيرِ، وهو التَّمْرِيغِ في التراب. انظر النهاية (3/ 237). (¬3) النُّكوصُ: الرجُوعُ إلى وراءٍ، وهو القَهْقَرَى. انظر النهاية (5/ 101).

المَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا" (¬1)، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، وهُوَ جَالِسٌ حَزِينًا قَدْ خُضِبَ (¬3) بالدِّمَاءَ، ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: مَالَكَ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ: "فَعَلَ بِي هَؤُلَاءِ وفَعَلُوا" قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَتُحِبُّ أَنْ أرِيَكَ آيَةً (¬4)؟ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 746) أنما شُدَّد الأمر في حقِّ أبي جهل، ولم يقعْ مثل ذلك لِعُقبَةَ بن أبي مُعيط حيث طرَحَ سَلَى الجزورِ علي ظهره -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يصلي -كما مر معنا- لأنهما وإن اشترَكا في مطلقِ الأذيَّة حالةَ صلاتهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكن زادَ أبو جهل بالتهديدِ، وبدعْوَى أهلِ طاعته، وبإرادَةِ وطءِ العُنُقِ الشَّريف، وفي ذلك من المُبَالغةِ ما اقتَضَى تعجِيلَ العُقوبة لو فعل ذلك، ولأن سَلَى الجزور لم يتحقَّق نجاسَتُها، وقد عوقب عُقبةُ بدعائه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه، وعلى من شاركه في فعله، فقُتِلُوا يوم بدر. (¬2) سورة العلق من آية (6 - 19) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} - رقم الحديث (4958) - ومسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب قوله تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} - رقم الحديث (2797). (¬3) خُضِب: أي ابْتُلَّ. انظر لسان العرب (4/ 117). (¬4) قال الإمام السندي في شرح المسند (7/ 141): قولُ جبريل عليه السلام: أتُحِبُّ أن =

قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: فنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الوَادِي، فَقَالَ: ادْعُ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي، حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، فَأَمَرَهَا فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَسْبِي" (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَد وابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقَدْ أُوذِيتُ في اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ (¬2) في اللَّهِ (¬3)، ومَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلقَدْ أتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَالِي وَبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا يُوَارِي إبْطَ بِلَالٍ" (¬4). قَالَ الْمُبَارَكْفُورِي: وَالْمَعْنَى: أَنَّ بِلَالًا كَانَ رَفِيقِي في ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيل، بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ بِلَالٌ تَحْتَ إِبْطِهِ (¬5). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقَدْ أُخِفْتُ في اللَّهِ، ومَا يُخَافُ أَحَدٌ، ولقدْ أُوذِيتُ في اللَّهِ ومَا يُؤْذَى أَحَدٌ، ولقدْ ¬

_ = أرِيَكَ آية، تدل علي مالك عند اللَّه تَعَالَى من الكرامةِ، والشَّرَف الَّذي تنسى في جنبه ما يلحقُ بك من التَّعِبِ في تبيلغِ الرسالةِ. (¬1) أخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (12112) - وابن ماجة في سننه - كتاب الفتن - باب الصبر علي البلاء - رقم الحديث (4028) - والبيهقي في الدلائل (2/ 154). (¬2) قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (7/ 214): أي هُدِّدْتُ وتُوُعِّدْتُ بالتَّعْذِيبِ والقتلِ. (¬3) قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (7/ 214): أي في إظهَارِ دِينه. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12212) - وابن ماجة في سننه في المقدمة - فضل سلمان وأبي ذر والمقداد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (151). (¬5) تحفة الأحوذي (7/ 215).

* قولة جميلة للشيخ علي الطنطاوي

أتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (¬1) وَمَالِي وَلَا لبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ" (¬2). * قَوْلَةٌ جَمِيلَةٌ لِلشَّيْخِ عَلِي الطَّنْطَاوِي: قَالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطَاوِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وانْطَلَقُوا يُؤْذُونَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويَتَوَعَّدُونَهُ، لَعَلَّ التَّرْهِيبَ يَفْعَلُ فِيهِ مَا لَمْ يَفْعَلِ التَّرْغِيبُ. . . رَمَوْا في طَرِيقِهِ الشَّوْكَ وَهُوَ مَاشٍ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ أحْشَاءَ النَّاقَةِ وهُوَ سَاجِدٌ، ورَمَوْهُ في الطَّائِفِ بِالحِجَارَةِ، وأَسَالُوا دَمَهُ، وهَزئُوا بِهِ، وسَلَّطُوا عَلَيْهِ سُفَهَاءَهُمْ. فَلَمْ يُثِرْ هَذَا كُلَّهُ غَضَبَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولَكِنْ أثَارَ إشْفَاقه، إشْفَاقَ الكَبِيرِ عَلَى الأطَفْالِ المُؤْذِينَ، والعَاقِلِ عَلَى المَجَانِينَ، وكَانَ جَوَابُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (¬3). وَأَوْغَلَتْ قُرَيْشٌ في كُفْرِهَا، وصَدِّهَا، وعِنَادِهَا، ولَكِنْ هَلْ تَقْدِرُ قُرَيْشٌ أَنْ تُطْفِئَ نُورَ اللَّهِ؟ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الطيبِي: تأكيد للشُّمول: أي ثلاثين يومًا وليلةً متواتِرَات، لا ينقصُ منها شيءٌ من الزَّمان. انظر تحفة الأحوذي (7/ 215). (¬2) والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14055) - والترمذي في جامعه - كتاب صفة القيامة والرقائق والورع - باب رقم (28) - رقم الحديث (2640). (¬3) أخرج هذا الحديث: ابن حبان في صحيحه - كتاب الرقائق - باب الأدعية - رقم الحديث (973) وإسناده حسن - لكن بلفظ: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" - وأخرجه البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب (54) - رقم الحديث (3477) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يحكي قصة نبي من الأنبياء مع قومه، فدعا لقومه بمثل هذا الدعاء. (¬4) انظر كلام الشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه: رجال من التاريخ ص 13 - 14.

استئذان أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة إلى الحبشة

اسْتِئْذَانُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الهِجْرَةِ إِلَى الحَبَشَةِ قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ وأصَابَهُ فِيهَا الأَذَى، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأصْحَابِهِ مَا رَأَى، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ (¬2) إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ (¬3)، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرَفَي النَّهَارِ بُكْرَةً وعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الحَبَشَةِ (¬4) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ (¬5)، لَقِيَهُ ابنُ الدُّغُنَّةِ (¬6)، -وَهُوَ سَيِّدُ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 410). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 141): المراد بأبَوَي عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَبُو بكر وأم رُومَان، وهو دالٌّ علي تقدُّم إسلام أمِّ رُومان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 638): أي بدينِ الإسلام. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 638): أي ليلحَقَ بمَنْ سبقه إليها من المسلمين، وقد قدمت أن الذين هاجَرُوا إلى الحبشة أوَّلًا ساروا إلى جُدَّة وهي ساحِلُ مَكَّةَ، ليركبوا منها البحر إلى الحبشة. (¬5) قال الحافظ في الفتح (7/ 639): بَرْكُ الغِمَادِ: هو موضعٌ علي خمسِ لَيالٍ من مكة إلى جِهَةِ اليَمَنِ. (¬6) قال الحافظ في الفتح (7/ 639): ابنُ الدُّغُنَّةِ: بضمِّ المهملة والمعجمة وتشديد النون =

القَارَّةِ (¬1) -. فَقَالَ: أيْنَ تُرِيدُ يَا أبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أخْرَجَنِي قَوْمِي (¬2) فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ (¬3) في الأَرْضِ وأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ ولَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ (¬4)، فأَنَا لَكَ جَارٌ (¬5). ارْجعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فَرَجَعَ، وارْتَحَلَ مَعَهُ ابنُ الدُّغُنَّةِ، فَطَافَ ابنُ الدُّغُنَّةِ عَشِيَّةً في أشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ (¬6) ولَا يُخْرَجُ (¬7)، أتُخْرِجُونَ ¬

_ = عند أهل اللغة، وعند الرواة بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون. والدغنَّةُ هي أمُّه، وقيل: أمُّ أبيه، وقيل دابَّته، ومعنى الدُّغنة: المُسْتَرْخِيَةُ وأصلها الغَمَامَةُ الكثيرة المَطَر. (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 639): القَارَّة: هي قبيلةٌ مشهورةٌ من بَنِي الهون، بالضم، والتخفيف، ابن خزيمةَ بن مدركةَ بنِ إلياسَ بن مُضَر، وكانوا حلفاءَ بني زُهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوة الرَّمْي. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 639): أي تسببوا في إخراجي. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): لعل أبا بكر طَوَى عن ابنِ الدُّغُنَّةِ تعيينَ جهة مَقصده لكونه كان كَافرًا، وإلا فقد تقدَّم أنَّه قَصَد التوجُّهَ إلى أرض الحبشةِ، ومن المعلومِ أنَّه لا يَصِلُ إليها من الطريق التي قصدها حتَّى يسيرَ في الأرضِ وحدَهُ زَمَانًا فيَصْدُق أنَّه سَائِحٌ، لكن حقيقةُ السياحة أن لا يَقْصِدَ مَوْضِعًا بعييهِ يَسْتَقِرُّ فيه. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): وفي موافقةِ وصْفِ ابنِ الدُّغُنَّةِ لأبي بكر بمِثْلِ ما وصَفَتْ به خَدِيجَةُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما يدُل علي عَظِيم فَضْلِ أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، واتِّصَافِهِ بالصفاتِ البالغَةِ في أنواعِ الكمال. (¬5) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): أي مجير أمنع من يؤذيك. (¬6) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): أي مِنْ وطنِهِ باختيارِهِ علي نيَّةِ الإقامة في غيره مع ما فيه من النَّفعِ المُتَعَدِّي لأهل بلدِهِ. (¬7) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): أي ولا يخرجه أحد بغيرِ اختيارِهِ للمعنى المذكور، =

رَجُلًا يَكْسِبُ المَعْدُومَ، ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويَحْمِلُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضيْفَ، ويُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ؟ . فَلَمْ تَكْذِبْ (¬1) قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابنِ الدُّغُنَّةِ، وقَالُوا لِابْنِ الدُّغُنَّةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبّه في دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا ولْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وأبْنَاءَنَا، فَقَالَ ذَلِكَ ابنُ الدُّغُنَّةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ لِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ في دَارِهِ، ولَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ ولَا يَقْرَأُ في غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ (¬2) فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ (¬3) وكَانَ يُصلِّي فِيهِ، ويَقْرَأُ القُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ (¬4) عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وأبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ ويَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وكَانَ أَبُو بَكْر رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ (¬5) إِذَا قَرَأَ ¬

_ = واستَنْبَطَ بعضُ المالكيةِ مِنْ هذا أَنَّ من كانت فيه مَنفعة مُتَعَدِّية لا يُمكّن من الانتقالِ عن البَلَدِ إلى غيرِهِ بغيرِ ضَرُوَةٍ رَاجِحَةٍ. (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): أي لَمْ تَرُدَّ عليه قوله في أمَانِ أبي بَكر -رضي اللَّه عنه-، وكل من كَذَّبَكَ فقد رَدَّ قولك. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 640): أي ظَهَرَ له رأيٌ غيرُ الرأي الأول. (¬3) الفِنَاء: بكسر الفَاء، وهو المُتَّسَعُ أمَامَ الدَّار. انظر النهاية (3/ 428). (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (2297) -: فيتَقَصَّفُ: أي يزدَحِمُونَ عليه. انظر النهاية (4/ 65). قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة (1/ 383): وهذه القصة تَدُل دلالةً واضحة على تأثيرِ القرآن وإعجازِهِ البيانِيِّ والبلاغي في نُفوس العَرَب الخُلَّصِ، وسَواء في ذلك الرجال والنساء، بل والصبيان. قلتُ: قد مرَّ معنا تأثير القرآنِ علي العرب في قِصَّةِ سجودِ الكفار عندما نزلت سورة النجم. (¬5) قال الحافظ في الفتح (7/ 641): أي لا يُطِيقُ إمساكهُمَا عن البُكَاءَ من رقَّةِ قلبه.

القُرآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ (¬1) أشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابنِ الدُّغُنَّةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إنَّا كُنَّا أجَرْنَا أبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّه في دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفَنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ والقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وأبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّه في دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ (¬2)، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، ولَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابنُ الدُّغُنَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وإمَّا أَنْ تُرْجعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ في رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وأَرْضَى بِجِوَارِ (¬3) اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 641): أي أخافَ الكفار لِمَا يعلمونَهُ من رِقَّةِ قلوبِ النساء والشَّباب أن يَمِيلُوا إلى دين الإسلام. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 641): أي أمَانَكَ له. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 641): أي أمانَهُ وحمايَتَهُ، وفيه جوازُ الأخذِ بالأشَدِّ في الدين، وقوَّة يقينِ أبي بكر -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) - وأخرجه في كتاب الكفالة - باب جوار أبي بكر في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2297) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر وصف كيفية خروج المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- من مكة - رقم الحديث (6277).

خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف

خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الطَّائِفِ لَمَّا ازْدَادَتْ وَطْأَةُ قُرَيْشٍ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واشْتَدَّ أذَاهَا لَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ وَحِيدًا بِلَا نَصِيرٍ يَحْمِيهِ ويُؤْوِيهِ مِنَ النَّاسِ، ولَمَّا زَهِدَتْ قُرَيْشٌ في الإِسْلَامِ، وانْصَرَفَتْ عَنْهُ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ الدَّعْوَةَ في قُرَيْشٍ لَمْ تَعُدْ مُجْدِيَةً، وبَدَأَ يُفَكِّرُ بِالخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهِ نَصِيرًا، وقَبُولًا، واسْتِجَابَةً لِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الطَّائِفِ حَيْثُ تَقْطُنُ (¬1) ثَقِيفٌ (¬2)، يَلْتَمِسُ نُصْرَتَهُمْ، والمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَصَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الطَّائِفَ، إمَّا لِأَنَّهُ المَرْكَزُ الثَّانِي لِلْقُوَّةِ والسِّيَادَةِ في الحِجَازِ بَعْدَ مَكَّةَ، أَوْ لِأَنَّ أخْوَالَهُ مِنْ بَنِي ثَقِيفٍ مِنْ جِهَةِ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، فَرَأَى أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الطَّائِفِ، يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النَّصْرَ والمَنَعَةَ لَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وكَانَ يَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) قَطَنَ المكان: إِذَا لَزِمَهُ. انظر لسان العرب (11/ 231). (¬2) قال الشيخ أبو الحسن في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة ص 144: مما يُذْكَر لثقيفٍ منَ المَآثِرِ أنَّه ارتَدَّ كثيرٌ من العرَبِ بعدَ وفاةِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا قُرَيشًا وثَقِيفًا، وكان لهم أثرٌ وبَلاء في الحُرُوب الإسلامية، ومواقِفَ بُطُولية مَحْمُودة. (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 144.

* وصول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف

وَالطَّائِفُ بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهَا وبَيْنَ مَكَّةَ اليَوْمَ (80) كيلُو مِتر تَقْرِيبًا، قَطَعَهَا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَهُ مَوْلَاهُ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ (¬1) مَاشِيًا عَلَى الأَقْدَامِ ذَهَابًا ورُجُوعًا. وَكَانَ خُرُوجُهُ إِلَيْهَا لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنَ البِعْثَةِ (¬2). * وُصُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الطَّائِفِ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الطَّائِفِ عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وأَشْرَافُهُمْ، وهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ بنُ عَمْرِو بنِ عُمَيْرٍ، ومَسْعُودُ بنُ عَمْرِو بنِ عُمَيْرٍ، وحَبِيبُ بنُ عَمْرِو بنِ عُمَيْرٍ (¬3)، وعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وكَلَّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الإِسْلَامِ، والقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالفهُ مِنْ قَوْمِهِ. فَقَال أحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ (¬4) ثِيَابَ الكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أرْسَلَكَ. وقَال الثَّانِي: أمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرُكَ؟ ¬

_ (¬1) هذا الذي رواه ابن سعد في طبقاته (1/ 102) عن جبير بن مطعم، وذكر موسى بن عقبة، وابن إسحاق في السيرة (2/ 32) وغيرهما: أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج وحده ماشيًا، فيمكن الجمعُ أن زيدًا -رضي اللَّه عنه- لحِقَهُ بعد ذلك. انظر شرح المواهب (2/ 50). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 102) - سيرة ابن هشام (2/ 33) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 295) - شرح المواهب (2/ 49). (¬3) هؤلاءَ الإخوَةُ أسلموا جَمِيعًا وجاؤُوا مع قومِهِم في عامِ الوُفُود من السنة التاسعة للهجرة. (¬4) يَمْرُطُ: يَنْتِفُ. انظر لسان العرب (13/ 81).

وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا، لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الكَلَامَ، ولَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ. فَلَمَّا يَئِسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منْ خَيْرِهِمْ، قَالَ لَهُمْ: "إِذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنِّي"، وَكَرِهَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ خَبَرَ قُدُومِهِ عَلَى الطَّائِفِ فَيَجْتَرِؤُا عَلَيْهِ، وَتَزْدَادَ عَدَاوَتُهُمْ وَشَمَاتَتُهُمْ، ولَكِنَّ القَوْمَ لَمْ يَفْعَلُوا، وقَالُوا لَهُ: اخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا، وأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وعَبِيدَهُمْ، فَجَعَلُوا يَسُبُّونَهُ ويَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، وأخَذُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالحِجَارَةِ حَتَّى أدْمَوْهُمَا، وهُمْ في ذَلِكَ يَسْتَهْزِئُونَ ويَسْخَرُونَ، وكَانَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَقَدْ أصَابَهُ شِجَاجٌ (¬1) في رَأْسِهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ السُّفَهَاءُ حَتَّى ألْجَؤُوهُ إِلَى حَائِطٍ (¬2) لِعُتْبَةَ وشَيْبَةَ (¬3) ابْنَيْ رَبِيعَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ الحَائِطَ رَجَعَ عَنْهُ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ مِنْ سُفَهَاءَ ثَقِيفٍ، وعَمَدَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ مِنْ عِنَبٍ، فَجَلَسَ فِيهِ هُوَ وزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) الشَّجُّ: في الرأس خاصَّةً، وهو أن يضربَهُ بشيءٍ فيجرحَهُ فيه ويشقَّه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. انظر النهاية (2/ 399). (¬2) الحائطُ: البُستان من النَّخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار. انظر النهاية (1/ 444). (¬3) هذانِ الرَّجُلانِ من سادَاتِ مَكة، وهما من أشدُّ من آذى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد قُتلا كافرين في غزوة بدر الكبرى.

* همة عجيبة

* هِمَّةٌ عَجِيبَةٌ: هَلْ تَرَوْنَ كُلَّ هَذِهِ المَصَائِبَ والأَهْوَالَ أثَّرَتْ في عَزِيمَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ أَوْ نَقَصَتْ مِنْ إيمَانِهِ بِدَعْوَتِهِ وحَمَاسَتِهِ لَهَا؟ . . . واسْتَمَرَّ هَذَا البَلَاءُ، وامْتَدَّ، لَا يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ، وَلَا أُسْبُوعًا، وَلَا شَهْرًا، امْتَدَّ سَنَوَاتٍ طِوَالًا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلا غَيْرَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لقالَ: حَسْبِي. لَقَدْ عَمِلْتُ مَا عَلَيَّ، وبَذَلْتُ الجُهْدَ، فَإِذًا النَّجَاحُ مُسْتَحِيلٌ، وَقَدْ آنَ لِي أَنْ أَنْسَحِبَ، وَأَقْعُدَ في بَيْتِي. ولَكِنَّ الِانْسِحَابَ لَا مَكَانَ لَهُ في مَنْهَجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَلِمَةُ مُسْتَحِيلٌ لَا وُجُودَ لَهَا في مُعْجَمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِذَا لَمْ يَنْجَحْ في مَكَّةَ فَلْيَنْتَقِلْ إِلَى غَيْرِهَا. فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لِلدُّنْيَا كُلِّهَا، وَلِلْعُصُورِ كُلِّهَا (¬1). * تَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ: وَهُنَا وَقَدْ بَلَغَ الهَوْلُ هَذَا المَبْلَغَ، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دُعَاءً، مَا تَلَوْتُهُ مَرَّةً إِلَّا فَاضَتْ عَيْنَايَ، ومَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَسْمَعُهُ ويَفْهَمُهُ، يَمْلِكُ قَلْبَهُ أَنْ يَسِيلَ مِنَ الرِّقَّةِ دَمْعًا مِنْ عَيْنَيْهِ (¬2). فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الْحَائِطِ تَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بِهَذَا ¬

_ (¬1) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 26. (¬2) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 26.

* قصة عداس

الدُّعَاءِ المَشْهُورِ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي (¬1)؟ ! أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ ! إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وصَلَحَ عَلَيْهِ أمْرُ الدُّنْيَا والَآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ. لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (¬2) * قِصَّةُ عَدَّاسٍ: فَلَمَّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ عُتْبَةُ وشَيْبَةُ، وَكَانَا في الحَائِطِ، وَرَأَيَا مَا لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ سُفَهَاءَ أَهْلِ الطَّائِفِ، تَحَرَّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا، فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَاييًّا، يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ، فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا العِنَبِ فَضَعْهُ في هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلْ مِنْهُ، فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ أقْبَلَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ، فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ يَدَهُ قَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ" (¬3) ثُمَّ أَكَلَ، فنَظَرَ عَدَّاسٌ في وَجْهِهِ مُسْتَغْرِبًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ ¬

_ (¬1) يَتَجَهَّمُنِي: أي يَلْقَاني بالغِلْظَةِ والوجهِ الكَرِيهِ. انظر النهاية (1/ 312). (¬2) انظر سيرة بن هشام (2/ 33) - البداية والنهاية (3/ 147) - زاد المعاد (3/ 28) - ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 296). (¬3) قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 143): كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسَمِّي اللَّه تَعَالَى على أول طعَامِهِ، ويحمدُهُ في آخره فيقول عندَ انقضائِهِ: "الحمد للَّه الَّذي أطْعَمَ وسَقى، وسَوَّغه =

إِنَّ هَذَا الكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ البِلَادِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِنْ أَهْلِ أَيِّ البِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ؟ وَمَا دِينُكَ؟ " (¬1) قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى (¬2)، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بنِ مَتَّى؟ " فَقَالَ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بنُ مَتَّى؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ أَخِي كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ". فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَبِّلُ رَأْسَهُ، ويَدَيْهِ، وَقَدَمَيْهِ، وأَسْلَمَ (¬3). ¬

_ = وجعلَ لَهُ مَخْرجًا". أخرجه ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (5220) - وإسناده صحيح علي شرط الشيخين. وقال الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فيما نقله عنه ابن القيم في زاد المعاد (4/ 213): إذا جَمَعَ الطعامُ أربعًا، فقد كَمُلَ: إذا ذُكر اسمُ اللَّهِ في أوَّلِه، وحُمِدَ اللَّه في آخرِه، وكثُرَتْ عليهِ الأيدِي، وكان مِنْ حَلَالٍ. (¬1) قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 27: وهنا مَوْقِفٌ عَجَبٌ من العَجَبِ، الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه الحالِ من الشدَّة، وفي هذا الموقف الذِي يُقنطُ أجْلد الأبطَالِ، رأى بادِرَةَ قبولٍ للدعوَةِ عندَ عبدٍ ضَعِيفٍ يُقال له: عَدَّاسٌ، فلم يمنعْهُ كلُّ ما لَقِيَ من أن يُبَلِّغَهُ دعوةَ اللَّه تَعَالَى، وينصَرِفَ إليه، ويَنْسَى ألَمَهُ وتعَبَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى أسلم عَدَّاس، هذا موقفٌ صَغِيرٌ بالنسبةِ للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكنَّه عَظِيمٌ عَظِيم بالنسبةِ إلى دُعَاة البَشَرِ في كل تَوَاريخِهم، ولا يستطيعُ باحِثٌ أن يلقى في الإخلاص للدعوَةِ، ونسيانِ الذَّات في سَبِيلها، مَوقِفًا مثلَهُ لِرَجل آخرَ غير الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) نِينَوَى: بكسر أوله، وسكون ثانيه، هي قريةُ يُونس بن متى عليه السلام بالموصل في العِراق. انظر معجم البلدان (5/ 391). (¬3) أسلَمَ عَدَّاس -رضي اللَّه عنه-، وهو معدودٌ في الصحابة، وفي سِيَرِ التيميِّ أن عَدَّاسًا قال: وأنا أشهدُ أنك عبدُ اللَّه ورسوله. انظر الإصابة (4/ 385).

* رجوع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة

فَقَالَ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ، فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ، قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ! مَالَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ؟ قَالَ: يَا سَيِّدِي! مَا فِي الأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ! لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ، فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ (¬1). * رُجُوعُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ: ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الطَّائِفِ، وهُوَ مَهْمُومٌ ومَحْزُونٌ، فَلَمْ يَسْتَفِقْ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا وَهُوَ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَلَ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قال: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ (¬2) مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بنِ عَبْدِ كِلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 34) - البداية والنهاية (3/ 147) - شرح المواهب (2/ 50) - طبقات ابن سعد (1/ 102) - زاد المعاد (3/ 28). (¬2) قال الحافظ في الفتح: المرادُ بقومِ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد لَقِيتُ من قَوْمِكِ": قريشٌ، لا أهلَ الطائف الذين هُم ثَقِيف، لأنهم -أي قريش- كانوا السبب الحَامِلَ على ذهابه -صلى اللَّه عليه وسلم- لثَقِيفٍ، ولأن ثَقِيفًا ليسُوا قوم عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

وَجْهِي (¬1) , فَلَمْ أسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ (¬2)، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أظَلَّتْنِي، فنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ" (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ أَرْجُو (¬4) أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا" (¬5). قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دَعْوَةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَؤُلَاءِ الكُفَّارِ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِ أَبِي طَالِبٍ، عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَجَعْفَرَ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (6/ 462): أي على الجِهَةِ المُوَاجِهَةِ لي. (¬2) قال الحافظ في الفتح (6/ 462): قَرْنُ الثعَالِبِ: هو مِيقَاتُ أهلِ نَجْدٍ، ويقال له: قرنُ المَنَازِلِ أيضًا. قلتُ: وقرنُ المنازل يبعُدُ اليوم عن مكة (80) كيلو متر تقريبًا. (¬3) الأخْشَبَانِ: الجَبَلَانِ المُطِيفَانِ بمكةَ، وهما أبو قُبَيْسٍ والأحمر، وهو جبل مُشرِفٌ وجهه على جبل قُعَيْقِعَان، والأخشبُ كل جبلٍ خَشِن غَلِيظ الحجارة. انظر النهاية (2/ 31). (¬4) قال الحافظ في الفتح (6/ 462): وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على قومه، ومزيدُ صبرِه وحلمِهِ، وهو موافقٌ لقوله تَعَالَى في سورة آل عمران آية (159): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، وقوله تَعَالَى في سورة الأنبياء آية (107): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الخلق - باب إذا قال أحدكم آمين - رقم الحديث (3231) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين - رقم الحديث (1795) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب صبر المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- على أذى المشركين - رقم الحديث (6561).

* وهم ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما في إسلام الجن

وأخْرَجَ مِنْ صُلْبِ أَبِي جَهْلٍ، عِكْرَمَةَ بنَ أَبِي جَهْلٍ -رضي اللَّه عنه-، وأخْرَجَ مِنْ صُلْبِ الوَليدِ بنِ المُغِيرَةِ، خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-, وأخْرَجَ مِنْ صُلْبِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ، عَمْرَو بنَ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-، وأخْرَجَ مِنْ صُلْبِ المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، جُبَيْرَ بنَ مُطْعِمٍ -رضي اللَّه عنه-، وغَيْرَهُمْ كَثِيرٌ الذِينَ خَرَجُوا مِنْ أصْلَابِ هَؤُلَاءِ الكُفَّارِ. * وَهْمُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَابْنِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِمَا فِي إِسْلَامِ الْجِنِّ: ذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ (¬1)، وابْنُ سَعْدٍ (¬2)، وابْنُ القَيِّمِ فِي زَادِ المَعَادِ (¬3): أَنَّ سَمَاعَ الجِنِّ لِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلَ مَرَّةٍ وإسْلَامَهُمْ كَانَ عِنْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الطَّائِفِ حِينَ بَاتَ بِنَخْلَةٍ (¬4)، وهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ استِمَاعَهُمْ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ فِي ابْتِدَاءِ المَبْعَثِ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. * دُخُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ فِي جِوَارِ المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ، وقَوْمُهُ أشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، وفِرَاقِ دِينِهِ. فَلَمَّا أَرَادَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- دُخُولَ مَكَّةَ، قَالَ لَهُ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أخْرَجُوكَ؟ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 35). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 102). (¬3) انظر زاد المعاد (3/ 29). (¬4) نخلة: موضع بالحجاز قريب من مكة، فيه نخل وزرع. انظر معجم البلدان (8/ 381).

فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا زَيْدُ! إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا ومَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُ دِينِهِ، ومُظْهِرُ نَبِيِّهِ". ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى حِرَاءٍ، فَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ هُوَ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُرَيْقِطٍ إلى الأَخْنَسِ بنِ شَرِيقٍ لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ الأَخْنَسُ: أنَا حَلِيفُ قُرَيْشٍ، وَرَفَضَ إِجَارَةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَبَعَثَ إِلَى سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبٍ، ورَفَضَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو أَنْ يُجِيرَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَبَعَثَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ (¬1) لِيُجِيرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ المُطْعِمُ: نَعَمْ وَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ أُرَيْقِطٍ: قُلْ لِمُحَمَّدٍ فَلْيَأْتِ. فَرَجَعَ إلى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَاتَ عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أصْبَحَ خَرَجَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، وَقَدْ لَبِسَ سِلَاحَهُ هُوَ وبَنُوهُ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ فَدَخَلُوا المَسْجِدَ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: طُفْ، وأَمَرَ بَنِيهِ أَنْ يَكُونُوا عِنْدَ أرْكَانِ البَيْتِ لِحِمَايَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَهُنَا أقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ إلى المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، وَقَالَ لَهُ: أَمُجِيرٌ أَمْ تَابعٌ (¬2)؟ . ¬

_ (¬1) المُطعِمُ بن عَدِيٍّ: ماتَ كافرًا. (¬2) أي: اتَّبَعْتَهُ ودخلتَ دِينَهُ.

* وفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمطعم بن عدي

فَقَالَ المُطْعِمُ: بَلْ مُجِيرٌ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِذَنْ لَا نَخْفِرُ ذِمَّتَكَ (¬1) قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتَ. فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ طَوَافَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- انْصَرَفُوا مَعَهُ، ورَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إلى مَجْلِسِهِ (¬2). * وَفَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ: وَلِهَذَا الصَّنِيعِ الذِي فَعَلَهُ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أُسَارَى بَدْرٍ: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى (¬3) لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" (¬4). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: أَيْ بِغَيْرِ فِدَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ الحَافِظُ سَبَبَ تَرْكِهِمْ لَهُ: مِنْ أَنَّ المُطْعِمُ بنَ عَدِيٍّ كَانَ مِنْ أَشَدِّ مَنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ التِي كَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ ¬

_ (¬1) لا نَخْفِرُ ذمَّتَكَ: أي لا نَنْقُضُ ولا نَغْدِرُ بجوارِكَ وعهدِكَ. انظر النهاية (2/ 50). (¬2) انظر تفاصيل ذهاب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الطائف والرجوع منها في: زاد المعاد (3/ 38 - 40) - شرح المواهب (2/ 49 - 66) - سيرة ابن هشام (2/ 32 - 35) - البداية والنهاية (3/ 147) - سبل الهدى والرشاد (2/ 438 - 440) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 101 - 102) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 415 - 417). (¬3) النَّتَنُ: الرائِحَةُ الكريهَةُ، والمراد بالنَّتَنِ في هذا الحديث أُسَارى بدرٍ من المشركين. انظر لسان العرب (14/ 36). (¬4) أخرج هذا الحديث: البخاري في صحيحه - كتاب الخمس - باب ما مَنّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأسارى من غير أن يخمس - رقم الحديث (3139) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب رقم (12) - رقم الحديث (4024)

* استهزاء أبي جهل لعنه الله

عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ حِينَ حَصَرُوهُمْ فِي الشِّعْبِ، والسَّبَبُ الثَّانِي إِجَارَتُهُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ عِنْدَمَا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). قَالَ الزُّرْقَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وهَذَا مِنْ شِيَمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكَرِيمَةِ تَذَكَّرَ وَقْتَ النَّصْرِ، والظَّفَرِ لِلْمُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ هَذَا الجَمِيلَ (¬2). * اسْتِهْزَاءُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَقَدْ أَرَادَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَهْزِئَ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَيْفَ يَحْتَاجُ نَبِيٌّ إِلَى جِوَارٍ، وَكَأَنَّهُ يَتَسَاءَلُ لِمَ لَمْ تَنْزِلِ المَلَائِكَةُ لِحِفْظِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَقَالَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا رَأَى الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَالمُشْرِكُونَ عِنْدَ الكَعْبَةِ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! فَرَدَّ عَلَيْهِ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَقَالَ: ومَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ أَوْ مَلَكٌ؟ فَلَمَّا سَمِعَهُمُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَاهُمْ، فَقَالَ: "أَمَّا أَنْتَ يَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، فَوَاللَّهِ مَا حَمَيْتَ للَّهِ وَلَا لِرَسُولهِ، ولكِنْ حَمَيْتَ لِنَفْسِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، فَوَاللَّهِ لَا يَأْتِي عَلَيْكَ غَيْرُ كبِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَضْحَكَ قَلِيلًا، وتَبْكِيَ كَثِيرًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ المَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَوَاللَّهِ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ غَيْرُ كبِيرٍ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى تَدْخُلُوا فِيمَا تُنْكِرُونَ، وأَنْتُمْ كَارِهُونَ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 59 - 60). (¬2) انظر شرح المواهب (2/ 67). (¬3) أخرج ذلك الطبري في تاريخه (1/ 555) بدون إسناد - وابن سعد في طبقاته (1/ 102) من طريق الواقدي، وإسناده ضعيف.

الإسراء والمعراج

الإِسْرَاءُ والمِعْرَاجُ جَاءَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ حَادِثَةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ تَثْبِيتًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتَكْرِيمًا لَهُ فِي أَعْقَابِ سِنِينَ طَوِيلَةٍ مِنَ الدَّعْوَةِ، والصَّبْرِ عَلَى أَذَى المُشْرِكِينَ واضْطِهَادِهِمْ، ونُكْرَانِهِمْ، وجَفَائِهِمْ. * المَقْصُودُ بِالْإِسْرَاءِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: أَسْرَى، مَأْخُوذَةٌ مِنَ السَّرَى: وهُوَ سَيْرُ اللَّيْلِ، تَقُولُ: أسْرَى وسَرَى إِذَا سَارَ لَيْلًا بِمَعْنًى (¬1). وَالمَقْصُودُ بِقَوْلهِ تَعَالَى: أسْرَى بِعَبْدِهِ: أيْ جَعَلَ البُرَاقَ يَسْرِي بِهِ. والمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِعَبْدِهِ: مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- اتِّفَاقًا، وَالضَّمِيرُ للَّهِ تَعَالَى والإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ. وقَوْله تَعَالَى: لَيْلًا: ظَرْفٌ لِلْإِسْرَاءَ وهُوَ لِلتَّأْكِيدِ، ويُقَالُ بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ لَا فِي جَمِيعِهِ، والعَرَبُ تَقُولُ: سَرَى فُلَانٌ لَيْلًا إِذَا سَارَ بَعْضَهُ، وَسَرَى لَيْلَةً إِذَا سَارَ جَمِيعِهَا، وَلَا يُقَالُ أَسْرَى إِلَّا إِذَا وَقَعَ سَيْرُهُ فِي أثْنَاءِ اللَّيْلِ، وإِذَا وَقَعَ فِي أَوَّلِهِ يُقَالُ أَدْلَجَ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 597) - لسان العرب (6/ 252). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 597).

* المقصود بالمعراج

ويُقْصَدُ بِالْإِسْرَاءِ هُنَا: الرِّحْلَةُ التِي أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ بِمَكَّةَ المُكَرَّمَةِ إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى بِالقُدْسِ. * المَقْصُودُ بِالمِعْرَاجِ (¬1): أَمَّا المِعْرَاجُ: فَهُوَ مَا أَعْقَبَ هَذِهِ الرِّحْلَةَ مِنَ العُرُوجِ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَوَاتِ العُلَا حَتَّى الوُصُولِ إِلَى مُسَتَوَى تَنْقَطِعُ عِنْدَهُ عُلُومُ الخَلَائِقِ. وَقَدْ أشَارَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ إِلَى تِلْكَ الحَادِثَةِ فِي سُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَذَكَرَ قِصَّةَ الإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قِصَّةَ المِعْرَاجِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬3). * تَوَاتَرَتِ الأَخْبَارُ فِي الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ: قَالَ الحَافِظُ أَبُو الخَطَّابِ عُمَرُ بنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ: "التَّنْوِير فِي مَوْلدِ السِّرَاجِ المُنِير" فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ ¬

_ (¬1) المِعْرَاجُ: بكسر الميم هو السُلم والعُرُوجُ: الصُّعود. انظر النهاية (3/ 184). (¬2) سورة الإسراء آية (1). (¬3) سورة النجم آية (13 - 18).

* متى حدث الإسراء والمعراج؟

عَنْ: عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وأَبِي ذَرٍّ، ومَالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وأَبِي سَعِيدٍ، وابْنِ عَبَّاسٍ، وشَدَّادِ بنِ أَوْسٍ، وأُبَيِّ بنِ كَعْبٍ، وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ قُرْطٍ، وأَبِي حَبَّةَ وأَبِي لَيْلَى الأَنْصَارِيَّيْنِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وجَابِرٍ، وحُذَيْفَةَ، وبريْدَةَ، وأَبِي أيُّوبَ، وأَبِي أُمَامَةَ، وَسَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، وأَبِي الحَمْرَاءِ، وصهَيْبٍ الرُّومِيِّ، وأُمِّ هَانِئٍ، وعَائِشَةَ وأسْمَاءَ ابْنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا. مِنْهُمْ مَنْ سَاقَهُ بِطُولِهِ، ومِنْهُمْ مَنْ اخْتَصَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ فِي المَسَانِيدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَحَدِيثُ الإِسْرَاءَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ، واعْتَرَضَ فِيهِ الزَّناَدِقَةُ المُلْحِدُونَ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1). * مَتَى حَدَثَ الإِسْرَاءُ والمِعْرَاجُ؟ : اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، فَقِيلَ: قَبْلَ الهِجْرَةِ بِسَنَةٍ قَالَهُ ابْنُ سَعْدٍ (¬2)، وغَيْرُهُ، وَبِهِ جَزَمَ النَّوَوِيُّ، وباَلغَ ابنُ حَزْمٍ فنَقَلَ الإِجْمَاعَ فِيهِ، وهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَقْوَالٍ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الصف آية (6). وانظر تفسير ابن كثير (5/ 45). (¬2) قال ابن سعد في طبقاته (1/ 103): كان الإسراءَ والمعراج ليلة السابع عشر من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة. (¬3) انظر فتح الباري (7/ 602).

* الإسراء والمعراج بالجسد والروح

وقِيلَ: كَانَ فِي رَجَبَ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ وجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَ الهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ حَكَاهُ ابنُ الأَثِيرِ (¬1). قُلْتُ: وَالذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ العُلَمَاءَ أَنَّ الإِسْرَاءَ والمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ عَوْدَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الطَّائِفِ، لَكِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالضَّبْطِ اليَوْمُ، والشَّهْرُ، والسَّنَةُ التِي وَقَعَ فِيهَا (¬2). * الإِسْرَاءُ والمِعْرَاجُ بِالجَسَدِ والرُّوحِ: الصَّحِيحُ أَنَّ الإِسْرَاءَ والمِعْرَاجَ كَانَ بِجَسَدِهِ ورُوحِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ الإِمَامُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَنَّ اللَّه تَعَالَى حَمَلَهُ عَلَى البُرَاقِ حَيْثُ أتَاهُ بِهِ، وَصَلَّى هُنَالِكَ بِمَنْ صَلَّى مِنَ الأَنْبِيَاءَ والرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الآيَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أسْرَى بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَا كَانَ الذِينَ أنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ، إِذْ لَمْ ¬

_ (¬1) انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/ 650). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 602).

يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي المَنَامِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ، فَكَيْفَ مَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ؟ وبَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ العَزِيزِ أَنَّهُ أسْرَى بِعَبْدِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، ولَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِ. . وَلَا دَلَالَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، بَلْ الأَدِلَّةُ الوَاضِحَةُ، والأَخْبَارُ المُتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا: البُرَاقُ، ولَوْ كَانَ الإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى البُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الأَكْثَرُونَ مِنَ العُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ ورُوحِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا، والدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} فَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا، وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَلَمَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَقَدْ قَالَ عَزَّ شَأْنُهُ: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (¬2) قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (8/ 16). (¬2) سورة الإسراء آية (60). وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 43 - 44).

* الإسراء والمعراج كان مرة واحدة

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ أُسْريَ بِهِ، والشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ: شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (¬1) ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وقَال اللَّهُ تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (¬2) وَالبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وأَيْضًا فَإِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُمِلَ عَلَى البُرَاقِ، وهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ، لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إلى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬3). وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ الأَخْبَارِ الوَارِدَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلى أَنَّ الإِسْرَاءَ والمِعْرَاجَ وَقَعَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اليَقَظَةِ بِجَسَدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ورُوحِهِ بَعْدَ المَبْعَثِ، وإِلَى هَذَا ذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنْ عُلَمَاءِ المُحَدِّثِينَ والفُقَهَاءِ والمُتَكَلِّمِينَ، وتَوَارَدَتْ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُ الأَخْبَارِ الصِّحِيحَةِ، وَلَا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ فِي العَقْلِ مَا يُحِيلُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلى تَأْوِيلٍ (¬4). * الإِسْرَاءُ والمِعْرَاجُ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً: وَإِذَا حَصَلَ الوُقُوفُ عَلَى مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ صَحِيحِهَا، وحَسَنِهَا، وضَعِيفِهَا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحة - كتاب التفسير - باب وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس - رقم الحديث (4716) - وأخرجه في مناقب الأنصار - باب المعراج - رقم الحديث (6888) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1916). (¬2) سورة النجم آية (17). (¬3) انظر تفسير ابن كثير 5/ 44. (¬4) انظر فتح الباري (7/ 59).

* قصة الإسراء والمعراج

يَحْصُلُ مَضْمُونُ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، وأَنَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وإنِ اخْتَلفَتْ عِبَارَاتُ الرُّوَاةِ فِي أدَائِهِ، أَوْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ، فَإِنَّ الخَطَأَ جَائِزٌ عَلَى مَنْ عَدَا الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ، ومَنْ جَعَلَ مِنَ النَّاسِ كُلَّ رِوَايَةٍ خَالَفَتِ الأُخْرَى مَرَّةً عَلَى حِدَةٍ، فَأَثْبَتَ إِسْرَاءَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فَقَدْ أبْعَدَ وأغْرَبَ، وهَرَبَ إلى غَيْرِ مَهْرَبٍ، وَلَمْ يَحْصُلْ عَلَى مَطْلِبٍ. وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ مِنَ المُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُسْرِيَ بِهِ مَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ فَقَطْ، ومَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى السَّمَاءَ فَقَطْ، ومَرَّةً إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وَمِنْهُ إلى السَّمَاءَ، وفَرِحَ بِهَذَا المَسْلَكِ، وأنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِشَيْءٍ يَخْلُصُ بِهِ مِنَ الإِشْكَالَاتِ، وهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَلَوْ تَعَدَّدَ هَذَا التَّعَدُّدَ لَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِ أُمَّتَهُ، ولَنَقَلَتْهُ النَّاسُ عَلَى التَّعَدُّدِ والتَّكْرَارِ (¬1). قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والصَّوَابُ الذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّقْلِ أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً بِمَكَّةَ بَعْدَ البِعْثَةِ (¬2). * قِصَّةُ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ: أَمَّا قِصَّةُ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَاهَا الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، كَمَا رَوَاهَا غَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ وَعُلَمَاءَ السِّيَرِ، وَسَأُفَصِّلُ هَذِهِ الحَادِثَةَ، وأجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (7/ 42). (¬2) انظر زاد المعاد (3/ 38).

عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ مَالِكَ بنَ صَعْصَعَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَيْنَمَا أنَا فِي الحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ فِي الحِجْرِ (¬1) - مُضْطَجِعًا (¬2)، إِذْ أَتَانِي آتٍ (¬3) فَقَدَّ" (¬4) -قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إلى هَذِهِ". فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وهُوَ إلى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: "مِنْ ثُغرَةِ (¬5) ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 603): هو شَكٌّ من قتادة كما بيَّنه الإِمام أحمد في مسنده رقم الحديث (17835) عن عفَّان عن هَمَّام، ولفظه: "بينَا أنا نائمٌ في الحَطِيمِ"، وربما قال قتادة في الحِجر، والمراد بالحَطِيمِ هنا الحِجرُ، وأبعدَ مَنْ قَالَ المراد به -أي الحَطِيم- ما بينَ الركن والمقامِ أو بينَ زمزم والحِجر، وهو وإن كان مختلفًا في الحَطِيم هل هو الحِجر أم لا؟ ، لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، وقد وقع في أول بدء الخلق في صحيح البخاري - رقم الحديث (3207): بلفظ "بَيْنَا أنا عندَ البيت" وهو أعمُّ، ووقع في رواية الزهري في صحيح البخاري - رقم الحديث (349): عن أنس عن أبي ذر "فُرِجَ عن سقفِ بَيْتِي وأنا بمَكَّةَ"، وفي رواية الواقدي بأسانيده: أنه أسري به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه بات في بيتها قالت: ففقدته من الليلِ فقال: "إِنَّ جبريلَ أتاني". والجَمْعُ بين هذه الأقوال أنه نَامَ في بيتِ أمِّ هَانِئٍ، وبيتها عند شِعْبِ أبي طالب، ففُرِجَ سقفُ بيتِهِ، وأضافَ البيتَ إليهِ لكَونِهِ كان يسكُنُهُ، فنزل منه المَلَك فأخرجَهُ من البيتِ إلى المسجد فكان به مُضْطَجِعًا، وبه أثرُ نُعَاسٍ، ثم أخرجه الملك إلى المسجد فأركبَهُ البُراق. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 604): زاد في بدء الخلق -أي البخاري في صحيحه- رقم الحديث (3207) - قال: "بينَ النائمِ واليَقْظَانِ"، وهو مَحْمولٌ على ابتداءِ الحال، ثم لما أخرجَ به إلى بابِ المسجدِ فأركبَهُ البُرَاق استَمَرَّ في يَقَظَتِهِ. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 604): هو جِبريل عليه السلام. (¬4) القَدُّ: هو القَطْعُ طُولًا كالشَّقِّ. انظر النهاية (4/ 20) (¬5) الثُّغْرَةُ: هي نُقْرَةُ النَّحْرِ فوقَ الصَّدْرِ. انظر النهاية (1/ 208).

نَحْرِهِ (¬1) إلى شِعْرَتِهِ (¬2)، فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ (¬3) مِنْ ذَهَبٍ (¬4) مَمْلُوءَةٍ (¬5) إِيمَانًا (¬6)، فَغَسَلَ قَلْبِي (¬7) , ثُمَّ حُشِيَ (¬8) , ثُمَّ أُعِيدَ, ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ ¬

_ (¬1) النَّحْرُ: هو أعْلَى الصَّدر. انظر النهاية (5/ 23). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 604): قوله: شِعْرَتِهِ بكسر الشين، أي شعر العَانة. وفي رواية الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (164) قال: إلى أسفَلِ بَطْنِهِ. (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (2/ 186): هي إناءٌ معروفٌ وهي مُؤَنَّثَة. وقال الحافظ في الفتح (7/ 605): خص الطَّستُ لكونِهِ أشهَر آلاتِ الغُسْلِ عُرفًا. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 605): خُصَّ الذهبُ لكونهِ أغْلَي أنواعِ الأواني الحِسِّيَّةِ وأصفَاهَا؛ ولأن فيه خَوَاصٌ ليستْ لغيرهِ ويظهَرُ لها هنا مُنَاسباتٌ: منها أنه مِنْ أوَانِي الجنةِ، ومنها أنه لا تأكُلُهُ النارُ، ولا التُّرابُ، ولا يلحَقُهُ الصَّدَأ، ومنها أنه أثقَلُ الجَوَاهر فنالسَبَ ثِقَلَ الوَحْي. (¬5) قال الحافظ في الفتح (2/ 6): والمعنَى أن الطَّسْتَ جُعِلَ فيها شَيءٌ يحصُلُ به كمَالُ الإيمانِ والحِكْمَةِ فسُمِّيَ حكمةً وإيمانًا مَجَازًا، أو مُثِّلا له بناء على جوازِ تَمثِيل المعاني، كما يُمَثَّلُ الموتُ كَبْشًا في الآخرة. حديث: "يُؤْتَى بالموتِ يومَ القِيامَةِ كأنه كبْشٌ أمْلَحُ". أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب هوَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} - رقم الحديث (4370) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجنة وصفتها - باب النار يدخلها الجبارون - رقم الحديث (2849). (¬6) قال الحافظ في الفتح (7/ 605): هذا المِلْءُ يحتمل أن يكون على حَقِيقته، وتَجْسِيد المعاني جائِزٌ كما جاء أن سورة البقرة وآل عمران تأتِيَانِ يوم القيامة كأنهما غَمَامَتَان. (¬7) في رواية الإِمام مسلم في الصحيح - رقم الحديث (163): "ثم غسله -أي قلبه- من ماء زمزم". (¬8) في رواية شريك في صحيح البخاري - رقم الحديث (7517)، قال: فحَشَا به صدرُه ولَغَادِيدُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو بفتح اللام والغين أي عروق حلقه. =

دُونَ البَغْلِ وفَوْقَ الحِمَارِ أَبْيَضَ"، فَقَالَ لَهُ الجَارُودُ: هُوَ البُرَاقُ (¬1) يَا أبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أنَسٌ: نَعَمْ، "يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أقصى طَرْفِهِ" (¬2)، وكَاَنَ مُسْرَجًا مُلَجَّمًا (¬3). فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَرْكَبَهُ، اسْتَصْعَبَ عَلَيْهَ، فَقَال لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ (¬4) أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، قَالَ: "فَارْفَضَّ (¬5) عَرَقًا" (¬6). ¬

_ = قال الحافظ (7/ 606): وقد اشتَمَلت هذه القصة من خَوَارق العادَةِ على ما يُدْهِشُ سامعه فضلًا عمَّن شاهده، فقد جَرَت العادة بأن من شُقَّ بطنه، وأُخرجَ قلبه يمُوتَ لا مَحَالة، ومع ذلك فلم يُؤَثِّر فيه ذلك ضَرَرًا ولا وَجَعًا فضلًا عن غير ذلك. (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 607): سُمي البُرَاقَ لأنه مشتَقٌّ من البَرِيقِ، فقد جاء في لونه أنه أبيضُ، أو من البَرْقِ لأنه وصفه بسُرعَةِ السَّير، أو من قَولهم شاة بَرْقاء إذا كان خلال صُوفها الأبيض طَاقَاتٌ سُود، ولا يُنافِيه وصفُهُ في الحديث بأن البُرَاق أبيض لأن البَرْقَاءَ مِنَ الغنم معدُودَةٌ في البَيَاض. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 606): أي يضَعُ رجلهُ عندَ مُنْتَهَى ما يَرى بَصَرُهُ. إلى هذا القدر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17835). (¬3) اللِّجَامُ: هو حَبْلٌ أو عَصا تدخل في فَمِ الدَّابةِ، وتُلْزَف إلى قَفَاهُ. انظر لسان العرب (12/ 242) (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 607): فيه دلالة على أن البُرَاق كَانَ مُعَدًا لرُكُوبِ الأنبياءِ، خِلافًا لِمَنْ نَفَى ذلك، وقد روى النسائي من طَريق يَزِيد بن أبي مَالكٍ عن أنس مَوْصُولًا وزاد: وَكَانَتْ تُسَخَّرُ للأنبياءِ قَبْلَهُ، ويؤيِّدُهُ ظاهِرُ قَوْلِهِ. وجاء في صحيح مسلم رقم الحديث (162) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَرَبَطْتُهُ -أي البراق- بالحلقة التي يَرْبط به الأنبياء". وقال الإِمام السهيلي في الرَّوْض الأُوُنف (2/ 194): إنما استَصْعَبَ عليه لبُعْدِ عَهْدِ البُراق برُكوبِ الأنبياء قَبْله، وطولِ الفترة بينَ عِيسَى عليه السلام ومُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) فَارْفَضَّ عَرَقًا: أي جَرَى عرَقُهُ، وسالَ، ثم سَكَنَ، وانقادَ وترَكَ الاستِصْعَابَ. انظر لسان العرب (5/ 267). (¬6) أخرج ذلك: ابن حبان في صحيحه - كتاب الإسراء - باب استصعاب البراق عند ركوب النبي =

* الآيات التي رآها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى بيت المقدس

"فَرَكِبْتُهُ -أَيِ الْبُرَاقُ- حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ المَقْدِسِ (¬1)، فَرَبَطْتُهُ بِالحَلْقَةِ التِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ" (¬2). * الآيَاتُ التِي رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْضَ المَشَاهِدِ، وهُوَ فِي طَرِيقِهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، مِنْهَا: * المَشْهَدُ الأَوَّلُ: رَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَآهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَفَلَا أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ، إِذَا قُلْتَهُنَّ طُفِئَتْ شُعْلَتُهُ وَخَرَّ لِفِيهِ (¬3)؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلَى". ¬

_ = -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (46) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة بني إسرائيل - رقم الحديث (3397) - وإسناده صحيح. (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 595): والحكمةُ في الإسراء إلى بَيْت المَقْدس حتى يجمع -صلى اللَّه عليه وسلم- في تلك الليلة بين رُؤْية القِبْلَتَيْنِ، أو لأنَّ بيتَ المقدس كان هِجرَةَ غالبِ الأنبياء قَبْله فحصل له الرَّحيل إليه ليجمع بين أشتَاتَ الفضائلِ، أو لأنه محَلّ المَحْشر، وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يُنَاسب الأحوالَ الأخروية، فكان المِعْراج منه ألْيَقَ بذلك، أو للتفاؤلِ بِحُصُولِ أنواعِ التَّقْدِيسِ له حِسًّا ومَعْنى. (¬2) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (162). (¬3) خَرَّ لِفِيهِ: أي سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ. انظر لسان العرب (4/ 57).

* المشهد الثاني

فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَقُلْ: أعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الكَرِيمِ، وبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ اللَّاتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءَ، وشَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وشَرِّ مَا ذَرَأَ (¬1) فِي الأَرْضِ، وشَرِّ مَا يَخْرُجُ فِيهَا، ومِنْ فِتَنِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، ومِنْ طَوَارِقِ (¬2) اللَّيْلِ والنَّهَارِ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ (¬3). * المَشْهَدُ الثَّانِي: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الدَّجَّالَ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صحِيحٍ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ فَقَالَ: . . . وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ. . . فَسُئِلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الدَّجَّالِ؟ فَقَالَ: "رَأَيْتُهُ فَيْلَمَانِيًّا (¬4)، أَقْمَرَ (¬5) هِجانًا (¬6)، إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ (¬7) كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، كأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أغْصَانُ شَجَرَةٍ" (¬8). ¬

_ (¬1) ذَرَأَ: أي خَلَقَ. انظر لسان العرب (5/ 29). (¬2) طَوَارِقُ الليْلِ: أي حَوَادِثُهُ التي تأتِي لَيْلًا. انظر جامع الأصول (4/ 367). (¬3) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ - كتاب الشعر - باب ما يؤمر به من التعوذ - رقم الحديث (10) -مرسلًا- ووصله الإِمام أحمد في مسنده -وإسناده حسن- وانظر جامع الأصول (4/ 367) - والسلسلة الصحيحة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (840). (¬4) الفَيْلَمَانِيُّ: بفتح الفاء وسكون الياء هو العظيمُ الجُثَّة. انظر النهاية (3/ 426). (¬5) أقْمَر: هو الشديد البياض، والأنثى: قَمْراء. انظر النهاية (4/ 93). (¬6) الهِجان: هو الأبيض. انظر النهاية (5/ 215). (¬7) العينُ القَائِمَة: هي البَاقيةُ في مكانها صحيحة. (¬8) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3546) - وأورده الحافظ ابن كثير في =

* المشهد الثالث

* المَشْهَدُ الثَّالِثُ: رَوَى البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ فِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ: . . . وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، وفِي رِوَايَةٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا أنَا بِامْرَأَةٍ حَاسِرَةٍ عَنْ ذِرَاعَيْهَا، وعَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ خَلَقَهَا اللَّهُ"، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْظِرْنِي أَسْأَلُكَ، فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، وَلَمْ أَقُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، فَإِذَا شَيْءٌ يَدْعُوهُ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ، يَقُولُ: هَلُمَّ يَا مُحَمَّدُ! ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سِرْ يَا مُحَمَّدُ، فَسَارَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، حَتَّى انْتَهَى إلى بَيْتِ المَقْدِسِ، . . . ثُمَّ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَمَّا العَجُوزُ التِي رَأَيْتَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا بِقَيَ مِنْ عُمُرِ تِلْكَ العَجُوزِ، وأَمَّا الذِي أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ، فَذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ أَرَادَ أَنْ تَمِيلَ إِلَيْهِ (¬1). * المَشْهَدُ الرَّابِعُ: وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ رِيحَ قَبْرِ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي ¬

_ = تفسيره (5/ 28) - وصحح إسناده. (¬1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 362 - 390).

أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ: مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ ". قَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا. قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ سَقَطَتْ المِدْرَى (¬1) مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: "بِسْمِ اللَّهِ". فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ! قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. قَالَ: فَأَمَرَ بِنُقْرَةٍ (¬2) مِنْ نُحَاسٍ فَأَحْمِيَتْ، ثُمَّ أُمِرَ بِهَا أَنْ تُلَقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَّا، قَالَ: ذَاكَ لَكِ عَلَيْنَا، قَالَ: فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ: قَالَ: يَا أُمَّه، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ، فَاقْتَحَمَتْ. ¬

_ (¬1) قال السندي في شرح المسند (3/ 92): المِدْرى: بكسر الميم ما يُسَوَّى به شعر الرأس. (¬2) النُّقْرَة: قِدْرٌ يسَخَّن فيها الماءُ وغيره. انظر النهاية (5/ 92).

* المشهد الخامس

قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَكَلَّمَ أرْبَعَة وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ اِبْنَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (¬1) * المَشْهَدُ الخَامِسُ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَالَ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ كُشِفَ لَهُ عَنْ حَالِهِمْ فِي دَارِ الجَزَاءِ بِضَرْبِ مِثَالِهِ، فَرَأَى قَوْمًا يَزْرَعُونَ فِي يَوْمٍ، وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمٍ، كُلَّمَا حَصَدُوا عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ "، قَالَ: هَؤُلَاءِ المُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تُضَاعَفُ لَهُمُ الحَسَنَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَا أَنْفَقُوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2821) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الجنائز - رقم الحديث (2903). قلتُ: في هذا الحَصْر نَظَرٌ، فقد ثبتَ أن هناك من تَكلم في المَهْدِ غير هؤلاء الأربعة، فمنهم: الذي كان يَرضع من أمه، فمَرَّ به رجل راكبٌ ذو شارَةٍ -أي صاحب هَيئَةٍ ومَنْظرٍ ومَلْبَسٍ حسن يُتَعجب منه ويُشار إليه-، فقالت أمه: اللهم اجعل ابنِي مِثله، فتركَ ثَدْيَهَا، وأقبلَ إليه فنظر، فقال: اللهم لا تجعلنِي مثله، ثمَّ أقبل علي ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ، ثم مَرَّ بأَمةٍ وهو يضربونها، ويقولون: زنت، سرقت، فقالت: اللهم لا تجعل ابنِي مثل هَذِهِ، فتركَ ثَدْيَهَا، فقال: اجعَلْنِي مِثْلَهَا. فقالت: لِمَ ذَاكَ؟ فقال: الرَّاكب جبَّارٌ من الجبابرةِ، وهذه الأمة يقولونَ: سَرَقَتْ وزَنَيَتْ ولم تَفْعَل. وقد أخرج ذلك البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3436) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2550). ومنهم الصبي الذي طَرَحَتْهُ أمه في الأُخْدُودِ، وقد أخرج قصته الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (3005). (¬2) انظر تفسير الطبري (8/ 8) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 398).

* المشهد السادس

* المَشْهَدُ السَّادِسُ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ قَوْمًا تُرْضَخُ رُؤُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ، كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ لَا يُفْتَّرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءَ؟ " قَالَ: هَؤُلَاءَ الذِينَ تَتَثَاقَلُ رُؤُوسُهُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ (¬1). * المَشْهَدُ السَّابعُ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قَوْمٍ عَلَى أَقْبَالِهِمْ رِقَاعٌ، وَعَلَى أَدْبَارِهِمْ رِقَاعٌ يَسْرَحُونَ كَمَا تَسْرَحُ الأَنْعَامُ، وَيَأْكُلُونَ الضَّرِيعَ (¬2)، والزَّقُّومَ (¬3)، وَرَضَفَ جَهَنَّمَ (¬4) , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ "، فَقَالَ: هَؤُلَاءَ الذِينَ لَا يُؤَدُّونَ صَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (818) دلائل النبوة للبيهقي (2/ 398). قلتُ: أما تَرْكُ الصلاة فهو من الأمُورِ الخَطِيرَةِ جِدًا، وقد جاءت أحاديث كثيرة في عُقُوبة تارِكِ الصلاة، منها ما أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (82) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إِنَّ بينَ الرَّجُلِ وبَيْنَ الشِّرْكِ والكُفرِ تَرْكُ الصَّلاة". وروى الإِمام مالك في الموطأ بسند صحيح عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه قال: لَا حَظَّ في الإِسلام لِمَنْ تَرَكَ الصلاة. وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5225). (¬2) الضَّرِيعُ: هو نَبْتٌ له شَوْكٌ كِبَار. انظر لسان العرب (8/ 54). (¬3) الزَّقُّومُ: هو كُل طعام يَقْتُلُ، وهو ما وَصَف اللَّه تَعَالَى في كتابه، وهو فعول من الزَّقْمِ: أي: اللَّقْمِ الشدِيدِ والشُّرب المُفْرِط. انظر لسان العرب (6/ 61) - النهاية (2/ 277). (¬4) رَضَفُ جَهَنَّمَ: هي الحِجَارة المُحَمَّاةُ على النار. انظر النهاية (2/ 210). (¬5) انظر تفسير الطبري (8/ 8) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 398).

* المشهد الثامن

* المَشْهَدُ الثَّامِنُ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى خَشَبَةٍ عَلَى الطَّرِيقِ، لَا يَمُرُّ بِهَا شَيْءٌ إِلَّا قَطَعَتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ: هَذَا مَثَلُ أَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِكَ يَقْعُدُونَ عَلَى الطَّرِيقِ فَيَقْطَعُونَهَا، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} (¬1). * المَشْهَدُ التَّاسِعُ: ثُمَّ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ رَجُلًا قَدْ جَمَعَ حِزْمَةَ حَطَبٍ عَظِيمَةً، لَا يَسْتَطِيعُ حَمْلَهَا، وهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِكَ تَكُونُ عِنْدَهُ أَمَانَاتُ ¬

_ = قلتُ: أما الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم، فقد أخرج ابن ماجه في سننه - رقم الحديث (1784) بسند صحيح عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- عن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما مِنْ أحَدٍ لا يُؤَدِّي زكاةَ مَالِهِ إلا مُثِّل له يوم القيامةِ شُجَاعًا أقرَعَ حتى يُطَوّق عُنُقه"، ثم قرَأ علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مِصْدَاقُهُ من كتاب اللَّه تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية. سورة آل عمران آية (180). (¬1) سورة الأعراف آية (86) - والخبر في تفسير الطبري (818) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 398). قلتُ: أما قَطْعُ الطريق، فقد أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2465) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11309) عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إيَّاكم والجُلُوسَ على الطُّرُقاتِ" فقالوا: ما لنا بُدٌّ، إنما هي مجالسُنَا نتحَدَّثُ فيها. قال: "فَإِذَا أتيتُمْ إلى المَجَالِسِ فأعطُوا الطَّريقَ حَقَّهَا"، قالوا: وما حَقُّ الطريق؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأذَى، ورَدُّ السلام، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهْيُ عنِ المُنْكَرِ".

* المشهد العاشر

النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا (¬1). * المَشْهَدُ العَاشِرُ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، لَا يَفْتُرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَوُلَاءِ؟ "، قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (¬2). * المَشْهَدُ الحَادِي عَشَرَ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى جُحْرٍ صَغِيرٍ يَخْرُجُ مِنْهُ ثَوْرٌ عَظِيمٌ، فَجَعَلَ الثَّوْرُ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ فَلَا يَسْتَطِيعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ "، قَالَ: هَذَا الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ عَظِيمَةٍ، ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَيْهَا فَيُرِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا وَلَا يَسْتَطِيعُ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (8/ 8) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 398). قلتُ: وأما أمانَاتُ الناس وتأدِيَةُ حقِّها، فقد أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (7150) والإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (142) - عن مَعْقِل بن يسار -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "ما من عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّه رَعِيَّةً فلم يَحُطْهَا بنُصْحِهِ لم يَجِدْ رائحةَ الجنَّة". (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12211) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2172) وإسناده صحيح. (¬3) انظر تفسير الطبري (8/ 8) ودلائل النبوة للبيهقي (2/ 398). قلتُ: يصدقُ هذا المثل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (6478)، وأخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2988)، عن =

* المشهد الثاني عشر

* المَشْهَدُ الثَّانِي عَشَرَ: وَكُشِفَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ حَالِ آكِلِ الرِّبَا فِي دَارِ الجَزَاءِ بِضَرْبِ مِثَالٍ: فَرَأَى رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ مِنْ دَمٍ، ويُلْقَمُ الحِجَارَةَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ: هَذَا آكِلُ الرِّبَا (¬1). * المَشْهَدُ الثَّالِثَ عَشَرَ: ثُمَّ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "أَتَيْتُ أَوْ مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْريَ بِي عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" (¬2). ¬

_ = أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . وإن العَبْدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه، لا يُلْقِى لها بَالًا، يَهْوِي بها في جهنم". وفي رواية مسلم قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَهْوِي بها في النارِ، أبْعَدَ ما بينَ المَشْرِق والمَغْرِبِ". (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده (20101) - وإسناده قوي. ووقع في صحيح البخاري - رقم الحديث (7047) أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَاهَدَ مِثْلَ هذا المَشْهَدِ لِآكلِ الرِّبا، لكنَّها رُؤْيَا مَنَام. قلتُ: وقد هَدَّدَ اللَّه سبحانه وتَعَالَى آكل الربا تهديدًا شديدًا في القرآن فقال تَعَالَى في سورة البقرة آية (275): {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، وقال اللَّه تَعَالَى في سورة البقرة الآيتان (278 و 279): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}. (¬2) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب من فضائل موسى عليه السلام =

* صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام

* صَلَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَنْبِيَاء عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ: ثُمَّ وَصَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى (¬1)، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَجَدَ الأَنْبِيَاءَ قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَقَدَّمَ جِبْرُيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَصَلَّى بِالأَنْبِيَاءِ إِمَامًا. رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ" (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَسْجِدَ الأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي، ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ (¬3). * مَتَى صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَنْبِيَاءِ؟ قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: والأظْهَرُ أَنَّ صَلَاتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ ¬

_ = - رقم الحديث (2375). (¬1) قال الحافظ في الفتح (3/ 385): والمسجد الأقْصَى هو بيتُ المَقْدِس، وسُمِّي الأقْصَى لِبُعْده عن المسجد الحرام في المَسَافَةِ، وقيل: لأنه لم يكن وراءَهُ مَسجد، والمقدِسُ المُطَهَّرُ، ولبيتِ المقْدِسِ عِدَّةُ أسماء منها: إيلْيَاءَ، وبيتُ المَقْدِسِ، وغيرها. (¬2) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب ذكر المسيح ابن مريم - رقم الحديث (172). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2324) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 28) وصحح إسناده.

والسَّلَامُ كَانَتْ قَبْلَ العُرُوجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ (¬1). بَيْنَمَا يَرَى الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ أَنَّ صَلَاتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسَّلَامُ كَانَتْ بَعْدَ العُرُوجِ إلى السَّمَاوَاتِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَّمَا اجْتَمَعَ بِالأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَوَاتِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ ثَانِيًا، وَهُمْ مَعَهُ، وَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ البُرَاقَ وَكَرَّ رَاجِعًا إلى مَكَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). وَقَالَ فِي البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، والظَّاهِرُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ هَبَطُوا مَعَهُ تَكْرِيمًا لَهُ، وتَعْظِيمًا عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الحَضْرَةِ الإِلَهِيَّةِ العَظِيمَةِ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الوَافِدِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ بِأَحَدٍ قَبْلَ الذِي طُلِبُوا إِلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا يَتَقَدَّمُ ذَاكَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ: هَذَا فُلَانٌ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِمْ قَبْلَ صُعُودِهِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّعَرُّفِ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَمْتُهُمْ، وَلَمْ يَحِنْ وَقْتُ إِذْ ذَاكَ إِلَّا صَلَاةَ الفَجْرِ، فتَقَدَّمَهُمْ إِمَامًا بِهِمْ عَنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاسْتَفَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا أَنَّ الإِمَامَ الأَعْظَمَ يُقَدَّمُ فِي الإِمَامَةِ عَلَى رَبِّ المَنْزِلِ حَيْثُ كَانَ بَيْتُ المَقْدِسِ مَحَلَّهُمْ ودَارَ إِقَامَتِهِمْ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 610). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (5/ 31). (¬3) انظر البداية والنهاية (3/ 123).

* عرض الآنية في بيت المقدس

قَالَ أحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَسْرَى بِكَ اللَّهُ لَيْلًا إِذْ مَلَائِكُهُ ... وَالرُّسْلُ في المَسْجِدِ الأَقْصَى عَلَى قَدَمِ لَمَّا خَطَرْتَ بِهِ الْتَفُّوا بِسَيِّدِهِمْ ... كَالشُّهْبِ بِالبَدْرِ أَوْ كَالجُنْدِ بِالعَلَمِ صَلَّى وَرَاءَكَ مِنْهُمْ كُلُّ ذِي خَطَرٍ ... وَمَنْ يَفُزْ بِحَبِيبِ اللَّهِ يَأْتْمِمِ جُبْتَ السَّمَاوَاتِ أَوْ مَا فَوْقَهُنَّ بِهِمْ ... عَلَى مُنَوَّرَةٍ دُرِّيَّةِ اللَّجَمِ رَكُوبَةً لَكَ مِنْ عِزٍّ وَمِنْ شَرَفٍ ... لَا في الْجِيَادِ وَلَا فِي الأَيْنُقِ الرُّسُمِ مَشِيئَةُ الخَالِقِ البَارِي وَصنْعَتُهُ ... وَقُدْرَةُ اللَّهِ فَوْقَ الشَّكِّ والتُّهَمِ حَتَّى بَلَغْتَ سَمَاءً لَا يُطَارُ لَهَا ... عَلَى جَنَاحٍ وَلَا يُسْعَى عَلَى قَدَمِ وَقِيلَ كُلُّ نَبِيٍّ عِنْدَ رُتْبَتِهِ ... وَيَا مُحَمَّدُ هَذَا العَرْشُ فَاسْتَلِمِ * عَرْضُ الآنِيَةِ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ: وبَعْدَ أَنْ فَرَغَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَلَاتِهِ بِالأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصلَاةُ والسَّلَامُ، أُتِيَ بِقَدَحَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ، وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ. فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: ". . . ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكعَتَيْنِ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءِ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ (¬1)، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (11/ 200): والحكمةُ في التَّخْيِير بين الخمرِ مع كونه حَرَامًا واللَّبَنِ مع كونِهِ حَلالًا؛ إِمَّا لأنَّ الخَمْرَ حِينَئِذٍ لم تكن حُرِّمت، أو لأنَّها من الجنة، وخمرُ الجنَّة ليست حَرَامًا.

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المعراج إلى السماوات

فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. . " (¬1). * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المِعْرَاجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي -أَيْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَعَرَجَ (¬2) بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ" (¬3). فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ . قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ (¬4). قَالَ: مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (1/ 184): فسَّرُوا الفِطْرة هنا بالإِسلام والاستِقَامة، ومعنَاهُ واللَّه أعلم: اختَرْتُ عَلامَةَ الإِسلام والاستقامةِ، وجُعِلَ اللبن علامةً لكونه سَهْلًا طَيِّبًا طاهرًا سَائِغًا للشاربين، واللَّه أعلم. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات - رقم الحديث (162) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12505). (¬2) العروج: الصعود. انظر النهاية (3/ 184). قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 121): ولم يكن صُعُودُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات على البُرَاق كما قد يَتَوَهَّمُهُ بعضُ الناس، بل كان البُرَاق مَرْبُوطًا على باب مسجِدِ بيتِ المقدس لِيَرْجعَ عليه إلى مَكَّةَ، فصَعِدَ من سَمَاءٍ إلى سماء في المِعْرَاجِ. (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 7): وهذا يَدُلُّ على أن البابَ كان مُغْلَقًا. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 610): يشعر بأنهم أحسُّوا معه بِرَفِيقٍ وإلا لكان السُّؤال بلفظِ: أمَعَكَ أحدٌ، وذلك الإحساسُ إما بمُشَاهَدَةٍ لكونِ السماء شَفَّافة، وإما بأمرٍ معنَوِيٍّ كزيادةِ أنوارٍ، أو نحوها يشعر بتجَدُّدِ أمرٍ يَحْسُنُ معه السُّؤال بهذه الصِّيغَةِ.

فَقَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ (¬1) إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ (¬2)، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. فَفُتِحَ لَنَا. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَنْ يَمِينهِ أسْوِدَةٌ (¬3) وَعَنْ يَسَاور أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ"؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ. ثُمَّ قَالَ: مَرْحبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ (¬4)، فَأَهْلُ ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (1/ 185): أي أرسل إليه للإسراء وصُعُود السموات، وليس مُرَادهُ الاستفهامُ عن أصلِ البِعْثَةِ والرِّسالة، فإن ذلك لا يَخْفى عليه إلى هذه المُدَّة، فإذا هو الصحيح. وقال الحافظ في الفتح (7/ 610): والحكمةُ في سُؤَال الملائكة: وقد أُرْسِلَ إليه؟ أن اللَّه تَعَالَى أراد إطلاعَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على أنه معروفٍ عند الملأ الأعلى؛ لأنهم قالوا: وقد أُرْسِلَ إليه. . . فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سَيَقَعُ له، وإلا لكانُوا يقولون: ومن مُحَمَّد؟ مثلًا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 610): أي أصابَ رَحْبًا وسَعَةً. (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 7): أسوِدَة: بوزن أزمِنَة، وهي الأشخَاصُ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (2/ 7): النَّسَمُ جمعُ نَسَمَةٍ، وهي الرُّوح، وظاهره أن أروَاحَ بَنِي آدَمَ من أهلِ الجنَّة والنار في السماء، وهو مُشْكِلٌ، قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قد جَاءَ أَنَّ أرواحَ الكفَّار في سِجِّين، وأن أرواح المؤمنين مُنَعَّمَةٌ في الجنة، يعني فكيفَ تكونُ مُجْتَمِعَةً في سَمَاءِ الدُّنيا؟ وأجابَ: بأنه يحتمل أنها تُعْرَض على آدم أوْقَاتًا، فصادفَ وقتُ عرضها مُرُورَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويدل على أن كونهم في الجنة والنار إنما هو في أوقات دونَ أوقاتٍ قوله تَعَالَى في سورة غافر آية (46): {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}.

* المشاهد التي شاهدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السماء الدنيا

اليَمِينِ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ التِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وإذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى (¬1). * المَشَاهِدُ التِي شَاهَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا: 1 - حَالُ أَكَلَةِ أمْوَالِ اليَتَامَى ظُلْمًا: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمَّا دَخَلْتُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا. . . رَأَيْتُ رِجَالًا لَهُمْ مَشَافِرُ (¬2) كَمَشَافِرِ الإِبِلِ، فِي أَيْدِيهِمْ قِطَعٌ مِنْ نَارٍ كَالأَفْهَارِ (¬3) يَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ أدْبَارِهِمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ ". قَالَ: هَؤُلَاءِ، أَكَلَةُ أمْوَالِ اليَتَامَى ظُلْمًا (¬4). 2 - حَالُ النِّسَاءِ اللَّاتِي يُدْخِلْنَ عَلَى الأَزْوَاجِ مَا لَيْسَ مِنْهُمْ: قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ رَأَيْتُ نِسَاءً مُعَلَّقَاتِ بِثَدْيِهِنَّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءَ يَا جِبْرِيلُ؟ ". ¬

_ (¬1) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ - رقم الحديث (349) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات - رقم الحديث (163). (¬2) المشَافِرُ: جمع مِشْفَر، والمِشْفَرُ للبعيرِ كالشَّفَةِ للإنسان. انظر النهاية (4/ 284). (¬3) الأفْهَارُ: جمع فِهْرٍ، وهو الحَجَرُ مِلْءُ الكف، وقيل الحجرُ مُطْلَقًا. انظر النهاية (3/ 433). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 392) سيرة ابن هشام (2/ 19). قُلتُ: توعَّد اللَّه تَعَالَى أكلةَ أموالِ اليتامى ظُلمًا بالنارِ، فقال تَعَالَى في سورة النساه آية (10): {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}.

3 - حال المغتابين

قَالَ: هَؤُلَاءِ اللَّاتِي أَدْخَلْنَ عَلَى الرِّجَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ (¬1). 3 - حَالُ المُغْتَابِينَ (¬2): رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه، وأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ (¬3) وُجُوهَهُمْ وصُدُروَهُمْ، فَقُلْتُ، مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ ". قَالَ: هَؤُلَاءِ الذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، ويَقَعُونَ فِي أعْرَاضِهِمْ (¬4). 4 - حَالُ الزُّنَاةِ: قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ رَأَيْتُ رِجَالًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ سَمِينٌ طَيِّبٌ، إِلَى جَنْبِهِ لَحْمٌ غَثٌّ (¬5) مُنْتِنٌ (¬6)، فَيَأْكُلُونَ مِنَ الغَثِّ المُنْتِنِ، ويَتْرُكُونَ السَّمِينَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 19). (¬2) الغِيبَةُ: فسَّرَهَا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2589) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟ "، قَالُوا: اللَّهُ ورسوله أعلم، قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ". قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 380): الغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بالإجمَاعِ. (¬3) يَخْمِشُونَ: أي يَخْدِشُونَ. انظر النهاية (2/ 75). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13340) وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب في الغيبة - رقم الحديث (4878). (¬5) الغَثُّ: الضَّعيف المَهْزُول. انظر النهاية (3/ 308). (¬6) النَّتَّنُ: الرَّائحَةُ الكَرِيهَةُ. انظر لسان العرب (14/ 36).

5 - حال أكلة الربا

الطَّيِّبَ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ ". قَالَ: هَؤُلَاءِ الذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْهُنَّ (¬1). 5 - حَالُ أَكلَةِ الرِّبَا: قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ رَأَيْتُ رِجَالًا لَهُمْ بُطُونٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطُّ". وَفِي رِوَايَةٍ: "بُطُونُهُمْ أَمْثَالُ البُيُوتِ بِسَبِيلِ (¬2) آلِ فِرْعَوْنَ يَمرُّونَ عَلَيْهِمْ كَالإِبِلِ المَهْيُومَةِ (¬3) حِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ، يَطَؤُونَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ "، قَالَ: هَؤُلَاءَ أَكَلَةُ الرِّبَا (¬4). * صُعُودُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ: قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 19) - دلائل النبوة للبهيقي (2/ 392). (¬2) السبيل: هو الطريق. انظر لسان العرب (6/ 162). ومنه قوله تعالى في سورة الأعراف، آية (146): {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا}. (¬3) الهُيَامُ: هو دَاءٌ يُشْبِهُ الحُمَّى يأخذُ الإبلَ فيُكْسِبُهَا العَطَشَ الشَّديدَ، فتَهِيمُ في الأرض لا تَرْوَى ولا تَرْعى حتى تَهْلِكَ. انظر لسان العرب (15/ 184). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 19) دلائل النبوة للبهيقي (2/ 392).

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء الثالثة

وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِابْنَيِ الخَالَةِ يَحْيَى بنِ زَكَرِيَّا، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ". فَقَالَ: جِبْرِيلُ: هَذَا يَحْيَى (¬1)، وَعِيسَى (¬2) فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّا. ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءَ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ"، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ ¬

_ (¬1) أما يَحْيَى عليه السلام، فقد قال اللَّه تَعَالَى فيه في سورة مريم آية (12): {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}. قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية (5/ 216): أي يا يَحْيَي تَعَلَّمِ الكتاب وهُوَ التَّوْرَاةُ بِقُوَّةٍ، أي بِجِا وحِرْصٍ واجتِهَاب، واَتينَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا، أي الفَهمَ، والعِلم، والجِدَّ، والعَزْم، والإقبَالَ على الخَيْرِ، والإِكْبَابَ عليه، والاجتِهَاد فيه. (¬2) جاء في وصفِ عِيسَى عليه السلام، ما أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3437) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (168) - عن أبي هريرة -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حين أسرى به: ". . . ولَقِيتُ عِيسَى عليه السلام رَبْعَة أحمَرُ، كأنه أُخرِجَ من دِيمَاسٍ"، يعني الحَمَّام. قال الحافظ في الفتح (7/ 157): رَبْعَة: يعني ليس بطوِيل جدًا، ولا قَصِير جدًا بل وسط. والمرادُ من ذلك وصفه عليه السلام بصَفَاءِ اللونِ ونَضَارَة الجسم، وكَثْرَةِ ماءِ الوجه حتى كأنه كان في حمَّام، فخرج منه وهو عَرْقَان. وجاء في رواية الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (167) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . ورأيتُ عِيسَى ابن مريم عليه السلام، فإذا أقرَبَ من رأيتُ به شَبَهًا عُرْوةُ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-".

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء الرابعة

قَالَ: جِبْرِيلُ. فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. فَقِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ". قَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ". * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ". فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ.

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء الخامسة

قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِإِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ". قَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَرَدَّ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (¬1). * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ". فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. ¬

_ (¬1) سورة مريم آية (57). قال الشيخ المباركفوي في تحفة الأحوذي (8/ 577): ولا شكَّ في كونها مَكَانًا عليًا، واستُشْكِلَ بأنَّ غيرَهُ من الأنبياء أرفَعُ مكانًا منه، وهذا الاستشكال ليس بشيءٍ؛ لأنه لم يذكر أنه أعْلَى من كُل أحد.

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء السادسة

قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِهَارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ". قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ (¬1). * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إلى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ". فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. ¬

_ (¬1) هذه رواية الشيخين في صحيحيهما، وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 20) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا فيها كَهْلٌ أبيض الرأىس واللحية، لم أرَ كهلًا أجمل منه، فقلت: من هذا يا جبريل"؟ قال هذا المحبب في قومه هارون عليه السلام.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ". قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ. وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. وَصَفَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَجُلٍ آدَمَ (¬1) طِوَالٍ جَعْدٍ (¬2) كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" (¬3). قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَلَمَّا تَجَاوَزْتُهُ بَكَى. قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ ¬

_ (¬1) الأدَمَةُ: أي السُّمْرَةُ الشَّدِيدة. انظر النهاية (1/ 36). (¬2) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (1/ 195): وأما الجَعْدُ في صِفَة موسى عليه السلام: فيه معنيَان: أحدهما: هو اكتِنَازُ الجِسْمِ، واجتماعُهُ، والثاني: جُعُودَةُ الشَّعر، والأول أصَحُّ؛ لأنه جَاءَ في رِوايةِ أبي هريرة في صحيح البخاري - رقم الحديث (3437) أنه عليه السلام رَجِل الشعر. (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (1/ 194): شَنُوءَةَ هي قَبِيلَةٌ معروفة، سُمُّوا بذلك من قولكَ رجُلٌ فيه شَنُوءَة، أي تَقَزُّز وهو التَّبَاعُدُ من الأدنَاسِ. وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (165) (267).

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء السابعة

قَالَ: أَبْكِي (¬1)؛ لِأَنَّ غُلَامًا (¬2) بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ". فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. فَقِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَقَدْ أُرْسلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 613): قال العُلَماءُ: لم يَكُنْ بُكَاءُ مُوسَى عليه السلام حَسَدًا، مَعَاذَ اللَّهِ، فإن الحَسَد في ذلك العالم مَنْزُوعٌ عن آحادِ المؤمنين، فكيفَ بمَنِ اصطَفَاه اللَّه تَعَالَى، بل كان أسَفًا على ما فاتَهُ من الأجْرِ الذي يترتَّبُ عليه رفعِ الدَّرَجَةِ بسببِ ما وقع من أمَّته من كثرَةِ المُخَالفَةِ المُقْتَضِيَةِ لتَنْقِيصِ أجُورِهم المستَلْزِم لتنقِيص أجْرِهِ؛ لأن لكل نَبِيٍّ مِثْلُ أجرِ كلِّ من اتَّبعه، ولهذا كان من اتَّبعه من أمته في العدد دُون من اتبع نبينا محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- مع طولِ مُدَّتهم بالنسبة لهذهِ الأمةِ. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 613): قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غُلَامًا"، فليسَ على سبيل النَّقْص، بل على سبيلِ التَّنْوِيهِ بقُدرَةِ اللَّه تَعَالَى، وعظيمِ كَرَمِهِ إذ أعطى لمن كان في ذلك السّن ما لم يُعطِهِ أحدًا قبلَهُ ممَّنْ هو أسَنُّ منه.

قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى البَيْتِ المَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ (¬1)، لَا يَعُودُونَ إِلَيهِ (¬2) ". فَقَالَ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ إبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ (¬3). رَوَى الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ، وأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ، عَذْبَةُ المَاءِ، وأنَّهَا قِيعَانٌ (¬4)، وأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 617): استدل به على أن الملائكةَ أكثرُ المخلوقاتِ لأنَّه لا يُعرف من جَمِيع العوَالم من يتجدَّد من جِنْسِه في كل يوم سبعون ألفًا غير ما ثَبَت عن الملائكة في هذا الخَبَر. (¬2) زاد ابن إسحاق في السيرة (2/ 20): إلى يوم القيامة. (¬3) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ - رقم الحديث (349) - وأخرجه في كتاب أحاديث الأنبياء - باب ذكر إدريس عليه السلام - رقم الحديث (3342) - وأخرجه في كتاب مناقب الأنصار - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات - رقم الحديث (162) (163) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12505). (¬4) قيعَان: جمع قَاعٍ وهو المكان المُسْتَوي في وطأةٍ من الأرض يعلوُه ماءُ السماء فيُمسِكُهُ، ويستَوِي نَبَاتُهُ. انظر النهاية (4/ 116).

* الحكمة في لقاء هؤلاء الأنبياء

للَّهِ، وَلَا إِلَهِ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ" (¬1). * الْحِكْمَةُ فِي لِقَاءِ هَؤلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ: وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءَ الأَنْبِيَاءِ بِالسَّمَاءِ التِي تَلَقَّاهُ بِهَا، فَقِيلَ أُمِرُوا بِمُلَاقَاتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَخَّرَ فَلَحِقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَاتَهُ. وَقِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى مَا سَيَقَعُ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ قَوْمِهِ مِنْ نَظِيرِ مَا وَقَعَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ: أ - فَأَمَّا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَقَعَ التَّنْبِيهُ بِمَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الأَرْضِ بِمَا سَيَقَعُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مَا حَصَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْمَشَقَّةِ وَكَرَاهَةِ فِرَاقِ مَا أَلِفَهُ مِنَ الْوَطَنِ، ثُمَّ كَانَ مَآلُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجعَ إلى مَوْطِنِهِ الذِي أُخْرِجَ مِنْهُ. ب- وَبِعِيسَى وَيَحْيَي عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَوَّلِ الْهِجْرَةِ مِنْ عَدَاوَةِ اليَهُودِ وَتَمَادِيهِمْ عَلَى الْبَغْي عَلَيْهِ وَإِرَادَتِهِمْ وُصُولَ السُّوءَ إِلَيْهِ. ج- وَبِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ إِخْوَتِهِ مِنْ قُرَيشٍ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الدعوات - باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد رقم الحديث (3767) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23552).

* دخول الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجنة وما رآه فيها

نَصْبِهِمُ الْحَرْبَ لَهُ وَإِرَادَتِهِمْ هَلَاكَهُ، وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُ، وَقَدْ أَشَارَ إلى ذَلِكَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَوْلِهِ لِقُرَيْشٍ يَوْمَ الْفَتْحِ: "أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ. . . ". د - وَبِإِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى رَفِيعِ مَنْزِلَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ اللَّهِ. هـ - وَبِهَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ قَوْمَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَعُوا إِلَى مَحَبَّتِهِ بَعْدَ أَنْ آذَوْهُ. و- وَبِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ مُعَالجَةِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَشَارَ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "لَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ". ز - وَبِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي اسْتِنَادِهِ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ بِمَا خُتِمَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخِرِ عُمُرِهِ مِنْ إِقَامَةِ مَنْسَكِ الحَجِّ وتَعْظِيمِ البَيْتِ (¬1). * دُخُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجَنّةَ وَمَا رَآهُ فِيهَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا حبَايِلُ (¬2) اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا المِسْكُ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 612). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 10): كذَا وقَعَ لجَمِيعِ رُوَاةِ البخاري في هذا الموضع بالحاء المهملة ثم الموحدة، وبعد الألف تحتانية ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تَصْحِيف وإنما هو (جَنَابِذُ) كما وقع عند المصنف -أي البخاري- في أحاديث الأنبياء - باب ذكر إدريس عليه السلام - رقم الحديث (3342) من رواية ابن المبارك وغيره عن يونس. وقال ابن الأثير في النهاية (1/ 294 - 322): هكذا جاء في كتَاب البخاري، والمعروفُ جَنَابِذُ اللؤلُؤِ، والجنَابِذُ جمعُ جنبذة: وهي القبة. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلوات في =

". . . وإِذَا أنَا بِأَنْهَارٍ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ (¬1)، وأنْهَارٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ (¬2)، وأنْهَارٍ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (¬3)، وأنْهَارٍ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى (¬4)، وإِذَا رُمَّانُهَا كَأَنَّهُ الدِّلَاءُ (¬5) عِظَمًا، وإِذَا أنَا بِطَيْرٍ كَالَبخَاتِي (¬6) هَذِهِ"، فَقَالَ عِنْدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يُحَدِّثُ أصْحَابَهُ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" (¬7). ¬

_ = الإسراء؟ - رقم الحديث (349) - وأخرجه في كتاب أحاديث الأنبياء - باب ذكر إدريس عليه السلام - رقم الحديث (3342). (¬1) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 312): يعني الصَّافي الذي لا كَدَرَ فيه. (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 313): في غايةِ البَيَاض والحلاوَةِ والدُّسُومَةِ. (¬3) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 313): ليست كَرِيهَةَ الطعم والرائحَةِ، كخمرِ الدُّنيا، بل هي حَسَنة المَنْظر والطعْمِ والرَّائحة والفعل. . {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} سورة الصافات آية (47) {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} سورة الواقعة آية (19) {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} سورة الصافات آية (46). (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 313): أي في غايَةِ الصَّفَاءِ، وحُسْنِ اللَّوْنِ والطَّعْمِ والرَّيح. روى الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20052) - والترمذي في جامعه - كتاب صفة الجنة - باب ما جاء في صفة أنهار الجنة - رقم الحديث (2744)، بسند حسن، عن حكيمِ بن معاويةَ أبي بَهْزٍ عن أبيه قال: سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقول: "إِنَّ في الجنة بَحْرُ اللبَنِ، وبحرُ المَاء، وبحرُ العَسَل، وبحرُ الخَمْرِ، ثُمَّ تشقق الأنهارُ مِنهَا بَعْدُ". (¬5) الدِّلاءُ: معرُوفةٌ، وهي التي يُسْتَقَى بها. انظر لسان العرب (4/ 397). (¬6) البَخَاتِي والبُخْتُ: هي جِمَالٌ طِوَالُ الأعنَاق. انظر النهاية (1/ 101). (¬7) أخرج ذلك: البيهقي في دلائل النبوة (2/ 394 - 401).

* رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهر الكوثر

* رُؤْيَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهْرَ الكَوْثَرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَيْنَمَا أنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ، وَإِذَا أنَا بِنَهَرٍ حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَب، ومَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَاليَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنَ العَسَلَ وأَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتَيْتُ عَلَى نَهَرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤلُؤِ مُجَوَّفًا" (¬2). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَضَرَبْتُ بِيَدِي إِلِى مَا يَجْرِى فِيهِ المَاءُ، فَإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ (¬3)، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الذِي أَعْطَاكَهُ اللَّهُ" (¬4). * جَارِيَةٌ لِزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الجَنَّةِ جَارِيَةً شَابَّةً، قَالَ: "فَسَأَلْتُهَا لِمَنْ أَنْتِ؟ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُهَا"، فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَبَشَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدًا -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الرقائق - باب في الحوض - رقم الحديث (6581) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13156). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} - رقم الحديث (4964). (¬3) أذْفَرُ: أي طيِّبُ الرَّائحة. انظر النهاية (2/ 149). (¬4) أخرجه الإِمام في مسنده - رقم الحديث (12008) وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) أورد ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/ 230) - وقال: إسناده حسن - والألباني في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (1859) وقال: إسناده صحيح - وقيّد ابن إسحاق في السيرة (2/ 21) هذا الخبر في الإسراء والمعراج.

* صوت بلال -رضي الله عنه- في الجنة

* صَوْتُ بِلَالٍ -رضي اللَّه عنه- فِي الجَنَّةِ: وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودَخَلَ الجَنَّةَ، فَسَمِعَ فِي جَانِبِهَا وَجْسًا (¬1)، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا بِلَالٌ المُؤَذِّنُ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ جَاءَ إِلَى النَّاسِ: "قَدْ أَفْلَحَ بِلَالٌ" (¬2). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا بِلَالُ! حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الإِسْلَامِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلةَ خَشْفَ (¬3) نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ". قَالَ بِلَالٌ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً، مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا، فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ، مَا كتَبَ اللَّهُ لِي (¬4) أَنْ أُصَلِّيَ (¬5). ¬

_ (¬1) الوَجْسُ: هو الصَّوْتُ الخَفِيّ. انظر النهاية (5/ 137). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2324) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 27) وصحح إسناده. (¬3) الخَشْفُ: بسكون الشين الحس والحركة. انظر النهاية (2/ 33). (¬4) قال الحافظ في الفتح (3/ 345): والذي يظهرُ أن المُرادَ بالأعمال التي سَأَله عن إرجَائِهَا الأعمال المتطوَّعُ بها، وإلا فالفريضةُ أفضَلُ قَطْعًا، ويستفادُ منه جوازُ الاجتهَادِ في توقيتِ العِبَادَةِ؛ لأن بِلالًا توصل إن ما ذكرنا بالاستنبَاطِ، فصوَّبَهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التهجد - باب فضل الطهور بالليل والنهار - رقم الحديث (1149) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضل بلال -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2458).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لبِلَالَ -رضي اللَّه عنه-. 2 - وفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِدَامَةِ الطَّهَارَةِ، ومُنَاسَبَةُ المُجَازَاةِ عَلَى ذَلِكَ بِدُخُولِ الجَنَّةِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَازَمَ الدَّوَامَ عَلَى الطَّهَارَةِ أَنْ يَبِيتَ المَرْءُ طَاهِرًا، ومِنْ بَاتَ طَاهِرًا عَرَجَتْ رُوحُهُ، فَسَجَدَتْ تَحْتَ العَرْشِ، كَمَا رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ، والعَرْشُ سَقْفُ الجَنَّةِ. 3 - وفِيهِ سُؤَالُ الصَّالِحِينَ عَمَّا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهَا غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ. 4 - وفِيهِ سُؤَالُ الشَّيْخِ عَنْ عَمَلِ تِلْمِيذِهِ لِيَحُضَّهُ عَلَيْهِ، وَيُرَغِّبَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ حَسَنًا، وَإِلَّا فَيَنْهَاهُ. 5 - وَفِيهِ أَنَّ الجَنَّةَ مَوْجُودَةٌ الآنَ خِلَافًا لِمَنْ أنْكَرَ ذَلِكَ مِنَ المُعْتَزِلَةِ (¬1). * عَرْضُ الآنِيَةِ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ رُفِعَ لِيَ البَيْتُ المَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٌ، فَأَخَذْتُ الذِي فِيهِ اللَّبَنَ، فَشَرِبْتُ" (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (3/ 346). (¬2) قال ابن المنيِّر فيما نقله عن الحافظ في الفتح (11/ 203): ولعل السِرَّ في عُدُوله -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العَسَلِ إلى اللبَنِ: كون اللبن أنفَع، وبه يشتَدُّ العَظْمُ وينبُتُ اللحْمُ، وهو بمجرَّدِهِ =

* انتهاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى سدرة المنتهى

فَقِيلَ لِي: هِيَ الفِطْرَةُ التِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ (¬1). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ، قَالَ: أصبت الفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ (¬2). * انْتِهَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى: ثُمَّ انْطَلَقَ جِبْرِيلُ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى سِدرَةِ (¬3) المُنْتَهَى (¬4). ¬

_ = قُوتٌ، ولا يدخل في السَّرَفِ بوَجهٍ، وهو أقربُ إلى الزُّهدِ، وأما العَسَلُ وإن كَانَ حَلَالًا لكنه من المُسْتَلَذَّاتِ التي قد يُخْشَى على صاحبها أن يَنْدَرجَ في قوله تَعَالَى سورة الأحقاف آية (20): {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ}. وقال الحافظ في الفتح (11/ 203): ويحتمل أن يكون السِّرُّ فيه ما وقع في بعضِ طُرُق الإسراء أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَطِشَ، فآثرَ اللبَنَ دونَ غيرِهِ لما فيه من حصولِ حاجتِهِ دونُ الخَمْرِ والعَسَلِ، فإذا هو السببُ الأصلي في إيثَارِ اللبن، وصادفَ مع ذلكَ رُجْحَانه عليهما من عدة جهات. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - والإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (264). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأشربة - باب شرب اللبن - رقم الحديث (5610). (¬3) قال ابن دِحيَةَ فيمَا نقلهُ عنه الحافظ في الفتح (7/ 616): اختيرت السِّدْرَةُ دون غيرها؛ لأن فيها ثلاثُ أوصافٍ: ظِلٌّ مَمْدُود، وطعَامُ لَذِيذٌ، ورائحةٌ زَكِيَّةٌ، فكانت بِمَنزلة الإيمان الذي يَجْمَعُ القولَ والعملَ والنِّيةَ، والظل بمنزلةِ العمل، والطعمُ بمنزلةِ النية، والرائحةُ بمنزلة القَوْل. (¬4) وفي رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (173) عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: إن سِدْرَةَ المُنْتَهى في السماء السَّادسة، وهذا تعارض لا شكَّ فيه، وطريق الجَمْعِ بينهما، =

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا (¬1) كَأَنَّهُ قلَالُ (¬2) هَجَرَ (¬3)، وَوَرَقُهَا كَأَنَّهُ آذَانُ الفِيَلَةِ، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ (¬4) لَا أَدْرِي مَا هِيَ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصِفَهَا مِنْ حُسْنِهَا" فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلَامُ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنهَارٍ (¬5): نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ (¬6). ¬

_ = كما قال الحافظ في الفتح (7/ 615) أن يقال: إن أصلَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى في السماء السادسة، وأغصانُهَا وفروعُهَا في السماء السابعة. قال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: وسُمِّيَتْ سَدْرَةَ المُنْتَهَى؛ لأن إليها يَنْتَهي ما يُعْرَجُ به من الأرض، فَيُقْبَضُ منها، وإليها يَنْتَهِي ما يَهْبِطُ به من فوقها، فَيُقْبَضُ منها. أخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (173). (¬1) النَّبْقُ: هو ثَمَرُ السِّدْرِ. انظر النهاية (5/ 8). (¬2) قال الإِمام الخطابي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (7/ 615): القِلالُ بالكسر جمعُ قُلَّة بالضم وهي الجِرَارُ، يريد أن ثمرها في الكِبَر مثل القِلَال، وكانت معروفةً عند المُخَاطَبِينَ، فلذلك وقَعَ التَّمْثِيلُ بها. (¬3) هَجَر: هي مدينةٌ الإحسَاء. انظر معجم البلدان (5/ 452). (¬4) وغَشِيَهَا ألوَانٌ: أي تَعْلُوها. انظر النهاية (3/ 332). (¬5) في رواية أخرى في صحيح البخاري، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا في أصلها أربعة أنهار". قال الحافظ في الفتح (7/ 616): يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من تحتها. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفضائل - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - وأخرجه في كتاب أحاديث الأنبياء - رقم الحديث (3342) - وأخرجه الإِمام مسلم في صحيحه كتاب الإيمان - باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (162) - وباب ذكر سدرة المنتهى - رقم الحديث (173).

* رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية

* رُؤْيَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ: وَهُنَاكَ عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى رَأَى -صلى اللَّه عليه وسلم- جبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى الصُّورَةِ التِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا، فِي حُلَّةٍ مِنْ رَفْرَفٍ (¬1) أَخْضَرَ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الأُفُقَ، يَتَنَاثَرُ مِنْ أَجْنِحَتِهِ التَّهَاوِيلُ، والدُّرُّ واليَاقُوتُ (¬2)، وكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَرَى جِبْرِيلَ إِلَّا عَلَى صُورَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَرَاهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬3). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا المَشْهَدِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (¬4) (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (¬5) (17) ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 593): وأصل الرَّفْرَفِ ما كان من الدِّيباجِ رَقِيقًا حَسَنَ الصَّنْعَةِ. (¬2) التَّهَاوِيلُ والدُّرَرُ واليَاقُوتُ: أي الأشياء المختلفَةُ الألوانِ، أرادَ بالتهَاويلِ، تَزَايِينُ رِيشِهِ وما فيه من صُفْرَةٍ وحُمْرَةٍ ويَيَاضٍ وخُضْرَةٍ مثل تَهَاوِيلِ الرِّيَاض. انظر لسان العرب (15/ 161). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب لقد رأى من آيات ربه الكبرى - رقم الحديث (4858) - وأخرجه في كتاب بدء الخلق - باب إذ قال أحدكم آمين والملائكة في السماء - رقم الحديث (3233) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب ولقد رآه نزلة أخرى - رقم الحديث (177). (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 451): هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها جبريل عليه السلام على صورته التي خلقه اللَّه عليها، وكانت ليلة الإسراء. وروى الإِمام أحمد في مسنده بسند حسن عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: في هذه الآية: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} - سورة النجم آية (13) قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رأيتُ جبريلَ عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى عليه سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ، ينتَثِرُ من رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ: الدُّرُّ واليَاقُوتُ". (¬5) روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (3801) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في قوله تَعَالَى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ}، قال: ما ذهب يمينًا ولا شمالًا، {وَمَا طَغَى}، قال: ما جاوز. =

* افتراض الصلوات الخمس

لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬1). رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، والإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ: قُلْتُ: ألَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} (¬2)، وَقَالَ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (¬3)، قَالَتْ: أنَا أَوَّلُ هَذِهِ الأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهَا، فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ". لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا مَرَّتَيْنِ: رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءَ وَالأَرْضِ (¬4). * افْتِرَاضُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ: ثُمَّ نَظَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَوَجَدَهُ كَالحِلْسِ (¬5) البَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (¬6)، ثُمَّ غَشِيَتْ تِلْكَ السِّدْرَةَ سَحَابَةٌ، فتَأَخَّرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ¬

_ = وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 122): وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما فعل إلا بما أُمِرَ به، ولا سأل فوق ما أعطي. (¬1) سورة النجم آية (13 - 18). (¬2) سورة التكوير آية رقم (23). (¬3) سورة النجم آية رقم (13). (¬4) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في ذكر سدرة المنتهى - رقم الحديث (177) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26040). (¬5) الحِلْسُ: وهو البِسَاطُ والحَصِيرُ. انظر لسان العرب (3/ 283). (¬6) أورد ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 78) وقال: رواه الطبراني في الأوسط, ورجاله رجال الصحيح - وأورد طرقه الألباني في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (2289) وقال: وبالجملة: فالحديث بمجموع الطريقين حسن أو صحيح، واللَّه أعلم.

وعُرِجَ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى وَصَلَ إِلَى مُسْتَوًى سَمعَ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ، قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوْسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ"، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلِّ يَوْمٍ". فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ارْجعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، وإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْاَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا"، فَقُلْتُ: "حَطَّ عَنِّي خَمْسًا"، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَمْ أَزَلْ أَرْجعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وبيْنَ مُوسَى"، حَتَّى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تَكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً (¬1). قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: فنَزَلْتُ حَتَّى انتهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرتهُ، فَقَالَ: ارْجعْ إِلَى رَبِّكَ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 619): هذا من أقوَى ما استدل به على أَنَّ اللَّه سبحانه وتَعَالَى كلَّمَ نبيَّهُ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلةَ الإسراءِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 122): فحصَلَ له التكلِيمُ من الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ليلْتَئِذَ وأئمَّة السنة كالمطبِقِينَ على هذا.

* ما خص به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمته

فَسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْه". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي" (¬1) * مَا خُصَّ بِهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأمتُهُ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَأُعْطِيَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، وأُعْطِيَ خَوَاتِمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، المُقْحِمَاتُ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: البخاري في صححيحه - كتاب المناقب - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - وأخرجه في كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلاة - رقم الحديث (349) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الإسراء برَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (162) - وباب ذكر سدرة المنتهى - رقم الحديث (173) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12505). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 3 - 4): المُقْحِمَاتُ: الذُّنوبُ العَظَائِمُ الكبائرُ التي تُهْلِكُ أصحابَهَا وتُورِدُهُمُ النارَ وتُقْحِمُهُم إياهَا، والتَّقَحُّمُ الوُقُوع في المهالكِ، ومعنى الكلام: من مَاتَ من هذه الأمة غير مشركٍ باللَّه غفر له المُقْحِمَات، والمراد واللَّه أعلم بغُفْرَانها أنه لا يخلُدُ في النار بخلافِ المشركين، وليس المرادُ أنه لا يُعَذَّبُ أصلًا، فقد تقرَّرَتْ نصُوصُ الشَّرعِ، وإجماعُ أهل السنة على إثبات عذابِ بعضِ العُصَاة من المُوَحِّدِينَ. والحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب ذكر سدرة المنتهى - رقم الحديث (173) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3665).

* هل رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء؟

* هَلْ رَأَى الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَبَّهُ لَيْلةَ الْإِسْرَاءِ؟ : اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِرَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ والمِعْرَاجِ، فَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمِّتَاهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ (¬1) شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ، أَيْنَ أَنْتَ (¬2) مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى رَبَّهُ؟ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬3)، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (¬4). وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {. . . وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (¬5). وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَت {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬6). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 588): أي قامَ من الفَزَع، لما حصل عِندَهَا من هَيْبَةِ اللَّه واعتقدته من تَنْزِيهِهِ واستِحَالَة وقوع ذلك. (¬2) قال الحافظ في الفتح (9/ 588): أي كيفَ يَغِيبُ فَهمُكَ عن هذه الثلاث؟ وكان ينبغي لك أن تكونَ مُسْتَحْضِرها ومعتقدًا كَذِبَ من يَدَّعي وقوعها. (¬3) سورة الأنعام آية (103). (¬4) سورة الشورى آية (51). (¬5) سورة لقمان آية (34). (¬6) سورة المائدة آية (67). =

وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ كَذَلِكَ عَنِ ابنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (¬1)، قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قال: "نُورٌ أَنَّى أرَاهُ" (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي قَوْلهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (¬4)، وَقَوْلهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (¬5)، قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ (¬6). قَالَ البَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ زِيَادَةٌ تَفَرَّدَ بِهَا (¬7)، عَلَى ¬

_ = والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة النجم - رقم الحديث (4855) - وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان - باب معنى قوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} - رقم الحديث (177). (¬1) سورة النجم آية (9). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} - رقم الحديث (4857) - وأخرجه مسلم - كتاب الإيمان - باب ذكر سدرة المنتهى رقم الحديث (174). (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في قوله عليه السلام - نورا أنى أراه - رقم الحديث (178). (¬4) سورة النجم آية (11). (¬5) سورة النجم آية (13). (¬6) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب معني قوله تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} - رقم الحديث (176) (285). (¬7) حديث شريك أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوحيد - باب ما جاء في قوله =

مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى رَبَّهُ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وأَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى رُؤْيَتِهِ، جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلام، أصَحُّ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وهَذَا الذِي قَالَهُ البَيْهَقِيُّ هُوَ الحَقُّ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ (¬2). وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا الرُّؤْيَةُ فَالذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبّه بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، وعَائِشَةُ أنْكَرَتِ الرُّؤْيَةَ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: عَائِشَةُ أنْكَرَتْ رُؤْيَةَ العَيْنِ، وابنُ عَبَّاسٍ أثْبَتَ رُؤْيَةَ الفُؤَادِ. والأَلْفَاظُ الثَّابِتَةُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ هِيَ مُطْلَقَةٌ، أَوْ مُقَيَّدَةٌ بِالفُؤَادِ، تَارَةً يَقُولُ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ، وتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ مُحَمَّد، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ لَفْظٌ صَرِيحٌ بِأنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، تَارَةً يُطْلِقُ الرُّؤْيَةَ، وتَارَةً يَقُولُ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ سَمعَ أَحْمَدَ يَقُولُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ سَمِعُوا بَعْضَ ¬

_ = تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} - رقم الحديث (7517). ولفظ الزيادة التي تفرد بها شريك: "ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى". (¬1) انظر دلائل النبوة (2/ 385). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (5/ 8).

كَلَامِهِ المُطْلَقَ، فَفَهِمُوا مِنْهُ رُؤْيَةَ العَيْنِ، كَمَا سَمعَ بَعْضُ النَّاسِ مُطْلَقَ كَلَامِ ابنِ عَبَّاسٍ، فَفَهِمَ مِنْهُ رُؤْيَةَ العَيْنِ. وَلَيْسَ فِي الأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ، وَلَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا فِي الكِتَابِ والسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَلَى نَفْيِهِ أَدَلُّ، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أنَّى أرَاهُ" (¬1). وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (¬2)، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَرَاهُ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (¬3) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬4)، وَلَوْ كَانَ رَآهُ بِعَيْنِهِ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} (¬5)، قَالَ -رضي اللَّه عنه-: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب في قوله عليه السلام: "نور أنى أراه" - رقم الحديث (178). (¬2) سورة الإسراء آية (1). (¬3) سورة النجم آية (12). (¬4) سورة النجم آية (18). (¬5) سورة الإسراء آية (60).

أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ (¬1)، وَهَذ رُؤْيَا الآيَاتِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَآهُ بِعَيْنِهِ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ، حَيْثُ صَدَّقَهُ قَوْمٌ وَكَذَّبَهُ قَوْمٌ، وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ فِي شَيءٍ مِنْ أَحَادِيثِ المِعْرَاجِ الثَّابِتَةِ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ مَا دُونَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى اللَّهَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا بِعَيْنِهِ، إِلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيَنِّاَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَاصَّةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ المُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ القِيَامَةِ عَيَانًا، كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ (¬2). وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (¬3). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (¬4) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْتَنَدَهُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ هَذَا المَرْئِيَّ جِبْرِيلُ، رَآهُ مَرَّتَيْنِ فِي صُورَتِهِ التِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَقَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَوْلهِ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخارىِ في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} - حديث (4716) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1916). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (6/ 509 - 510). (¬3) سورة النجم آية (11). (¬4) سورة النجم آية (13).

وَأَمَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (¬1) فَهُوَ غَيْرُ الدُّنُوِّ والتَّدَلِّي فِي قِصَّةِ الإِسْرَاءِ، فَإِنَّ الذِي فِي سُورَةِ النَّجْمِ هُوَ دَنُوُّ جِبْرِيلَ وتَدَلِّيهِ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ وابنُ مَسْعُودٍ، والسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (¬2) وَهُوَ جِبْرِيلُ {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} فَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا المُعَلِّمِ الشَّدِيدِ القُوَى، وَهُوَ ذُو المِرَّةِ، أيِ: القُوَّةِ، وهُوَ الذِي اسْتَوَى بِالأُفُقِ الأَعْلَى، وَهُوَ الذِي دَنَى فتَدَلَّى، فكَانَ مِنْ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْرَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (¬3). وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: فِي قَوْلهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيْتُ رَبِّي" (¬4) قَالَ: مَا قَيَّدَ الرُّؤْيَةَ بِالنَّوْمِ، وبَعْضُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى رَبّه لَيْلة المِعْرَاجِ يَحْتَجُّ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ، والذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ مَعَ إمْكَانِهَا، فنَقِفُ عَنْ هَذِهِ المَسْأَلةِ، فَإِنَّ "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" (¬5)، فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ أَوْ نَفْيُهُ صَعْبٌ، والوُقُوفُ سَبِيلُ السَّلَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِذَا ثَبَتَ شَيْءٌ قُلْنَا بِهِ، وَلَا نُعَنِّفُ مَنْ أثْبَتَ الرُّؤْيَةَ لِنَبِيِّنَا -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الدُّنْيَا، وَلَا مَنْ نَفَاهَا، بَلْ نَقُولُ: اللَّهُ وَرَسُوله أعْلَمُ، بَلْ نُعَنِّفُ وَنُبَدِّعُ مَنْ أنْكَرَ الرُّؤْيَةَ فِي الآخِرَةِ، إِذْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى ¬

_ (¬1) سورة النجم آية (8). (¬2) سورة النجم آية (5). (¬3) انظر زاد المعاد (3/ 34). (¬4) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2580) وإسناده صحيح. (¬5) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1737) وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الزهد - باب رقم (9) - رقم الحديث (2470) وإسناده حسن.

* عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة وإخباره الناس بمسراه

فِي الآخِرَةِ ثَبَتَتْ بِنُصُوصٍ مُتَوَاتِرَةٍ (¬1) * عَوْدَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ وإِخْبَارُهُ النَّاسَ بِمَسْرَاهُ: ثُمَّ هَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ السَّمَاوَاتِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ رَكِبَ البُرَاقَ مُنْصَرِفًا إِلَى مَكَّةَ بِصُحْبَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ أَتَى مَكَّةَ قَبْلَ الصُّبْحِ. * بَعَضُ المَشَاهِدِ وَهُوَ فِي طَرِيقِ العَوْدَةِ إِلَى مَكَّةَ: يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ، -أَي البُرَاقُ- فَنَدَّ (¬2) لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُتَوَجِّهٌ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كنْتُ بِضَجْنَانَ (¬3) مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ فَوَجَدْتُ القَوْمَ نِيَامًا، وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ ¬

_ (¬1) انظر كلام الذهبي في: سير أعلام النبلاء (10/ 114). قلتُ: جاء في رُؤيَةِ اللَّه تبارك وتَعَالَى يوم القيامة أحاديث كثيرة منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوحيد - باب قوله تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} - رقم الحديث (7434) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب فضل صلاتي الصبح والعصر - رقم الحديث (633) - عن جرير بن عبد اللَّه قال: كنا جلوسًا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سَتَرون ربَّكم كما ترونَ هذا القَمَر لا تُضَامُونَ في رُؤيَتِهِ، فإن استطعتُمْ أن لا تُغْلَبُوا عن صَلاةٍ قبلَ طُلُوع الشَّمسِ وصلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشمسِ فافعلوا". لا تُضَامُونَ: أي لا تَتخَالَفُونَ ولا تَتَجَادَلُونَ في صحة النظر إليه. انظر فتح الباري (15/ 389). (¬2) نَدَّ البعير: أي شَرَدَ وذهب على وجهه. انظر النهاية (5/ 30). (¬3) ضَجْنَانُ: هو جبلٌ بناحِيَةِ تِهَامَة. انظر معجم البلدان (5/ 225).

* هل صدقت قريش الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إسرائه ومعراجه؟

مَاءٌ قَدْ غَطُّوا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فكَشَفْتُ غِطَاءَهُ وَشَرِبْتُ (¬1) مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَعَلَى رَأْسِ العِيرِ جَمَلٌ أَوْرَقُ (¬2) عَلَيْهِ غَرَارَتَانِ (¬3)، إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ، والأُخْرَى بَرْقَاءُ (¬4) ". * هَلْ صَدَّقَتْ قُرَيْشٌ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي إِسرَائِهِ ومِعْرَاجِهِ؟ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ، وَبِعَلَامَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِعِيرِهِمْ. . . (¬5). قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمَّا كَانَ لَيْلةَ أُسرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، . . . عَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيَّ". ¬

_ (¬1) قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (2/ 197): كيف استَبَاح الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- شُرْبَ الماء وهو مِلْكٌ لغيره؟ والجوابُ أن العَرَبَ في الجاهلية كان في عُرفِ العادَةِ عندهُم إباحَةُ اللَّبَنِ لابنِ السَّبيل فَضْلًا عن الماء، وكانوا يَعْهَدُونَ بذلك إلى رُعَائِهِم، ويشتَرِطُونه عليهم عند عَقْدِ إجارتهم ألا يَمْنَعُوا اللبن من أحَدٍ مَرَّ بهم. (¬2) الأورَقُ من الإبلِ: هو الذي في لَونُهُ بياضٌ إلى سَوَاد. انظر لسان العرب (15/ 275). (¬3) الغَرَارَةُ: وِعَاءٌ من الخَيْشِ ونحوه يُوضعُ فيه القَمْح ونحوه. انظر الوسيط (2/ 262). (¬4) يقالُ لِكُلِّ شَيءٍ اجتمَعَ فيه سَوَادٌ وبياضٌ أبرَقُ. انظر لسان العرب (1/ 383). وانظر الخبر في سيرة ابن هشام (2/ 16). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3546) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 28) وصحح إسناده.

فَقَالَ كَالمُسْتَهْزِئِ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْتُ: "نَعَمْ". قَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: "إِنَّهُ أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ". قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: "إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ". قَالَ: ثُمَّ أصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا؟ قُلْتُ: "نَعَمْ". فَلَمْ يُرِهِ أَنْ يُكَذِّبَهُ؛ مَخَافَةَ إِنْ يَجْحَدَهُ الحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ أتُحَدِّثُهُمْ بِمَا حَدَّثْتَنِي؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: هَيَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بنِ لُؤَيٍّ! فَانْفَضَّتْ إِلَيْهِ المَجَالِسُ، وجَاؤُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلةَ". قَالوا: إِلَى أَيْنَ؟

قَالَ: "إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ" قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَضَجَّ المُشْرِكُونَ وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ يُصَفِّقُ، وَبَعْضُهُمْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا (¬1). وَكَانَتْ فِتْنَةً عَظِيمَةً، ارْتَدَّ بَعْضُ مَنْ أسْلَمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنْ إِسْلَامِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح على شرط الشيخين - رقم الحديث (2819). وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة الإسراء - رقم الحديث (11221) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 12). (¬2) سورة الإسراء آية (60). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب المعراج - باب حديث (3888) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1916) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب الأحاديث المشعرة بتسمية أبي بكر صديقًا -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4463). قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (8/ 103): وأولَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ قولُ من قَالَ: عني به رُؤْيا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما رأى من الآيات والعِبَر في طريقَهِ إلى بيت المقدس ليلةَ أُسْرِي به، قال: وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب، لإجمَاعِ الحُجَّة من أهل التأويلِ على أن هذه الآية إنما نزلت في ذلك، وإيَّاه عنى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بها، فإذا كان =

* موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

* مَوْقِفُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: ذَهَبَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِكَ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَصَلَّى فِيهِ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ. فَقَالَ: إنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: بَلَى، هَا هُوَ ذَاكَ فِي المَسْجِدِ، يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ، فَقَالُوا: أَوَتُصَدِّقه أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ؟ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءَ يَأْتِيهِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَهَذَا أَبْعَدُ مِمَّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَحَدَّثْتَ هَؤُلَاءِ القَوْمَ أَنَّكَ جِئْتَ بَيْتَ المَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ. ¬

_ = ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: وما جعلنا رُؤْيَاكَ التي أرينَاكَ ليلةَ أسرَيْنَا بكَ من مكة إلى بيتِ المقدس، إِلَّا فتنة للناس يقول: إِلَّا بلاءً للناس الذين ارتدُّوا عن الإسلام، لما أُخبِروا بالرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادُوا بسماعهم ذلك من رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَمَاديًا في غَيِّهِمْ، وكُفْرًا إلى كفرهم.

* طلب قريش من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصف لهم بيت المقدس

فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي بَكْرٍ: "وَأَنْتَ يَا أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ"، فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ الصِّدِّيقَ (¬1). قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ: وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُلُّ مُهَاجِرٍ ... سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِهِ غَيْرَ مُنْكَرِ سَبَقْتَ إِلَى الإِسْلَامِ وَاللَّهُ شَاهِدٌ ... وَكُنْتَ جَلِيسًا بِالعَرِيشِ المُشَهَّرِ وَبِالغَارِ إِذْ سُمِّيتَ بِالغَارِ صَاحِبًا ... وَكُنْتَ رَفِيقًا لِلنَّبِيِّ المُطَهَّرِ (¬2) * طَلَبُ قُرْيَشٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَصِفَ لَهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ: قَالُوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصِفَ لَنَا بَيْتَ المَقْدِسِ، وَفِي القَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ البَلَدِ، وَرَأَى المَسْجِدَ. فَقَامَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ (¬3) وَقَالَ: أنَا أعْلَمُ النَّاسِ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، وَكَيْفَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب الأحاديث المشعرة بتسمية أبي بكر صديقًا -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4463) - وقال: صحيح الإسناد - ووافقه الذهبي - وانظر السلسلة الصحيحة للألباني - رقم الحديث (306). (¬2) انظر الأبيات في كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر (3/ 94). (¬3) قلتُ ذكر البيهقي في دلائل النبوة (2/ 355) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 12) أن الذي قال لرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: صِفْ لنا بيتَ المَقْدِسِ هو أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وهذا غير صحيح، بل الذي قال له: صِفْ لنا بيتَ المَقْدِسِ، هو المُطْعِمُ بن عدي، كما روى ذلك أبو يعلى في مسنده من حديث أم هانئ. وانظر فتح الباري (7/ 599) - (9/ 307). قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (5/ 27): ولا شَكَّ أن هذا الحديث الذي ساقَهُ البيهقي أعني الحديث المروي عن شَدَّادِ بن أَوْس مشتَمِلٌ على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ومنها ما هو منكرٌ: كالصلاة في بيتِ لَحْمٍ، وسؤال الصديق عن نعتِ بيت المقدس.

بِنَاؤُهُ، وكَيْفَ هَيْئَتُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مُحَمَّد صَادِقًا فَسَأُخْبِرُكُمْ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَسَأُخْبِرُكُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِبَيْتِ المَقْدِسِ فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ بِنَاؤُهُ وكَيْفَ هَيْئتُهُ؟ . يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الحِجْرِ، وقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلتْنِي عَنْ أشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فكُرِبْتُ كُرْبَة مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ" (¬1). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ البُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَجَلَّى (¬2) اللَّهُ لِيَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ (¬3) أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" (¬4). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ (¬5)، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى التْبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ"، قَالَ: "فَجِيءَ بِالمَسْجدِ (¬6) وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب ذكر المسيح ابن مريم - رقم الحديث (172). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 599): معناه كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته. (¬3) طَفِقَ: أخَذَ وجَعَلَ. انظر النهاية (3/ 118). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب حديث الإسراء - رقم الحديث (3886) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} - رقم الحديث (4710). (¬5) النَّعْتُ: هو وَصْفُ الشَّيْءِ بما فيهِ من حُسْنٍ، ولا يقال في القَبِيح. انظر النهاية (5/ 68). (¬6) قال الحافظ في الفتح (7/ 599): وهذا أبَّلَغُ في المعجزةِ، ولا استِحَالةِ فيه، فقد أُحضِرَ عرشُ بلقيس في طَرْفَةِ عينٍ لسليمانَ عليه السلام، وهو يَقتَضِي أنه أُزِيلَ من مكانِه حتى أُحضِرَ إليه، وما ذاك في قُدرة اللَّه بِعَزِيز.

وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فنعَتُّهُ، وأنَا أنْظُرُ إِلَيْهِ". فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ نَعْتِهِ قَالَ المُشْرِكُونَ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ (¬1). ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُمْ: "آيَةُ ذَلِكَ أَنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لَكُمْ بِمَكَانِ كذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ -أَي الْبُرَاقِ- فَنَدَّ لَهُمْ بَعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطَّوْا عَلَيْهَ بِشَيءٍ، فكَشَفْتُ غِطَاءَهُ وَشَرِبْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَعَلَى عِيرِهِمْ جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غَرَارَتَانِ، إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ، وَالأُخْرَى بَرْقَاءُ"، فَلَمَّا جَاءَتِ الْعِيرُ، إِذَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الجَمَلُ الذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسَأَلُوهُمْ عَنِ الإِنَاءِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ وَضَعُوهُ مَمْلُوءًا مَاءً، ثُمَّ غَطَّوْهُ، وَأَنَّهُمْ ذَهَبُوا فَوَجَدُوهُ مُغَطًّى كَمَا غَطَّوْهُ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَاءً، وَسَأَلُوهُمْ: هَلْ ضَلَّ لَكُمْ بَعِيرٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، نَدَّ لَنَا بَعِيرٌ فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إِلَيْهِ حَتَّى أَخَذْنَاهُ (¬2). فَعَجِبَ الكُفَّارُ لَمَّا عَرَفُوا صِدْقَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا نُفُورًا وَطُغْيَانًا كَبِيرًا. قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْمَهُ بِالإِسْرَاءِ أَوَّلًا، فَلَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2819) - وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 16).

أَمَارَاتُ صِدْقِهِ عَلَى تِلْكَ المُعْجِزَةِ أَخْبَرَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَهُوَ المِعْرَاجُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ عَايَنَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الآيَاتِ وَالأُمُورِ التِي لَوْ رَآهَا أَوْ بَعْضَهَا غَيْرُهُ لَأَصْبَحَ مُنْدَهِشًا أَوْ طَائِشَ الْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْبَحَ ساكِنًا، يَخْشَى إِنْ بَدَأَ فَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِمَا رَأَى أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ، فتَلَطَّفَ بِإِخْبَارِهِمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ المَقْدِسِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل قصة الإسراء والمعراج في: صحيح البخاري - كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلاة - رقم الحديث (349) - كتاب الحج - باب ما جاء في زمزم - رقم الحديث (1636) - وكتاب بدء الخلق - باب ذكر الملائكة عليهم السلام - رقم الحديث (3207). وكتاب أحاديث الأنبياء - باب ذكر إدريس عليه السلام - رقم الحديث (3342) وكتاب المناقب - باب حديث الإسراء - رقم الحديث (3886) - وكتاب المناقب - باب المعراج - رقم الحديث (3887) - (3888) وصحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب الإسراء برَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (162) - (163) - (164) - (165) - (166) - (167) - (172) ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (12505) - (12673) - (14050) - (12558) - (13739) - (12641) وصحيح ابن حبان - كتاب الإسراء الأحاديث من (45 - 60) - السنن الكبرى للنسائي - كتاب الصلاة - باب فرض الصلاة - رقم الحديث (309) - (310) - (311) السنن الصغرى للنسائي - كتاب الصلاة - باب فرض الصلاة - رقم الحديث (448) (449) (450) (451) دلائل النبوة للبيهقي (2/ 354) وما بعدها - البداية والنهاية (3/ 118 - 128) - زاد المعاد (3/ 30 - 38) - سيرة ابن هشام (2/ 9 - 21) الرَّوْض الأُنُف (2/ 187) - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الإسراء - تفسير الطبري - تفسير سورة الإسراء. (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 123).

* فوائد قصة الإسراء والمعراج

* فَوَائِدُ قِصَّةِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي حَدِيثِ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ لِلسَّمَاءِ أَبْوَابًا حَقِيقِيَّةً وَحَفَظَةً مُوَكَّلِينَ بِهَا. 2 - وَفِيهِ إثْبَاتُ الِاسْتِئْذَانِ. 3 - وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَسْتَأْذِنُ أَنْ يَقُولَ أنَا فُلَانٌ، وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى أنَا لِأَنَّهُ منَافِي مَطْلُوبَ الِاسْتِفْهَامِ. 4 - وَأَنَّ المَارَّ يُسَلِّمُ عَلَى القَاعِدِ، وَإِنْ كَانَ المَارُّ أفْضَلَ مِنَ القَاعِدِ. 5 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَلَقِّي أَهْلِ الفَضْلِ بِالبِشْرِ، والتَّرْحِيبِ، والثَّنَاءِ، وَالدُّعَاءِ. 6 - وَفِيهِ جَوَازُ مَدْحِ الإِنْسَانِ المَأْمُونِ عَلَيْهِ الِافْتِتَانُ فِي وَجْهِهِ. 7 - وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِنَادِ إِلَى القِبْلَةِ بِالظَّهْرِ وَغَيْرِهِ، مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتِنَادِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى البَيْتِ المَعْمُورِ، وَهُوَ كَالكَعْبَةِ فِي أَنَّهُ قِبْلَةٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. 8 - وَفِيهِ جَوَازُ نَسْخِ الحُكْمِ قَبْلَ وُقُوعِ الفِعْلِ. 9 - وَفِيهِ فَضْلُ السَّيْرِ بِاللَّيْلِ عَلَى السَّيْرِ بِالنَّهَارِ لِمَا وَقَعَ مِنَ الإِسْرَاءِ بِاللَّيْلِ، وَلذَلِكَ كَانَتْ أَكْثَرُ عِبَادَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاللَّيْلِ، وَكَانَ أَكْثرُ سَفَرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاللَّيْلِ، وَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: "عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ (¬1)، فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ" (¬2). ¬

_ (¬1) الدُّلجَةُ: هو السَّيرُ في الليل. انظر النهاية (2/ 120). (¬2) رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15091).

10 - وَفِيهِ أَنَّ التَّجْرِبَةَ أَقْوَى فِي تَحْصِيلِ المَطْلُوبِ مِنَ المَعْرِفَةِ الكَثِيرَةِ، يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ عَالَجَ النَّاسَ قَبْلَهُ وجَرَّبَهُمْ، ويُسْتَفَادُ مِنْهُ تَحْكِيمُ العَادَةِ، والتَّنْبِيهُ بِالْأَعْلَى عَلَى الأَدْنَى لِأَنَّ مَنْ سَلَفَ مِنَ الأُمَمِ كَانُوا أَقْوَى أَبْدَانًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فِي كَلَامِهِ أَنَّهُ عَالَجَهُمْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَمَا وَافَقُوهُ، ويُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ مَقَامَ الخُلَّةِ مَقَامُ الرِّضَا والتَّسْلِيمِ، وَمَقَامُ التَّكْلِيمِ مَقَامُ الإِدْلَالِ والِانْبِسَاطِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَبَدَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِطَلَبِ التَّخْفِيفِ دُونَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ أَنَّ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الِاخْتِصَاصِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَزْيَدُ مِمَّا لَهُ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِمَقَامِ الأُبُوَّةِ، وَرِفْعَةِ المَنْزِلَةِ، وَالاتِّبَاعِ فِي المِلَّةِ. 11 - وَفِيهِ أَنَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ قَدْ خُلِقَتَا، لِقَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّة والنَّارُ" (¬1). 12 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الإِكْثَارِ مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَكْثِيرِ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، لِمَا وَقَعَ مِنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في إِجَابَتِهِ مَشُورَةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فِي سُؤَالِ التَّخْفِيفِ. 13 - وَفِيهِ فَضِيلَةُ الِاسْتِحْيَاءِ. 14 - وَفِيهِ بَذْلُ النَّصِيحَةِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يُسْتَشَرِ النَّاصِحُ فِي ذَلِكَ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 394). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 621).

* مواقيت الصلاة

* مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ: لَمَّا أَصْبَحَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ، وَأَوْقَاتَهَا (¬1). فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فنَادَى بِأَصْحَابِهِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ (¬2)، فَاجْتَمَعُوا، فَصَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ، وَصَلَّى الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ (¬3)، وسُمِّيَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ الظُّهْرَ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ، أَوْ لِأَنَّهَا فُعِلَتْ عِنْدَ قِيَامِ الظَّهِيرَةِ (¬4). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ والحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ جَاءَهُ العَصْرُ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى العَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُهُ أَوْ قَالَ: صَارَ ظِلُّهُ مِثْلُهُ، ثُمَّ جَاءَهُ المَغْرِبَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ جَاءَهُ العِشَاءَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ جَاءَهُ الفَجْرَ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى حِينَ بَرَقَ الفَجْرُ أَوْ قَالَ: حِينَ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (2/ 184): وفي هذا رَدٌّ على من زَعَم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحقُّ أن ذلك وقَعَ قبلهَا بِبَيَان جبريل عليه السلام، وبعدَهَا ببيانُ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 184): إنما دعَاهُم إلى الصلاة بقوله: الصلاة جامِعَة؛ لأن الأذانَ لم يكُنْ شُرعَ حينئذ. (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 184): واستدل بهذا الحديث على جوازِ الائْتِمَامِ بمَنْ يأتَمُّ بغيره، ويجابُ عنه بما يُجَابُ عن قِصَّة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- في صلاتِهِ خلفِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصلاةُ الناسِ خلفِهِ، فإنه محمُولٌ على أنه مُبَلِّغٌ فَقَط. (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 282).

* فرضت الصلاة الرباعية ركعتان

سَطَعَ الفَجْرُ، ثُمَّ جَاءَهُ فِي الغَدِ لِلظُّهْرِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُهُ، ثُمَّ جَاءَهُ لِلْعَصْرِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى العَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَهُ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا لَمْ يَزَلْ عَنْهُ، ثُمَّ جَاءَ لِلْعِشَاءَ حِينَ ذَهَبَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَالَ: ثُلُثُ اللَّيْلِ فَصَلَّى العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَهُ لِلْفَجْرِ حِينَ أَسْفَرَ جِدًّا فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّهْ، فَصَلَّى الفَجْرَ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ (¬1). * فُرِضَتِ الصَّلَاةُ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَانِ: كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَمَا فُرِضَتْ عَلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ رَكْعَتَيْنِ: الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالعِشَاءَ وَالفَجْرَ، وَالمَغْرِبَ ثَلَاثًا، ثُمَّ هَاجَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الأُولَى. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ (¬2) فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14538) - والحاكم في المستدرك - كتاب الصلاة - باب وقت صلاة العشاء - رقم الحديث (730). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 11): كُرِّرَتْ لفظُ ركعتَيْنِ لتُفِيدُ عُمُومَ التَّثْنِيَةِ لكل صلاة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء - رقم الحديث (350) - ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين - باب صلاة المسافرين وقصرها - رقم الحديث (685).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الأُولَى (¬1). ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا افترِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الصَّلَاةِ: رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، إِلَّا المَغْرِبَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَمَّ اللَّهُ الظُّهْرَ وَالعَصْرَ وَالعِشَاءَ الآخِرَةَ أَرْبَعًا فِي الحَضَرِ، وَأَقَرَّ الصَّلَاةَ عَلَى فَرْضِهَا الأَوَّلِ فِي السَّفَرِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: يُعَارِضُ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا حَدِيثَ ابنَ عَبَّاسٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ: فَرَضَ اللَّهُ الصلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الحَضَرِ أَرْبعًا، وفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ (¬3)، والذِي يَظْهَرُ لِي وَبِهِ تَجْتَمعُ الأَدِلَّةُ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، إِلَّا المَغْرِبَ، ثُمَّ زِيدَتْ بَعْدَ الهِجْرَةِ إِلَّا الصُّبْحَ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتْ صَلَاةُ الحَضَرِ والسَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ وَاطْمَأَنَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وتُرِكَتْ صَلَاةُ الفَجْرِ لِطُولِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب التاريخ - رقم الحديث (3935). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (36338). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين وقصرها - رقم الحديث (687).

* الصلاة كانت إلى بيت المقدس

القِرَاءَةِ، وَصَلَاةُ المَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ (¬1). ثُمَّ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ فَرْضُ الرُّبَاعِيَّةِ خُفِّفَ مِنْهَا فِي السَّفَرِ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2). فَعَلَى هَذَا: المُرَادُ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا آلَ إِلَيْهِ الأَمْرُ مِنَ التَّخْفِيفِ، لَا أَنَّهَا اسْتَمَرَّتْ مُنْذُ فُرِضَتْ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ القَصْرَ عزِيمَةٌ (¬3). * الصَّلَاةُ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وَيَجْعَلُ الكَعْبَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ بَيْتِ المَقْدِسِ، حَتَّى هَاجَرَ وَنَزَلَ الوَحْيُ بِتَحْوِيلِ القِبْلَةِ -كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، والكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَمَا هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى الكَعْبَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب فصل في صلاة السفر - رقم الحديث (2738). (¬2) سورة النساء آية (101). (¬3) انظر فتح الباري (2/ 11 - 12). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2991).

انشقاق القمر

انْشِقَاقُ القَمَرِ قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: انْشِقَاقُ القَمَرِ مِنْ أُمَّهَاتِ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ رَوَاهَا عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مَعَ ظَاهِرِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ وسِيَاقِهَا (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ المُتَوَاتِرَةُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ القَطْعَ عِنْدَ مَنْ أحَاطَ بِهَا، ونَظَرَ فِيهَا (¬2). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ القَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حَتَّى رَأَوْا حِرَاءَ (¬3) بَيْنَهُمَا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (17/ 119). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 129). (¬3) حِراء: جبلٌ معروف بمكة. انظر النهاية (1/ 362). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب انشقاق القمر - رقم الحديث (3868) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب انشقاف القمر - رقم الحديث (2802).

وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْد اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: انْشَقَّ القَمَرُ ونَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِنًى (¬1) فَقَالَ: "اشْهَدُوا" (¬2)، وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الجَبَلِ (¬3). ورَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ والإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- آيَةً، فَانْشَقَّ القَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ (¬4)، فَقَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً (¬5) يُعْرِضُوا (¬6) وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (¬7). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 579): وهذا يُعارِضُ قول أنس -رضي اللَّه عنه- أن ذلك كان بمكة، لأنه لم يُصَرِّح بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لَيْلَتَئِذٍ بمكة، وعلى تقدير تصريحِهِ، فمِنَى من جُملَةِ مَكة فلا تَعَارض. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 579): أي اضْبِطُوا هذا القَدْر بالمُشَاهدة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب انشقاق القمر - رقم الحديث (3869) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - باب انشقاق القمر - رقم الحديث (2800). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 578): وقد خَفِيَ على بعضِ الناس، فادَّعى أن انشقاقَ القمر وقعَ مرتين، وهذا مما يَعلم أهل الحديث والسِّيَر أنه غَلَط، فإنه لم يَقَعْ إِلَّا مرَّةً واحدة. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 132): وقوله مرتين: فيهِ نظر، والظاهر أنه أرادَ فِرْقَتَيْنِ، واللَّه أعلم. (¬5) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 475): أي دَلِيلًا وحُجَّةً وبُرْهانًا. (¬6) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 475): أي لا يَنْقَادُونَ له، بل يُعرضُونَ عنه ويتركُونهُ ورَاءَ ظُهُورهم. (¬7) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 475): أي يقولونَ هذا الذي شَاهدنَاهُ من الحُجَجِ =

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، والطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: انْشَقَّ القَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ (¬1)، وقَالُوا: انْتَظِرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ السُّفَّارُ (¬2)، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، فَجَاءَ السُّفَّارُ، فَقَالُوا: ذَاكَ (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ -أَي انْشِقَاقُ القَمَرِ- فِي كَثِيرٍ مِنْ بِقَاعِ الأَرْضِ، ويُقَالُ أَنَّهُ أُرِّخَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الهِنْدِ (¬4). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ وَقَعَ انْشِقَاقُ القَمَرِ لَجَاءَ مُتَوَاتِرًا واشْتركَ أَهْلُ الأَرْضِ فِي مَعْرِفَتِهِ وِلَمَا اخْتُصَّ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ وقَعَ لَيْلًا، وَأَكْثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ، وَالأَبْوَابُ مُغْلَقَةٌ، وَقَلَّ مَنْ يَرْصُدُ السَّمَاءَ إِلَّا النَّادِرُ، وَقَدْ يَقَعُ بِالمُشَاهَدَةِ فِي العَادَةِ أَنْ يَنْكَسِفَ القَمَرُ، ¬

_ = سِحْرٌ سَحَرَنا به. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - صفات المنافقين وأحكامهم - باب انشقاق القمر - رقم الحديث (2802) وأخرجه أحمد في مسنده - رقم الحديث (12688). (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 58): وابن أبي كَبْشَةَ أرادُوا به رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبو كَبْشَةَ هو الحارِثُ بن عَبْدِ العُزَّى والد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرضاعة، زوجُ حَلِيمَةَ السعدية. (¬2) السُّفَّار: أي المُسَافرون. انظر النهاية (2/ 335). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (697) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (293). (¬4) انظر البداية والنهاية (3/ 131).

وتَبْدُو الكَوَاكِبُ العِظَامُ وغَيْرُ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، وَلَا يُشَاهِدُهَا إِلَّا الآحَادُ، فكَذَلِكَ الِانْشِقَاقُ كَانَ آيَةً وَقَعَتْ فِي اللَّيْلِ لِقَوْمٍ سَأَلُوا، وَاقْتَرَحُوا فَلَمْ يَتَأَهَّبْ غَيْرُهُمْ لَهَا، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ القَمَرُ لَيْلَتَئِذٍ كَانَ فِي بَعْضِ المَنَازِلِ التِي يَظْهَرُ لِبَعْضِ أَهْلِ الآفَاقِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا يَظْهَرُ الكُسُوفُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ (¬1). وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا طَلَبُوا ذَلِكَ اسْتِكْبَارًا وَعِنَادًا. * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 580).

عرض الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه الشريفة على القبائل والأفراد

عَرْضُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَى القَبَائِلِ وَالأَفْرَادِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مكَّةَ في السَّنَةِ العَاشِرَةِ لِلْبِعْثَةِ، في جِوَارِ المُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ، -وَذَلِكَ عِنْدَمَا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ- وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، وَكَانَ مَوْسِمُ الحَجِّ في ذَلِكَ العَامِ قَد اقْتَرَبَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَهَيَّاُ لِدَعْوَةِ قَبَائِلِ العَرَبِ إِلَى الإِسْلَامِ، كَمَا كَانَ شَأْنُهُ كُلَّ عَامٍ مُنْذُ أَنْ جَهَرَ بالدَّعْوَةِ في السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْبِعْثَةِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ الأَمْرِ حَتَّى آخِرِ مَوْسِمٍ لِلْحَجِّ قَبْلَ هِجْرَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدِيْنَةِ، فَكَانَ كُلَّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ بالمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو القَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلَامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ مِنَ الهُدَى وَالرَّحْمَةِ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ، وَيَمْنَعُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ (¬1). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ عَشَرَ سِنِينَ يَتَّبَّعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلهمْ بِعُكَاظٍ (¬2) , ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 35). (¬2) عُكَاظٌ: هو مَوْضِعٌ بِقُرْبِ مكةَ، كَانَتْ تُقامُ بِهِ في الجَاهِليّةِ سُوقٌ يُقيمونَ فيهِ أيّامًا. انظر النهاية (3/ 257).

* شدة عداوة أبي لهب للإسلام

وَمِجَنَّةٍ (¬1)، وَفِي المَوَاسِم بِمِنًى، يَقُولُ: "مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يْنُصُرُنِي؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالةَ رَبِّي، وَلَهُ الجَنَّةُ"، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ أَوْ مِنْ مِصْرَ، فَيَأْتِيهُ قَوْمُهُ، فَيَقُوُلونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ (¬2). وَرَوَى أَبُو دَاودَ وابنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي المَوْقِفِ (¬3)، فَيَقُولُ: "أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُوني أَنْ أُبَلغِّ كَلَامَ رَبِّي" (¬4). * شِدَّةُ عَدَاوَةِ أَبِي لَهَبٍ لِلإِسْلَامِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّمَا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الإِسْلَامِ تَبِعَهُ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ وَرَاءَهُ يَرْمِيْهِ بِالحِجَارَةِ. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ رَبِيْعَةَ بنِ عِبَادٍ الدَّيْلِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَصَرَ عَيْنِي بِسُوْقِ ذِي ¬

_ (¬1) مِجَنَّة: هو مَوْضِعٌ بأسْفَلِ مكةَ على أمْيالٍ، وَكَانَ يُقامُ بها للعربِ سُوقًا. انظر النهاية (4/ 257). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14456). (¬3) المَوْقِفُ: أي المَوْسم، مَوسم الحج. انظر تحفة الأحوذي (8/ 242). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب السنة - باب في القرآن - رقم الحديث (4734)، وابن ماجه في المقدمة - باب فيما أنكرت الجهمية - رقم الحديث (201)، وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب فضائل القرآن - باب رقم (25) - رقم الحديث (3152).

المَجَازِ (¬1) يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، تُفْلِحُوا"، وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا (¬2)، وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ (¬3) عَلَيْهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا، وَهُوَ لَا يَسْكُتُ يَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا"، إِلَّا أَنَّ وَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ (¬4) وَضِيْءُ الوَجْهِ ذَا غَدِيْرَتَيْنِ (¬5) يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ (¬6). فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَةَ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا الذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ (¬7). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ: وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يَحْثِي (¬8) عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ (¬9). ¬

_ (¬1) ذُو المَجَازِ: موضعُ سُوقٍ لمكة في الجاهلية بِعَرَفة على فَرْسَخٍ منها، كانت تُقَام إذا أهَلَّ هِلالُ ذي الحجة، وتستَمِرُّ إلى يومِ التَّرْوِيَةِ، وهو يوم الثامن من ذي الحجة. معجم البلدان (7/ 207). وفي رواية أخرى عند الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16024) قال: رأيتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَطُوف على الناس بِمِنَى. (¬2) الفِجَاجُ: جمعُ فَجٍّ، وهو الطريقُ الوَاسِع. انظر النهاية (3/ 370). (¬3) قال السندي في شرح المسند (9/ 176): مُتَقَصِّفُونَ: مُجْتمعون عليه. (¬4) قال السندي في شرح المسند (9/ 176): الحَوَلُ: هو عَيْبٌ في العين مَعروف. (¬5) غَدِيرَتَيْنِ: هي الذَّوَائِبُ، واحدَتُهَا غَدِيرَةٌ. انظر النهاية (3/ 310). (¬6) في رواية ابن حبان في صحيحه قال. ورجلٌ يَتْبعُهُ يَرْمِيه بالحجارة، وقد أدْمَى عُرْقُوبَيْهِ وكَعْبَيْهِ. (¬7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16023) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر مقاساة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يقاسي من قومه - رقم الحديث (6562). (¬8) حَثَا: رَمَى. انظر النهاية (1/ 327). (¬9) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16603) - (23151).

* القبائل التي عرض عليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإسلام

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: كَذَا قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ: أَبُو جَهْلٍ، وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً يَكُونُ ذَا، وَتَارَةً يَكُونُ ذَا، وَأَنَّهُمَا كَانَا يَتَنَاوَبَانِ عَلَى إِيْذَائِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * القَبَائِلُ التِي عَرَضَ عَلَيْهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِسْلَامَ: قَالَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: فَكَانَ مَنْ سَمَّى لَنَا مِنَ القَبَائِلِ الذِيْنَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: بَنُو عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، وَمُحَارِبِ بنِ خَصْفَةَ، وَبَنُو فِزَارَةَ، وَغَسَّانٍ، وَبَنُو مُرَّةَ، وَبَنُو حَنِيفَةَ، وَبَنُو سُلَيْمٍ، وَبَنُو عَبْسٍ، وَبَنُو نَصْرٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَبَنُو البُكَاءِ، وَكِنْدَةٍ، وَكَلْبٍ، وَبَنُو الحَارِثِ بنِ كَعْبٍ، وَبَنُو عُذْرَةَ، وَهَمَدَانَ، وَثَقِيفٍ (¬2). 1 - قَبِيلَةُ هَمَدَانَ: رَوَى الإِمَامَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالمَوْقِفِ، فَيَقُولُ: "هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمهِ؟ ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي". فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ هَمَدَانَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِمَّنْ أَنْتَ؟ ". ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 151). (¬2) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 104) - ودلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 293).

2 - قبيلة بني عامر بن كل معصعة

قَالَ: مِنْ هَمَدَانَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ؟ ". قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَشِيَ أَنْ يُخْفِرَهُ (¬1) قَوْمُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: آتِيْهِمْ فَأُخبِرُهُمْ، ثُمَّ آتِيْكَ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَانْطَلقَ، وَجَاءَ وَفْدُ الأنْصَارِ فِي رَجَبَ (¬2). 2 - قَبِيلة بَنِي عَامِرِ بنِ كلَ معْصَعَةَ: قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَتَى بَنِي عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لأكَلْتُ بِهِ العَرَبَ، ثُمَّ قَالَ للنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ خَالفَكَ، أَيَكُونُ لَنَا الأمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأمْرُ إِلَى اللَّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ". فَقَالَ لَهُ بَيْحَرَةُ بنُ فِرَاسٍ: أَفنهْدِفُ نُحُورَنَا (¬3) لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الأمْرُ لِغَيْرِنَا؟ لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ. ¬

_ (¬1) أَخْفَرْتَ الرَّجُلَ: إِذَا نَقَضْتَ عَهْدَهُ انظر النهاية (2/ 50). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15192). (¬3) أيْ: نجعلها هَدَفًا لِسِهَامِهِم. انظر الروض الأنف (2/ 237).

فَلَمَّا صَدَرَ (¬1) النَّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السِّنُّ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ المَوَاسِمَ، فكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ حَدَّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ المَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ العَامَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَمْنَعَهُ، وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ إِلَى بِلَادِنَا. فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ! هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ؟ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ (¬2)؟ وَالذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ، مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ (¬3) قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ (¬4). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدٌ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذِهِ القِصَّةِ دِلَالَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَوْ كَانَ طَالِبَ مُلْكٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ يَتَّجِرُ بِالمَبَادِئِ يَصْنَعُ كَمَا يَصْنَعُ دِهَاقِينُ (¬5) السِّيَاسَةِ فِي القَدِيمِ، وَالحَدِيثِ مِنْ اسْتِمَالَةِ النَّاسِ بِالأحَادِيثِ الكَاذِبَةِ، وَالوُعُودِ الخَادِعَةِ البَرَّاقَةِ، وَيُمَنِّيهِم الأمَانِي الفَارِغَةَ حَتَّى إِذَا تَمَّ لَهُ مَا أَرَادَ نَسِيَ مَا قَالَ، وَرَجَعَ فِي وُعُودِهِ، بَلْ قَدْ يَتَنَكَّرُ لَهُمْ، وُيُسَفِّهَ عَلَيْهِمْ، وَيُنَكِّلُ ¬

_ (¬1) الصَّدَرُ: بالتحريك هو رُجوعُ المُسَافِر من مَقْصِد. انظر النهاية (3/ 15). (¬2) هذا مَثَلٌ يُضْرَبُ لِمَا فَاتَ، وَأَصْلُهُ مِنْ ذُنَابَى الطّائِرِ، وهو مَنْبَتُ ذَنبِ الطّائِرِ، إذا أُفْلِتَ مِنْ الحِبَالَةِ، فَطَلَبْتَ الأخْذَ بِذُنَابَاهُ. انظر الروض الأنف (2/ 237) - النهاية (2/ 157). (¬3) أي: ما ادَّعَى النُّبَوُّةَ كَاذبًا أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. انظر الروض الأنف (2/ 237). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 38). (¬5) الدِّهْقَانُ: هو القَوِيُّ عَلَى التَّصَرُّفِ مَعَ حِدَّةِ. انظر لسان العرب (4/ 429).

3 - قبيلة كندة

بِهِمْ، وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا بَيْنَ الدَّاعِي إِلَى الحَقِّ وَطَالِبِ الدُّنْيَا (¬1). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرِنِي الخَاتَمَ الذِي بَيْنَ كَتِفَيْكَ (¬2)، فَإِنِّي مِنْ أَطَبِّ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا أُرِيكَ آيَةً؟ " قَالَ: بَلَى. قَالَ: فنَظَرَ إِلَى نَخْلَةٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْعُ ذَلِكَ العَذْقَ" (¬3). قَالَ: فَدَعَاهُ، فَجَاءَ يَنْقُزُ (¬4) حَتَّى قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْجعْ". فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ، فَقَالَ العَامِرِيُّ: يَا آلَ بَنِي عَامِرٍ، مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ رَجُلًا أَسْحَرَ (¬5). 3 - قَبِيلَةُ كِنْدَةَ: رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِهِ عَنْ أُمِّ رُومَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِنْدَةَ في مَنَازِلهِم بِعُكَاظٍ، فَلَمْ يَأْتِ حَيًّا مِنَ العَرَبِ كَانَ أَلْيَنَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى لِيْنَهُمْ، وَقُوَّةَ جَبَهِهِمْ (¬6) لَهُ، جَعَلَ يُكَلِّمُهُمْ وَيَقُولُ: ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية (1/ 430) للدكتور محمد أبو شهبة رحمه اللَّه. (¬2) الخاتَمُ: هو خَاتَمُ النُّبُوَّةِ الذي بَيْنَ كَتِفَي النّبِي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد فصَّلتُ ذلك فيما تقدم، فَرَاجِعه-. (¬3) العَذْقُ: بفتح العين هو النَّخْلَةُ. انظر النهاية (3/ 181). (¬4) نَقَزَ: أي وَثَبَ. انظر النهاية (5/ 92). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1954) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب المعجزات - رقم الحديث (6523). (¬6) جَبَهُهُمْ: أي اسْتِقْبَالُهُم. انظر لسان العرب (2/ 173).

4 - قبيلة بني حنيفة

"أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ فَإِنْ أَظْهَرْ فَأَنْتُمْ بِالخِيَارِ"، فَقَالَ عَامَّتُهُمْ: مَا أَحْسَنَ هَذَا القَوْلَ، وَلَكِنَّا نَعْبُدُ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، فَقَالَ أَصْغَرُ القَوْمِ: يَا قَوْمُ! اسْبِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ تُسْبَقُوا إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الكِتَابِ لَيُحَدِّثُونَ أَنَّ نَبِيًّا يَخْرُجُ مِنَ الحَرَمِ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، وَكَانَ فِي القَوْمِ إِنْسَانٌ أَعْوَرُ، فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَلَيَّ، أَخْرَجَتْهُ عَشِيرتُهُ وَتُؤْوُونَهُ أَنْتُمْ؟ تَحْمِلُونَ حَرْبَ العَرَبِ قَاطِبَةً، لَا، ثُمَّ لَا، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ حَزِينًا، فَانْصَرَفَ القَوْمُ إِلَى قَوْمِهِمْ فَخَبَّرُوهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ: وَاللَّهِ إِنَّكُمْ مُخْطِئُونَ بِخَطَئِكُمْ لَوْ سَبَقْتُمْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ لَسُدْتُمْ العَرَبَ، وَنَحْنُ نَجِدُ صِفَتَهُ فِي كِتَابِنَا، فَوَصَفَهُ لِلْقَوْمِ الذِينَ رَأَوْهُ، كُلُّ ذَلِكَ يُصَدِّقُونَهُ بِمَا يَصِفُ مِنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَجِدُ مَخْرَجَهُ بِمَكَّةَ، وَدَارَ هِجْرَتِهِ يَثْرِبَ، فَأَجْمَعَ القَوْمُ لِيُوَافُوهُ فِي المَوْسِمِ القِادِمِ، فَحَبَسَهُمْ سَيِّدٌ لَهُمْ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمْ يُوَافِ أَحَدٌ مِنْهُمْ (¬1). 4 - قَبِيْلَةُ بَنِي حَنِيفَةَ: قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِرلهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ العَرَبِ أَقْبَبحَ عَلَيْهِ رَدًا مِنْهُمْ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 297). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 37).

5 - قبيلة عبس

5 - قَبِيلَةُ عَبْسٍ: رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ وَابِصَةَ العَبْسِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَنَازِلِنَا بِمِنًى، وَنَحْنُ نَازِلُونَ بِالجَمْرَةِ الأوْلَى التِي تَلِي مَسْجِدَ الخَيْفِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، مُرْدِفًا خَلْفَهُ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ، فَدَعَانَا، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَجَبْنَا لَهُ، وَلَا خَيْرَ لَنَا، قَالَ: وَقَدْ كُنَّا سَمِعْنَا بِهِ وَبِدُعَائِهِ فِي المَوْسِمِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا لَدْعُونَا، فَلَمْ نَسْتَجِبْ لَهُ، وَكَانَ مَعَنَا مَيْسَرَةُ بنُ مَسْرُوقٍ العَبْسِيُّ، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ صَدَّقْنَا هَذَا الرَّجُلَ وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَحُلَّ بِهِ وَسَطَ رِحَالِنَا لَكَانَ الرَّأْيُ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ كُلَّ مَبْلَغٍ، فَقَالَ لَهُ القَوْمُ: دَعْنَا عَنْكَ لَا تُعَرِّضْنَا لِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، فَطَمعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَيْسَرَةَ، فكَلَّمَهُ، فَقَالَ مَيْسَرَةُ: مَا أَحْسَنَ كَلَامَكَ وَأَنْوَرَهُ، وَلَكِنَّ قَوْمِي يُخَالِفُونَنِي، وَإِنَّمَا الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْضُدُوهُ (¬1) فَالعِدَا أَبْعَدُ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَرَجَ القَوْمُ صَادِرِينَ (¬2) إِلَى أَهْلِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مَيْسَرَهُ: مِيلُوا بِنَا إِلَى فَدَكَ (¬3)، فَإِنَّ بِهَا يَهُودًا، نَسْأَلُهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَمَالُوا إِلَى يَهُودٍ، فَأَخْرَجُوا سِفْرًا (¬4) لَهُمْ، فَوَضَعُوهُ، ثُمَّ ¬

_ (¬1) يَعْضُدُ فلان: أي يُعِينُهُ. انظر لسان العرب (9/ 253). (¬2) الصَّدَرُ: بالتحريك رجوع المسافر من مقصده. انظر النهاية (3/ 15). (¬3) فَدَكٌ: هي قريةٌ بالحِجَازِ، بينها وبينَ المَدِينَةِ يومَانِ، وقيل: ثلاثةٌ، أفاءَهَا اللَّهُ على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في سنةَ سبعٍ من الهِجرةِ صُلْحًا، فكانت خَالِصَةً لرسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيها عينٌ فَوَّارَةٌ ونَخِيلٌ كَثير. انظر معجم البلدان (6/ 417). (¬4) السِفْرُ: بكسر السِّين: هو الكتاب. انظر لسان العرب (6/ 279). =

دَرَسُوا ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّبِيِّ الأمِّيِّ العَرَبِيِّ، يَرْكَبُ الجَمَلَ، وَيَجْتَزِئُ بِالكِسْرَةِ، وَلَيْسَ بِالطَّوِيلِ وِلَا بِالقَصِيرِ، وَلَا بِالجَعْدِ (¬1) وَلَا بِالسَّبِطِ (¬2)، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، مُشْرَبُ (¬3) اللَّوْنِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الذِي دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَادْخُلُوا فِي دِينِهِ، فَإِنَّا نَحْسُدُهُ فَلَا نَتَّبِعُهُ، وَلَنَا مِنْهُ فِي مَوَاطِنَ بَلَاءٌ عَظِيْمٌ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْ العَرَبِ إِلَّا اتَّبَعَهُ أَوْ قَاتَلَهُ، فكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُهُ، فَقَالَ مَيْسَرَةُ: يَا قَوْمُ! إِنَّ هَذَا الأمْرَ بَيِّنٌ، فَقَالَ القَوْمُ: نَرْجعُ إِلَى المَوْسِمِ فَنَلْقَاهُ، فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رِجَالُهُمْ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِيْنَةَ، وَحَجَّ حَجَّةَ الوَدَاعِ، لَقِيَهُ مَيْسَرَةُ، فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زِلْتُ حَرِيصًا عَلَى اتِّبَاعِكَ مِنْ يَوْمِ أَنَخْتَ بِنَا، حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا تَرَى مِنْ تَأْخِيرِ إِسْلَامِي، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَالَ: الحَمْدُ للَّهِ الذِي اسْتَنْقَذَنِي بِكَ مِنْ النَّارِ (¬4). ¬

_ = ومنه قوله تعالى في سورة الجمعة آية (5): {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. . .}. (¬1) جَعْدُ الشَّعْرِ: هو ضِدُّ السَّبِطِ. انظر النهاية (1/ 266). (¬2) السَّبِطُ مِنَ الشَّعْرِ: المُنْبَسِطُ المُسْتَرْسِلُ، أي كَانَ شَعْرُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وسَطًا بينَهُمَا. انظر النهاية (2/ 301). (¬3) الإشْرَابُ: هو خَلْطُ لونٍ بِلَونٍ، كأنَّ أحدَ اللَّوْنَيْنِ سُقِيَ اللونَ الآخَرَ. انظر النهاية (2/ 407). روى ابن حبان في صحيحه بسند صحيح - كتاب التاريخ - باب صفة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6311) عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أنه كان إذا وصف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: كان عظيم الهامة، أبيض، مشربًا حُمْرةً. (¬4) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 293) - أسد الغابة (4/ 206) - البداية والنهاية (3/ 157).

6 - قبيلة كلب

6 - قَبِيلَةُ كَلْبٍ: قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حُصيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلهِمْ إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: "يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ"، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ (¬1). 7 - قَبِيلَةُ بَنِي شَيْبَانَ: مِمَّنْ عَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفْسَهُ جَمَاعَةً مِنْ بَنِي شَيْبَانَ، فِيْهِمْ مَفْرُوقُ بنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بنُ قَبِيصَةَ، وَالمُثَنَّى بنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بنُ شَرِيكٍ، فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الإِسْلَامِ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ القُرْآنَ، فَاسْتَحْسَنُوا قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُمْ مَا يَدْعُوا إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَذَرُوا عَنْ نُصْرَتِهِ لِكَوْنِ كِسْرَى، قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ عَهْدًا أَلَا يُحْدِثُوا حَدَثًا (¬2) وَلَا يُؤْوُوا مُحْدِثًا (¬3)، وَكَانَتْ أَرْضُهُمْ مِمَّا يَلِيْ بِلَادَ فَارِسٍ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 37) - البداية والنهاية (3/ 151). (¬2) الحَدَثُ: الأمْرُ الحَادِثُ المُنْكَرُ الذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ. انظر النهاية (1/ 338). (¬3) المُحْدث: يُروَى بِكَسْرِ الدَّالِ وفتحِهَا -فَمَعْنَى الكَسْرِ: مَنْ نَصَرَ جَانِيًا أو آواهُ مِنْ خَصْمِهِ- وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهُ. وبالفَتْحِ: هو الأمْرُ المُبْتَدَعُ نَفْسُهُ، ويَكونُ معنى الإيواءِ فِيْهِ الرِّضَا بِهِ، والصَّبْرَ عَلَيْهِ. انظر النهاية (1/ 338). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 422) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 288).

8 - قبيلة بني محارب

8 - قَبِيلَةُ بَنِي مُحَارِبٍ: رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: انتهَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَنِي مُحَارِبِ بنِ خَصْفَةَ، فَوَجَدَ فِيْهِمْ شَيْخًا ابنَ مائةِ سَنَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ، فكلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَنْ يَمْنَعَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالة رَبِّهِ، فَقَالَ الشَّيْخُ: أَيّها الرَّجُلُ! قَوْمُكَ أَعْلَمُ بِنَبَئِكَ، وَاللَّهِ لَا يَؤُوبُ (¬1) بِكَ رَجُلٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا آبَ بِشَرِّ مَا يَؤُوبُ بِهِ أَهْلُ المَوْسِمِ، فَأَغْنِ عَنَّا نَفْسَكَ، وَإِنَّ أَبَا لَهَبٍ لقائِمٌ يَسْمَعُ كَلَامَ المُحَارِبِيِّ، ثُمَّ وَقَفَ أَبُو لَهَبٍ عَلَى المُحَارِبِيِّ فَقَالَ: لَوْ كَانَ أَهْلُ المَوْسِمِ كُلُّهُمْ مِثْلَكَ لَتَرَكَ هَذَا الدِّيْنَ الذِي هُوَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ صَابِئٌ (¬2) كَذَّابٌ، فَقَالَ المُحَارِبِيُّ، أَنْتَ وَاللَّهِ أَعْرَفُ بِهِ، هُوَ ابنُ أَخِيكَ، لُحْمَتُكَ (¬3)، ثُمَّ قَالَ المُحَارِبِيُّ: لَعَلَّ بِهِ يَا أَبَا عُتْبَةَ لَمَمًا (¬4)، فَإِنَّ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ الحَيِّ يَهْتَدِي لِعِلَاجِهِ، فَلَمْ يَرْجعْ أَبُو لَهَبٍ بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا رَآهُ وَقَفَ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءَ العَرَبِ صَاحَ بِهِ أَبُو لَهَبٍ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَذَّابٌ (¬5). ¬

_ (¬1) الأَوْبُ: الرُّجُوعُ. انظر النهاية (1/ 79). ومنه قوله تعالى في سُورة ق آية (32): {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ}. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 406): أي رَجَّاعٌ تائِبُ مُقْلِعٌ. (¬2) يُقالُ صَبَأَ فلانٌ: إذا خَرَجَ مِنْ دِينٍ إلى دِينٍ غَيْرِهِ، وكانت العربُ تُسَمِّي النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَابِئَ؛ لأنَّهُ خَرَجَ مِنْ دِينِ قُرَيْشٍ إلى دِيْنِ الإسلامِ. انظر النهاية (3/ 3). (¬3) اللُّحْمَةُ بالضَّمِّ: القَرَابَةُ. انظر لسان العرب (12/ 254). (¬4) اللَّمَمُ: هو طَرَفٌ مِنْ الجُنونِ يُلِمُّ بالإنسانِ: أيْ يَقْرَبُ مِنْهُ ويَعْتَرِيهِ. انظر النهاية (4/ 233). (¬5) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 293).

* الأفراد الذين عرض عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإسلام

* الأفْرَادُ الذِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِسْلَامَ: قَالَ ابنَ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدُمُ مَكَّةَ مِنْ العَرَبِ، لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ، إِلَّا تَصَدَّى لَهُ، فَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ (¬1). فَمِنْ هَؤُلَاءِ الأفْرَادِ الذِينَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِسْلَامَ: * سُوَيْدُ بنُ الصَّامِتِ: كَانَ شَاعِرًا مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ الكَامِلَ لِجَلَدِهِ (¬2) وَشَرَفِهِ، وَنَسَبِهِ، قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِيْنَ سَمعَ بِهِ، فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدُ: فَلَعَلَّ الذِي مَعَكَ مِثْلَ الذِي مَعِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَمَا الذِي مَعَكَ؟ قَالَ مَجَلَّةُ (¬3) لُقْمَانَ -يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اعْرِضْهَا ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 38). (¬2) الجَلَدُ: القُوَّةُ. انظر النهاية (1/ 275). (¬3) يُرِيدُ كِتَابًا فيه حِكْمَةَ لقمَانَ، وَكُلُّ كِتابٍ عندَ العربِ مَجَلَّةٌ. انظر النهاية (4/ 256). وَأَمَّا لقمانُ عليهِ السَّلامُ فقد اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ فيهِ هَلْ كَانَ نَبِيًّا، أو عَبْدًا صَالحًا مِنْ غَيرِ نُبُوَّةٍ؟ على قَولَينِ، والأكثرون على أَنَّهُ لَيْسَ نَبيًا. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّه عَنْهما: كَانَ لُقمانُ عبدًا حبَشيًا نَجَارًا. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (6/ 334) بعد أَنْ سَاقَ بعضَ الآثارِ: فهذِهِ الآثارُ منهَا ما هُو مُصَرَّحٌ فيهِ بِنَقْيِ كَوْنِهِ نبيًا، ومنهَا ما هو مُشْعِرٌ بِذَلِكَ؛ لأنَّ كَوْنَهُ عَبْدًا قَدْ مَسَّهُ الرِّقُّ =

* ضماد بن ثعلبة

عَلَيَّ، فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنَّ هَذَا لَكَلَامٌ حَسَنٌ، وَالذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ، هُوَ هُدًى وَنُورٌ، فتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- القُرْآنَ، وَدَعَاهُ إِلَى الإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لقوْلٌ حَسَنٌ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قتَلَتْهُ الخَزْرَجُ، فَكَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُونَ: إِنَّا لَنرَاهُ قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ (¬1). قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: أَنَا شَاكٌّ فِي إِسْلَامِ سُوَيْدِ بنِ الصَّامِتِ كَمَا شَكَّ فِيهِ غَيْرِي مِمَّنْ أَلَّفَ فِي هَذَا الشَّأْنِ قَبْلِي (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الإصَابَةِ: فَإِنْ صَحَّ مَا قَالُوا -أَنَّهُ أَسْلَمَ- لَمْ يُعَدَّ فِي الصَّحَابَةِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُؤْمِنًا (¬3). * ضِمَادُ بنُ ثَعْلَبَةَ: وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ (¬4) مِنْ اليَمَنِ، كَانَ صَدِيقًا لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ¬

_ = يُنافي كونَهُ نبيًا، لأنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تُبْعَثُ في أَحْسَابِ قَومِهَا، ولهذا كَانَ جمهورُ السَّلَفِ على أنَّه لم يكنْ نبيًا. (¬1) يَومُ بُعَاث: بضم الباء هو يومٌ مَشْهورٌ كَانَ فيهِ حَرْبٌ بَيْنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ -وبُعَاثٌ اسْمُ حِصْنٍ للأوْسِ. انظر النهاية (1/ 138) - وسَيَأْتِي ذِكْرُ تَفْصِيلِ هذهِ الوَقْعَةِ. انظر تفاصيل لقاء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بسويد بن الصامت في: سِيرَةِ ابنِ هِشَامٍ (2/ 39) - البِدايَةِ والنِّهَايَةِ (3/ 158) - دَلائِلِ النُّبُوَّةِ للبيهقي (2/ 419) - الرَّوْضِ الأنُفِ (2/ 241). (¬2) انظر الاستيعابَ (2/ 236). (¬3) انظر الإصابةَ (3/ 247). (¬4) قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِي في شَرْحِ مُسْلِمٍ (2/ 194): شَنُوءَةُ: هي قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ، سُمُّوا بِذَلِكَ =

الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَرْقِي (¬1) مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ (¬2)، قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَجَلَسَ مَجْلِسًا فِيهِ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا الرَّجُلُ الذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَأَضَلَّ مَنْ مَاتَ مِنَّا، وَعَابَ آلِهَتَنَا، فَقَالَ أُمَيَّةُ: الرَّجُلُ مَجْنُونٌ غَيْرُ شَكٍّ، قَالَ ضِمَادُ: فَوَقَعَتْ فِي نَفْسِي كَلِمَتُهُ، فَقُلْتُ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدَيَّ، فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الحَمْدَ للَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ. . . " فَقَالَ ضِمَادُ بنُ ثَعْلَبَةَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءَ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءَ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلقدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ (¬3) البَحْرِ. فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلَامِ، فَبَايَعَهُ. ¬

_ = مِنْ قَولكَ رَجُلٌ فِيهِ شَنُوءَةٌ أيْ تَقَزُّزٌ، وهُمْ حَيٌّ مِنْ اليَمَنِ. (¬1) يُقالُ رَقَى الرَّاقِي رُقْيَةً: إِذَا عَوَّذَ وَنَفَثَ في عُوذَتِهِ. انظر لِسَانَ العَرَبِ (5/ 293). وَقَالَ ابنُ الأثِيرِ: الرُّقْتةُ: العُوذَةُ التِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الآفَةِ كالحُمَّى وَالصَّرَعِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الآفَاتِ. انظر النِّهَايَةَ (2/ 231). (¬2) قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِي في شَرْحِ مُسْلِمٍ (6/ 137): المُرَادُ بِالرِّيحِ هُنَا الجُنُونُ، وَمَسُّ الجِنُّ. (¬3) نَاعُوسٌ: هكذا في صحيح مسلم، وفي غَيْره: قَامُوسُ البَحْرِ: وهو وسَطُهُ ولُجَّتُهُ. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (6/ 137).

* الطفيل بن عمرو الدوسي

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَعَلَى قَوْمِكَ". قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي (¬1). * الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرٍو الدُّوسِيُّ: وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا، رَئِيسَ قَبِيلَةِ دَوْسٍ بِاليَمَنِ، قَدِمَ مَكَّةَ، وَذَلِكَ بَعْدَ عَوْدَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ الطَّائِفِ، فَمَشَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا لَا يَسْمَعُونَ بِقُدُومِ أَحَدٍ مِنْ العَرَبِ عَلَيْهِمْ، إِلَّا اسْتَقْبَلُوهُ، وَحَذَّرُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَوَصَفُوهُ بِكُلِّ نَقِيصَةٍ خَشْيَةَ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالُوا لَهُ: يَا طفيْلُ! إِنَّكَ قَدِمْتَ بِلَادَنَا، وَهَذَا الرَّجُلُ الذِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ (¬2) بِنَا، وَقَدْ فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَإِنَّمَا قَوْلَهُ كَالسِّحْرِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَبِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْكَ وَعَلَى قَوْمِكَ مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا، فَلَا تُكَلِّمْهُ، وَلَا تَسْمَعَنَّ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ الطُّفَيْلُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَوا بِي -أَيْ مَا زَالُوا يُخَوِّفُونِي- حَتَّى أَجَمَعْتُ أَلَّا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمُهُ، وَحَتَّى حَشَوْتُ فِي أَذُنِي حِيْنَ غَدَوْتُ إِلَى المَسْجِدِ كُرْسُفًا (¬3)، فَرَقًا (¬4) مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي ¬

_ (¬1) أخرج هذه القصة: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجمعة - باب تخفيف الصلاة والخطبة - رقم الحديث (868) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2749). (¬2) أعضَلَ الأمرُ: اشتَدَّ واسَتْغَلْقَ. انظر لسان العرب (9/ 260). (¬3) الكُرْسُفُ: القُطْنُ. انظر النهاية (4/ 142). (¬4) الفَرَقُ: بالتحريك أي الخَوْفُ والفَزَعُ. انظر النهاية (3/ 392).

شَيْءٌ مِنْ قَوْلهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ. قَالَ الطُّفَيْلُ: فَغَدَوْتُ إِلَى المَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الكَعْبَةِ، قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنا، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاثُكْلَ (¬1) أُمِّي، وَاللَّهِ إِنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيَّ الحَسَنُ مِنْ القَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ؟ فَإِنْ كَانَ الذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ. قَالَ: فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِهِ، فَاتَّبَعْتُهُ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي قَالُوا، فَوَاللَّهِ مَا بَرِحُوا (¬2) يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُهُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ، قَالَ: فَعَرَضَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيَّ القُرْآنَ، فَلَا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ، فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَأَنَا رَاجعٌ إِلَيْهِمْ، وَدَاعِيهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً، تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً". ¬

_ (¬1) ثَكِلَتْكُ أُمُّكَ: أيْ فَقَدَتْكَ، وَالثَّكْلُ: فَقْدُ الوَلَدِ. انظر النهاية (1/ 212). (¬2) مَا بَرِحَ: أيْ ما زَالَ. انظر لِسانَ العربِ (1/ 361).

* خروج الطفيل -رضي الله عنه- إلى قومه داعيا إلى الإسلام

* خُرُوجُ الطُّفَيْلِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى قَوْمِهِ دَاعِيًا إِلَى الإِسْلَامِ: قَالَ الطُّفَيْلُ -رضي اللَّه عنه-: فَخَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ (¬1) تُطْلِعُنِي عَلَى الحَاضِرِ (¬2)، وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيَّ مِثْلُ المِصْبَاحِ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ وَجْهِي، إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا مُثْلَةٌ (¬3) وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِيْنِهِمْ، قَالَ: فتَحَوَّلَ النُّورُ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي، قَالَ: فَجَعَلَ الحَاضِرُ يَترَاءَوْنَ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَوْطِي كَالقِنْدِيلِ المُعَلَّقِ، وَأَنَا أَهْبِطُ لَهُمْ مِنْ الثَّنِيَّةِ، حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي، قَالَ: لِمَ يَا بُنَيَّ؟ قُلْتُ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ! فَدِينِي دِينُكَ، فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ، وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ تَعَالَ حَتَّى أُعَلِّمَكَ مَا عُلِّمْتُ، قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيهِ الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي (¬4)، فَقُلْتُ: إِلَيكِ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكِ وَلَسْتِ مِنِّي، قَالَتْ: لِمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ الإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ ديِنَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ: فَدِينِي دِينُكَ، قَالَ: فَاذْهَبِي وَاغْتَسِلِي، فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ. ¬

_ (¬1) الثَّنِيَّةُ في الجَبَلِ: الطَّرِيقُ العالِي فيهِ. انظر النهاية (1/ 220). (¬2) الحَاضِرُ: الحَيُّ، القَوْمُ النُّزُولُ عَلى ماءٍ يُقِيمُونَ بِهِ ولا يَرْتَحِلُونَ عنهُ. انظر النهاية (1/ 384). (¬3) المُثْلَةُ: العُقُوبَةُ والتَّنْكِيلُ. انظر لسان العرب (13/ 25). (¬4) صَاحِبَتِي: أيْ زَوْجَتِي.

* دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لقبيلة دوس بالهداية

* دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لقَبِيلَةِ دَوْسٍ بِالهِدَايَةِ: قَالَ الطُّفَيْلُ -رضي اللَّه عنه-: وَدَعَوْتُ دَوْسًا إِلَى الإِسْلَامِ فَأَبْطَأُوا عَلَيَّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّهِ! إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- القِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ، اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ" (¬1). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- للطُّفَيْلِ -رضي اللَّه عنه-: "ارْجعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ". قَالَ الطُّفَيْلُ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَقَضَى بَدْرًا وَأُحُدًا وَالخَنْدَقَ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْبَرَ (¬2)، حَتَّى نَزَلْتُ المَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، ثُمَّ لَحِقَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْبَرَ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الدعاء للمشركين بالهُدى ليتألفهم - رقم الحديث (2937) - وأخرجه في كتاب الدعوات - باب الدعاء للمشركين - رقم الحديث (6397) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل غفار وأسلم ودوس - رقم الحديث (2524) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7315). (¬2) سيأتي خبرُ هِجرته -رضي اللَّه عنه- في وَفْدِ دَوْسٍ في أحدَاثِ غزْوَةِ خَيْبَرَ إن شاء اللَّه.

* استشهاد الطفيل بن عمرو -رضي الله عنه-

وَكَانَ مِنْ بَيْنِ قَبِيلَةِ دَوْسٍ الذِينَ أَسْلَمُوا عَلَى يَدِ الطُّفَيْلِ بنِ عَمْرٍو الدَّوْسِي -رضي اللَّه عنه- رَاوِيَةُ الإِسْلَامِ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-. * اسْتِشْهَادُ الطُّفَيْلِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-: وَأَقَامَ الطُّفَيْلُ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا ارْتَدَّتِ العَرَبُ، خَرَجَ مَعَ المُسْلِمِينَ لِقِتَالِ المُرْتَدِّينَ، وَاسْتُشْهِدَ -رضي اللَّه عنه- فِي مَعْرَكَةِ اليَمَامَةِ، وَقَدْ رَأَى رُؤْيَا فِي المَنَامِ قَبْلَ مَعْرَكَةِ اليَمَامَةِ، فَقَالَ لأصْحَابِهِ: إِنَّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا فَاعْبِرُوهَا لِي: رَأَيْتُ أَنَّ رَأْسِي حُلِقَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَأَنَّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا، وَأُرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلبًا حَثِيثًا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنِّي، قَالُوا: خَيْرًا، قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَقَدْ أَوَّلْتُهَا، قَالُوا: مَاذَا؟ قَالَ: أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي فَقَطْعُهُ، وَأَمَّا الطَّائِرُ الذِي خَرَجَ مِنْ فَمِي فروحِي، وَأَمَّا المَرْأَةُ التِي أَدْخَلَتْنِي فَرْجَهَا فَالأَرْضُ تُحْفَرُ لِي فَأَغِيبُ فِيهَا، وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إِيَّايَ ثُمَّ حَبْسُهُ عَنِّي، فَإِنِّي أَرَاهُ سَيَجْهَدُ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي. فقُتِل -رضي اللَّه عنه- فِي مَعْرَكَةِ اليَمَامَةِ، ثُمَّ قُتِلَ ابْنُهُ فِي مَعْرَكَةِ اليَرْمُوكِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ وَقَعَ الأمْرُ كَمَا أَوَّلَهَا -رضي اللَّه عنه- (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل قصة إسلام الطفيل بن عمرو -رضي اللَّه عنه- في: سيرة ابن هشام (2/ 420) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 239) - الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 439). (¬2) انظر البداية والنهاية (6/ 731).

* إسلام إياس بن معاذ

* إِسْلَامُ إِيَاسِ بنِ مُعَاذٍ: كَانَ إِيَاسُ بنُ مُعَاذٍ غُلَامًا حَدَثًا مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، قَدِمَ مَكَّةَ فِي وَفْدِ الأوْسَ يَلْتَمِسُونَ الحِلْفَ (¬1) مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ الخَزْرَجِ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ حَرْبِ بُعَاثٍ، فنَزَلُوا عَلَى عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ وَإِلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُحَالِفُوهُمْ عَلَى قِتَالِ الخَزْرَجِ، فَسَمعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَتَاهُمْ وَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئتمْ لَهُ؟ فَقَالُوا لَهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي إِلَى العِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بنُ مُعَاذٍ: أَيْ قَوْمُ! هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ. فَأَخَذَ أَبُو الحَيْسَرِ، وَاسْمُهُ أَنَسُ بنُ رَافِعٍ حَفْنَةً (¬2) مِنْ تُرَابِ البَطْحَاءِ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا، مَا قَدِمَ وَفْدٌ إِذًا عَلَى قَوْمٍ بِشَرِّ مِمَّا قَدِمْنَا بِهِ عَلَى قَوْمِنَا، إِنَّا خَرَجْنَا نَطْلُبُ حِلْفَ قُرَيْشٍ عَلَى عَدُوِّنَا، فنَرْجعُ بِعَدَاوَةِ قُرَيْشٍ مَعَ عَدَاوَةِ الخَزْرَجِ، فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى المَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ، وَكَانَ يُهَلِّلُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيُكَبِّرُهُ، وَيَحْمَدُهُ، وَيُسَبِّحُهُ عِنْدَ ¬

_ (¬1) أصْلُ الحَلِفِ: المُعَاقَدَةُ والمُعَاهد على التَّعَاضُدِ والتَّسَاعُدِ والاتَفاقِ. انظر النهاية (1/ 407). (¬2) الحَفْنَةُ: مِلْءُ الكَفِّ. انظر النهاية (1/ 393).

* يوم بعاث

مَوْتِهِ، فَلَا يَشُكُّ قَوْمُهُ أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا (¬1) قُلْتُ: ذَكَرَهُ الإِمَامُ البُخَارِي فِي تَارِيْخِهِ الأوْسَطِ فِيمَنْ مَاتَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المُهَاجِرِينَ الأوَّلينَ وَالأنْصَارِ، وَتَرْجَمَ لَهُ فِي التَّارِيخِ الكَبِيرِ. * يَوْمُ بُعَاثٍ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرسُول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ افترقَ مَلَؤُهُمْ، وَقُتِلَتْ سَرَوَاتُهُمْ (¬2) وَجُرِحُوا، فَقدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في دُخُولِهِم فِي الإِسْلَامِ (¬3). وَبُعَاثٌ هُوَ مَكَانٌ، وَيُقَالُ حِصْنٌ، وَقِيلَ مَزْرَعَةٌ، عِنْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ المَدِينَةِ، وَكَانَتْ بِهِ وَقْعَةٌ بَيْنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ، فَقُتِل فِيهَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ رَئِيسَ الأوْسِ فِيهِ: حُضَيْرٌ وَالِدُ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَئِيسَ الخَزْرَجِ يَوْمَئِذٍ: عَمْرُو بنُ النُّعْمَانِ البَيَاضِيُّ فَقُتِلَ فِيهَا، وَكَانَ النَّصْرُ فِيهَا أَوَّلًا لِلْخَزْرَجِ، ثُمَّ ثبَّتَهُمْ حُضَيْرٌ فَرَجَعُوا، وَانتصَرَت الأوْسُ، وَجُرِحَ حُضَيْرٌ يَوْمَئِذٍ ¬

_ (¬1) أخرج قصة إيَاسُ بن معاذ -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23619) والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر إياس بن معاذ - رقم الحديث (4884) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 41) - وإسناده حسن. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 485): سَرَوَاتُهُم: خِيَارُهُم، والسُّرَاةُ جَمْعَ سَرِي، وهو الشَّريف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب الأنصار - رقم الحديث (3777) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24320).

فَمَاتَ فِيهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ الهِجْرَةِ بِخَمْسِ سِنِينَ. وَقَدْ قُتِلَ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِهِمْ مَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ، أَيْ يَتَكَبَّرُ وَيَأْنَفُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الإِسْلَامِ، حَتَّى لَا يَكُونَ تَحْتَ حُكْمِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَ بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا النَّحْوِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ المُنَافِقُ لَعَنَهُ اللَّهُ (¬1). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الوَقْعَةُ العَظِيمَةُ قُبَسْلُ مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ لِتَتَهَيَّأَ النُّفُوسُ لِقَبُولِ الإِسْلَامِ وَالإيْمَانِ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَليَظْهَرَ فَضْلُ الإِسْلَامِ عَلَى الأنْصَارِ، فَقَدْ جَمَعَهُمْ بَعْدَ الفُرْقَةِ، وَغَرَسَ فِي قُلُوبِهِمُ المَحَبَّةَ بَعْدَ العَدَاوَةِ، وَالوِئَامَ بَعْدَ الشِّقَاقِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 484). (¬2) انظر كتاب السيرة النبوية (1/ 432) للدكتور محمد أبو شهبة رحمه اللَّه تعالى.

بدء إسلام الأنصار

بَدْءُ إِسْلامِ الأَنْصَارِ (¬1) قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هذِهِ القَبَائِلِ التِي عَرَضَ عَلَيْهَا نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ قَلْبًا مَفْتُوحًا، وَلَا صَدرًا مَشْرُوحًا، بَلْ كَانَ الرَّاحِلُونَ وَالمُقِيمُونَ يَتَوَاصَوْنَ بِالبُعدِ عَنْهُ، وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالأصَابعِ. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 91) - (7/ 484): الأنصارُ: جمعُ نَاصر كأصحَابٍ وصاحِبٍ، أو جمعُ نَصِيرٍ كأشرافٍ وشريفٍ، واللامُ فيه للعهدِ أي أنصارُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمرادُ الأوسُ والخزرَجُ، والأوسُ يُنسبُون إلى أوْسِ بنِ حَارِثَةَ، والخَزْرَجُ يُنسبونَ إلى الخَزْرَجِ بنِ حَارِثَةَ، وكانوا قَبْل ذلك يُعرفون بِبَنِي قَيْلَةَ -بقاف مفتوحة-، وهي الأمُّ التي تَجْمَعُ القَبِيلَتَيْنِ، فسمَّاهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنصار، أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3776) - عن غَيْلان بن جَرير قال: قلتُ لأنسٍ: أرأيتَ اسمَ الأنصارِ كُنتم تُسَمَّون به، أم سَمَّاكم اللَّهُ؟ قال: بل سَمَّانا اللَّهُ. فصارَ ذلك عَلمًا عليهم، وأُطْلِق أيضًا على أولادهم وحُلفائهم ومَوَاليهم، وخُصُّوا بهذه المَنْقَبَة العُظمى لما فَازُوا به دون غيرهم من والقبائل من إيوَاءِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو ومَنْ مَعَهُ، والقيامِ بأمرهم، ومُوَاسَاتهم بأنفسِهم وأموالِهِم وإيثَارِهِمْ إياهُم في كثيرٍ من الأمُورِ على أنفسهم، فكان صَنِيعُهُم لذلكَ مُوجِبًا لمُعَادَاتهم جَمِيعَ الفِرَقِ المَوْجُودِينَ من عَرَبٍ وعَجَبم، والعَدَاوة تَجُرُّ البُغْضَ، ثم كان ما اختُصُّوا به مما ذُكِرَ مُوجِبًا للحَسَدِ، والحَسَدُ يَجُرُّ البُغْضَ، فلهذا جاء التَّحْذِيرُ من بُعْضِهم، والتَّرغِيب في حبّهم حتى جُعِلَ ذلك آية الإيمان والنِّفاق، تَنْويها بِعَظِيم فَضْلِهم، وتَنْبيهًا على كَريم فِعلهم. روى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (17) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (74) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه عن: "آيةُ الأيمانِ حُبُّ الأنصَارِ، وآيةُ النفَاقِ بُغْضُ الأنصَارِ".

وَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ مِنَ الآفَاقِ البَعِيدَةِ فيزَوِّدُهُ قَوْمُهُ بِهذِهِ الوَصَاةِ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ (¬1). وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هذَا الجَوِّ القَابِضِ، لَمْ يُخَامِر (¬2) اليَأْسُ قَلْبَهُ، وَاسْتَمَرَّ مُثَابِرًا فِي جِهادِ الدَّعوَةِ حَتَّى تَأَذَّنَ الحَقُّ أَخِيرًا بِالفَرَجِ (¬3). دَخَلَت السَّنَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ البِعثَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُومُ بِالدَّعوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَفْتُرُ عَنْ ذَلِكَ رغْمَ ازْدِيَادِ تَضْيِيقِ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ، وَإِثَارَتِهِمْ حَوْلَهُ الشَّائِعَاتِ، وَالأَكَاذِيبِ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَن الِاسْتِجَابَةِ لَهُ، فَلَمَّا اقْترَبَ مَوْسِمُ الحَجِّ مِنْ هذِهِ السَّنَةِ رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَعِدُّ لِدَعْوَةِ الوُفُودِ وَالقَبَائِلِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ. فَلَمَّا كَانَ مَوْسِمُ حَجِّ السَّنَةِ الحَادِيَةِ عَشْرَةَ مِنَ البعثَةِ، وَأَرَادَ اللَّه عَزَّ رَجَلَّ إِظْهار دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ العَقَبَةِ (¬4) لَقِيَ رَهْطًا (¬5) مِنْ الخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا، فَقَالَ ¬

_ (¬1) هذا جُزءٌ من حَديثٍ أخرجه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (14456) - وقد مَرَّ قبلَ قَلِيلٍ. (¬2) التَّخْمِيرُ: التَّغْطِيَةُ. انظر لسان العرب (4/ 211). (¬3) انظر فِقة السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه اللَّه تعالى ص 140. (¬4) العَقَبَةُ: الجَبَلُ الطَّويل -يعرض للطريق فيأخذ فيهِ- وهو طَوِيلٌ صعْبٌ شَدِيد. انظر لسان العرب (9/ 306). (¬5) الرَّهْطُ: ما دُونَ العشرة. انظر لسان العرب (5/ 343).

لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ هو: "مَنْ أَنْتُمْ؟ ". قَالُوا: نَفَرٌ مِنْ الخَزْرَجِ. قَالَ: "أَمِنْ مَوَالِي (¬1) اليَهُودِ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟ ". قَالُوا: بَلَى، فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُم إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَرَضَ عَلَيْهِم الإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِم القُرآنَ. وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّه لَهُمْ بِهِ فِي الإِسْلَامِ، أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهم فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُم -أَيْ الأوْسُ وَالخَزْرَجُ- أَهْلَ شِركٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ عَزُّوهُمْ (¬2) ببلَادِهِمْ، فكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُم شَيْءٌ، قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوث الآنَ، قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتَّبِعُهُ فنَقْتُلُكُم مَعَهُ قتلَ عَادٍ (¬3) وإِرَمٍ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 246): أي مِنْ حُلفَائِهِم. (¬2) عَزُّوهُم: أي غَلَبُوهُم. انظر لسان العرب (9/ 187). (¬3) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 394): عادٌ قومٌ كانوا مُمَرِّدِينَ عُتَاةً جَبَّارِين، وهم الذين بَعَثَ اللَّه فيهم رسوله هُودًا عليه السلام، فكذبُوه وخَالفُوه، فأنجَاهُ اللَّه من بين أظهُرِهم، ومن آمن معه منهم، وأهلكَهُم اللَّه تعالى بِرِيحٍ صَرصَرٍ عَاتِيَة. (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 395): إرَمٌ هي قبيلةٌ وأمةٌ منَ الأمم، لم يُخْلَق مثل تلك القَبِيلة في البلادِ، يعني في زَمَانِهِم. يقول اللَّه تعالى عن اليهُودِ وهم يُهدِّدُونَ الأوسَ والخزْرَجَ بخُرُوج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: =

* أول مسجد يقرأ فيه القرآن بالمدينة

فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُم إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبعضٍ: يَا قَوْمُ! ، تَعْلَمُوا وَاللَّهِ إِنَّهُ للنَّبِيُّ الذِي تَوَعَّدَكم بِهِ يَهُودُ، فَلَا تَسْبِقَنَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُم إِلَيْهِ، بِأَنْ صَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الإِسْلَامِ، وَكَانُوا -أَيْ هؤُلَاءِ النَّفَرُ مِنَ الخَزْرَجِ- مِنْ عُقَلَاءِ يَثْرِبَ، أَنْهكَتْهُمْ الحَرْبُ الأَهْلِيَّةِ التِي مَضَتْ مِنْ قَرِيبٍ (¬1)، وَالتِي لَا يَزَالُ لَهِيبُهَا مُسْتَعِرًا، فَأَمَّلُوا أَنْ تَكُونَ دَعْوَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَبًا لِوَضْعِ الحَرْبِ، فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُم مِنَ العَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُم، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَسَنَقْدُمُ عَلَيْهِمْ، فنَدْعُوهُم إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ. * أَوَّلُ مَسْجِدٍ يُقْرَأُ فِيهِ القُرآنُ بِالمَدِينَةِ: ثُمَّ انْصَرُفوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَقَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَسْجِدٍ قُرِئَ فِيهِ القُرآنُ بِالمَدِينَةِ مَسْجِدُ بَنِي زُرَيْقٍ (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: زُرَيْقٌ بِتَقْدِيْمِ الزَّايِ مُصَغَّرًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ ¬

_ = {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} سورة البقرة آية (89). (¬1) هي حربُ بُعَاث التي ذكرتها قَبْل قليل. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 42) - زاد المعاد (1/ 97) - البداية والنهاية (3/ 160) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 431) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 105).

* عدد وأسماء رهط الخزرج رضي الله عنهم

إِضَافَةِ المَسَاجِدِ إِلَى بَانِيهَا، أَو المُصَلِّي فِيهَا، وَيُلْتَحَقُ بِهِ جَوَازُ إِضَافَةِ أَعْمَالِ البِرِّ إِلَى أَرْبَابِهَا (¬1). * عَدَدُ وَأَسْمَاءُ رَهْطِ الخَزْرَجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَكَانَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الخَزْرَجِ، كَمَا ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ، وَهُمْ: • من بني النجار: 1 - أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2) - 2 - عَوْف بنُ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه- (¬3) -وَهُوَ ابنُ عَفرَاء -رضي اللَّه عنه-. • مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: 3 - رَافِعُ بنُ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 77). (¬2) هو أسعَدُ بنُ زُرَارَةَ بن النجَّار الأنصاري، أبو أُمامَة، غلبت عليه كُنْيته واشتهرَ بها، كان عَقَبِيًّا نَقِيبًا، شَهِدَ العَقَبَةَ الأولى والثانية وبايعَ فيهما، ومات أسعدُ بن زُرارة -رضي اللَّه عنه- قبل غزوة بدرٍ الكبرى، والمسجدُ النبوي يُبْنَى، فكوَاهُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومات فىِ تلكَ الأيامِ، وذلك في السنة الأولى من الهجرة، ودُفِنَ بالبقِيعِ -رضي اللَّه عنه-، وهو أوَّل من دُفِنَ بها من الأنصار. انظر الإصابة (1/ 208). (¬3) هو عوفُ بن عَفْرَاءَ، ذكره ابن إسحاق في السيرة فيمن شَهِد بدرًا، وقُتِلَ فيها. انظر أسد الغابة (3/ 426). (¬4) هو رافعُ بنُ مَالِكِ بن العَجْلانِ بنِ زُرَيْقٍ الأنصَاري، يُكْنَى أبا مَالِكٍ، وقيل: أبا رِفَاعَة، شهد العَقَبَة، وكان أحدَ النُّفَبَاءِ، وشهد بَدرًا فيما ذكره موسى بن عُقْبة، ولم يذكره ابن إسحاق في البَدرِيِّينَ. انظر الإصابة (2/ 369).

• من بني سلمة

• مِنْ بَنِي سَلِمَة: 4 - قُطْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1) • مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعبٍ: 5 - عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬2) • مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بنِ عَدِيٍّ: 6 - جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رِئَابٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3)، وَهُوَ غَيْرُ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حَرَامٍ المَشْهُورِ -رضي اللَّه عنه- (¬4). * رِوَايَةُ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ: وَذَكَرَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَمَانِيَةً، مِنْهُم مَنْ ذَكَرَهُ ابنُ إِسْحَاقَ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهُمْ: ¬

_ (¬1) هو قُطبَةُ بنُ عامِرٍ الخزرجِيُّ الأنصاريّ، شهد العقبَةَ الأولى والثانِيَة، ولم يختلفوا في ذلك، وشَهِدَ بدرًا، وأحُدًا، والخنَدَق، والمَشَاهِدَ كلَّها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت معه رايَةُ بَنِي سلِمَةَ يوم الفَتْحِ، وجُرِحَ يومَ أُحُدٍ تِسْعَ جِرَاحَاتٍ، وتوفي -رضي اللَّه عنه- في خلافة عُثمان -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (3/ 486). (¬2) هو عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ الخَزْرَجِيُّ الأنصارِيُّ، شهد العَقَبة الأولى وبَدرًا وأُحدًا والخَنْدق، وسائرَ المَشَاهد، واستشهد بمعركةِ اليَمَامة في قِتال مُسَيْلَمَةَ الكذَّاب في خِلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (3/ 259). (¬3) هو جابر بن عبد اللَّه بن رِئاب بن سلمة الأنصاري السُلمي، شهد العقبة وبدرًا وأحدًا والخندق، وسائر المشاهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر أسد الغابة (1/ 293). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 42).

1 - أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-. 2 - رَافِعُ بنُ مَالِك -رضي اللَّه عنه-. 3 - مُعَاذُ بنُ عَفْرَاء -رضي اللَّه عنه- (¬1). 4 - يَزِيدُ بنُ ثَعْلَبَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2). 5 - أَبُو الهيْثَمِ بنُ التّيِّهَان -رضي اللَّه عنه- (¬3). 6 - عُوَيْمُ بنُ سَاعِدَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬4) 7 - عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) هو مُعَاذُ بنُ عَفْرَاءَ، ونُسِبَ إلى أمِّه عَفْرَاءَ بنتِ عُبَيدِ بنِ مَالك، وهو مُعاذُ بنُ الحَارِثِ، شَهِدَ العَقَبَة الأولى وشَهِدَ بَدرًا، وشارَكَ في قتلِ أبي جَهْلٍ، وعاشَ بعدَ ذَلِكَ، وقيلَ: بل جُرِحَ بِبَدْرٍ فمَاتَ من جِرَاحَتِهِ. انظر الإصابة (6/ 110). (¬2) هو يزِيدُ بن ثَعْلَبَةَ الخزرجي شهدَ العقبةَ الأولى والثانية. انظر أسد الغابة (4/ 334). (¬3) هو مالكُ بن عَتِيكٍ مشهُورٌ بكنيتِهِ الخَزْرَجيُّ، كان أحدَ النُّقَبَاءِ ليلَةَ العَقَبَة، وآخَى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينهُ وبينَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ، ثم شَهِدَ بدرًا، واختُلِف في وقتِ وفَاتِهِ، والأصوَبُ أنه تُوفي سنة عِشرين أو إحدى وعشرين للهجرة. انظر الإصابة (7/ 365). (¬4) هو عُوَيْمُ بن سَاعِدَةَ الأنصاري الأوسِي، شهِدَ العَقَبَتَيْنِ، آخَى الرسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين حَاطِبِ بن أَبِي بَلْتَعة، وشهد بدرًا، وأحدًا، والخندق، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وتوفي -رضي اللَّه عنه- في خِلافَةِ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (3/ 431). (¬5) هو عُبَادَةُ بنُ الصَّامِت الخزرجي الأنصاري، يُكنى أبَا الوليد، شهِدَ العقبةَ الأولى والثانيةَ، وشهِدَ بدرًا والمشَاهد كلها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم وجَّههُ عمرُ بن الخطابِ إلى الشام قَاضِيًا ومُعَلمًا، فأقام بِحمص، ثم انتقل إلى فِلِسْطِين، ومات بها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. انظر الإصابة (3/ 506).

8 - ذَكْوَانُ بنُ عَبْدِ قَيْسٍ (¬1). وَذَكَرَ ابنُ سَعدٍ فِي الطَّبَقَاتِ القَوْلَيْنِ، وَعِنْدَمَا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ التِي تَقُولُ بِأَنَّهُمْ سِتَّةٌ -وَهِيَ رِوَايَةُ ابنِ إِسْحَاقَ- قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ الوَاقِدِيُّ: هذَا عِنْدَنَا أَثْبَتُ مَا سَمِعنَا فِيهِمْ، وَهُوَ المُجْتَمُع عَلَيْهِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) هو ذَكْوَانُ بن عَبْدِ قَيْسِ، يكنى أبا السَّبُع، شهد العقبة الأولى والثانية، ثم خرجَ من المدينة مهاجرًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو بمكة، فَكَانَ يُقال له: أنصَارِي مُهاجِري، وشهد بدرًا، وقُتِل -رضي اللَّه عنه- يوم أحد شهيدًا. انظر أسد الغابة (2/ 145). (¬2) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 105).

بيعة العقبة الأولى

بَيْعَةُ العَقَبَةِ الأوْلَى فَلَمَّا رَجَعَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ إِلَى المَدِينَةِ ذَكَرُوا لِقَوْمِهِم رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَدَعَوْهم إِلَى الإِسْلَامِ حَتَّى فَشَا (¬1) فِيهِمْ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى إِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ، وَذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنَ البِعثَةِ وَافَى (¬2) مَوْسِمَ الحَجِّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، اثْنَانِ مِنَ الأوْسِ، وَعَشَرَةٌ مِنَ الخَزْرَجِ، فِيهِمْ خَمسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الذِينَ اجْتَمَعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي العَامِ السَّابِقِ، وَهُمْ: • مِنَ الخَزْرَجِ مِنْ بَنِي النَّجَارِ: 1 - أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- 2 - 3 - عَوْفُ وَمُعَاذُ ابْنَا الحَارِثِ وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ. • مِنْ بَنِي زُرَيْقِ بنِ عَامِرٍ: 4 - رَافِعُ بنُ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ -رضي اللَّه عنه- 5 - ذَكْوَانُ بُن عَبْدِ قَيْسِ -رضي اللَّه عنه-. • مِنْ بَنِي عَوْفٍ بنِ الخَزْرَجِ: 6 - عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- 7 - يَزِيدُ بنُ ثَعْلَبَةَ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) فَشَا: انتَشَر وذَاعَ. انظر لسان العرب (10/ 269). (¬2) وافَى: أي أَتَى. انظر لسان العرب (15/ 359).

• من بني سالم بن عوف

• مِنْ بَنِي سَالِمِ بنِ عَوْفٍ: 8 - العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬1). • مِنْ بَنِي سَلِمَة: 9 - قُطْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-. • مِنْ بَنِي حَرَامِ بنِ كَعبٍ: 10 - عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-. • مِنَ الأوْسِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ: 11 - أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ -رضي اللَّه عنه-. • مِنْ بَنِي عَمرِو بنِ عَوْفٍ: 12 - عُوَيْمُ بنُ سَاعِدَةَ -رضي اللَّه عنه-. لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَؤُلَاءِ عِنْدَ العَقَبَةِ بِمِنًى، فبايَعُوهُ (¬2) * عَلَامَ كَانَتِ البَيْعَةُ؟ : رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ مِمَّنْ ¬

_ (¬1) هو العباسُ بن عُبَادةَ بن نَضْلَة الأنصاري الخزرجي، شهد بيعة العَقَبَتين، ثم إنه خرج إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بمَكَّة، وقام معه حتى هاجر إلى المدينة فكان أنصَارِيًا مُهَاجِرِيًا، لم يشهَدْ بَدْرًا، وقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- في غَزْوَةِ أحُدٍ. انظر الإصابة (3/ 511). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 44) - الروض الأنف (2/ 248) - البداية والنهاية (3/ 162) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 435).

حَضَرَ العَقَبَةَ الأوْلَى، وَكُنَّا اثْنَي عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءَ (¬1)، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الحَرْبُ: عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِي، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِي بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيهِ فِي معرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُم فَلَكُمُ الجَنَّةَ، وَإِنْ غَشِيتُم مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأمرُكُم إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ (¬2). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ، وَحَوْله عِصَابَةٌ (¬3) مِنْ أَصْحَابِهِ: "بَايِعُونِي (¬4) عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ (¬5)، وَلَا تَأتوا بِبُهْتَانٍ (¬6) تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، لَمَنْ وَفَّى (¬7) ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 162): يعنِي على وَفْقِ ما نَزَلَتْ عليهِ آيةُ بيعَةِ النِّسَاء بعد ذلكَ عامَ الحُدَيْبِيَة -وهي في سورة الممتحنة آية (12). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 47). (¬3) العِصَابةُ: بكسر العين الجَمَاعَةُ من العَشرةِ إلى الأربعين. انظر لسان العرب (9/ 232). (¬4) البايَعَةُ: هي عبارةٌ عن المعاقدة والمعاهدة. انظر النهاية (1/ 171). (¬5) قال الحافظ في الفتح (1/ 92): خَصَّ القتلَ بالأولادِ لأنَّهُ قتلٌ وقطِيعَةُ رَحِمٍ، فالعِنَاية بالنهيِ عنه آكَدُ؛ ولأنه كان شَائِعًا فيهم، وهو وَأْدُ البَنَاتِ، وقتلُ البَنِينَ خَشْيَةَ الإملاقِ أي الفَقْرِ. (¬6) قال الحافظ في الفتح (1/ 92): البُهْتَانُ: الكَذِبُ الذي يبهتُ سَامِعَه، وخَصَّ الأيدي والأرْجُل بالافتراء لأن مُعْظَم الأفعَالِ تَقَعُ بهما، إذ كانت هِيَ العَوَامل والحَوَامل للمبَاشرة والسَّعي، وقد يُعاقَبُ الرجل بجنَايَةٍ قولية، فيقال: هذا بما كَسَبَتْ يَدَاكَ. (¬7) فمَنْ وَفَى منكم: أي ثَبَتَ على العَهْدِ. انظر فتح الباري (1/ 93).

مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ (¬1)، وَمَنْ أَصَابَ (¬2) مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كفَّارَةٌ (¬3) لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبهُ" (¬4)، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ (¬5). وَلَيْسَ فِي هذِهِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ هذِهِ البَيْعَةَ كَانَتْ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ آيَةَ بَيْعَةِ النِّسَاءَ نَزَلَتْ بَعدَ الحُدَيْبِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَيْنَ العَقَبَةُ الأوْلَى مِنَ الحُدَيْبِيَةِ؟ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 93): أطلقَ هذا على سَبِيلِ التَّفْخِيمِ، وعبر هنا بلفظ "عَلَى" للمبالغةِ في تحقُّقِ وقُوعِهِ كالواجبات، ويتعيَّنُ حملهُ على غير ظاهِرِهِ للأدلَّةِ القائِمَةِ على أنه لا يَجِبُ على اللَّه شيءٌ، فإن قيلَ: لِمَ اقتصَرَ على المَنْهِيَّاتِ ولم يذكُر المأمُورَات؟ فالجوابُ أنه لم يُهْمِلْهَا، بل ذكرَها على طريقِ الإجمَالِ في قَوْلهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلَا تَعْصُوا" إذِ العصيَانُ مُخَالفَةُ الأمرِ، والحِكْمَةُ في التَنْصِيصِ على كثيرٍ من المَنْهِيَّاتِ دُونَ المَأْموُرَاتِ أن الكَفَّ أيسَرُ من إنشَاءِ الفعلِ؛ لأن اجتِنَابَ المفاسد مُقَدَّمٌ على اجتِلابِ المصالح، والتخَلِّي عن الرَّذَائِلِ قبل التحَلِّي بالفَضَائِلِ. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (11/ 186): المرادُ به ما سِوَى الشِّرْكِ، وإلا فالشِّرْكُ لا يُغْفَرُ لَهُ، وتكونُ عُقُوبَتُهُ كفَّارته له. (¬3) قال الحافظ في الفتح (1/ 97): يُستفاد من الحديث أن إقامَةَ الحدِّ كفَّارة للذنبِ، ولو لم يَتُب المَحْدُودُ، وهو قولُ الجمهور. (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/ 97): ذهبَ الجمهورُ إلى أن مَنْ تَابَ لا يَبْقَى عليه مُؤَاخَذَةٌ، ومع ذلك فلا يأمن مَكْرَ اللَّه؛ لأنه لا اطلاعَ لَهُ هل قُبِلَتْ توبتُهُ أم لا. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب (11) - رقم الحديث (18) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب الحدود كفارات لأهلها - رقم الحديث (1709).

* الصحيح في هذه البيعة

فَمنْ ثَمَّ سَلَكَ العُلَمَاءُ المُحَقِّقُونَ فِي مَقَالَةِ ابنِ إِسْحَاقَ عَلَى "بَيْعَةِ النِّسَاءِ" مَسَالِكَ: قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَوْلُهُ -أَيْ ابنُ إِسْحَاقَ- عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءَ، يَعْنِي: عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ آيِةُ بَيْعَةِ النِّسَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَزَلَ عَلَى وَفْقِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ، فَإِنَّ القُرآنَ نَزَلَ بِمُوَافَقَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ كَمَا بَيَنَّاهُ فِي سِيرَتِهِ، وَفِي التَّفْسِيرِ، وَإِنْ كَانَتْ هذِهِ البَيْعَةُ وَقَعَتْ عَنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ فَهُوَ أَظْهرُ، وَاللَّهُ أعلَمُ (¬1). * الصَّحِيحُ فِي هذِهِ البَيْعَةِ: وَالصَّحِيحُ هُوَ مَا قَالَهُ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: أَنَّ المبايَعَةَ المَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الصِّفَةِ المَذْكُورَةِ لَمْ تَقَعْ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الذِي وَقَعَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ مَا ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ (¬2) وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ المَغَازِي أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ الأنْصَارِ: "أُبايِعُكُم عَلَى أَنْ تَمنَعُوني مِمَّا تَمنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُم وَأَبْنَاءَكُم"، فبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَنْ يَرحَلَ إِلَيْهم هُوَ وَأَصحَابهُ، وَمِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- أَيْضًا عِنْدَ البُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: بَايَعنَا ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 162). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 47).

رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى السَّمعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ (¬1). وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذَا المُرَادِ مَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ جَرَتْ قِصَّة مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَ مُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- بِالشَّامِ، فَقَالَ عُبَادَةُ -رضي اللَّه عنه-: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالكَسَلِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ الحَقَّ، وَلَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فنَمنَعُهُ مِمَّا نَمنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا، وَأَزْوَاجَنَا، وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الجَنَّةُ، فَةذ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- التِي بَايَعنَاهُ عَلَيْهَا (¬2). فَهَذَا هُوَ الذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ البَيْعَةِ الأوْلَى، ثُمَّ صَدَرَتْ مبايَعَات أُخْرَى، مِنْهَا هَذِهِ البَيْعَةُ التِي فِي حَدِيثِ البَابِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الفَوَاحِشِ المَذْكُورَةِ، وَالذِي يُقَوِّي أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ الآيَةُ التِي فِي المُمتَحِنَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام - باب كيف يبايع الإمام الناس - رقم الحديث (7199) - (7200) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1709) (42). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22769). (¬3) سورة الممتحنة آية (12).

وَنُزُولُ هذِهِ الآيَةِ مُتَأَخِّرٌ بَعْدَ قِصَّةِ الحُدَيْبِيَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- هَذَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا بَايَعَهُم قَرَأَ الآيَةَ كُلَّهَا (¬1)، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: فتَلَا عَلَيْنَا آيَةَ النِّسَاءِ قَالَ: {. . . أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} (¬2). وَللطَّبَرَانِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ عُبَادَةُ -رضي اللَّه عنه-: بَايَعنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى مَا بَايَعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، ولمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ (¬3). فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ هذِهِ البَيْعَةَ إِنَّمَا صَدَرَتْ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ، بَلْ بَعْدَ صُدُورِ البَيْعَةِ، بَلْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، . . . وَإِنَّمَا حَصَلَ الِالْتِبَاسُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- حَضَرَ البَيْعَتَيْنِ مَعًا: بَيْعَةَ العَقَبَةَ الأُولَى، وَالبَيْعَةَ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءَ يَوْمَ الفَتْحِ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ العَقَبَةِ مِنْ أَجْلِّ مَا يُمتَدَحُ بِهِ، فَكَانَ يَذْكُرُها إِذَا حَدَّثَ تَنْوِيهًا بِسَابِقَتِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ هذِهِ البَيْعَةَ التِي صَدَرَتْ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءِ عَقِبَ ذَلِكَ تَوَهَّمَ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ الحَالِ أَنَّ البَيْعَةَ الأوْلَى وَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِذَلِكَ -بَأَنَّ بَيْعَةَ العَقَبَةِ الأوْلَى كَانَتْ عَلَى بَيْعَةِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب الحدود كفارة - رقم الحديث (6784). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب الحدود كفارات لأهلها - رقم الحديث (1709) (42) (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب الحدود كفارات لأهلها - رقم الحديث (1709) (43).

النِّسَاءِ- وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (¬1). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهذَا الذِي ذَكَرَهُ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الذِي يَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ، فَهُوَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالقُرآنِ وَتَنَزُّلَاتِهِ، وَالسُّنَةِ وَطُرُقِ الجَمْعِ بَيْنَ رِوَايَاتِها المُخْتَلِفَةِ، وَبِالسِّيرَةِ وَتَوَارِيخِ الصَّحَابَةِ، وله انْتِقَادَاتٌ كَثِيرَةٌ صَائبةٌ عَلَى ابنِ إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِ مِنْ كتَابِ السِّيَرِ وَتَارِيخِ الرِّجَالِ. وَهذه التَّحْقِيقَاتُ وَالتَّنْبِيهُ إِلَى المَغَالِطِ وَالأوْهامِ فِي الرِّوَايَةِ، هِيَ مِنْ أَهمِّ مَا يُعْنَى بِهِ الدَّارِسُونَ لِلسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي ضَوْءَ القُرْآنِ وَالسُّنَةِ، وَهِيَ قَدْ تَخْفَى عَلَى غَيْرِ المُتَخَصِّصِينَ فِي عُلُومِ القرآنِ وَالسُّنَّةِ وَعُلُومِها، فَالحَمْدُ للَّهِ الذِي هدَانَا لِهَذَا (¬2). وَالخُلَاصَةُ: أَنَّ المبايَعَةَ فِي العَقَبَةِ الأوْلَى كَانَتْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَاعَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَفي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَالأمرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وَقَولِ الحَقِّ، وَأَنْ لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى الوَلَاءِ وَالنُّصرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ المَدِينَةَ، وَأَنْ يمنَعُوهُ مِمَّا يَمنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَهم وَأَزْوَاجَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ (¬3)، وَأَمَّا المُبَايَعَةُ عَلَى مِثْلِ بَيْعَةِ النِّسَاءَ فَقَد كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (1/ 95). (¬2) انظر كتاب السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (1/ 439) للدكتور محمد أبو شهبة رحمه اللَّه تعالى. (¬3) أخرج هذه البيعة على هذا النحو: البخاري في صحيحه - رقم الحديث (7055) (7056) - (7199) (7200) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1709) (42).

* أول جمعة جمعت في المدينة قبل الهجرة

* أَوَّلُ جُمُعَةٍ (¬1) جُمِعَتْ فِي المَدِينَةِ قَبْلَ الهِجْرَةِ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ الجُمُعَةَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ إِلَى المَدِينَةِ هُوَ: أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-. فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاودَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي بَعدَمَا ذَهبَ بَصَرُهُ، وَكَانَ لَا يَسْمَعُ الأذَانَ بِالجُمُعَةِ إِلَّا قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَسْعَدَ بنِ زُرَارَةَ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ، إِنَّهُ لتعجِبُنِي صَلَاتُكَ (¬2) عَلَى أَبِي أُمَامَةَ (¬3) كُلَّمَا سَمِعتَ الأذَانَ بِالجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمّعَ الجُمُعَةَ بِالمَدِينَةِ فِي حَرَّةِ (¬4) ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 119): إنما سُميت الجمعة جُمُعة؛ لأنها مشتَقَّة من الجَمْعِ، فإن أهل الإسلام يجتَمِعُون فيه في كُلَّ أسبوع مرَّة بالمسَاجِدِ الكبار. وقال الحافظ في الفتح (3/ 3): واختلف في تسمية اليوم بذلك، . . . فقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جُمعَ فيه، فأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (23718) عن سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- قال: قال لي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتدري ما يوم الجمعة؟ " قلتُ: هو اليوم الذي جمع اللَّه فيه أباكم. وهذا أوضح الأقوال، ويليه ما أخرجه عبد بن حميد، وابن حبان في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة -رضي اللَّه عنه-. وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 363): وكان من هَدْيِهِ -رضي اللَّه عنه- في يومِ الجُمُعَةِ تعظِيم هذا اليومِ وتشرِيفُهُ، وتخصِيصُهُ بعبادَاتٍ يَختص بها عن غيره. (¬2) المقصود بالصلاة هنا الدعاء، لأن معنى الصلاةُ في اللغة: الدُّعاء. انظر النهاية (3/ 46). (¬3) أبو أُمَامة هي كُنية أسعدِ بن زُرارة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) الحرة: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة. انظر النهاية (1/ 351).

بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: الخَضَمَاتُ (¬1)، قُلْتُ: وَكَم أَنْتم يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) نقيع الخضمات: موضع كان يستنقع فيه الماء: أي يجتمع. انظر النهاية (5/ 94). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن أسعدَ بن زُرارة هو الذي جمعَ أوَّل جمعةٍ بالمدينةِ - رقم الحديث (7013) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب الجمعة في القرى - رقم الحديث (1069).

بعث مصعب بن عمير -رضي الله عنه- إلى المدينة للدعوة إلى الإسلام

بَعْثُ مُصْعَبِ بنِ عُمَيرٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى المَدِينَةِ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ لَمَّا انْتَهَى المَوْسِمُ وَانْصَرَفَ القَوْمُ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهُمْ شَابًّا مِنْ شَبَابِ المُسْلِمِينَ، السَّابِقِينَ الأوَّلينَ إِلَى الإِسْلَامِ، وَهُوَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُم القُرآنَ، وَيُعَلِّمَهُمْ الإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، فَكَانَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- يُسَمَّى بِالمَدِينَةِ: المُقْرِئَ. وَكَانَ نُزُولُ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ عَلَى السَّيِّدِ الجَلِيلِ السَّابِقِ إِلَى الخَيْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * نَجَاحُ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه- فِي مُهِمَّتِهِ: وَقَدْ نَجَحَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- أَيَّمَا نَجَاحٍ فِي نَشْرِ الإِسْلَامِ، وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يتخَطَّى الصِّعَابَ التِي تُوجَدُ دَائِمًا فِي طَرِيقِ كُلِّ نَازِحٍ غَرِيبٍ، يُحَاوِلُ أَنْ يَنْقُلَ النَّاسَ مِنْ مَوْرُوثَاتٍ أَلِفُوها إِلَى نِظَامٍ جَدِيدٍ، يَشْمَلُ الحَاضِرَ وَالمُسْتَقْبَلَ، وَيَعُمَّ الإيمَانَ وَالعَمَلَ، وَالخُلُقَ وَالسُّلُوكَ. . . وَمَا كَانَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- يَمْلِكُ مِنْ وَسَائِلِ الإِغْرَاءِ مَا يَطْمَعُ طُلَابُ الدُّنْيَا وَنَهازِي الفُرَصِ، كُلُّ مَا لَدَيْهِ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 48) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 431) - الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 63) - سبل الهدى والرشاد (3/ 197).

* إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما

ثَرْوَةٌ مِنَ الكِيَاسَةِ وَالفِطْنَةِ، قَبَسَهَا (¬1) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وِإِخْلَاصٌ للَّهِ، جَعَلَهُ يُضَحِّي بِمَالِ أُسْرَتِهِ وَجَاهِها فِي سَبِيلِ عَقِيدَتِهِ، . . . ثُمَّ هَذَا القُرْآنُ الذِي يَتَأَنَّقُ فِي تِلَاوَيهِ، وَيَتَخَيَّرُ مِنْ رَوَائِعِهِ مَا يَغْزُو بِهِ الألْبَابَ، فَإِذَا الأفْئِدَةُ تَرِقُّ لَهُ، وَتَنْفَتِحُ لِلدِّينِ الجَدِيدِ (¬2). * إِسْلَامُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَأُسَيد بنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه-: سَيِّدَا بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ (¬3)، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ (¬4) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَبِإِسْلَامِهِمَا أَسْلَمَ جَمِيعُ بَنِي ¬

_ (¬1) قَبسَها: أخَذَها. انظر لسان العرب (11/ 11). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه اللَّه تعالى ص 147. (¬3) هو سعدُ بن معاذِ بن النُّعمان الأوسي الأنصاري، البدري الذي اهتزَّ عرشُ الرحمن لِمَوْتهِ. أسلمَ على يَدِ مُصعبَ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وبإسلامهِ أسلم كلُّ بنِي عبدِ الأشهَلِ، فكان من أعظَمِ الناسِ بَرَكَةً على قَوْمِهِ في الإسلامِ. شهِدَ بَدْرًا باتِّفاقِ، وأُحدًا، ورُمِيَ بسهمٍ يوم الخَنْدق، فعاشَ بعد ذلك شَهْرًا، حتى حَكَمَ في بني قُرَيْظَةَ، وأجِيبَتْ دعوتُهُ في ذلك، ثم انتفَضَ جرحُهُ، فَمَاتَ -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (3/ 70). (¬4) هو أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ الأوسي الأشْهَلي الأنصاري، كان ممَّن شهدَ العقبة الثانيةَ، وهو من النُّقباء الاثنى عشر ليلةَ العقبةِ، أسلم قَدِيمًا على يَدِ مُصعَبِ بنِ عُمَيْر -رضي اللَّه عنه-. لم يشهدْ بَدرًا، وشَهِد أُحدًا، وجُرح يوم أُحُد سبع جِرَاحات، وثبتَ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين انكشفَ الناس، وشهد باقي المَشَاهد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. توفي -رضي اللَّه عنه- في شعبان سنة عشرين على الصَّحِيحِ من الهجرةِ، وحمَلَهُ عُمَرُ بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- وصلَّى عليه، ودُفِنَ بالبَقِيعِ -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (1/ 109).

عَبْدِ الأشْهَلِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ الأُصَيْرِمِ وَهُوَ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ (¬1)، فَإِنَّهُ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى يَوْمِ أُحُدٍ، فكَانَتْ أَوَّلَ دَارٍ منْ دُورِ الأنْصَارِ أَسْلَمَتْ بِأَسْرِهَا. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- خَرجَ بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظفَرٍ، فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا (¬2) مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظفَرٍ، عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ مَرَقٍ، فَجَلَسَا فِي الحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَال مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَكَانَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيرٍ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَنَشَاطِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ، قَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بنِ حُضَيرٍ: لَا أَبَالَكَ، انْطَلِقْ إِلَى هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَينِ قَدْ أتيا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا، فَازْجُرْهُمَا، وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّه لَوْلَا أَنَّ أَسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمتَ كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابنُ خَالَتِي، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مَقْدَمًا. فَأَخَذَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فلَمَّا رَآه أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَكَ، فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ ¬

_ (¬1) هو عَمْرُو بن ثابتِ بن وَقْشِ بن عبد الأشهل الأنصاري، ويُعرف عمرو هذا بأُصَيْرِم، وهو ابنُ أختِ حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ -رضي اللَّه عنه-. تأخَّر إسلامه -رضي اللَّه عنه- إلى يومِ أُحد، واستُشْهِدَ في أُحُدٍ، فهو الذي دخلَ الجنة ولم يُصَلِّ للَّه رَكعة. انظر الإصابة (4/ 500). (¬2) الحَائِطُ: البُسْتَانُ من النَّخيل إذا كان عليه حَائط وهو الجدار. انظر النهاية (1/ 444).

مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. فَجَاءَ أُسَيْدٌ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا (¬1)، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفّهانِ ضُعَفَاءَنَا؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ بِلِسَانِ المُؤْمِنِ الهادِئِ الوَاثِقِ مِنْ سَمَاحَةِ دَعْوَتِهِ: أَوَتَجْلِسُ فتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ، فَقَالَ: أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ حَربَتَهُ، وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالإِسلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ القُرْآنَ. فَقَالَا -أَيْ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا-: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الإِسلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ أُسَيْدٌ: مَا أَحَسَنَ هذا الكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُم أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتسِلُ فتَطَّهَرُ وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَشَهِدَ شَهادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِن اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الآنَ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ. ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ (¬2)، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ ¬

_ (¬1) مُتَشَتِّمًا: أي عَابِسَ الوجه. انظر لسان العرب (7/ 28). (¬2) النَّادِي: مجتَمَع القوم وأهلُ المَجْلس. انظر النهاية (5/ 31).

الوَجْهِ الذِي ذَهبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ عَلَى النَّادِي، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ؟ . فَقَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ، وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ خَرَجُوا إِلَى أسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ، وَذِلَك أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابنُ خَالَتِكَ لِيُخْفِرُوكَ (¬1). فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- مُغْضَبًا مُبَادِرًا، تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِر لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، فَأَخَذَ الحَرْبَةَ مِنْ يَدِ أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنِّينَ، عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ سعدُ بنُ مُعَاذٍ عَلَى أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ وَمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ مُتَشَمِّتًا، ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ القَرَابَةِ مَا رُمْتَ (¬2) هَذَا مِنِّي، أتَغْشَانَا فِي دَارِنَا بِمَا نَكْرَهُ؟ . وَكَانَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ قَدْ قَالَ لِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ: لقَد جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدُ مَنْ وَرَاءِهِ مِنْ قَوْمِهِ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُم اثْنَانِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ لِسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ: أَوَتَقْعُدَ فتَسْمَعَ؟ فَإِنْ رَضِيتَ أَمرًا، ¬

_ (¬1) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية (1/ 442): كان غَرَضُ أُسَيْدِ بن حُضَيْر -رضي اللَّه عنه- إثارَةُ حميَّةِ سعدِ بن مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- ليَقُومَ ويذهبَ إلى أسعَدَ بنِ زُرارة -رضي اللَّه عنه- وصاحِبِهِ مُصْعَب -رضي اللَّه عنه-، ويسمع منه. (¬2) رُمْتَ: أي بَلَغْتَ.

وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا مِنْكَ مَا تَكْرَهُ. فَقَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنْصَفْتَ، ثُمَّ رَكَزَ الحَرْبَةَ وَجَلَسَ فَعَرَضَ مُصْعَبٌ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). قَالَا -أَيْ مُصْعَبٌ وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ-: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، لِإِشْرَاقِهِ وِتَسَهُّلِهِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُم أَسْلَمْتُمْ، وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ، فتَطَّهَّرُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ وَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَائِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ، وَمَعَهُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، فَلَمَّا رَآه قَوْمُهُ مُقْبِلًا قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُم سَعْدٌ بِغَيْرِ الوَجْهِ الذِي ذَهبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ! كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً (¬2)، قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ. قَالَا -أَيْ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- وَمُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي ¬

_ (¬1) سورة الزخرف - آية (1 - 3). (¬2) ميَمُونُ النَّقِيبَةِ: أي مُنَجَّح الفِعَالِ، مُظفَّرُ المَطَالِبِ، والنَّقِيبَةُ: النَّفس، وقيل الطبِيعَة والخَلِيقَة. انظر النهاية (5/ 89).

دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً إِلَّا الأُصَيْرِمُ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ، فَإِنَّهُ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى يَوْمِ أُحُدٍ فَأَسْلَمَ، وَاسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ، وَلَم يُصَلِّ للَّهِ سَجْدَةً قَطُّ، وَأَخْبَرَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ (¬1). وَأَقَامَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- فِي مَنْزِلِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ يَدعُو النَّاسَ إِلَى الإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرج قصة إسلام سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه-، وأسيد بن حضير -رضي اللَّه عنه-: ابن إسحاق في السيرة (2/ 49) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 431) - وأخرج قصة إسلام الأصيرم يوم أُحد واستشهاده فيها: ابن إسحاق في السيرة (3/ 100) - وأوردها الحافظ في الإصابة (4/ 500) - وصحح إسناده. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 49) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 431) - الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 223).

سبب تهيؤ الأنصار للإسلام

سَبَبُ تَهَيُّؤِ الأَنْصَارِ لِلإِسْلَامْ قَبْلَ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنْ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، نَذْكُرُ سبَبَ سُرعَةِ إِسْلَامِ الأنْصَارِ. سَاعَدَتْ عَلَى سُرعَةِ إِسْلَامِ الأنْصَارِ عِدَّةُ عَوَامِلٍ، هِيَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَيْسِيرِهِ وَصُنْعِهِ، كَانَتْ فَارِقَة بَيْنَ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ، وَقبائِلِ يَثْرِبَ العَرَبِيَّةِ: 1 - مِنْهَا مَا طَبَعَها اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّقَّةِ وَاللِّينِ، وَعَدَمِ المُغَالَاةِ فِي الكِبْرِيَاءَ وَجُحُودِ الحَقِّ، وَذَلِكَ يَرجعُ إِلَى الخَصَائِصِ الدَّمَوِيَّةِ وَالسُّلَالِيَّةِ التِي أَشَارَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ وَفَدَ وَفْدٌ مِنْ اليَمَنِ، بِقَوْلهِ: "أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ (¬1) قُلُوبًا" (¬2) وَهُمَا -أَيْ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ- تَرْجِعَانِ فِي أَصْلِهِمَا إِلَى اليَمَنِ، نَزَحَ أَجْدَادُهُمَا مِنْهَا فِي الزَّمَنِ القَدِيمِ. 2 - وَمِنْهَا أَنَّهُمَا -أَيْ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ- قَدْ أَنْهكَتْهُمَا الحُرُوبُ الدَّاخِلِيَّةُ، ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 28): وأما وصفها باللِّين والرَّقةِ والضعف، فمعنَاهُ: أنها ذَاتُ خَشْيَةٍ واستِكَانَةٍ، سرِيعة الاستجابَةِ، والتأثُّرِ بقَوَارع التذْكِيرِ، سالِمَة من الغِلَظِ والشِّدَّةِ والقَسْوَة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن - رقم الحديث (4388) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه - رقم الحديث (52) (90).

وَمَا يَوْمُ بُعَاثٍ بِبَعِيدٍ، وَقَدْ اكْتَوَوْا بِنَارِهَا، وَذَاقُوا مَرَارَتَهَا، وَعَافُوهَا، وَنَشَأَتْ فِيهِمْ رَغْبَةٌ فِي اجْتِمَاعِ الكَلِمَةِ، وَانْتِظَامِ الشَّمْلِ، وَالتّفادِي مِنَ الحُرُوبِ، وَذَلِكَ مَا عَبَّرُوا فِيهِ بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ العَدَاوَةِ وَالشَّرِ مَا بَيْنَهُمْ، فَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَإِنْ يَجْمَعهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَلَا رَجُلَ أَعَزَّ مِنْكَ (¬1). وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). 3 - وَمِنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا، وَسَائِرَ العَرَبِ قَدْ طَالَ عَهْدُهُم بِالنُّبُوَّاتِ وَالأنْبِيَاءِ، وَأَصْبَحُوا يَجْهَلُونَ مَعَانِيهَا بِطُولِ العَهْدِ، وَبِحُكْمِ الأُمِّيَّةِ وَالإِمْعَانِ فِي الوَثَنِيَّةِ، وَالبُعْدِ عَن الأمَمِ التِي تَنْتَسِبُ إِلَى الأَنْبِيَاءِ، وَتَحْمِلُ الكُتُبَ السَّمَاوِيَّةَ -عَلَى مَا دَخَلَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالعَبَثِ- وَذَلِكَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ القُرْآنُ بِقَوْلهِ تَعَالَى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} (¬3). أَمَّا الأوْسُ وَالخَزْرَجُ فكَانُوا يَسْمَعُونَ اليَهُودَ يتَحَدَّثُونَ عَن النُّبُوَّةِ وَالأنْبِيَاءِ، وَيَتْلُونَ صُحُفَ التَّوْرَاةِ وَيُفَسِّرُونَهَا، بَلْ كَانُوا يتَوَعَّدُونَهُمْ بِهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ سَيبعَثُ نَبِيٌّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمٍ، وَفِي ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 42). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب الأنصار - رقم الحديث (3777) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24320). (¬3) سورة يس آية (6).

ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). وَبِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ بَيْنَ أَبْنَاءِ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ وَسُكَّانِ المَدِينَةِ مِنَ العَرَبِ المُشْرِكِينَ تِلْكَ الفَجْوَةُ العَمِيقَةُ الوَاسِعَةُ مِنَ الجَهْلِ وَالنُّفُورِ مِنَ المَفَاهِيمِ الدِّينِيَّةِ، وَالسُّنَنِ الإلهِيَّة، التِي كَانَتْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ وَجِيرَانِهِم مِنْ العَرَبِ، بَلْ قَدْ عَرَفُوهَا وَأَلِفُوهَا عَنْ طَرِيقِ اليَهُودِ وَأَهْلِ الكِتَابِ، الذِينَ كَانُوا يَخْتَلِطُونَ بِهم بِحُكْمِ البَلَدِ وَالجِوَارِ وَالصُّلْحِ وَالحَرْبِ وَالمُحَالفَاتِ، فَلَمَّا تَعَرَّفُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ حَضَرُوا المَوْسِمَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، ارْتَفَعَتْ الغِشَاوَةُ عَنْ عُيُونِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ هَذِهِ الدَّعوَةِ عَلَى مِيعَادٍ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (89) - وانظر سيرة ابن هشام (2/ 42). (¬2) انظر السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي رحمه اللَّه تعالى ص 156 - 157.

بيعة العقبة الثانية

بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا اقْتربَ مَوْسِمُ الحَجِّ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ عَشْرَةَ لِلْبِعثَةِ اجْتَمَعَ ثَلَاثَةٌ وَسَبعُونَ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ فَقَالُوا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ . فتَوَاعَدُوا عَلَى المَسِيرِ إِلَى الحَجِّ، وَمُلَاقَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجُوا مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِم مِنْ أَهْلِ الشِّركِ، وَهُمْ خَمْسُمِائَةٍ، حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ مَعَ الحَجِيجِ فِي مَنَازِلِهِمْ مُسْتَخْفِينَ بِإِسْلَامِهْمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ جَاءَ مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلًا، وَلَمْ يَقْرَبْ مَنْزِلَهُ، فَجَعَلَ يُخْبِرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَن الأنْصَارِ، وَسُرعَتِهِمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِ خَبَرَ قَبَائِلِ يَثْرِبَ، وَمَا لَهَا مِنْ قُوةٍ وَمَنَعَةٍ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ، وَدَعَا لهُ. ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَ الأَنْصَارِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعُونَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اتِّصَالَاتٌ سِرِيَّةٌ أَدَّتْ إِلَى اتِّفَاقِ الفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنْ يَتَجَمَّعُوا فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (¬1) فِي الشِّعبِ (¬2) الذِي عِنْدَ العَقَبَةِ حَيْثُ الجَمْرَةُ الأولَى مِنْ مِنًى، لِإِبْرَامِ اتِّفَاقٍ هُوَ مِنْ ¬

_ (¬1) أيامُ التشْرِيقِ: هي ثلاثةُ أيامٍ تَلِي عِيدَ الأضحَى، سُمِّيَتْ بذلك لأنَّ الهَدْيَ والضَّحَايا لا تُنْحَرُ حتى تُشْرِقَ الشَّمْسُ، أي تَطْلُعَ. انظر النهاية (2/ 416). (¬2) الشِّعْبُ: ما انفَرَجَ بين جبَلَيْنِ، وقيلَ هوَ الطريقُ في الجبَلِ. انظر لسان العرب (7/ 128).

* سياق بيعة العقبة الثانية

أَعْظَمِ، وَأَهَمِّ الِاتِّفَاقِيَّاتِ فِي تَارِيخِ الإِسْلَامِ، وَأَنْ يَتِمَّ هَذَا الِاجْتِمَاعُ فِيِ سِرِيَّةٍ تَامَّةٍ فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ (¬1). * سِيَاقُ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ: وَلْنَتْرُكْ أَحَدَ قَادَةِ الأنْصَارِ يَصِفُ لَنَا هَذَا الِاجْتِمَاعَ التَّارِيْخِيَّ، الذِي حَوَّلَ مَجْرَى الأيَّامِ فِي صِرَاعِ الوَثَنِيَّةِ وَالإِسْلَامِ، قَالَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: خَرَجْنَا إِلَى الحَجِّ مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنْ المُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ كَبِيرُنَا وَسَيِّدُنَا، فَلَمَّا تَوَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ المَدِينَةِ. . . قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ، لَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ؟ قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ تَعرِفَانِ العَبَّاسَ بنَ عَبْدَ المُطَّلِبِ، عَمَّهُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَكُنَّا نَعْرِفُ العَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدُمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا. قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا المَسْجِدَ، فَهُوَ الرَّجُلُ الجَالِسُ مَعَ العَبَّاسِ، تَرَكْتُهُ مَعَهُ الآنَ جَالِسًا. قَالَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: فَدَخَلْنَا المَسْجِدَ، فَإِذَا العَبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهُ جَالِسٌ، فَسَلَّمنَا عَلَيْهِمَا، ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْعَبَّاسِ: "هَلْ تَعرِفُ هذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يا عَبَّاسُ؟ ". قَالَ: نَعَمْ، هذَانِ الرَّجُلَانِ مِنَ الخَزْرَجِ -وَكَانَتِ الأنْصَارُ إِنَّمَا تُدْعَى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْسَهَا وَخْزَرَجَها- هَذَا البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ رِجَالِ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 52) - الرحيق المختوم ص 147 - طبقات ابن سعد (1/ 106).

قَوْمِهِ، وَهذَا كَعْبُ بنُ مَالِكٍ. قَالَ كَعْبٌ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشَّاعِرُ؟ " (¬1). قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ. قَالَ كَعْبٌ: . . . وَخَرَجْنَا إِلِى الحَجِّ، فَوَاعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرعْنَا مِنَ الحَجِّ، وَكَانَت اللَّيْلَةُ التِي وَعَدَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ حَرَامٍ، أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ المُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ، وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا، ثُمَّ دَعَوْتُهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبَرتُهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَسْلَمَ، وَشَهِدَ مَعَنَا العَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا. قَالَ كَعْبٌ: فَنِمنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا (¬2)، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ، وَهدَأَت الرِّجْلُ (¬3)، خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَتَسَلَّلُ (¬4) مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ القَطَا (¬5)، حَتَّى اجْتَمَعنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ العَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ ¬

_ (¬1) قلتُ: سبَبُ فَرَحِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بكعبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- كونه شاعِرًا؛ لأنَّ الشِّعْرَ يُعْتَبَرُ من أهمِّ وسائِلِ الإعلام المَوْجُودَةِ في ذلكَ الوَقْتِ، فكأنَّهُ سَيَنْشُرُ الدعوةَ بشِعرِهِ كما لا يَنْشُرُهَا أحدٌ غيرُهُ لا يملِكُ هذه المَوْهِبَةَ. (¬2) الرِّحَالُ: يعنِي الدُّورُ والمَسَاكِنُ والمنازل. انظر لسان العرب (5/ 169). (¬3) أي قَلّ المَشْيُ، وقلَّتْ حركَةُ النَّاس. (¬4) تَسَلَّلَ: انطلَقَ في استِخْفَاءٍ. انظر لسان العرب (6/ 338). (¬5) القَطَا: طائِرٌ مَعْرُوف، سُمي بذلك لثِقَلِ مَشْيِهِ. انظر لسان العرب (11/ 233).

* استيثاق العباس للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ وعزم الأنصار على البيعة

وَسَبْعُونَ، فِيهِمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِم وَأَشْرَافِهِم، وَثَلَاثُونَ شَابًّا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا: نُسَيبةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ (¬1)، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بنِ النَّجَارِ، وَأَسْمَاءُ (¬2) بِنْتُ عَمرٍو أُمُّ مَنِيعٍ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ. * اسْتِيثَاقُ العَبَّاسِ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ وَعَزْمُ الأَنْصَارِ عَلَى البَيْعَةِ: وَاجْتَمَعَت الأَنْصَارُ بِالشِّعبِ يَنتظِرُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابنَ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقَ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ قَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ المَوْضعِ وَمَعَهُ عَمُّهُ العَبَّاسُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ طَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَافِعُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا نَظَرَ العَبَّاسُ فِي وُجُوهِهِم قَالَ: هؤُلَاءَ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ، هَؤُلَاءِ أَحدَاثٌ (¬3). وَبَعْدَ أَنْ تَكَامَلَ المَجْلِسُ بَدَأَتْ المُحَادَثَاتُ لِإِبْرَامِ التَّحَالُفِ الدِّيِنِّي وَالعَسْكَرِيِّ، وَكَانَ أَوَّلَ المُتَكَلِّمِينَ هُوَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، تَكَلَّمَ لِيَشْرَحَ لَهُمْ -بِكُلِّ صَرَاحَةٍ- خُطُورَةَ المَسْؤُوليَّةِ التِي سَتُلْقَى عَلَى ¬

_ (¬1) هي نُسَيْبَةُ بنتُ كَعْبِ بن عَمْرٍو الفاضلة المُجَاهدة الأنصارية الخزرجية النَّجَّارية المَازِنِيَّة المدنيَّة أمُّ عُمَارة، مشهُورَةٌ بكُنْيَتِهَا واسمها معًا. شهِدَت العقبةَ، وشهدت أُحُدًا، والحديبيةَ، ويومَ حُنَيْن، ويوم اليمامةِ، وجاهدَت، وقُطِعَتْ يَدُها في الجِهاد. انظر سير أعلام النبلاء (2/ 278). (¬2) هي أسماءُ بنتُ عمرٍو الأنصارية السُّلَمية، أم مُعَاذِ بن جَبَل -رضي اللَّه عنه-، وكنيتُها أم مَنِيع، شهدَت العقبة الثانية. انظر الإصابة (8/ 14). (¬3) أحدَاثٌ: جمعُ حَدَثٍ أي شَبَاب. انظر لسان العرب (3/ 76).

كَوَاهِلِهِمْ (¬1) نَتِيجَةَ هَذَا التَّحَالُفِ. فَقَالَ العَبَّاسُ؛ يَا مَعشَرَ الخَزْرَجِ -وَكَانَتِ العَرَبُ يُسَمُّونَ هَذَا الحَيَّ مِنْ الأنْصَارِ خَزْرَجَها وَأَوْسَهَا- إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ، فهُوَ في عِزٍّ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَنَعَةٍ (¬2) فِي بَلَدِهِ، وإنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْحِيَازَ إِلَيْكُمْ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ له بِمَا دَعَوتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الخُرُوجِ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَمِنَ الآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ. قَالَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ، فتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ (¬3). فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَلَا عَلَيْنَا القُرْآنَ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَغَّبَ فِي الإِسْلَامِ، فَأَجَبْنَاهُ، وَصَدَّقْنَاهُ، وَآمَنَّا بِهِ، وَرَضِينَا بِمَا قَالَ، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي العُسْرِ وَاليُسْرِ، وَعَلَى الأمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا يَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ يَثْرِبَ، فتَمْنَعُونِي ¬

_ (¬1) الكَوَاهِلُ: جمعُ كَاهِلٍ، وهو مُقَدَّمُ أعلَى الظَّهْرِ. انظر لسان العرب (12/ 179). (¬2) مَنَعَةٌ: أي قُوَّةٌ تَمْنَعُ مَن يريدُه بِسُوءٍ. انظر لسان العرب (13/ 195). (¬3) قال الشيخُ صفيُّ الرحمن المباركفُورِي في الرحيق المختوم ص 148: وهذا الجواب يدلُّ على ما كانوا عليه من عَزْمٍ وتصمِيمٍ، وشجاعَةٍ وإيمانٍ وإخلاصٍ في تحمُّل هذه المسؤُوليَّةِ العظِيمة، وتحمل عَوَاقِبها الخَطِيرة.

مِمَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الجَنَّةُ". فأَخَذَ البَرَاءُ بنُ مَغرُورٍ -رضي اللَّه عنه- بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَنَمْنَعَكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا (¬1)، فبايِعنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ أَهْلُ الحُرُوبِ، وَأَهْلُ الحَلْقَةِ (¬2)، وَرِثْنَاها كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَاعْتَرَضَ القَوْلَ -وَالبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو الهَيْثَمِ بنُ التَّيِّهَانِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ -يَعنِي اليَهُودَ- حِبَالًا (¬3)، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهرَكَ اللَّهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ . فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ: "بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالهَدْمُ الهَدْمُ (¬4)، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ". فَقَالَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ابْسُطْ يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نُبَايِعْكَ. ¬

_ (¬1) أُزُرَنا: أي نِسَاءنا وأهلنا، كنى عنهُن بالأُزُرِ، وقيل: أرادَ أنفُسَنا، وقد يُكنى عن النفس بالإزَارِ. انظر النهاية (1/ 47). (¬2) الحَلْقَة: بسكون اللام السلاح وقيل الدُّرُوع. انظر النهاية (1/ 410). (¬3) حِبَالًا: أي عُهُودًا ومَوَاثِيق. انظر النهاية (1/ 321). (¬4) الهَدْمُ: يُروى بسكون الدال وفتحها، فالهَدَم بالتحريك: القَبْر يعني إني أُقبَر حيث تُقْبَرون. وقيل: هو المَنْزِل: أي منزلُكم مَنزلي، لا أفَارِقُكم. والهدم بالسكون وبالفتح أيضًا: هو إهدَارُ دَمِ القَتِيل. والمعنى: إن طُلِبَ دَمُكم فقد طُلِبَ دمي، وإن أُهدر دمُكم فقد أُهدِرَ دمي، لاستِحْكَامِ الألفَةِ بَيْنَنَا، وهو قول معروفٌ للعرَبِ، يقولون: دَمِي دمُكَ وهَدْمي هَدْمُكَ، وذلك عند المُعَاهدَة والنُّصْرَة. انظر النهاية (5/ 218).

* انتخاب النقباء وعقد البيعة

* انْتِخَابُ النُّقَبَاءِ (¬1) وَعَقْدُ البَيْعَةِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَخْرِجُوا إِلَيَّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ". فتَمَّ انْتِخَابُهُم فِي الحَالِ، وَكَانُوا تِسْعَةً مِنَ الخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنَ الأوْسِ، وَهاكَ أَسْمَاءَهُم: * نُقَبَاءُ الخَزْرَجِ: • نَقِيبُ بَنِي النَّجَارِ: 1 - أَسْعَدُ بن زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-. • نَقِيبُ بَنِي سَلِمَةَ: 2 - البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- 3 - عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- • نَقِيبُ بَنِي سَاعِدَةَ: 4 - سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- 5 - المُنْذِرُ بنُ عَمرٍو -رضي اللَّه عنه-. • نَقِيبُ بَنِي زُرَيْقٍ: 6 - رَافِعُ بنُ مَالِكِ بنِ العَجْلَانِ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) النُّقَبَاءُ: جمعُ نَقِيبٍ، وهو كالعَرِيفِ على القومِ المُقَدَّم عليهم، الذي يَتعَرَّف أخبارهم. انظر النهاية (5/ 88).

* نقباء الأوس

• نَقِيبُ بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ: 7 - عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- 8 - سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-. • نَقِيبُ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفِ بنِ الخَزْرَجِ: 9 - عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه-. * نُقَبَاءُ الأوْسِ: • نَقِيبُ بَنِي عَبْدِ الأشْهَلِ: 10 - أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-. • نَقِيبُ بَنِي عَمرِو بنِ عَوْفٍ: 11 - سَعْدُ بنُ خَيْثَمَةَ -رضي اللَّه عنه- 12 - رِفَاعَةُ بنُ عَبْدِ المُنْذِر -رضي اللَّه عنه- (¬1). * التَّأْكِيدُ مِنْ خُطُورَةِ البَيْعَةِ: وَبَعْدَ أَنْ تَمَّت المُحَادَثَةُ حَوْلَ شُرُوطِ البَيْعَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى الشُّرُوعِ فِي عَقْدِهَا، قَامَ رَجُلَانِ مِنَ الرَّعِيلِ الأوَّلِ مِمَّنْ أَسْلَمَ فِي مَوَاسِمِ سَنَتَيْ الحَادِيَةِ عَشْرَةَ، وَالثَّانِيَةِ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ، قَامَ أَحَدُهُمَا تِلْوَ الآخَرِ، لِيُؤَكِّدَا لِلْقَوْمِ خُطُورَةَ المَسْؤُوليَّةِ، حَتَّى لَا ويبايِعُوهُ إِلَّا عَلَى وُضُوحٍ مِنَ الأمْرِ، وَليَعْرِفَا مَدَى اسْتِعْدَادِ القَوْمِ لِلتَّضْحِيَةِ (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن هشام في السيرة (2/ 58): وأهلُ العِلمِ يَعُدُّونَ فيهم أبا الهَيْثَم بن التيِّهان، ولا يعُدُّونَ رِفَاعة. (¬2) انظر الرحيق المختوم ص 150.

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا اجْتَمُعوا لِلْبَيْعَةِ، قَالَ العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه-: يَا مَعْشَرَ الخَزْرَجِ! هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تبايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكُمُ تبايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نُهِكَتْ (¬1) أَموَالَكُمْ مُصِيبَةٌ، وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمتُمُوهُ، فَمِنَ الآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُم خِزْيُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى نُهِكَةِ الأمْوَالِ، وَقَتْلِ الأشْرَافِ، فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الأمْوَالِ، وَقَتْلِ الأشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَّيْنَا؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجَنَّةُ"، قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ. وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ عِنْدَ ابنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ: فَأَخَذَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- بِيَدِ رِسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ أَصغَرُ السَّبْعِينَ- وَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ المَطِيِّ (¬2) إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ اليَوْمَ مُفَارَقَةُ العَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُم، وَأَنْ ¬

_ (¬1) النَّهَكُ: النَّقْصُ. انظر النهاية (5/ 121). (¬2) المَطِيُّ: جمع مَطِيَّة، وهي النَّاقة التي يُركَبُ مَطَاها: أي ظَهْرها. انظر النهاية (4/ 290). يُقال: فلانٌ تَضْرِب إليه أكبادُ الإبل: أي يُرحل إليهِ في طَلَبِ العلمِ وغَيره. انظر لسان العرب (8/ 36).

* أول من بايع

تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ (¬1)، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ العَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالُوا: يَا أَسْعَدُ! أَمِطْ (¬2) عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هذه البَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا (¬3). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلنُّقَبَاءِ: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كفَلَاءُ، كَكَفَالَةِ الحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي" -يَعنِي المُسْلِمِينَ-، قَالُوا: نَعَمْ. فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا رَجُلًا، يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ بِشَرطِهِ -أَيْ بِشَرْطِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، وَيُعْطِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ الجَنَّةَ (¬4). * أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايعَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ¬

_ (¬1) أعضَضْتُهُ سَيْفِي: أي ضَرَبْتُه به. انظر لسان العرب (9/ 256). (¬2) أَمِطْ: أيْ أبْعِد. انظر النهاية (4/ 325). (¬3) استَقَالَ العَهْدَ: أي طَلَبَ أن يُفْسَخَ. انظر لسان العرب (11/ 288). (¬4) أخرج قصة بيعة العقبة الثانية: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14653) (15798) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -رضي اللَّه عنه- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أسعد بن زرارة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7011) (7012) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 52 - وما بعدها) - وأوردها الحافظ في الإصابة (8/ 14) وصحح إسنادها - وهو كما قال.

* بيعة المرأتين

مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسن عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ تَتَابَعَ القَوْمُ (¬1). وَرَوَى الحَاكِمُ فِي المُسْتدرَكِ بِسَندٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي البِيْعَةِ لَهُ لَيْلَةَ العَقَبَةِ (¬2). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ لَيْلَتَئِذٍ البَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَتْ لَهُ اليَدُ البَيْضَاءُ، إِذْ أَكَّدَ العَهْدَ، وَبَادَرَ إِلَيْهِ (¬3). * بَيْعَةُ المَرْأَتيْنِ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ المَرأَتيْنِ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ مُصَافَحَةٍ، لأنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ (¬4)، وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِنَّ، فَإِذَا أَقْرَرْنَ قَالَ: "اذْهَبْنَ فَقَدْ بَايَعتُكُنَّ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15798). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كَانَ أوّل من تكَلَّم من النُّقباء البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4886). (¬3) انظر زاد المعاد (3/ 43). (¬4) روى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5288) - (7214) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1866) - عن عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قالت: واللَّه ما مسَّت يدُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَ امرأةٍ قَط، غير أنه بايعهن بالكلام، واللَّه ما أخَذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على النِّساء إلا بما أمره اللَّه، يقول لهن إذا أخذ عليهن: "قد بايَعتُكنَّ" كَلامًا. (¬5) انظر سيرة ابن هشام (2/ 79) - الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 440).

* شيطان يكتشف المعاهدة

* شَيْطَانٌ يَكْتَشِفُ المُعَاهَدَةَ: قَالَ كعبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ العَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الجَبَاجِبِ -وَالجَبَاجِبُ: المَنَازِلُ- هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ (¬1) وَالصُّبَاةُ (¬2) مَعَهُ؟ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا أَزَبُّ (¬3) العَقَبَةِ، هَذَا ابنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرَغَنَّ لَكَ". * صِدْقُ الأَنْصَارِ -رضي اللَّه عنهم- فِي بَيْعَتِهِمْ: فَقَالَ العَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنَ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه- لَلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ ارجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ". ¬

_ (¬1) روى الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب ما جاء في أسماء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3533) - عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا تَعْجَبُونَ كيفَ يَصْرِفُ اللَّه عني شَتْمَ قُرَيْشٍ ولعنَهُمْ؟ يشتُمُون مُذَمَّمًا، ويلعَنُونَ مُذَمَّمًا، وأنا مُحَمَّد". قَالَ الحافظ في الفتح (7/ 250): كان الكفارُ من قُرَيش من شِدَّة كَرَاهتِهِم في النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُسَمُّونه باسمه الدَّالِّ على المدحِ فيعدِلُونَ إلى ضِدِّه فيقولون مُذَّمم، وإذا ذكرُوهُ بِسُوءٍ قالوا: فعل اللَّهُ بمذمَّم، ومذمَّمٌ ليس هو اسمه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا يُعرف به فكان الذي يَقَع منهم في ذلك مَصْرُوفًا إلى غيره. (¬2) يُقال: صَبَأَ فُلان: إذا خَرج من دِينٍ إلى دِين غيره، وكانت العرب تُسمي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّابِئَ، لأنه خرج من دِين قريش إلى دين الإسلام. انظر النهاية (3/ 3). (¬3) أَزَبُّ العقَبَة: اسم شَيْطَانٍ كان بالعَقَبَة. انظر النهاية (1/ 46).

* قريش تبحث عن الأخبار عند رؤساء يثرب

فَرَجَعُوا إِلَى رِحَالهم وَنَامُوا حَتَّى أصبَحُوا (¬1). * قُرَيْشٌ تَبْحَثُ عَنِ الأخْبَارِ عِنْدَ رُؤَسَاءِ يَثْرِبَ: وَلَمَّا قَرَعَ هَذَا الخَبَرُ آذَانَ قُرَيْشٍ وَقَعَتْ فِيهِمْ ضَجَّة أثَارَتِ القَلَاقِلَ وَالأحْزَانَ، لأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَعرِفَةٍ تَامَّةٍ مِنْ عَوَاقِبِ مِثْلِ هَذِهِ البَيْعَةِ وَنتائِجِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَمَا إِنْ أَصْبَحُوا حَتَّى تَوَجَّة وَفْدٌ كَبِيرٌ مِنْ زُعَمَاءَ مَكَّةَ وَأَكَابِرِ مُجْرِمِيهَا إِلَى مَنَازِلِ أَهْلِ يَثْرِبَ فِي مِنًى، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الخَزْرَجِ! إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا (¬2) هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ العَرَبِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا أَنْ تَنْشُبَ الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ (¬3). فَانْبَعَثَ مِنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي الخَزْرَجِ يِحْلِفُونَ بِاللَّهِ: مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَمَا عَلِمْنَاهُ، حَتَّى إِنَّهُم -أَيْ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ- أَتوْا عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا بَاطِلٌ، وَمَا كَانَ هَذَا، وَمَا كَانَ قَوْمِي لِيَفْتَاتُوا (¬4) عَلَيَّ مِثْلَ هَذَا، لَوْ كُنْتُ بِيَثْرِبَ مَا صَنَعَ قَوْمِي هَذَا حَتَّى يُؤَامِرُوني. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15798) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 61) وإسناده حسن. (¬2) أي الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) أخرج ذلك: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15798) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 61) وإسناده حسن. (¬4) افتَاتَ عليهِ: إذا انفَرَد بِرَأيه دونه في التصرف فيه. انظر النهاية (3/ 429).

* تأكد قريش من صحة الخبر وملاحقتها المبايعين

أَمَّا المُسْلِمُونَ فنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَاذُوا بِالصَّمْتِ، فَلَمْ يَتَحَدَّثْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ. وَصَدَّقَ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ المُشْرِكِينَ مِنْ يَثْرِبَ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ (¬1) * تَأَكُّدُ قُرَيْشٍ مِنْ صِحَةِ الخَبرِ وَمُلَاحَقَتُهَا المُبَايِعِينَ: وَنَفَرَ (¬2) النَّاسُ مِنْ مِنًى، فتَنَطَّسَتْ (¬3) قُرَيْشٌ الخَبَرَ، فَوَجَدُوا أَنَّ الخَبَرَ صَحِيحٌ، وَالبَيْعَةُ قَدْ تَمَّتْ فِعلًا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِ القَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ، وَالمُنْذِرَ بنَ عَمرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا، فَأَمَّا المُنْذِرُ بنُ عَمرٍو فَأَعْجَزَ القَوْمَ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يَفِرَّ، وَأَمَّا سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ فَأَخَذُوهُ، فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ يَضْرِبُونَهُ، وَيَجْذِبُونَهُ بِشَعْرِهِ، وَكَانَ ذَا شَعْرٍ كَثِيرٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ إِذْ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ القَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ هَذَا، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا وَاللَّهِ مَا عِنْدَهُم بَعْدَ هَذَا مِنْ خَيْرٍ، قَالَ سَعدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِم يَسْحَبُونَنِي إِذْ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15798) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 449) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 61) وإسناده حسن. (¬2) النَّفْرُ: التَّفَرُّق. انظر لسان العرب (14/ 231). (¬3) كلُّ من تَأَنَّقَ في الأمور، ودقَّق النظر فيها: فهو نَطِسٌ ومُتَنَطِّسٌ. انظر النهاية (5/ 63).

آوَى (¬1) لِي رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُم، فَقَالَ: وَيْحَكَ! ! أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهْدٌ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: بَلَى وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِحُبَيْرِ بنِ مُطْعِمِ بنِ عَدِيٍّ تُجَّارَهُ، وَأَمْنَعُهُم مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُم بِبلَادِي، وَلِلْحَارِثِ بنِ حَرْبِ بنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! ! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُر مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا، قَالَ: فَفَعَلْتُ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي المَسْجِدِ عِنْدَ الكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ رَجُلًا مَنَ الخَزْرَجِ الآنَ يُضْرَبُ بِالأَبْطَحِ (¬2) يَهْتِفُ بِكُمَا، وَيَذْكُرُ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمَا جِوَارًا، قَالَا: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، قَالَا: صَدَقَ وَاللَّهِ، إِنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تُجَّارَنَا، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ، قَالَ: فَجَاءَا فَخَلَّصَا سَعدًا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم، فَانْطَلَقَ، وَكَانَ الذِي لَكَمَ سعْدًا، سُهيْلُ بنُ عَمرٍو (¬3)، وَالرَّجُلُ الذِي آوَى لَهُ أَبَا البَخْتَرِيِّ بنَ هِشَامٍ (¬4). وَكَانَتِ الأَنْصَارُ ائْتَمَرَتْ حِينَ فَقَدُوا سَعْدًا -رضي اللَّه عنه-، أَنْ يَكُرُّوا (¬5) إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ، فَرَحَلَ القَوْمُ جَمِيعًا إِلَى المَدِينَةِ (¬6). ¬

_ (¬1) آوى له: أي رَقَّ ورَحمَ. انظر لسان العرب (1/ 275). (¬2) الأبطُح: هو أبْطُح مكة، وهو مَسِيلُ وَادِيها. انظر النهاية (1/ 134). (¬3) سُهيل بن عَمرو أسلم -رضي اللَّه عنه- في فتح مكة وحسن إسلامه. (¬4) أبو البُخْتُرِي بن هشام قُتِل كَافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬5) الكَرُّ: الرُّجوع. انظر لسان العرب (12/ 64). (¬6) أخرج تفاصيل بيعة العقبة الثانية: الإمام أحمد في مسنده بأسانيد قوية وحسنة - رقم الحديث (15798) - (14653) - (14456) - وابن حبان في صحيحه بسند صحيح =

* وهم ابن إسحاق

* وَهْمُ ابنِ إِسْحَاقَ: ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَايَعَ الأنْصَارَ فِي العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ بَيْعَةَ الحَربِ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي القِتَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الحَرْبِ، فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا، وَبَايَعَهم رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي العَقَبَةِ الأخِيرَةِ عَلَى حَربِ الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ أَخَذَ لِنَفْسِهِ وَاشْترَطَ عَلَى القَوْمِ لِرَبِّهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ عَلَى الوَفَاءَ بِذَلِكَ الجَنَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي القِتَالِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (¬1). وَهذَا مِنْ أَوْهامِ ابنِ إِسْحَاقَ عَلَى جَلَالَتِهِ، فَالجِهادُ لَمْ يُشْرَع إِلَّا فِي السَّنَةِ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى هَذَا الوَهْمِ ابنُ هِشَامٍ أَيْضًا. وَلَيْسَ أَدَلُّ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ قَبْلَ العَقَبَةِ مِنْ أَنَّ العَبَّاسَ بنَ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ" (¬2). ¬

_ = على شرط مسلم - كتاب التاريخ - باب وصف بيعة الأنصار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة العقبة - رقم الحديث (6274) - وكتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة -رضي اللَّه عنهم- باب ذكر أسعد بن زرارة -رضي اللَّه عنهم- رقم الحديث (7012) - وباب ذكر البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7011) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 52) وما بعدها - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 442). (¬1) سورة الحج - آية (39) - وانظر الخبر في سيرة ابن هشام (2/ 81). (¬2) أخرج ذلك: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15798) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 61) - وإسناده حسن.

* فضل من شهد بيعة العقبة الثانية

* فَضْلُ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ العَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَد بَدْرٍ (¬1)، وَإِنْ كَانَتْ بَدرٌ أَذْكَرَ (¬2) فِي النَّاسِ مِنْهَا (¬3). قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الرَّحْمَنِ المُبَارَكْفُورِي: هَذِهِ هِيَ بَيْعَةُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ -التِي تُعْرَفُ بِبَيْعَةِ العَقَبَةِ الكُبْرَى- وَقَدْ تَمَّتْ فِي جَوٍّ تَعلُوهُ عَوَاطْفُ الحُبِّ وَالوَلَاءِ وَالتَّنَاصُرِ بَيْنَ أَشْتَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَالثِّقَةَ وَالشَّجَاعَةِ وَالِاسْتِبْسَالِ فِي هَذَا السَّبِيلِ، فَمُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ يَحْنُو عَلَى أَخِيهِ المُسْتَضْعَفِ فِي مَكَّةَ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُ، وَيَغْضَبُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَتَجِيشُ (¬4) فِي حَنَايَاهُ مَشَاعِرُ الوُدِّ لِهذَا الأَخِ الذِي أَحَبَّهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ المَشَاعِرُ وَالعَوَاطِفُ نَتِيجَةَ نَزْعَةٍ عَابِرَةٍ تَزُولُ عَلَى مَرِّ الأيَّامِ، بَلْ كَانَ مَصْدَرُهَا هُوَ الإيمَانَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وِبِكِتَابِهِ، إِيمَانٌ لَا يَزُولُ أَمَامَ أَيِّ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 624): لأن مَن شهِدَ غزوة بدر كان كان فاضلًا بِسَبَب أنها أول غزوة نُصِرَ فيها الإسلام، لكن بَيْعَةَ العقبة كانت سَببًا في فَشُوِّ الإسلام، ومنها نشَأَ مشهدُ بدرٍ. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 624): أي أكثر ذِكرًا بالفَضْلِ، وشهرَةً بين الناس. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب وفود الأنصار إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة - رقم الحديث (3889) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769). (¬4) تجيش: تفيض. انظر لسان العرب (2/ 435).

قُوَّةٍ مِنْ قُوَّاتِ الظُّلْمِ وَالعُدْوَانِ، إِيمَانٌ إِذَا هَبَّتْ رِيحُهُ جَاءَتْ بِالعَجَائِبِ فِي العَقِيدَةِ وَالعَمَلِ، وَبِهَذَا الإِيمَانِ اسْتَطَاعَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُسَجِّلُوا عَلَى أَوْرَاقِ الدَّهْرِ أَعمَالًا، وَيتْرُكُوا عَلَيْهَا آثارًا، خَلَا عَنْ نَظَائِرهَا، الغَابِرُ وَالحَاضِرُ، وَسَوْفَ يَخْلُو المُسْتَقْبَلُ (¬1). وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: تِلْكم بَيْعَةُ العَقَبَةِ، وَمَا أُبْرِمَ (¬2) فِيهَا مِنْ مَوَاثِيقَ، وَمَا دَارَ فِيهَا مِنْ مُحَاوَرَاتٍ. . . إِنَّ رُوحَ اليَقِينِ وَالفِدَاءِ وَالِاسْتِبْسَالِ سَادَتْ هَذَا الجَمْعَ وَتَمَشَّتْ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ قِيلَتْ، وَبَدَا أَنَّ العَوَاطِفَ الفَائِرَةَ لَيْسَتْ وَحدها التِي توجِّهُ الحَدِيثَ أَوْ تُمْلِي العُهُودَ كَلَّا، فَإِنَّ حِسَابَ المُسْتَقْبَلِ رُوجعَ مَعَ حِسَابِ اليَوْمِ، وَالمَغَارِمُ (¬3) المُتَوَقَّعَةُ نُظِرَ إِلَيْها قَبْلَ المَغَانِمِ المَوْهُومَةِ. مَغَانِمُ؟ أَيْنَ مَوْضُوعُ المَغَانِمِ فِي هذه البَيْعَةِ؟ لقد قَامَ الأَمْرُ كُلُّهُ عَلَى التَّجَرُّدِ المَحْضِ وَالبَذْلِ الخَالِصِ. هؤُلَاءَ السَّبْعُونَ مُثَلٌ لِانْتِشَارِ الإِسْلَامِ، عَنْ طَرِيقِ الفِكْرِ الحُرِّ وَالِاقْتِنَاعِ الخَالِصِ. فَقَدْ جَاءُوا مِنْ يَثْرِبَ مُؤْمِنِينَ أَشَدَّ الإيمَانِ، وَمُلَبِّينَ دَاعِيَ التَّضْحِيَةِ، مَعَ أَنَّ مَعرِفتَهُم بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ لَمحَةً عَابِرَةً، غَبَرَتْ عَلَيْهَا الأيَّامُ، وَكَانَ الظَّنُّ بِهَا ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 154. (¬2) أبرَمَ الأمرَ: أحكمَهُ. انظر لسان العرب (1/ 391). (¬3) المَغْرَمُ: هو الدَّين. انظر لسان العرب (10/ 59).

* إسلام عمرو بن الجموح -رضي الله عنه-

أَنْ تَزُولَ، لَكِنَّنَا لَا يَجُوزُ أَنْ نَنْسَى مَصْدَرَ هَذِهِ الطَّاقةِ المُتَأَجِّجَةِ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالثِّقَةِ، إِنَّهُ القُرْآنُ! ! لَئِنْ كَانَ الأَنْصَارُ قَبلَ بَيْعَتِهِمْ الكُبْرَى لَمْ يَصْحَبُوا الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا لِمَامًا (¬1) فَإِنَّ الوَحْيَ المُشِّعَ مِنَ السَّمَاءِ أَضَاءَ لَهُمُ الطَّرِيقَ، وَأَوْضَحَ الغَايَةَ (¬2). * إِسْلَامُ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- (¬3): لَمَّا رَجَعَ الأَنْصَارُ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليْلَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى المَدِينَةِ أَظْهرُوا الإِسْلَامَ بِهَا، وَدَعَوْا أَهْلِيهِم إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي قَوْمِهِم بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينهِم مِنَ الشِّرْكِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذٌ شَهِدَ العَقَبَةَ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَا. وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ اتَّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مَنْ خَشَبٍ، يُقَالُ له (مَنَاةٌ)، كَمَا كَانَ الأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ: مُعْاذُ بنُ جَبَلٍ، وَابْنُهُ مُعَاذُ بنُ عَمْرٍو، فِي فِتْيَان مِنْهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ العَقَبَةَ، كَانُوا يُدْلِجُونَ (¬4) بِاللَّيْلِ عَلَى ¬

_ (¬1) اللِّمام: اللقاء اليسير. انظر لسان العرب (12/ 333). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه اللَّه تعالى ص 148. (¬3) هو عمرُو بن الجَمُوح الأنصاري الخَزْرَجِي، كان -رضي اللَّه عنه- أعْرَجًا، وشَهِدَ بَدرًا في قول، ولم يذكره ابن إسحاق فيهم، واستشهِدَ في أُحُدٍ. ودفن هو وعبد اللَّه بن عمرو بن حرامٍ في قبْرٍ واحدٍ. وكان عمرُو بن الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- كَرِيمًا جَوَادًا، سَيِّدًا من ساداتِ الأنصار، وشريفًا من أشرافهم. انظر الإصابة (4/ 506). (¬4) الدُّلجَةُ: سَيْرُ الليل. انظر النهاية (2/ 120).

صَنَمِ عَمرِو بنِ الجَمُوحِ، فَيَحْمِلُونَهُ، فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلِمَةَ، وَفِيهَا عِذَرُ (¬1) النَّاسِ، مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أصبَحَ عَمْرٌو، قَالَ: وَيْلَكُمْ! ! مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ ثُمَّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ، حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلصَّنَمِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعلَمُ مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا لَأُخْزِيَنَّهُ، فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَغْدُو فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الأَذَى، فَيُغَسِّلُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُطَيِّبُهُ، ثُمَّ يَعْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى، فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَكْثروا عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ يَوْمًا، فَغَسَّلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِلصَّنَمِ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا أَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ، فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّيْفَ فِي عُنقهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيْتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلٍ، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عِذَرُ النَّاسِ، وَغَدَا عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الذِي كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتَّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ البِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيْتٍ، فَلَمَّا رَآهُ وَأَبْصَرَ شَأْنَهُ، وَبَانَ له صَوَابُهُ، وَرَجَعَ إِلَيْه عَقْلُهُ، وَعَلِمَ أَنَّهَا أَصْنَامٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، فَمَا إِنْ كَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى أَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ حِينَ اسْتَبَانَ له الرُّشْدُ، يَذْكُرُ صَنَمَهُ هَذَا، وَمَا كَانَ ¬

_ (¬1) العَذِرَةُ: الغَائِطُ الذي يُلْقِيهِ الإنسان. انظر النهاية (3/ 180).

مِنْ أَمرِهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ الذِي أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ العَمَى وَالضَّلَالَةِ: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ (¬1) أُفٍ لِمَلْقَاكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ (¬2) ... الآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الغَبَنْ (¬3) الحَمْدُ للَّهِ العَلِيِّ ذِي المِنَنْ ... الوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ هُوَ الذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ بِأَحْمَدَ المَهْدِيِّ النَّبِيِّ المُؤْتَمَنْ (¬4) * * * ¬

_ (¬1) القَرَنُ: بالتحريك الحَبْلُ. انظر لسان العرب (11/ 139). (¬2) المُسْتَدنِ: الدَّني الخَسِيس. انظر لسان العرب. (¬3) الغَبَن: السَّفَه. انظر الروض الأنف (2/ 279). (¬4) انظر قصة إسلام عمرو بن الجموح -رضي اللَّه عنه- في: سيرة ابن هشام (2/ 65) - الروض الأنف (2/ 278) - سبل الهدى والرشاد (3/ 222).

خصائص المدينة المنورة

خَصَائِصَ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ قَبْلَ أَنْ نَدخُلَ فِي أَمرِ الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، نتكَلَّمُ عَنْ خَصَائِصِ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ أَوَّلًا. كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اخْتِيَارِ المَدِينَةِ دَارًا لِلْهِجْرَةِ، وَمَرْكَزًا لِلدَّعوَةِ، عَدَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِكْرَامِ أَهْلها، وَأَسْرَار لَا يَعلَمُها إِلَّا اللَّهُ أُمُورٌ، مِنْهَا: 1 - أَنَّهَا امْتَازَتْ بِتَحَصُّنٍ طَبِيعِيٍّ حَربِيٍّ، لَا تُزَاحِمُها فِي ذَلِكَ مَدِينَةٌ قَرِيبَةٌ فِي الجَزِيرَةِ، فكَانَتْ حَرَّةُ (¬1) الوَبْرَةِ مُطْبِقَةً عَلَى المَدِينَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الغَرْبِيَّةِ، وَحَرُّة وَاقِمٍ مُطْبِقَةً عَلَى المَدِينَةِ مَنَ النَّاحِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَكَانَتِ المَنْطِقَةُ الشَّمَالِيَّةُ مِنَ المَدِينَةِ، هِيَ النَّاحِيَةَ الوَحِيدَةُ المَكْشُوفَةُ (¬2). 2 - كَانَتِ الجِهاتُ الأُخْرَى مِنْ أَطْرَافِ المَدِينَةِ مُحَاطَةً بِأَشْجَارِ النَّخِيلِ، وَالزُّرُوعِ الكَثِيفَةِ، لَا يَمُرُّ مِنْهَا الجَيْشُ إِلَّا فِي طُرُقٍ ضَيِّقَةٍ، لَا يَتَّفِقُ فِيهَا النِّظَامُ ¬

_ (¬1) الحَرَّةُ: هي الأرضُ ذاتُ الحِجَارة السُّود، يمتنع فيها المَشْي بالأقدام، ومشي الإبل والخيل، فضلًا عن مُرُور الجيش. انظر النهاية (1/ 351). (¬2) وهي التي حَصَّنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالخندَق سنة خمس من الهجرة في غزوة الخندق، كما سيأتي عند الحديث عن غزوة الخندق.

العَسْكَرِيُّ وَتَرْتِيبُ الصُّفُوفِ. 3 - كَانَتْ خَفَارَاتٌ عَسْكَرِيَّةٌ صَغِيرَةٌ، كَافِيَةً لإِفْسَادِ النِّظَامِ العَسْكَرِيِّ، وَمَنْعِهِ مِنَ التَّقَدُّمِ، يَقُولُ ابنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَحَدُ جَانِبَيِ المَدِينَةِ عَوْرَةً وَسَائِرُ جَوَانِبِهَا مُشَكَّكَةً بِالبُنْيَانِ وَالنَّخِيلِ، لَا يَتَمَكَّنُ العَدُوُّ مِنْهَا. وَلَعَلَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَشَارَ إِلَى هَذِهِ الحِكْمَةِ الإِلهِيَّةِ في اخْتِيَارِ المَدِينَةِ بِقَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ قَبْلَ الهِجْرَةِ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابتَيْنِ (¬1) " -وَهُمَا الحَرَّتَانِ- فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَل المَدِينَةِ. 4 - كَانَ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنَ الأوْسِ وَالخَزْرَجِ أَصْحَابَ نَخْوَةٍ (¬2) وَإِبَاءٍ (¬3) وَفُرُوسِيَّةٍ، وَقُوَّةٍ، وَشَكِيمَةٍ (¬4)، ألِفوا الحُرِّيَّةَ، وَلمْ يَخْضَعُوا لِأَحَدٍ، وَلمْ يَدْفعُوا إِلَى قَبِيلَةٍ أَوْ حُكُومَةٍ إِتَاوَةً (¬5) أَوْ جِبَايَةً (¬6)، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا في الكَلِمَةِ التِي قَالَهَا سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- سَيِّدُ الْأَوْسِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ: قَدْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الكفالة - باب جوار أبي بكر في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعقده - رقم الحديث (2297) - وكتاب المناقب - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905). (¬2) يُقال: رجل فيه نَخْوَة: أي أنَفَة وحَمِيَّة وكِبْرٌ. انظر النهاية (5/ 29). (¬3) الإبَاء: هو أشدُّ الامتناع. انظر النهاية (1/ 24). (¬4) يُقال: فلان شديد الشَّكِيمَةِ إذا كان عزِيزَ النفس أبِيًّا قَوِيًّا. انظر النهاية (2/ 444). (¬5) الإتَاوَةُ: الرشوَةُ والخَرَاج. انظر لسان العرب (1/ 67). (¬6) الجِبَايَةُ: هي استخراجُ الأموالِ من مَظَانِّها. انظر لسان العرب (2/ 174).

كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ القَوْمُ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ، وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا تَمْرَةً إِلَّا قِرًى (¬1) أَوْ بَيْعًا (¬2). وَجَاءَ في العِقْدِ الفَرِيدِ: وَمِنَ الأَزْدِ الأَنْصَارُ، وَهُمُ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ، وَهُمَا ابْنَا حَارِثَةَ بنِ عَمْرِو بنِ عَامِرٍ، وَهُمْ أَعزُّ النَّاسِ أَنْفُسًا، وَأَشْرَفُهُمْ هِمَمًا، وَلَمْ يُؤَدُّوا إِتَاوَةً قَطُّ إِلَى أَحَدِ المُلُوكِ (¬3). فكَانَتِ المَدِينَةُ -لِكُلِّ ذَلِكَ- أَصْلَحَ مَكَانٍ لهِجْرَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ، وَاتِّخَاذِهِمْ لَهَا دَارًا وَقَرَارًا، حَتَّى يَقْوَى الإِسْلَامُ، وَيَشُقَّ طَرِيقَهُ إِلَى الأَمَامِ، وَيَفْتَحَ الجَزِيرَةَ، ثُمَّ يَفْتَحَ العَالَق المُتَمَدِّنَ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) القِرَى: ما يُصنع للضيْفِ من الطعام. انظر لسان العرب (11/ 149). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 246). (¬3) انظر العقد الفريد (3/ 297). (¬4) انظر السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي رحمه اللَّه تعالى ص 158.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون [2]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للمؤلف فهرسة مكتبة الكويت الوطنية أثْنَاء النشر 239 العازمي، مُوسَى بن رَاشد. اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون: دراسة مُحَققَة للسيرة النَّبَوِيَّة (الْجُزْء الثاني) تأليف مُوسَى بن رَاشد العازمي - ط 1 - الكويت: مُوسَى بن رَاشد العازمي، 2011 ج 2 (725 ص)؛ 24 سم. ردمك: 3 - 02 - 44 - 99966 - 978 1. السِّيرَة النَّبَوِيَّة ... أ. العنوان ردمك: 3 - 02 - 44 - 99966 - 978 رقم الْإِيدَاع: 241/ 2011 الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م تمّ طباعة الْكتاب على نَفَقَة عبد اللَّه الْعلي المطوع - رَحمَه اللَّه - الناشر المكتبة العامرية إعلان وطباعة وَنشر وتوزيع الكويت - حَولي - شَارِع الْمثنى - مجمع البدري - مَحل رقم 13 تلِي فاكس: 0096522623880 - جوال: 0096599862197 الْبَرِيد الإلكتروني: [email protected] manaar [email protected] موقع المكتبة: www.sites.google.com/site/amriabookstore

دولة الكويت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد الفاضل / مدير إدارة الثقافة الإسلامية المحترم السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته,, وبعد بالإشارة إلى الكتاب رقم (315) بشأن مراجعة: مادة بحث عدد (1) الوارد بتاريخ: 3/ 3/ 2011 بعنوان: اللؤلو المكنون في سيرة النبي المأمون ج 2 إعداد: موسى بن راشد العازمي نشر: المؤلف بعد الإطلاع على النسخة المذكورة أعلاه ومراجعتها نحيطكم علمًا بأنه لم تتبين لنا ملاحظات تذكر. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام,, رئيس لجنة الكتب والمصنفات الفنية الأصل بتوقيع خليف مثيب الأذينة الوكيل المساعد للشئون الثقافية

[الهجرة]

مِنَ الهِجْرَةِ إِلَى دُخُولِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ * الإِذْنُ بالهجْرَةِ (¬1) إِلَى المَدِينَةِ قَالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَاجَرَ المُسْلِمُونَ مَرَّةً ثَانِيَةَ وَلَكِنَّهَا هِجْرَةٌ إِلَى دِيَارٍ عَرَبِيَّةٍ، إِلَى قَرْيَةٍ قُدِّرَ لَهَا أَنْ تَبْقَى الدَّهْرَ كُلَّهُ خَامِلَةً (¬2) ضَائِعَةً وَرَاءَ الرِّمَالِ، حَتَّى تَتَشَرَّفَ بِمُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا هِيَ أُمُّ المَدَائِنِ، وَعَاصِمَةُ العَوَاصِمِ، مِنْهَا تَنْبَعُ عُيُونُ الخَيْرِ وَالهُدَى لِتَسِيحَ في الأَرْضِ، فتَسْقِيهَا وَتَعُمُّهَا بِالخَيْرَاتِ، وَإِلَيْهَا تَنْصَبُّ أَنْهَارُ المُلْكِ وَالغِنَى وَالسُّلْطَانِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (¬3). رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا صَدَرَ (¬4) رِجَالُ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، طَابَتْ نَفْسُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 24 - 25): الهجرةُ: أي التَّرك، والهجرةُ إلى الشيء الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشَّرع: تركُ ما نَهَى اللَّه عنه، وقد وقَعَت في الإسلام على وَجْهَين: الأول: الانتِقالُ من دار الخَوْفِ إلى دار الأمْنِ كما في هِجْرَتَي الحبَشَة وابتداءِ الهِجْرَةِ من مَكَّة إلى المدينةِ، والثاني: الهِجْرَة من دارِ الكُفْرِ إلى دارِ الإيمانِ، وذلك بعدَ أن استَقَرَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينةِ، وهاجَرَ إليه مَنْ أمكَنَهُ ذلك من المسلمين، وكانت الهجرةُ إذ ذاك تختَصُّ بالانتقال إلى المدينةِ، إلى أن فُتحت مكة فانقَطَع الاختِصَاص، وبقي عُمُوم الانتقالِ من دارِ الكفر لمن قَدِرَ عليه بَاقيًا. (¬2) الخَامِلُ: الخَفِيُّ السَّاقط الَّذي لا نَبَاهة له. انظر لسان العرب (4/ 221). (¬3) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى ص 15. (¬4) الصَّدَرُ: بالتحريك رُجُوع المُسَافِرِ من مَقْصِدِهِ. انظر النهاية (3/ 15).

مَنَعَةً وَقَوْمًا أَهْلَ حَرْبٍ وَعُدَّةٍ وَنَجْدَةٍ، وَجَعَلَ البَلَاءَ يَشْتَدُّ عَلَى المُسْلِمِينَ مِنَ المُشْرِكِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ خُرُوجِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ، فَضَيَّقُوا عَلَيْهِمْ، وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا لَمْ يَكُوُنوا يَنَالُونَ مِنَ الشَّتْمِ وَالأَذَى، فَشَكَا ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاسْتَأْذَنُوهُ في الهِجْرَةِ (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الحَرَّتَانِ" (¬2)، ثُمَّ مَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ مَسْرُورًا، فَقَالَ: "قَدْ أُخْبِرْتُ بِدَارِ هِجْرَتِكُمْ وَهِيَ يَثْرِبُ، فَقنْ أَرَادَ الخُرُوجَ فَلْيَخْرُجْ إِلَيْهَا" (¬3). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي (¬4) إِلَى أنَّهَا اليَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ" (¬5). وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ (¬6). . . . ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 108). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، رقم الحديث (3905). (¬3) أخرج هذا الحديث ابن سعد في طبقاته (1/ 109). (¬4) قال النووي في شرح مسلم (15/ 25): الوهل: بفتح الهاء ومعناه وهمي واعتقادي. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة - رقم الحديث (3622) - ومسلم في صحيحه - كتاب الرؤيا - باب رؤيا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2272). (¬6) قال الحافظُ في الفتح (4/ 572): أي أمَرَني ربِّي بالهجرَةِ إليها.

تَأْكُلُ القُرَى (¬1)، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ (¬2)، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ (¬3) خَبَثَ (¬4) الحَدِيدِ" (¬5). ثُمَّ إِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ بِالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا" (¬6). فَخَرَجُوا أَرْسَالًا (¬7)، مُتَخَفِّينَ، مُشَاةً، وَرُكْبَانًا. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (4/ 572): أي تغلبهم، وكنى بالأكلِ عن الغَلَبة، لأن الآكل غالِبُ على المَأْكول. وقال ابن بطالٍ فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (4/ 572): معناهُ يفتَحُ أهلها القُرى فيأكلون أموالهم ويَسْبُون ذَرَارِيهم، قال: وهذا من فَصِيح الكلام، تقول العرب: أكلنَا بلَدَ كذا إِذَا ظَهَرُوا عَلَيْهَا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (4/ 572): أي أَنَّ بعضَ المنافقِين يُسَمِّيها يثرب، واسمُها الَّذي يَلِيقُ بها المدينة، وفَهِمَ بعض العلماء من هذا كرَاهة تسمية المدينةِ يَثْرِب، وقالوا: ما وَقع في القرآن وهو قوله تعالى في سورة الأحزاب آية (13): {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}. إنما هو حِكَايَةٌ عن قول غَيْر المؤمنين. (¬3) الكِيرُ: هو الزِّقُّ الَّذي يُنْفَخُ بهِ النار. انظر فتح الباري (4/ 573) - والنهاية (4/ 188). (¬4) الخَبَثُ: هو الوَسَخُ الَّذي تُخرجه النار. انظر فتح الباري (4/ 573). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس - رقم الحديث (1871) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب المدينة تنفي شِرَارها - رقم الحديث (1382). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (2/ 81). (¬7) أرسالًا: أي جماعات وفِرَقًا متقطعة بعضهم يتلو بعضًا. انظر لسان العرب (5/ 212).

* هجرة مهاجري الحبشة إلى المدينة

وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ. * هِجْرَةُ مُهَاجِرِي الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ: وَحِينَ سَمِعَ مَنْ بِالحَبَشَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ هِجْرَةَ إِخْوَانِهِمْ إِلَى المَدِينَةِ رَجَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا وَثَمَانِيَ نِسْوَةٍ، فَمَاتَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ بِمَكَّةَ، وَحُبِسَ بِمَكَّةَ سَبْعَةُ نَفَرٍ، مِنْهُمْ: هِشَامُ بنُ العَاصِ بنِ وَائِلٍ، وَسَلَمَةُ بنُ هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ، وَهَاجَرَ البَاقُونَ إِلَى المَدِينَةِ، وَبَقِيَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحَاطِبُ بنُ الحَارِثِ، وَمَعْمَرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ العَدَوِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَرِجَالٌ ذَوُو عَدَدٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحَرْبُ التِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّجَاشِيِّ، وَمَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ خَيْبرَ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬1). * أَوَّلُ المُهَاجِرِينَ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا القُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ، وَبِلَالٌ، وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- في عِشْرِينَ، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 459) - سيرة ابن هشام (1/ 404). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير - سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلىَ} رقم =

* المصاعب التي واجهها المهاجرون -رضي الله عنهم-

وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ وَابنُ سَعْدٍ وَبِهِ جَزَمَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأَسَدِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ بِسَنَةٍ، وَكَانَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ مِنْ أَرْضِ الحَبَشَةِ، فَلَمَّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إِسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَنْصَارِ، خَرَجَ إِلَى المَدِينَةِ مُهَاجِرًا (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَيُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ البُخَارِيِّ وَحَدِيثِ أَهْلِ المَغَازِي وَالسِّيَرِ بِحَمْلِ الأَوَّليَّةِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ، هِيَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- خَرَجَ لَا لِقَصْدِ الإِقَامَةِ بِالمَدِينَةِ بَلْ فِرَارًا مِنَ المُشْرِكِينَ، بِخِلَافِ مُصْعَبٍ -رضي اللَّه عنه- فَإِنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهَا لِلإِقَامَةِ بِهَا، وَتَعْلِيِمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلِكُلٍّ أَوَّليَّةٌ مِنْ جِهَةٍ (¬2). * المَصَاعِبُ التِي وَاجَهَهَا المُهَاجِرُونَ -رضي اللَّه عنهم-: وَلَمْ تَكُنْ هِجْرَةُ المُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هَيِّنَةً سَهْلَةً، تَسْمَعُ بِهَا قُرَيْشٌ، وَتَطِيبُ بِهَا نَفْسًا، بَلْ كَانُوا يَضَعُونَ العَرَاقِيلَ فِي سَبِيلِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَكَّةَ ¬

_ = الحديث (4941) - وأخرجه في كتاب المناقب - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3924) - (3925). (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 82) - الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 128) - شرح المواهب (2/ 90) - فتح الباري (7/ 677). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 677).

* محنة أم سلمة رضي الله عنها

إِلَى المَدِينَةِ، وَيَمْتَحِنُونَ المُهَاجِرِينَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ المِحَنِ، وَكَانَ المُهَاجِرُونَ لَا يَعْدِلُونَ عَنْ هَذِهِ الفِكْرَةِ، وَلَا يُؤْثِرُونَ البَقَاءَ فِي مَكَّةَ، . . . وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَعْنَى الهِجْرَةِ إِهْدَارُ المَصَالِحِ، وَالتَّضْحِيَةُ بِالأَمْوَالِ، وَالنَّجَاةُ بِالشَّخْصِ فَحَسْبُ، مَعَ الإِشْعَارِ بَأَنَّهُ مُسْتَبَاحٌ مَنْهُوبٌ، قَدْ يَهْلِكُ فِي أَوَائِلِ الطَّرِيقِ أَوْ نِهَايَتِهَا، وَبِأَنَّهُ يَسِيرُ نَحْوَ مُسْتَقْبَلٍ مُبْهَمٍ (¬1)، لَا يَدْرِي مَا يَتَمَخَّضُ عَنْهُ مِنْ قَلَاقِلَ وَأَحْزَانٍ (¬2). * مِحْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أُمُّ سَلَمَةَ اسْمُهَا هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجُ أَبِي سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَهُوَ أَخُو الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأُمُّهُ هِيَ بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَهُوَ ابنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- قَدِيمَ الإِسْلَامِ، وَقَدْ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَلَمَّا مَاتَ تَزَوَّجُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ سَلَمَةَ، فَصَارَتْ أُمَّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَهِيَ أَوَّلُ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ إِلَى المَدِينَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدَ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلَ ظَعِينَةٍ (¬3) قَدِمَتْ المَدِينَةَ مُهَاجِرَةً (¬4). ¬

_ (¬1) طَرِيقٌ مُبْهَمٌ: إذا كَانَ خَفِيًّا لا يَسْتَبِينُ. انظر لسان العرب (1/ 524). (¬2) انظر السيرةُ النبوية لأبي الحسن الندوي رحمه اللَّه تعالى ص 161 - والرحيق المختوم ص 155. (¬3) الظَّعِينة: المرأة، وأصلُ الظَّعينة: الرَّاحِلَةُ التي يُرحل ويُظْعَنُ عليها، أي يُسَارُ، وقيل للمرأةِ ظَعِينَةٌ، لأنها تَظْعَنُ مع الزوج حيثُمَا ظَعَن. انظر النهاية (3/ 143). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة النساء - رقم الحديث =

وَأَمَّا مِحْنَةُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَذَكَرَهَا ابنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَلْنَتْرُكْ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرْوِي لَنَا قِصَّةَ هِجْرَتِهَا مَعَ زَوْجِهَا وَابْنِهَا -رضي اللَّه عنهم- أَجْمَعِينَ، تَقُولُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الخُرُوجَ إِلَى المَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ (¬1)، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي المُغِيرَةِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ بنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَكَ (¬2) هَذِهِ، عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي البِلَادِ؟ قَالَتْ: فنَزَعُوا خِطَامَ (¬3) البَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذُونِي مِنْهُ، قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا، قَالَتْ: فتَجَاذَبُوا ابْنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ، حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ، ¬

_ = (3022) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (563). قال الترمذي بعد أن أورد هذا الأثر عن مجاهد: هذا حديث مرسل. وردَّ العلامة أحمد شاكر رحمه اللَّه في تعليقِهِ على الطبري قول الترمذي: "حديث مرسل"، فقال: إنه جزم بلا دليل، ومجاهِد أدرك أم سلمة يَقِينًا وعاصَرَها، فإنه وُلدَ سنة (21 هـ)، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 هـ، على اليقين، فثبت عندنا اتصال الحديث وصحته، والحمد للَّه. (¬1) أي جعلَ عَلَيْهِ الرَّحْل، وَالرَّحْلُ ما يُوضَعُ على ظَهْرِ البَعِيرِ لِلرُّكُوبِ، وهو لِلْبَعِيرِ كَالسَّرْجِ لِلْفَرَسِ. انظر لسان العرب (5/ 170). (¬2) صاحبتك: أي زوجتك. ومنه قوله تعالى في سورة عبس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}. (¬3) خِطَامُ البَعِيرِ: هو الحَبْل الَّذي يُقادُ به البعير. انظر النهاية (2/ 49).

وَحبَسَنِي بَنُو المُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إِلَى المَدِينَةِ، قَالَتْ: فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي، قَالَتْ: فكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ (¬1) فَأَجْلِسُ بِالأَبْطَحِ (¬2)، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي، حَتَّى أُمْسِي، سَنَةٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي، أَحَدِ بَنِي المُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي، فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي المُغِيرَةِ: أَلَا تُحَرِّجُونَ (¬3) مِنْ هَذِهِ المِسْكِينَةِ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ، قَالَتْ: وَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي، قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي، ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالمَدِينَةِ، قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، فَقُلْتُ: أَتَبْلَّغُ بِمَنْ لَقِيتُ حَتَّى أَقْدُمَ عَلَى زَوْجِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ (¬4) لَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ يَا بْنَتَ أَبِي أُمَيَّةَ؟ قُلْتُ قَالَتْ: فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالمَدِينَةِ، قَالَ: أَوَ مَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا اللَّهُ وَابْنِي هَذَا، قَالَ: وَاللَّهِ مَالَكِ مِنْ مَتْرَكٍ، فَأَخَذَ خِطَامَ ¬

_ (¬1) الغُدْوَة: بضم الغين: البُكْرَة ما بَيْنَ صلاةِ الفجرِ وطلوعِ الشَّمس. انظر لسان العرب (10/ 26). (¬2) الأبْطَح: يعني أبطَحَ مكَّة، وهو مسيل واديها. انظر النهاية (1/ 134). (¬3) تحَرَّجَ فلانٌ: إذا فعَلَ فِعْلًا يتَحَرَّج به منَ الحَرَجِ، والحَرَجُ: هو الإثْمُ والضِّيق. انظر لسان العرب (3/ 107). (¬4) التَّنْعِيمُ: موضعٌ بمكة فِي الحِلِّ، وهو بين مكة وسَرِفَ على فَرْسَخين من مكة. انظر معجم البلدان (1/ 458).

البَعِيرِ، فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي (¬1) بِي، فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ العَرَبِ قَطُّ، أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ، كَانَ إِذَا بَلَغَ المَنْزِلَ (¬2) أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي، فَحَطَّ عَنْهُ -أَيْ الرَّحْلَ- ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرِةِ، ثُمَّ تَنَحَّى عَنِّي إِلَى شَجَرَةٍ، فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ، قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَلَهُ (¬3)، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، فَقَالَ: ارْكَبِي، فَإِذَا رَكِبْتُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ، فَقَادَهُ حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي المَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ القَرْيَةِ -وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا- فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ. فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ أَكْرَمَ مِنْ عَثْمَانَ (¬4) بنِ طَلحَة (¬5). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ لَنَا هُنَا لَوَقْفَةً عِنْدَ قِصَّةِ ¬

_ (¬1) يَهوِي: أي يُسْرع. انظر النهاية (5/ 245). (¬2) أي المكان الَّذي يسْتَرِيحُونَ فيه فِي السَّفَر. (¬3) أي وضَعَ عليه الرَّحل، وهو للبَعِير كالسَّرْج للفرس. انظر النهاية (2/ 192). (¬4) أسلَمَ عثمَانُ بن طلحَةَ -رضي اللَّه عنه- بعد الحُدَيْبِيَةِ، وهاجر إلى المدينة، ودفع إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكةَ مفاتيح الكعبة. انظر أسد الغابة (3/ 211). (¬5) أخرج قِصة محنة أم سلمة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فِي: ابن إسحاق في السيرة (2/ 82) - وأوردها الحافظ ابن كثير فِي البداية والنهاية (3/ 183).

* هجرة عامر بن ربيعة وزوجه

عُثْمَانَ هَذَا، فَقَدْ كَانَ يَوْمَئِذٍ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ تَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ نَفَاسَةِ مَعْدَنِ العَرَبِ، وَفَضائِلِهِمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَلَا سِيَّمَا خُلُقَ المُرُوءَةِ وَالنَّجْدَةِ، وَحِمَايَةِ الضَّعِيفِ، فَقَدْ أَبَتْ عَلَيْهِ مُرُوءَتُهُ وَخُلُقُهُ العَرَبِيُّ الأَصِيلُ أَنْ يَدَعَ امْرَأَةً شَرِيفَةً تَسِيرُ وَحْدَهَا فِي هَذِهِ الصَّحْرَاءَ المُوحِشَةِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذِهِ الأَخْلَاقِ -يَا قَوْمِي المُسْلِمِينَ وَالعَرَبَ- أَخْلَاقُ الحَضَارَةِ فِي القَرْنِ العِشْرِينَ، مِنْ سَطْوٍ عَلَى الحُرِّيَّاتِ، وَاغْتِصَابٍ لِلأَعْرَاضِ، بَلْ وَعَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ (¬1). * هِجْرَةُ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ وَزَوْجِهِ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ المَدِينَةَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ: عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ أَوَّلُ ظَعِينَةٍ قَدِمَت المَدِينَةَ (¬2) * هِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ: ثُمَّ هَاجَرَ عَبْدُ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ، احْتَمَلَ ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية للدكتور محمد أبو شهبة رحمه اللَّه (46111). (¬2) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (6978) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 83). ذكرْنَا قبلَ قَلِيلٍ أن أُمَّ سلمَةَ رضي اللَّه عنها هي أوَّل امرَأَةٍ هاجرَت إلى المدينة، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن لَيْلى أول امرأةٍ قَدِمت مع زوجها، وأم سلمة أولُ امرأةٍ قَدِمت وَحْدَها.

بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ بنُ جَحْشٍ، وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ (¬1) البَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ بِمَكَّةَ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا، بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَذَلِكَ هَاجَرَ نِسَاؤُهُمْ: زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ جَحْشٍ، فَغُلِّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ بِسَبَبِ الهِجْرَةِ، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَالعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فنَظَرَ إِلَيْهَا عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا (¬2)، لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ (¬3) ثُمَّ قَالَ: كُلُّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا ... يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النَّكْبَاءُ وَالحَوْبُ (¬4) ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ: أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلِّ بنِ قُلِّ (¬5)، ثُمَّ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: هَذَا مِنْ عَمَلِ ابنِ أَخِيكَ هَذَا، فَرَّق جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَعَ بَيْنَنَا (¬6). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الغَزَالِي: وَأَبُو جَهْلٍ بِهَذَا الْكَلَامِ تَبْرُزُ فِيهِ طَبَائِعُ الطُّغَاةِ ¬

_ (¬1) أي أعمَى. (¬2) التتابُ: الخَالِي لا شيءَ فيه. انظر لسان العرب (15/ 433). (¬3) تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ: النّفسُ إلى فَوْقي مَمْدُودٍ، وقيلَ النَّفَسُ بتَوَجُّعٍ. انظر لسان العرب (7/ 343). (¬4) قال ابن هشام في السيرة (2/ 85): الحَوْبُ: التَّوَجُّعُ. وانظر لسان العرب (3/ 375). (¬5) القُلُّ مِنَ الرِّجال: الخَسِيسُ. انظر لسان العرب (11/ 287). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (2/ 84 - 85) - البداية والنهاية (3/ 184).

* هجرة مصعب، وابن أم مكتوم، وبلال، وسعد، وعمار رضي الله عنهم أجمعين

كَامِلَةً، فَهُمْ يُجْرِمُونَ وَيَرْمُونَ الْوِزْرَ عَلَى أَكْتَافِ غَيْرِهِمْ، وَيَقْهَرُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَإِذَا أَبَوا الِاسْتِكَانَةَ، فَإِبَاؤُهُمْ عِلَّةُ الْمُشْكِلَاتِ، وَمَصْدَرُ القلاقِلِ (¬1). * هِجْرَةُ مُصْعَبٍ، وَابنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَبِلَالٍ، وَسَعْدٍ، وَعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ: ثُمَّ خَرَجَ الصَّحَابَةُ -رضي اللَّه عنهم- أَرْسَالًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَهَاجَرَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ القُرْآنَ لِلأَنْصَارِ، وَبِلَالُ بنُ رَبَاحٍ، وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وَابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا القُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ -رضي اللَّه عنه- وَسَعْدٌ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة (ص 156) للشيخ محمد الغزالي رحمه اللَّه. (¬2) هو البَرَاء بن عازب الأوسِي الأنصاري له ولأبيه صحبة، استصغره الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم بدر، فرده، فقد روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3956) عن البراء بن عازب أنَّه قال: استُصْغِرْتُ أنا وابن عُمَرَ يوم بدر، وغَزَا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربع عشرة غَزْوة، وهو الذي افتَتَح الرّيَّ سنة أربع وعشرين من الهجرة. انظر الإصابة (1/ 411). (¬3) أخرجه البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3924) - (3925) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} - رقم الحديث (4941) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18512).

* هجرة عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة في ركب من المسلمين

قُلْتُ: زَعَمَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِ أَنَّ سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- هَاجَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ هَاجَرَ قَبْلَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ (¬1). * هِجْرَةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ وَعَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَقَدْ سَمَّى ابنُ إِسْحَاقَ مِنْهُمْ: زَيْدَ بنَ الخَطَّابِ، وَسَعِيدَ بنَ زَيْدٍ، وَعَمْرَو بنَ سُرَاقَةَ، وَأَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَوَاقِدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَخَالِدَ، وَإِيَاسَ، وَعَامِرَ، وَعَاقِلَ بَنِي البُكَيْرِ، وَخُنَيْسَ بنَ حُذَافَةَ -وَكَانَ زَوْجَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ-، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَخَوْليَّ بنَ أَبِي خَوْلي، وَمَالِكَ بنَ أَبِي خَوْلي، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنْ أَقَارِبِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- وَحُلفَائِهِمْ (¬3). وَلَمْ يَذْكُرِ ابنُ إِسْحَاقَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ. ¬

_ (¬1) وانظر البداية والنهاية (3/ 187). (¬2) أخرجه البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3925) - وأخرجه فِي كتاب التفسير - باب سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} - رقم الحديث (4941) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18512). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 90) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 460).

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: فَلَعَلَّ بَقِيَّةَ العِشْرِينَ كَانُوا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ (¬1). رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: اتَّعَدْتُ (¬2)، لَمَّا أَرَدْنَا الهِجْرَةَ إِلَى المَدِينَةِ، أَنَا وَعَيَّاشُ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَهِشَامُ بنُ العَاصِ بنِ وَائِلٍ السَّهْمِىِّ التَّنَاضُبَ (¬3) مِنْ أَضَاةِ (¬4) بَنِى غِفَارٍ، فَوْقَ سَرْفٍ (¬5)، قُلْنَا: أَيُّنَا لَمْ يُصْبحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. قَالَ: فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشُ بنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التَّنَاضُبِ، وَحُبِسَ عَنَّا هِشَامٌ، وَفُتِنَ فَافْتَتَنَ (¬6). وَهَذَا الخَبَرُ الصَّحِيحُ فِي هِجْرَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يُخَالِفُ الخَبَرَ الضَّعِيفَ المَشْهُورَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَعْلَنَ هِجْرَتَهُ، وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ تَثْكَلَهُ أُمُّهُ، أَوْ يُؤْتَمَ وَلَدُهُ، أَوْ تُرَمَّلَ زَوْجَتُهُ، فَلْيَلْقَنِي وَرَاءَ هَذَا الوَادِي. . . القِصَّةَ (¬7). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 677). (¬2) اتَّعَدْتُ: أي تَوَاعَدْتُ. انظر لسان العرب (15/ 342). (¬3) التَّنَاضُبُ: اسم مكان. (¬4) الأضَاةُ: الماء المُسْتَنْقَعِ من سَيْلٍ أو غيره. انظر لسان العرب (1/ 157). (¬5) سَرِف: بكسر الراء، موضع من مكة على عَشرة أميال، وفي منطقة سَرِف قَبْر أم المؤمنين مَيْمُونة زوجة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر النهاية (2/ 326). (¬6) أخرج ذلك: ابن إسحاق في السيرة (2/ 88) - وأورده الحافظ في الإصابة (6/ 423) - وصحح إسناده. (¬7) أخرج هذا الخبر: ابن الأثير في أسد الغابة (3/ 324) - وابن عساكر في تاريخه كما ذكر الصَّالحي في سيرته (3/ 225).

* قصة أبي جهل مع عياش -رضي الله عنه-

قُلْتُ: وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ضَعْفَ هَذَا الخَبَرَ أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- رُغْمَ قُوَّتِهِ، وَشِدَّتِهِ لَا يَسْتَطِيعُ وَحْدَهُ أَنْ يُقَاتِلَ كُلَّ قُرَيْشٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ -أَيْ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- (¬1) خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصُ بنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونَنِي أَنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ، فَخَرَجَ العَاصُ، فَلَقَى النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابنَ الخَطَّابِ الذِي صَبَأَ، قَالَ: فَأَنَا لَهُ جَارٌ، لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فكَرَّ (¬2) النَّاسُ (¬3). وَكَانَتْ قُرَيْشٌ كُلَّمَا عَلِمَتْ بِأَحَدٍ يُرِيدُ الهِجْرَةَ آذَتْهُ، وَحَاوَلَتْ فِتْنَتَهُ أَوْ حَبْسَهُ، وَلذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَد يَجْرُؤُ عَلَى الخُرُوجِ إِلَّا خُفْيَةً. * قِصَّةُ أَبِي جَهْلٍ مَعَ عَيَّاشٍ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ وَأَخُوهُ الحَارِثُ (¬4) إِلَى عَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ ابنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا، حَتَّى قَدِمَا المَدِينَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَزَالُ بِمَكَّةَ، فَكَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ عَيَّاشًا، وَقَالَ لَهُ: ¬

_ (¬1) وهذا الحادث حدث عندما أسلم عمر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) الكَرُّ: الرجوع. انظر لسان العرب (12/ 64). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه فِي قصة إسلام عمر -رضي اللَّه عنه- كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3864). (¬4) الحارث بن هشام أخو أبو جهل، أسلم -رضي اللَّه عنه- في فتح مكة وحسن إسلامه.

إِنَّ أُمَّكَ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مِشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ عَنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ، فَرَقَّ لَهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَيَّاشُ، إِنَّه وَاللَّهِ مَا يُرِيدُكَ القَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ آذَى أُمَّكَ القَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حَرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ، فَقَالَ لَهُ عَيَّاشٌ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي، وَلِي هُنَاكَ مَالٌ فَآخُذُهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا، وَلَكِنَّهُ أَبَى عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا، فَقَالَ لَهُ -رضي اللَّه عنه-: أَمَا إِذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ، فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ (¬1) ذَلُولُ (¬2)، فَالزَم (¬3) ظهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ (¬4) مِنَ القَوْم رَيْبٌ، فَانْجُ عَلَيْهَا. فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تُعْقِبَنِي (¬5) عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ؟ قَالَ عَيَّاشٌ: بَلَى، فَأَنَاخَ عَيَّاشٌ، وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا ¬

_ (¬1) النَّجِيبُ: الفاضِلُ من كلِّ حيَوَان، إذا كان فَاضِلًا نَفِيسًا في نوعه. انظر النهاية (5/ 15). (¬2) دَابَّةٌ ذَلُولٌ: أي لَيِّنَةٌ سَهْلة. انظر لسان العرب (5/ 55). (¬3) اللِّزَامُ: هو المُلازَمَةُ للشَّيْءِ والدَّوَامُ عليه. انظر النهاية (4/ 214). (¬4) الرَّيْبُ: بمعنى الشَّكّ. انظر لسان العرب (5/ 385) - ومنه قوله تعالى في سورة البقرة آية (2): {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}. (¬5) اعتَقَبْتُ فُلانَا مِنَ الرُّكوب: أي نَزلْتُ فَرَكِبَ، والعقبةُ: النَّوبةُ: هذا مَرَّة، والآخر مَرَّة. انظر لسان العرب (9/ 304).

بِالأَرْضِ عَدَوا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ، وَرَبَطَاهُ، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ، وَفَتَنَاهُ، فَافْتَتَنَ، وَكَانَ دُخُولُهُمَا بِهِ مَكَّة نَهَارًا مُوثَقًا، فَصَارَا يَقُولَانِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ، كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا (¬1). رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فَكُنَّا نَقُولُ: مَا اللَّهُ بِقَابِلٍ مِمَّنِ افْتُتَنَ صَرْفًا (¬2) وَلَا عَدْلًا (¬3) وَلَا تَوْبَةً، قَوْمٌ عَرَفُوا اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الكُفْرِ لِبَلَاءَ أَصَابَهُمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ، وَفِي قَوْلنَا، وَقَوْلهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (¬4). فَكتَبَهَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- بِيَدِهِ فِي صَحِيفَةٍ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى هِشَامِ بنِ العَاصِ، قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا أَتَتْنِي جَعَلْتُ أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوَى (¬5)، أُصَعِّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ، وَلَا أَفْهَمُهَا، حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا، قَالَ: فَأْلقى اللَّهُ فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 88). (¬2) الصَّرْف: التَّوبة. انظر النهاية (3/ 23). (¬3) العَدْلُ: الفِدْيَة. انظر النهاية (3/ 23). (¬4) سورة الزمر آية (53 - 55). (¬5) ذِي طُوى: بضم الطاء وفتح الواو المخفَّفة، موضعٌ بأسفلِ مَكة. انظر النهاية (3/ 133).

* دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعياش -رضي الله عنه-

فِينَا، وَفِيمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا، فَرَجَعْتُ إِلَى بَعِيرِي، فَرَكِبْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِالمَدِينَةِ (¬1). * دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَيَّاشٍ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُوا لِعَيَّاشِ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَغَيْرِهِ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: حِينَ يَفْرَغُ مِنْ صَلَاةِ الفَجْرِ مِنَ القِرَاءَةِ، وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ"، ثُمَّ يَقُولُ، وَهُوَ قَائِمٌ: "اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بنَ الوَلِيدِ (¬2)، وَسَلَمَةَ بنَ هِشَامٍ (¬3)، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 89). (¬2) هو الوليد بن الوليد بن المغيرة -رضي اللَّه عنه-، أخُو خالدِ بن الوليد -رضي اللَّه عنه-، وممَّن شهد بَدْرًا مع المشركِينَ، وأُسِرَ فافتَداهُ أخواهُ: هشامٌ، وخالد، ثم أسلم فحبسَهُ أخوالُهُ، فكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعُو له فِي القُنُوت، ثم أفلَتَ من أسرِهِم، ولحق بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عُمْرة القضية. انظر الإصابة (6/ 484). (¬3) هو سَلَمة بن هشام بن المُغِيرة، وهو ابن عَمِّ الوليد، وهو أخُو أبي جهل، كان من السابقين إلى الإسلام، وكانوا قد حبَسُوهُ عن الهجرَةِ، وآذَوْه، ثم استطاع أن يَهْرُب من الكفار، واستشهِدَ فِي معركة أجْنَادِينَ سنة أربع عشرة من الهجرة. انظر أسد الغابة (2/ 362). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {لَيْسَ لَكِ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ} - رقم الحديث (4560) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب =

* سالم مولى أبي حذيفة يصلي إماما بالمهاجرين

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَدْعُوا: "اللَّهُمَّ خَلِّصِ الوَليدَ بنَ الوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَضَعَفَةَ المُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي المُشْرِكِينَ الذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا" (¬1). * سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يُصَلِّي إِمَامًا بِالمُهَاجِرِينَ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنهما- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ العُصْبَةَ (¬2) -مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ- قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرآنًا (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ (¬4). قَالَ الحَافِظُ: وَاسْتُشْكِلَ ذِكْرُ أَبِي بَكْرٍ فِيهِمْ إِذْ فِي الحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ¬

_ = استحباب القنوت فِي جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة - رقم الحديث (675) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7260). (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (9285). (¬2) قال ابن الأثير في النهاية (3/ 222): وضبطه بعضهم بفتح العين والصاد. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب إمامة العبد والمولى - رقم الحديث (692). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام، باب استقضاء الموالي واستعمالهم، رقم الحديث (7175).

* نبذة عن سالم مولى أبي حذيفة -رضي الله عنه-

قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ رَفِيقُهُ، وَالجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَالِمٌ اسْتَمَرَّ يَؤُمُّهُمْ بَعْدَ أَنْ تَحَوَّلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَنَزَلَ دَارَ أَبِي أَيُّوبَ قَبْلَ بِنَاءَ مَسْجِدِهِ بِهَا، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي خَلْفَهَ إِذَا جَاءَ إِلَى قُبَاءٍ (¬1). قُلْتُ: وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخِرِينَ" (¬2). * نُبْذَةٌ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ هُوَ سَالِمُ بنُ مَعْقِلٍ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ فَارِسٍ مِنْ اصْطَخَرَ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءَ المَوَالِي، وَمِنْ خِيَارِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِهِمْ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي المُهَاجِرِينَ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَتْهُ مَوْلَاتُهُ زَوْجُ أَبِي حُذَيْفَةَ فتَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ فَنَسِبَ إِلَيْهِ، وَلذَلِكَ عُدَّ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَكَانَ يَؤُمُّ المُهَاجِرِينَ بِقُبَاء، وَذَلِكَ قَبْلَ مَقْدَمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ (¬3). * أَنْصَارِيُّونَ مُهَاجِرُونَ: وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ بَايَعُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 416) (5/ 731) (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه - رقم الحديث (817). (¬3) انظر الإصابة (3/ 11) - الاستيعاب (2/ 135).

* انتظار النبي -صلى الله عليه وسلم- الإذن له بالهجرة

المَدِينَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى قُبَاءٍ خَرَجُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، حَتَّى قَدِمُوا مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الهِجْرَةِ، فَهُمْ مُهَاجِرُونَ أَنْصَارِيُّونَ، وَهُمْ: ذَكْوَانُ بنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُقْبَةُ بنُ وَهْبِ بنِ كَلَدَةَ، وَالعَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ، وَزِيَادُ بنُ لَبِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (¬1). وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الأَنْصَارِ مُهَاجِرُونَ، لِأَنَّ المَدِينَةَ كَانَتْ دَارَ شِرْكٍ، فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ العَقَبَةِ. فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَصحَابَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانُوا مِنَ المُهَاجِرِينَ، لِأَنَّهُمْ هَجَرُوا المُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنَ الأَنْصَارِ مُهَاجِرُونَ، لِأَنَّ المَدِينَةَ كَانَتْ دَارَ شِرْكٍ، فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلةَ العَقَبَةِ (¬2). * انْتِظَارُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِذْنَ لَهُ بِالهِجْرَةِ: وَهَكَذَا لَمْ يَمْضِ شَهْرَانِ أَوْ أَكْثَرُ عَلَى بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَوْ مَفْتُون مَحْبُوسٌ، أَوْ مَرِيضٌ، أَوْ ضَعِيفٌ عَنِ الخُرُوجِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 73 - 79) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 109). (¬2) أخرجه النسائي فِي السنن الكبرى - كتاب البيعة - باب تفسير الهجرة - رقم الحديث (7741) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9211). (¬3) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 109) - سيرة ابن هشام (2/ 93) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 464).

* اجتماع قريش في دار الندوة وائتمارها على قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ فِي الهِجْرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَعْجَلْ لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا"، فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ الصَّاحِبُ (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فِي حَدِيثِ الهِجْرَةِ الطَّوِيلِ: . . . فهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَى رِسْلِكَ (¬2)، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ (¬3) -وَهُوَ الخَبَطُ- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (¬4). * اجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَائْتِمَارُهَا عَلَى قَتْلِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ (¬5)، وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ بِذَرَارِيهِمْ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 94) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 109). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 642): الرِسْل: بكسر الراء أي على مَهْلِكَ. وفي رواية ابن حبان في صحيحه بسند صحيح - رقم الحديث (6279) قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بكر: "اصبِر". (¬3) السَّمُر: هو نوعٌ من شجر الطَّلْحِ. انظر النهاية (2/ 359). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905). (¬5) الشِّيعة: الأتباع والأنصار، انظر النهاية (2/ 464).

وَنِسَاءِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً، لِأَنَّ الأَنْصَارَ قَوْمٌ أَهْلُ حَلْقَةٍ (¬1) وَبَأْسٍ، فَشَعَرُوا بِخُطُورَةِ الأَمْرِ، وَخَافُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، وَأَنْ يَجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ -وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بنِ كِلَابٍ التِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إِلَّا فِيهَا- يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسُمِّيَ ذَلِكَ اليَوْمُ الذِي اتَّعَدُوا لَهُ "يَوْمَ الزَّحْمَةِ". وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الخَمِيسِ السَّادِسِ وَالعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ، أَيْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ هَذَا الِاجْتِمَاعِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالعَقْلِ فِيهِمْ، وَهُمْ: 1 - مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَبُو جَهْلِ بنِ هِشَامٍ (¬2). 2 - وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ: عُتْبَةُ وَشَيمةُ ابْنَا رَبِيعَةَ (¬3)، وَأَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ (¬4). 3 - وَمِنْ بَنِي نَوْفَل بنِ عَبْدِ مَنَافٍ: طُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ (¬5)، وَجُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ (¬6)، وَالحَارِثُ بنُ عَامِرٍ. ¬

_ (¬1) الحَلْقَة: بسكون اللام السلاح. انظر النهاية (1/ 410). (¬2) قُتِل لعنه اللَّه كافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬3) قُتِلا كافرين في غزوة بدر الكبرى. (¬4) أسلم في فتح مكة وحَسُنَ إسلامه -رضي اللَّه عنه-. (¬5) قُتِل كافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬6) أسلم -رضي اللَّه عنه- وحَسُنَ إسلامه.

4 - وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ (¬1). 5 - وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى: أَبُو البَخْتَرِيِّ بنُ هِشَامٍ (¬2)، وَزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ (¬3)، وَحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ (¬4). 6 - وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ: نُبَيْهُ ومُنبِّهُ ابْنَا الحَجَّاجِ (¬5) 7 - وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ: أُمّيَّةُ بنُ خَلَفٍ (¬6)، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا جَاءَ اليَوْمُ الذِي اتَّعَدُوا لَهُ -وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ- اعْترَضَهُمْ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ (¬7) عَلَيْهِ بَتٌّ (¬8)، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ (¬9) سَمِعَ بِالذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا، قَالُوا: أَجَل، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُمْ لَعَنَهُ اللَّهُ. ¬

_ (¬1) قُتِل كافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬2) قُتِل كافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬3) قُتِل كافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬4) أسلم فِي فتح مكة وحسن إسلامه -رضي اللَّه عنه-. (¬5) قُتِلا كافِرَيْنِ في غزوة بدر الكبرى. (¬6) قُتِل كافرًا في غزوة بدر الكبرى. (¬7) أي مُسِنّ. انظر النهاية (1/ 278). (¬8) البَتُّ: كساءٌ غَلِيظٌ. انظر النهاية (1/ 93). (¬9) قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 307): إنما قال لهم: إني من أهل نجدٍ، لأنهم قالوا: لا يَدخلنَّ معكم فِي المُشَاورة أحدٌ من أهل تِهامة لأن هواهُم مع محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-.

فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ -أَيْ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا، فتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَبُو البَخْتَرِيِّ بنُ هِشَامٍ: احْبِسُوهُ فِي الحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءَ، الذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ، زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ، وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُ المَوْتُ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ وَهُوَ إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ: لَا وَاللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ حبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءَ البَابِ الذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَيبُوا عَلَيْكُمْ، فَيَنتزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ. ثُمَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، فنَنْفِيْهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنَّا فَوَاللَّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ، وَتَعُودُ لَنَا وِحْدَتُنَا، وَأَلْفَتُنَا كَمَا كَانَتْ. قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ: لَا وَاللَّهِ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ (¬1)، وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلَوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأتِي بِهِ، فَوَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلَّ (¬2) عَلَى حَيٍّ مِنَ العَرَبِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ¬

_ (¬1) المَنْطِق: الكلام. انظر لسان العرب (14/ 188). (¬2) يَحِل: بكسر الحاء وضمها، ينزل. انظر لسان العرب (3/ 295).

أَنْ يُتَابِعُوهُ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ، دَبِّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ كَبِيرُ مُجْرِمي مَكَّةَ أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيِهْ بَعْدُ، قَالُوا: مَا هُوَ يَا أَبَا الحَكَمِ؟ . قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا (¬1) نَسِيبًا (¬2) وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا (¬3)، ثُمَّ يَعْمَدُوا إِلَيْهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي القَبَائِلِ جَمِيعًا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمُ جَمِيعًا، فَرَضُوا مِنَّا بِالعَقْلِ (¬4)، فَعَقَلْنَا لَهُمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ لَعَنَهُ اللَّهُ: القَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ، لَا رَأْيَ غَيْرَهُ (¬5)، وَوَافَقَ القَوْمُ عَلَى هَذَا الِاقْتِرَاحِ الآثِمِ بِالإِجْمَاعِ، وَرَجَعَ القَوْمُ إِلَى ¬

_ (¬1) الجَلَد: القوة والصبر. انظر النهاية (1/ 275). (¬2) رجُلٌ نَسِيب: أي ذو حَسَب. انظر لسان العرب (14/ 119). (¬3) صَارمًا: أي قَاطعًا. انظر لسان العرب (7/ 332). (¬4) العَقْل: هو الدِّية، سميت بذلك لأن القاتل كان إذا قتل قَتِيلًا جَمع الدية من الإبل فَعَقَلها بفِنَاءِ أولياءَ المَقتول أي شدَّها فِي عَقْلِها؛ ليُسلمها إليهم، والعِقَال: هو الحبلُ الَّذي تُشَدُّ به الإبل حتَّى لا تُفْلت. انظر النهاية (3/ 252). (¬5) قلتُ: تأمَّلوا كيف جاء هذا الخبيثُ برأيٍ خَبِيثٍ لا يستطيع حتَّى الشَيطان أن يأتي بمثله، نسألُ اللَّه السلامةَ والعافيةَ.

* إخبار الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بمكر المشركين له

بُيَوتِهِمْ، وَقَدْ صَمَّمُوا عَلَى تَنْفِيذِ هَذَا القَرَارِ فَوْرًا (¬1). * إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكْرِ المُشْرِكينَ لَهُ: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَذِهِ المُؤَامَرَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬2). قَالَ -رضي اللَّه عنه-: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ، فَأَثْبِتُوهُ بَالوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تِلْكَ اللَّيْلَةِ (¬3). وَقَالَ عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل اجتماع قريش فِي دار الندوة في: سيرة ابن هشام (2/ 94) - البداية والنهاية (3/ 189) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 109) - دلائل النبوة لأبي نعيم (1/ 202) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 467) - الروض الأنف (2/ 306) - شرح المواهب (2/ 94). (¬2) سورة الأنفال - آية (30). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3251) - وأورده الحافظ في الفتح (7/ 645) وحسن إسناده.

قَالَ: أَيْ فَمَكَرْتُ بِهِمْ بِكَيْدِي المَتِينِ، حَتَّى خَلَّصْتُكَ مِنْهُمْ (¬1). قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الطَّنْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اتَّفَقَ زُعَمَاءُ قُرَيْشٍ عَلَى ارْتِكَابِ أَكْبَرِ جَرِيمَةٍ فِي تَارِيخِ الجِنْسِ البَشَرِيِّ، وَهِيَ قَتْلُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. جَرِيمَةٌ لَوْ تَمَّتْ، لَمَا كَانَتْ فِي التَّارِيخِ دِمَشْقُ، وَلَا بَغْدَادُ، وَلَا القَاهِرَةُ، وَلَا قُرْطُبَةُ، وَلَا كَانَتْ لِلرَّاشِدِينَ دَوْلَةٌ، وَلَا لِلْأُمَوِيِّينَ، وَلَا لِلْعَبَّاسِيِّينَ، وَلَا فتَحَ بَنُو عُثْمَانَ القَسْطَنْطِينِيَّةَ، وَلَا بُنِي الأُمَوِيُّ، وَلَا النِّظَامِيَّةُ وَلَا الحَمْرَاءُ، وَلَمَا قَامَتِ الحَضَارَةُ التِي قَبَسَتْ مِنْهَا أَورُبَّا حَضَارَتَهَا مِنَ الشَّامِ فِي الحُرُوبِ الصَّلِيبِيَّةِ، وَمِنَ الأَنْدَلُسِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَبَدَّلَ التَّارِيخُ طَرِيقَهُ، وَلَكِنَّا اليَوْمَ عَلَى حَالٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 46). (¬2) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى ص 15.

هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-

هِجْرَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثُمَّ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، ثُمَّ أُمِر بِالهِجْرَةِ، وَأُنِزِلَ عَلَيْهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (¬1). قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الطَّنْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَاجَرَ المُسْلِمُونَ جَمِيعًا، وَلَمْ يَبْقَ فِي مَكَّةَ إِلَّا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَجُلَانِ اثْنَانِ، مُرَافِقُهُ فِي السَّفَرِ، وَوَكِيلُهُ فِي مَكَّةَ، رَجُلَانِ كَانَا أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، وَآخِرَ مَنْ هَاجَرَ: سَيِّدُ الكُهُولِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ (¬2)، ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (80). والخبر أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1948) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب مكث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة - رقم الحديث (3010) - والترمذي فِي جامعه، كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة بني إسرائيل - رقم الحديث (3406) - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) أخرج ابن ماجة في سننه - في المقدمة - باب فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (100) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6904) بسند صحيح عن أبي جحيفة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبُو بكرٍ وعمر سيِّدا كُهُول أهل الجنة في الأولين والآخرين، إِلَّا النَّبِيِّين والمُرسلين". الكهل من الرجال: من زاد على ثلاثين سنة إلى الأربعين. انظر النهاية (4/ 184).

* اطلاع الله تعالى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر قريش

وَسَيِّدُ الشَّبَابِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-. تَأَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا يَتَأَخَّرُ الرُّبَّانُ الشَّرِيفُ عَلَى ظَهْرِ البَاخِرَةِ المَيْئُوسِ مِنْهَا فَلَا يَنْزِلُ حَتَّى يَنْزِلَ الرّكَّابُ جَمِيعًا، وَكَمَا يَتَأَخَّرُ الرَّاعِي الأَمِينُ، عِنْدَ المَفَازَةِ (¬1) فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَجُوزَ القَطِيعُ كلُّهُ، تَأَخَّرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْمِي أَتْبَاعَهُ، وَيَسْتَقْبِلُ بِصَدْرِهِ الخَطَرَ (¬2). * اطْلَاعُ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَمْرِ قُرَيْشٍ: وَقَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى تَبْيِيتِ المُشْرِكِينَ قَتْلَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ قَلِيلٍ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬3)، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَبِيتَ فِي فِرَاشِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَلَمَّا أُذِنَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالهِجْرَةِ قَالَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ يُهَاجِرُ مَعِي؟ ". قَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ (¬4). فَذَهَبَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- لِيُخْبِرَهُ بِذَلِكَ، وَليُرَتِّبَ مَعَهُ أَمْرَ الهِجْرَةِ. ¬

_ (¬1) المَفَازَةُ: هي البرية القَفْرُ، سُميت بذلك؛ لأنها مُهْلِكة. انظر النهاية (3/ 430). (¬2) انظر كتاب رجال من التاربخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى ص 15. (¬3) سورة الأنفال آية (30). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب هجرة أبي بكر إلى المدينة مع جميع أمواله - رقم الحديث (4325) - وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد والمتن ولم يخرجاه - وقال الذهبي: صحيح غريب.

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ (¬1) قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ (¬2)، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرَفَي النَّهَارِ: بُكْرَةً وَعَشِيَّةً (¬3)، . . . فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةْ (¬4)، قَالَ قَائِلٌ (¬5) لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُتَقَنِّعًا (¬6) فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فتَأَخَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا أَنَا وَأُخْتِى أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) لم أعقِلْ أبَوَيَّ: يعني أبا بكر وأم رُومَان. انظر فتح الباري (7/ 638). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 638): أي يَدِينانِ بدِين الإسلام. (¬3) قال الحافظ في الفتح (12/ 124): وقد اسْتُشْكِلَ كونُ أبي بكر كان يُحْوِجُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن يَتَكَلَّفَ المجيءَ إليه، وكان يُمكنه هو أن يفعل ذلك؟ وأجيبَ: بأنه ليس فِي الخَبَرِ ما يَمنع أن أبا بكر كَانَ يَجِيءُ إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل والنهار أكثر من مرَّتين، ويحتمل أن يقال: كان سبب ذلك أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جَاءَ إلى بيتِ أبي بكر كان يأمَنُ من أذَى المُشرِكِينَ بخلاف ما لو جاء أبو بكر إليه، ويحتمل أن يكون منزِلُ أبي بكر كان بين بيتِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبين المسجدِ، فكان يمُرُّ به، والمقصودُ المسجد، وكان يشهده كلما مَرّ به. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 643): أي أوَّل الزوال، وهو أشد ما يكون فِي حَرَارة النهار، والغالب في أيامِ الحَرِّ القَيْلُولَة فيها. (¬5) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية (1/ 473): الظاهر أنها ابنتُهُ أسماء رَضِيَ اللَّه عَنْهَا. (¬6) أي مُغَطِّيًا رأسه. انظر فتح الباري (7/ 643).

لِأَبِي بَكْرٍ: "أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ" (¬1)، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ (¬2) بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوج وَالهِجْرَةِ"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ الصُّحْبَةُ (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصُّحْبَةُ" (¬4). قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي، وَمَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الفَرَحِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنَ الفَرَح (¬5). ¬

_ (¬1) قلتُ: هكذا كان حِرْصُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على كتمِ أمرِ الهِجْرة خشيةَ أن يَنْتَشِرَ خبر هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم-، ففي مثل هذه الأحوال يتطلَّب الحذر الشديد، وكِتْمان الأمر، وقد أخرج ابن حبان فِي روضة العقلاء ص 187 بسند حسن من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -رضي اللَّه عنه-: "استَيِعنُوا على قَضَاءِ حَوَائِجكُمْ بالكِتْمَان". (¬2) هذه هي رِواية الإمام البخاري وابن حبان في صحيحيهما. قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 312) في قول أبي بكر -رضي اللَّه عنه- للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنما هُمْ أهلُكَ. قال: وذلك أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قد عَقَدَ على عائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وأما أسماءُ صارَتْ بمنزِلة الأهل بعد زَوَاج أختها، أو أن هذا من أبي بكر تَنْزِيلٌ لأهله منزلةَ أهل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 98) قال أبو بكر: يا رسول اللَّه إنما هما ابنَتَايَ. (¬3) وفي رواية أخرى فِي صحيح البخاري وابن حبان في صحيحه قال أبو بكر: الصحابة بأبي أنت يا رسول اللَّه. (¬4) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري، وابن حبان في صحيحه قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". (¬5) قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 314): قالت عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ذلك لصِغَرِ سنها -كان عُمرها ثمان سنوات رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- وأنها لم تكن علمَتْ بذلك قبل، وقد تطرَّق الشعراء لهذا المعنى، فقال الطائي يَصِفُ السَّحَابَ: دُهمٌ إذا وكفَتْ فِي رَوْضَةٍ طَفِقَتْ ... عُيُونُ أزهَارِهَا تَبْكِي منَ الفَرَحِ

* استئجار عبد الله بن أريقط دليلا

ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِي نَاقَتَانِ، قَدْ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ اِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِالثَّمَنِ" (¬1)، فَأَعْطَى النَّبِيَّ إِحْدَاهُمَا وَهِيَ: الجَدْعَاءُ (¬2). * اسْتِئْجَارُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُرَيْقِطَ (¬3) دَلِيلًا: وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُرَيْقِطَ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيْلِ بنِ بَكْرٍ، هَادِيًا خِرِّيتًا -وَالخِرِّيتُ المَاهِرُ بِالهِدَايَةِ -أَيْ هِدَايةِ الطَّرِيقِ-، ¬

_ (¬1) قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 313): إنما اشتَرَط النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكون أخذ الناقة بالثمن مع أن أبا بكر أنفَقَ ماله كله على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحَبَّ أن تكون هجرته إلى اللَّه بنفسه ومالِهِ رغبَةً منه عليه الصلاة والسلام فِي استكمَالِ فضلِ الهجرة، والجِهَاد على أتمِّ أحوالهما. (¬2) قلتُ: ذكر ابن سعد في طبقاته (1/ 109): أن الناقَةَ التي أخذَهَا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبي بكر هِيَ القَصْوَاءُ، والصحيح ما في الصحيح وأنها: الجَدْعَاءُ، وسُمِّيَتْ بذلك قيل لأنها كانت مَقْطُوعَةَ الأذُنِ، وقيل: لم تكن مَقْطُوعَةَ الأذُنِ، وإنما كان هذا اسْمًا لها. انظر النهاية (1/ 239). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) - وأخرجه فِي كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4093) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب في هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6277) - (6868) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 98). (¬3) قال الحافظ في الإصابة (4/ 5): عبد اللَّه بن أُرَيقِطٍ دليلُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر -رضي اللَّه عنه- لما هَاجَرَ إلى المدينة، وأنه على دِين قومه، ولم أرَ مَنْ ذكره فِي الصحابة إِلَّا الذهبي فِي التجريد، وقد جزَمَ عبد الغني المقدسي في السيرة له: بأنه لا يُعرف له إسلامًا، وتبِعَه النووي فِي تهذيب الأسماء.

* تناقض غريب

وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ (¬1)، فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا، اللَّتَيْنِ أَعَدَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ لِلْهِجْرَةِ (¬2). * تَنَاقُضٌ غَرِيبٌ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ رُغْمَ عَدَائِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَمْيِهِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، عَظِيمَةَ الثِّقَةِ بِأَمَانَتِهِ، وَصِدْقِهِ، وَفتوته، فَلَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لثِقَتِهِ بِهِ، فَكَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الشَّيْءُ الكَثِيرُ مِنْ هَذِهِ الوَدَائِعِ، فَأَمَرَ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- بِأَنْ يَتَخَلَّفَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَؤَدِّيَهَا عَنْهُ. وَصَدَقَ اللَّهُ العَظِيمُ إِذْ يَقُولُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬3). * تَطْوِيقُ المُشْرِكِينَ مَنْزِلَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَنْزِلي يَنْتَظِرُ مَجِيءَ اللَّيْلِ، وَهُوَ عَلَى عِلْمٍ بِمَا ائْتَمَرَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنَ المَكْرِ، فَلَمَّا كَانَتْ عَتَمَةُ (¬4) اللَّيْلِ اجْتَمَعَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَلَى ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (5/ 201): وفي الحديث استِئْجَار المسلم الكافر على هِدَاية الطريق إذا أمِنَ إليه، واستئجار الاثنين وَاحدًا على عَمَلٍ واحد. (¬2) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب في هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- وإلى المدينة - رقم الحديث (6277) - (6868). (¬3) سورة الأنعام آية (33) - وانظر الخبر فِي سيرة ابن هشام (2/ 99). (¬4) عَتَمَةُ اللَّيْلِ: أي ظُلْمَتُهُ. انظر النهاية (3/ 164).

بَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ، فَيَثبُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ: أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ - الحَكَمُ بنُ أَبِي العَاصِ - عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ - أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ - زَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ - طُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ - أَبُو لَهَبٍ - أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ - نُبَيْهُ بنُ الحَجَّاجِ. وَكَانُوا عَلَى ثِقَةٍ وَيَقِينٍ جَازِمٍ مِنْ نَجَاحِ هَذِهِ المُؤَامَرَةِ الدَّنِيَّةِ، حَتَّى وَقَفَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقْفَةَ الخُيَلَاءِ، وَقَالَ: مُخَاطِبًا لِأَصْحَابِهِ المُطَوِّقِينَ فِي سُخْرِيَةٍ وَاسْتِهْزَاءٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، كُنْتُمْ مُلُوكَ العَرَبِ وَالعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الأُرْدُنِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ: "نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ (¬1) بِبُرْدِي (¬2) هَذَا الحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ" (¬3). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنَامُ فِي برْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيًّا بِخُرُوجِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬4). ¬

_ (¬1) سُجِّيَ بِبُرْدٍ: أي غُطِّي، والمُتَسَجِّي: المُتَغَطِّي. انظر النهاية (2/ 310). (¬2) البُرْدُ: هي نَوْعٌ مِنَ الثياب، والبُرْدَةُ: كِسَاء أسود. انظر النهاية (1/ 116). (¬3) قلتُ: وبهذه الفِدَائِيَّة من علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- صارَ أوَّل فِدَائِي فِي الإسلام، فقد وَقَى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه. (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 470) - شرح المواهب (9612) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 109) - سيرة ابن هشام (2/ 96).

* خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من بيته إلى بيت أبي بكر الصديق

* خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَيْتِهِ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: وَمَعَ غَايَةِ اسْتِعْدَادِ قُرَيْشٍ لِتَنْفِيذِ خُطَّتِهِمْ، وَإِذَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْرُجُ (¬1)، وَيَخْتَرِقُ صُفُوفَهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، وَأَخَذَ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَفْنَةً (¬2) مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ فَجَعَلَ يَنْثُرُهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَهُوَ يَتْلُو قَولَهُ تَعَالَى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (¬3). حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، مَضَى إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-. وَبَقِيَ المُشْرِكُونَ يَنتظِرُونَ خُرُوجَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ خَرَجَ، وَأَعْمَى اللَّهُ أَعْيُنَهُمْ عَنْهُ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 16: هنا تتجلى رُجُولة الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وشجاعتُه، وثباتُ أعصَابِهِ، وهُنَا يظهَرُ نَصْرُ اللَّه لأوليائِهِ، حينَ فتَحَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الباب، وخرج يَشُقُّ صُفوفهم، يَقْتَحِمُ الجموعَ، التي جاءت تطلُبُ دَمَه، أرادوا قتله وأراد اللَّه حياته، فتَمَّ ما أرادَ اللَّه، وروعَتهم المفاجأة وأعَمْت أبصارهم، وما عادوا إلى أنفسهم حتى كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ مضى. (¬2) الحَفْنَةُ: هي مِلْءُ الكف. انظر النهاية (1/ 393). (¬3) سورة يس الآيات من (1/ 9). (¬4) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 110).

* خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر إلى غار ثور

* خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ: غَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْزِلَهُ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- يَتَرَقَّبُ وُصُولَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ بَعْدَ أَنْ اتَّفَقَا عَلَى الصُّحْبَةِ فِي الهِجْرَةِ. فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَإِلَّا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَدْ أَعَدَّ لِلسَّفَرِ عُدَّتَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ (¬1) الجَهَازِ (¬2). وَفِي اللَّيْلِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- مِنْ خَوْخَةٍ (¬3) لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ حَتَّى لَا يَرَاهُمَا أَحَدٌ، وَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ مَعْهُودَةٍ (¬4)، فَبَدَلًا مِنْ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 644): من الحَثِّ وهو الإسراعُ، والجَهَازُ بفتح الجيم وقد تكسر، وهو ما يحتاج إليه في السفر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905). (¬3) الخَوْخَةُ: بابٌ صَغِيرٌ كالنافذةِ الكبيرةِ. انظر النهاية (2/ 81). (¬4) قلتُ: وقعَ فِي مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (3061) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4083) - وابن جرير الطبري في تاريخه (1/ 567) بسند ضعيف عن ابن عباس رَضِيَ اللَّه عَنْهما قال: أن أبا بكر -رضي اللَّه عنه- جاء إلى بيت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعلي -رضي اللَّه عنه- نائم على فِرَاش الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، يحسب أنَّه نبي اللَّه، فقال: يا نبي اللَّه، فكشف علي -رضي اللَّه عنه- البرد، وقال له: إن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد انطلق نحو بئر ميمون، فأدِرِكْهُ، فانطلق أبو بكر، فدخَلَ معه الغار. =

* آخر نظرة لمكة

أَنْ يَسِيرَا نَحْوَ الشِّمَالِ ذَهَبَا إِلَى الجَنُوبِ حَيْثُ يُوجَدُ غَارُ ثَوْرٍ، وَهُوَ جَبَلٌ (¬1) وَفِيهِ الغَارُ، اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيَأْوِي إِلَيْهِ لِتَضْلِيلِ المُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ قُرَيْشًا سَتَجِدُّ (¬2) فِي طَلَبِهِ، وَأَنَّ الطَّرِيقَ الذِي سَتَتَّجِهُ إِلَيْهِ الأَنْظَارُ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ (¬3) هُوَ طَرِيقُ المَدِينَةِ الرَّئِيسِيُّ المُتَّجِهُ شَمَالًا، فَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الذِي يُضَادُّهُ تَمَامًا، وَهُوَ الطَّرِيقُ الوَاقِعُ جَنُوبَ مَكَّةَ (¬4). * آخِرُ نَظْرَةٍ لِمَكَّةَ: وَلَمَّا خَرَجَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- منْ مَكَّةَ أَخَذَ يَنْظُرُ إِلَى مَكَّةَ نَظْرَةَ الوَدَاعِ، وَهُوَ يَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ" (¬5). ¬

_ = وهذه الرواية مخالفَةٌ لما وقَع فِي الصحيح من أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- خَرَجَا مَعًا من بيتِ أبي بكر. قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 193): وقد حكى ابن جرير عن بعضهم: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَقَ الصدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- فِي الذَّهَابِ إلى غَارِ ثَوْرٍ، وأمَرَ عَلِيًّا أن يَدُلَّهُ على مَسِيرِهِ ليَلْحَقَهُ، فلحِقَهُ فِي أثنَاءِ الطريقِ، وهذا غَريب جدًا، وخلافُ المشهور من أنهما -أي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر- خَرَجا معًا. (¬1) غارُ ثَوْرٍ: هو جبلٌ شَامِخٌ فِي مكة، وعِرُ الطريق، صَعْبُ المُرْتَقَى، ذُو أحجارٍ كثيرة. انظر النهاية (1/ 223). (¬2) جَدَّ فِي السير: أي إذا اهتَمَّ به وأسرَعَ فيه. انظر النهاية (1/ 237). (¬3) أوَّل وَهْلَة: أي أول شيء، انظر لسان العرب (15/ 416). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 99) - الرحيق المختوم ص 164. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8/ 187) - وابن ماجة في سننه، كتاب المناسك - باب فضل مكة - رقم الحديث (3108) وإسناده صحيح.

وَرَوَى ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلْدَةٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُوبي مِنْكِ، مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ" (¬1). قَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الطَّنْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: . . . وَلقدْ شَرَّقْتُ مِنْ بَعْدُ وَغَرَّبْتُ، وَرَأَيْتُ بِلَادًا لَا أُحْصِيهَا عَدَدًا، فَمَا رَأَيْتُ فِيهَا أَجْمَلَ مِنْ دِمَشْقَ، أَفَهِيَ كَذَلِكَ، أَمْ تَجْمُلُ فِي عَيْنِي لِانَّهَا بَلَدِي، وَكُلُّ إِنْسَانٍ يُؤثِرُ بَلَدَهُ عَلَى سَائِرِ البُلْدَانِ؟ . لَقَدْ عَرَفْتُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَمْرِيكَا وَعَاشَ فِي أَكبرِ مُدُنِهَا، وَاسْتَمْتَعَ بِمُنتجَاتِ حَضَارَتِهَا، وَوَسَائِلِ التَّرَفِ فِيهَا، فَمَا أَنْسَتْهُ نُيُوُيورْكُ وَنَاطِحَاتُ السَّحَابِ فِيهَا، مَا أَنْسَتْهُ إِلَّا قَريتَهُ وَبَيْتَهُ المَبْنِيَ مِنَ الخَشَبِ وَاللَّبِنِ، وَكَانَ يُحِسُّ أنّهُ فِي أَمْرِيْكَا غَرِيبٌ، نَزِيلٌ فِي فُنْدُقٍ، مَا شَعَرَ بِالِاسْتِقْرَارِ إِلَّا لَمَّا وَصَلَ القَريَةَ وَوَلَجَ (¬2) الدَّارَ، وَهَذِي لَعَمْرِي مِنْ حَكِيمِ مَا قَدَّرَ اللَّهُ، وَلَهُ الحِكْمَةُ البَالِغَةُ فِي كُلِّ مَا قَدَّرَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاجْتَمَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي مَوَاضِعِ المَالِ وَالجَمَالِ، وَخَرَبَتِ البِلَادُ الفَقِيرَةُ، وَأَقْفَرَتْ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مكة - رقم الحديث (3709) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب فِي فضل مكة - رقم الحديث (3934). (¬2) وَلَجَ: دخل. انظر لسان العرب (15/ 391). (¬3) أقْفَرَتْ: أي خَلَتْ. انظر لسان العرب (11/ 253) - وانظر كلام الشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه في ذكرياته (2/ 234).

* تبشير الرسول -صلى الله عليه وسلم- برده إلى مكة

* تَبْشِيرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرَدِّهِ إِلَى مَكَّةَ: وَلقدْ بَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأنَّهُ سَيُرْجِعُهُ إِلَى مَكَّةَ مُنْتَصِرًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}، قَالَ: إِلَى مَكَّةَ (¬2). وَقَالَ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةَ: خَتَمَ اللَّهُ السُّورَةَ (¬3) ببشَارَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرَدِّهِ إِلَى مَكَّةَ قَاهِرًا لِأَعْدَائِهِ (¬4). * إِذْ هُمَا فِي الغَارِ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ فِي الحَدِيثِ الطَّوِيلِ -حَدِيثِ الهِجْرِةِ-: . . . ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فكَمَنَا (¬5). . . . . ¬

_ (¬1) سورة القصص آية (85). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه -كتاب التفسير - باب {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} رقم الحديث - (4773). (¬3) أي سورة القصص. (¬4) انظر تفسير القرطبي (16/ 329). (¬5) قال الحافظ في الفتح (7/ 645): فكَمَنَا: بفتح الميم ويجوز كسرها أي اختَفَيَا.

فِيهِ (¬1) ثَلَاثَ ليَالٍ (¬2). فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِيَ (¬3) لَكَ الغَارَ، فَدَخَلَ وَاسْتَبْرَاهُ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِي الجُحْرَ الذِي فِيهِ، فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِيَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَى، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فنَزَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الغَارِ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6279) قالت عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: فركِبَا حتَّى أَتَيَا الغارَ وهو ثَوْرٌ، فتوَارَيَا فيه. قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 28: هاجر -صلى اللَّه عليه وسلم- مُخَتَفيًا مع صَفِيِّه وخليلهِ شيخِ المسلمين أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، لم يخْتَفِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من ضَعْفٍ ولا جُبْنٍ، ولكنه كان كالقائدِ المُسَافر ليُدِيرَ المعركةَ الكبرى، فهل يُظْهِرُ نفسهُ ويقِفُ على الطريق، ليُحَارِبَ فصِيلةً لَحِقَتْ بهِ، فيَظْفَرَ عليها، ويُعَطِّلَ المعركة الكبرى؟ إنها تنتظرُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- معارك أكبر، تنَتِظُره بدرٌ، والفتحُ، وهوازِن، والقادِسِيَّة، واليرمُوك، وجبلُ طَارق، ومعاركُ الفتح الإسلامي، التي امتدَّت من بعده، سلسِلَة مُظَفّرة خيِّرة، نثرَتْ شُهَداء الحقِّ فِي كل أرض، ونصَبَتْ رايةَ العدلِ على كل جبل، وأضاءت بالإسلام القُلُوب والبلادَ فِي كل مكانٍ، وتنتظرُه -صلى اللَّه عليه وسلم- المعركة مع الجَهْلِ والفَقْرِ والظلم والفُسُوقِ، وسائرِ الأوضاعِ الخلقيَّة التي جاء ليُطَهِّر المجتمع البشري من آثارِها. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905). (¬3) أستَبْرِي: أي أختَبِرَهُ وأنظُرَ هل فيهِ أحدٌ أو شيءٌ يُؤْذِي. انظر النهاية (2/ 301). (¬4) أخرج ذلك: البيهقي فِي دلائل النبوة (2/ 476) بإسناد مرسل؛ لأنه موقُوفٌ على ابن سِيرِين - وابن سيرين لم يُدْرِك عمر - وأخرجه الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4327) - وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لولا إرسال فيه - ولم يخرجاه - ووافقه الذهبي في تلخيصه.

* مواقف مشرفة لآل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

قَالَ ابنُ هِشَامٍ: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَسَ الغَارَ، لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبْعٌ أَوْ حَيَّةٌ، يَقِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنَفْسِهِ (¬1). * مَوَاقِفُ مُشَرِّفَةٌ لِآلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- يَبِيتُ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثقِفٌ (¬2) لَقِنٌ (¬3)، فَيُدلِجُ (¬4) مِنِ عْنِدِهَما بِسَحَرٍ، فيصْبِحُ مَع قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ (¬5) بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ (¬6). * دَوْرُ عَامِرِ بنِ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مِنْحَةً (¬7) مِنْ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 99). (¬2) ثَقِفٌ: أي ذُو فِطْنَةٍ وذَكاء، والمراد أنَّه ثابِتُ المعرفة بما يَحتاج إليه. انظر النهاية (1/ 211). (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 646): لَقِن: بفتح اللام وكسر القاف: أي السريع الفهم. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 646): أي يخرج بسَحَر إلى مكة. (¬5) وفي رواية يَكَادَانِ به: أي يطلب لهما فيه المَكْروه، وهو من الكَيْد. انظر فتح الباري (7/ 646). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) - وأخرجه فِي كتاب اللباس - باب التقنّع - رقم الحديث (5807) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - فصل في هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6279). (¬7) مِنْحَة: بكسر الميم وسكون النون: أي غنم فيها لبن، ومنحة اللبن: أن يُعطيه ناقة أو شاة، ينتفع بلبنها ويعيدها. انظر النهاية (4/ 310).

* دور أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها

غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ العِشَاءِ فَيَبِيتَانِ -أَيْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ- فِي رِسِلٍ (¬1). ثُمَّ يَسْرَحُ عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- فَيُصْبِحُ فيِ رِعْيَانِ النَّاسِ كَبَائِتٍ، فَلَا يُفْطَنُ بِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ فِي الغَارِ (¬2). وَكَانَ عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- يَتْبَعُ بِغَنَمِهِ أَثَرَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بَعْدَ ذَهَابِهِ إِلَى مَكَّةَ لِيُعْفِي (¬3) عَلَيْهِ (¬4). * دَوْرُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬5) تَأْتيهِمَا بِالطَّعَامِ. ¬

_ (¬1) رِسْل: بكسر الراء: أي اللبن الطري. انظر فتح الباري (7/ 646). (¬2) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار- باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) - وأخرجه في كتاب اللباس - باب التقنّع - رقم الحديث (5807) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - فصل في هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6279). (¬3) عَفَا الأثر: أي دَرَس وانْمَحى. انظر النهاية (3/ 240). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 100). (¬5) قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى في كتابه رجال من التاريخ ص 37: هذه السيِّدة أبوها عظيمٌ، وزوجُها عظيم، وابنُهَا عظيم، وهي عَظِيمة في مَوَاهبها ومَوَاقِفها، عظيمة في نفسها وفي أعمالها. سيدة شارَكَتْ في أجَلِّ الأحدَاثِ، في السِّلْم وفىِ الحَرْبِ. سيدة كانت ربَّة بيتٍ صبرت على مُرِّهِ ولم تَبْطَرْ بِحُلْوِهِ، سيدة كان لها من نُبْل القلب، وكِبَر العقل، وثَبَات الأعصاب، ما لم يكن مثله إلا للقليل من عُظماء الرجال.

* أنفق أبو بكر -رضي الله عنه- كل أمواله في الهجرة

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صحِيحِهِ عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَنَعْتُ سُفْرَةً (¬1) لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ أَرَادَا المَدِينَةَ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا أَجِدُ شَيْئًا أَرْبِطُهُ (¬2) إِلَّا نِطَاقِي (¬3)، قَالَ: فَشُقِّيهِ (¬4)، فَفَعَلْتُ، فَسُمِّيَتْ "ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ" وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَسْمَاءُ ذَاتُ النِّطَاقِ (¬5). فَنَرى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- سَخَّرَ كُلَّ مَا يَمْلِكُ مِنْ أَهْلٍ، وَمِنْ مَالٍ، وَمَوْلًى عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هِجْرَتِهِ إِلَى المَدِينَةِ، فَأَيُّ فَضْلٍ هَذَا، وَأَيُّ شَرَفٍ هَذَا الذِي حَازَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-. * أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- كُلَّ أَمْوَالِهِ فِي الهِجْرَةِ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالحَاكِمُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ: خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. قَالَتْ: وَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. ¬

_ (¬1) السُّفرَة: طعام يتَّخِذُهُ المسافر، وأكثر ما يُحمل في جِلد مُسْتَدير، فَنُقِل اسم الطعام إلى الجلدِ وسُمي به. انظر النهاية (2/ 336). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 660): أي المتاعُ الذي في السُّفْرَة أو رأس السُّفْرَة. (¬3) النِّطَاقُ: بكسر النون وهو ما تَشُدُّ به المرأةُ وَسْطها ليَرْتَفِعَ به ثَوْبُهَا من الأرض عند المِهْنَة. انظر النهاية (5/ 65). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 660): يُستفاد من هذا أن الذي أمرَهَا بشقِّ نِطَاقِهَا لترِبَط به السُّفرة هو أبوها -رضي اللَّه عنه-. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3907).

قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ (¬1) وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ، إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا، فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةِ (¬2) البَيْتِ، كَانَ أَبِي يَضَعُ فِيهَا مَالَهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا المَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ. قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ (¬3) الشَّيْخَ بِذَلِكَ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ". ¬

_ (¬1) أبو قُحَافَةَ هو والد أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وقد أسلم أبو قُحَافة يوم فتح مكة. (¬2) الكُوَّةُ: هو الخَرْقُ في الحائط والثُّقْبُ في البيت. انظر لسان العرب (12/ 198). (¬3) سَكَنَ الرجُلُ: سَكَت. انظر لسان العرب (6/ 311). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26957) - والحاكم في المستدرك، كتاب الهجرة - باب هجرة أبي بكر إلى المدينة مع جميع أمواله - رقم الحديث (4326).

* خروج قريش في طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه

فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬1). وَرَوَى ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعِينَ أَلْفًا (¬2). * خُرُوجُ قُرَيْشٍ فِي طَلَبِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَاحِبِهِ: أَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَدْ بَقَوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَيْتِهِ، وَقَدْ خَرَجَ، وَأَعْمَى اللَّهُ أَعْيُنَهُمْ عَنْهُ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا وَرَجُلٌ يَقُولُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَهُنَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ، قَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ! قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِشَأْنِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ؟ فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، فكَأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا، فَجَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ مِنْ شِقِّ البَابِ فَيَرَوْنَ النَّائِمَ عَلَى فِرَاشِهِ مُسَجَّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا، عَلَيْهِ بُرْدُهُ. فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا (¬3)، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَشَفُوا البُرْدَ، فَإِذَا بِهِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7446) - وابن حبان في صحيحه - كتاب مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- ما انتَفَع بمال أحد ما انتفع بمال أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6858). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب ذكر عدد ما أنفق أبو بكر على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من المال - رقم الحديث (6859). (¬3) قال الإمام السهيلي في الروض الأنف (2/ 309): ذكر بعض أهل التفسير أن السبب المانِعَ لهم من التقحمِ عليه في الدار مع قِصَرِ الجدار، وأنهم إنما جاؤُوا لقتله، فذكر =

* أبو جهل لعنه الله يلطم أسماء رضي الله عنها

عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقنَا الذِي كَانَ حَدَّثنَا، فَسَأَلُوهُ: أَيْنَ صَاحِبُكَ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي (¬1). فَجُنَّ جُنُونُ قُرَيْشٍ حِينَمَا تَبَيَّنَ لَهَا خُرُوجُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ، وَصَارُوا يَهِيمُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ طَلَبًا لَهُ، وَجَعَلُوا لِمَنْ يَأْتِي بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ مُكَافَأَةً ضَخْمَةً قَدْرُهَا مِائَةُ نَاقَةٍ (¬2) لِمَنْ يَأْتِي بِهِمَا إِلَى قُرَيْشٍ حَيَّيْنِ أَوْ مَيْتَيْنِ (¬3). * أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ يَلْطِمُ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ ابنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ ¬

_ = في الخبر أنهم هَمُّوا بالوُلوج عليه -أي الدخول عليه- فصاحَتِ امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: واللَّه إنها للسُّبَّةُ في العرب أن يتحدث عنا أنَّا تسَوَّرْنَا الحيطان على بَنَاتِ العَمِّ، وهتَكْنَا سِرَّ حُرْمَتِنَا، فهذا الذي أقامهم بالبابِ، حتى أصبَحُوا ينتظرون خروجَهُ، ثم طُمِسَتْ أبصَارُهُمْ عنه حين خَرَجَ. (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 97) - الروض الأنف (2/ 308). (¬2) قلتُ: مائةُ ناقةٍ في زماننا ثَرْوَةٌ عظيمَةٌ، فما بالكم في ذلك الزمن. (¬3) قِصَّةُ المكافأةِ لمن يأتي برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَاحِبِهِ: أخرَجَهَا البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906).

* لا تحزن إن الله معنا

قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي، فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ يَدَهُ، وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً (¬1) طَرَحَ مِنْهَا قُرْطِي (¬2)، قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفُوا (¬3). * لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا: عِنْدَ ذَلِكَ رَكِبَ الفُرْسَانُ وَقُصَّاصُ (¬4) الأَثَرِ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَانْتَشَرُوا فِي الجِبَالِ وَالوُدْيَانِ يَطْلَبُونَهُمَا -أَيْ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- وَاشْتَدَّ الطَّلَبُ، لَكِنْ مِنْ دُونِ جَدْوَى. حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الجَبَلِ الذِي فِيهِ الغَارُ، وَصَعَدُوا الجَبَلَ، وَوَصَلُوا إِلَى فَمِ الغَارِ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ العُثُورِ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى تَحْتِ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ أَدَقَّ لَحْظَةٍ مَرَّتْ بِهَا الإِنْسَانِيَّةُ فِي رِحْلَتِهَا الطَّوِيلَةِ، وَكَانَتْ لَحْظَةً حَاسِمَةً، فَإِمَّا امْتِدَادُ شَقَاءٍ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَإِمَّا افْتِتَاحُ سَعَادَةٍ لَا آخِرَ لَهَا، وَقَدْ حَبَسَتِ الإِنْسَانِيَّةُ أَنْفَاسَهَا، وَوَقَفَتْ خَاشِعَةً حِينَ وَصَلَ البَاحِثُونَ إِلَى فَمِ الغَارِ، ¬

_ (¬1) قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 40: وكذلك يفعلُ الجَبَان، عَجَزَ عن أن يضرِبَ الرجال فضرَبَ امرأةً حَامل في عبد اللَّه بن الزبير، وكذلك يَفْعل الجُبَنَاء في كل عَصْرٍ. (¬2) القُرْطُ: هو نوعٌ من حُلي الأذُن معروف. انظر النهاية (4/ 37). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 101). (¬4) قَصَّ الأثَرَ: أي تَتَبَّعه. انظر النهاية (4/ 64)، ومنه قوله تعالى في سورة القصص آية (11) في قصة موسى عليه السلام: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}.

وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ العُثُورِ عَلَى مَنْشُودِهِمْ إِلَّا أَنْ يَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى تَحْتِ قَدَمَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ (¬1). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَبا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا" (¬2). وَفي رِوَايَةِ عُرْوَةِ بنِ الزُّبَيْرِ فِي مَغَازِيهِ، قَالَ: وَأَتَى المُشْرِكُونَ عَلَى الجَبَلِ الذِي فِيهِ الغَارِ، الذِي فِيهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى طَلَعُوا فَوْقَهُ، وَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ أَصْوَاتَهُمْ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الهَمُّ وَالخَوْفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا". وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر السيرة النبوية للشيخ أبو الحسن الندوي ص 167. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 675): ومعنى ثالثهما: أي نَاصرهما ومُعِينهما، وإلا فهو سبحانه وتعالى مع كل اثنين بعلمه كما قال سبحانه في سورة المجادلة آية (7): {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ}. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3653) - وأخرجه في كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3922) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2381). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 358). =

وَفِي هَذَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). فَلَمَّا انْتَهَى هَؤُلَاءَ الكُفَّارُ إِلَى بَابِ الغَارِ، قَالُوا: هَاهُنَا انْقَطَعَ الأَثَرُ، وَاخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الأَمْرُ، فَلَمَّا رَأَوْا نَسْجَ العَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِ الغَارِ قَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ العَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ (¬2)، فَانْصَرَفُوا. قُلْتُ: كَانَتْ مُعْجِزَةً، أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَتَتَجَلَّى هَذِهِ المُعْجِزَةُ فِي أَنَّ هَؤُلَاءَ الكُفَّارِ لَمْ يَتَكَلَّفْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَنْظُرَ دَاخِلَ الغَارِ، وَإِنَّمَا وَقَفُوا عَلَى بَابِ الغَارِ، فَلَمَّا رَأَوْا نَسْجَ العَنْكَبُوتِ، قَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ العَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا. ¬

_ = قال الإمام النووي في شرح مسلم (5/ 122): وفي هذا الحديث فضيلة لأبي بكر -رضي اللَّه عنه- وهي من أجلِّ مناقبه، ولفضيلته أوْجُه منها: بَذْله نفسه، ومُفَارَقتهُ أهله وماله ورِيَاسَتِهِ في طاعة اللَّه تعالى ورسوله، وملازمَة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعادَاتُ الناس فيه، ومنها جعله نفسه وِقَاية عنه. (¬1) سورة التوبة، آية (40). (¬2) قِصَّة نسج العنكبوت على فَمِ الغار أخرجها: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3251) - وغيره، وحسن إسنادها الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 645) - والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 195). مع أن في سَنَدِهِ عثمان بن عمرو بن سَاجٍ الجَزري، قال عنه الحافظ في التقريب: فيه ضَعف.

* مغادرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الغار

قَالَ أَحْمَدُ شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: سَلْ عُصَبَة الشِّركِ حَولَ الغارِ سَائِمَةً ... لَوْلَا مُطَارَدَةُ المُختَارِ لَمْ تَسُمِ هَلْ أَبْصَرُوا الأَثَرَ الوَضَّاءَ أَمْ سَمِعُوا ... هَمْسَ التّسَابِيحِ وَالقُرْآنَ مِنْ أَمَمِ (¬1) وَهَلَ تَمَثَّلَ نَسْجُ العَنْكَبُوتِ لَهُمْ ... كَالغَابِ (¬2)، وَالحَائِمَاتُ الزُّغْبُ (¬3) كَالرُّخُمِ (¬4) فَأَدْبَرُوا وَوُجُوهُ الأَرْضِ تَلْعَنُهُمْ ... كَبَاطِلٍ مِنْ جَلَالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ * مُغَادَرَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ الغَارَ: أَقَامَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- فِي الغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، حَتَّى إِذَا خَمَدَتْ عَنْهُمَا نَارُ الطَّلَبِ، وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، جَاءَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُرَيْقِطٍ بِالرَّاحِلَتَيْنِ، فَارْتَحَلَا، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ يَخْدِمُهُمَا (¬5). ¬

_ (¬1) أَمَمِ: بفتح الهمزة: القُرب، يقال: أخذت ذلك من أَمم: أي من قُرب. انظر لسان العرب (1/ 216). (¬2) غَبِيَ الشيء عنه: لم يَفْطَن له. انظر لسان العرب (10/ 16). (¬3) الزُّغْب: أول ما يبدُو من شَعْر فَرْخِ الطائر. انظر لسان العرب (6/ 50). (¬4) أرخَمَتِ الحَمَامَةُ على بَيْضِهَا: إذا حَضَنَتْهُ. انظر لسان (5/ 179). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4093) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6277).

* الطريق إلى المدينة

وَكَانَ خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ مِنَ الغَارِ فِي آخِرِ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ فِي السَّحَرِ لِأَرْبَعِ لَيِالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ (¬1). قَالَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ: تَوَاتَرَتِ الأَخْبَارُ أَنَّ خُرُوجَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدُخُولَهُ المَدِينَةَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ مُوسَى الخَوَارِزْمِيَّ قَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الخَمِيسِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ خُرُوجَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ كَانَ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَخُرُوجَهُ مِنَ الغَارِ كَانَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، لِأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَهِيَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ، وَلَيْلَةُ السَّبْتِ، وَلَيْلَةُ الأَحَدِ، وَخَرَجَ فِي أَثْنَاءَ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ (¬3). * الطَّرِيقُ إِلَى المَدِينَةِ: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَارْتَحَلَ مَعَهُمَا عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَرْدَفه أَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ، لَيْسَ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرَهُ، وَغَيْرَ الدَّلِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُرَيْقِطٍ، فَانْطَلَقَ الأَرْبَعَةُ إِلَى المَدِينَةِ (¬4). قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُرَيْقِطٍ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ، حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقُ أَسْفَلَ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 112). (¬2) انظر كلام الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - بعد حديث (4316). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 644). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 100).

عُسْفَانَ (¬1)، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجٍ (¬2)، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا، حَتَّى عَارَضَ بِهِمَا الطَّرِيقُ، بَعْدَ أَنْ أَجَازَ (¬3) قُدَيْدًا (¬4)، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَسَلَكَ بِهِمَا الخَرَّارَ (¬5)، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ (¬6) المُرَّةِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا لِقْفًا (¬7)، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ لِقْفٍ، ثُمَّ اسْتَبْطَنَ (¬8) بِهِمَا مَدْلَجَةَ مَحَاجٍ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِح مجاج، ثُمَّ تَبَطَّنَ بِهِمَا مَرْجِح مِنْ ذِي الغَضْوَيْنِ، ثُمَّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ (¬9)، ثُمَّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الجَدَاجِدِ (¬10)، ثُمَّ عَلَى الأَجْرَدِ (¬11)، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ، مِنْ بَطْنِ أَعْدَا مَدْلِجَةً تِعْهن، ثُمَّ عَلَى العَبَابِيدِ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا الفَاجَةَ، ثُمَّ هَبَطَ بِهِمَا العَرْجَ (¬12)، ثُمَّ سَلَكَ ¬

_ (¬1) عُسْفَان: هي قريةٌ جَامِعة بين مكة والمدينة. انظر النهاية (3/ 214). (¬2) أَمَجٍ: بفتحتين وهو موضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (1/ 66)، ومعجم البلدان (1/ 200). (¬3) جَازَ الموضِعَ: سارَ فيه وسَلَكَهُ حتى قَطَعَهُ. انظر لسان العرب (2/ 416). (¬4) قُدَيْدٌ: مُصَغَّرًا، وهو موضعٌ بين مكةَ والمدينةِ. انظر النهاية (4/ 20). (¬5) الخَرَّارُ: بفتح الخاء وتشديد الراء الأولى: موضع قُرب الجُحفة. انظر النهاية (2/ 21). (¬6) الثَنِيَّةَ: هو الطريق العالي في الجبل. انظر النهاية (1/ 220). (¬7) لِقفًا: هو ماءُ آبارٍ كثيرةٍ عَذْبٍ ليس عليها مُزَارع، ولا نخل فيها لِغِلَظِ مَوضعها، وخُشُونَتِهِ. انظر معجم البلدان (4/ 181). (¬8) استَبْطَنَ بهما: أي دخَل بهما. انظر لسان العرب (1/ 435). (¬9) ذِي كَشْر: هو جبلٌ بين مكة والمدينة. انظر معجم البلدان (4/ 138). (¬10) الجَدَاجِدُ: هي آبار قديمة. انظر معجم البلدان (2/ 37). (¬11) الأجْرَدُ: هو جبل جُهَيْنَةَ بين المدينة والشام. انظر معجم البلدان (1/ 90). (¬12) العَرْجُ: بفتح العين وسكون الراء: قرية جامعة من عمل الفُرْع، على أيام من المدينة. انظر النهاية (3/ 184).

* أحداث جرت في الطريق إلى المدينة

بِهِمَا ثَنِيَّةَ العَائِرِ، عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةِ، حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِئْمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ (¬1). * أَحْدَاثٌ جَرَتْ فِي الطَّرِيقِ إِلَى المَدِينَةِ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ (¬2)، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ (¬3) يُعْرَفُ وَنَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَابٌّ (¬4) لَا يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب ذكر مقامات مرور النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الهجرة - رقم الحديث (4331) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 105) وإسناده حسن. (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 91): كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أردَفَهُ تَشْرِيفًا له وتَنْوِيهًا بِقَدْرِه، وإلا فقد كان لأبي بكر ناقةٌ هاجَرَ عليها. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 664): يريد أنه قد شاب، وقوله: يُعرف، لأن أبا بكر -رضي اللَّه عنه- كان يمُرُّ على أهل المدينة في سفر التجارة، بخلاف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة. قلتُ: ويؤيِّد قولَ الحافظ ما رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12234) بسند صحيح على شرط مسلم عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: . . . وكان أبو بكر يُعرف في الطريق لاخِتَلافه إلى الشام. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 664): ظاهره أن أبا بكر -رضي اللَّه عنه- كان أسن من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس كذلك، فقد ثبت في صحيح مسلم - رقم الحديث (2352) - عن معاوية -رضي اللَّه عنه- قال: "مات أبو بكر -رضي اللَّه عنه- وهو ابن ثلاث وسِتِّين"، وكان قد عاش بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنتين وأشهرًا، فيلزم على الصحيح في سن أبي بكر أن يكون أصغَرَ من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأكثر من سَنَتين.

* شأن سراقة بن مالك -رضي الله عنه-

فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ (¬1). * شَأْنُ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً (¬2) بِالسَّاحِلِ أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ (¬3)، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا يَبْتَغُونَ ضَالَّةً لَهُمْ. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَعَلَّ، وَسَكَتَ. قَالَ سُرَاقَةُ: ثُمَّ لَبِثْتُ فِي المَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ بَيْتِي فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تُخْرِجَ لِي فَرَسِي، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ أَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3911) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12234). (¬2) أسوِدَة: أي أشْخَاصًا. النهاية (2/ 377). (¬3) قلتُ: في إنكارِ سُرَاقة للسائل ما يدل على أنه أَرَادَ الجائِزَةَ لنفسه، وهي مائة نَاقَةٍ لمن يأتي بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصاحبه حَيَّيْنِ أو مَيْتَيْنِ، وقد بَيَّنتْ رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 103) ذلك، قال سُرَاقة: وكنت أرجو أن أرُدَّه على قريش، فآخُذَ المِئَة الناقة.

وَصَاحِبَهُ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-. قَالَ سُرَاقَةُ: فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُمْ حَيْثُ يُسْمِعُهُمُ الصَّوْتُ، عَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا، أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا؟ فَخَرَجَ الذِي أَكْرَهُ: أَنْ لَا أَضُرَّهُمْ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُمْ، عَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُمْ، وَسَمِعْتُ قِرَاءَةً رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ (¬1) قَدْ لَحِقَنَا، فَقَال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا". حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا، وَبَكَى، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لِمَ تَبْكِي؟ ". قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى سُرَاقَةَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ" (¬2). قَالَ سُرَاقَةُ: فَسَاخَتْ (¬3) يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ حَتَّى بَلَغتا الرُّكْبَتَيْنِ (¬4)، ¬

_ (¬1) الطَّلَبُ: أي أهلُ الطَّلَبِ. انظر النهاية (3/ 119). (¬2) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3911) قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ". (¬3) سَاخَتْ: أي غَاصَتْ. انظر النهاية (2/ 374). (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3615) - ومسلم - رقم الحديث =

فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرتُهَا (¬1)، فنَهَضَتْ (¬2) فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ (¬3) سَاطِعٌ فِي السَّمَاءَ مِثْلُ الدُّخَانِ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلَامِ (¬4)، فَخَرَجَ الذِي أَكْرَهُ، فنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ (¬5)، فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ الزَّادَ ¬

_ = (2009) - قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: فارتَطَمَتْ -أي غَاصَتْ- به فرسه إلى بطنِها، أُرى في جَلَد من الأرض. جَلَد من الأرض: أي أرض صلبة. انظر النهاية (1/ 275). (¬1) زَجَرَهَا: أي حَثَّهَا. انظر النهاية (2/ 268). (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3911) - قال أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-: فصَرَعه الفرس، ثم قامت تُحَمْحِمُ -الحَمْحَمَةُ: صوتُ الفَرَس دُونَ الصَّهِيل-. انظر النهاية (1/ 419). (¬3) عُثان: أي دُخان. انظر النهاية (3/ 166). (¬4) الأزْلَام: هي القِدَاح التي كانت في الجاهلية عليها مكتوبٌ الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، كان الرجل منهم يَضَعُهَا في وِعَاءٍ له، فإذا أراد سَفَرًا أو زَوَاجًا، أو أمرًا مهمًا أدخل يده فأخرج منها زِلمًا، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خَرج النهي كَفَّ عنه، ولم يفعله. انظر النهاية (2/ 281). (¬5) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3615) - ومسلم - رقم الحديث (2009)، قال سُراقة: إني أراكما قد دَعَوْتُمَا عليَّ، فادعوا لي، فاللَّه لكما أن أرد عنكما الطلَبَ، فدعا له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَجَا.

* رواية ضعيفة مشهورة

وَالمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي (¬1)، وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: "أَخْفِ عَنَّا" (¬2). قَالَ سُرَاقَةُ: فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمَانٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بنَ فُهَيْرَةَ فكَتَبَ لِي فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ بَيْضَاءَ (¬3)، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَجَعَلَ سُرَاقَةُ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَالَ: كَفَيْتُكُمْ مَا هُنَا، فَلَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا رَدَّهُ، قَالَ: وَوَفَّى لَنَا. فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً (¬4) لَهُ (¬5). * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ مَشْهُورَةٌ: وَأَمَّا الرِّوَايَةُ المَشْهُورَةُ عَنْ سُرَاقَةُ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "كَيْفَ ¬

_ (¬1) فلم يَرْزَآنِي: أي لم يَسْأَلَانِي، ولم يأخُذَا مني شيئًا. انظر النهاية (2/ 199). (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3911) قال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تتركنّ أحدًا يلحق بنا". (¬3) رقعة من أدم: أي من جلد. انظر لسان العرب (1/ 96). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 653): أي حارسًا له بسلاحه. (¬5) أخرج مطاردة سراقة بن مالك -رضي اللَّه عنه- للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: البخاري في صحيحه - كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3615) - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - (3911) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب في حديث الهجرة - رقم الحديث (2009) (91) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3) - (17591) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - فصل هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6280) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 103).

بِكَ إِذَا لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى؟ ". فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَفُتِحَتِ المَدَائِنُ جِيئَ بِسِوَارَيْ كِسْرَى إِلَى عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، فَدَعَا سُرَاقَةَ بنَ مَالِكٍ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُمَا، وَقَالَ لَهُ: ارْفَعْ يَدَيْكَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الحَمْدُ للَّهِ الذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بنَ هُرْمُزٍ، الذِي كَانَ يَقُولُ: أَنَا رَبُّ النَّاسِ، وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بنَ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ، أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِيُ مدْلِجٍ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْرَدَهَا الحَافِظُ فِي الإِصَابَةِ (¬1)، وَابنُ عَبْدِ البَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ (¬2)، بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ. قُلْتُ: مَجِيءُ كُنُوزِ كِسْرَى إِلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- ثَابِتٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ البَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- بِكُنُوزِ كِسْرَى، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الأَرْقَمِ الزُّهْرِيُّ: أَلَا تَجْعَلُهَا فِي بَيْتِ المَالِ حَتَّى تَقْسِمَهَا؟ قَالَ: لَا يُظِلُّهَا سَقْفٌ حَتَّى أُمْضِيَهَا، فَأَمَرَ بِهَا، فَوُضِعَتْ فِي صُوحِ المَسْجِدِ، وَبَاتُوا يَحْرُسُونَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ، أَمَرَ بِهَا، فَكُشِفَ عَنْهَا، فَرَأَى فِيهَا مِنَ ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (3/ 35). (¬2) انظر الاستيعاب (2/ 148).

* سقيا اللبن

الحَمْرَاءَ (¬1) وَالبَيْضَاءِ (¬2) مَا يَكَادُ يَتَلَأْلَأُ مِنْهُ البَصرُ، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا لَيَوْمُ شُكْرٍ، وَيَوْمُ سُرُورٍ، وَيَوْمُ فَرَحٍ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: كَلَّا إِنَّ هَذَا لَمْ يُعْطَهُ قَوْمٌ إِلَّا أُلْقِيَ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ. . . (¬3). * سُقْيَا اللَّبَنِ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ، فَأَحْيَيْنَا (¬4) أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا (¬5) وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ (¬6)، فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ (¬7) أَتَيْتُهَا، فنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ، ثُمَّ فَرَشْتُ (¬8) لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ، ثُمَّ قُلْتُ ¬

_ (¬1) الحمراء: الذهب. انظر النهاية (1/ 420). (¬2) البيضاء: الفضة. انظر النهاية (1/ 420). (¬3) أخرجه البغوي في شرح السنة - رقم الحديث (2742). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 671): من الإحياء، أي أنهم لم يناموا الليل. (¬5) أظْهَرْنَا: أي إذا دخَل في وقتُ الظُّهر. انظر النهاية (3/ 150). (¬6) قال الحافظ في الفتح (7/ 331): أي نصف النهار، وسُمي قائمًا لأن الظل لا يَظهر حينئذٍ فكأنه وَاقِف. (¬7) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3615)، قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: فرُفِعَت لنا صخرة: أي ظَهَرت. (¬8) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3615) قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: وبسطتُ عليه فَرْوَة، وقلت له: نَمْ يا رسول اللَّه.

لَهُ: اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي: هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا؟ فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي (¬1) غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا الذِي أَرَدْنَا (¬2). فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا (¬3)؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرْتُهُ. . . . ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 357): ذكر بعضهم أن هذا الرَّاعي هو عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، وذكروا حديثه الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4412) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (351) بسند حسن - عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- أنه قال: كنتُ غُلَامًا يَافِعًا أرْعَى غَنَمًا لعقبةَ بنِ أَبِي مُعيط، فجاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر -رضي اللَّه عنه-، وقد فَرَّا من المشركين، فقالا: يا غلام، هل عندك من لَبَنٍ تسقينَا؟ قلت: إني مُؤْتَمَنٌ، ولستُ سَاقِيكُمَا، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل عندكَ من جَذَعَةٍ لم يَنْزُ عليها الفَحْلُ"؟ قلت: نعم، فأتيتهما بها، . . . الحديث. وهذا لا يصح أن يفسر به الراعي في حديث البراء؛ لأن ذاك قِيل له: هل أنت حالبٌ؟ ففال: نعم، وهذا أشار بأنه غير حالبٍ، وذاك حلبَ من شاةٍ حَافِلٍ -أي كثيرة اللبن- وهذا من شَاةٍ لم تُطرق ولم تَحْمل، ثم إن في بقيةِ حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- ما يدلُّ على أن قِصته كانت قبل الهجرةِ لقوله فيه: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول اللَّه علِّمني من هذا القول، فإن هذا يُشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، وإسلامُ ابن مسعود كان قَدِيمًا قبل الهجرة بزَمَان، فبطل أن يكون هو صاحبَ القصة في الهجرة، واللَّه أعلم. (¬2) أراد الظل. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 332): الظاهر أن مُراده بهذا الاستفهام أمَعَك إذنٌ في الحَلْب لمن يَمُرُّ بك على سبيلِ الضيافة؟ ويحتمل أن يكون أبو بكر -رضي اللَّه عنه- لما عرفه -أي عرف سَيِّد الراعي- عرف رضاه بذلك بِصَداقته له أو إذْنِهِ العامِّ لذلك.

فَاعْتَقَلَ (¬1) شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا (¬2) مِنَ الغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرتُهُ أَنْ يَنْفِضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا، ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ لِي (¬3) كُثْبَةً (¬4) مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِدَاوَةً (¬5) عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ (¬6) حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ (¬7). ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ آنَ الرَّحِيلُ (¬8) يَا رَسُولَ اللَّهِ. ¬

_ (¬1) اعتَقَلَ الشاة: هو أن يضَعَ رِجْلَهَا بين ساقِهِ وفخذه ثم يحلبها. انظر النهاية (3/ 255). (¬2) الضَّرْعُ: هو ثَدْيُ الشاة. انظر فتح الباري (7/ 332). (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري، رقم الحديث (3615)، قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: فحَلَبَ في قَعْبٍ [والقَعْبُ: هو القدح الضخم. انظر لسان العرب (11/ 235)]. (¬4) كُثْبَة: أي القليل من اللبن، والكُثْبَة: هي كل قليل جمعته من طعام أو لَبَن أو غير ذلك. انظر النهاية (4/ 132). (¬5) الإِدَاوَة: بالكسر: هي إناءٌ صَغير من جِلد يُتَّخذ للماء. انظر النهاية (1/ 36). وهذه الإدَاوَة كان فيها ماء، فقد جاء في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3615) قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: ومعي إداوَةٌ حملتُهَا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْتَوي منها يشْرَبُ ويَتَوَضَّأ. (¬6) أي صَببت الماء الذي في الإدَاوة على اللبن. (¬7) قال الإمام النووي في شرح مسلم (13/ 152): معناه شَرِبَ حتى عِلْمْتُ أنه شرب حاجتَهُ وكِفَايته. وقال الحافظ في الفتح (7/ 357): كأنها مُشعِرة بأنه أمْعَنَ -أي بالغ- في الشرب، وعادَتُه -صلى اللَّه عليه وسلم- المألوفُة كانت عدم الإمعَانِ. (¬8) قال الحافظ في الفتح (7/ 357): أي دَخَلَ وقْته. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3615) قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بكر -رضي اللَّه عنه -: "ألَمْ يأنِ لِلرَّحِيل؟ "، قلت: بلى. =

* فوائد الحديث

قَالَ: "بَلَى"، فَارْتَحَلْنَا وَالقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - خِدْمَةُ التَّابِعِ الحُرِّ لِلْمَتْبُوعِ فِي يَقَظَتِهِ، وَالذَّبُّ عَنْهُ عِنْدَ نَوْمِهِ. 2 - وَفِيهِ شِدَّةُ مَحَبَّةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَدَبُهُ مَعَهُ، وَإِيثَارُهُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ. 3 - وَفيهِ أَدَبُ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاسْتِحْبَابُ التَّنْظِيفِ لِمَا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ. 4 - وَفِيهِ اسْتِصْحَابُ آلَةِ السَّفَرِ، كَالإِدَاوَةِ وَالسُّفْرَةِ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي التَّوَكُّلِ (¬2). * إِسْلَامُ الرَّاعِى: رَوَى الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَالبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنْ قَيْسِ بنِ النُّعْمَانِ قَالَ: لَمَّا انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ ¬

_ = فيجمعُ بينهما بأن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بَدَأ فسأل، فقال له أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: بلى، ثم أعادَ عليه بقوله: قَدْ آن الرحيل. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة - رقم الحديث (3615) - وأخرجه في كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب مناقب المهاجرين وفضلهم منهم أبو بكر - رقم الحديث (3652) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأشربة - باب جواز شرب اللبن - رقم الحديث (2009). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 357).

مُسْتَخْفِيَيْنِ مَرَّا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا فَاسْتَسْقَيَاهُ مِنَ اللَّبَنِ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تُحْلَبُ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا عَنَاقًا (¬1) حَمَلَتْ أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وَقَدْ أَخْرَجَتْ، وَمَا بَقِيَ لَهَا لَبَنٌ، فَقَالَ: "ادْعُ بِهَا"، فَدَعَا بِهَا فَاعْتَقَلَهَا (¬2) النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَسَحَ ضَرْعَهَا (¬3) وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، قَالَ: وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بِمِحْجَنٍ (¬4)، فَحَلَبَ فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الرَّاعِي، ثُمَّ حَلَبَ فَشَرِبَ، فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ؟ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَتُرَاكَ تَكْتُمُ عَلَيَّ حَتَّى أَخْبِرُكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، فَقَالَ الرَّاعِي: أَنْتَ الذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ (¬5)، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ذَلِكَ"، فَقَالَ الرَّاعِي: فَأَشْهَدُ إِنَّكَ نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ وَأَنَا مُتَّبِعُكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنَا" (¬6). ¬

_ (¬1) العَنَاق: هي الأنْثَى من أولاد المَعْزِ ما لم يتمَّ له سَنة. انظر النهاية (3/ 281). (¬2) اعتَقَل الشاة: هو أن يضعَ رِجْلها بين ساقِهِ وفخذِه ثم يَحلب، وقد مرَّ شرحها. انظر النهاية (3/ 255). (¬3) الضَّرْعُ: ثديُ الشاة، وقد مر شرحها. انظر فتح الباري (7/ 332). (¬4) المِحْجَنُ: عَصا مُعَقَّفَةُ الرأس. انظر النهاية (1/ 335). (¬5) يُقال: صَبَأَ فلان: إذا خرَجَ من دينٍ إلى دينٍ غيره، وكانتِ العربُ تُسمي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الصابِئَ؛ لأنه خَرج من دينِ قُريش إلى دين الإسلام. انظر النهاية (3/ 3). (¬6) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب ذكر مقامات مرور النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الهجرة - رقم الحديث (4332) - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 497).

*قصة أم معبد الخزاعية

* قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةُ: أَكْمَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى المَدِينَةِ وَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- وَعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَالدَّلِيلُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُرَيْقِطٍ، وَفِي الطَّرِيقِ مَرُّوا عَلَى خَيْمَةِ أَمٍّ مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَ مَنْزِلُهَا بِقُدَيْدٍ (¬1)، وَكَانَتْ امْرَأَةً بَرْزَةً (¬2) جَلْدَةً (¬3) تَحْتَبِي (¬4) بِفِنَاءِ (¬5) الخَيْمَةِ، ثُمَّ تَسْقِي وَتُطْعِمُ مَنْ مَرَّ بِهَا، فَسَأَلَاهَا: لَحْمًا وَتَمْرًا لِيَشْتَرُوا مِنْهَا، فَلَمْ يَجْدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ القَوْمُ مُرْمِلِينَ (¬6) مُسْنِتِينَ (¬7)، فنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى شَاةٍ فِي جَانِبِ الخَيْمَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ "، قَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الجَهْدُ (¬8) عَنِ الغَنَمِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟ "، قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟ "، قَالَتْ: إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلَبًا، فَاحْلِبْهَا، فَدَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَسَحَ بِيَدِهِ ¬

_ (¬1) قُدَيدٌ: مُصَغَّرًا، وهو موضعٌ بين مكةَ والمدينة. انظر النهاية (4/ 20). (¬2) يُقال: امرأة بَرْزَة إذا كانت كَهْلة لا تَحْتَجِبُ احتِجَابَ الشَّوابِّ، وهي مع ذلك عَفِيفة عاقلة تجلسُ للناسِ وتُحَدِّثهم، من البُرُوزِ وهو الظُّهور والخروج. انظر النهاية (1/ 118). (¬3) جَلْدَة: أي قوية في نفسها وجسمها. انظر النهاية (1/ 275). (¬4) الاحتِبَاء: هو أن يَضُم الإنسان رِجليه إلى بَطْنِهِ بثوبٍ يجمعهما به مع ظَهره، ويَشُدُّه عليها، وقد يكون الاحتباءُ باليدين عِوَض الثوب. انظر النهاية (1/ 324). (¬5) الفِنَاء: بكسر الفاء، وهو المُتَّسَع أمام الدار. انظر النهاية (3/ 428). (¬6) مُرْمِلِينَ: أي نَفِدَ زَادُهم. وأصله من الرَّمل، كأنهم لصقوا بالرمل. انظر النهاية (2/ 240). (¬7) مسْنِتِينَ: أي أصابتهم السَّنَة، والسَّنَة هي الجَدْبُ، يُقال أخذتهم السَّنَة إذا أجدبوا وأُقحطوا. انظر النهاية (2/ 371). (¬8) الجَهْدُ: بفتح الجيم أي المشقَّة. انظر النهاية (1/ 308).

ضَرْعَهَا، وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى، وَدَعَا لَهَا فِي شَاتِهَا، فتَفَاجَّتْ (¬1) عَلَيْهِ، وَدَرَّتْ فَاجْتَرَّتْ (¬2)، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِنَاءٍ يُرْبِضُ الرَّهْطَ (¬3)، فَحَلَبَ فِيهِ ثَجًّا (¬4) حَتَّى عَلَاهُ البَهَاءُ (¬5)، ثُمَّ سَقَاهَا حَتَّى رَوِيَتْ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ حَتَّى رَوُوا، وَشَرِبَ آخِرَهُمْ حَتَّى أَرَاضُوا (¬6)، ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيَةً عَلَى هَدَّةٍ (¬7) حَتَّى مَلأَ الإِنَاءَ، ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا، وَارْتَحَلُوا عَنْهَا. فَقَلَّ مَا لَبِثَتْ حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ، يَسُوقُ أَعْنُزًا عِجَافًا (¬8)، يَتَسَاوَكْنَ (¬9) هِزَالًا، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مَعْبَدٍ اللَّبَنَ عَجِبَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ وَالشَّاءُ عَازِبٌ (¬10) حَائِلٌ (¬11)، وَلَا حَلُوبَ (¬12) فِي البَيْتِ؟ ¬

_ (¬1) التَفَاجُّ: المبالغة في تَفْرِيج ما بين الرجلين. انظر النهاية (3/ 370). (¬2) الجِرَّة: ما يُخرجُهُ البعيرُ من بطنهِ ليَمْضَغَهُ ثم يَبْلَعه، ومنه شاة أم معبد، انظر النهاية (1/ 251). (¬3) يُرْبِضُ الرَّهطَ: أي يَرويهم ويُثقلهم حتى يَنَاموا ويَمْتَدُّوا على الأرض. انظر النهاية (2/ 169). (¬4) فَحَلَبَ فيه ثَجًّا: أي لَبَنًا سَائِلًا كثِيرًا. انظر النهاية (1/ 202). (¬5) أرَاد بهاء اللبن، وهو بَرِيق رغوته. انظر النهاية (1/ 166). (¬6) أرَاضُوا: أي شَرِبوا حتى رَوَوْا. انظر النهاية (1/ 42). (¬7) الهَدَّة: الصَّوت الشديد. انظر لسان العرب (15/ 49). (¬8) عِجَافًا: جمعُ عَجْفَاء، وهي المَهْزُولَة من الغَنَم. انظر النهاية (3/ 169). (¬9) يَتَسَاوَكْنَ: يُقالُ تَسَاوَكَت الإبل إذا اضْطَرَبَت أعنَاقُهَا من الهُزَالِ، أراد أنها تتمَايَلُ من ضَعْفِها. انظر النهاية (2/ 381). (¬10) عَازِبٌ: أي بعيدة المَرعى. انظر النهاية (3/ 205). (¬11) حَائِل: هي التي لم تَحْمل. انظر النهاية (3/ 205). (¬12) ولا حَلُوب: أي ولا شاة تُحلب. انظر النهاية (1/ 405).

قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ مِنْ حَالِهِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: صِفِيهِ لِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، فَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الوَضَاءَةِ (¬1)، أَبْلَجَ الوَجْهِ (¬2)، حَسَنَ الخَلْقِ، لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ (¬3)، وَلَمْ تُزْرِيهِ (¬4) صُعْلَةٌ (¬5)، وَسِيمٌ (¬6) قَسِيمٌ (¬7)، فِي عَيْنَيْهِ دَعَجٌ (¬8)، وَفِي أَشْفَارِهِ (¬9) وَطَفٌ (¬10)، وَفِي صَوْتِهِ صَهَلٌ (¬11)، وَفِي عُنُقِهِ سَطَعٌ (¬12)، وَفِي لحْيَتِهِ كَثَاثَةٌ (¬13)، أَزَجُّ (¬14)، أَقْرَنُ (¬15)، إِنْ صَمَتَ فَعَلَيْهِ ¬

_ (¬1) الوَضَاءَة: هي الحُسن والبهجة. انظر النهاية (5/ 169). (¬2) أبْلَج الوجه: أي مُشرِقُ الوجه مُسْفِرُه. انظر النهاية (1/ 149). (¬3) ثُجْلَة: أي ضخم البَطن. انظر النهاية (1/ 202). (¬4) الإزدراءُ: الاحتقار والانتقاص والعيب. انظر النهاية (2/ 273). (¬5) صُعْلَة: هي صغرُ الرأس، وهي أيضًا الدِّقة والنُّحول في البدن. انظر النهاية (3/ 30). (¬6) الوَسَامة: هي الحُسْنُ الوضيءُ الثابت. انظر النهاية (5/ 161). (¬7) القَسَامة: هي الحُسن، ورجل مُقسَّم الوجه: أي جميلٌ كله، كأن كل موضِعٍ منه أخذَ قِسمًا من الجمال. انظر النهاية (4/ 56). (¬8) الدَّعَجُ والدُّعْجَةُ: هو السَّوَادُ في العين وغيرها، تريد أن سَوَادَ عينَيْهِ كان شديدَ السواد، وقيلَ الدَّعَجُ: شدَّة سوادِ العينِ في شِدَّةِ بياضها. انظر النهاية (2/ 111). (¬9) الأشْفَارُ: هي جفنُ العينِ الذي يَنْبُتُ عليه الشعر. انظر النهاية (2/ 433). (¬10) وَطَفٌ: أي أن في شعر أجفَانه طول. انظر النهاية (5/ 177). (¬11) صَهَل: أي حِدَّة وصلابة. انظر النهاية (3/ 59). (¬12) سَطَع: أي ارتفاعٌ وطول. انظر النهاية (2/ 329). (¬13) الكثَاثَةُ في اللحية: أن تكون غير رقيقةٍ ولا طَوِيلة، ولكن فيها كَثَافة. انظر النهاية (4/ 132). (¬14) أَزَجُّ: أي تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد. انظر النهاية (2/ 268). (¬15) قال ابن الأثير في النهاية (4/ 48): جاء في صفته -صلى اللَّه عليه وسلم-: سَوابغ في غير قَرَن، القَرَن =

الوَقَارُ (¬1)، وَإِنْ تَكَلَّمَ سَمَاهُ وَعَلَاهُ البَهَاءُ (¬2)، أَجْمَلُ النَّاسِ، وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْسَنُهُ وَأَجْمَلُهُ مِنْ قَرِيبٍ، حُلْوُ المَنْطِقِ (¬3)، فَصْلًا (¬4) لَا نَزْرَ (¬5) وَلَا هَذَرَ (¬6)، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَتَحَدَّرْنَ (¬7)، رَبْعَةٌ (¬8) لَا تَشْنَؤُهُ (¬9) مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ (¬10) عَيْنٌ مِنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ (¬11) الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا، ¬

_ = -بالتحريك- التقاءُ الحَاجبين، وهذا خلاف ما روت أمُّ معبد، فإنها قالت في صفته -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَزَجُّ أقرن: أي مَقْرُون الحاجبين، والأول الصحيح في صفته -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬1) الوَقَارُ: هو الحِلْمُ والرَّزَانة. انظر النهاية (5/ 185). (¬2) البهاءُ: المَنْظَرُ الحسَنُ الرائع المالِئُ للعين. انظر لسان العرب (1/ 529). (¬3) المنطِقُ: الكلام. انظر لسان العرب (14/ 188). (¬4) فَصْلًا: أي بَيّن ظاهر، يفصلُ بين الحق والباطل. انظر النهاية (3/ 404). روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25077) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب الهدي في الكلام - رقم الحديث (4839) بسند حسن عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان كلامُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فَصْلًا، يَفهمُهُ كل مَنْ سَمِعه. (¬5) النَّزْرُ: القليلُ، أي ليس بقليلٍ فيدل على عِيٍّ أي الجهل، ولا كثيرٍ فاسد. انظر النهاية (5/ 34). (¬6) هَذَرٌ: أي لا قَليل ولا كثير، والهَذَرَ، بالتحريك: الهَذَيان. انظر النهاية (5/ 222). (¬7) قال الدكتور محمد أبو شهبة في كتابه السيرة النبوية (1/ 489): أي كلامه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُتَناسق، ومُتَّصل بعضه ببعض، يُشبه في تناسقه الدُّرَّ، وفي تواليهِ الخَرَزَات إذا تَتَابعت. (¬8) رَبْعة: أي بينَ الطويل والقصير. انظر النهاية (2/ 174). (¬9) لا تَشْنَؤُهُ من طول: أي لا يُبْغَضُ لِفَرْطِ طُوله. انظر النهاية (2/ 450). (¬10) ولا تقتحمه عينٌ من قِصَر: أي لا تتجاوزهُ إلى غيره احتِقَارًا له، وكل شيء ازدريتَهُ فقد اقتَحَمْتَه. انظر النهاية (4/ 18). (¬11) النَّضَارَةُ: هي حُسن الوجه، والبريق. انظر النهاية (5/ 61).

وَأَحْسَنُهُمْ قَدْرًا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ (¬1) بِهِ، إِنْ قَالَ سَمِعُوا لِقَوْلهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا إِلَى أَمْرِهِ، مَحْفُودٌ (¬2) مَحْشُودٌ (¬3)، لَا عَابِسَ (¬4)، وَلَا مُفَنِّدَ (¬5). فَقَالَ أَبُو مَعْبَدٍ: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الذِي ذُكِرَ لَنَا مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلَأَفْعَلَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالِيًا، يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَدْرُونَ مَنْ صَاحِبُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَةَ أُمِّ مَعْبَدٍ هُمَا نَزَلَا بِالغَارِ وَارْتَحَلَا بِهِ ... فَيَا سَعْدَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ فَيَالَ قُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ ... بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَازُ وَسُؤْدَدِ لِيَهْنَ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدِّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ سَلُو أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فتَحَلَّبَتْ ... عَلَيْهِ صَرِيحًا دَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِدِ ¬

_ (¬1) يَحُفُّون به: يُحِيطون به من جميعِ جوانبه. انظر لسان العرب (3/ 244). (¬2) المَحْفُودُ: الذي يَخْدِمه أصحابه ويُعظمونه ويُسرعُون في طاعته. انظر النهاية (1/ 390). (¬3) المَحْشُودُ: أي أن أصحابه يخدمونه ويجتمعون إليه. انظر النهاية (1/ 373). (¬4) العَابِسُ: الكريهُ المَلْقى، مُقَطِّب الوجه. انظر النهاية (3/ 156). (¬5) مفنِّد: هو الذي لا فائدةَ من كلامه لكِبْرٍ أصَابه. انظر النهاية (3/ 427). ومنه قوله تعالى في سورة يوسف آية (94) على لسان يعقوب عليه السلام: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ}.

* إسلام بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-

قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَمَا نَدْرِي أَيْنَ وُجِّهَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الأَبْيَاتَ، وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، قَالَتْ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى المَدِينَةِ (¬2). * إِسْلَامُ بُرَيْدَةَ بنِ الحُصِيبِ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ فَانْتَهَى إِلَى الغَمِيمِ (¬3) أَتَاهُ بُرَيْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا زُهَاءَ (¬4) ثَمَانِينَ بَيْتًا، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العِشَاءَ، فَصَلُّوا خَلْفَهُ (¬5). وَأَقَامَ بُرَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه- بِأَرْضِ قَوْمِهِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أُحُدٍ، فَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ، وَشَهِدَ الحُدَيْبِيَةَ، وَبَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. ¬

_ (¬1) أينَ وجّه: أي أين تَوجه. انظر النهاية (5/ 139). (¬2) أخرج قصة أم معبد: الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب حديث أم معبد في الهجرة - رقم الحديث (4333) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 491) - وابن سعد في طبقاته (1/ 111) - وإسنادها حسن. (¬3) الغَمِيم: بفتح أوله وكسر ثانيهِ هو موضعٌ قرب المدينة بين رَابِغَ والجُحْفة. انظر معجم البلدان (3/ 398). (¬4) زُهَاء: أي قَدْر. انظر النهاية (2/ 291). (¬5) انظر الطبقات الكبرى (4/ 441) - الإصابة (1/ 418) - سير أعلام النبلاء (2/ 469).

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً (¬1). وَكَانَ بُرَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه- مِمَّنْ تَطَاوَلَ لِأَخْذِ اللِّوَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، عَنْ بُرَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: حَاصَرْنَا خَيْبَرَ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَ الغَدِ عُمَرُ، فَخَرَجَ، فَرَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَرْجعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ". فَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا أَنَّ الفَتْحَ غَدًا، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، صَلَّى الغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا، فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ (¬2)، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، وَفُتِح لَهُ. قَالَ بُرَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه-: وَأَنَا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا (¬3). وَكَانَ بُرَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه- مِنْ سَاكِنِي المَدِينَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى البَصْرَةِ، وَابْتَنَى بِهَا دَارًا، ثُمَّ خَرَجَ غَازِيًا إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَقَامَ بِمَرْوٍ حَتَّى مَاتَ وَدُفِنَ فِيهَا، وَهُوَ آخِرُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب كم غزا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم الحديث (4473) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب عدد غزوات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، رقم الحديث (1814) (147) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22953). (¬2) الرَّمَدُ: هو وجعُ العينِ وانتِفَاخُها. انظر لسان العرب (5/ 311). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22993).

* إهداء الزبير وطلحة ثيابا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر -رضي الله عنه-

مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي خُرَاسَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ (¬1). * إِهْدَاءُ الزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ ثِيَابًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَبْلَ قُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، لَقِيَ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، فِي رَكْبٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تُجَارًا قَافِلِينَ (¬2) مِنَ الشَّامِ، فكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بَيَاض (¬3). وَعِنْدَ ابنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الخَرَّارِ (¬4) فِي هِجْرَتِهِ إِلَى المَدِينَةِ، فَكَانَ مِنَ الغَدِ لَقِيَهُ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَادِمًا مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ (¬5)، فكسَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبَا بَكْرٍ مِنْ ثِيَابِ الشَّامِ، وَخَبَّرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ، قِدِ اسْتَبْطَؤُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَعَجَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّيْرَ، وَمَضَى طَلْحَةُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى مَكَّةَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ آلِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَهُوَ الذِي قَدِمَ بِهِمُ المَدِينَةَ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (1/ 418) - أسد الغابة (1/ 203). (¬2) قافِلِينَ: أي رَاجِعين. انظر النهاية (4/ 82). (¬3) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - والحاكم في المستدرك كتاب الهجرة، باب استقبال الأنصار لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4334) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 498). (¬4) الخَرّارُ: بفتح الخاء وتشديد الراء الأولى: موضعٌ قُرب الجحفة. انظر النهاية (2/ 21). (¬5) العِيرُ: هي الإبل والدوابُّ التي كانوا يُتاجرون عليها. انظر النهاية (3/ 297). (¬6) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 115) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 498).

نزول الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- في قباء

نُزُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فِي قُبَاءَ (¬1) وَكَانَ الأَنْصَارُ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى المَدِينَةِ، يَخْرُجُونَ كُلَّ يَوْمٍ إِذَا صَلُّوا الصُّبْحَ إِلَى الحَرَّةِ (¬2) يَنْتَظِرُونَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعِ الأَوَّلِ (¬3) سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ البِعْثَةِ -وَهِيَ السَّنَةُ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ، المُوَافِق الثَّالِثِ وَالعِشْرِينَ مِنْ سِبْتَمْبَرَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتُمِائَةٍ مِنَ المِيلَادِ- خَرَجُوا عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا حَمِيَ الحَرُّ رَجَعُوا، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بُيُويهِمْ أَوْفَى (¬4) رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ (¬5) مِنْ آطَامِهِمْ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ مُبيِّضِينَ (¬6) يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ (¬7)، فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ صَرَخَ ¬

_ (¬1) قُبَاء: بضم القاف، سُمِّي بذلك لوجودِ بِئْرٍ هناكَ عُرفت القرية بها، وهي مساكن بني عمرِو بنِ عوفٍ من الأنصار، وهي قرية على ميلينِ من المدينةِ على يسارِ القاصد إلى مكة. انظر معجم البلدان (7/ 14). (¬2) الحَرَّة: هي أرضٌ بظاهرِ المدينةِ بها حجارة سُود كثيرة. انظر النهاية (1/ 351). (¬3) هذا هو المشهورُ من رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 105) - وانظر فتح الباري (7/ 655). (¬4) أوْفَى: أي طَلع إلى مكان عالٍ فأشرفَ منه. انظر لسان العرب (15/ 359). (¬5) أُطُم: هو الحِصْن. انظر النهاية (1/ 57). (¬6) قال الحافظ في الفتح (7/ 654): أي عليهم الثياب البيض التي كسَاهم إياها الزُّبير وطلحة. (¬7) قال الحافظ في الفتح (7/ 654): أي يزولُ السَّراب عن النظرِ بسبب عُرُوضهم له، =

بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ العَرَبِ (¬1)، هَذَا جَدُّكُمْ (¬2) الذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِظَهْرِ الحَرَّةِ، وَسُمْعَتِ الرَّجَّةُ (¬3) وَالتَّكْبِيرُ فِي بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، وَكَبّرَ المُسْلِمُونَ فَرَحًا بِقُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، فَتَلَقَّوْهُ وَحَيَّوْهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ، فَطَفِقَ (¬4) مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ (¬5) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6) ¬

_ = وقيل معناهُ: ظهرَتْ حركَتُهُم للعين. (¬1) في رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 106): يا بَنِي قَيْلَة: بفتح القاف وهي الجَدَّة الكبرى للأنصارِ والِدَةُ الأوسِ والخَزْرَجِ، وهي قَيْلةُ بنتُ كَاهِلٍ. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 654): جدكم: بفتح الجيم أي حَظكم، وصاحبُ دَوْلَتكم الذي تتوقَّعُونه. (¬3) الرَّجَّةُ: الحركة الشديدة. انظر النهاية (2/ 181). ومنه قوله تعالى في سورة الواقعة آية (4): {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا}. (¬4) فطَفِقَ: أي فجَعَلَ. انظر لسان العرب (8/ 174). (¬5) قُلتُ: وقَع في رواية الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب في حديث الهجرة - رقم الحديث (3009) عن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّه عَنْهما، عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "فقدِمْنَا المدينةَ ليلًا". قال الحافظ في الفتح (7/ 655): ويجمعُ بينهما بأن القُدُوم كان آخرَ الليل فدخل نهارًا. (¬6) قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 18: لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَكُن مَلِكًا، ولا يلبسُ الحَرِير، ولا تلوحُ عليه شاراتُ المُلْك، ولا يتألقُ على جبينه التَّاج، بل كان عَبْدًا للَّه مُتَواضعًا، يَلْبَسُ ما يلبسُ الناس، ويأكلُ ما يأكلونَ، ويَجُوع إن جاعوا، ويشْبَع إن شَبِعوا، ولقد كان فىِ أصحابه الأغنياء المُوسِرون، ولكن محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- أحبَّ أن يعيش فقيرًا، وأن يَمُوت فقيرًا.

* منزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه

عِنْدَ ذَلِكَ، فَأَحْدَقُوا بِهِ مُطِيفِينَ حَوْلَهُ، وَالسَّكِينَةُ تَغْشَاهُ، وَالوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (¬1). * مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبِهِ: نزلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ (¬2) أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بنِ خَيْثَمَةَ (¬3)، وَالأَوَّلُ أَثْبَتُ. يَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومٍ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومٍ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ ¬

_ (¬1) سورة التحريم آية (9). وأخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - والحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب استقبال الأنصار لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4334) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 106) - وانظر زاد المعاد (3/ 52). (¬2) قال الحافظ في الإصابة (5/ 462): الهِدْم: بكسر الهاء وسكون الدال، وهو كلثومُ بن الهِدْمِ الأنصاري، نزلَ عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين قُدُومه في هجرته من مكة إلى المدينة، توفي كُلْثُوم بن الهِدْم -رضي اللَّه عنه- قبل غزو بدرٍ الكبرى بيَسِير، وقيل: إن كلثومَ بنَ الهِدْم أول مَن ماتَ من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد قدومه المدينة، ولم يدرك شيئًا من المَشَاهد. (¬3) هو سعدُ بن خيثَمَة الأنصار الأوسي البَدْرِي، كان أحد النُّقباء الاثنى عشر يوم العقبة، وشهد غزوة بدر الكبرى، واستشهد بها -رضي اللَّه عنه-. قال الحافظ ابن حجر: وزَعَم أبو نعيم أن سعدَ بن خيثمةَ هذا هو أبو خيثمة الذي تخَلَّفَ يوم تبوكٍ ثم لَحِقَ، والحَق أنه غيره، لإطباق أهلِ السِّيَر على أن صاحب هذه الترجمة استشهدَ ببدر. انظر الإصابة (3/ 46).

لَهُ، وَكَانَ مَنْزِلَ العُزَّابِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المُهَاجِرِينَ، فَمِنْ هُنَالِكَ يُقَالُ: نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بنِ خَيْثَمَةَ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بنِ خَيْثَمَةَ بَيْتَ العُزَّابِ، فَاللَّهُ أُعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ (¬1). أَمَّا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فنَزَلَ عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ، أَخِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ بِالسُّنْحِ (¬2)، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَتَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ ذَلِكَ حَبِيبَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ، وَكَانَ وِلَادَتُهَا بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ماتَ، وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْحِ. . . (¬4). وَرَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَحَلَنِي أَبِي جَادَّ (¬5). . . . ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 106) - شرح المواهب (2/ 156). (¬2) السُّنْحُ: بضم السين، موضع بعَوَالي المدينة فيه منازِل بني الحارث بن الخزرج. انظر النهاية (2/ 366). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 107). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا" - رقم الحديث (3667). (¬5) الجاد: نخل يُجَدُّ منه -أي يقطع من ثمرته- مقدار معلوم. انظر جامع الأصول (4/ 110).

عِشْرِينَ وَسْقًا (¬1) مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ (¬2)، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ لَهَا: . . . إِنَّمَا هُوَ الْآنَ مَالُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخَوَاكِ (¬3) وَأُخْتَاكِ (¬4)، فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ قَالَ: ذَو بَطْنٍ (¬5) بِنْتُ خَارِجَةَ، أُرَاهَا جَارِيَةً، ثُمَّ أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ امْرَأَتُه -وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- (¬6). وَقِيلَ: نَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى خُبَيْبِ بنِ إِسَافٍ الأَنْصَارِيِّ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ خُبَيْبًا كَانَ مُشْرِكًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ -لَكِنْ يَتَحَسَّنُ بِشَوَاهِدِهِ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا، أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي، وَلَمْ نُسْلِمْ، فَقُلْنَا: إِنَّا نَسْتَحْيِي ¬

_ (¬1) الوَسْقُ: بفتح الواو وسكون السين ستون صاعًا. انظر النهاية (5/ 161). (¬2) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة. انظر معجم البلدان (6/ 373). (¬3) إخوة عائشة الذكور: عبد الرحمن، ومحمد الذي ولد في حجة الوداع من أسماء بنت عميس، وأما عبد اللَّه الذي كان يأتي بالأخبار لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهجرة، فقد استشهد في غزوة الطائف. (¬4) أما أُختاها رضي اللَّه عنها: أسماء، وأم كلثوم. (¬5) ذو بطن: أي التي في بطن حبيبة بنت خارجة. (¬6) أخرجه الإمام مالك في الموطأ - كتاب الأقضية - باب ما لا يجوز من النحل - رقم الحديث (40) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2080) - وأورده الحافظ في الفتح (5/ 532) وصحح إسناده.

أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَأَسْلَمْتُمَا؟ " قُلْنَا: لَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ" قَالَ: فَأَسْلَمْنَا، وَشَهِدْنَا مَعَهُ. . . . (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15763) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2577).

فضل ومكانة المهاجرين

فَضْلُ وَمَكَانَةُ المُهَاجِرِينَ هَذَا هُوَ حَدِيثُ الهِجْرَةِ التِي كَانَتْ فَاتِحَةَ تَارِيخٍ جَلِيل لَمْ يُكْتَبْ مِثْلُهُ، . . . وَكَانَتِ الهِجْرَةُ النُّقْطَةَ الفَاصِلَةَ فِي التَّارِيخِ بَيْنَ عَهْدٍ مُظْلِمٍ مُضْطَرِبٍ تُحْتَضَرُ فِيهِ الحَضَارَةُ، وَعَهْدٍ زَاهِرٍ سَعِيدٍ وُلدَتْ فِيهِ حَضَارَةٌ جَدِيدَةٌ أَضَاءَتْ لِلْعَالَمِ طَرِيقَ المَجْدِ وَالفَلَاحِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ المُهَاجِرُونَ الذِينَ تركُوا دُورَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَبِلَادَهُمْ وَأَوْطَانَهُمْ، وَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلَ المُسْلِمِينَ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، وَأَكْثرهُمْ ثَوَابًا (¬1). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬2). قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: خَرَجُوا إِلَى دَارِ الهِجْرَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (¬3). وَقَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءَ المُهَاجِرِينَ الذِينَ تركُوا الدِّيَارَ وَالأَمْوَالَ وَالعَشَائِرَ ¬

_ (¬1) انظر كتاب "أبو بكر الصديق" للشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى ص 114. (¬2) سورة الحشر آية (8). (¬3) انظر تفسير البغوي (4/ 358).

* هجرة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-

وَخَرَجُوا حُبًّا للَّهِ وَلرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاخْتَارُوا الإِسْلَامَ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ شِدَّهٍ، حَتَّى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَعْصِبُ (¬1) الحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبَهُ مِنَ الجُوعِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَّخِذُ الحَفِيرَةَ (¬2) فِي الشِّتَاءِ مَا لَهُ دِثَارٌ (¬3) غَيْرُهَا (¬4). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ (¬5) المُهَاجِرِينَ بِالفَوْزِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ خَمْسَمِائَةِ سَنةٍ" (¬6). * هِجْرَةُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: أَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيِالٍ وَأَيَّامِهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَدْرَكَهُ فِي قُبَاءَ، فنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ -رضي اللَّه عنه- (¬7). ¬

_ (¬1) يَعْصِبُ: أي يَشُدُّ. انظر لسان العرب (9/ 231). (¬2) الحفيرة: هي البِئْر الموسعة. انظر لسان العرب (3/ 236). (¬3) الدِّثَار: هو الثّوبُ الذي يُسْتَدْفَأ به. انظر لسان العرب (4/ 290). (¬4) انظر تفسير البغوي (4/ 358). (¬5) الصُّعْلوكُ: هو الفقيرُ الذي لا مالَ له. انظر لسان العرب (7/ 350). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11604) - والبغوي في شرح السنة - (14/ 192). (¬7) انظر سيرة ابن هشام (2/ 107).

* من فضائل سهل بن حنيف -رضي الله عنه-

* مِنْ فَضَائِلِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ (¬1) -رضي اللَّه عنه-: وَقَدْ لَاحَظَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مُدَّةَ إِقَامَتِهِ بِقُبَاءَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً لَا زَوْجَ لَهَا، وَرَأَى إِنْسَانًا يَأْتيهَا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا، فتَخْرُجُ إِلَيْهِ فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ، فَتَأْخُذُهُ، قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَاسْترَبْتُ (¬2) بِشَأْنِهِ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ! مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الذِي يَضْرِبُ عَلَيْكِ بَابَكِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فتَخْرُجِينَ إِلَيْهِ فيعْطِيكِ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَكِ؟ قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بنُ حُنَيْفِ بنِ وَاهِبٍ، قَدْ عَرَفَ أَنِّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فكسَرَهَا، ثُمَّ جَاءَنِي بِهَا، فَقَالَ: احْتَطِبِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- يَأْثِرُ (¬3) ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ -رضي اللَّه عنه-، حِينَ هَلَكَ عِنْدَهُ بِالعِرَاقِ (¬4). وَقَدْ كَانَ لَا يَزَالُ بِالمَدِينَةِ مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْثَانٌ يَعْبُدُهَا رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ قَوْمُهُمْ عَلَى تِلْكَ الأَوْثَانِ فَهَدَمُوهَا. ¬

_ (¬1) هو سَهْلُ بن حُيفٍ الأوسي الأنصاري، من السابقين، شَهِد بدرًا وثبت يوم أُحد حين انكشفَ الناس، وبايعَ يومئذ على الموت، وكان ينفحُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنَّبْلِ، وشهد أيضًا الخندق، والمشاهد كلها، واستخلفَهُ علي -رضي اللَّه عنه- على البصرة بعد معركةِ الجَمَل، ثم شهد معه صِفِّين. توفي -رضي اللَّه عنه- بالكوفة سنة ثمان وثلاثين، وصلى عليه عليّ -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (2/ 388). (¬2) استرَبْتُ: أي شَكَكْتُ بشأنِهِ. انظر النهاية (2/ 260). (¬3) يأثِر ذلك: أي يَرْوِي ويحكي عنه ذلك. انظر النهاية (1/ 26). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 107).

* هجرة صهيب الرومي -رضي الله عنه-

* هِجْرَةُ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا أَرَادَ صُهَيْبُ بنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ -رضي اللَّه عنه- الهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، صَدَّهُ نَاسٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالُوا له: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ الذِي بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكَ وَنَفْسِكَ، وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ صهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي أَتُخْلُونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي. وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ صُهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: هَلْ لَكُمْ أَنْ أُعْطِيَكُمْ أَوَاقِي (¬1) مِنْ ذَهَبٍ، وَتُخْلُونَ سَبِيلِي، وَتُوفُونَ لِي، فَفَعَلُوا، فتَبِعْتُهُمْ إِلَى مَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: احْفُرُوا تَحْتَ أَسْكِفَةِ (¬2) البَابِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا الأَوَاقِي. قَالَ صُهَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، يَعْنِي قُبُاءَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: "يَا أَبَا يَحْيَى! رَبِحَ البَيْعُ" ثَلَاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفيهِ نَزَل قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي (¬3) نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (¬4). ¬

_ (¬1) الأُوقية: بضم الهمزة وتشديدِ الياء: هي أربعون دِرْهمًا. انظر النهاية (1/ 80). (¬2) الأسكِفَة: هي عَتَبة الباب التي يُوطَأُ عليها. انظر لسان العرب (6/ 308). (¬3) يَشْري: معناه يَبِيع. انظر لسان العرب (7/ 103). ومنه قوله تعالى في سورة يوسف آية (20): {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي باعوه. (¬4) سورة البقرة آية (207). =

* إسلام سلمان الفارسي -رضي الله عنه-

* إِسْلَامُ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ -رضي اللَّه عنه-: وَبَيْنَمَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُبَاءَ، قَدِمَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَقِصَّتُهُ -رضي اللَّه عنه- طَوِيلَةٌ فِي بَحْثِهِ عَنِ الحَقِيقَةِ، وَعَنِ الدِّينِ الحَقِّ، وَلْنَتْرُكَ سَلْمَانَ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُنَا عَنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ، يَقُولُ سَلْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: كُنْتُ رَجَلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ (¬1) مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: جَيُّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ (¬2) قَرييهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي المَجُوسِيَّةِ (¬3) حَتَّى كُنْتُ قَطِنَ النَّارِ (¬4) الذِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو (¬5) سَاعَةً، قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ (¬6) عَظِيمَةٌ، قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ شُغِلتُ فِي بُنْيَانِ هَذَا اليَوْمِ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي ¬

_ = أخرج قصة هجرة صهيب -رضي اللَّه عنه-: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- باب ذكر هجرة صهيب بن سنان - رقم الحديث (5753) - (5759) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة -رضي اللَّه عنهم- باب ذكر صهيب بن سنان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7082) - والإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1509) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 522) وإسناده بمجموع طرقه صحيح. (¬1) أصبَهَان: هي مدينةٌ في إيران. (¬2) الدِّهْقَان: بكسر الدال وضمِّها: رئيس القرية. انظر النهاية (2/ 135). (¬3) المَجُوسِيَّة: يعبُد أصحابها النار. (¬4) قَطِنَ النار: أي خَازِنَهَا وخادِمَها: أراد أنه كان لازِمًا لها لا يُفارقها، من قطن في المكان إذا لزمه. انظر النهاية (4/ 75). (¬5) خَبِئَت النار: خَمَدَت. انظر لسان العرب (4/ 6). (¬6) ضَيْعَة الرجل: ما يكونُ منه معاشِهِ، كالصَّنْعة والتجارةِ والزراعة وغير ذلك. انظر النهاية (3/ 98).

فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ، وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: كَلَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا، ثُمَّ حبَسَنِي فِي بَيْتِهِ. قَالَ سَلْمَانُ: وَبَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ.

قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا، قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الأُسْقُفُ (¬1) فِي الكَنِيسَةِ قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدِمُكَ في كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ، قَالَ: فَادْخُلْ، فَدَخَلْتُ مَعَهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمْعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا أَشْيَاءَ، اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِهِ المَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ (¬2) مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ (¬3)، قَالَ سَلْمَانُ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ، فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ المَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ، قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ، قَالَ سَلْمَانُ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا، فَصَلَبُوهُ، ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالحِجَارَةِ. ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ، فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ ¬

_ (¬1) الأُسقُفُ: هو العالِمُ الرئيسُ من عُلَماء النصارى. انظر لسان العرب (6/ 298). (¬2) القِلالُ: هو إناءٌ للعربِ كالجَرَّةِ الكبيرة، سُميت قِلالًا لأنها تُقَل أي تُرْفَع إذا مُلِئت وتُحْمل. انظر لسان العرب (11/ 288). (¬3) الوَرِق: بكسر الراء: هي الفِضة. انظر النهاية (5/ 153).

رَجُلًا لَا يُصَلِّي الخَمْسَ، أُرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا وَلَا أَرْغَبَ فِي الآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبَ (¬1) لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ سَلْمَانُ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلِهِ، فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا ترَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا اليَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَترَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا رَجُلًا بِالمَوْصِلِ (¬2)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، فَالْحَقْ بِهِ. قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ (¬3)، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ المَوْصِلِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْيهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. قَالَ: فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِنَصِيبينَ (¬4)، وَهُوَ فُلَانٌ، فَالْحَقْ بِهِ. ¬

_ (¬1) الدَّأب: هو العادةُ والشأن، وأصله من دأب في العمل إذا جَدّ وتَعِب، إلا أن العرب حَوَّلت معناه إلى العادةِ والشأن. انظر النهاية (2/ 90). (¬2) المَوْصِل: مدينة في العراق. (¬3) غيّب: أي دُفِنَ في قبره. انظر لسان العرب (10/ 151). (¬4) نَصِيبين: بفتح النون وكسر الصاد، هي مدينةٌ عامرةٌ من بلاد الجزيرة العربية على جادَّة القوافل من المَوصل إلى الشام. انظر معجم البلدان (8/ 390).

قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصاحِبِ نَصِيبينَ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرتُهُ خَبَرِي، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ المَوْتُ، فَلَمَّا حُضِرَ، قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ (¬1)، فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا. قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ، وَأَخْبَرتُهُ خَبَرِي، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي، فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ، قَالَ سَلْمَانُ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَد مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ (¬2) زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ العَرَبِ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ (¬3) بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: ¬

_ (¬1) عَمُّورية: مدينة في تركيا. (¬2) أظَلَّك زمان نبي: أي أقبلَ عليك ودَنَا منك، كأنه ألقى عليكَ ظِلَّه. انظر النهاية (3/ 146). (¬3) الحَرَّة: أرض بظاهر المدينة بها حِجَارة سُودٌ كثيرة. انظر النهاية (1/ 351).

يَأْكُلُ الهَدِيَّةَ (¬1)، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ (¬2)، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ (¬3)، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ البِلَادِ فَافْعَلْ. قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ مَاتَ وَغُيِّبَ، فَمَكَثْتُ (¬4) بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تِجَارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ العَرَبِ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ؟ ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 425): كان -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أهدِيَت إليهِ هدية فقبِلَها، كافَأَ عليها بأكثرَ منها، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2585) عن عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقبل الهدية ويُثِيب عليها. وإن ردَّها -صلى اللَّه عليه وسلم- اعتذرَ إلى مُهْدِيها، كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للصَّعبِ بن جَثّامة لما أهدَى إليه لحمَ صَيْدٍ قال له -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما إنَّا لم نردَّه عليك إلا أنا حُرُم" - أخرجه البخاري - رقم الحديث (2573). (¬2) أما الصَّدقة فإنها لا تَحِلُّ له -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1072) عن المطلب بن ربيعة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس". قال الإمام النووي في شرح مسلم (7/ 157): في هذا الحديث دليلٌ على أن الصدقة مُحرمة على بني هاشم وبني المطلب سواء كانت بسببِ العمل أو بسببِ الفقرِ والمَسْكنة وكيرهما من الأسباب الثمانية، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وجوَّز بعض أصحابنا لِبَني هاشم وبني المطلب العمل عليها بِسَهم العامل لأنه إجارَة، وهذا ضعيفٌ أو باطلٌ وهذا الحديث صريح في رده، وقد نَبَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب، وأنها لكرامتهم وتنزِيهِهم عن الأوساخِ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهِير لأموالهِم ونُفُوسهم كما قال اللَّه تعالى في سورة التوبة آية (103): {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي كغسالة الأوساخ. (¬3) خاتَم النبوة تقدَّم الكلامُ عليه مفصلًا في رضاعه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بني سعد عند حَلِيمة السعدية رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، فانظره هناك. (¬4) المُكْثُ: هو الإقامة مع الانتظار، والتَّلبُّث في المكان. انظر النهاية (4/ 297).

قَالُوا: نَعَمْ، فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي القُرَى (¬1)، ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا، فكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ، وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ البَلَدَ الذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقَّ لِي فِي نَفْسِي، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ، قَدِمَ عَلَيْهِ ابنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ المَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي (¬2) مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى المَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصَفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ (¬3) لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ العَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذَا أَقْبَلَ ابنُ عَمٍّ له حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: فُلَانُ، قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ (¬4)، وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ اليَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي العُرَواءُ (¬5)، حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي، وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تُقُولُ؟ . ¬

_ (¬1) وادى القُرَى: هو وادٍ بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى، وفتَحَها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة سبع للهجرة عنوةً ثم صُولحوا على الجِزْيَة، وكان يسكنها يَهُود. انظر معجم البلدان (8/ 433). (¬2) ابتاعَ الشيء: اشترَاه. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬3) العَذْقُ: بالفتح: النخلة. انظر النهاية (3/ 181). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 654): قَيلة: بفتح القاف وسكون الياء وهي الجدة الكبرى للأنصار والدةُ الأوس والخزرج، وهي قَيْلة بنت كَاهل بن عذرة. (¬5) العُرَواء: الرِّعدة. انظر النهاية (3/ 204).

قَالَ سَلْمَانُ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلهَذَا! أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ سَلْمَانُ قُلْتُ: لَا شَيْءَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمَّا قَالَ. قَالَ سَلْمَانُ: وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "كلُوا"، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ سَلْمَانُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ، فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ في نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِبَقِيعِ الغَرْقَدِ (¬1)، قَالَ: وَقَدْ تَبعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ (¬2) لَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فَي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الخَاتَمَ الذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَدْبَرتُهُ (¬3)، عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي، قَالَ: فَأَلقى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فنَظَرْتُ إِلَى الخَاتَمِ فعرَفْتُهُ، فَانَكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ ¬

_ (¬1) بَقِيعُ الغَرْقَدِ: موضعٌ بظاهرِ المدينة فيه قُبُور أهلها، كان به شَجَر الغرقد، فذهبَ وبَقِيَ اسمه. انظر النهاية (1/ 145). (¬2) الشَّمْلَةُ: هو كِسَاءٌ يُتغطى به ويُتَلفف فيه. انظر النهاية (2/ 448). (¬3) استدبَرَه: أتاهُ من ورَائه. انظر لسان العرب (4/ 282).

وَأَبْكِي، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَحَوَّلْ" (¬1) فتَحَوَّلْتُ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثي فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَاُبهُ. ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَدْرٌ وَأُحُدٌ. قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَاتِبْ (¬2) يَا سَلْمَانُ"، كَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِ مِئَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالفَقِيرِ (¬3) وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً (¬4)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "أَعِينُوا أَخَاكُمْ"، فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ: الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةٍ (¬5)، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَالرَّجُلُ بِعَشْرَةٍ -يَعْنِي: الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ- حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُ مِئَةِ وَدِيَّةٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا (¬6)، فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتني أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي". قَالَ سَلْمَانُ: فَفَقَّرْتُ لَهَا، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَوَالذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ، مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَدَّيْتُ ¬

_ (¬1) تحَوَّل: من حالَ يَحُول إذا تحرَّك. انظر النهاية (1/ 445). (¬2) المُكاتَبَة: هو أن يُكاتِبَ الرجل عَبْده على مالٍ يؤدِّيه إليه مُفَرقًا، فإذا أدَّاه صارَ حُرًّا. انظر النهاية (4/ 129) - جامع الأصول (8/ 90). (¬3) فَقِير النخلةِ: حُفرةٌ تُحْفَرُ للفَسِيلَة إذا حُوّلت لتُغْرَس فيها. انظر النهاية (3/ 415). (¬4) الأُوقِيَّة: بضم الهمزة وتشديد الياء، هي أربعون دِرْهمًا. انظر النهاية (1/ 80). (¬5) الوَدِيُّ: بتشديد الياء: صِغَار النخل، الواحدة وديَّة. انظر النهاية (5/ 148). (¬6) فَقّر لها: أي أحفر لها مَوضعًا تُغْرَس فيه. انظر النهاية (3/ 415).

النَّخْلَ، وَبَقِيَ عَلَيَّ المَالُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَغَازِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا فعلَ الفَارِسِيُّ المُكَاتَبُ؟ "، قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ: "خُذْ هَذِهِ فَأَدِّ بِهَا مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ"، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: "خُذْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ"، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا -وَالذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ- أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة، فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعَتَقْتُ، فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخَنْدَقَ، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ (¬1). وَرَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ (¬2) بِضْعَةَ (¬3) عَشَرَ مِنْ رَبٍّ (¬4) إِلى رَبٍّ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج قصة سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22997) - (23737) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7124) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة -رضي اللَّه عنهم- باب ذكر من لقي سلمان الفارسي قبل الإسلام من الراهبيين - رقم الحديث (6603) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4772) - وابن إسحاق في السيرة (1/ 251) -وإسنادها حسن- وذكر البخاري في صحيحه - مكاتبة سلمان -رضي اللَّه عنه- وأنه كان حرًا فظلموه وباعوه - في كتاب البيوع - باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه. (¬2) التداول: هو التَّناقل. انظر النهاية (2/ 131). (¬3) البِضْعُ: ما بين الثلاث إلى العشر. انظر لسان العرب (1/ 426). (¬4) الربّ: يطلق في اللغة على المالك، والسيد. انظر لسان العرب (5/ 95). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب إسلام سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3946).

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الجُمُعَةِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (¬1). قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ حَتَّى سَأَلَ ثَلَاثًا، وَفِينَا سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ كَانَ الإِيمَانُ (¬2) عِنْدَ الثُّرَيَّا (¬3) لَنَالَهُ رِجَالٌ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ هَؤُلَاء" (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الجمعة آية (3). وفي رواية أخرى عند ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7123) - قال أبو هريرة -رضي اللَّه عنه-: فتلا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}. سورة محمد آية (38). قال الحافظ في الفتح (9/ 636): يحتمل أن يكون ذلك صدر منه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند نزول كل من الآيتين. (¬2) في رواية أخرى في صحيح مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2546) (230) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7123)، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان الدِّينُ عندَ الثُّرَيَّا". (¬3) الثُّريَّا: نجمٌ مَعْرُوف. انظر النهاية (1/ 205). (¬4) وفي رواية أخرى عند الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2546) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7123) - قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لتناوله رِجَالٌ مِنْ فَارس". والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الجمعة - رقم الحديث (4897) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضل فارس - رقم الحديث (2546) (231).

* كم أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقباء؟

قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ: وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَيَانًا، فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنهُمْ -أَيْ أَهْلِ فَارِسَ- مَنِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ مِنْ حُفَّاظِ الآثارِ وَالعِنَايَةِ بِهَا، مَا لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيهِ كَثِير مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِمْ (¬1). * كَمْ أَقَامَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُبَاءَ؟ : رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ نزلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنِي عَمْرِو بنِ عَوفِ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً (¬2). وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُبَاءَ، فِي بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثاءِ، وَالأَرْبِعَاءِ، وَالخَمِيسِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ اللَّه مِنْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَبَنُو عَمْرِو بنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أنَّه مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه- لَيْسَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، فَإِنَّهُمْ مِنَ الأَوْسِ، وَأَنسٌ مِنَ الخَزْرَجِ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا ذَكَرَ فَهُوَ أَوْلَى بِالقَبُولِ مِنْ غَيْرِهِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 636). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3932) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب ابتناء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (524). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 108). (¬4) انظر فتح الباري (7/ 656).

تأسيس مسجد قباء

تَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءَ كَانَ أَوَّلَ عَمَلٍ قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ قُبَاءَ أَنْ أَسَّسَ مَسْجِدَ قُباءَ، وَهُوَ المَسْجِدُ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِسْلَامِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ صَلَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ بِأَصْحَابِهِ جَمَاعَةً ظَاهِرًا، وَأَوَّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ عَامَّةً (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَكَانَ هَذَا المَسْجِدُ -أَيْ مَسْجِدُ قباء- أَوَّلَ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الإِسْلَامِ بِالمَدِينَةِ، بَلْ أَوَّلَ مَسْجِدٍ جُعِلَ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ المِلَّةِ، وَاحْترزْنَا بِهَذَا عَنِ المَسْجِدِ الذِي بَنَاهُ الصِّدِّيقُ بِمَكَّةَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ (¬3) يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيُصَلِّي؛ لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عَامَّة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 656). (¬3) أخرج بناء أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- لهذا المسجد: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905) -وقد ذكرنا تفصيل ذلك فيما تقدم-. (¬4) انظر كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 223).

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: . . . ثُمَّ حَثَّ اللَّه تَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ الذِي أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ بِنَائِهِ عَلَى التَّقْوَى، وَهِيَ طَاعَةُ اللَّهِ، وَطَاعَةُ رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَجَمْعًا لِكَلِمَةِ المُؤْمِنِينَ، وَمَعْقِلًا، وَمَوْئِلًا لِلإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، وَالسِّيَاق إِنَّمَا هُوَ فِي مَعْرِضِ مَسْجِدِ قباءٍ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَر: وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي المُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} فَالجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِهِ مَسْجِدُ قباءٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الآيَةِ (¬3). لَكِنْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ المَسْجِدِ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ: "هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا" -لِمَسْجِدِ المَدِينَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (108). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 212). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 656). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى - رقم الحديث (1398).

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه بِسَنَدٍ صحِيحٍ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْب -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "المَسْجِدُ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى: مَسْجِدِي هَذَا" (¬1). وَأَخْرَج الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي المَسْجِدِ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ الآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ قباء، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ هَذَا المَسْجِدُ"، لِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "فِي ذَاكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ"، يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ (¬2). قَالَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا السُّؤَالُ صَدَرَ مِمَّنْ ظَهَرَتْ لَهُ المُسَاوَاةُ بَيْنَ المَسْجِدَيْنِ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّ كُلًا مِنْهُمَا بَنَاهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلِذَلِكَ سُئِلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُ فَأَجَابَ بِأَنَّ المُرَادَ مَسْجِدُهُ، وَكَأَنَّ المَزِيَّةَ التِي اقْتَضَتْ تَعْيِينَهُ دُونَ مَسْجِدِ قباءٍ لِكَوْنِ مَسْجِدِ قباء لَمْ يَكُنْ بِنَاؤُهُ بِأَمْرٍ جَزْمٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ، أَوْ كَانَ رَأْيًا رَآهُ بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ، أَوْ كَانَ حَصَلَ لَهُ أَوْ لِأَصْحَابِهِ فِيهِ مِنَ الأَحْوَالِ القَلبِيَّةِ مَا لَمْ يَحْصلْ لِغَيْرِهِ (¬3). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ المَزِيَّةُ لِمَا اتَّفَقَ مِنْ طُولِ إِقَامَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَسْجِدِ المَدِينَةِ، بِخِلَافِ مَسْجِدِ قُباءٍ فَمَا أَقَامَ بِهِ إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21107). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11178). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 656).

* فضائل مسجد قباء

وَكَفَى بِهَذِهِ مَزِيَّة مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مَا تَكَلَفهُ القُرْطُبِيُّ، وَالحَقُّ أَنَّ كُلًا مِنْهُمَا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَقَوْلُه تَعَالَى فِي بَقِيَةِ الآيَةِ: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} يُؤَكِّدُ كَوْنَ المُرَادِ مَسْجِدَ قباءٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "نَزَلَتْ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} فِي أَهْلِ قُبَاءٍ" (¬1)، وَعَلَى هَذَا فَالسِّرُّ فِي جَوَابِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَنَّ المَسْجِدَ الذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدُهُ رَفع تَوَهُّمِ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِمَسْجِدِ قُباءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). * فَضَائِلُ مَسْجِدِ قُباءٍ: أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبِي: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِي هَذَا المَسْجِدَ" -يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ- "فَيُصَلِّي فِيهِ، كَانَ كَعَدْلِ عُمْرَةٍ" (¬3). وَأَخْرَجَ ابنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ أُسَيْدِ بنِ ظَهِيرٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ كعُمْرَةٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الطهارة - باب في الاستنجاء بالماء - رقم الحديث (44). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 657). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15981) - والحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب من صلى في مسجد قباء - رقم الحديث (4336). (¬4) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في الصلاة =

وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْتِي مَسْجِدَ قبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا (¬1). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ، وَعُمَرُ بنُ شَبَّةَ فِي أَخْبَارِ المَدِينَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لِأَنْ أُصَلِّي فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ المَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي قبَاءٍ لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبادَ الإِبِلِ (¬2). * * * ¬

_ = في مسجد قباء - رقم الحديث (1411) - والترمذي في جامعه - كتاب الصلاة - باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء - رقم الحديث (324). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة - باب من أتى مسجد قباء كل سبت - رقم الحديث (1193) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مسجد قباء - رقم الحديث (1399). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب من صلى في مسجد قباء - رقم الحديث (4337) - وأورده الحافظ في الفتح (3/ 391) وعزاه إلى عمر بن شبة في أخبار المدينة، وصحح إسناده.

ارتحال الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قباء وأول جمعة صلاها

ارْتِحَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قُبَاءٍ وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ صَلاهَا وَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ، وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- رَدِفَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفَهُمْ، فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ المَدِينَةِ، وَهُمْ مُحْدِقُونَ (¬1) بِهِ (¬2). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: وَكَانَتِ الأَنْصَارُ قَدِ اجْتَمَعَتْ فتَلَقَّوْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، فَمَشَوْا حَوْلَ نَاقَتِهِ لَا يَزَالُ أَحَدُهُمْ ينَازعُ صَاحِبَهُ زِمَامَ النَّاقَةِ شُحًّا (¬3) عَلَى كَرَامَةِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَتَعْظِيمًا لَهُ (¬4). فَأَدْرَكَتِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةُ الجُمُعَةِ فِي دِيَارِ بَنِي سَالِمِ بنِ عَوْفٍ، ¬

_ (¬1) كل شيءٍ استدارَ بشيءٍ وأحاطَ به، فقد أحْدَق به. انظر لسان العرب (3/ 87). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار- باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - وباب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3932) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13205) - (13318) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 108). (¬3) الشُّحُّ: هو أشدُّ البُخْل. انظر النهاية (2/ 401). أراد أن كل واحدٍ منهم بَخِلَ على صاحبِهِ في إكرَامِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (2/ 501).

* استقبال أهل المدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفرحهم به

فَصَلَّاهَا فِي المَسْجِدِ الذِي فِي بَطْنِ وَادِي رَانُونَاءَ (¬1) بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَهُمْ مِئَةٌ، وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَلَمَّا أَبْصَرَتْهُ اليَهُودُ صَلَّى إِلَى قِبْلَتِهِمْ تَذَاكَرُوا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمُسْلِمِينَ بِالمَدِينَةِ، أَوْ مُطْلَقًا، لِأَنَّه واللَّه أَعْلَمُ لَمْ يَكنْ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَاُبهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبةٍ وإعْلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشِدَّةِ مُخَالفَةِ المُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ، وَسُمِّيَتِ الجُمُعَةُ جُمُعَةً؛ لِأنَّهَا مُشْتَقَّةً مِنَ الجَمْعِ، فَإِنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً (¬3). * استِقْبَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفَرَحُهُمْ بِهِ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاقتهُ مِنْ دِيَارِ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، وَأَرْخَى (¬4) لَهَا الزِّمَامَ، فَأتاهُ عِتْبَانُ بنُ مَالِكٍ، وَعَبَّاسُ بنُ عُبَادَةَ بنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سالِمِ بنِ عَوْفٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! أَقِمْ عِنْدَنَا فِي العَدَدِ وَالعُدَّةِ (¬5) ¬

_ (¬1) رَانُوناء: بوزن عاشوراء وادٍ بين قباء والمدينة. انظر معجم البلدان (4/ 384). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 108)، دلائل النبوة للبيهقي (2/ 500) (¬3) انظر تفسير ابن كثير (8/ 119) - البداية والنهاية (3/ 226). (¬4) يُقال: أرْخِ له الحبل: أي وسِّع عليه الأمر في تصرُّفه حتى يذهب حيث شاء. انظر لسان العرب (5/ 181). (¬5) العُدَّة: بضم العين ما أعددته لحوَادِث الدهر من المال والسلاح. انظر لسان العرب (9/ 79).

وَالمَنَعَةِ (¬1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ، تَلَقَّاهُ زِيَادُ بنُ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَفَرْوَةُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه! هَلُمَّ إِلَيْنَا، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ" فَخَلُّوا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْترَضَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَالْمُنْذِرُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ"، فَانْطَلَقَتْ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ (¬2) بَعْدَ الجُمُعَةِ، فِي جَوٍّ مَشْحُونٍ بِالفَرَحِ وَالبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، وَكَانَ يَوْمًا تَارِيخِيًّا مَشْهُودًا، فَقَدْ كَانَتِ البُيُوتُ وَالسِّكَكُ تَرْتَجُّ (¬3) بِأَصْوَاتِ التَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ. قَالَ القَسْطَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَشْرَقَتِ المَدِينَةُ بِحُلُولهِ فِيهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَرَى السُّرُورُ إِلَى القُلُوبِ (¬4). ¬

_ (¬1) المَنَعَة: القوة التي تَمنع من يُريدهم بسُوءٍ. انظر النهاية (4/ 310). (¬2) قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 29: . . . دخل -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة لا يُرَفْرِف على رأسهِ علم، ولا يمشي وراءَهُ موكِبٌ، ولا يُقرع له طبل، ولكن تُرَفرف على رأسه رايةُ القُرآن، وتمشِي وراءه العُصُور القَوَادِمُ، ويخفِقُ له قلبُ التاريخِ ما بقي في الدنيا تَارِيخ. (¬3) الرَّجُّ: هو الحركة الشديدة. انظر النهاية (2/ 181). (¬4) انظر شرح المواهب (2/ 165).

قُلْتُ: وَكَيْفَ لَا تَفْرَحُ القُلُوبُ بِحُلُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ الحَبِيبُ المَحْبُوبُ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ، فكَمَنَّا (¬1) فِي بَعْضِ حِرَارِ (¬2) المَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ لِيُؤْذِنَ بِهِمَا الأَنْصَارَ، فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءَ (¬3) خَمْسِ مِئَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حَتَّى انتهَوا إِلَيْهِمَا، فَقَالَ الأَنْصَارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ، فَأَقْبلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ أَهْلُ المَدِينَةِ حَتَّى إِنَّ العَوَاتِقَ (¬4) لفَوْقَ البُيُوتِ يَترَاءَيْنَهُ، يَقُلْنَ: أَيّهُمْ هُوَ؟ أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَمَا رَأَيْنَا مَنْظَرًا شَبِيهًا بِهِ يَوْمَئِذٍ (¬5). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى جَعَلَ ¬

_ (¬1) كمن: اختفى. انظر لسان العرب (12/ 160). (¬2) حرار المدينة: هي أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة. انظر النهاية (1/ 351). (¬3) زُهاء: أي قَدْر، يقال: هم زُهاء مائة: أي قدرها. انظر لسان العرب (6/ 106). (¬4) العاتق: الشابة أول ما تدرك. انظر النهاية (3/ 162). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13205)، (13318).

الإِمَاءُ (¬1) يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَصَعَدَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَوْقَ البُيُوتِ، وَتَفَرَّقَ الغِلْمَانُ وَالخَدَمُ فِي الطُّرُقِ، ينَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّه! يَا مُحَمَّدُ! يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬3). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَخَرَجَ النَّاسُ حِينَ قَدِمْنَا المَدِينَةَ فِي الطُّرُقِ، وَعَلَى البُيُوتِ مِنَ الغِلْمَانِ وَالخَدَمِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (¬4). وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عِنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ: نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ ... يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ (¬5) وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ اليَوْمُ الذِي دَخَلَ رَسُولُ ¬

_ (¬1) الإماءُ: جمع أمَةٍ وهي المملوكَةُ، عكسُ الحرة. انظر القاموس المحيط ص 1260. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3925). (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب في حديث الهجرة - رقم الحديث (3009). (¬4) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب وصف قدوم المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة - رقم الحديث (6281). (¬5) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 508).

اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَنْوَرَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ يَوْمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ المَدِينَةَ (¬2). وَكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَمُرُّ بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلَّا أَخَذُوا خِطَامَ (¬3) رَاحِلَتِهِ قَائِلِينَ: هَلُمَّ يَا رَسُولَ اللَّه إِلَى العَدَدَ وَالعُدَّةِ وَالمَنَعَةِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ" (¬4)، وَلَمْ تَزَلْ نَاقَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَائِرَةً بِه حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ ابنِ النَّجَارِ -وَهُوَ مَوْضِعُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اليَوْمَ- بَرَكَتْ فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى نَهَضَتْ وَسَارَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَتْ، وَرَجَعَتْ وَبَرَكَتْ فِي مَوْضِعِهَا الأَوَّلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَرْبِدٌ (¬5) لِلتَّمْرِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو غُلَامَيْنِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر إنكار الصحابة قلوبهم عند دفن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6634) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13830). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12234). (¬3) الخِطَام: هو الحَبْلُ الذي يُقَادُ به البعير. انظر النهاية (2/ 49). (¬4) قال الشيخ علي الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ ص 18: وأقبل الأنصار يدعونه -صلى اللَّه عليه وسلم- لينزِلَ فيهم يتسابقُونَ على هذا الشَّرَف الخالد، فماذا صَنَع -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ انظروا إلى لُطفه ولَبَاقته -صلى اللَّه عليه وسلم-، إنه لا يريد أن يُؤْذِي أحدًا بالرَّفض، فقال: اتركوا الناقة فإنها مأمُورَة. (¬5) المِرْبَد: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء، هو الموضع الذي يُجعل فيه التَّمر ليَنْشَف. انظر النهاية (2/ 168).

يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بنِ النَّجَارِ، وَهُمَا فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-. فَلَمَّا بَرَكَتْ وَضَعَتْ جِرَانَهَا (¬1)، فنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ فِي بَنِي النَّجَارِ (¬2) أَمَامَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ"، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّه تَعَالَى لِلنَّاقَةِ، فَإِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي النَّجَارِ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، أَخْوَالِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ" (¬4). ¬

_ (¬1) الجِرَان: بكسر الجيم، وهو باطن العُنُق. انظر النهاية (1/ 255). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 216): وفي نزوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في دارِ بني النجار، واختيارِ اللَّه له ذلك مَنْقبةٌ عظيمةُ، وقد كان في المدينة دُورُ كثيرة تبلغ تِسْعًا كل دار محلة مستَقِلة بمساكِنِها ونخِيلها وزروعها وأهلها، كل قبيلةِ من قبائلهم قد اجتمعوا في مَحلتهم، وهي كالقرى المتلاصقة، فاختار اللَّه لرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- دار بني مَالك بن النجار، وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3789) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2511) عن أبي أُسيد -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خيرُ دور الأنصار بنو النجار، ثم بنُو عبد الأشهَل، ثم بنُو الحارث بن الخَزْرج، ثم بنو سَاعِدة، وفي كل دور الأنصار خير". (¬3) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب ابتناء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (524) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 504) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 109). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب حديث الهجرة - رقم الحديث (3009) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب فصل في هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6281).

ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا (¬1) أَقْرَبُ؟ ". فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّه، هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا بَابِي، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا" (¬2)، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ -رضي اللَّه عنه-، رَحْلَ (¬3) النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي بَيْتهِ، فَأَتَى رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه! أَيْنَ تَحِلُّ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ"، وَجَاءَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ فَأَخَذَ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَتْ عِنْدَهُ (¬4). وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- بِالسُّنْحِ (¬5)، كما تقدم (¬6). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 666): أطلَقَ عليهم -صلى اللَّه عليه وسلم- أهلَه لقرابةِ ما بينهم من النِّسَاء؛ لأن منهم -أي بني النجار- والدةُ عبد المطلب جدّه، وهي سلمى بنتِ عَوف من بَنِي مالك بن النجار. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 666): أي مكانًا تقع فيه القيلُولَة، والقيلولة هي: الاستِرَاحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نَوْم. وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3911). (¬3) الرَّحْلُ: هو للبعيرِ كالسَّرج للفرس. انظر النهاية (2/ 192). (¬4) أخرج ذلك ابن سعد في طبقاته (1/ 114) - وقال بعد إيراده هذه الرواية: وهذا الثبت. (¬5) السُّنْحُ: بضم السين، موضعٌ بعوالي المدينة فيه منازِلِ بني الحارث بن الخزرج. انظر النهاية (2/ 366). (¬6) انظر تفاصيل هجرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في: صحيح البخاري - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - (3911) - (3932) - صحيح مسلم - كتاب الزهد والرقائق - باب في حديث الهجرة - رقم الحديث (2009) -=

* هَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِيهَا نَظَرٌ: طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الوَدَاع وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا للَّهِ دَاع (¬1) ¬

_ = ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (31205) - (13318) - وصحيح ابن حبان - باب التاريخ - فصل في هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة - رقم الحديث (6281) - سيرة ابن هشام (2/ 108 - 109) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 508 - 509) - زاد المعاد (3/ 53) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 114). (¬1) روى ذلك البيهقي في دلائل النبوة (5/ 266) بإسنادٍ ضعيف، وأورده الإمام أبو حامد الغزالي في "الإحياء" (2/ 386)، وأعلَّه الحافظ العراقي في تخريجه على الإحياء بقوله: إسناده معضل. [الحديث المعضل: ما سقط من إسناده إثنان فأكثر على التوالي]. قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 482): وبعض الرواة يَهم في هذا ويقول: إنما كان ذلك -أي إنشادُ هذه الأبيات- عند مقدمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة من مكةَ، وهو وَهْمٌ ظاهر؛ لأن ثنيَّات الوداع إنما هي من ناحيةِ الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يمُرُّ بها إلا إذا توجَّه إلى الشام. وقال الحافظ في الفتح (8/ 473): وقد روينا بسند منقطع في "الحلبيَّات" قول النِّسْوة لما قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة: طلعَ البدرُ علينا من ثنيَّات الوداع. تنبيه: أورد الغزالي هذه الأبيات بزيادة "بالدف والألحان"، وتعقَّبه الحافظ العراقي بقوله: وليس فيه ذكر للدُّفّ والألحان.

مظاهر الهجرة وعوامل نجاحها

مَظَاهِرُ الهِجْرَةِ وَعَوَامِلُ نَجَاحِهَا قَالَ الأُسْتَاذُ أَحْمَدُ عَبْدُ العَظِيمِ فِي كِتَابِهِ التَّخْطِيطُ لِلْهِجْرَةِ: نَجَحَتْ خُطَّةُ الهِجْرَةِ نَجَاحًا يُعْتَبَرُ بِمَقَايِيسِ الزَّمَنِ إِعْجَازًا، وَحَقَّقَتْ أَهْدَافًا جَعَلَتْهَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ بِدَايَةً لِلتَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ، فَمَا مَظَاهِرُ هَذَا النَّجَاحِ؟ 1 - بَعْدَ الهِجْرَةِ خَسِرَتْ قُرَيْشٌ مَوَازِينَ القُوَّةِ وَالمَكَانَةِ التِي تَوَارَثتهَا عَلَى مَدَى قُرُونٍ وَزَالَ عَنْهَا سُلْطَانُهَا. . . وَدَبَّ الخِلَافُ بَيْنَ أَبْنَائِهَا وَتَسَلَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى المَدِينَةِ فَأَسْلَمُوا. 2 - لَمْ تَعْدُ قُرَيْشٌ حَاجِزًا فِي وَجْهِ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، إِذْ أَسْقَطَتْ الهِجْرَةُ رَهْبَتَهَا مِنْ نُفُوسِ المُسْتَضْعَفِينَ وَالخَائِفِينَ، كَمَا أُسْقِطَتْ هَيبتُهَا مِنْ قُلُوبِ العَرَبِ، فَلَمْ تَعُدْ مِثْلَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، فَبَدَأَتِ الغَشَاوَةُ تَنْزَاحُ عَنْ عُيُونِهِمْ، وَنَظَرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَدَعْوتهِ نَظْرَةً مُحَايِدَةً خَالِصَةً مِنْ تَأْثِيرِ قُرَيْشٍ وَضَلَالَاتِهَا فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّه أَفْوَاجًا، وَهَكَذَا جَاءَتْ قبَائِلُ العَرَبِ مِنْ تَبُوكَ وَالطَّائِفِ وَمِنْ كُلِّ جِهَةٍ يُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - وَبِالهِجْرَةِ ارْتَفَعَتْ مَكَانَةُ المَدِينَةِ، وَأَصْبَحَتْ هِيَ مَحَطُّ الأَنْظَارِ،

وَتَحْتَ لِوَائِهَا تَوَحَّدَتِ الجَزِيرَةُ العَرَبِيَّةُ، وَأَصْبَحَتْ هِيَ العَاصِمَةُ وَالمَرْكَزُ وَالقَلْبُ. . . وَبَيْنَ رُبُوعِهَا قَامَتْ أَوَّلُ جَمَاعَةٍ عَلَى أَسَاسِ العَقِيدَةِ، لَا عَلَى أَسَاسِ القَبِيلَةِ، وَمِنْهَا بَعَثَ العَرَبُ قُوَّةً مُحَرِكَّةً فَعَالَةً لِأَدَاءِ رِسَالَتِهِمُ الإِسْلَامِيَّةِ. 4 - وَبِالهِجْرَةِ تَغَيَّرَتْ حَيَاةُ العَرَبِ مِنْ قَوْمٍ يَشِنُّونَ الحُرُوبَ وَيَسْفِكُونَ الدِّمَاءَ لِأَتْفَهِ الأَسْبَابِ إِلَى أَصْحَابِ قِيمٍ وَمبَادِئَ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وَقَوِيتْ رَوَابِطُ الأُخُوَّةِ وَالمَحَبَّةِ بِيْنَهُمْ، وَزَالَتْ بَوَاعِثُ البُغْضِ وَالكَرَاهِيَةِ وَالثَّأْرِ وَالِانْتِقَامِ حَتَّى أَنَّ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرِبنَ اقْتَسَمُوا دُورَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَاشْترَكُوا فِي مَشَاعِرَ وَاحِدَةٍ مُتَعَاوِنِينَ مُتَرَاحِمِينَ، وَقَدْ حَرَّرَهُمُ الإِسْلَامُ مِنَ التَّقْلِيدِ وَالجَهَالَةِ وَالرَّذِيلَةِ، وَجَمَعَهُمْ عَلَى الأَخْلَاقِ فَعَمَّتِ الفَضِيلَةُ وَانْتَشَرَتِ العُلُومُ وَالمَعَارِفُ وَاخْتَفَى الجَهْلُ وَالجَاهِلِيَّةُ. قَالَ الفَيْلَسُوفُ الإِنْجِلِيزِيُّ (تُومَاسْ كَارْلِيلْ) عَنِ العَرَبِ: قَوْمٌ يَضْرِبُونَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يُعْتَنَى بِهِمْ عِدَّةَ قُرُونٍ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ النَّبِيُّ العَرَبِيُّ صَارُوا قِبْلَةَ الأَنْظَارِ فِي العُلُومِ وَالمَعَارِفِ، وَكَثُرُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا قِلَّةً، وَعَزُّوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَذِلَّاءَ، وَلَمْ يَمْضِ قَرْنٌ بَعْدَ الإِسْلَامِ حَتَّى اسْتَضَاءَتْ أَطْرَافُ الأَرْضِ بِعُقُولهِمْ وَعُلُومِهِمْ. 5 - ظَهَرَتْ بِالهِجْرَةِ أُمَّةٌ إِسْلَامِيَّةٌ جَمَعَهَا الإِسْلَامُ، وَلَمْ تَجْمَعْهَا عَصَبِيَّاتٌ قَبَلِيَّةٌ، فَتَمَيَّزَتْ فِي تَكْوِينهَا، وَكَانَتْ حَضَارَتُهَا سَامِقَةً بَيْنَ حَضَارَاتِ التَّارِيخِ،

أُمَّةٌ تَرْبِطُ بَيْنَ أَفْرَادِهَا مَشَاعِرُ الحُبِّ وَالإِخَاءَ القَائِمِ عَلَى ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّه تَعَالَى، وَوَفْقِ إِرَادَتِهِ: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). 6 - كَانَ المُجْتَمَعُ الإِسْلَامِيُّ بَعْدَ الهِجْرَةِ يَقُومُ عَلَى المَبَادِئِ وَالأَخْلَاقِ، وَيَعْتَصِمُ بِأَحْكَامِ الإِسْلَامِ، فَاسْتَقَرَّتْ فِيهِ الفَضَائِلُ، فَأَصْبَحَتِ المَدِينَةُ قَاعِدَةً لِأُمَّةٍ فَاضِلَةٍ، انْطَلَقَتْ لِتَزْرَعَ مَبَادِئَهَا فِي العَالَمِ كُلِّهِ مُغَيِّرةً بِذَلِكَ وَجْهَ التَّارِيخِ. 7 - الهِجْرَةُ أَعْطَتِ الإِسْلَامَ حُرِيَّةَ الحَرَكَةِ دَاخِلَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ وَخَارِجَهَا فَقَدْ بَادَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوْرَ اسْتِقْرَارهِ بِالمَدِينَةِ إِلَى مُمَارَسَةِ الِاتِّصَالَاتِ المُباشِرَةِ مَعَ القَبَائِلِ العَرَبِيَّةِ عَنْ طَرِيقِ الرَّسَائِلِ. . . كَمَا بَادَرَ بِإِرْسَالِ السُّفَرَاءِ إِلَى المُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءَ فِي الدُّوَلِ المُجَاوِرَةِ، وَلقدْ أتتْ هَذِهِ الِاتِّصَالَاتُ بِنَتَائِجَ إِيجَابِيَّةٍ كَانَ لَهَا صَدَاهَا طَوالَ مَرَاحِلِ التَّارِيخِ الإِسْلَامِيِّ. 8 - كَانَتِ الهِجْرَةُ مُقَدِّمَةً لِإِنْهَاءِ العُصُورِ الوَثَنِيَّةِ، وقِيَامِ عَصْرٍ جَدِيدٍ شِعَارُهُ الإِيمَانُ، وكَرَامَةُ الإِنْسَانِ، وَتَحْرِيرُ النَّاسِ مِنْ عُبُودِيَّةِ الأَوْثَانِ إِلَى عُبُودِيَّةِ الإِلَهِ الوَاحِدِ. 9 - الهِجْرَةُ كَانَتْ إِعْلَانًا ببدَايَةِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَفْقًا لِلْأُسُس والنُّظُمِ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (63).

المُتَعَارَفِ عَلَيْهَا فِي العُرْفِ الدُّوَليِّ السَّائِدِ الْآنَ وهِيَ: الشَّعْبُ، والأرْضُ، والسُّلْطَةُ. 10 - الهِجْرَةُ كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِي انْتِصَارَاتِ المُسْلِمِينَ الكُبْرَى، وفِي الفُتُوحَاتِ الإِسْلَامِيَّةِ في دِمَشْقَ، وبَغْدَادَ، والفُسْطَاطِ، والقَيْرَوَانِ، وفَارِسَ، وقُرْطُبَةَ، وهِيَ السَّبَبُ فِي دُخُولِ الإِسْلَامِ إِلَى كُلِّ عَوَاصِمِ العَالَمِ، وتَكْوِينِ الإِمبرَاطُورِيَّةِ الإسْلَامِيَّةِ مِنَ الهِنْدِ شَرْقًا إِلَى المُحِيطِ الأَطْلَنْطِيِّ غَرْبًا. 11 - الهِجْرَةُ هِيَ التِي حَقَّقَتْ عَالَمِيَّةَ الإِسْلَامِ، وَنَشَرَتْ مَبَادِئَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَخَلَّصَتِ العَالَمَ مِنْ بَرَاثِنِ الإِمبرَاطُورِيَّاتِ التِي ذَاقَتِ الأَمَرَّينِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ فِي الشَّامِ، وآسِيَا الصُّغْرَى، والشَّمَالِ الإِفْرِيقِيِّ. 12 - بِالهِجْرَةِ تَخَلَّصَ العَالَمُ بِأَجْمَعِهِ مِنَ الفَوْضَى والهَمَجِيَّةِ، وانْتَقَلَ إِلَى مَرْحَلَةِ التَّحَضُّرِ والإِنْسَانيَّةِ. . . لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ المُبالَغَةِ لَكِنَّهَا شَهَادَةُ حَقٍّ شَهِدَ بِهَا الأَعْدَاءُ قَبْلَ الأَصْدِقَاءِ. 13 - أعَادَتِ الهِجْرَةُ صَقْلَ (¬1) الخَامَاتِ البَشَرِيَّةِ فِي العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ، وسَاعَدَ الِاسْتِقْرَارُ عَلَى إبْرَازِ المَوَاهِبِ، والطَّاقَاتِ التِي كَانَتْ كَامِنَةً تَحْتَ ظُلُمَاتِ الجَاهِلِيَّةِ والكُفْرِ، والخُلُودِ إِلَى الأَرْضِ، فَانْطَلَقُوا وقَدِ اسْتَضَاؤُوا بِنُورِ الإِسْلَامِ، عَبْقَرِيَّات تَفْتَحُ البِلَادَ، وتُقِيمُ العَدْلَ، وتُؤَسِّس الدُّوَلَ، وتُحْسَبُ فِي ¬

_ (¬1) الصَّقْل: الجِلاء. انظر لسان العرب (7/ 377).

عِدَادِ العُظَمَاءِ فِي كُلِّ العُصُورِ، ولَوْلَا الهِجْرَةُ مَا وَجَدَ هَؤُلَاءِ مَنَاخَ الِانْطِلَاقِ. لَا شَكَّ بَعْدَ هَذَا. . . أَنَّ الهِجْرَةَ كَانَتْ بِدَايَةَ انْطِلَاقِ الإِسْلَامِ إِلَى كُلِّ الآفَاقِ، وفَاتِحَةَ خَيْرٍ لبنَاءِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وبُشْرَى تَخْلِيصِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنْ بَرَاثِنِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، وإرْهَاصَةَ (¬1) قِيَامِ الحَضَارَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، لِهَذَا كَانَ الإِصْرَارُ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ تَكُونَ الهِجْرَةُ، ولَيْسَتِ البِعْثَةُ أَوْ وَفَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هِيَ بِدَايَةُ التَّأْريخِ الإِسْلَامِيِّ (¬2). إِنَّ إِلْهَامَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَصِدْقَ فِرَاسَتِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالهِجْرَةِ، وجَعْلِهَا بِدَايَةَ التَّأْرِيخِ (¬3) الإِسْلَامِيِّ كَانَ فِي مَحَلِّهِ ومَوْضِعِهِ. ¬

_ (¬1) الإرهاص: المقدمة للشيء. انظر لسان العرب (5/ 343). (¬2) انظر كتاب التخطيط للهجرة مبادئ علمية وإلهامات ربانية ص 115 - 123 للأستاذ أحمد عبد العظيم. (¬3) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب التاريخ، من أين أرَّخُوا التاريخ؟ - رقم الحديث (3934) عن سهل بن سعد -رضي اللَّه عنه- قال: ما عَدُّوا من مَبْعَث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا من وَفَاته، ما عدّوا إلا من مقدمه المدينة. وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه - كتاب الهجرة - باب مشاورة عمر -رضي اللَّه عنه- في أمْرِ تاريخ الإسلام - رقم الحديث (4344) عن سعيد بن المسيب قال: جمَعَ عمر -رضي اللَّه عنه- الناس فسألهم: من أي يومٍ يكتب التاريخ؟ فقال علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-: من يوم هَاجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وترَكَ أرضَ الشرك، ففعله عمر -رضي اللَّه عنه-. قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 220): اتفق الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أجمعين في سنة ست عشرة وقيل سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة في الدولة العُمَرية على جعل ابتداء =

* النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي أيوب الأنصاري

* النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ: ذَكَرْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَقَدْ فرِحَ أَبُو أَيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه- بِنُزُولِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَهُ، وكَان -رضي اللَّه عنه- شَدِيدَ الحِرْصِ عَلَى رَاحَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي القِسْمِ السُّفْلِيِّ مِنْ بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ، وأَبُو أَيُّوبَ ¬

_ = التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- رُفِعَ إليه صَكٍّ -أي حُجَّة- لرجلٍ على آخر وفيه: إنه يحل عليه في شعبان، فقال عمر -رضي اللَّه عنه-: أي شَعْبان؟ أشَعْبَان هذه السنة التي نحن فيها، أم السنة الماضية، أم الآتية؟ ثم جَمَعَ الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرَّفُون به حُلُولَ الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرِّخوا كتاريخِ الفرس فكَرِه عمر -رضي اللَّه عنه- ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بمُلُوكهم واحد بعد واحد، وقال قائل: أرخوا بتاريخ الرُّوم، وكانوا يؤرخون بملك إسكندر بن فلبس المَقْدُوني فكَرِه عمر -رضي اللَّه عنه- ذلك، وقال آخرون أرخوا بمولد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال آخرون: بل بمبعثه، وقال آخرون: بل بهجرته، وقال آخرون: بل بوفَاته، فمال عمر -رضي اللَّه عنه- إلى التاريخ بالهجرة لظهورهِ واشتهارِه، واتفقوا معه على ذلك. وقال الحافظ في الفتح (7/ 687): وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مُناسبة، فقال: كانت القضايا التي اتفقت له، ويمكن أن يُؤَرَّخ بها أربعة: مولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرجح عندهم جعلها من الهجرة لأن المولِدَ والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما الوفاة فأعرضوا عنه لما تُوقِع بذكره من الأسَفِ عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فانحَصَر في الهِجْرة، وإنما أخَّروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداءَ العزْمِ على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة -أي بيعة العقبة الثانية- وقعت أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلالٍ استهل بعد البيعة، والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسبَ أن يجعل مبتدأ، وهذا أقْوَى ما وقفتُ عليه من مناسبةِ الابتداء بالمحرم.

وَزَوْجَتُهُ فِي القِسْمِ العُلْوِيِّ، فَانْتَبَهَ أَبُو أيُّوبٍ لَيْلَةً فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-! فتَنَحَّوا فَكَانُوا فِي جَانِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ سَاهِرًا حَتَّى أصْبَحَ، وفي الصَّبَاحِ أتَى الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنِّي لَأَكْرَهُ، وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَكَ، وتَكُونَ تَحْتِي، فكُنْ أَنْتَ فِي العُلْوِ، ونَنْزِلُ نَحْنُ فَنَكُونُ فِي السُّفْلِ، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أبَا أيُّوبَ السُّفْلُ أرْفَقُ بِنَا وبِمَنْ يَغْشَانَا" (¬1). قَالَ أَبُو أيُّوبٍ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سُفْلِهِ، وكُنَّا فَوْقَهُ فِي المَسْكَنِ، فَلَقَدِ انْكَسَرَ حُبٌّ (¬2) لَنَا فِيهِ مَاءٌ، فَقُمْتُ أنَا وَأُمُّ أيُّوب بِقَطِيفَةٍ (¬3) لنَا، مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرُهَا، نَنَشِّفُ بِهَا المَاءَ تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُ شَيْءٌ فيؤْذِيَهُ، فنَزَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُلْتُ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَبُو أيُّوبٍ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَرْجُوهُ ويُلحُّ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الأَعْلَى، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو أيُّوب فِي الأَسْفَلِ، فَقَبِلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَكُونَ فِي الأَعْلَى. قَالَ أَبُو أيُّوب -رضي اللَّه عنه-: وكُنَّا نَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَشَاءَ، ثُمَّ نَبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمَّمْتُ (¬4) أنَا وَأُمُّ أيُّوبٍ مَوْضعَ أصَابِعِهِ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ ¬

_ (¬1) غَشَوْهُ: أي ازدَحَمُوا عليه وكثروا. انظر النهاية (3/ 331). (¬2) الحُبُّ: بضم الحاء: هي الجَرَّة، أو الضخمة منها. انظر القاموس المحيط (1/ 71). (¬3) القَطِيفة: كِسَاء. انظر النهاية (4/ 75). (¬4) يُقال يمَّمْته وتيمَّمته: إذا قَصَدْته. انظر النهاية (5/ 259).

البَرَكَةَ، حَتَّى بَعَثْنَا إِلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ، وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ فِيهِ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ أرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا، قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّه! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، رَدَدْتَ عَشَاءَكَ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضعَ يَدِكَ، وكُنْتَ إِذَا رَدَدْتَهُ عَلَيْنَا، تيَمَّمْتُ أنا وَأُمُّ أيُّوبٍ موضع يَدِكَ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ البَرَكَةَ، فَمَا مَنَعَكَ مِنْهُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي وَجَدْتُ فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وأنَا رَجُلٌ أُنَاجِي"، فَقَالَ أبُو أيُّوبٍ: أحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: "لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ" (¬1)، فَقَالَ أَبُو أيُّوبٍ: فَإِنِّي أكْرَهُ مَا تَكْرَهُ (¬2). وذَلِكَ لِأَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ تَأْتِيهِ المَلَائِكَةُ (¬3). قَالَ أَبُو أيُّوبٍ: وَلَمْ نَصْنَعْ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَعَامًا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّوْمِ أَوِ البَصَلِ بَعْدُ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية ابن حبان في صحيحه بسند صحيح - رقم الحديث (2092) قال أبو أيوب -رضي اللَّه عنه-: لم أرَ أدرَك فيه يا رسول اللَّه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أستَحْى من ملائكة اللَّه، وليَس بمُحَرَّم". (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (14/ 10): وأما كراهة أبي أيوب -رضي اللَّه عنه- فمن الأدب المَحْبُوب الجميل، وفيه إجلال أهل الفضل والمبالغة في الأدب معهم. (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (14/ 10): وفي الحديث منقبة ظاهرةٌ لأبي أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه- من أوجُهٍ منها: نُزُوله أسفلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومنها أدبُه معه، ومنها موافقتُه في تَرْكِ الثُّومِ. (¬4) أخرج نزول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عند أبي أيوب -رضي اللَّه عنه-: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الأشربة - باب إباحة أكل الثوم - رقم الحديث (2053) - والإمام أحمد في مسنده - رقم=

* مدة إقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أبي أيوب -رضي الله عنه-

وَمَا كَانَتْ تَمُرُّ لَيْلَةٌ إِلَّا وَعَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الثَّلَاثَةُ والأَرْبَعَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ الأَنْصَارِ، يَتَنَاوَبُونَ فِي حَمْلِ طَعَامِهِمْ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى تَحَوَّلَ مِنْ بَيْتِ أَبِي أَيُّوبٍ إِلَى حُجُرَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * مُدَّةُ إِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-: كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه- شَهْرًا وَاحِدًا (¬2). ورَوَى ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقَامَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبٍ سَبْعَةَ أشْهُرٍ (¬3). قُلْتُ: وَالذِي نَمِيلُ إِلَيْهِ هُوَ مَا قَاله الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقَامَ فِي بَيْتِ أَبِي أيُّوبٍ الأنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- شَهْرًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ بِنَاءَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وبِنَاءَ حُجُرَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ إِلَّا أيَّامًا قَلِيلَةً؛ لِأَنَّ البِنَاءَ كَانَ فِي أبْسَطِ صُورَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي. ¬

_ = الحديث (23507) - (23517) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب فرض الجماعة والأعذار التي تبيح تركها - رقم الحديث (2092) - (2094) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب قيام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيت أبي أيوب - رقم الحديث (5992) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 112). (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 114). (¬2) ذكر ذلك الحافظ في تهذيب التهذيب (1/ 519). (¬3) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 114).

* إكرام ابن عباس رضي الله عنهما لأبي أيوب -رضي الله عنه-

* إِكْرَامُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهما لِأَبِي أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-: وَتَمُرُّ الأيَّامُ، ويَقْدُمُ هَذَا الرَّجُلُ الكَرِيمُ أَبُو أيُّوبٍ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- البَصْرَةَ، وكَانَ وَالِيهَا يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّه بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهما مِنْ قِبَل عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَوَجَدَ ابنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الفُرْصَةَ العَظِيمَةَ لِرَدِّ الجَمِيلِ لِأَبِي أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ حَبِيبِ بنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: أَنَّ أبَا أيُّوبٍ الأَنْصَارِيَّ قَدِمَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ البَصْرَةَ، فَفَرَّغَ لَهُ بَيْتَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَأَصْنَعَنَّ بِكَ كَمَا صَنَعْتَ بِرَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ ابنُ عَبَّاس لِأَبِي أيُّوبٍ: كَمْ عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفًا، قَالَ: فَأَعْطَاهُ أرْبَعِينَ أَلْفًا، وعِشْرِينَ مَمْلُوكًا، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَكَ مَا فِي البَيْتِ (¬1). قَالَ الدُّكتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ومَا كَانَ أَبُو أيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-عَلِمَ اللَّه- لِيَرْجُوَ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ ضِيَافَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإكْرَامِهِ جَزَاءً مِنْ أحَدٍ، مَا كَانَ يَرْجُو إِلَّا رِضَاءَ اللَّه وَرَسُولهِ، ولَكِنَّهُ الأَدَبُ الذِي أَدَّبَ اللَّه بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ، وهُوَ رَدُّ المَعْرُوفِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِخَيْرٍ مِنْهُ، وَأَحَقُّ مَنْ رَعَى هَذَا الأَدَبَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَآله الكِرَامُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ والإِمَامُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب إعطاء ابن عباس أبا أيوب مالًا كثيرًا - رقم الحديث (5990).

* قدوم آل النبي -صلى الله عليه وسلم- وعيال أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

قَالَ: ". . . وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أنَّكُمْ قَدْ كَافَأتمُوُهُ" (¬1). * قُدُومُ آلِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعِيَالُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه-، زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ وأبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، إِلَى مَكَّةَ، وأعْطَاهُمَا بَعِيرَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ درْهَمٍ لِيَأْتِيَاهُ بِأَهْلِهِ، فَقَدِمَا بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وأُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ابْنَتَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأُمِّ أيْمَنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَاضِنَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وزَوْجِ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، وابْنِهَا أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-. وَأَمَّا زَيْنَبُ بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا أَبُو العَاصِ بنُ الرَّبِيعِ -وَكَانَ لَا يَزَالُ مُشْرِكًا- مِنَ الهِجْرَةِ (¬2)، وَأَمَّا رُقيّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَهَاجَرَتْ مِنْ قَبْلُ مَعَ زَوْجِهَا عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الزكاة - باب عطية من سأل باللَّه - رقم الحديث (1672) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5365) - وانظر كلام الدكتور محمد أبو شهبة رحمه اللَّه في كتابه السيرة النبوية (2/ 27). (¬2) ثم إِنَّ أبا العاص بن الربيعِ -رضي اللَّه عنه- أُسِرَ في غزوة بدر الكبرى، ففدَتْه زوجته زينب رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - بنتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي في مكة بِقلادةٍ لأمها خديجة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا فتأثر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمرِ بإطلاقِ سَرَاح أبي العاص بن الربيع، وقد وَعَد أبو العاص الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُرسل زينبَ إلى المدينة إن رَجَع إلى مكة، وفَعْلًا وفَّى بكلامه -رضي اللَّه عنه-، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، وسأذكر قِصَّة فِدَاء زينب رضي اللَّه عنهما، مُفَصلًا، في غزوة بدر الكبرى إن شاء اللَّه.

* ولادة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما

وخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّه بنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا بِعِيَالِ أبِيهِ، وهُمْ: أُمُّ رُومَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْجَةُ أَبِي بَكْرٍ، وأُخْتَاهُ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَتَّى قَدِمُوا جَمِيعًا المَدِينَةَ فنَزَلُوا فِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ بِالسُّنْحِ، وَنَزَلَ آل رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ حَارِثَةَ بنِ النُّعْمَانِ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * وِلَادَةُ عَبْدِ اللَّه بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وكَانَتْ أسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا حِينَ هَاجَرَتْ حَامِلًا بِابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا نَزَلَتْ قباءَ وَلَدَتْ، فَأتتْ بِهِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيُحَنِّكَهُ (¬2)، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَضَعَهُ في حِجْرِهِ، وأتَى بِتَمْرَةٍ فَمَصَّهَا ثُمَّ مَضَغَهَا ثُمَّ وَضَعَهَا فِي فِيهِ فَحَنَّكَهُ بِهَا، فَكَانَ أوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ دَعَا لَهُ فبَرَّكَ (¬3) عَلَيْهِ، وَسَمَّاهُ: "عَبْدَ اللَّه"، وكَانَ أوَّلَ مَنْ وُلِدَ فِي الإِسْلَامِ بَعْدَ الهِجْرَةِ بِالمَدِينَةِ (¬4) مَقْدَمَ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ قَدْ ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 114) - زاد المعاد (3/ 55). (¬2) قال الحافظ في الفتح (11/ 5): التَّحْنِيكُ: هو مضغُ الشَّيْءِ ووضْعُهُ في فَمِ الصبي وذلك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي ليَتَمَرَّن على الأكل ويَقْوى عليه، وينبغِي عند التَّحْنِيكِ أن يفتحَ فَاهُ حتى ينزِلَ جَوْفَه، وأوْلاهُ التَّمْر فإن لم يتيسر تمرٌ فَرُطب، وإلا فشيءٌ حُلْو، وعسلُ النحل أولى من غيره. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 661): أي قال بارَك اللَّه فيه، أو اللهم بارك فيه. (¬4) وأما أوَّل مولودٍ للأنصار بعد الهِجْرة فهو النُّعْمَان بن بشير -رضي اللَّه عنه-. وانظر الإصابة (6/ 346).

* نبذة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما

أخَذْنَاهُمْ -أي المُسْلِمِينَ- فَلَا يُولَدُ لَهُمْ بِالمَدِينَةِ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَكَبَّرَ (¬1) أصْحَابُ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ وُلِدَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْر (¬2). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ مَوْلدَ عَبْدِ اللَّه بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ في السَّنَةِ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ وهُوَ المُعْتَمَدُ، بِخِلَافِ مَا جَزَمَ بِهِ الوَاقِدِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِأنَّهُ وُلِدَ في السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الهِجْرَةِ (¬3). * نُبْذَةٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ، أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، القُرَشِيُّ الأَسَدِيُّ المَكِّيُّ ثُمَّ المَدَنِيُّ، أَحَدُ الأَعْلَامِ، وَلَدُ الحَوَارِيِّ الإِمَامِ أبي عَبدِ اللَّه، ابنِ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَحَوَارِيِّهِ، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- فَارِسَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ، وَله مَوَاقِفُ مَشْهُودَةٌ (¬4). ¬

_ (¬1) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (5469) عن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّه عَنْهما قالت: ففرِحُوا به فرحًا شَدِيدًا؛ لأنهم قيلَ لهم: إن اليهودَ قد سَحَرَتْكُم فلا يُولَدُ لكم. (¬2) أخرج قِصَّة وِلَادَة عبد اللَّه بن الزبير رَضِيَ اللَّه عَنْهما: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3909) - (3910) - وكتاب العقيقة - باب تسمية المولود - رقم الحديث (5469) - ومسلم في صحيحه - كتاب الآداب - باب استحباب تحنيك المولود - رقم الحديث (2146). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 661). (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 363).

* وفاة البراء بن معرور -رضي الله عنه-

* وَفَاةُ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه-: أخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مُرْسَلٍ عَنْ قتادَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ سَأَلَ عَنِ البَرَاء بنِ مَعْرُورٍ، فَقَالُوا: تُوُفِّيَ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّه، وَأَوْصَى أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ لَمَّا احْتُضِرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَابَ الفِطْرَةَ وَقَدْ رَدَدْتُ ثُلُثَهُ عَلَى وَلَدِهِ"، ثُمَّ ذَهَبَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَأَدْخِلْهُ جَنَّتَكَ، وَقَدْ فَعَلْتَ" (¬1). وَكَانَتْ وَفَاتُهُ -رضي اللَّه عنه- فِي صَفَرٍ قَبْلَ قُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ بِشَهْرٍ (¬2). قُلْتُ: وَالبَرَاءُ بنُ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ مِنَ السَّبْعِينَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، وهُوَ أحَدُ النُّقَبَاءَ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نيَابَةً عَنْ قَوْمِهِمْ، وهُوَ أوَّلُ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ العَقَبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثَّانِيَةِ. وهُوَ أوَّلُ مَنِ اسْتَقْبَلَ الكَعْبَةَ حَيًّا وَمَيْتًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الجنائز - باب يوجه المحتضر إلى القبلة - رقم الحديث (1345) - الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 313) - وأورده الشوكاني في نيل الأوطار (7/ 229). (¬2) انظر الإصابة (1/ 416) - الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 313). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15798) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7011) - وإسناده حسن.

حمى المدينة

حُمَّى المَدِينَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأُ (¬1) أَرْضِ اللَّه مِنَ الحُمَّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسُقْمٌ، وصَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا، فَاجْتَوَيْنَاهَا وأصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ (¬3). واجْتَوَى (¬4) المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ، وَلَمْ يُوَافِقْ هَوَاؤُهَا أبْدَانَهُمْ، وجَهِدُوا حَتَّى كَانُوا مَا يُصَلُّونَ إِلَّا وَهُمْ قُعُودٌ. فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) الوباء: المرض العام. انظر النهاية (5/ 127). قال الحافظ في الفتح (4/ 589): لا يعارض قُدُومهم عليها -أي على المدينة- وهي بهذه الصِّفَة نَهْيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القدومِ على الطَّاعُونِ، لأن ذلك كان قَبْلَ النهي، أو أن النَّهْيَ يختَصُّ بالطاعون، ونحوه من المَوْتِ الذَّرِيعِ لا المَرَض ولو عَمَّ. (¬2) أخرج ذلك: الإمام البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب (12) - رقم الحديث (1889) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 200). (¬3) الوَعْكُ: الحُمَّى. انظر النهاية (5/ 179)، والخبرُ أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948). (¬4) اجْتَوَى: أي أصابهم الجَوَى: وهو المَرَض وداءُ الجَوْفِ إذا تَطَاول، وذلك إذا لم يوافقهم هَوَاؤُها واستوخَمُوها -أي استْثَقُلوها-. انظر النهاية (1/ 307).

قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ وهِيَ مَحَمَّةٌ (¬1)، فَحُمَ النَّاسُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَسْجِدَ والنَّاسُ قُعُودٌ يُصَلُّونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلَاةُ القَاعِدِ نِصْفُ صَلَاةِ القَائِمِ" (¬2)، فتَجَشَّمَ (¬3) النَّاسُ الصَّلَاةَ قِيَامًا عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ والسُّقْمِ، الْتِمَاسَ الفَضْلِ (¬4). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، اشْتَكَى أصْحَابُهُ، وَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وبِلَالٌ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عِيَادَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهَا، ¬

_ (¬1) مَحَمّةٌ: أي ذات حُمَّة، يقال: أحَمَّت الأرض: أي صارَتْ ذات حُمى. انظر النهاية (1/ 428). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (6/ 13): معناهُ أَنَّ صلاةِ القاعدِ فيها نِصْفُ ثوابِ القائمِ فيتضَمَّن صِحتها ونُقْصَان أجْرِها، وهذا الحديث محمولٌ على صَلاة النَّفْلِ قَاعِدًا مع القُدْرَة على القيامِ، فهذا له نِصْفُ ثوابِ القائم، وأما إذا صلى النفْلَ قَاعدًا بعَجْزِه عن القيام فلا ينقُص ثَوابه، بل يكون كثَوَابه قَائمًا للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2996) - عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا مَرِضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له مثلُ ما كَانَ يعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا"، وأما الفَرْضُ فإن الصلاة قاعدًا مع قُدرته على القيام لم يَصح، فلا يكون فيه ثَوَاب بل يأثَمُ به، وإن صلَّى الفرضَ قاعدًا لعجْزِهِ عن القيام أو مُضْطَجعًا لعجزِهِ عن القيامِ والقُعُود، فثوابُهُ كثوابِهِ قَائمًا لم ينقُص باتِّفاقِ أصحَابِنَا. (¬3) تَجَشَّمَ: أي تَكَلَّفَ. انظر النهاية (1/ 265). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم الحديث (12395)، وابن إسحاق في السيرة (2/ 202).

فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ (¬1). فَقَالَ: كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ (¬2) فِي أَهْلِهِ ... وَالمَوْتُ أَدْنَى (¬3) مِنْ شِرَاكِ (¬4) نَعْلِهِ وَسَألَتْ عَامِرَ بنَ فُهَيْرَةَ، فَقَالَ: إنِّي وَجَدْتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ ... إِنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِه وسَألَتْ بِلَالًا، فَقَالَ: ألَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... بِوَادٍ (¬5) وَحَوْلي إِذْخِرٌ (¬6) وَجَلِيلُ (¬7) ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 679): أي تجِدُ نفسك أو جسدك. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 679): أي مُصَابٌ بالموت صباحًا. (¬3) أدْنَى: أي أقرَب. انظر فتح الباري (7/ 679). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 679): الشِراك بكسر الشين: وهو السَّير الذي يكون في وجه النَّعْل، والمعنى: أن الموت أقربُ إلى الشخصِ من شِرَاك نَعله لرجله. (¬5) قال الحافظ في الفتح (7/ 679): أي بِوَادي مكة. (¬6) الإذْخِر: بكسر الهمزة هو حَشِيشَةٌ طَيِّبةُ الرائحةِ تُسْقَّفُ بها البيوتُ فوقَ الخَشَب. انظر النهاية (1/ 36). (¬7) قال الحافظ في الفتح (7/ 679): جَلِيل: هو نبتٌ ضَعِيف يُحْشَى به خصاص البيوت وغيرها.

وَهَلْ أَرِدَنَّ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ (¬1) ... وَهَلْ بيدُوَنَّ (¬2) لِيَ شَامَةٌ وَطَفِيلُ (¬3) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه إِنَّهُمْ لَيَهْذُونَ (¬4) ومَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الحُمَّى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالجُحْفَةِ" (¬5). وأخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّه بنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) مِيَاهُ مِجَنَّة: موضعٌ على أميال من مكة، وكان يُقام بها للعرب سُوق. انظر النهاية (4/ 257). (¬2) يبدُونَّ: أي يَظهر. انظر لسان العرب (1/ 347). (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 679): شامَةٌ وطَفِيل هما: جَبَلان بقرب مكة. (¬4) هَذَأ الكلام: إذا أكثر منه في خطأ. انظر لسان العرب (15/ 63). (¬5) قال الحافظ في الفتح (4/ 161): الجحفة بضم الجيم هي قريةُ خربة بينها وبين مكةَ خَمْسُ مراحل أو سِتة، وسُمِّيت الجُحفة؛ لأن السَّيْلَ أجحَفَ بها -أي ذهب بها- وهي مِيقَاتُ أهلِ مِصرَ والشام. قلتُ: والجحفة اليومَ مُنْدَثِرَةٌ ويُحْرَم حاليًا من رَابغ وتبعُدُ عن مكة (183) كيلو. وأخرج ذلك: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24360) (24288) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحظر والإباحة - باب إباحة عيادة المرأة أباها وموالي أبيها - رقم الحديث (5600) - وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3926) - وكتاب فضائل المدينة - باب (12) - رقم الحديث (1889) - وكتاب المرض - باب من دعا برفع الوباء والحُمَّى - رقم الحديث (5677) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الترغيب في سكنى المدينة - رقم الحديث (1376).

* فوائد الحديث

قَالَ: "رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ، حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةٍ (¬1)، وهِيَ الجُحْفَةُ فَأوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ المَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا" (¬2). * فَوَائِدُ الْحَدِيثِ: قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وفي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - الدُّعَاءُ لِلْمُسِلْمِينَ بِالصِّحَّةِ وطِيبِ بِلَادِهِمْ، وَالبَرَكَةِ فِيهَا، وَكَشْفِ الضُّرِّ وَالشَّدَائِدِ عَنْهُمْ، وهَذَا مَذْهَبُ العُلَمَاءَ كَافَّةً. 2 - وَفِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبوَّةِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَإِنَّ الجُحْفَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ مُجْتَنبةٌ، وَلَا يَشْرَبُ أَحَدٌ مِنْ مَائِهَا إِلَّا أصَابَتْهُ الحُمَّى (¬3). * إصَابَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالحُمَّى: وَقَدْ أُصِيبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِالحُمَّى، فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أهْلِهِ، فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ قَدْ أصَابَتْهَا الحُمَّى (¬4) فَرَأَيْتُ أبَاهَا يُقَبِّلُ خَدَّهَا، وَقَالَ: كَيْفَ أنْتِ يَا بُنَيَّةُ (¬5). ¬

_ (¬1) مَهْيَعَة: بفتح الميم وسكون الهاء: اسم للجحفة. انظر النهاية (4/ 321). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التعبير - باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كُوَّة وأسكنه مَوْضعًا آخر - رقم الحديث (7038) - (7039) - (7040). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 128). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 671): كان دخولُ البَرَاء -رضي اللَّه عنه- على أهل أَبِي بكر -رضي اللَّه عنه- قبلَ أن يَنْزِلَ الحِجَاب قَطْعًا، وأيضًا فكان حِينَئِذٍ دونَ البلوغ، وكذلك عائشة رضي اللَّه عنها. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه=

* دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدينة

* دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمَدِينَةِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمَدِينَةِ: فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنَّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ وَعَبْدَكَ وَنَبِيَّكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَرَسُولُكَ أدْعُوكَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ مِثْلَ مَا دَعَاكَ بِهِ إبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، نَدْعُوكَ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ (¬1) وَمُدِّهِمْ (¬2) وثِمَارِهِمْ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إلَيْنَا مَكَّةَ، واجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِخُمٍّ (¬3)، اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابتَيْهَا (¬4) كَمَا حُرِّمَتْ عَلَى لِسَانِ إبْرَاهِيمَ الحَرَمُ" (¬5). وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ أنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالمَدِينهِ ضِعْفَي مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البرَكةِ" (¬6). ¬

_ = إلى المدينة - رقم الحديث (3918). (¬1) الصَّاعُ: هو كيلوان ونصف من الطعام. (¬2) المُدُّ: مقدار مِلْئُ الكفَّيْنِ. انظر النهاية (4/ 263). (¬3) خُم: بضم الخاء: موضعٌ بين مكة والمدينة على ثلاثةِ أميال من الجُحْفَة. انظر النهاية (2/ 77). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 115): اللَّابَتَانِ: الحَرَّتَانِ واحدتهما لَابَة، وهي الأرض المُلَبَّسَة حجارَة سودَاءَ، وللمدينةِ لابتانِ شرقِيَّة وغربية وهي بينهما. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم الحديث (22630). (¬6) أخرجه البخاري - كتاب فضائل المدينة - رقم الحديث (1885) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المدينة - رقم الحديث (1369).

زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعائشة رضي الله عنها

زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وفِي شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ الأُولَى لِلْهِجْرَةِ بَنَى (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ. أخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِسِتِّ سِنِينَ، وبَنَى بِي وأنا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (¬2). وأخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في شَوَّالَ، وبَنَى بِي فِي شَوَّالَ (¬3)، فَأَيُّ نِسَاءِ رسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ أحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي؟ (¬4). ¬

_ (¬1) البِنَاءُ: هو الدخول بالزوجَةِ، والأصلُ فيه أن الرجل كان إذا تزوَّج امرأةً بنى عليها قُبَّةً ليدخُلَ بها فيها، فيقال بنى الرجل على أهله. انظر النهاية (1/ 156). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب تزويج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة - رقم الحديث (3894) (3896) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تزويج الأب البكر الصغيرة - رقم الحديث (1422). (¬3) راجع زَوَاج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من عائشة قبل الهجرة، فقد ذكرت هناك لماذا ذَكَرَتْ عائشة رضي اللَّه عنها شهر شوال. (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تزويج الأبِ البِكْر الصغيرة - رقم الحديث (1423).

وَكَانَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أُرِيَهَا فِي المَنَامِ، قَبْلَ أَنْ يَخْطِبَهَا، فقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُرِيتُكِ (¬1) فِي المَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، جَاءَنِي بِكِ المَلَكُ فِي سَرَقَةٍ (¬2) مِنْ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأتكَ، فَأَكْشِفُ عَنْ وَجْهِكِ، فَإِذَا هِيَ أنْتِ (¬3)، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه، يُمْضِهِ" (¬4). وأخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ والتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ بِصُورَتهَا فِي خِرْقَةِ (¬5) حَرِيرٍ خَضْرَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ (¬6). وَهِيَ البِكْرُ (¬7) الوَحِيدَةُ التِي تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (10/ 227): أُرِيتك: بضم الهمزة. (¬2) قال الحافظ في الفتح (10/ 227): السَّرَقَةُ: بفتح السين والراء والقاف هي القطعة. (¬3) قال الحافظ في الفتح (10/ 228): هذا مُشْعِر بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها وُلدت رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بعد البعثة. (¬4) أخرجه البخاري - كتاب النكاح - باب النظر إلى المرأة قبل التزويج - رقم الحديث (5125) - (5126) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - رقم الحديث (2438). (¬5) الخِرْقة: بكسر الخاء: هي القِطْعة من الثوب. انظر لسان العرب (4/ 72). (¬6) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر عائشة أم المؤمنين رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - رقم الحديث (7094) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب، باب فضل عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - رقم الحديث (4218). (¬7) قال الحافظ في الفتح (10/ 151): البكر: بكسر الباء وهي التي لم تُوطَأ واستمَرَّت على حالتها الأولى.

* فوائد الحديث

البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِكْرًا غَيْرَكِ (¬1). وأخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وفيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرًا لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أيِّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ (¬2) بَعِيرَكَ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فِي التِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا"، يَعْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ: 1 - مَشْرُوعِيَّةُ ضَرْبِ المَثَلِ وتَشْبِيهُ شَيءٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ بِمِثْلِهِ مَسْلُوبِ الصِّفَةِ. 2 - وَفيهِ بَلَاغَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وحُسْنُ تَأتيهَا فِي الأُمُورِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا. . .} - رقم الحديث (4753) - وعلَّقه في كتاب النكاح - باب الأبكار. (¬2) قال الحافظ في الفتح (10/ 151): تُرْتِع: بضم أوله، أرْتَعَ بعيرهُ إذا تركَهُ يرعى ما شَاء، ورتَعَ البعيرُ في المَرْعى إذا أكل ما شَاء. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب نكاح الأبكار - رقم الحديث (5077). (¬4) انظر فتح الباري (10/ 151).

* صفة دخول الرسول -صلى الله عليه وسلم- على عائشة رضي الله عنها

* صِفَةُ دُخُولِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: . . . فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ فنَزَلْنَا فِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ، فَوُعِكْتُ (¬1) فتَمَزَّقَ شَعْرِي، فَوَفَى (¬2) جُمَيْمَةً (¬3)، فَأتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ (¬4)، وإنِّي لَفِي أُرْجُوحةٍ (¬5) وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأتَيْتُهَا، لَا أدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي حَتَّى أوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وإنِّي لَأَنْهِجُ (¬6) حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي ورَأْسِي، ثُمَّ أدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِي البَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الخَيْرِ وَالبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ (¬7)، ¬

_ (¬1) الوَعْكُ: هو الحُمَّى. انظر النهاية (5/ 179). أي أنها رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أصابتها الحُمى؛ لأن المدينة كانت معروفة بالوباء كما تقدم. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 628): فَوَفى: أي كثر، وفي الكلام حذف تقديره: ثم فصلت من الوَعْك، فتربى شعري فكثر. (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 177): تصغير جُمَّة بالضم وهي الشَّعْرُ النازل إلى الأذنين، أي صار إلى هذا الحَدِّ بعد أن كَانَ قد ذَهَبَ بالمرض. (¬4) أمُّ رُومَان هي أم عائشة وزوجَة أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّه عَنْهَا. (¬5) الأُرْجُوحَة: حبلٌ يُشد طَرَفَاه في موضع عالٍ ثم يركبه الإنسان ويُحَرَّك وهو فِيه، سُمي به لتحرُّكه ومَجِيئه وذهابه. انظر النهاية (2/ 181). (¬6) النَّهْجُ: هو تواتُرُ النّفس من شِدَّة الحركة أو فِعْل مُتْعب. انظر النهاية (5/ 118). (¬7) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 178): الطائِرُ: الحَظُّ يُطلق على الحظ من الخَيْرِ والشَّر، والمراد هنا على أفضل حَظ وبَرَكة، وفيه استحباب الدعاء بالخير والبركة لكل واحد من الزَّوجين.

فَأَسْلَمَتْنِي إلَيْهِنَّ، فأصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي (¬1) إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضُحًى، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِ، وأنا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (¬2). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: . . . ثُمَّ أقْبَلَتْ أُمِّي تَقُودُنِي حَتَّى وَقَفَتْ بِي عِنْدَ البَابِ، وَإِنِّي لَأَنْهِجُ، حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفْسِي، ثُمَّ دَخَلَتْ بِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا، وعِنْدَهُ رِجَالٌ ونسَاءٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَجْلَسَتْنِي فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أهْلُكَ يَا رَسُولَ اللَّه، فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِمْ، وبَارَكَ لَهُمْ فِيكَ، فَوَثَبَ (¬3) الرِّجَالُ والنِّسَاءُ، فَخَرَجُوا وبَنَى بِي رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِنَا، مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ (¬4) , وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ حَتَّى أَرْسَلَ إلَيْنَا سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- بجَفْنةٍ (¬5) كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ وأنا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ (¬6). ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 178): أي لم يَفْجَأْنِي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب تزويج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة، رقم الحديث (3894) - ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تزويج الأب البكر الصغيرة - رقم الحديث (1422). (¬3) الوُثُوبُ: هو النُّهُوضُ والقيام. انظر النهاية (5/ 131). (¬4) الجَزُورُ: هو البَعِيرُ ذَكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬5) الجَفْنَةُ: معروفةٌ، وهي أعظمُ ما يكون من القِصَاع. انظر لسان العرب (2/ 310). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25769).

* كنية عائشة رضي الله عنها

* كُنْيَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: وكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا تكنَى بِأُمِّ عَبْدِ اللَّه، بِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّه بنُ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا وُلِدَ عَبْدُ اللَّه بنُ الزُّبَيْرِ أَتيْتُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفه، وَقَالَ: "هُوَ عَبْدُ اللَّه وأنْتِ أُمُّ عَبْدِ اللَّه"، فَمَا زِلْتُ أُكْنَى بِهَا وَمَا وَلَدْتُ قَطُّ (¬1). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، كُلُّ نِسَائِكَ لَهَا كُنيةٌ غَيْرِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكتَنِي، أنْتِ أُمُّ عَبْدِ اللَّه"، فَكَانَ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ عَبدِ اللَّه، حَتَّى مَاتَتْ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَلَمْ تَلِدْ قَطُّ (¬2). وأَخْرَجَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّه بنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّه، ألَا تكنيني؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكتَنِي بِابْنِكِ" (¬3) يَعْنِي عَبْدَ اللَّه بنَ الزُّبَيْرِ، فَكَانَتْ تُكنَى أُمَّ عَبْدِ اللَّه (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب كانت عائشة تكنى أم عبد اللَّه - رقم الحديث (7117). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25181) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب في المرأة تكنى - رقم الحديث (4970). (¬3) قلتُ: لكون عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا خالته، والخالةُ بمثَابَةِ الأم، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه، رقم الحديث (4251) قال رسول اللَّه: "الخالةُ بمنزلة الأم". (¬4) أخرجه ابن سعد في طبقاته (7/ 274).

* ملاطفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعائشة رضي الله عنها

* مُلَاطَفَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُلَاطِفُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، ويُبَاسِطُهَا، ويُرَاعِي صِغَرَ سِنِّهَا، فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ: وكَانَتْ تَأْتِيني صَوَاحِبِي، فَكُنَّ يَنْقَمِعْنَ (¬1) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسَرِّبُهُنَّ (¬2) إِلَيَّ (¬3). وأخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ وأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَوْ خَيْبَرَ، وفِي سَهْوَاتِهَا (¬4) سِتْرٌ، فَهَبَّتْ رِيحٌ، فكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ " قَالَتْ: بَنَاتِي، وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهَا جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذَا الذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟ " قَالَتْ: فَرَسٌ، قَالَ: "وَمَا هَذَا الذِي عَلَيْهِ؟ " قَالَتْ: جَنَاحَانِ، قَالَ: "فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ! " قَالَتْ: أَمَا سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ؟ ، قَالَتْ: فَضحكَ ¬

_ (¬1) يَنْقَمِعْنَ: أي تَغَيَّبْنَ ودَخَلْنَ في بيت، أو من وَرَاءِ سِتْر. انظر النهاية (4/ 92). (¬2) يُسرِّبهن: أي يبعَثُهُن ويُرْسِلُهن إليّ. انظر النهاية (2/ 321). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأدب - باب الانبساط إلى الناس - رقم الحديث (6130) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - رقم الحديث (2440). (¬4) السَّهْوَة: بيت صغيرٌ منْحَدِرٌ في الأرض قليلًا، شَبِيهٌ بالمَخْدَع والخِزَانة. انظر النهاية (2/ 386).

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى رَأَيْتُ نوَاجِذَهُ (¬1). وأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَمعَ عَائِشَةَ وَهِيَ رَافِعَةٌ صَوْتَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ أُمِّ رُومَانَ! وتَنَاوَلَهَا، أترْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَحَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ، جَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ لها يترَضَّاهَا: "ألَا ترَيْنَ أَنِّي قَدْ حُلْتُ بَيْنَ الرَّجُلِ وبَيْنَكِ؟ "، فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَوَجَدَهُ يُضَاحِكُهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّه، أشْرِكَانِي فِي سِلْمِكُمَا، كَمَا أشْرَكْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا (¬2). وأخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعِنْدِي جَارِيتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ (¬3) بُعَاثَ، ¬

_ (¬1) النَّوَاجِذُ من الأسنَانِ: هي التي تبدُو عندَ الضَّحِكِ، والأكثر الأشهَرُ أنها أقْصَى الأسنان. انظر النهاية (5/ 17) والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحظر والإباحة - باب اللعب واللهو - رقم الحديث (5864) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب في اللعب بالبنات - رقم الحديث (4932). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18394) - وأبو دواد في سننه - كتاب الأدب - باب ما جاء في المزاح - رقم الحديث (4999). (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (952)، قالت رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: تُغَنِّيَانِ بما تَقَاوَلَتِ الأنصار يوم بُعَاث. -أي بما قال بعضهم لبعضٍ من فَخْرٍ أو هِجَاء- وبُعَاث تَقَدَّم الكلام عليها قبل الهجرة.

فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ وحَوَّلَ وَجْهَهُ، ودَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانتهَرَنِي (¬1) وَقَالَ: مِزْمَارَةُ (¬2) الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-! فَأَقبلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ: "دَعْهُمَا" (¬3)، وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ (¬4) والحِرَابِ، فإمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإمَّا قَالَ: "أتشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ "، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ" (¬5). حَتَّى إِذَا مَلَلْتُ قَالَ: "حَسْبُكِ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاذْهَبِي" (¬6). ¬

_ (¬1) في رواية الزهري قالت رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: فانْتَهَرَهُما: أي الجَارِيَتَين. قال الحافظ في الفتح (3/ 116): ويجمع بأنه شَرَّك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقْرِيرِها، وأما الجاريتين فلِفِعْلِهِمَا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (3/ 116): المِزْمَارُ: بكسر الميم يعني الغِنَاء أو الدُّفّ؛ لأن المِزْمَارَة أو المِزْمَار مشْتَقٌّ من الزَّمير وهو الصوتُ الذي له الصَّفِيرُ، ويُطلق على الصوت الحَسَنِ وعلى الغِنَاء، وسُقَيَتْ به الآلَةُ المعروفةُ التي يُزْمَر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جِهَة أنها تُلْهِي، فقد تُشْغِلُ القلبَ عنِ الذِّكر. (¬3) قال الحافظ في الفتح (3/ 116): فيه تعليلُ الأمر بتركِهِما، وإيضاحُ خلافِ ما ظنَّه الصديق -رضي اللَّه عنه- من أنهما فعلَتَا ذلكَ بِغير علمه -صلى اللَّه عليه وسلم- لكونِه دخَل فوجدَهُ مُغَطّى بثوبه فظنَّه نَائمًا فتوجَّه له الإنكار على ابنتِه من هذه الأوجُهُ مُستصِحبًا لما تقرَّر عنده من مَنْعِ الغِنَاء واللهْوِ، فبادَرَ إلى إنكارِ ذلك. قيَامًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك مُسْتَنِدًا إلى ما ظَهَر له، فأوضح له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحَال، وعرّفه الحكم مَقرونًا ببيانِ الحكمة بأنه يوم عِيد، أي يوم سُرور شَرعي، فلا يُنكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراسِ. (¬4) الدَّرَقَة: الدرع. انظر لسان العرب (4/ 333). (¬5) قال الحافظ في الفتح (3/ 119): أَرْفِدَة: بفتح الهمزة وكسر الفاء وقد تُفتح، قيل هو لَقَبٌ للحبشة، وقيل اسم جدِّهم الأكبر. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسِّيَر - باب الدَّرق - رقم الحديث=

وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وابنُ حِبَّانَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَعْضِ أسْفَاره، وأنا جَارِيَةٌ لَمْ أحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: "تَقَدَّمُوا"، فتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ لِي: "تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ"، فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ، فَسَكَتَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وبَدُنْتُ (¬1) ونَسِيتُ، خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أسْفَارهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: "تَقَدَّمُوا" فتَقَدَّمُوا، ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَى حَتَّى أُسَابِقَكِ"، فَسَابَقْتُهُ، فَسَبَقَنِي، فَجَعَلَ يَضْحَكُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَقُولُ: "هَذِهِ بِتِلْكَ" (¬2). وأخْرَجَ الشَيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، واِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى"، قَالَتْ: قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولينَ: لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ غَضْبَى قُلْتِ: لَا وَرَبِّ إبْرَاهِيمَ" (¬3)، قَالَتْ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: قُلْتُ: أَجَلْ ¬

_ = (2906) (2907) - وأخرجه في كتاب العيدين - باب الحِراب والدرق يوم العيد - رقم الحديث (949) (950) - ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة العيدين - باب الرخصة في اللعب - رقم الحديث (892) (16) (19). (¬1) بَدُنْتُ: من البَدَانة وهي كثرة اللحْمِ، أي سمنت رَضِيَ اللَّه عَنْهَا. انظر النهاية (1/ 107). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26277) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب إباحةُ المسابقة بالأقدام إذا لم يكن بين المتسابقين رهان - رقم الحديث (4691). (¬3) قال الحافظ في الفتح (10/ 409): وفي اختيارِ عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ذِكر إبراهيم عليه=

وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّه، مَا أهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2): أيْ طَيِّبُوا أقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وحَسِّنُوا أفْعَالَكُمْ، وهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وأنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ" (¬3)، وكَانَ مِنْ أخْلَاقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ جَمِيلُ العِشْرَةِ دَائِمُ البِشْرِ، يدَاعِبُ أهْلَهُ، ويَتَلَطَّفُ بِهِمْ، ويُوسِّعُهُمْ نَفَقتَهُ، ويُضَاحِكُ نِسَاءهُ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ (¬4) عَائِشَةَ أُمَّ المُؤْمِنِينَ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، ويَجْتَمعُ نِسَاؤُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ التِي يَبِيتُ عِنْدَهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَيَأْكُلُ مَعَهُنَّ العَشَاءَ فِي بَعْضِ الأحْيَانِ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَنْزِلهَا، وَكَانَ يَنَامُ مَعَ المَرْأَةِ مِنْ نِسَائِهِ فِي شِعَارٍ (¬5) وَاحِدٍ، يَضَعُ عَنْ ¬

_ = السلام دُون غيره من الأنبياء دَلالةٌ على مَزِيدِ فِطْنَتِهَا؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى الناس به كما نَصَّ عليه القرآن، فلمَّا لم يكن لها بد من هَجْرِ الاسم الشريفِ أبدلتهُ بمَنْ هو منه بِسَبِيلٍ حتى لا تَخْرُجَ عن دائرةِ التعلق في الجُمْلَة. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب غيرة النساء ووجدهن - رقم الحديث (5228) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل عائشة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - رقم الحديث (2439). (¬2) سورة النساء آية (19). (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب في فضل أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4233) - وابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب معاشرة الزوجين - رقم الحديث (4177) وإسناده صحيح. (¬4) تقدم قبل قليل هذا الحديث. (¬5) الشِّعَار: هو الثوب الذي يَلِي الجَسَد؛ لأنه يلي شعره. انظر النهاية (2/ 429).

* مكانة عائشة رضي الله عنها وشيء من فضائلها

كَتِفَيْهِ الرِّدَاءَ ويَنَامُ بِالإِزَارِ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى العِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ (¬1) مَعَ أهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، يُؤَانِسُهُمْ بِذَلِكَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2). * مَكَانَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَشَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِهَا: قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: عَائِشَةُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ بِنْتُ الإِمَامِ الصِّدِّيقِ الأَكْبَرِ، خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّه بنِ أَبِي قُحَافَةَ القُرَشِيَّةُ التَّيْمِيَّةُ، المَكِّيَّةُ، النَّبَوِيَّةُ، أُمُّ المُؤْمِنِينَ، زَوْجَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أفْقَهُ نِسَاءِ الأُمَّةِ عَلَى الإِطْلَاقِ. رَوَتْ عَنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِلْمًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، وعَنْ أَبِيهَا، وعَنْ عُمَرَ، وفَاطِمَةَ، وسَعْدٍ. وهِيَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِمَّنْ وُلِدَ فِي الإِسْلَامِ، وهِيَ أصْغَرُ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بثَمَاني سِنِينَ، وكَانَتْ تَقُولُ: لَمْ أَعْقِلْ أبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ (¬3). ¬

_ (¬1) السَّمَرُ: هم القوم الذين يسمَرُون بالليل أي يتحَدَّثون. انظر النهاية (2/ 359). (¬2) سورة الأحزاب آية (21) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير رحمه اللَّه تعالى في تفسيره (2/ 242). (¬3) أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3905)، وقد مَرَّ هذا الحديث في الكلام عن الهجرة فراجعه هناك، وتم شرحه مُسْتوفى.

وَكَانَتْ امْرَاَةً بَيْضَاءَ جَمِيلَةً، ومِنْ ثَمَّ يُقَالُ لَهَا: الحُمَيْرَاءُ (¬1)، وَلَمْ يتَزَوَّجِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِكْرًا غَيْرَهَا، وَلَا أحَبَّ امْرَأَةً حُبَّهَا، وَلَا أعْلَمُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَلْ وَلَا فِي النِّسَاءِ مُطْلَقًا، امْرَأَةً أَعْلَمَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ لِلصِّدِّيقَةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا شَأْوٌ (¬2) لَا يُلْحَقُ، وأنا وَاقِفٌ فِي أَيِّتِهِمَا أفْضَلُ، نَعَمْ جَزَمْتُ بِأَفْضَلِيَّةِ خَدِيجَةَ عَلَيْهَا لِأُمُورٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُهَا (¬3). وَقَالَ الشَّيْخُ عَلِي الطَّنْطَاوِي: هَذِهِ السَّيِّدَةُ لَمْ تَتَخَرَّجْ فِي الجَامِعَةِ، لَمْ تَكُنْ فِي أيَّامِهَا الجَامِعَاتُ، ولَكِنَّهَا كَانَتْ، وَلَا تَزَالُ كَمَا كَانَتْ تُدَرَّسُ آثارُهَا فِي كُلِيَّةِ الآدَابِ، وَتُقْرَأُ فتَاوَاهَا فِي كُلِّيَّاتِ الدِّينِ، . . . امْرَأَةٌ مَلَأَتِ الدُّنْيَا، وَشَغَلَتِ النَّاسَ، عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ. ذَلِكَ لِأَنَّهُ أُتِيحَ لَهَا مَا لَمْ يُتَحْ لِأَحَدٍ، فَلَقَدْ تَوَلَّاهَا فِي طفولَتِهَا، شَيْخُ المُسْلِمِينَ وأفْضَلُهُمْ، أبُوهَا الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، ورَعَاهَا فِي شَبَابِهَا خَاتَمُ الرُّسُلِ، وأكْرَمُ البَشَرِ زَوْجُهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-, فَجَمَعَتْ مِنَ العِلْمِ والفَضْلِ والبَيَانِ مَا لَمْ تَجْمَعْ مِثْلَهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى. ¬

_ (¬1) أخرج الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (292) - والنسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (8902) بسند صحيح عن عائشة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: دخل الحبشةُ المسجد يَلْعَبون، فقال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا حُمَيْرَاء أتحِبِّين أن تَنْظُري اليهم؟ . . . " الحديث - وأورده الحافظ في الفتح (3/ 118) وصحح إسناده، وقال: ولم أرَ في حديث صحيح ذكر الحُمَيْراء إلا في هذا. (¬2) الشَّأْو: هو الشَّوْطُ والمَدَى. انظر النهاية (2/ 392). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 135).

كَانَتِ امْرَأةً كَامِلَةَ الأُنُوثَةِ، تُؤْنِسُ الزَّوْجَ، وتُرْضي العَشِيرَ، وكَانَتْ عَالِمَةً، وَاسِعَةَ العِلْمِ، تُعَلِّمُ العُلَمَاءَ، وتُفْتِي المُفْتِينَ، وَكَانَتْ بَلِيغَةً، بَارِعَةَ البَيَانِ، تبُذُّ (¬1) الخُطَبَاءَ، وتُزْرِي بِاللُّسُنِ المَقَاوِيلَ، وكَانَتْ لِقُوَّةِ شَخْصِيَّتهَا، زَعِيمَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ: فِي العِلْمِ، وفي المُجْتَمَعِ، وفي السِّيَاسَةِ، وفي الحَرْبِ (¬2). أخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ"، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ (¬3)؟ قَالَ: "أبوهَا"، فَقُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ"، فَعَدَّ رِجَالًا (¬4). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ الإِمَامِ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَوْ جُمعَ عِلْمُ النَّاسِ كُلُّهُمْ ثُمَّ عِلْمُ أزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَكَانَتْ عَائِشَةُ أوْسَعَهُمْ عِلْمًا (¬5). ¬

_ (¬1) بَذَّ القائلين: أي سَبَقهم وغلبهم. انظر لسان العرب (1/ 351). (¬2) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رحمه اللَّه تعالى ص 31. (¬3) في رِواية ابن حبان في صحيحه بسند صحيح على شرط الشيخين - رقم الحديث (7106) قال عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه-: إني لسْتُ أعْنِي النِّسَاء، إنما أعني الرجال. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنتُ مُتَّخِذًا خليلًا. . . " - رقم الحديث (3662) - وكتاب المغازي - باب غزوة ذات السلاسل - رقم الحديث (4358) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق - رقم الحديث (2384). (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر سعة علم عائشة - رقم الحديث (6794).

وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ والتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ كَانَ أفْصَحَ (¬1) مِنْ عَائِشَةَ (¬2). وأخْرَجَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا أَشْكَلَ (¬3) عَلَيْنَا أصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَدِيثٌ قَطُّ، فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا (¬4). وأخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوقِ بنِ الأجْدَعِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَتْ عَائِشَةُ تُحْسِنُ الفَرَائِضَ؟ قَالَ: إِي وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْأَلُونَهَا عَنِ الفَرَائِضِ (¬5). وأخرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ قَالَ: فَرَضَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- لِأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَزَادَ عَائِشَةَ رَضِيَ ¬

_ (¬1) الفَصِيح في اللغة: المُنْطَلِقُ اللسان في القَوْل، الذي يَعْرِف جيد الكلام من رَدِيئِهِ. انظر النهاية (3/ 403). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1646) - والترمذي في جامعة- كتاب المناقب - باب فضل عائشة -رضي اللَّه عنها- رقم الحديث (3222). (¬3) أشْكَلَ عَلَيَّ الأمرُ: إذا اخْتَلَطَ. انظر لسان العرب (7/ 176). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب فضل عائشة -رضي اللَّه عنها- رقم الحديث (3221) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6681). (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب سَعَة عِلْمِ عائشة وفَصَاحَةِ كلامِهَا - رقم الحديث (6796).

* وفاتها رضي الله عنها

اللَّه عَنْهَا أَلفيْنِ، وَقَالَ: إنَّهَا حَبِيبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ورَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمْرِو بنِ غَالِبٍ قَالَ: أَنَّ رَجُلًا نَالَ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: اغْرُبْ مَقْبُوحًا (¬2) مَنْبُوحًا (¬3)، تُؤْذِي حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). * وَفَاتُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تِسْعَ سِنِينَ، ومَاتَ عَنْهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً (¬5)، وَعَاشَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَة، وتُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ في لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَتْ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا بِالبَقِيعِ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة- باب ذكر عطاء أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6783). (¬2) المَقْبُوحُ: الذي يُرَدُّ ويُطْرَد، يقال: قبَّحَه اللَّه: أي أبعده. انظر النهاية (4/ 4) - جامع الأصول (9/ 135). (¬3) المَنْبُوحُ: المَشْتُومُ، يقال: نَبَحَتْنِي كِلابك: أي لَحِقَتْنِي شَتَائمك. انظر النهاية (5/ 5). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب فضل عائشة رضي اللَّه عنها - رقم الحديث (3897) - وقال الترمذي: حديث حسن - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6683). (¬5) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تزويج الأب البكر الصغيرة - رقم الحديث (1422) (71) (72) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24152). (¬6) انظر فتح الباري (7/ 479) - الإصابة (8/ 235).

تسمية يثرب بطيبة، وطابة والمدينة

تَسْمِيَةُ يَثْرِبَ بطَيْبَةَ، وَطَابَةَ وَالمَدِينَةَ كَانَتِ المَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ عَلَى سَاكِنِهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- أفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ تُسَمَّى فِي الجَاهِلِيَّةِ يَثْرِبَ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمَّاهَا المَدِينَةَ، وطَيْبَةَ وَطَابَةَ (¬1). رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّه تَعَالَى سَمَّى المَدِينَةَ طَابةَ" (¬2). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وفي الحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ تَسْمِيَيهَا طَابَةَ، ولَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى بِغَيْرِهِ، فَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى المَدِينَةَ في مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ (¬3)، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (4/ 574): والطابُ والطيِّب لغتان بمعنى، واشتقاقهما من الشيء الطيِّب، وقال بعضُ أهلِ العلم: وفي طِيبِ تُرَابها وهَوَائها دليلٌ شَاهِدٌ على صِحَّة هذه التَّسْمِيَةِ. (¬2) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب المدينة تنفي شِرَارها - رقم الحديث (1385). (¬3) منها في سورة التربة آية (101) وهي قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} - وآية (120) في سورة التوبة وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} - وآية (60) من سورة الأحزاب وهي قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} - وآية (8) في سورة المنافقون وهي قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}.

وسَمَّاهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَيْبَةَ (¬1). وأخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانُوا يُسَمُّونَ المَدِينَةَ يَثْرِبَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَيْبَةَ (¬2). وأخْرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أشْرَفْنَا (¬3) عَلَى المَدِينَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذِهِ طَابَةٌ" (¬4). قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَتْ بَعْضُ الأَحَادِيثِ فِيهَا النَّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ المَدِينَةِ يَثْرِبَ فَمِنْ ذَلِكَ مَا أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَمَّى المَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّه، هِيَ طَابَةٌ، هِيَ طَابَةٌ" (¬5). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: لِأَنَّ يَثْرِبَ إمَّا مِنَ التَّثْرِيبِ الذِي هُوَ التَّوْبِيخُ والمَلَامَةُ، أَوْ مِنَ الثَّرَبِ وهُوَ الفَسَادُ، وكِلَاهُمَا مُسْتَقْبَح، وكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ الِاسْمَ الحَسَنَ، وَيَكْرَهُ الِاسْمَ القَبِيحَ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 133). (¬2) أخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (798). (¬3) شَارَفَ الشيءَ: أي دنَا منه وقَارَب أن يَظْفَر به. انظر لسان العرب (7/ 91). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب المدينة طابة، رقم الحديث (1872). (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18519). (¬6) انظر فتح الباري (4/ 572).

* فضائل المدينة المنورة

ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبَ، وَهِيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ" (¬1). وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذَا الحَدِيثِ عِنْدَ الكَلَامِ عَلَى الإِذْنِ بِالهِجْرَةِ، فَرَاجِعْهُ هُنَاكَ. * فَضَائِلُ المَدِينَةِ المُنَوَّرةِ: وَأَمَّا فَضَائِلُ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ فَحَدِّثْ عَنْهَا وَلَا حَرَجَ: قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ شَرُفَتِ المَدِينَةُ بِهِجْرَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهَا، وصَارَتْ كَهْفًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، ومَعْقِلًا وَحِصْنًا مَنِيعًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَدَارَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ (¬2). أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الإيمَانَ لَيَأْرِزُ (¬3) إِلَى المَدِينهِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة- باب فضل المدينة وأنها تنفي النَّاس - رقم الحديث (1871) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب المدينة تنفي شرارها - رقم الحديث (1382). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 218). (¬3) قال الحافظ في الفتح (4/ 580): يَأْرِزُ: بفتح أوله وسكون الهمزة وكسر الراء أي ينضم إليها ويجتمع بعضه إلى بعض فيها. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب الإيمان يأرز إلى المدينة - =

قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: أيْ أَنَّهَا كَمَا تَنْتَشِرُ الحَيَّةُ في جُحْرِهَا في طَلَبِ مَا تَعِيشُ بِهِ، فَإِذَا رَاعَهَا شَيْءٌ رَجَعَتْ إِلَى جُحْرِهَا، كَذَلِكَ الإِيمَانُ انْتَشَرَ في المَدِينَةِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَه مِنْ نَفْسِهِ سَائِقٌ إِلَى المَدِينَةِ، لِمَحَبَّتِهِ في النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ الأزْمِنَةِ؛ لأَنَّهُ في زَمَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للتَّعَلُّمِ مِنْهُ، وفِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وتَابِعِيهِمْ لِلِاقْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِزِيَارَةِ مَسْجِدِهِ وَقَبْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وقَدِ انْفَرَدَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ بَقِيَّةِ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ بِتَفْضِيلِ المَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، والمَشْهُورُ عَنِ الجُمْهُورِ أَنَّ مَكَّةَ أفْضَلُ مِنَ المَدِينَةِ إِلَّا المَكَانَ الذِي ضَمَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدِ اسْتَدَلَّ الجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا هَهُنَا، وأشْهَرُ دَلِيلٍ لَهُمْ في ذَلِكَ مَا أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وابْنُ مَاجَه وَغَيْرُهُمَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عِنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الحَمْرَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهُوَ يَقُولُ لِمَكَّةَ: "وَاللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وأحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولَوْلَا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكَ مَا خَرَجْتُ" (¬2). ¬

_ = رقم الحديث (1876) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أن الإِسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا - رقم الحديث (147). (¬1) انظر الفتح (4/ 580). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18716) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب فضل مكة - رقم الحديث (3108) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 219).

* تمني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الموت في المدينة

وأخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ وابنُ حِبَانَ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ المَدِينَةِ بِسُوءٍ، أذَابَهُ اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ المِلْحُ في المَاءَ" (¬1). وأخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بنِ خَلَّادٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَخَافه اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَيْهِ لَعْنةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا" (¬2). * تَمَنِّي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- المَوْتَ في المَدِينَةِ: رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحهِ والإِمَامُ أحمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ، فَلْيَمُتْ بِالمَدِينَةِ فَإِنِّي أشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا" (¬3). وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَدْعُو اللَّه تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ المَوْتَ في المَدِينَةِ، فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب من أراد أهل المدينة بسوء - رقم الحديث (1387) (494) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المدينة - رقم الحديث (3737). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16559). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المدينة - رقم الحديث (3741) - وأَحمد في مسنده - رقم الحديث (5818).

عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سَبِيلِكَ، واجْعَلْ مَوْتِي في بَلَدِ رَسُولِكَ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وكَانَ سَبَبُ تَمَنِّي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- الشَّهَادَةَ، هُوَ مَا أخْرَجَهُ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ، والإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا في المَنَامِ: أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- شَهِيدٌ مُسْتَشْهَدٌ. فَقَصَّهَا عَلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّى لِي بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَزِيرَةِ العَرَبِ لَسْتُ أَغْزُو، والنَّاسُ حَوْلي يَغْزُونَ، ثُمَّ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: بَلَى يَأْتِي بِهَا اللَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬2). وقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْفَارُوقِ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتُشْهِدَ في مَسْجِدِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَؤُمُّ المُسْلِمِينَ في صَلَاةِ الفَجْرِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - رقم الحديث (1890). (¬2) أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 177) - والإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (351) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2377). (¬3) أخرج قِصَّة استشهادِ عُمَرَ بن الخطابِ -رضي اللَّه عنه-: الإمام البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قصة البيعة - رقم الحديث (3700).

الحياة في المدينة المنورة

الحَيَاةُ فِي المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ يُمْكِنُ تَقْسِيمُ العَهْدِ المَدَنِيِّ إلى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ: 1 - مَرْحَلَةٌ أُثِيرَتْ فِيهَا القَلَاقِلُ والفِتَنُ، وأُقِيمَتْ فِيهَا العَرَاقِيلُ مِنَ الدَّاخِلِ، وزَحَفَ فِيهَا الأعْدَاءُ إلى المَدِينَةِ لِاسْتِئْصَالِ (¬1) خَضْرَائِهَا (¬2) مِنَ الخَارجِ، وهَذِهِ المَرْحَلَةُ تَنتهِي إِلَى صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ في ذِي القَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ. 2 - مَرْحَلَةُ الهُدْنَةِ مَعَ الزَّعَامَةِ الوَثَنِيَّةِ، وتَنتهِي بِفَتْحِ مَكَّةَ في رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، وهِيَ مَرْحَلَةُ دَعْوَةِ المُلُوكِ إلى الإِسْلَامِ. 3 - مَرْحَلَةُ دُخُولِ النَّاسِ في دِينِ اللَّهِ أفْوَاجًا، وهِيَ مَرْحَلَةُ تَوَافُدِ القَبَائِلِ والأَقْوَامِ إِلَى المَدِينَةِ، وهَذ المَرْحَلَةُ تَمْتَدُّ إلى انْتِهَاءَ حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رَبِيعٍ الأوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) اسْتَأْصَلَهُ: أي قَلَعَهُ من أصله. انظر لسان العرب (1/ 150). (¬2) خَضْرَاؤُها: أي دُهَمَاؤُهم وسوَادُهم. انظر النهاية (2/ 40). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص 175.

من بناء المسجد النبوي إلى فرض زكاة الفطر

مِنْ بنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ إِلَى فَرْضِ زَكَاةِ الفِطْرِ أُسُسُ بنَاءِ المُجْتَمَع الإِسْلامِيِّ في المَدِينَةِ أَوَّلًا: بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ (¬1) أوَّلُ عَمَلٍ قَامَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ نُزُولِهِ في بَيْتِ أَبِي أَيُّوبَ الأنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- هُوَ بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَاقَةَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَرَكَتْ في مِرْبَدٍ لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وسَهْلٍ، غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وكَانَ الذِي يَكْفُلُهُمَا أسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2). ¬

_ (¬1) قال الشَّيخ علي الطنطاوي في كِتابه رجال من التاريخ ص 19: نحنُ الآنَ مع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في المدينةِ. إنه يُؤَسِّس الدولة الحديثة، فَبِمَ ترَوْنَهُ يبدأ؟ بمِهرجان فَخْمٍ يبايعونه فيه بالملك؟ إنه لا يُريد الملك، يَبني ثَكَنة -الثَّكنة: هي مراكز الأجنادِ على راياتهم- باحتفالٍ عظيمٍ ويُجيش جيشًا؟ إنه لا يَبْتغي العُلُوَّ في الأرض، يَفْرِضُ الضَّرَائب؟ لا، ولكن يبدأ بِعِمارة المسجد. إنها ظاهرةٌ عَظيمة يَحْسُنُ أن يقِف القارئ عندها. يبدأ بالمسجد، كما بَدَأ الوحي بآية (القِراءة) و (التَّعْليم) بالقلم. بدأ بالمسجدِ، والمسجدُ في الإِسلام، هو مكان العبادةِ (رمز) الإيمان, وهو البَرْلَمَانُ (رمز) العدل، وهو المَدْرَسَة (رمز) العلم. ولم يَغْصُبْهُ، بل شَراه بالمال، وذلك (رمزُ) الإنصاف، ولم يأمُر ببنائه ويَقْعد، بل شَارك أصحابه العمل، وحَمَل الحجارةَ بيدهِ الشريفة -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذا (رمز) التواضُع، وبَنَاه من اللَّبِن والطين، بلا زخارف ولا نُقُوش، وهذا (رمز) البَسَاطة. فكان من هذه (الرموز) الإيمان والعدل والعلم والأنصاف والتواضع والبساطة مجموعة شعائر الإِسلام. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906).

ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بالمِرْبَدِ لِيَتَّخذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: لَا بَلْ نَهَبُهُ (¬1) لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا حتَّى ابْتَاعَهُ (¬2) مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا (¬3). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا أَمَرَ ببنَاءِ المَسْجِدِ، أرْسَلَ إلى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاؤُوا، فَقَالَ لَهُمْ: "يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي (¬4) بِحَائِطِكُمْ (¬5) هَذَا". فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ، لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ (¬6). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنْهُ ثَمَنًا، وذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ (¬7) أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- اشْترَاهُ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ أخَذَهُمَا مِنْ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) الهِبَة: هي العَطِيّة الخَالِيَةُ عن الأعواض والأغراض. انظر النهاية (5/ 200). (¬2) ابتَاعَ الشيء: اشترَاهُ. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار- باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906). (¬4) ثَامِنُوني: أي قَرِّرُوا معي ثَمَنَهُ وبِيعُونِيه بالثَّمن. انظر النهاية (1/ 217). (¬5) الحَائِطُ: هو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجِدَار. انظر النهاية (1/ 444). قال الحافظ في الفتح (7/ 683): تقدم أنَّه كان مربدًا، فلعله كان أولًا حَائطًا ثم خِرَب فصار مربدًا، ويؤيدُه قوله كما سيأتي: إنه كان فيه نخلٌ وخِرَب. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأَنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3932) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب ابتناء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (524). (¬7) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 115).

* كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي؟

ولا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، فيجْمَعُ بِأنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمَّنْ يَخْتَصُّ بِمُلْكِهِ مِنْهُمْ فَعَيَّنُوا لَهُ الغُلَامَيْنِ فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، فَحِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذِينَ قَالُوا لَهُ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَحَمَّلُوا عَنْهُ لِلْغُلَامَيْنِ بِالثَّمَنِ (¬1). * كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي؟ : وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يصَلِّي قَبْلَ بِنَاءِ مَسْجِدِهِ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، ويُصَلِّي في مَرَابِضِ الغَنَمِ (¬2). وَكَانَ في ذَلِكَ المِرْبَدِ قُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وفيهِ خِرَبٌ (¬3) ونَخْلٌ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ فنبِشَتْ، وبالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ في قِبْلَةِ المَسْجِدِ، وَكَانَتِ القِبْلَةُ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، وجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ (¬4) حِجَارَةً (¬5). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 91) (7/ 658). (¬2) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (5/ 8): هي مَبَاركها ومواضع مَبِيتِهَا ووضعها أجسادها على الأرض للاستِرَاحة. وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب أبوالِ الإبل والدوابِّ والغنمِ ومَرَابِضِهَا - رقم الحديث (234) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب ابتِنَاء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (524) (10). (¬3) الخِرَب: بكسر الخاء وفتح الراء، وهو الموضع المَحْرُوث للزراعة. انظر النهاية (2/ 18). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 684): عِضَادَتَيْهِ بكسر العين وتخفيف المعجمة ثَنِيَّةُ عِضَادَة، وهي الخَشَبة التي على كتفِ الباب، ولكل باب عِضَادَتَانِ. (¬5) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - رقم الحديث (428) (3932) - وأخرجه مسلم - رقم الحديث (524) (9).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتحِ: وفي الحَدِيثِ: 1 - جَوَازُ التَّصَرُّفِ في المَقْبَرَةِ المَمْلُوكَةِ بِالهِبَةِ والبَيْعِ. 2 - وَفِيهِ جَوَازُ نَبْشِ القُبُورِ الدَّارِسَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُحْتَرَمَةً. وهَذَا الحَدِيثُ حُجَّةٌ لِلْجَوَازِ؛ لِأَنَّ المُشْرِكَ لَا حُرْمَةَ لَهُ حَيًّا ولَا مَيْتًا. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ في مَقَابِرِ المُشْرِكِينَ بَعْدَ نَبْشِهَا، وإخْرَاجِ مَا فِيهَا. 4 - وجَوَازُ بِنَاءِ المَسَاجِدِ في أمَاكِنِهَا. 5 - وَقِيلَ: فِيهِ جَوَازُ قَطْعِ الأشْجَارِ المُثْمِرَةِ لِلْحَاجَةِ؛ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ: وأمَرَ بالنَّخْلِ فَقُطِعَ، وفِيهِ نَظَرٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُثْمِرُ، إمَّا بِأَنْ يَكُونَ ذُكُورًا، وإمَّا أَنْ يَكُونَ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا قَطَعَ ثَمَرَتَهُ (¬1). * مُشَارَكَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بِنَاءِ المَسْجِدِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ (¬2) والحِجَارَةَ في بُنْيَانِهِ، وهُوَ يَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: هَذَا الحِمَالُ (¬3) لَا حِمَالَ خَيْبَرِ ... هَذَا أَبرّ رَبِّنَا وَأَطْهَرِ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 92). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 658): اللبِنُ: هو الطُّوب المعمول من الطِّين. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 658): أي هذا المحمول من اللبن (أبَرّ) عند اللَّه، أي أبقى ذُخرًا وأكثر ثَوابًا، وأدوم منفعةً، وأشدّ طهارةً من حِمَال خيبر، أي التي يُحمل منها التمر والزبيب ونحو ذلك.

* أعطوا طلق اليمامي المسحاة

ويَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَيْضًا: اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الأَنْصَارَ والمُهَاجِرَهْ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْمَلُ مَعَهُمْ، قَالَ قَائِلُهُمْ: لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ وكَانُوا يُنْشِدُونَ وهُمْ يَعْمَلُونَ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ ... فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالمُهَاجِرَهْ فَيُجِيبُهُمُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرَهْ (¬1) * أَعْطُوا طَلْقَ اليَمَامِيَّ المِسْحَاةَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَدِّمُ في العَمَلِ مَنْ يُجِيدُ جَانِبًا مِنْهُ، ويُشَجِّعُ المَوَاهِبَ، فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ طَلْقِ بنِ عَلِيٍّ اليَمَامِيِّ الحَنَفِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: جِئْتُ إلى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - وباب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3932) - مسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب ابتناء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (524) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12178) (13208) (13561).

* شدة عمار -رضي الله عنه- في العمل

وأصْحَابُهُ يَبْنُونَ المَسْجِدَ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ لَمْ يُعْجِبْهُ عَمَلُهُمْ، قَالَ: فَأَخَذْتُ المِسْحَاةَ (¬1)، فَخَلَطْتُ بِهَا الطِّينَ، فكَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ أَخْذِي المِسْحَاةَ وَعَمَلِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعُوا الحَنَفِيَّ وَالطِّينَ، فَإِنَّهُ أضْبَطُكُمْ لِلطِّينِ" (¬2). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ وابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدِّمُوا اليَمَامِيَّ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّهُ أحْسَنكُمْ لَهُ مَسًّا، وأشَدُّكُمْ مِنْكَبًا" (¬3). وكَانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ: لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ المَسَاجِدَا ... يَدْأَبُ فِيهَا قَائِمًا وَقَاعِدا وَمَنْ يُرَى عَنِ التُّرَابِ حَائِدًا (¬4) * شِدَّةُ عَمَّارٍ -رضي اللَّه عنه- في العَمَلِ: وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَحْمِلُونَ لَبِنَة لَبِنَةً، وجَعَلَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه- يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ (¬5)، وكَانَ رَجُلًا ضَابِطًا (¬6)، فَرَآهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَجَعَلَ يَنْفُضُ ¬

_ (¬1) المِسْحَاة: هي المِجْرَفَة من الحديد. انظر النهاية (4/ 280). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24009/ 31). (¬3) المِنكب: هو ما بين الكتفِ والعنقِ، أَرادَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قوّته على التحمل. انظر النهاية (5/ 99). والحديث أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24009/ 27) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الطهارة - باب نَواقض الوضوء - رقم الحديث (1122). (¬4) أورد ذلك الحافظ في الفتح (7/ 659). (¬5) قال الحافظ في الفتح (2/ 112): فيه جوازُ ارتكابِ المَشَقَّة في عَمَل البِرّ. (¬6) الضَّابِطُ: الشديدُ البَطْشِ والقوةِ والجِسْم. انظر لسان العرب (8/ 16) - النهاية (3/ 67).

التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ (¬1) وهُوَ يَقُولُ: "يَا عَمَّارُ ألَا تَحْمِلُ مَا يَحْمِلُ أصْحَابُكَ؟ " قَالَ: إنِّي أُرِيدُ الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ابْنَ سمَيَّةَ، لِلنَّاسِ أَجْرٌ وَلَكَ أجْرَانِ، وآخِرُ زَادِكَ شَرْبَةٌ مِنْ لَبَنٍ (¬2)، وتَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ" (¬3). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا رَأَى عَمَّارَ بنَ يَاسِرٍ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ: "وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُله الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إلى الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إلى النَّارِ" (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (2/ 112): فيه إكرامُ العاملِ في سبيل اللَّه والإحسان إليه بالفعل والقول. (¬2) أخرج الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18880) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (5709) - والحديث صحيح - عن أبي البختري قال: قال عمَّار يوم صِفِّين: ائتُوني بشَربَةِ لبَنٍ، فإن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "آخر شَرْبَةٍ تشربها من الدنيا شَرْبة لَبَنٍ"، فأُتِيَ بشربةِ لَبَنٍ، فشربها، ثم تَقَدَّم فَقُتِل. (¬3) أورد هذا الحديث الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 213) وقال: هذا إسناد على شرط الصحيحين. قلتُ: وقع في صحيح مسلم - كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب لا تقوم الساعة حتَّى يَمُرُّ الرَّجل بقبرِ الرَّجل - رقم الحديث (2915) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26482) - أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعمارٍ -رضي اللَّه عنه-، حين جعل يَحْفِرُ الخندقَ: "تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ". والإشكال هنا قوله: يحفِرُ الخندق. قال البيهقي في الدلائل (2/ 549): يُشبه أن يكون ذِكْر الخَنْدق وهمًا، أو كان قد قال له ذلك عند بناء المسجد، وقالها يوم الخندقِ، واللَّه أعلم. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 213): حَمْلُ اللبن في حَفْرِ الخندقِ لا معنى له، والظاهر أنَّه اشتَبَه على النَّاقل، واللَّه أعلم. (¬4) قال الحافظ في الفتح (2/ 112): فإن قِيل كان قَتْلُ عمار -رضي اللَّه عنه- بِصِفِّين سنة (36 هـ) وهو مع علي -رضي اللَّه عنه-، والذين قتَلوه مع معاوية -رضي اللَّه عنه-، وكان معه جماعة من الصَّحَابَة، فكيف يجوزُ عليهم الدعاء إلى النَّار؟ =

* قولة جميلة للإمام الذهبي

فَقَالَ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الفِتَنِ (¬1). * قَوْلَةُ جَمِيلةٌ لِلْإِمَامِ الذَّهَبِيِّ: قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: . . . وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ صِفِّينَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ السَّبِّ، السَّيْفُ، فَإِنْ صَحَّ شَيءٌ، فَسَبِيلُنَا الْكَفُّ وَالِاسْتِغْفَارُ لِلصَّحَابَةِ، وَلَا نُحِبُّ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ (¬2). * كَمِ اسْتَغْرَقَ بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ؟ : واسْتَغْرَقَ بِنَاءُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا (¬3)، وكَانَ في أبْسَطِ صُورَةٍ، فِرَاشُهُ الرِّمَالُ، وأعْمِدَتُهُ جُذُوعُ النَّخْلِ، وسَقْفُهُ جَرِيدُ النَّخْلِ (¬4)، وطُولُهُ ¬

_ = فالجوابُ: أنَّهم كانوا ظانين أنَّهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لَوْم عليهم في اتباع ظُنُونهم، فالمرادُ بالدعاء إلى الجنةِ الدُّعاء إلى سَبَبِها، وهو طاعةُ الإِمام، وكذلك كان عمَّار -رضي اللَّه عنه- يَدْعوهم إلى طاعة علي -رضي اللَّه عنه- وهو الإِمام الواجِبُ الطاعَةِ إِذْ ذَاك، وكانوا هم يَدعون إلى خلافِ ذلك، لكنهم مَعْذُورُونَ للتأويل الذي ظهَر لهم. (¬1) أخرج قِصَّةَ بناءِ المسجدِ النبوي: البخاري في صحيحه - كتاب فضائل الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3906) - وباب مقدم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة - رقم الحديث (3932) - وأخرجها في كتاب الصلاة - باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية - رقم الحديث (428) - باب التعاون في بناء المسجد - رقم الحديث (447) - وأخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب ابتناء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (524) - وأخرجها في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب لا تقوم الساعة حتَّى يمر الرَّجل بقبر الرَّجل - رقم الحديث (2915) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12178) - (26563). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 39). (¬3) جاء ذلك في رواية عبد اللَّه بن الزبير عند البيهقي في الدلائل (2/ 509). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب بنيان المسجد - رقم الحديث (446) =

* حديث ضعيف

مِمَّا يَلِي القِبْلَةَ إلى مُؤَخِّرِهِ مِائَةُ ذِرَاعٍ، والجَانِبَانِ مِثْلُ ذَلِكَ أَوْ دُونَهُ (¬1). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَسْجِدَ، جَاءَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَؤُلَاءِ وُلَاةُ الأَمْرِ مِنْ بَعْدِي" (¬2). فهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ. * بِنَاءُ الحُجُرَاتِ: وبَعْدَ الفَرَاغِ مِنْ بِنَاءِ المَسْجِدِ، بُنِيَتِ الحُجُرَاتُ لِأَزْوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَوْلَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ، وسُقِّفَتْ بِالجَرِيدِ، وجُذُوعِ النَّخْلِ؛ لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهْلِهِ، فكان لسَوْدَةَ بِنتِ زَمْعَةَ بَيْت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وآخَرُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ لأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ تَزَوَّجَ في ذَلِكَ الوَقْتِ إِلَّا سَوْدَةَ وعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬3). ¬

_ = - وأخرجه في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإِسلام - رقم الحديث (3585). (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 115). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- بولاة الأمر من بعده - رقم الحديث (4341) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 232) - وقال: غريب جدًا بهذا السياق - وانظر السلسلة الضعيفة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (6191). (¬3) انظر شرح المواهب (2/ 185) - البداية والنهاية (3/ 234).

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ دَاوُدَ بنِ قَيْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ الحُجُرَاتِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، مُغَشَّيًا مْن خَارجٍ بِمُسُوحِ (¬1) الشَّعْرِ، وأظُنُّ عَرَضَ البَيْتَ مِنْ بَابِ الحُجْرَةِ إلى بَابِ البَيْتِ نَحْوًا مِنْ سِتِّ أَوْ سَبْعِ أذْرُعٍ، وأَحْرِزَ البَيْتَ الدَّاخِلَ عَشْرَ أذْرُعٍ، وأظُنُّ سُمْكَهُ بَيْنَ الثَّمَانِ والسَّبْعِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَوَقَفْتُ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ، فَإِذَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ المَغْرِبَ (¬2). ورَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ كَذَلِكَ في الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ هِلَالٍ: أَنَّهُ رَأَى حُجَرَ أزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ جَرِيدٍ مَسْتُورَةٍ بِمُسُوحِ الشَّعْرِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ بَيْتِ عَائِشَةَ؟ فَقَالَ: كَانَ بَابُهُ مِنْ وِجْهَةِ الشَّامِ. فَقُلْتُ لَهُ: مِصْرَاعًا كَانَ أَوْ مِصْرَاعَيْنِ؟ قَالَ: كَانَ بَابًا وَاحِدًا. قُلْتُ: مِنْ أيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ قَالَ: مِنْ عَرْعَرٍ أَوْ سَاجٍ (¬3). وَكَانَتْ مَسَاكِنَ قَصِيرَةَ البِنَاءِ، فَقَدْ روى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ ¬

_ (¬1) مُسُوح الشعر: جمع مِسْح بكسر الميم: وهو الكساء من الشعر. انظر لسان العرب (13/ 101). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (451). (¬3) السَّاج: خشب يُجلب من الهند، واحدتها ساجة. انظر لسان العرب (6/ 419). أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (776).

* توسعة المسجد النبوي الشريف

بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: كُنْتُ أدْخُلُ بُيُوتَ أزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خِلَافَةِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، فَأَتَنَاوَلُ سَقْفُهَا بِيَدِي (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الحَسَنَ البَصْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ ضَخْمًا طِوَالًا (¬2). وَقَدْ أُضِيفَتْ هَذِهِ البُيُوتُ إلى المَسْجِدِ بَعْدَ مَوْتِ أزْوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * تَوْسِعَةُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الشَّرِيفِ: وَظَلَّ المَسْجِدُ النَّبَوِيُّ عَلَى حَالِهِ الذِي بَنَاهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى كَثُرَ النَّاسُ وضَاقَ المَسْجِدُ، وذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَأَدْخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَرْضَ التِي اشْتَرَاهَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- بِعِشْرِينَ أَلْفا أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا. أخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أشْرَفَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، وهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ يُوَسِّعْ لَنَا بِهَذَا البَيْتِ في المَسْجدِ بِبَيْتٍ لَهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (450). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 234). (¬3) انظر البداية والنهاية (3/ 234).

* توسعة المسجد النبوي في زمن الخلفاء الراشدين

فِي الجَنَّةِ؟ "، فَابْتَعْتُهُ (¬1) مِنْ مَالِي فَوَسَّعْتُ بِهِ المَسْجِدَ (¬2). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، قَالَ الْأَحْنَفُ بنُ قَيْسٍ: أَنَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ ابْتَاعَ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ"، فَابْتَعْتُهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا؟ فَأَتيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ لَهُ: قَدِ ابْتَعْتُهُ، فَقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجْعَلْهُ في مَسْجِدِنَا وأَجْرُهُ لَكَ" (¬3). وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ بَسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ ثُمَامَةَ بنِ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيِّ قَالَ: . . . قَالَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: . . . أَنْشُدُكُمُ اللَّه وَالْإِسْلَامَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ المَسْجِدَ ضَاقَ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ، فَيَزِيدُهَا في المَسْجدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا في الجَنَّةِ؟ " فَاشْترَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي (¬4). * تَوْسِعَةُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ في زَمَنِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ: وظَلَّ المَسْجِدُ كَذَلِكَ مُدَّةَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ ¬

_ (¬1) ابتاع الشيء: اشتراه. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (420). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب معرفة اللَّه جل جلاله لعثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه - رقم الحديث (6920). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب مناقب عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4036) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الأحباس - باب وقف المساجد - رقم الحديث (6402).

شَيْئًا، وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَسَّعَهُ وَزَادَ فِيهِ، وبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- باللَّبِنِ والجَرِيدِ، وأعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا (¬1). وَقَدْ نَهَى عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْغِلُ النَّاسَ عَنْ صَلَاتِهِمْ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِه عَنْ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ -عِنْدَمَا أَمَرَ ببنَاءِ الْمَسْجِدِ-: أَكِنَّ (¬2) النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فتَفْتِنَ النَّاسَ (¬3). ثُمَ لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- غَيَّرَهُ، وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ وَالقَصَّةِ (¬4)، وجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَة مَنْقُوشَةٍ، وسَقْفَهُ مِنْ سَاجٍ (¬5). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: زَادَهُ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- مُتَأَوِّلًا ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب بُنيان المسجد - رقم الحديث (446). (¬2) الكِنُّ: وقاء كل شيء وستره. انظر لسان العرب (12/ 172). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا - كتاب الصلاة - باب بُنيانِ المسجد. (¬4) قال الحافظ في الفتح (2/ 110): القَصَّة بفتح القاف وتشديد الصاد، وهي الجِصُّ بلغةِ أهل الحجاز. (¬5) السَّاجُ: خشب يُجلب من الهند، واحدتها ساجة. انظر لسان العرب (6/ 419). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب بنيان المسجد - رقم الحديث (446).

* مكانة المسجد في الإسلام

قَوْلَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ بَنَى للَّهِ مَسْجِدًا كمِفْحَصِ (¬1) قَطَاةٍ أَوْ أَصْغَرَ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ" (¬2). وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ المَوْجُودُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ بَعْدَهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ قَوْلِ العُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ حُكْمَ المَزِيدِ، فتَدْخُلُ الزِّيَادَةُ في حُكْمِ سَائِرِ المَسْجِدِ مِنْ تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَشَدِّ الرِّحَالِ إلَيهِ (¬3). * مَكَانَةُ المَسْجِدِ فِي الإِسْلَامِ: وَلَمْ يَكُنِ المَسْجِدُ مَوْضِعًا لِأَدَاءَ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ جَامِعَةً يَتَلَقَّى فِيهَا المُسْلِمُونَ تَعَالِيمَ الإِسْلَامِ وَتَوْجِيهَاتِهِ، ومُنْتَدى تَلْتَقِي فِيهِ العَنَاصِرُ القَبَلِيَّةُ المُخْتَلِفَةُ التِي طَالَمَا نَافَرَتْ بَيْنَهَا النَّزعَاتُ الجَاهِلِيَّةُ وحُرُوبُهَا، وقَاعِدَةً لِإِدَارَةِ جَمِيعِ الشُّؤُونِ، وبَثِّ الِانْطِلَاقَاتِ، وبَرْلَمَانًا لِعَقْدِ المَجَالِسِ الِاسْتِشَارِيَّةِ والتَّنْفِيذِيَّةِ. وَكَانَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ دَارًا يَسْكُنُ فِيهَا عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنْ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ ¬

_ (¬1) المِفْحَصُ: هو موضعُ القَطَاةِ الذي تَجْثُمُ فيه وتَبِيض، كأنها تَفْحَصُ عنه التُّرابَ: أي تكشِفُه، والفَحْصُ: البَحْثُ والكَشْفُ، والقَطَاة: هو طائرٌ معروفٌ بخِفَّةِ الحَرَكة. انظر النهاية (3/ 372). (¬2) أخرج هذا الحديث ابن ماجه في سننه - كتاب المساجد - باب من بني للَّه مسجدًّا - رقم الحديث (738) - والطحاوي في شرح المشكل - رقم الحديث (1557) - وإسناده صحيح. (¬3) انظر البداية والنهاية (3/ 230).

اللَّاجِئِينَ، الذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هُنَاكَ دَارٌ، وَلَا مَالٌ، وَلَا أهْلٌ، وَلَا بَنُونَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُجَالِسُهُمْ ويَأْنَسُ بِهِمْ، وكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ الصُّفَّةِ (¬1). قَالَ الشَّيْخُ محمَّد الغَزَالي رَحِمَهُ اللَّهُ: وتَمَّ بِنَاءُ المَسْجِدِ في حُدُودِ البَسَاطَةِ، فراشه الرمال والحصباء (¬2)، وسقفه الجريد، وأعمدته الجذوع، ورُبَّمَا أمْطَرَتِ السَّمَاءُ فَأَوْحَلَتْ (¬3) أرْضُهُ (¬4)، وَقَدْ تَفْلُتُ الكِلَابُ إِلَيْهِ فَتَغْدُو وتَرُوحُ (¬5) ¬

_ (¬1) الصُّفَّةُ: هو موضعٌ مُظَلَّلٌ في المسجد النبوي كان تَأْوِي إليه الفقراء والمساكين من لم يكن له منهم منزل. انظر النهاية (3/ 35). قال الحافظ في الفتح (7/ 296): كانت الصفة في مؤخر المسجد معدَّةٌ لفقراء أصحابه -صلى اللَّه عليه وسلم- غير المتأهلين، وكانوا يكثرون تارة حتَّى يبلغوا المائتين، ويقلون أخرى لإرسالهم في الجهاد وتعليم القرآن. (¬2) الحصباء: الحصى الصغار. انظر النهاية (1/ 378). (¬3) الوَحَلُ: بالتحريك هو الطِّينُ الرَّقِيقُ. انظر النهاية (5/ 142). (¬4) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2016) من حديث أبي سلمة، قال: سأَلتُ أَبا سعيد - وكان لي صَدِيقًا - فقال: . . . قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي أُريت ليلةَ القَدْر ثم أُنسِيتها -أو نُسِّيتها- فالتَمِسُوها في العشْرِ الأوَاخِرِ في الوِتْر، وإني رأيتُ أني أسْجُدُ في مَاءٍ وطِينٍ، فمَنْ كان اعتَكَف مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فليرجِعْ"، فرجَعْنا، وما نرَى في السَّماء قزَعَةً -بفتح القاف والزاي أي قطعةٌ من سحَابٍ رَقِيقة-، فجاءت سحَابة فمَطرت حتَّى سَال سَقْفُ المَسْجِدِ، وكان من جَرِيد النخلِ، وأُقيمت الصلاة، فرأيتُ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْجُدُ في الماء والطين، حتَّى رأيتُ أثَرَ الطينِ في جَبْهَتِهِ. (¬5) أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (174) عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: كانت الكِلابُ تُقْبِل وتُدْبِرُ في المسجدِ في زمانِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يَكُونُوا يَرُشُّونَ شيئًا من ذلك. قال الحافظ في الفتح (1/ 373): والأقرب أن يُقال: إن ذلك كان في ابتِدَاء الحالِ على أصلِ الإباحة، ثمَّ ورَدَ الأمرُ بتكريمِ المَسَاجد وتَطْهِيرها وجَعْلِ الأبوابِ عليها.

* بناء المنبر

هَذَا البِنَاءُ المُتَوَاضِعُ، هُوَ الذِي رَبَّى مَلَائِكَةَ البَشَرِ، ومُؤَدِّبِي الجَبَابِرَةِ، ومُلُوكَ الدَّارِ الآخِرَةِ. إِنَّ مَكَانَةَ المَسْجِدِ في المُجْتَمَعِ الإِسْلَامِيِّ، تَجْعَلُهُ مَصْدَرَ التَّوْجِيهِ الرُّوحِيِّ والمَادِّيِّ، فَهُوَ سَاحَةٌ لِلْعِبَادَةِ، ومَدْرَسَةٌ لِلْعِلْمِ، ونَدْوَةٌ لِلْأَدَبِ، وَقَدِ ارْتَبَطَتْ بِفَرِيضَةِ الصَّلَاةِ وصُفُوفِهَا أخْلَاقٌ وتَقَالِيدُ هِيَ لُبَابُ الإِسْلامِ (¬1). * بِنَاءُ المِنْبَرِ: وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ النَّاسَ مُسْتَنِدًا إلى جِذْعِ نَخْلَةٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ -وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ- قَالَ لَهُ أصْحَاُبهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ شَيْئًا تَقُومُ عَلَيْهِ إِذَا خَطَبْتَ حَتَّى يَرَاكَ النَّاسُ، فَأَمَرَ ببنَاءَ المِنْبَرِ، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ، وقَامَ عَلَيْهِ حَنَّ (¬2) ذَلِكَ الجِذْعُ إِلَيْهِ، وَسُمعَ لَهُ صِيَاحٌ كَصِيَاحِ الصَّبِيِّ، أَوْ صَوْتٌ كَصَوْتِ العِشَارِ (¬3)، حَتَّى أتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَمَسَحَ عَلَيْهِ فَسَكَنَ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحهِ عَنْ جَابرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ (¬4)، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة ص 178 للشيخ محمَّد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ. (¬2) حَنَّ: أي نَزَعَ واشتَاقَ، وأصلُ الحنينِ تَرْجِيعُ النَّاقَةِ صَوْتها إثْرَ وَلَدها. انظر النهاية (1/ 435). (¬3) العِشَارُ: جمع عُشَراء بضم العين وفتح الشين، هي الناقة التي أتى على حَمْلِها عَشَرَةُ أشهر. انظر النهاية (3/ 217). (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 306): هو شكٌّ من الراوي، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع عن عبد الواحد "فقامَ إلى نَخْلَةٍ" ولم يشك.

مِنَ الأَنْصَارِ -أَوْ رَجُلٌ (¬1) -: يَا رَسُولَ اللَّهِ ألَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا (¬2)؟ قَالَ: "إِنْ شِئْتُمْ" فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبرًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ دُفِعَ إلى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الذِي يُسَكَّنُ. قَالَ: كَانَتْ تَبْكِي مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا (¬3). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ جَابِرٌ: كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إلى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ فَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 306): شَكٌّ من الراوي والمعتمدُ الأول -أي امرأة-. (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 114): فإن قِيلَ ظاهرُ سِيَاق حديث جابر هذا مُخَالف لسِياق حديث سَهْلٍ الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (917): أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرسلَ إلى امرأةٍ من الْأَنصار فقال لها: مُرِي غُلامك النَّجَّار. لأنَّ في حديث جابر أن المرأة هي التي ابتدأت بالعَرْض، وفي حديث سهل أنَّه هو -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أرسل إليها يَطْلُبُ ذلك. أجابَ ابن بَطال: باحتمالِ أن تكون المرأةُ ابتدَأت بالسؤالِ مُتَبَرِّعَةً بذلك، فلما وصَل لها القَبُولُ أمكن أن يبطِيَّ الغلام بِعَمله، فأرسل يَسْتَنْجِزُهَا إتمَامَهُ لعلمِهِ بِطِيبِ نفسها بما بَذَلَتْهُ، ويمكنُ إرساله إليها ليعرفها بِصِفَةِ ما يَصْنَعُهُ الغلامُ من الأعْوَادِ، وأن يكون ذلك مِنْبرًا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإِسلام - رقم الحديث (3584). وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14206). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإِسلام - رقم الحديث (3585).

* قولة جميلة للحسن البصري رحمه الله

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وابنُ مَاجَه والطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ لَمْ أَحْتَضِنْهُ؛ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" (¬1). * قَوْلَةٌ جَمِيلةٌ للحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَّهُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذا الحَدِيثَ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، الخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَوْقًا إِلَيْهِ لِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إلى لِقَائِهِ (¬2). * مَصِيرُ الجِذْعِ: رَوَى الدَّارِمِيُّ في مُسْنَدِهِ عَنْ بريْدَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِلْجِذْعِ بَعْدَ أَنْ هَدَّأَهُ: "اخْتَرْ أَنْ أغْرِسَكَ في المَكَانِ الذِي كُنْتَ فِيهِ فتَكُونَ كَمَا كنْتَ -يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ جِذْعًا- وَإنْ شِئْتَ أَنْ أَغْرِسَكَ في الجَنَّةِ؛ فتَشْرَبَ مِنْ أنْهَارِهَا فَيَحْسُنُ نَبْتُكَ، وتُثْمِرُ، فَيَأْكُلُ مِنْكَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ"، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اختَارَ أَنْ أغْرِسَهُ في الجَنَّةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2236). وابن ماجه في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في بدء شأن المنبر - رقم الحديث (1415) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4177). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب المعجزات - رقم الحديث (6507). (¬3) أورده الحافظ في الفتح (7/ 307)، وعزاه إلى الدارمي في مسنده.

* فضائل المنبر

وعِنْدَ ابنِ مَاجَه، والطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فَلَمَّا هُدِمَ المَسْجِدُ وَغُيِّرَ، أَخَذْتُ ذَلِكَ الجِذْع، فَلَمْ يَزلْ عِنْدِي في بَيْتِي حَتَّى بَلِيَ، فَأَكَلَتْهُ الْأَرَضَةُ، وعَادَ رُفَاتًا (¬1). قَالَ الحَافِظُ: وَهَذَا -أيْ قَوْلُ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه- لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّهُ دُفِنَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ظَهَرَ بَعْدَ الهَدْمِ عِنْدَ التَّنْظِيفِ، فَأَخَذَهُ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (¬2). * فَضَائِلُ المِنْبَرِ: جَاءَتْ أحَادِيثُ كَثِيرَةٌ في فَضْلِ هَذَا المِنْبَرِ فَمِنْ ذَلِكَ: مَا أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "قَوَائِمُ مِنْبَرِي رَوَاتِبُ (¬3) في الجَنَّةِ" (¬4). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ والنَّسَائيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في بدء شأن المنبر - رقم الحديث (1414) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4176). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 307). (¬3) قال الإِمام السندي في شرح المسند (14/ 422): الرُّتُوبُ: الثُّبُوتُ والدَّوام، والرَّوَاتب جمع رَاتِبَة، وهذا إما كِنَاية عن ثُبُوت المِنْبَرِ له في الجنةِ، أو بيان أن مِنْبره الذي كان له في الدنيا يُنقلُ إلى الجنة. (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26476) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المدينة - رقم الحديث (3749).

عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِنْبَرِي هَذَا عَلَى تُرْعَةٍ (¬1) مِنْ تُرَع الجَنَّةِ" (¬2). وَروَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" (¬3). قَالَ الْحَافِظُ في الفتْحِ: أَيْ كَرَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ في نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَحُصُولِ السَّعَادَةِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ مُلازَمَةِ حِلَقِ الذِّكْرِ لَا سِيَّمَا في عَهْدِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَكُونُ تَشْبِيهًا بِغَيْرِ أَدَاةٍ، أَوِ الْمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهَا تُؤَدِّي إلى الْجَنَّةِ فَيَكُونُ مَجَازًا، أَوْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ رَوْضَةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِأَنْ يَنتقِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ بِعَيْنِهِ في الْآخِرَةِ إلى الْجَنَّةِ (¬4). ¬

_ (¬1) التُرْعَةُ في الأصل: الرَّوضة على المكان المُرْتَفِعِ خَاصَّةً. قال القتَيْبِي: معناهُ أن الصلاةَ والذِّكْرَ في هذا المَوْضِع يُؤَدِّيَان إلى الجنة، فكأنَّه قِطْعَة منها. انظر النهاية (1/ 183). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8721) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - بابُ المنبر - رقم الحديث (4274). (¬3) قال الحافظ في الفتح (4/ 589): قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي": أي يُنْقَلُ يوم القيامةِ فيُنْصَبُ على الحوضِ، وقال الأكثرُ: المراد مِنبري بِعَينه الذي قال هذه المَقالة وهو فَوْقه، وقيل: المراد المِنبر الذي يوضعُ له يوم القيامة، والأول أظهر. والحديثُ أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب (12) - رقم الحديث (1888) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما بين القبر والبيت روضة من رياض الجنة - رقم الحديث (1391). (¬4) انظر فتح الباري (4/ 589).

* فضائل المسجد النبوي

* فَضَائِلُ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ: أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "صَلَاةٌ في مَسْجدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ" (¬1). وأخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ والإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ خَيْرَ مَا رُكبَتِ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ (¬2)، مَسْجدِي هَذَا، والبَيْتُ العَتِيقُ" (¬3). وأخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنِّي آخِرُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ مَسْجدِي آخِرُ المَسَاجِدِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة - باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة - رقم الحديث (1190). وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة - رقم الحديث (1394). (¬2) الرَّاحِلَة منَ الإبل: هو البَعير القوي في الأسْفَارِ والأحْمَال، والذَّكر والأنثى فيه سَواء. انظر النهاية (2/ 191). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب المساجد - رقم الحديث (1616). وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14782) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (576). (¬4) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة - رقم الحديث (1394) (507) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب المساجد - رقم الحديث (1621).

قَالَ الإِمَامُ السِّنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَائِيِّ: أيْ آخِرُ المَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ المَشْهُودِ لَهَا بِالفَضْلِ، أَوْ آخِرُ مَسَاجِدِ الأنْبِيَاءَ، أَوْ أَنَّهُ يَبْقَى آخِرَ المَسَاجِدِ، ويَتَأَخَّرُ عَنِ المَسَاجِدِ الأُخَرِ في الفَنَاءَ. وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، ومَسْجِدِ الرَّسولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، ومَسْجِدِ الأَقْصَى" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (385/ 3): وفي العُدُول عن مسجدي إشَارة إلى التَّعظيم، ويحتمل أن يكون ذلك من تَصَرُّف الرواة، ويُؤَيِّدُهُ قوله في حديث أبي سعيد: "ومَسْجدِي". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة - باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة - رقم الحديث (1189) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المساجد الثلاثة - رقم الحديث (1397).

ثانيا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

ثَانِيًا: المُؤَاخَاةُ (¬1) بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ العَمَلُ الثَّانِي الذِي قَامَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ بِنَائِهِ المَسْجِدَ هُوَ عَقْدُ المُؤَاخَاةِ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ، وذَلِكَ أَنَّ المُهَاجِرِينَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُمْ ترَكُوا أمْوَالَهُمْ خَلْفَهُمْ، فَأَرَادَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَلَّ هَذِهِ الأَزْمَةِ المَادِّيَّةِ التِي اجْتَاحَتِ المُهَاجِرِينَ. وعُقِدَتِ المُؤَاخَاةُ في دَارِ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- (¬2). ¬

_ (¬1) قال الشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في فقه السيرة ص 179: ومعنى هذا الإخَاء أن تَذُوب عَصَبِيَّات الجاهلية، فلا حَمِيَّة إِلَّا للإسلام. وقال الشيخ أبو الحسن النَّدْوي في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة ص 198: وكان هذا الإخاءُ أساسًا لإِخَاءٍ إسلامي عالَمِي فريدٍ من نوعه، ومقدمةً لنَهْضَة أمةٍ ذات دَعوة ورسالة، تنطلق لصِيَاغة عالمٍ جديد، قائِمٍ على عقائِدَ صحيحة معينة، وأهدافٍ صالحة مُنْقِذَةٍ للعالم من الشَّقاء والتَّنَاحُر والانتحار، وعلى علاقات جديدة من الإيمان والإخَاء المعنوي والعمل المشترك، وكان هذا الإخاء المَحْدُود بين المهاجرين والأَنْصار طَلِيعَةً وشَرِيطَةً لاستئناف حياةٍ جديدة للعالم والإنسانية. (¬2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الكفالة - باب قوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} - رقم الحديث (2294) - وأخرجه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما ذَكَر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . - رقم الحديث (7340) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب مؤاخاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2529) (204) (205).

وفِي رِوَايَةٍ أَنَّ المُؤَاخَاةَ عُقِدَتْ في المَسْجِدِ (¬1). وكَانُوا تِسْعِينَ رَجُلًا، نِصْفُهُمْ مِنَ المُهَاجِرِينَ، ونِصْفُهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ، وقِيلَ كَانُوا مِائَةً، فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَهُمْ عَلَى الحَقِّ وَالمُوَاسَاةِ، ويَتَوَارَثُونَ بَعْدَ المَمَاتِ دُونَ ذَوِي رَحِمٍ (¬2). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} (¬3)، قَالَ -رضي اللَّه عنه-: كَانَ المُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ المُهَاجِرُ الأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ التِي آخَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نَسَخَتْ (¬4). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: هَكَذَا وَقَعَ في هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ نَاسِخَ مِيرَاثِ الحَلِيفِ هَذِهِ الآيَةُ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، ورَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ، لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ، فَيَرِثُ ¬

_ (¬1) قاله أبو سعيد في "شَرَف المصطفى" فيما نقله الحافظ في الفتح (7/ 690)، وقد جمع بينهما الحافظ في الفتح (4/ 727) فقال: ويمكن الجَمْع على أن ابتداء المؤاخاة كان في أوائل قدومه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، واستمَرَّ يجددِّها بحسب من يَدخل الإِسلام أو يَحْضُرُ إلى المدينة، وهَلُمَّ جَرًّا, وليس باللازم أن تكون المُؤَاخاةُ وقَعَتْ دُفْعَةً واحدة. (¬2) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 110). (¬3) سورة النساء آية (33). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب (7) - رقم الحديث (4580) - وأخرجه في كتاب الفرائض - باب ذوي الأرحام - رقم الحديث (6747).

* قولة جميلة للإمام السهيلي

أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فنَسَخَ ذَلِكَ الأَنْفَالُ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬1)، ومِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ العُلَمَاءَ كَذَلِكَ، وهَذَا هُوَ المُعْتَمَدُ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ وَقَعَ مَرَّتَيْنِ: الأُوْلَى حَيْثُ كَانَ المُعَاقِدُ يَرِثُ وَحْدَهُ دُونَ العَصَبَةِ فنَزَلَتْ: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} فَصَارُوا جَمِيعًا يَرِثُونَ، وَعَلَى هَذَا يتَنَزَّلُ حَدِيثُ ابنِ عَبَّاس، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ آيةُ الأَحْزَابِ، وَخُصَّ المِيرَاثُ بِالعَصَبَةِ، وبَقِيَ للمُعَاقِدِ النَّصْرُ والإِرْفَادُ ونَحْوُهُمَا، وَعَلَى هَذَا يتَنَزَّلُ بَقِيَّةُ الآثَارِ (¬2). * قَوْلَةٌ جَمِيلةٌ لِلْإِمَامِ السُّهَيْلِيِّ: قَالَ الإِمَامُ السُّهَيْلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ أَصْحَابِهِ حِينَ نَزَلُوا المَدِينَةَ؛ لِيُذْهِبَ عَنْهُمْ وَحْشَةَ الغُرْبَةِ وَيُؤْنِسَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ الأَهْلِ والعَشِيرَةِ، ويَشُدَّ أَزْرَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا عَزَّ الإِسْلَامُ واجْتَمَعَ الشَّمْلُ، وذَهَبَتِ الوَحْشَةُ، أنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬3) أعْنِي في المِيرَاثِ، ثُمَّ جَعَلَ المُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ إِخْوَةً، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬4) يَعْنِي في التَّوَادِّ وَشُمُولِ الدَّعْوَةِ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (75) - والخبر أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الفرائض - باب نسخ ميراث العقد بميراث الرَّحم - رقم الحديث (2921). (¬2) انظر فتح الباري (9/ 122) - (13/ 517). (¬3) سورة الأنفال آية (75). (¬4) سورة الحجرات آية (10). (¬5) انظر الرَّوْض الأُنُف (2/ 350).

* كم مرة حدثت المؤاخاة؟

وَقَدْ شَدَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَقْدَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأَحْكَمَهُ بِقَوْلهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. . .} إلى قوله تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ: ذَكَرَ تَعَالَى أصْنَافَ المُؤْمِنِينَ، وقَسَمَهُمْ إلى مُهَاجِرِينَ، خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأمْوَالِهِمْ، وجَاؤُوا لِنَصْرِ اللَّهِ ورَسُولهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وبَذَلُوا أمْوَالَهُمْ وأنْفُسَهُمْ في ذَلِكَ، وَإِلَى أنْصَارٍ، وهُمُ المُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ إِذْ ذَاكَ، آوَوْا إخْوَانَهُمْ المُهَاجِرِينَ في مَنَازِلهِمْ، ووَاسَوْهُمْ في أمْوَالِهِمْ، ونَصَرُوا اللَّه وَرَسُولَهُ بِالقِتَالِ مَعَهُمْ، فَهَؤُلَاءَ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ، أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِالآخَرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِهَذَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ، كُلُّ اثْنَيْنِ أخَوَانِ، فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إِرْثًا مُقَدَّمًا عَلَى القَرَابَةِ، حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالمَوَارِيثِ (¬2). * كَمْ مَرَّةً حَدَثَتِ المُؤَاخَاةُ؟ : ذَكَرَ أصْحَابُ المَغَازِي أَنَّ المُؤَاخَاةَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال الآيات (72 - 74). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 95).

* المرة الأولى

* المَرَّةُ الأُولَى: قَبْلَ الهِجْرَةِ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ خَاصَّةً عَلَى المُوَاسَاةِ والنُّصْرَةِ؛ لأنَّ بَعْضَ المُهَاجِرِينَ كَانَ أقْوَى مِنْ بَعْضٍ بِالمَالِ والعَشِيرَةِ والقُوَى، فَآخَى بَيْنَ الْأَعْلَى والأَدْنَى لِيَرْتَقِي الأدْنَى بِالْأَعَلَى، ويَسْتَعِينَ الأَعْلَى بالأدْنَى، وبِهَذَا تَظْهَرُ مُؤَاخَاتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- (¬1)؛ لأنَّهُ هُوَ الذِي كَانَ يَقُومُ بِهِ مِنْ عَهْدِ الصِّبَا، مِنْ قَبْلِ البِعْثَةِ، واسْتَمَرَّ إلى مَا بَعْدَهَا، وكَذَا مُؤَاخَاةُ حَمْزَةَ وزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ؛ لأنَّ زَيْدًا مَوْلَاهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَتْ أُخُوُّتُهُمَا في الصَّحِيحِ وَهُمَا مِنَ المُهَاجِرِينَ (¬2)، وأخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، والبُخَارِيُّ في الأدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن أَبِي ¬

_ (¬1) قلتُ: أنكَرَ ابنُ القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (3/ 57) أخُوَّة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-. قال الحافظ في الفتح (7/ 690) بعدَ أن سَاقَ بعض الآثار فيها مُؤَاخَاةُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي -رضي اللَّه عنه- قال رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وإذا انْضَمَّ هذا إلى ما تقَدَّمَ تَقْوَّى به. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 214): أما مُؤَاخَاةُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلي -رضي اللَّه عنه-، فإن منَ العُلَمَاء من يُنْكِرُ ذلك ويَمْنع صِحَّته، ومُسْتَنَدُهُ في ذلك أن هذه المُؤاخاة إنما شُرِعت لأجلِ ارْيفَاقِ بعضهم من بعض، وليتألفَ قُلوب بعضهم على بعضٍ، فلا مَعْنى لِمُؤاخاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأحدٍ منهم، ولا مُهَاجري لِمُهَاجري آخر كما ذكره من مُؤَاخاة حَمْزة وزيد بن حَارِثَةَ، اللهم إِلَّا أن يكون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يجعل مَصْلَحَة علي -رضي اللَّه عنه- إلى غيره، فإنَّه كان مِمَّن ينفق عليه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من صِغَره في حياةِ أَبيه أبي طالب، وكذلك يكونُ حَمْزَةُ قد الْتَزَم بمصالحِ مولاهم زيدِ بن حارثةَ، فآخاهُ بهذا الاعتبارِ، واللَّه أعلم. (¬2) أخرج قصَّة مؤاخاة حمزة -رضي اللَّه عنه- وزيد بن حارثة: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عمرة القضاء - رقم الحديث (4251).

* المرة الثانية

الشَّعْثَاءِ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: آخَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ الزُّبَيْرِ وابنِ مَسْعُودٍ (¬1) وهُمَا مِنَ المُهَاجِرِينَ. * المَرَّةُ الثَّانِيَةُ: ثُمَّ آخَى بَيْنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ، وذَلِكَ بَعْدَ قُدُومِهِ المَدِينَةَ (¬2). وَقَدْ ذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ عَدَدًا كَبِيرًا مِمَّنْ آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَهُمْ فَقَالَ: وآخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَآخُوا في اللَّهِ أَخَوَيْنِ أخَوَيْنِ": 1 - فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- مَعَ خَارِجَةَ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ. 2 - وَعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- مَعَ عِتْبَانَ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬3). 3 - وأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- مَعَ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كان ابن مسعود سادس ستة في الإِسلام - رقم الحديث (5423) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (442) (¬2) انظر فتح الباري (4/ 727) (7/ 690). (¬3) هذا هو الصحيح، وبه جزم الحافظ في الفتح (10/ 351) (¬4) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2528) ولفظه عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: أَنَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- آخى بين أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه-، وبَيْن أبي طلحة -رضي اللَّه عنه-. قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 214): والذي رواه مسلم أصَحُّ مما ذكره =

4 - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- مَعَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬1). 5 - وجَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مَعَ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬2). 6 - ومُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، مَعَ أَبِي أيُّوبَ الأنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬3). 7 - وأَبُو ذَرٍّ الغِفَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- مَعَ المُنْذِرِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬4). 8 - وسَلْمَان الفَارِسِيَّ -رضي اللَّه عنه- مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬5). ¬

_ = ابن إسحاق في السيرة (2/ 119) من مُؤَاخاة أبي عبيدة -رضي اللَّه عنه-، وسعدِ بن مُعَاذ -رضي اللَّه عنه-، واللَّه أعلم. (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب كيف آخى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه - رقم الحديث (3937). (¬2) هذا ما ذكر ابن إسحاق في السيرة (2/ 119): وتعقَّبه ابنُ هشام فقال: إن جعفرَ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- يومئذٍ غائبًا بأرضِ الحَبَشة، وإنما قدم جعفرُ المدينةَ في فَتْحِ خَيْبَرَ في أول سنة سبع من الهجرة. (¬3) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك عن الواقدي - كتاب معرفة الصحابة - باب مناقب أبي أَيُّوب الأنصاري - رقم الحديث (5983) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 119). (¬4) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (2/ 119) - وتعقبه الحافظ في الفتح (7/ 690): بأن أَبا ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- تأخرتْ هِجْرَتُهُ حتَّى ذهبَتْ بَدْرٌ وأُحُدٌ والخَنْدَقُ. (¬5) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (2/ 119). وهو في صحيح البخاري - كتاب مناقب الأَنصار - باب كيف آخى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصحابه - وأخرجه في كتاب الصوم - باب من أقسَمَ على أخيه لِيُفْطِرَ في التطوع - رقم الحديث (1968) من حديث أبي جُحَيفة -رضي اللَّه عنه- قال: آخى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين سَلْمَان -رضي اللَّه عنه-، وأبي الدَّرداء -رضي اللَّه عنه- قلتُ: أنكرَ الواقِدِيُّ فيما حكاه ابن سعد في طبقاته (4/ 361) أن سلمان -رضي اللَّه عنه- إنما أسلم بعد وقعَةِ أُحد، وأول مشاهِدِه الخندق، وتعقَّبه الحافظ في الفتح (4/ 727) فقال =

* مآثر الأنصار الخالدة

9 - وطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- مَعَ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ. 10 - والزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- مَعَ سَلَمَةَ بنِ سَلَامَةِ بنِ وَقْشٍ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ. 11 - وبِلالُ بنُ رَبَاحٍ -رضي اللَّه عنه- مَعَ أَبِي رُوَيْحَةَ الخَثْعَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- أخَوَيْنِ (¬1). وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ التَّآخِّي إِلَّا بَيْنَ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أوَّلُ مَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ، وصَارَ يُجَدِّدُهَا بِحَسَبِ مَنْ يَأْتِي إلى المَدِينَةِ مُهَاجِرًا، ومَنْ دَخَلَ في الإِسْلامِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ. * مَآثِرُ الأَنْصَارِ الخَالِدَةُ: وَكَانَتْ عَوَاطِفُ الإِيثَارِ والمُوَاسَاةِ والمُؤَانَسَةِ تَمْتَزِجُ في هَذِهِ الأُخُوَّةِ، وتَمْلَأُ المُجْتَمَعَ الجَدِيدَ بأرْوَعِ الأمْثِلَةِ (¬2). حَرِصَ الأَنْصَارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الحَفَاوَةِ بإخْوَانِهِمُ المُهَاجِرِينَ، فَمَا نَزَلَ مُهَاجِرِيُّ عَلَى أنْصَارِيٍّ إِلَّا بِقُرْعَةٍ، فَقَدْ أخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ العَلَاءِ الأنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ ¬

_ = والجوابُ أن ابتداءَ المُؤَاخاة كان في أوائلِ قُدُومه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة، ثم كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُؤَاخي بين مَنْ يأتي بعد ذلك، وهلُمَّ جَرًّا, وليس باللازم أن تكون المؤاخاةُ وقعتْ دُفعَةً واحدةً، حتَّى يُرَدَّ هذا التعقبُ، فصحَّ ما قاله ابن إسحاق - من مؤاخاة سلمان -رضي اللَّه عنه- وأبي الدرداء -رضي اللَّه عنه- وأيَّده هذا الخبر الذي في الصحيح، وارتَفَعَ الإشكالُ بهذا التقدير، وللَّه الحمد. (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 119). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللْهُ تَعَالَى ص 180.

اقْترَعَتِ الأَنْصَارُ عَلَى سَكَنِهِمْ (¬1). ولقدْ ضَرَبَ الأَنْصَارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أرْوَعَ الأمْثِلَةِ في الإيثَارِ لِإِخْوَانِهِمُ المُهَاجِرِينَ، فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ إبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ -أي المُهَاجِرُونَ- آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وسَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ سَعْدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ: إنِّي أكْثَرُ الأَنْصَارِ مالًا، فَاقْسِمْ مَالِي نِصْفَيْنِ، وَلِيَ امْرَأَتَانِ، فَانْظُرْ أعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَسَمِّهَا لِي أُطَلِّقُهَا، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فتَزَوَّجْهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ في أهْلِكَ وَمَالِكَ (¬2)، أيْنَ سُوقُكُمْ؟ . فَدَلُّوهُ عَلَى سُوقِ بَنِي قَيْنقَاعَ (¬3)، فَمَا انْقَلَبَ (¬4) إِلَّا وَمَعَهُ فَضْلٌ مِنْ أَقِطٍ (¬5) وسَمْنٍ، ثُمَّ تَابَعَ الغُدُوَّ (¬6)، ثُمَّ جَاءَ يَوْمًا وبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ (¬7)، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3929) - وأخرجه في كتاب التعبير - باب العين الجارية في المنام - رقم الحديث (7018). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27458). (¬2) قال الشَّيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة ص 180: . . . وقد قَدَّر المهاجرون هذا البَذْل الخَالِصَ فما استَغَلُّوه، ولا نالوا منه إِلَّا بَقْدِر ما يتوَجَّهُون إلى العَمَل الحُرِّ الشَّريف. (¬3) قال الحافظ في الفتح (5/ 7): بنو قَيْنُقَاع: بفتح القاف: هي قَبِيلَةُ من اليهودِ نُسِبَ السُّوق إليهم. (¬4) فما انقَلَبَ: أي فما رَجَع. انظر النهاية (4/ 85). (¬5) الأقِطُ: هو لَبَنٌ مُجَفَّف يابِسٌ. انظر النهاية (1/ 59). (¬6) قال الحافظ في الفتح (5/ 7): أي داومُ الذهَابِ إلى السُّوق للتِّجارة. (¬7) قال الحافظ (10/ 292): المُرَادُ بالصُّفْرَةِ صُفْرَةُ الخَلُوقِ، والخَلُوق طِيبٌ يُصنع من زَعْفَرَان وغيره.

* فوائد الحديث

"مَهْيَمْ؟ " (¬1) قَال: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَا سُقْتَ فِيهَا؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ (¬2) مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ" (¬3) * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - مَنْقَبَةٌ لِسَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ في إيثَارهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا ذَكَرَ. 2 - ولعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ في تَنَزُّهِهِ عَنْ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ الحَيَاءُ والمُرُوءَةُ اجْتِنَابَهُ، ولَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ. 3 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمُؤَاخَاةِ وَحُسْنُ الْإِيثَارِ مِنَ الْغَنِيِّ لِلْفَقِيرِ حَتَّى بِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ. 4 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ ترَكَ ذَلِكَ بِقَصْدٍ صَحِيحٍ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ. 5 - وفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكَسُّبِ. 6 - وَأَنْ لا نَقْصَ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِمُرُوءَةِ مِثْلِهِ. 7 - وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ قَبُولِ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الذُّلُّ مِنْ هِبَةٍ وغَيْرِهَا. ¬

_ (¬1) قال الحافظ (10/ 292): مَهْيَم: هي كلِمَةُ استِفْهَام، ومعناها: ما شأنُك، أو ما هذا؟ (¬2) النُّوَاةُ: اسم لخَمْسَةِ دَرَاهِمَ. انظر النهاية (5/ 116). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب إخاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار- رقم الحديث (3780) (3781) - ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب الصداق - رقم الحديث (1427).

8 - وَفِيهِ أَنَّ العَيْشَ مِنْ عَمَلِ المَرْءِ بِتِجَارَةٍ أَوْ حِرْفَةٍ أَوْلَى لِنَزَاهَةِ الأَخْلَاقِ مِنَ العَيْشِ بِالْهِبَةِ ونَحْوِهَا. 9 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ. 10 - وَفِيهِ سُؤَالُ الْإِمَامِ وَالْكَبِيرِ أَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا لَمْ يَعْهَدْ. 11 - وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى المَرْأَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا (¬1). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وإعْجَابُ المَرْءِ بِسَمَاحَةِ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه- لا يَعْدِلُهُ إِلَّا إعْجَابُهُ بِنُبْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنَ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، هَذَا الذِي زَاحَمَ اليَهُودَ في سُوقِهِمْ، وبَزَّهُمْ (¬2) في مَيْدَانِهِمْ، واسْتَطَاعَ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أيَّامٍ أَنْ يَكْسِبَ مَا يَعُفُّ بِهِ نَفْسَهُ، ويَحْصِنُ بِهِ فَرْجَهُ! ! إِنَّ عُلوّ الهِمَّةِ مِنْ خَلَائِقِ الإيمَانِ، وقبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَ أقْوَامٍ انْتسَبُوا لِلإِسْلَامِ فَأَكَلُوهُ، وأكَلُوا بِهِ حَتَّى أضَاعُوا كَرَامَةَ الحَقِّ في هَذَا العَالَمِ (¬3). ورَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ ولَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ يَعْنِي شَيْئًا، وكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 294). (¬2) بَزَّهُمْ: غَلَبَهُم. انظر لسان العرب (1/ 398). (¬3) انظر فقه السيرة ص 180.

الأَرْضِ والعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ ويَكْفُوهُمُ العَمَلَ والمَؤُونَةَ (¬1). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ عن أَبِي هُرَيْرَة -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَتِ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اقْسِمْ بَيْنَنَا وبَيْنَ إخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: "لَا" فَقَالُوا: تَكْفُونَا المَؤُونَةَ (¬2) ونُشْرِكُكُمْ في الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (¬3). قَالَ الحَافِظُ: وفي الحَدِيثِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (¬4). وأخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَنْصَارَ إلى أَنْ يُقْطِعَ لَهُمُ البَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنْ تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ المُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّكُمْ سَترَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً (¬5)، فَاصْبِرُوا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الهبة وفضلها - باب فضل المنيحة - رقم الحديث (2630). (¬2) قال الحافظ في الفتح (5/ 273): المؤونة: أي العمل في البساتين من سقيها، والقيام عليها. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحرث والمزارعة - باب إذا قال اكفني مؤونة النخل - رقم الحديث (2325) - وأخرجه في كتاب مناقب الأنصار - باب إخاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار - رقم الحديث (3782). (¬4) انظر فتح الباري (7/ 487). (¬5) الأَثرَةُ: بفتح الهمزة هي الإنفِرَادُ بالشَّيْءِ. انظر النهاية (1/ 26). قال الحافظ في الفتح (5/ 325): أشارَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلِكَ إلى ما وَقَعَ من استِئْثَارِ المُلُوك من قريش عن الأنصَارِ بالأموَالِ والتَّفْضِيلِ في العَطَاءَ وغير ذلك، فهو مِنْ أعْلامِ نُبُوته -صلى اللَّه عليه وسلم-.

حتَّى تَلقوْنِي عَلَى الحَوْضِ" (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الجِزْيَةَ، والمُرَادُ بإِقْطَاعِهَا لِلْأَنْصَارِ تَخْصِيصُهُمْ بِمَا يَتَحَصَّلُ مِنْ جِزيَتِهِمْ وخَرَاجِهِمْ، لَا تَمْلِيكَ رَقَبَتِهَا؛ لِأَنَّ أرْضَ الصُّلْحِ لَا تُقْسَمُ وَلَا تُقْطَعُ (¬2). وفي هَذَا الحَدِيثِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْأَنْصَارِ لِتَوَقُّفِهِمْ عَنِ الاسْتِئْثَارِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا دُونَ المُهَاجِرِينَ (¬3). يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ (¬4) فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (¬5) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المساقاة - باب القطائع - رقم الحديث (2376) - وأخرجه في كتاب مناقب الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنصار: "اصبروا حتَّى تلقوني على الحوض"- رقم الحديث (3792) (3793) (3794). (¬2) انظر فتح الباري (6/ 404). (¬3) انظر فتح الباري (5/ 325). (¬4) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (8/ 69): ولا يجِدُون -أي الأنصار- في أنفُسِهم حَسَدًا للمهاجرين فيما فضَّلهم اللَّه به من المَنْزِلة والشَّرف، والتَّقدِيم في الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ. (¬5) الخَصَاصَةُ: أي الجُوع والضَّعْفُ، وأصلها الفَقْرُ والحَاجَةُ إلى الشيء. انظر النهاية (2/ 36). (¬6) سورة الحشرة آية (9).

قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: فَحَصَلُوا في الفَضْلِ عَلَى ثَلاثِ مَرَاتِبَ: 1 - إيثَارُهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ. 2 - مُوَاسَاتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ. 3 - والاسْتِئْثَارُ عَلَيْهِمْ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ: قَالَ تَعَالَى مَادِحًا لِلأَنْصَارِ، ومُبيِّنًا فَضْلَهُمْ، وشَرَفَهُمْ، وكَرَمَهُمْ، وعَدَمَ حَسَدِهِمْ، وإيثَارَهُمْ مَعَ الحَاجَةِ (¬2). وَلَمْ يَعْرِفْ تَارِيخُ البَشَرِيَّةِ كُلِّهِ حَادِثًا جَمَاعِيّا كحَادِثِ اسْتِقْبَالِ الأَنْصَارِ للمُهَاجِرِينَ. . . بِهَذَا الحُبِّ الكَرِيمِ، وبهَذَا البَذْلِ السَّخِيِّ، وبهَذِهِ المُشَارَكَةِ الرَّضِيَّةِ، وبِهَذَا التَّسَابُقِ إِلَى الإيوَاءِ واحْتِمَالِ الأعْبَاءِ. . . لَوْلَا أَنَّهَا وقَعَتْ بِالفِعْلِ، لَحَسِبَهَا النَّاسُ أحْلَامًا طَائِرَةً، ورُؤًى مُجْنَحَة، ومُثُلًا عُلْيَا، قَدْ صَاغَهَا خَيَالٌ مُحَلِّقٌ (¬3). وأخرج الإِمَامُ أحمَدُ في مُسْنَدِهِ وأَبُو دَاودُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قال: قَالَ المُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ، وَلَا أحْسَنَ مُوَاسَاةً في قَلِيلٍ، قَدْ كَفَوْنَا ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 325). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (8/ 68). (¬3) انظر في ظلال القرآن (8/ 3526).

* آيات وأحاديث في فضل الأنصار

المُؤْنَةَ، وأشْرَكُونَا في المَهْنأِ (¬1)، فَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بالأجْرِ كُلِّهِ. قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَلَّا". وفي رِوَايَةٍ قَالَ: "لا، مَا أثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ بِهِ، ودَعَوْتُمُ اللَّه لَهُمْ" (¬2). * آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ في فَضْلِ الأَنْصَارِ (¬3): قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رِضَاهُ عَنِ السَّابِقِينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بإِحْسَانٍ، ورِضَاهُمْ عَنْهُ بِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، والنَّعِيمِ المُقِيمِ. . . فَيَا وَيْلَ مَنْ أبْغَضَهُمْ أَوْ سَبَّهُمْ، أَوْ أبْغَضَ أَوْ سَبَّ بَعْضَهُمْ، ولَا سِيَّمَا سَيِّدُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخَيْرُهُمْ وأفْضَلُهُمْ، أعْنِي الصِّدِّيقَ الأَكْبَرَ والخَلِيفَةَ الأَعْظَمَ أبَا بَكْرِ بنِ أَبِي قُحَافَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّ الطَّائِفَةَ المَخْذُولة مِنَ الرَّافِضَةِ يُعَادُونَ أفْضَلَ الصَّحَابَةِ ¬

_ (¬1) المَهْنَأُ: كل أمْرٍ يأتِيك من غير تَعَبٍ فهو هَنِيءٌ. انظر النهاية (5/ 239). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13075) - (13122) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب في شكر المعروف - رقم الحديث (4812). (¬3) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 217): قد ثبت لِجميع مَنْ أسلم من أهل المدينة، وهم الْأَنصار الشَّرف والرِّفْعَةُ في الدنيا والآخرة. (¬4) سورة التوبة آية (100).

* أما الأحاديث التي وردت في فضل الأنصار فكثيرة جدا

ويبغِضُونَهُمْ ويَسُبُّونَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُقُولَهُمْ مَعْكُوسَةٌ، وقُلُوبَهُمْ مَنْكُوسَةٌ، فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الإيمَانِ بِالقُرْآنِ، إِذْ يَسُبُّونَ مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؟ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ يَترَضَّوْنَ عَمَّنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ويَسُبُّونَ مَنْ سَبَّهُ اللَّهُ ورَسُوله، ويُوَالُونَ مَنْ يُوَالِي اللَّه، ويُعَادُونَ مَنْ يُعَادِي اللَّه، وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُونَ، ويَقْتَدُونَ وَلَا يَبْتَدُونَ، وَلِهَذَا هُمْ حِزْبُ اللَّهِ المُفْلِحُونَ وَعِبَادُهُ المُؤْمِنُونَ (¬1). وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2) * أَمَّا الأَحَادِيثُ التِي وَرَدَتْ في فَضْلِ الأَنْصَارِ فكَثِيرَةٌ جِدًّا: رَوَى الشَّيْخَان في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آيَةُ (¬3) الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وآيَةُ النَفَّاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 203). (¬2) سورة التوبة آية (117). (¬3) الآية: العَلامَةُ. انظر النهاية (1/ 88). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب علامة الإيمان حب الأنصار - رقم الحديث (17) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان- باب الدليل على أن حب الأنصار وعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ من الإيمان - رقم الحديث (74).

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ البَرَاءِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أحَبَّهُمْ أحَبَّهُ اللَّهُ، ومَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ" (¬1). ورَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا يُبغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ" (¬2). وفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُبغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. أَوْ: إِلَّا أبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسولُهُ" (¬3). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: ومَعْنَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَرْتَبَةَ الأَنْصَارِ، ومَا كَانَ مِنْهُمْ في نُصْرَةِ دِينِ الإِسْلَامِ، وَالسَّعْيِ في إظْهَارِهِ، وإيوَاءِ المُسْلِمِينَ وقِيَامِهِمْ في مَهَمَّاتِ دِينِ الإِسْلَامِ حَقَّ القِيَامِ، وحُبِّهِمُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وحُبِّهِ إيَّاهُمْ، وبَذْلِهِمْ أمْوَالَهُمْ وأنْفُسَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وقِتَالهِمْ ومُعَادَاتِهِمْ سَائِرَ النَّاسِ إيثَارًا لِلْإِسْلَامِ، ثُمَّ أحَبَّهُمْ لِهَذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ صِحَّةِ إيمَانِهِ وصِدْقِهِ في إِسْلَامِهِ؛ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب حب الأنصار من الإيمان - رقم الحديث (3783) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدليل على أن حب الأنصار وعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ من الإيمان - رقم الحديث (75). (¬2) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدليل على أن حب الأنصار وعليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ من الإيمان - رقم الحديث (76). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2818).

لِسُرُورِهِ بِظُهُورِ الإِسْلَامِ، والقِيَامِ بِمَا يُرْضِي اللَّه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ورَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَنْ أبْغَضَهُمْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى نِفَاقِهِ، وفَسَادِ سَرِيرَتِهِ (¬1). ورَوى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيرَة -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ (¬2)، ولَوْ سلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وسلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا؛ لَسَلَكْتُ وَادِي الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ" (¬3). قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: مَا ظَلَمَ بِأَبِي وأُمِّي، لَقَدْ آوَوْهُ ونَصَرُوهُ (¬4). ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (55/ 2). (¬2) قال الإِمام الخطابي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (374/ 8): أراد رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا الكلام تَأَلُّفَ الْأَنصار، واسْتِطَابَةَ نُفُوسهم والثَّنَاء عليهم في دِينِهم حتَّى رَضِيَ أن يكون وَاحِدًا منهم، لولا ما يَمْنَعُهُ من الهجرة التي لا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا. . . ولا شَكَّ أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُرِدِ الانتقال عن نَسَبِ آبائه؛ لأنه مُمْتَنِعٌ قَطْعًا، . . . كيفَ وأنه أفضَلُ منهم نَسَبًا وأكرمُهُم أصلًا. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 486): أراد -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك حُسْنَ موافقتِهِمْ أنَّه لما شَاهَدَهُ من حُسْنِ الجِوَارِ والوَفَاء بالعَهْدِ، وليس المرادُ أنَّه يَصِيرَ تَابعًا لهم، بل هو المَتْبُوعُ المُطَاعُ المُفْتَرَضُ الطاعَةِ على كل مؤمن. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْلا الهِجْرَة لكنتُ امْرأً من الْأَنصار" - رقم الحديث (3779) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4330) - وأخرجه في كتاب التمني - باب ما يجوز من اللو - رقم الحديث (7244).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المِنْبَرَ، وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ اليَوْمِ (¬1)، فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِالأنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرْشِي (¬2) وعَيْبَتِي (¬3)، وَقَدْ قَضَوا الذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الذِي لَهُمْ (¬4)، فاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ" (¬5). ورَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فكَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ: "والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكُمْ أحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ". مَرَّتَيْنِ (¬6). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 499): تبيَّن مِنْ حديث أنس أن ذلك كان في مَرَضِ موته -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 498): أي بِطَانَتِي وخَاصَّتِي الذين أثِقُ بهم وأعْتَمِدُهُمْ في أمُورِي. (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (16/ 57): العَيْبَةُ: وِعَاءٌ معروفٌ يَحْفَظُ الإنسانُ فيها ثِيَابَهُ وفاخِرَ مَتَاعِهِ، ويَصُونُهَا، ضَرَبَهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- مثلًا لأنهم أهلُ سِرِّهِ وخَفِيِّ أحْوَالِهِ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 498): يُشير -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ما وقع لهم ليلَةَ العقبة من المُبَايعة، فإنهم بايعوا على أن يُؤْوُوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وينصُرُوه على أَنَّ لهم الجنة، فَوَفَوْا بذلك. (¬5) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (16/ 57): والمرادُ بذلك فيما سِوَى الحُدُودِ. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقبَلوا من مُحْسِنِهِمْ، وتَجَاوَزُا عن مُسِيئِهم" - رقم الحديث (3799) - (3801) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأنصار - رقم الحديث (2510). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنصار: "أنتُم أَحَبُّ الناسِ إليّ" - رقم الحديث (3786) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأنصار - رقم الحديث (2509).

وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في الصَّحِيحَيْنِ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: رَأَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مِنَ الأَنْصَارِ مُقْبِلِينَ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُمْثِلًا (¬1) فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ" قَالَهَا ثَلَاثًا مِرَارًا (¬2). وأخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا ضَرَّ امْرَأة نَزَلَتْ بَيْنَ بَيْتَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ" (¬3). وأخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: -وَهُوَ يُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وهَذَا الكَلَامُ قَالَهُ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا طُعِنَ-: . . . وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا، الذِينَ تَبوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (16/ 56): مُمْثِلًا: هو بضم الميم الأولى وإسكان الثانية وكسر الثاء: أي مُنتصِبًا قَائمًا- وانظر النهاية (4/ 251). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنصار: "أنتم أحَبُّ الناسِ إليّ" - رقم الحديث (3785). وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأنصار - رقم الحديث (2508). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن تَحَنُّنَ الأنصار على المسلمين وأولادِهِم كتَحَنُّنِ الوَالِدِ على وَلَدِهِ - رقم الحديث (7267). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قِصَّة البيعة - رقم الحديث (3700).

وأخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ قَوِي عَنِ الحَارِثِ بنِ زِيَادٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُحِبُّ الأَنْصَارَ رَجُلٌ حَتَّى يَلْقَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا لَقِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يُحِبُّهُ، وَلَا يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ حَتَّى يَلْقَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا لَقِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ يُبْغِضُهُ" (¬1). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ مَاجَه في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أنسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ أَنْ يَلِيَهُ المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ في الصَّلَاةِ (¬2). وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ زَيْدِ بنِ أرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ، وَلِأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ" (¬3). وفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وأبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وأبْنَاءَ أبْنَاءَ الأَنْصَارِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2637). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11963) - وابن ماجه في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب من يُستحبُّ أن يَلِيَ الإِمام - رقم الحديث (977). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب وللَّه خزائن السموات والأرض - رقم الحديث (4906) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأنصار - رقم الحديث (2506). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11730).

ثالثا: كتابة الصحيفة

ثَالِثًا: كِتَابَةُ الصَّحِيفَةِ أَمَّا العَمَلُ الثَّالِثُ الذِي قَامَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَدِينَةِ فَهُوَ: كِتَابَةُ الصَّحِيفَةِ. أخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كتَبَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى كُلِّ بَطْنٍ (¬1) عُقُولَهُ (¬2). وأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ - لَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ الذِي قَبْلَهُ - عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتَبَ كِتَابًا بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، عَلَى أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ، وَيَفْدُوا عَانِيَهُمْ (¬3) بِالمَعْرُوفِ، وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (¬4). ¬

_ (¬1) البَطْنُ: هو ما دُونَ القَبِيلة وفَوْقَ الفَخِذِ، أي كتَبَ عليهم ما تَغْرَمُهُ العاقِلَة من الدِّيَاتِ، فبيَّن ما على كل قوم منها، ويُجمع على أبْطُنٍ وبُطُونٍ. انظر النهاية (1/ 137). (¬2) العُقُولُ: هي الدِّيَاتُ، واحِدُهَا عَقْلٌ، وأصلهُ. أن القاتِلَ كان إذا قتَل قَتيلًا جَمَعَ الدية من الإبل فَعَقَلَهَا بفَنَاء أوليَاءِ المَقْتُولِ: أي شدَّها في عُقُلِها ليُسْلِمَهَا إليهم ويَقْبِضوهَا منه، فسُمِّيت الدِّيَةُ عَقْلًا بالمَصْدَرِ. انظر النهاية (3/ 252). والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب العتق - باب تحرِيمِ تَوَلِّي العِتْيِق غير مَوَاليه - رقم الحديث (1507) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2851). (¬3) العَانِي: الأسِيرُ، وكل مَن ذَلّ واسْتَكَانَ وخَضَعَ فقد عَنَا يَعْنُو، وهو عَانٍ، والمرأةُ عَانيَةٌ، وجمعها: عَوَانٍ. انظر النهاية (3/ 284). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6904).

أ - بنود الصحيفة المتعلقة بالمسلمين

أ - بُنُودُ الصَّحِيفَةِ المُتَعَلّقَةِ بِالمُسْلِمِينَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَيْنَ المُؤْمِنِينَ والمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْمَدِينَةِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ: 1 - أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ. 2 - المُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبَاعَتِهِمْ يتعَاقَلُونَ (¬1) بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بالمَعْرُوفِ، وَالقِسْطِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ (¬2) مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الأُولَى. 3 - أَنَّ المُؤْمِنِينَ لَا يترُكُونَ مُفْرَحًا (¬3) بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالمَعْرُوفِ في فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ. 4 - أَنَّ المُؤْمِنِينَ المُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ (¬4) ظُلْمٍ، ¬

_ (¬1) على رِبَاعَتِهِمْ يتعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ: أي على شأنِهِم وعَادَاتهم من أحكامِ الدِّيات والدِّمَاء التي كانت في الجاهلية، يُؤدُّونها كما كانوا يُؤدُّونها في الجاهلية. انظر لسان العرب (5/ 119) - النهاية (2/ 174). (¬2) أي كل فخذ من الأنصار. (¬3) قال ابن هشام في السيرة (2/ 116): المُفْرَح: المُثْقَل بالدَّين والكثير العِيَال. (¬4) الدَّسْعُ: الدَّفْعُ. انظر النهاية (2/ 109)، والدَّسِيعَةُ: أي العَطِية. انظر النهاية (2/ 109)، ومعنى ابتغى دَسِيعةَ ظُلم: أي طَلَبَ دَفْعًا على سبيل الظلم، فأضافه إليه، وهي إضافة بمعنى من، ويجوز أن يُراد بالدَّسيعة العَطِيَّة، أي ابتغى منهم أن يدفعوا إليه عَطية على وجهِ ظُلمهم: أي كونهم مَظْلُومين أو أضافها إلى ظلمة؛ لأنه سبب دفعهم لها. انظر النهاية (2/ 110).

أَوْ إِثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أحَدِهِمْ. 5 - أَنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ (¬1) عَلَى المُسْلِمِينَ أدْنَاهُمْ (¬2). 6 - المُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ. 7 - مَنْ تَبعَ المُؤْمِنِينَ مِنْ يَهُودٍ، فَإِنَّهُ له النَّصْرُ والأُسْوَةُ، غَيْرَ مَظْلُومِينَ ولَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ. 8 - أَنَّ المُؤْمِنِينَ يُبِئ (¬3) بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ في سَبِيلِ اللَّهِ. 9 - مَنِ اعْتَبَطَ (¬4) مُؤْمِنًا قتلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ، إِلَّا أَنْ يَرْضى وليُّ المَقْتُولِ. ¬

_ (¬1) يُجِير عليهم أدْنَاهُم: أي إذا أجَار واحد من المسلمين -حُرٌّ أو عبدٌ أو أمة- واحدًا أو جَمَاعَةً من الكفار، وخَفَرَهُم وأمَّنهم جاز ذلك على جميعِ المسلمين، لا يُنْقَضُ عليه جِواره وأمانُه. انظر النهاية (1/ 301). (¬2) هذا الحديث أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8780) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1244) وإسناده حسن. (¬3) البَوَاءُ: السَّوَاء، وفلان بَوَاء فلان: أي كُفْؤُهُ إن قُتِل به. انظر لسان العرب (1/ 530). (¬4) من اعتَبَطَ مُؤمنًا قتلًا فإنه قَوَدٌ به: أي قتله بلا جِنَاية كانت منه ولا جَرِيرَة تُوجبُ قتله، فإن القاتل يُقاد به ويُقتل. انظر النهاية (3/ 156). والقَوَد: القِصَاص. انظر النهاية (4/ 104).

ب - بنود الصحيفة المتعلقة بالمشركين

10 - أَنَّ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ. ب - بُنُودُ الصَّحِيفَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالمُشْرِكِينَ: 1 - لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ، وَلَا نَفْسًا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ. 2 - لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا. 3 - لِقُرَيْشٍ وَحُلفائِهَا حَقُّ الصُّلْحِ إِذَا طَلَبُوهُ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ مِنْهُمُ الإِسْلَامَ. قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُلاحَظُ أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هَذِهِ المُعَاهَدَةِ أشَارَ إلى العَدَاوَةِ القَائِمَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ ومُشْرِكِي مَكَّةَ، وأعْلَنَ رَفْضَهُ الحَاسِمَ لِمُوَالَاتِهِمْ، وحَرَّمَ إسْدَاءَ أيِّ عَوْنٍ لَهُمْ، وَهَلْ يُنتظَرُ إِلَّا هَذَا المَوْقِفُ مِنْ قَوْمٍ لَا تَزَالُ جُرُوحُهُمْ تَقْطُرُ دَمًا لِبَغْي قُرَيْشٍ، وَأَحْلَافِهَا عَلَيْهِمْ؟ (¬1). ج- بُنُودُ الصَّحِيفَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِاليَهُودِ (¬2): 1 - يُنْفِقُ اليَهُودُ مَعَ المُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ. ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة ص 185. (¬2) قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة ص 153: إِنَّ هذِهِ الوثيقَة تدُلُّ على مدى العَدَالَةِ التي اتَّسَمَتْ بها مُعاملة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لليهود، ولقد كان بالإمكان أن تُؤْتي هذه المسألة العَادِلَة ثِمارها فيما بين المسلمين واليهود، لو لم تَتَغَلَّبْ على اليهود طبيعتهم من حُبٍّ للمَكر، والغَدْرِ، والخَدِيعَة، فما هي إلا فترةٌ وجيزةٌ حتى ضَاقُوا ذَرْعًا بما تضمَّنَتْه بنُودُ هذه الوثيقَةِ التي التزمُوا بها، فخرجوا على الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- والمسلمين بألوانٍ من الغَدْرِ والخِيَانَةِ كما سنفصِّل ذلك، فكان المسلمون بذلك في حِلٍّ بما التزموا به تِجَاهَهُم.

د- بنود الصحيفة المتعلقة بالقواعد العامة

2 - يَهُودُ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ المُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ، وَللْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وأنْفُسُهُمْ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُهْلِكُ إِلَّا نَفْسَهُ، وَأَهْلَ بَيْتهِ. 3 - لِبَقِيَّهِ اليَهُودِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَبَنِي الحَارِثِ، وَبَنِي سَاعِدَةَ، وَبَنِي جُشَمٍ، وَبَنِي الأَوْسِ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ، وَجَفْنَةَ، وَبَنِي الشُّطَيبَةِ، مِثْلُ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وأَنَّ بِطَانَةَ يَهُودٍ كَأَنْفُسِهِمْ. 4 - لَا يَخْرُجُ مِنْ يَهُودٍ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 5 - عَلَى اليَهُودِ نَفَقَتُهُمْ، وَعَلَى المُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ والنَّصِيحَةَ، وَالبِرَّ دُونَ الإِثْمِ (¬1). د- بُنُودُ الصَّحِيفَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقَوَاعِدِ العَامَّةِ: 1 - المَدِينَةُ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الجَارَ كَالنَّفْسِ، غَيْرُ مُضَارٍّ (¬2)، وَلَا آثِمٍ، وإنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإذْنِ أَهْلِهَا. 2 - مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ (¬3) أَوِ اشْتِجَارٍ (¬4) يُخَافُ ¬

_ (¬1) قال السهيلي في الروض الأنف (2/ 350): أي إن البِرَّ والوفَاء ينبغي أن يكون حَاجزًا عن الإثم. (¬2) يُقالُ: ضَارَرْتُ الرجل ضِرَارًا ومُضَارَّة: إذا خَالفتُهُ. انظر لسان العرب (8/ 47). (¬3) الحَدَثُ: الأمر الحَادِثُ المُنْكَرُ الذي ليس بِمُعْتَاب ولا معروف. انظر النهاية (1/ 338). (¬4) الاشْتِجَارُ: الاختِلاف. انظر النهاية (2/ 399).

فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - أَنَّ بَيْنَهُمْ -أيْ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ- النَّصْرُ عَلَى مَنْ دَهَمَ (¬1) الْمَدِينَةَ. 4 - مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالمَدِينَةِ، إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ، وَإِنَّ اللَّه جَارٌ لِمَنْ بَرَّ وَاتَّقَى، ومُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). بِهَذِهِ الحِكْمَةِ، وبِهَذِهِ الحَذَاقَةِ (¬3) أرْسَى رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوَاعِدَ مُجْتَمَعٍ جَدِيدٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الظَّاهِرَةُ أَثَرًا لِلْمَعَانِي التِي كَانَ يَتَمَتَّعُ بِهَا أُولَئِكَ الأَمْجَادُ بِفَضْلِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَعَهَّدُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ، والتَّرْبِيَةِ وتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، والحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، ويُؤَدِّبُهُمْ بِآدَابِ الوُدِّ والإِخَاءَ والمَجْدِ والشَّرَفِ والعِبَادَةِ والطَّاعَةِ. . . وبِجَانِبِ هَذَا كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحُثُّ حَثًّا شَدِيدًا عَلَى الِاسْتِعْفَافِ عَنِ المَسْأَلَةِ، ويَذْكُرُ فَضَائِلَ الصَّبْرِ والقَنَاعَةِ، وَكَانَ يَعُدُّ المَسْأَلَةَ كُدُوحًا (¬4) أَوْ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا في وَجْهِ السَّائِلِ (¬5)، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ مُضْطَرًّا، كَمَا كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحَدِّثُ لَهُمُ بِمَا في ¬

_ (¬1) دَهَمَهُمْ أمْرٌ: إذا غَشِيَهُمْ. انظر لسان العرب (4/ 431). (¬2) انظر تفاصيل هذه الصحيفة في: سيرة ابن هشام (2/ 115) - البداية والنهاية (3/ 238) - الرَّوْض الأُنُف (2/ 350) - سبل الهدى والرشاد (3/ 382). (¬3) الحَذَاقَةُ: المَهَارَة في كل عمل. انظر لسان العرب (3/ 94). (¬4) الكُدُوحُ: الخُدُوشُ، وكل أثَرٍ من خَدْشٍ أو عَضٍّ فهو كَدْح. انظر النهاية (4/ 135). (¬5) أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح على شرط الشيخين - رقم الحديث (5680) - عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "المسألةُ كُدُوحٌ في وجهِ صاحبها يوم القيامة". =

العِبَادَاتِ مِنَ الفَضَائِلِ، والأَجْرِ وَالثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ، وكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْبِطُهُمْ بِالوَحْيِ النَّازِلِ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ رَبْطًا مُوثَقًا يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ، وَيَقْرَؤُونَهُ، لِتَكُونَ هَذِهِ الدِّرَاسَةُ إِشْعَارًا بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُقُوقِ الدَّعْوَةِ، وتَبِعَاتِ الرِّسَالَةِ، فَضْلًا عَنْ ضَرُورَةِ الفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ. وهَكَذَا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعْنَوِيَّاتِ ومَوَاهِبَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وزَوَّدَهُمْ بِأعْلَى القِيَمِ والأَقْدَارِ والمُثُلِ، حَتَّى صَارُوا صُورَةً لِأَعْلَى قِمَّةٍ مِنَ الكَمَالِ عُرِفَتْ في تَارِيخِ البَشَرِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الرَّسُولَ القَائِدَ الأَعْظَمَ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَتَمَتَّعُ مِنَ الصِّفَاتِ المَعْنَوِيَّةِ والظَّاهِرَةِ، ومِنَ الكَمَالَاتِ والمَوَاهِبِ والأَمْجَادِ والفَضَائِلِ ومَكَارِمِ الأَخْلَاقِ ومَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، بِمَا جَعَلَتْهُ تَهْوِي إِلَيْهِ الأَفْئِدَةُ، وتَتَفَانَى عَلَيْهِ النُّفُوسُ، فَمَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا ويبادِرُ صَحَابَتُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- إلى امْتِثَالِهِ، ومَا يَأْتِي بِرُشْدٍ وتَوْجِيهٍ إِلَّا ويَتَسَابَقُونَ إلى التَّحَلِّي بِهِ. بِمِثْلِ هَذَا اسْتَطَاعَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبْنِيَ في المَدِينَةِ مُجْتَمَعًا جَدِيدًا، أرْوَعَ وأشْرَفَ مُجْتَمَعٍ عَرَفَهُ التَّارِيخُ، وَأَنْ يَضَعَ لِمَشَاكِلِ هَذَا المُجْتَمَعِ حَلًّا تَتَنَفَّسُ لَهُ ¬

_ = وأخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1474) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1040) (104) عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما يزَالُ الرجُل يسألُ الناس، حتى يأتِي يوم القيامة، ليس في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ". مُزْعَةٌ: بضم الميم أي قِطْعَة. انظر النهاية (4/ 277).

الإِنْسَانِيَّةُ الصُّعَدَاءَ (¬1) , بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَعِبَتْ في غَيَاهِبِ الزَّمَانِ ودَيَاجِيرِ (¬2) الظُّلُمَاتِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ: النَّفَسُ إلى فَوْقٍ مَمْدُود، وقيل هو النَّفَسُ بِتَوَجُّع. انظر لسان العرب (7/ 343). (¬2) الدَّيَاجِيرُ: جمع دُيْجُورٍ، وهو الظَّلام. انظر لسان العرب (4/ 293). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص 88

مشروعية الأذان

مَشْرُوعِيَّةُ الأَذَانِ (¬1) الأَذَانُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ (¬2) الإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، ولَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِهِ كَانَ لِلسُّلْطَانِ قِتَالُهُمْ عَلَيْهِ، وَأَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى هَذَا مَا أخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا -واللَّفْظُ لِمُسْلِم- عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُغِيرُ (¬3) إذا طَلَعَ الفَجْرُ، وَكَانَ يَسْتَمعُ الأَذَانَ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أمْسَكَ، وإلَّا أغَارَ (¬4). ¬

_ (¬1) الأَذَانُ: لغة الإعلام. انظر لسان العرب (1/ 105)، قال اللَّه تَعَالَى في سورة التوبة آية (3): ) {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}. وشَرْعًا: هو الإعلامُ بِوَقت الصلاة بألفاظ مَخْصُوصَةٍ. انظر النهاية (1/ 37). قال الإمام القُرطبي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (2/ 277): الأذانُ على قِلَّةِ ألفَاظِهِ مُشْتَمِلٌ على مسائل العقيدة؛ لأنه بَدَأ بالأكبَرِيَّة وهي تتضمن وُجُودَ اللَّه وكماله، ثم ثَنَّى بالتوحيد ونَفْي الشريك، ثم بإثباتِ الرِّسالة لمحمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم دَعَا إلى الطاعةِ المَخْصُوصَةِ عقب الشهادَةِ بالرسالة؛ لأنها لا تعرف إلا من وجهةِ الرسول، ثم دعا إلى الفلاحِ وهو البَقَاءُ الدائم، وفيه الإشارة إلى المَعَادِ، ثم أعادَ ما أعَادَ تَوْكِيدًا. (¬2) الشَّعَائِرُ: جمعُ شَعِيرَةٍ، وهي المَعَالِمُ التي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا، وأمَر بالقيام عليها. انظر النهاية (2/ 429). (¬3) يُقال: أغَارَ يُغِيرُ إذا أسْرَعَ في العَدْوِ. انظر النهاية (3/ 353). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب دعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الناس إلى الإِسلام - رقم الحديث (2943) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب =

* متى شرع الأذان؟

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفي هَذَا الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَذَانَ يَمْنَعُ الإِغَارَةَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ المَوْضعِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إسْلَامِهِمْ (¬1). * مَتَى شُرعَ الأذانُ؟ شُرعَ الأَذَانُ في السَّنَةِ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ (¬2)، فَقَدْ أخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ المُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ (¬3) الصَّلَاةَ لَيْسَ يُنَادَى لَهَا، فتَكَلَّمُوا يَوْمًا في ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ، اتَّخِذُوا نَاقُوسًا (¬4) مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ بُوقًا (¬5) مِثْلَ بُوقِ اليَهُودِ (¬6). وفي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بنِ أنسٍ عَنْ ¬

_ = الإمساك عن الإغَارَةِ على قَوْمٍ في دَارِ الكُفْرِ إذا سُمع فيهم الأذان - رقم الحديث (382). (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 73). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 278): الراجِحُ أن ذلك كان في السنة الأولى للهجرة. (¬3) يَتَحَيَّنونَ: أي يَقْدِرُونَ أحْيانًا لِيَأْتُوا إليها، والحِينُ الوقت والزمان. انظر النهاية (1/ 451) - فتح الباري (2/ 281). (¬4) النَّاقُوسُ: هي خَشَبة طويلة تُضْرَبُ بخَشَبَةٍ أصْغَرَ منها، والنصارى يُعْلِمُون بها أوقاتَ صَلاتهم. انظر النهاية (5/ 92). (¬5) البُوقُ: هو الذي يُنْفَخُ فيه. انظر لسان العرب (1/ 540). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب بدء الأذان - رقم الحديث (604). ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب بدء الأذان - رقم الحديث (377).

* رؤيا عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-

عُمُومَتِهِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا: اهْتَمَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلصَّلَاةِ، كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا؟ فَقِيلَ لَهُ: انْصُبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ (¬1). * رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-: بَيْنَمَا أنْتا نَائِمٌ، إِذْ طَافَ بِي مِنَ اللَّيْلِ طَائِفٌ، وَاَنا نَائِمٌ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أخْضَرَانِ، وَفي يَدهِ نَاقُوسٌ يَحْمِلهُ، فَقُلْتُ: يَا عبد اللَّهِ، أتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: أدْعُو بِهِ إلى الصَّلَاةِ. قَالَ: أفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، أشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه، أشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، حَيَّ عَلَى الصَّلَاة، حَيَّ عَلَى الصَّلَاة، حَيَّ عَلَى الفَلَاح، حَيَّ عَلَى الفَلَاح، اللَّهُ أكْبَرْ، اللَّهُ أكْبَرْ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه. ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: تَقُولُ إِذَا أقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللَّهُ أكبَرْ، اللَّهُ أكبَرْ، أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، أشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، حَيَّ عَلَى الصَّلَاة، حَيَّ عَلَى الفَلَاح، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاة، اللَّهُ أكبَرُ، اللَّهُ أكبَرْ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب بدء الأذان - رقم الحديث (498) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (3353). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 287): قيل الحكمةُ في تَثْنِيَةِ الأذَانِ وإفرادِ الإقامة أن الأذان =

* كم مؤذنا للرسول -صلى الله عليه وسلم-؟

قَالَ: فَلَمَّا أصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قُمْ فَأَلْقِ عَلَى بِلَالٍ (¬1) مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ، فَإِنَّهُ أنْدَى (¬2) صَوْتًا مِنْكَ". فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ، فَجَعَلْتُ أُلْقِي عَلَيْهِ ويُؤَذِّنُ بِذَلِكَ، فَسَمِعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وهُوَ في بَيْتِهِ، فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلِلَّهِ الحَمْدُ" (¬3). * كَمْ مُؤَذِّنًا لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ وكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ: بِلَالُ بنُ رَبَاحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أُمِّ ¬

_ = لإِعلامِ الغَائِبِين فيُكَرَّرُ؛ ليكون أوْصَلَ إليهم، بِخِلافِ الإقامَةِ فإنها للحَاضِرِينَ، ومِنْ ثَمَّ استُحِبَّ أن يكون الأذان في مكان عَالٍ بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرْفَعَ منه في الإقامة، وأن يكون مُرَتَّلًا والإقامة مُسْرعةً، وكَرَّرَ "قدْ قامَتِ الصلاة"؛ لأنها المَقْصُودَة من الإقامة بالذاتِ. (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (4/ 67): أما السَّبب في تَخْصِيصِ بلال -رضي اللَّه عنه- بالنِّداء والإعلام؛ لأنه أنْدَى صوتًا، فيؤُخَذُ منه استِحْبَابُ كونِ المؤذن رَفِيعَ الصَّوت وحَسَنه، وهذا متفقٌ عليه، قال أصحابنا: فلو وَجَدْنَا مُؤَذِّنًا حسنَ الصوت يطلب على أذَانِهِ رِزْقًا، وآخرُ يتبرَّعُ بالأذانِ لكِنَه غير حسَنِ الصَّوْتِ، فأيهما يؤخَذُ؟ فيه وجهانِ: أصحُّهما يُرْزَقُ حسَنُ الصَّوْتِ. (¬2) أنْدَى: أي أرْفَع وأعْلَى، وقيل: أحسَنُ وأعْذَب. انظر النهاية (5/ 32). (¬3) أخرج حديث عبد اللَّه بن زيد في رؤياه للأذان: ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1679) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16477) (16478) - وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب كيف الأذان - رقم الحديث (499) وإسناده حسن.

مَكْتُومٍ، وأَبُو مَحْذُورَةَ (¬1)، وسَعْدُ القَرَظُ (¬2) رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. أخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُؤَذِّنانِ: بِلَالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى (¬3). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُؤَذِّنَانِ، يَعْنِي بِالمَدِينَةِ، وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مُؤَذِّنًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، وسَعْدُ القَرَظُ أَذَّنَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُبَاءَ (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْتُ في نَفَرٍ، فكنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ حُنَيْنٍ، فَقَفَلَ (¬5) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حُنَيْنٍ، فَلَقِيَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالصَّلَاةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَمِعْنَا صَوْتَ المُؤَذِّنِ، ¬

_ (¬1) قال الإِمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 117): أبو مَحْذُورَةَ الجُمَحِيّ، مؤذِّن المسجد الحرام، وصاحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وكان -رضي اللَّه عنه- من أنْدَى الناس صَوتًا وأطْيَبِه. (¬2) هو سعدُ بن عَائِذٍ المؤذن، مَوْلى عمَّار بن ياسر -رضي اللَّه عنه- المعروف بِسَعْدِ القَرَظِ، وإنما قيل له ذلك؛ لأنه كان يَتَّجِرُ فيه، والقَرَظُ: هو وَرَقُ السَّلمِ -وهو نوع من الأشجار- ومَسَحَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسَهُ، وبَرّك عليه، وجعَلَه مؤذن مسجدِ كباء، وخَلِيفَةَ بلال إذا غابَ، ثم استخلفه بلال على الأذان بمسجد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خِلافة أبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لمَّا سار إن الشام، فلم يزَل الأذان في عَقِبِهِ. انظر أسد الغابة (2/ 299). (¬3) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد - رقم الحديث (380). (¬4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 71). (¬5) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 81).

* فضل الأذان

فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ، ونَسْتَهْزِئُ بِهِ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّوْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا إِلى أَنْ وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيُّكُمُ الذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ؟ "، فَأَشَارَ القَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ وَصَدَقُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ"، فَقُلْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَلْقَى إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ التَّأذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ. . . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِالتَّأذِينِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: "قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ". . . فَقَدِمْتُ عَلَى عَتَّابِ بنِ أَسِيدٍ، عَامِلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، فَأَذَّنْتُ مَعَهُ بِالصَّلَاةِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ورَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ عَنْ حَفْصِ بنِ عُمَرَ بنِ سَعْدِ القَرَظِ المُؤَذِّنِ، قَالَ: أَنَّ سَعْدًا كَانَ يُؤَذِّنُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأَهْلِ قُباءَ، حَتَّى انتقَلَ بِهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- في خِلَافَتِهِ، فَأَذَّنَ لَهُ بِالمَدِينَةِ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * فَضْلُ الأَذَانِ: جَاءَ في فَضْلِ الأَذَانِ أحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15380) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1680) - وأصله في صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب صفة الأذان - رقم الحديث (379). (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (6085).

* فوائد الحديث

أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ له: إنِّي أرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ في غَنَمِكَ -أَوْ بَادِيَتكَ- فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاء، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنّ وَلَا إِنْسٌ ولَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ له يَوْمَ القِيَامَةِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - اسْتِحْبَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالأَذَانِ لِيَكْثُرَ مَنْ يَشْهَدُ له مَا لَمْ يَجْهَدْهُ أَوْ يتأَذَى بِهِ. 2 - وَفِيهِ أَنَّ حُبَّ الغَنَمِ وَالبَادِيَةِ، وَلَاسِيَّمَا عِنْدَ نُزُولِ الفِتْنَةِ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ التَّبَدِّي، ومُسَاكَنَةِ الأَعْرَابِ، ومُشَارَكَتِهِمْ في الأَسْبَابِ بِشَرْطِ حَظٍ مِنَ العِلْمِ، وَأَمْنِ غَلَبَةِ الجَفَاءَ. 4 - وَفيهِ أَنَّ أذَانَ الفَذِّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ في قَفْرٍ (¬2)، وَلَوْ لَمْ يَرْتَجِ حُضُورَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ دُعَاءُ المُصَلِّينَ، فَلَمْ يَفُتْهُ اسْتِشْهَادُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب رفع الصوت بالنداء - رقم الحديث (609). (¬2) يقال: أقفرَ فُلان من أهْلِهِ إذا انْفَرَدَ، والمكانُ من سُكّانه إذا خَلا. انظر النهاية (4/ 79). (¬3) انظر فتح الباري (2/ 293).

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المُؤَذِّنُونَ أطْوَلُ النَّاسِ أعْنَاقًا يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬1). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالخَلَفُ في مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ أكْثَرُ النَّاسِ تَشَوُّفًا لِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ المُتَشَوِّفَ يُطِيلُ عُنقَهُ إِلَى مَا يَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ، فَمَعْنَاهُ كَثْرَةُ مَا يَرَوْنَهُ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيْل: إِذَا أَلْجَمَ النَّاسَ العَرَقُ يَوْمَ القِيَامَةِ طَالَتْ أعْنَاقُهُمْ لِئَلَّا يَنَالَهُمْ ذَلِكَ الكَرْبُ والعَرَقُ، وقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَادَةٌ، ورُؤَسَاءُ، والعَرَبُ تَصِفُ السَّادَةَ بِطُولِ العُنُقِ (¬2). وَقَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ: كَانَ المُؤَذِّنُونَ فِيمَا كَانُوا يُعَانُونَهُ مِنْ أَذَانِهِمْ في الدُّنْيَا، ورَفْعِ أصْوَاتهمْ بِهِ فَوْقَ مَا غَيْرَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَاتِ سِوَاهُ في مُعَانَاتِهِمْ إيَّاهُمْ كَانَتْ في الدُّنْيَا، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُوُنوا بِعُلُوِّ أصْوَاتِهِمْ في أذَانِهِمْ الذِي كَانُوا يُعَانُونَهُ في الدُّنْيَا، ومُدَاوَمَتِهِمْ عَلَيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وإِتْبَاعِهِمْ ذَلِكَ إِقَامَاتِ الصَّلَوَاتِ، واجْتِهَادِهِمْ في ذَلِكَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب فضل الأذان وهروب الشيطان عند سماعه - رقم الحديث (387) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1669). (¬2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 79).

بِأَصْوَاتِهِمْ، واسْتِعْلَائِهِمْ عَلَى الأَمْكِنَةِ التِي يَأْتُونَ بِالأَذَانِ فِيهَا مَعَ مَا في ذَلِكَ مِنَ المَشَقَّةِ التِي لَا خَفَاءَ بِهَا جَعَلُوا ذَلِكَ في طُولِ أعْنَاقِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إلى ثَوَابِهِمْ عَلَيْهِ فَوْقَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الأَعْمَالِ بِطَاعَاتِ اللَّهِ سِوَاهُ في انْتِظَارِ الثَّوَابِ له، والجَزَاءَ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَجِدْ في تَأْوِيلِ هَذَا الحَدِيثِ مِمَّا قَالَ النَّاسُ فِيهِ أحْسَنَ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ الذِي ذَكَرْنَاهُ فِيهِ، وَاللَّهُ أعْلَمُ بِمَا أرَادَهُ رَسُوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذَلِكَ (¬1). وأخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ (¬2) والصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتهموا (¬3) عَليْه، لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ" (¬4). قَالَ الإِمَامُ النَوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَعْنَى الحَدِيثِ: أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا فَضِيلَةَ الأذَانِ، وقَدْرَهَا، وعَظِيمَ جَزَائِهِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا يُحَصِّلُونَهُ بِهِ لِضِيقِ الوَقْتِ مِنْ أذَانٍ بَعْدَ أذَانٍ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُؤَذِّنُ لِلْمَسْجِدِ إِلَّا وَاحِدٌ لَاقْترَعُوا في تَحْصِيلِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر شرح مشكل الآثار (1/ 200). (¬2) قال النووي في شرح مسلم (4/ 132): النِّدَاءُ: هو الأذَانُ. (¬3) قال الإِمام البغوي في شرح السنة (2/ 230): الاسْتِهَامُ: الاقْتِرَاعُ، ومنه قوله تَعَالَى في سورة الصافات آية (141) عن يونس عليه السلام: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب الاستهام في الأذان - رقم الحديث (615) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها - رقم الحديث (437) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1659). (¬5) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 132).

وأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى (¬1) صَوْتِهِ، ويَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ" (¬2). وَقَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: ويذْكَرُ أَنَّ أقْوَامًا اخْتَلَفُوا في الأَذَانِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: أخْرَجَهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ، والبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ شُبرُمَةَ قَالَ: تَشَاحَّ (¬4) النَّاسُ في الأذَانِ بِالقَادِسِيَّةِ (¬5)، فاخْتَصَمُوا إلى سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، فأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ. وهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَقَدْ وصَلَهُ سَيْفُ بنُ عُمَرَ في الفُتُوحِ والطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ شُبْرُمَةَ عَنْ شَقِيق -وهُوَ أَبُو وَائِلٍ- قَالَ: افتتَحْنَا القَادِسِيَّةَ صَدْرَ النَّهَارِ، فترَاجَعْنَا وَقَدْ أُصِيبَ المُؤَذِّنُ، وهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُمِّ مَكْتُومٍ -رضي اللَّه عنه-، ¬

_ (¬1) المَدَى: الغَايَة: أي يَسْتَكْمِلُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ إذا اسْتَنْفَدَ وُسْعَهُ في رفعِ صوته، فيبلُغُ الغايَةَ في المَغْفِرَةِ إذا بلغ الغايَة في الصوت. انظر النهاية (4/ 265). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (9542) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1666). (¬3) علَّقَهُ البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب الاستِهَام في الأذان. (¬4) الشُّحُّ: أشَدُّ البُخْلِ. انظر النهاية (2/ 401). (¬5) أي في معركة القادِسِية، والقادسِيَّة مكانٌ بالعراق معروف، وكانت به وَقْعة للمسلمين مشهُورة مع الفُرْسِ، وذلك في خلافة عمر -رضي اللَّه عنه- سنة خمس عشرة للهجرة، وكان سَعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- قائدَ المسلمين في هذه المعركة، وقد انتصَرَ فيها المسلمون انْتِصَارًا بَاهِرًا.

فَذَكَرَهُ وزَادَ: فَخَرَجَتِ القُرْعَةُ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَذَّنَ (¬1). ورَوَى ابنُ مَاجَه في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أذَّنَ ثِنْتَي عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة، وَكُتِبَ لَهُ بِتَأْذِينِهِ في كُلِّ يَوْمٍ سِتُّونَ حَسَنَةً، ولِكُلِّ إقَامَةٍ ثَلَاثُونَ حَسَنةً" (¬2). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، والإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "الإِمَامُ ضَامِنٌ (¬3)، والمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ (¬4)، فَأَرْشَدَ اللَّهُ الأَئِمَّةَ، وغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ" (¬5). ورَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ وابْنُ أَبِي شَيبةَ في مُصَنَّفِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أُطِيقُ الأَذَانَ مَعَ الخِلَافَةِ لَأَذَّنْتُ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 302). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الأذان والسنة فيها - باب فضل الأذان وثواب المؤذنين - رقم الحديث (728). (¬3) ضَامِنٌ: أَرَادَ بالضَّمان هاهنا الحِفْظ والرِّعاية؛ لأنه يحفظ على القومِ صَلاتهم، وقيل: إن صلاة المُقْتَدِينَ به في عُهدته، وصِحَّتُها مقرونة بصحة صلاته، فهو كالمُتَكَفِّلِ لهم صحة صلاتهم. انظر النهاية (3/ 94). (¬4) مُؤْتَمَنٌ: أي الذي يثقُونَ إليه ويتخِذُونَهُ أمِينًا حَافظًا، يعني أن المؤذن أمينُ الناس على صلاتهم وصيامهم. انظر النهاية (1/ 72). (¬5) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1672) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7169). (¬6) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (5/ 444) - وابن أبي شيبة في مصنَّفه - رقم الحديث (2348) - وأورده الحافظ في الفتح (2/ 277) - وصحح إسناده.

* روايات ضعيفة وواهية

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، والنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَّ (¬1) صَوْتهِ، ويُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْب ويَابِسٍ" (¬2). * رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ وَوَاهِيَةٌ: قَالَ الْحَافِظُ في الفتْحِ: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ شُرعَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، مِنْهَا: 1 - لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ الأَذَانَ، فنَزَلَ بِهِ فَعَلَّمَهُ بِلَالًا، وَفِي إِسْنَادِهِ طَلْحَةُ بنُ زَيْدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. 2 - وَللدَّارَقُطْنِيِّ في الأَطْرَافِ مِنْ حَدِيثِ أنسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْأَذَانِ حِينَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. 3 - وَلِابْنِ مَرْدَوَيْه مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا: لَمَّا أُسْرِيَ بِي أَذَّنَ جِبْرِيلُ فَظَنَّتِ الْمَلَائِكَةُ أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ فَقَدَّمَنِي فَصَلَّيْتُ. وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. . . ثُمَّ سَاقَ الْحَافِظُ آثَارًا، فَقَالَ بَعْدَ إِيرَادِهَا: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ ¬

_ (¬1) المَدُّ: القَدْرُ، يريد به قَدْرَ الذُّنُوب، أي يغفر له ذلك إن مُنتهى مَدِّ صوته، وهو تمثيل لسَعَةِ المغفرة. انظر النهاية (4/ 263). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18506) - والنسائي في السنن الكبرى - باب الأذان - رقم الحديث (1622).

مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ حَاوَلَ السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ الأنفِ (¬1) الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فتَكَلَّفَ وَتَعَسَّفَ، وَالْأَخْذُ بِمَا صَحَّ أَوْلَى (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر الروض الأنف (2/ 356). (¬2) انظر فتح الباري (2/ 279).

إسلام عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-

إسْلامُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه- عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءَ اليَهُودِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ كَبَّرَ، وَكَانَ في رَأْسِ نَخْلَةٍ لِأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ (¬1) لَهُمْ، فَسَمِعَتْ تَكْبِيرَتُهُ عَمَّتُهُ خَالِدَةُ بِنْتُ الحَارِثِ، فَقَالَتْ لَهُ: خَيَبكَ اللَّهُ! وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ سَمِعْتَ بِمُوسَى بنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَادِمًا مَا زِدْتَ، قَالَ: أيْ عَمَّةُ! هُوَ وَاللَّهِ أخُو مُوسَى بنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَعَلَى دِينهِ، بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ، فَقَالَتْ: أي ابْنَ أَخِي! أهُوَ النَّبِيُّ الذِي كُنَّا نُخْبَرُ أنَّهُ يبعَثُ مَعَ نَفَسِ (¬2) السَّاعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ: فَذَاكَ إِذًا (¬3). ¬

_ (¬1) يَخْتَرِفُ: يَجْتَنِي من ثِمَارِ النَّخْلِ. انظر النهاية (2/ 24). (¬2) أخرج الترمذي في جامعه - كتاب الفتن - باب ما جاء في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعة كهَاتيْنِ" - رقم الحديث (2213) - وإسناده ضعيف - عن المُسْتَوْرد بن شَدَّاد الفِهْرِي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "بُعِثْتُ في نَفَسِ الساعة، فسَبَقْتُهَا كما سَبَقَتْ هذه هذه". لِأُصْبُعَيْهِ السبابة والوسطى. قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَفَسِ السَّاعة" أي بُعثْتُ وَقَدْ حان قيَامها، وقَرُب، إلا أن اللَّه تَعَالَى أخَرَّها قليلًا، فبَعَثَنِي في ذلك النفس، فأطلق النفس على القُرْب. وقيل معناه: أنه جعل للساعَةِ نَفَسًا كنَفَسِ الإنسان، أَرَادَ إني بُعِثْتُ في وقتٍ قريبٍ منها أُحِسُّ فيه بنَفَسِهَا، كما يُحس بنفس الإنسان إذا قَرُب منه، يعني بُعثتُ في وقت بانَتْ أشراطُهَا فيه وظهَرَت علامَاتُهَا. انظر النهاية (5/ 81). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 130) - البداية والنهاية (3/ 224).

أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ مَاجَه في السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ انْجَفَلَ (¬1) النَّاسُ عَلَيْهِ (¬2)، فكنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ (¬3)، فَكَانَ أوَّلُ شَيءً سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا أيُّهَا النَّاسُ أفْشُوا السَّلَامَ، وأطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ" (¬4). قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه-: فَأَتَيْتُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُلْتُ لَهُ: إنِّي سَائِلُكَ عَنْ ¬

_ (¬1) انْجَفَلَ: أي ذَهَبوا مُسْرِعِينَ نحوه. انظر النهاية (1/ 270). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 224): مقتضى هذا السِّياق يَقْتَضِي أنه سمع بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورآه أوَّل قدومه حين أناخَ بِقُبَاء في بني عمرو بن عوف، وجاء في رواية أنس -رضي اللَّه عنه- أنه اجتمع به حيثُ اناخَ عند دار أبي أيوب عند ارتحَالِهِ من قباء إلى دار بني النَّجَّارِ، فلعله رآه أول ما رآه بقُبَاء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار، واللَّه أعلم. (¬3) قال الشيخ محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة ص 199: إن أضواءَ الباطِنِ تَنْضُحُ على الوجه فتقرأ في أسارِيرِهِ آيات الطهر، وقد ذهب عبدُ اللَّه بن سلام أنَّه يَسْتَطْلعُ أخبَارَ هذا الزَّعيم المُهَاجر -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَظَر إليه يُحَاوِلُ استكشافَ حَقِيقَتِهِ، فكان أوَّل ما اطمأن إليه بعد التَثبُّت من أحواله أن هذا ليس بِكاذب، والمَلامِحُ العَقْلِيَّة والخَلْقِيَّة لشخص ما لا تُعرف بِنَظْرَةٍ خَاطِفَةٍ، ولكن الطابع المادي الذي يُضْفِي على الروح الكبير كثيرًا ما يكون عُنْوانًا صَادِقًا على ما وَرَاءَهُ. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23784) - والترمذي في جامعه - كتاب صفة القيامة والرقائق والورع - باب في إفشاء السلام - رقم الحديث (2653) - وابن ماجه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في قيام الليل - رقم الحديث (1334).

ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أوَّلُ أشْرَاطِ (¬1) السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُله أَهْلُ الجَنَّةِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزعُ الوَلَدُ إلى أبِيهِ، وَمِنْ أيِّ شَيْءٍ يَنْزعُ إلى أخْوَالِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَبَّرَني بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ"، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلَائِكَةِ (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وَأَمَّا أوَّلُ طَعَامٍ يَأْكله أَهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ (¬3)، وَأَمَّا الشِّبَهُ في الوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلِ إِذَا غَشِيَ المَرْأة فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشِّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشِّبَهُ لَهَا". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه-: فَقُلْتُ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ (¬4)، وإنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي. يَبْهَتُونِي عِنْدَكَ، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ ¬

_ (¬1) الأشْرَاطُ: العلامَات، واحدها شَرَط بالتحريك. انظر النهاية (2/ 412). (¬2) سببُ كراهية اليهود لجبريل عليه السلام، أنه كان ينزل عليهم بالعذابِ، فقد أخرج الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2483) بسند حسن عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أقبلت يهود إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: يا أبا القَاسم، إنا نسألُكَ عن خَمْسَةِ أشياء، فان أنْبَأْتَنَا بهن، عرَفنا أنك نَبِيّ. . . قالوا: إنما بَقِيَتْ واحدة وهي التي نُبَايِعُكَ إن أخبرتنا بها، فإنه ليس من نَبِيٍّ إلا له ملك يأتيه بالخَبَرِ، فأخبرنا من صَاحِبُكَ؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جِبْرِيل عليه السلام". قالوا: جِبريل ذاك الذي يَنْزِلُ بالحرب والقِتَال والعَذَابِ عَدُوُّنَا. . . الحديث. (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 692): زيادَةُ كَبِدِ الحُوتِ: هي القِطْعَةُ المُنْفَرِدَةُ المُعَلقة في الكبِدِ، وهي في المَطْعَمِ في غَايَةِ اللذة. (¬4) البُهْتُ: الكَذِب والافْتِرَاء. انظر النهاية (1/ 162).

* فضائل عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-

عَنِّي: أيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ رَجُل عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟ " قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَعَالِمُنَا وابْنُ عَالِمَنَا، وَأَفْقَهُنَا وَابْنُ أَفْقَهِنَا. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ؟ ". قَالُوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مِثْلَ ذَلِكَ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ فَقَالَ: أشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وجَاهِلُنَا وَابْنُ جَاهِلِنَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه-: هَذَا الذِي كُنْتُ أَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ (¬1). وَنَزَلَ في عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه- قَوْلهُ تَعَالَى مُخَاطِبا الْيَهُودَ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2). * فَضَائِلُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه-: أخْرَج الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب خلق آدم وذريته - رقم الحديث (3329) - وأخرجه في كتاب مناقب الأنصار - باب (51) - رقم الحديث (3938) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12057). (¬2) سورة الأحقاف آية (10).

سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ لِأَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، إِلَّا لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ (¬1)، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} (¬2). وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، والحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُتِيَ بِقَصْعَةٍ، فَأَصَبْنَا مِنْهَا، فَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَطْلُعُ رَجُلٌ مِنْ هَذَا الفَجِّ (¬3) يَكلُ هَذِهِ الْفَضْلةَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فَقَالَ سَعْدٌ: وَكُنْتُ تَرَكْتُ أخِي عُمَيْرًا يَتَطَهَّرُ، فَقُلْتُ: هُوَ أَخِي، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّه بنُ سَلَامٍ فَأَكَلَهَا (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 508): اسُتْشِكَل بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قال لِجَمَاعة إنهم من أهل الجنة غيرَ عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه-، ويبعد أن لا يَطَّلع سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- على ذلك، وأجيبَ بأنه كره تزكِيَةَ نفسه؛ لأنه أحدُ العَشَرة المبَشَّرة بذلك، وتُعُقَب بأنه لا يستلزم ذلك أن يَنْفِي سماعه مثل ذلك في حق غيره، ويظهر لي في الجواب أنه قال ذلك بعد موتِ المبشرين؛ لأن عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه- عاشَ بعدهم ولم يتأخر معه من العشرة غيرُ سعد -رضي اللَّه عنه-، وسعيد بن زيد -رضي اللَّه عنه-. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مناقب عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3812) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عبد اللَّه ابن سلام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2483). (¬3) الفَجُّ: هو الطَّرِيقُ الوَاسِعُ. انظر النهاية (3/ 370). (¬4) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر إثبات الجنة لعبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7164) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل من كبر - رقم الحديث (5814) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1458).

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ يَزِيدَ بنِ عُمَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- المَوْتُ، قِيلَ لَهُ: يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْصِنَا، قَالَ: أَجْلِسُونِي، فَقَالَ: إِنَّ العِلْمَ والإِيمَانَ مَكَانَهُمَا، مَنِ ابْتَغَاهُمَا وَجَدَهُمَا -يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- فَالْتَمِسُوا العِلْمَ عِنْدَ أرْبَعَةِ رَهْطٍ: عِنْدَ عُوَيْمِرَ أَبِي الدَّرْدَاءَ، وعِنْدَ سَلْمَانَ الفَارِسِيَّ، وعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ، وعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ الذِي كَانَ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّهُ عَاشِرُ عَشَرَةٍ في الجَنَّةِ" (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الحُرِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا في حَلَقَةٍ في مَسْجِدِ المَدِينَةِ، فِيهَا شَيْخٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ، وهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثًا حَسَنًا، فَلَمَّا قَامَ، قَالَ القَوْمُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هَذَا، قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَتْبعَنَّهُ فَلَأَعْلَمَنَّ مَكَانَ بَيْتَهُ، قَالَ: فتَبِعْتُهُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَدِينَةِ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ قُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ القَوْمَ يَقُولُونَ لَكَ، لَمَّا قُمْتَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إلى هَذَا، فأَعْجَبَنِي أَنْ أَكُونَ مَعَكَ، قَالَ: اللَّهُ أعْلَمُ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22104) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه- عاشر من يدخل الجنة - رقم الحديث (7165).

بِأَهْلِ الجَنَّةِ (¬1)، وَسَأُحَدِّثُكَ مِمَّ قَالُوا ذَاكَ، إنِّي بَيْنَمَا أنْا نَائِمٌ، إِذْ أَتَانِي رَجُلٌ، فَقَالَ لِي: قُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَإِذَا أنْا بَجَوَادَّ (¬2) عَنْ شِمَالِي، فَأَخَذْتُ لآخُذَ فِيهَا، فَقَالَ لِي: لَا تَأْخُذْ فِيهَا، فَإِنَّها طُرُقُ أصْحَابِ الشِّمَالِ، قَالَ: فَإِذَا جَوَادٌّ مَنْهَجٌ (¬3) عَنْ يَمِينِي، قَالَ لِي: خُذْ هَاهُنَا، فَأَتَى بِي جَبَلًا، فَقَالَ لِي: اصْعَدْ، فَجَعَلْتُ إِذَا أرَدْتُ أَنْ أَصْعَدَ، خَرَرْتُ عَلَى إسْتِي (¬4) حَتَّى فَعَلْتُهُ مِرَارًا، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَى بِي عَمُودًا، رَأْسُهُ في السَّمَاءِ، وأسْفَلُهُ في الأَرْضِ، وَفِي أَعْلَاهُ حَلَقَةٌ، فَقَالَ لِي: اصْعَدْ فَوْقَ هَذَا، فَقُلْتُ: كَيْفَ أصْعَدُ هَذَا، وَرَأْسُهُ في السَّمَاءَ؟ فَأَخَذَ بِيَدِي فزَحَلَ (¬5) بِي، فَإِذَا أنْتا مُتَعَلِّقٌ بِالحَلَقَةِ، ثُمَّ ضَرَبَ العَمُودَ، فَخَرَّ (¬6)، وبَقِيتُ مُتَعَلِّقًا بِالحَلَقَةِ حَتَّى أصْبَحْتُ، فَأتيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا الطَّرِيقُ الذِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ، فَهِيَ طَرِيقُ أصْحَابِ الشِّمَالِ، وَأَمَّا الطَّرِيقُ الذِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ، فَهِيَ طَرِيقُ أصْحَابِ اليَمِينِ (¬7)، وَأَمَّا الجَبَلُ فَهُوَ مَنَازِلُ الشُّهَدَاءَ، وَلَنْ تَنَالَهُ، وأَمَّا العَمُودُ ¬

_ (¬1) في رواية النسائي، قال عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه-: الجنَّة للَّه يُدْخِلُهَا مَنْ يشاء. (¬2) قال النووي في شرح مسلم (16/ 36): الجَوَادُّ: جمع جَادَّة، وهي الطريق البَيِّنَةُ المَسْلُوكَةُ. (¬3) قال النووي في شرح مسلم (16/ 36): جَوَادٌّ مَنْهَج: أي طرق واضِحَةٌ بَيِّنة مُستقيمة، والنَّهْجُ الطريق المُستقيم. (¬4) إسْتِي: أي مَقْعَدَتِي. انظر لسان العرب (6/ 170). (¬5) يُقال: زَحَل الرجل عن مَقَامه، وتَزَحَّل: إذا زَال عنه. انظر النهاية (2/ 270). (¬6) خَرَّ: إذا سَقَطَ من علو. انظر النهاية (2/ 21). (¬7) في رواية النسائي قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما الطريق التي عرضت عن شمالك، فطرِيق أهل النار، ولستَ من أهلها، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك، فطريق أهل الجنة".

* فوائد الحديث

فَهُوَ عَمُودُ الإِسْلَامِ، وَأَمَّا العُرْوَةُ فَهِيَ عُرْوَةُ الإِسْلَامِ، وَلَنْ تَزَالَ مُسْتَمْسِكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ" (¬1) * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفي الحَدِيثِ: 1 - مَنْقَبَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه-. 2 - وفِيهِ مِنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ الطُّرُقِ. 3 - وَفِيهِ تَأْوِيلُ العَمُودِ وَالجَبَلِ وَالرَّوْضَةِ الخَضْرَاءِ وَالعُرْوَةِ. 4 - وَفِيهِ مِنْ أعْلَامِ النُّبُوَّةِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه- لَا يَمُوتُ شَهِيدًا فَوَقَعَ كَذَلِكَ، مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ في أوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ (¬2). وتُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ في خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب مناقب عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3813) - وأخرجه في كتاب التعبير - باب الخضر في المنام - رقم الحديث (7010) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عبد اللَّه بن سلام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2484) (150) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التعبير - باب صعود الجبل الزلق - رقم الحديث (7586). (¬2) انظر فتح الباري (14/ 431). (¬3) انظر تهذيب التهذيب (2/ 351) - أسد الغابة (2/ 613).

شراء عثمان -رضي الله عنه- لبئر رومة

شِرَاءُ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- لِبئْرِ رُومَةَ (¬1) أخْرَجَ البَغَوِيُّ في مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بنِ بَشِيم الأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ اسْتَنْكَرُوا المَاءَ، وَكَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ عَيْنٌ يكالُ لَهَا: رُومَةَ، وَكَانَ يَبِيعُ مِنْهَا القِرْبَةَ (¬2) بِمُدٍّ (¬3) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَبِيعُنِيهَا بِعَيْنٍ (¬4) في الجَنَّةِ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي وَلَا لِعِيَالِي غَيْرُهَا، فبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- فَاشْترَاهَا بِخَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أتى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: أتجْعَلُ لِي فِيهَا مَا جَعَلْتَ له؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ جَعَلْتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ (¬5). وفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ في جَامِعِهِ، والطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، والإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، ولَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرُ بِئْرِ رُومَةَ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) بِئْرُ رُومَةَ: بضم الراء: بئر بالمدينة اشتراها عثمان -رضي اللَّه عنه- وسَبَّلَها: أي جعلها وقفًا. انظر النهاية (2/ 254). (¬2) القِرْبَةُ: يُسْتَسْقَى بها، وتكُونُ مصنوعةً من اللَّبِن. انظر لسان العرب (11/ 86). (¬3) المُدُّ: أصل المُدِّ مقدّرٌ بأن يمُدَّ الرجل يديه فيَمْلَأَ كَفَّيْهِ طعامًا. انظر النهاية (4/ 263). (¬4) العَيْنُ: هي ينبُوع الماء الذي يَنْبُعُ من الأرض ويجري. انظر لسان العرب (9/ 506). (¬5) أخرجه البغوي في معجم الصحابة - والطبراني في المعجم الكبير - رقم الحديث (1226).

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةٍ، فَيَجْعَلَ دَلْوُهُ مَعَ دِلَاءِ المُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا في الجَنَّةِ"، فَاشْترَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّة" فَحَفَرْتُهَا (¬2). قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ، وَالمَعْرُوفُ أَنَّ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- اشْتراهَا لَا أَنَّهُ حَفَرَهَا. وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: هُوَ المَشْهُورُ في الرِّوَايَاتِ فَقَدْ أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بنِ أَبِي أُنيْسَةَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ فَقَالَ فِيهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُومَةَ لَمْ يَكُنْ يُشْرَبُ مِنْ مَائِهَا إِلَّا بِالثَّمَنِ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الوَهْمُ، فَقَدْ أخْرَجَ البَغَوِيُّ في مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ (¬3) مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بنِ بَشِيرٍ الأَسْلَمِيِّ عَنْ أبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ. . . -الحَدِيثَ نَفْسَهُ الذِي ذَكَرتُهُ قَبْلَ قَلِيلٍ-. . . ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ: وَإِنْ كَانَتْ أَوَّلًا عَيْنًا فَلا مَانِعَ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- بِئْرًا، وَلَعَلَّ العَيْنَ كَانَتْ تَجْرِي إلى بِئْرٍ فَوَسَّعَهَا، وطَوَاهَا فَنُسِبَ حَفْرُهَا إِلَيْهِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4036) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5019) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (420) (511) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن. (¬2) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوصايا - باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا - رقم الحديث (2778). (¬3) انظر معجم الصحابة للبغوي (1/ 293). (¬4) انظر فتح الباري (6/ 67).

زيادة الصلاة

زِيَادَةُ الصَّلَاةِ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ (¬1)، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ففُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَتُرِكَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى الأُولَى (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَتْ: كان أوَّلُ مَا افترِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها الصَّلَاةُ: رَكعَتَانِ رَكْعَتَانِ (¬3)، إِلَّا المَغْرِبَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثًا، ثُمَّ أتمَّ اللَّهُ الظُّهْرَ والعَصْرَ والعِشَاءَ الآخِرَةَ أَرْبَعًا في الحَضَرِ، وَأَقَرَّ الصَّلَاةَ عَلَى فَرْضِهَا لأَوَّلِ في السَّفَرِ (¬4). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَالِذي يَظْهَرُ لِي، وَبِهِ تَجْتَمعُ الأَدِلَّةُ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فُرِضَتْ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا المَغْرِبَ، ثُمَّ زِيدَتْ بَعْدَ الهِجْرَةِ إِلَّا ¬

_ (¬1) كان هذا أوَّل ما فُرِضتِ الصلاة في الإسراءِ والمعراج، كما تقدم. (¬2) أي رَكعتين كما فُرضت في الإسراء والمعراج، أي أن المُسَافر يَقْصُرُ الصلاة الرُّبَاعِية إلى ركعتين. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب التاريخ، من أين أرَّخُوا التاريخ؟ - رقم الحديث (3935). (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 11): كرِّرت لفظ ركعتين لتُفِيد عُمُوم التَّثْنِيَةِ لكل صلاة. (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26338).

الصُّبْحَ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فُرِضَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ والحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا أقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمَدِينَةِ، زِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، وتُرِكَتْ صَلَاةُ الفَجْرِ لِطُولِ القِرَاءَةِ، وصَلَاةُ المَغْرِبِ لأنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب فصل في صلاة السفر - رقم الحديث (2738) - وانظر كلام الحافظ في فتح الباري (2/ 11).

خوف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن تعرى المدينة

خَوْفُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تَعْرَى (¬1) المَدِينَةُ ولَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ (¬2) أَنْ يَتْرُكُوا ديَارَهُمْ، وكَانَتْ في أطْرَافِ المَدِينَةِ، بَعِيدَةً عَنِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، ويَقْتَرِبُوا مِنَ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَخَشِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تَعْرَى المَدِينَةُ، فَنَهَاهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ ديَارُنَا نَائِيَةً (¬3) عَنِ المَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا، فنَقْتَرِبَ مِنَ المَسْجِدِ، فنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوةٍ دَرَجَةٌ" (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إلى قُرْبِ المَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ" (¬5)، فَقَالُوا: مَا كَانَ ¬

_ (¬1) تَعْرَى: أي تَخْلُو وتَصِيرُ عَرَاء، وهو الفضاء من الأرض. انظر النهاية (3/ 204). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 356): بني سَلِمَةَ: بكسرِ اللام، وهم بَطْن كَبِيرٌ من الأنصار، ثم من الخزرج. (¬3) نَائِيَةٌ: أيّ بَعِيدَة. انظر لسان العرب (14/ 7). (¬4) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد - رقم الحديث (664). (¬5) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (5/ 144): معنَاهُ الزَمُوا دِيَارَكُم، فإنكم إذا لزِمْتُمُوهَا كتبتْ آثاركم، وخُطَاكُم الكثيرة إلى المسجد.

* فوائد الحديث

يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا (¬1). وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في بَنِي سَلِمَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ أعْمَالَ البِرِّ إِذَا كَانَتْ خَالِصَةً تكتَبُ آثارُهَا حَسَنَاتٍ. 2 - وَفيهِ اسْتِحْبَابُ السُّكْنَى قُرْبَ المَسْجِدِ إِلَّا لِمَنْ حَصَلَتْ بِهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى، أَوْ أَرَادَ تَكْثِيرَ الأَجْرِ بِكَثْرَةِ المَشْي مَا لَمْ يَحْمِلْ عَلَى نَفْسِهِ. 3 - وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ اسْتِحْبَابَ قَصْدِ المَسْجِدِ البَعِيدِ، وَلَوْ كَانَ بِجَنْبِهِ مَسْجِدٌ قَرِيبٌ، وإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَهَابِهِ إلى البَعِيدِ هَجْرُ القَرِيبِ، وإِلَّا فَإِحْيَاؤُهُ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْلَى، وَكَذَا إِذَا كَانَ في المَسْجِدِ البَعِيدِ مَانِعٌ مِنَ الكَمَالِ كَأَنْ يَكُونَ إِمَامُهُ مُبْتَدِعًا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب احتساب الآثار - رقم الحديث (655) (656) - من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب فضل كثرة الخطأ إلى المساجد - رقم الحديث (665). (¬2) سورة يس آية (12) - وأخرج نُزُولَ هذه الآية في بني سَلِمة: ابن ماجه في سننه - كتاب المساجد والجَمَاعات - باب البعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرًا - رقم الحديث (785) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما -وهو صحيح لغيره- وأورده الحافظ في الفتح (2/ 358) وقوى إسناده. وعلقه الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب احتساب الآثار - عن مجاهد. (¬3) انظر فتح الباري (2/ 358).

عداء اليهود

عِدَاءُ اليَهُودِ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ كَانَ فِيهَا يَهُود، وَكَانُوا ثَلَاثَ قبائِلَ مَشْهُورَةً: بَنُو قَيْنقاعَ، وَكَانُوا حُلفاءَ الخَزْرَجِ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ دَاخِلَ المَدِينَةِ، وبَنُو النَّضِيرِ، وبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا حُلفاءَ الأَوْسِ، وَكَانَتْ دِيَارُهُمْ في عَوَالِي المَدِينَةِ. وَكَانَتْ هَذِهِ القَبَائِلُ اليَهُودِيَّةُ هِيَ التِي كَانَتْ تُثِيرُ الحُرُوبَ بَيْنَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، وَقَدْ كَانَ اليَهُودُ يَسْتَفْتِحُونَ (¬1) عَلَى الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ مَبْعَثِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ في بَدْءِ إسْلَامِ الأَنْصَارِ- فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ العَرَبِ كَفَرُوا بِهِ، وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ. أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَلَمَةَ بنِ سَلَامَةَ بنِ وَقْشٍ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ مِنْ أصْحَابِ بَدْرٍ- قَالَ: كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودٍ في بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيتهِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَسِيرٍ، فَوَقَفَ عَلَى مَجْلِسِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، قَالَ سَلَمَةُ: وأَنا يَوْمَئِذِ أحْدَثُ (¬2) مَنْ فِيهِ سِنًّا، عَلَيَّ بُرْدَةٌ (¬3) ¬

_ (¬1) يَسْتَفْتِحُونَ: أي يَسْتَنْصِرُون. انظر النهاية (3/ 365). (¬2) حَدَاثَةُ السِّنِّ: كنايةٌ عن الشَّبَابِ وأوَّل العمر. انظر النهاية (1/ 338). (¬3) البُرْدَةُ: نوعٌ من الثِّيَاب معروف. انظر النهاية (1/ 116).

مُضْطَجِعًا فِيهَا بِفِنَاءِ (¬1) أهْلِي، فَذَكَرَ البَعْثَ والقِيَامَةَ وَالحِسَابَ وَالمِيزَانَ والجَنَّةَ والنَّارَ، فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ، أصْحَابَ أوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ المَوْتِ، فَقَالُوا له: وَيْحَكَ يَا فُلانُ، تَرَى هَذَا كَائِنًا أَنَّ النَّاسَ يبعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ، يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوَدَّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أعْظَمُ تَنُّورٍ في الدُّنْيَا يُحَمُّونَهُ، ثُمَّ يدْخِلُونَهُ إيَّاهُ فيطْبَقُ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْجُو مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا. قَالُوا له: وَيْحَكَ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَبِيٌّ ويُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ البِلَادِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ مَكَّةَ وَاليَمَنِ. قَالُوا: وَمَتَى تَرَاهُ؟ قَالَ: فنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدْ (¬2) هَذَا الغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ. قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَآمَنَّا بِهِ، وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا. فَقُلْنَا: وَيْلَكَ يَا فُلَانُ! أَلسْتَ بِالذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَيْسَ بِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) الفِنَاء: هو المُتَّسَعُ أمامَ الدار. انظر النهاية (3/ 428). (¬2) نَفِدَ الشيء: فَنِي وذهب. انظر لسان العرب (14/ 228). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15841).

قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَل، وبِشْرَ بنَ البَرَاءِ بنَ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا لِيَهُودٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ، اتَّقُوا اللَّه وَأَسْلِمُوا، فَقَدْ كُنتمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- ونَحْنُ أَهْلَ شِرْكٍ، وتُخْبِرُونَنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ، وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ. فَقَالَ سَلامُ بنُ مِشْكَمٍ، أحَدُ بَنِي النَّضِيرِ: مَا جَاءَنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفه، وَمَا هُوَ بِالذِي كُنَّا نَذْكُرُهُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمْ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). وَقَالَ رافِعُ بنُ حُريْمِلَةَ، وَوَهْبُ بنُ يَهُوذَا: مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا قَطُّ، ومَا أنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى، وَلَا أرْسَلَ بَشِيرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدَهُ، فَاَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمَا: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ (¬2) مِنَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (89) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 160). (¬2) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 70): يقول اللَّه تَعَالَى مُخاطبًا أهل الكتاب من اليهود والنصارى: إنه قد أَرْسل إليهم رسوله محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم النبيين، الذي لا نَبِيَّ بعده ولا رسول، بل هو المُعَقِّبُ لجميعهم؛ ولهذا قال سبحانه: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي بعدَ مُدَّة مُتَطَاوِلَةٍ ما بين إرساله -صلى اللَّه عليه وسلم- وعيسى ابن مريم عليه السلام. وقد اختَلَفوا في مِقْدَارِ هذه الفترَةِ، كم هي؟ والصحيحُ أنها كانت سِتُّمِائة سنة، كما روى ذلك البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3948) عن سَلْمان الفارسي -رضي اللَّه عنه-، . . . والمقصودُ أن اللَّه تَعَالَى بعثَ محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- على فَتْرَةٍ من الرسل، وطُمُوسٍ من السُبُل، وتَغَيُّرِ الأديَانِ، وكثرةِ عِبادة الأوثَانِ والنيرانِ والصُّلْبَانِ، فكانت النعمة به أتمّ النعم، والحاجة إليه أمر عمم.

الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بنِ أخْطَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كُنْتُ أَحَبَّ وَلَدِ أَبِي إِلَيْهِ، وَإِلَى عَمِّي أَبِي يَاسِرٍ، لَمْ ألقهُمَا قَطُّ مَعَ وَلَدٍ لَهُمَا إِلَّا أخَذَانِي دُونَهُ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، ونَزَلَ قبَاءَ، في بَنِي عَمْرِو بنِ عَوْفٍ، غَدَا (¬2) عَلَيْهِ أَبِي، حُيَيُّ بنُ أخْطَبٍ (¬3)، وعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بن أَخْطَبٍ (¬4)، مُغَلِّسَيْنِ (¬5). قَالَتْ: فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى كَانَا مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. قَالَتْ: فَأَتَيَا كَالَّيْنِ (¬6) كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الهُوَيْنَى (¬7). قَالَتْ: فَهَشَشْتُ (¬8) إلَيْهِمَا كَمَا كُنْتُ ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (19) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 176). (¬2) الغَدْوَةُ: بفتح الغين هو سَيْرُ أوَّل النهار. انظر النهاية (3/ 311). (¬3) قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 226): أما حُيَيُّ بن أخطَب، فشرِبَ عَدَاوَةَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، ولم يَزَل كذلك دَأْبُهُ لعنه اللَّه حتى قُتِل صَبْرًا بين يدي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم قتَلَ مُقَاتِلَةَ بني قُرَيْظَةَ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 695) بعد أن سَرَدَ عَدَدًا من رُؤَساء اليهود، ومن بينهم أبو ياسِر بن أخْطَب قال: فهؤلاء لم يَثْبُتْ إسلامُ أحَدٍ منهم. (¬5) الغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخرِ الليل إذ"ختَلَطَتْ بضوءِ الصباح. انظر النهاية (3/ 339). (¬6) الكَلُّ: بفتح الكاف هو الثقلُ من كل ما يُتُكَلف. انظر النهاية (4/ 172). (¬7) يَمْشِي الهُوَيْنَا: تَصْغِيرُ الهُونَى، والهُونُ: الرِّفق واللينُ. انظر النهاية (5/ 245). (¬8) يقال: هَشَّ لهذا الأمرِ يَهُشّ هَشَاشَة: إذا فَرحَ به، واستَبْشَرَ وارتاحَ له. انظر النهاية (5/ 228).

* مجاهرة اليهود بالعداء وبعض أخبارهم

أصْنَعُ، فَوَاللَّهِ مَا التَفَتَ إِلَيَّ واحد مِنْهُمَا، مَعَ مَا بِهِمَا مِنَ الغَمِّ. قَالَتْ: وسَمِعْتُ عَمِّي أبَا يَاسِرٍ، وهُوَ يَقُولُ لِأَبِي حييِّ بنِ أخْطَبٍ: أهُوَ هُو؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، قَالَ: أتعْرِفه وتُثْبِتُهُ؟ . قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا في نَفْسِكَ مِنْهُ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاللَّهِ مَا بَقِيتُ (¬1). * مُجَاهَرَةُ اليَهُودِ بِالعِدَاءِ وَبَعْضُ أخْبَارِهِمْ: لَمَّا رَأَى اليَهُودُ انْتِشَارَ الإِسْلَامِ في المَدِينَةِ حَتَّى لَمْ تبقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلَّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا، أظْهَرُوا الحِقْدَ والحَسَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونَصَبُوا العَدَاوَةَ له وَلِأَصْحَابِهِ. وانْضَافَ إِلَيْهِمْ رِجَالٌ مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، مِمَّنْ كَانَ عَسَا (¬2) عَلَى جَاهِلِيَّتهِ، فَكَانُوا أَهْلَ نِفَاقٍ (¬3) عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ مِنَ الشِّرْكَ والتَّكْذِيبِ بِالبَعْثِ، إِلَّا أَنَّ الإِسْلَامَ قَهَرَهُمْ بِظُهُوره، واجْتِمَاعِ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِ، فتَظَاهَرُوا بِالإِسْلَامِ، واتَّخَذُوهُ جُنَّةً (¬4) مِنَ القَتْلِ، ونَافَقُوا في السِّرِّ، وَكَانَ هَوَاهُمْ مَعَ يَهُودٍ لِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجُحُودِهِمُ الإِسْلَامَ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 132). (¬2) عَسَا: كَبِرَ وأسَنَّ، وعسَا عَسْوَا: غلُظَ واشتَدَّ. انظر لسان العرب (9/ 213). (¬3) لم يَظهَر النفاق في المدينة إلا بعدَ غزوة بدر الكبرى كما سيأتي. (¬4) جُنَّة: أي وِقَايَةٌ، ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- كما في الصحيحين في الصوم: "الصَّومُ جُنّة" أي يَقِي صاحبَهُ ما يُؤذيهِ من الشَّهوات. انظر النهاية (1/ 297). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (2/ 127).

* أشد يهود عداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* أشَدُّ يَهُودٍ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَمِنْ هَؤُلَاءَ اليَهُودِ الذِينَ نَصَبُوا العَدَاوَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابِهِ، وَكَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ كَيْدًا: حُيَيُّ بنُ أخْطَب وأَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ، وَسَلامُ بنُ مِشْكَمٍ، وَكِنَانَةُ بنُ الرَّبِيعِ، وكَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ، وكَعْبُ بنُ أَسَدٍ، وعَمْرُو بنُ جَحَّاشٍ، ورِفَاعَةُ بنُ يَزِيدَ بنِ التَّابُوتِ (¬1). ومِنْهُمْ: ابنُ صَلُوبَا الفَطْيُونِيُّ الذِي قَالَ لِرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا مُحَمَّدُ! مَا جِئتنَا بِشَيْءٍ نَعْرِفهُ، ومَا أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ آيَةٍ بينة فنَتْبَعَكَ لَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ (¬2) وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} (¬3). ومِنْهُمْ رَافِعُ بنُ حُرَيْمِلَةَ، وَوَهْبُ بنُ زَيْدٍ، قَالَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا مُحَمَّدُ! ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (7/ 69): هؤلاء لم يَثْبت إسلام أحَدٍ منهم. (¬2) قال الإِمام ابن جرير الطبري في تفسيره (1/ 48): أي أنزلنا إليك يا محمَّد عَلامَاتٍ واضِحَاتٍ دَالاتٍ على نبوتك، وتلك الآيات هي ما حَوَاه كتاب اللَّه من خَفَايَا عُلُوم اليهودِ، ومكنُون سَرَائِر أخبارِهِم، وأخبارِ أوائلهم من بني إسرائيل، والنَّبَأُ عما تضَمَّنَتْهُ كتُبُهم التي لم يكن يَعْلَمُهَا إلا أحبَارُهُم وعلماؤُهُم، وما حَرَّفه أوائِلُهم وأواخِرُهم وبدَّلوه من أحكامهم، التي كانت في التوراة، فأطْلَعها اللَّه في كتابه الذي أنزله على نبيه محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم-, فكان في ذلك من أمره الآياتِ البيناتِ لِمَن أنصَفَ نفسه، ولم يدعه إلى إهلاكها الحَسَد والبغي، إذ كان في فِطْرة كل ذِي فِطرة صحيحةٍ تصديقُ من أتى بمثلِ ما جاء به محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- الآيات البيناتِ التي وَصَفت، من غيرِ تَعَلُّمٍ تَعَلم من بَشَرٍ، ولا أخذَ شيئًا منه عن آدمي. (¬3) سورة البقرة آية (99) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 161).

ائْتِنَا بِكِتَابٍ تُنْزِله عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءَ نَقْرَؤُهُ، وَفَجِّرْ لَنَا أنْهَارًا نتبَعُكَ وَنُصَدِّقُكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ في ذَلِكَ مِنْ قَوْلهِمَا: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الَايَةِ: والمُرَادُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَمَّ مَنْ سَأَلَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ شَيءٍ، عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالِاقْتِرَاحِ، كَمَا سَألَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَعَنُّتًا وتَكْذِيبًا وَعِنَادًا (¬2). ومِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ صُورِيَا الأَعْوَرُ (¬3)، وَقَدْ كَانَ مِنْ أحْبَارِ اليَهُودِ ورُؤَسَائِهِمْ، ذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَلَّمَ رُؤَسَاءَ يَهُودٍ، فِيهِمْ: عَبْدُ اللَّهُ بنُ صُورِيَا، وَكَعْبُ بنُ أَسَدٍ (¬4)، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ! اتَّقُوا اللَّه وَأَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ الذِي جِئْتُكُمْ بِهِ لَحَقٌّ. قَالُوا: مَا نَعْرِفُ ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ، فَجَحَدُوا مَا عَرَفُوا، وأصَرُّوا عَلَى الكُفْرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (108) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 161). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (1/ 381). (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 696): ولم أرَ لعبد اللَّه بن صوريا إسلامًا من طريقٍ صحيح. (¬4) قال الحافظ في الفتح (7/ 695) بعد أن سرد عددًا من رؤساء اليهود، ومن بينهم: كعب بن أسد، قال: فهؤلاء لم يثبت إسلام أحدٍ منهم.

السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬1). وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعَا يَهُودَ فَسَألهُمْ عَنْ شَيْءٍ فكتَمُوهُ إيَّاهُ، وأخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدِ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَألهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَهْدِيدٌ لِأَهْلِ الكِتَابِ، الذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ العَهْدُ عَلَى ألْسِنَةِ الأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنْ يُنَوِّهُوا (¬3) بِذِكْرِهِ في النَّاسِ لِيَكُوُنوا عَلَى أُهْبَةٍ (¬4) مِنْ أمْرِهِ، فَإِذَا أرْسَلَهُ اللَّهُ تَابَعُوهُ، فكتَمُوا ذَلِكَ وتَعَوَّضُوا عَمَّا وَعَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِالدُّونِ الطَّفِيفِ، والحَظِّ الدُّنْيَوِيِّ السَّخِيفِ، فَبِئْسَتِ الصَّفْقَةُ صَفْقَتُهُمْ، وبِئْسَتِ البَيْعَةُ بَيْعَتُهُمْ. ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (47) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 173). (¬2) سورة آل عمران آية (187) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا - رقم الحديث (4568) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2778). (¬3) نَوَّه فلان بِفلان: إذا رفَعَه وطَيَّر به وقَوَّاه. انظر لسان العرب (14/ 342). (¬4) تَاَصَّبَ: استَعَدَّ. انظر لسان العرب (1/ 252).

وفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَهُمْ فيصِيبَهُمْ مَا أصَابَهُمْ، ويُسْلَكَ بِهِمْ مَسْلَكَهُمْ، فَعَلَى العُلَمَاءِ أَنْ يبذُلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ العِلْمِ النَّافِعِ، الدَّالِّ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ، وَلَا يَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، فَقَدْ وَرَدَ في الحَدِيثِ المَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فكتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ" (¬1). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- لِفِنْحَاصٍ (¬2) -وكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ اليَهُودِ وأحْبَارِهِمْ-: اتَّقِ اللَّه وَأَسْلِمْ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، جَاءَكُمْ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ في التَّوْرَاةِ والإِنْجِيلَ. فَقَالَ فِنْحَاصٌ: يَا أبَا بَكْرٍ، وَاللَّهِ مَا بِنَا إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ فَقْرٍ، وإنَّهُ إلَيْنَا لَيَفْتَقِرُ، وَمَا نتضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يتضَرَّعُ إلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، ولَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا لمَا اسْتَقْرَضَنَا أمْوَالَنَا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ (¬3)، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا ويُعْطِينَاهُ! ولَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا أعْطَانَا الرِّبَا. ¬

_ (¬1) هذا الحديث أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7571) - وابن ماجه في سننه في المقدمة - باب من سُئِلَ عن علمٍ فكتمه - رقم الحديث (266) - وإسناده صحيح - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 180). (¬2) قال الحافظ في الفتح (7/ 695) بعد أن سرد عددًا من رؤساء اليهود، ومن بينهم: فِنْحاص، قال: فهؤلاء لم يثبت إسلام أحدٍ منهم. (¬3) صَاحِبُكُمْ: أي الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم-.

* قصدهم الفتنة

فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصٍ، فَأَخْبَرَ فِنْحَاصٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي بَكْرٍ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ " فَأْخَبَرُه، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصٌ، وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (¬1). * قَصْدُهُمُ الفِتْنَةَ: قَالَ ابنُ إسْحَاقٍ: قَالَ كَعْبُ بنُ أَسَدٍ، وابْنُ صَلُوبَا، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ صُورِيَا، وشَأْسُ بنُ قَيْسٍ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إلى مُحَمَّدٍ؛ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينهِ، فَإِنَّمَا هُوَ بَشَرٌ، فَأتوْهُ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أحْبَارُ (¬2) يَهْودٍ وأشْرَافُهُمْ وسَادَاتُهُمْ، واَّنا إنِ اتبعناك اتَّبعَتْكَ يَهُودٌ، وَلَمْ يُخَالِفُونَا، وَأَنَّ بَيْنَنَا وبَيْنَ بَعْضِ قَوْمِنَا خُصُومَةٌ، أفنحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ فتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ، ونُؤْمِنُ بِكَ ونُصَدِّقُكَ؟ فَأبى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنْزَلَ اللَّه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (181). وأخرج هذه القصة: ابن إسحاق في السيرة (2/ 171) بدون سند - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1830) وإسناده حسن - وأوردها الحافظ في الفتح (9/ 99) وحسّن إسنادها. (¬2) الأحبَارُ: جمعُ حَبر بفتح الحاء، وهم العلماء. انظر النهاية (1/ 317).

تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا (¬1) لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬2). وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ اليَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وأصْحَابِهِ غُدْوَةً (¬3) ونَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً (¬4)، حَتَّى نُلَبِسَ (¬5) عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ، ويَرْجِعُونَ عَنْ دِينهِ، فَاَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ (¬6) أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (3/ 131): أي: ومَنْ أعدَلُ من اللَّه في حكمه لِمن عَقَلَ عن اللَّه شَرعه، وآمن به وأيقَنَ وعَلِم أنه تَعَالَى أحكَمُ الحاكمينَ، وأرحَم بخلقِهِ من الوَالدَةِ بِوَلَدِهَا، فإنه تَعَالَى هو العالمُ بكلِّ شيءٍ، القادرُ على كل شيء، العادِلُ في كل شيء. (¬2) سورة المائدة آية (49 - 50) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 179). (¬3) الغُدْوَةُ بالضم: ما بين صلاة الغَدَاة -أي الفجر- وطلوعِ الشمس. انظر النهاية (3/ 311). (¬4) العَشِيُّ: هو الوقتُ من بعدَ الزوالِ -أي زوال الشمس- إلى المغرب. انظر النهاية (3/ 219). (¬5) اللَّبْسُ: هو الخَلْط. انظر النهاية (4/ 169). (¬6) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 60): أي هو الذي يَهْدِي قلوبَ المؤمنين إلى أتَمِّ الإيمان, بما ينزله على عبده ورسوله محمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- من الاياتِ البيناتِ، والدلائل القَاطِعَاتِ، والحُجَجِ الواضِحَاتِ، وإن كتَمْتُمْ -أيُّها اليهود- ما بأيدِيكُم من صِفَةِ =

* نهى الله تعالى المسلمين عن موادتهم

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (¬1) وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). * نَهَى اللَّهُ تَعَالَى المُسْلِمِينَ عَنْ مُوَادَّتِهِمْ: قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رِفَاعَةُ بنُ زَيْدِ بنِ التَّابُوتِ، وسُوَيْدُ بنُ الحَارِثِ قَدْ أظْهَرَا الإِسْلَامَ ونَافَقَا، كَانَ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُوَادُّونَهُمَا (¬3)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. . .} إلى قوله تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} (¬4). قَالَ ابنُ إسْحَاقَ: وَكانَ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنَ اليَهُودِ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الجِوَارِ والحِلْفِ (¬5) في الجَاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ ¬

_ = محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- في كتبكم التي نَقَلتُمُوها عن الأنبياء الأقدَمين. (¬1) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 60): أي الأمور كلها تحت تَصْرِيفه، وهو المُعْطِي المانع، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصوُّر التام، ويُضل من يشاء ويُعمي بصره وبَصِيرته، ويَخْتم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غِشَاوَةَ، وله الحُجَّةُ والحِكمة. (¬2) سورة آل عمران آية (71 - 73)، والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 166). (¬3) الوِدُّ: بكسر الوَاو: الصَّدِيق. انظر النهاية (5/ 145). (¬4) سورة المائدة آية (57 - 61)، والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 181). (¬5) أصل الحَلِفِ: المُعَاقَدَةُ والمعاهدة على التَعَاضُدِ والتسَاعُدِ والاتفاق. انظر النهاية (1/ 407).

* أسئلتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما نزل من القرآن فيهم

يَنْهَاهُمْ عَنْ مباطَنَتِهِمْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً (¬1) مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ (¬2) مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ: يَقُولُ تَبارَكَ وتَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ المُنَافِقِينَ بِطَانَةً، أيْ يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَمَا يُضْمِرُونَهُ (¬4) لِأَعْدَائِهِمْ، والمُنَافِقُونَ بِجُهْدِهِمْ وَطَاقَتِهِمْ لَا يَأْلُونَ المُؤْمِنِينَ خَبَالًا، أيْ: يَسْعَوْنَ في مُخَالفَتِهِمْ ومَا يَضُرُّهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وبِمَا يَسْتَطِيعُونَهُ مِنَ المَكْرِ والخَدِيعَةِ، ويَوَدُّونَ مَا يُعْنِتُ (¬5) المُؤْمِنِينَ ويُخْرِجُهُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ (¬6). * أسْئِلَتُهُمُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- ومَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ فِيهِمْ: وكَانَ اليَهُودُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا لِيَعْرِفُوا الحَقَّ، وَإِنَّمَا تَكَبُّرًا ¬

_ (¬1) بِطَانَةُ الرجل: خاصَّتُهُ، وصاحب سِرِّه وداخلةُ أمره الذي يُشاوره في أحواله. انظر النهاية (1/ 135). (¬2) الأنامِلُ: هي رؤوس الأصابع. انظر لسان العرب (14/ 295). (¬3) سورة آل عمران آية (118 - 119) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 171). (¬4) أضْمَرْتُ الشيء: أخْفَيْتُهُ. انظر لسان العرب (8/ 85). (¬5) العَنَتُ: المشَقَّة والفساد والهَلاك. انظر النهاية (3/ 277). (¬6) انظر كلام الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (2/ 106).

واسْتِهْزَاءً، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ بَيْنَا أنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَرْثٍ (¬1) وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ (¬2)، إِذْ مَرَّ اليَهُودُ (¬3) فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ (¬4) إلَيْه؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الوَحْيُ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬5). ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح مسلم (17/ 113): هو موضعُ الزَّرْعِ. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (125) قال: في خِرَب المدينة. والخِرَبُ بكسر الخَاءَ جمعُ خِرْبة، والخِرَبُ ضد العَامِر. قال الحافظ في الفتْح (9/ 318): والأول أصوب فقد أخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2794) (34) عن ابن مسعود بلفظ: كان في نخل. (¬2) العَسِيبُ: هو جَرِيدَةُ النَّخْلِ. انظر النهاية (3/ 212). (¬3) وفي بقيةِ الروايات في كتاب العلم - رقم الحديث (125) - وكتاب الاعتصام رقم الحديث (7297) - وكتاب التوحيد - رقم الحديث (7456) في صحيح البخاري، وكذا عند مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2794) قال: ". . . إذ مرّ بنفر من اليهود". قال الحافظ في الفتح (9/ 319): يحمل هذا الاختلاف على أن الفَرِيقين تَلاقوا، فيَصْدُق أن كُلًا مرّ بالآخر. (¬4) ما رَابَكُمْ إليه: أي ما حَاجَتُكُمْ إلى سُؤَاله. انظر النهاية (2/ 260). (¬5) قلتُ: هذا يدل على أن نزولَ آية الروح وقع بالمدينة، لكن روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2309) - والترمذي في جامعه - كتاب تفسير القرآن - باب ومن سورة بني إسرائيل - رقم الحديث (3407) بسند صحيح عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: =

* فوائد الحديث

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ قُلْنَا لَكُمْ لَا تَسْأَلُوهُ (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ سُؤَالِ العَالِمِ فِي حَالِ قِيَامِهِ وَمَشْيِهِ إِذَا كَانَ لَا يَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. 2 - وَفيهِ أَدَبُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والعَمَلُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ. 3 - وَفِيهِ التَّوَقُّفُ عَنِ الجَوَابِ بِالِاجْتِهَادِ لِمَنْ يَتَوَقَّعُ النَّصَّ. 4 - وفيهِ أَنَّ بَعْضَ المَعْلُومَاتِ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ حَقِيقَةً. 5 - وَفيهِ أَنَّ الأَمْرَ يَرِدُ لِغَيْرِ الطَّلَبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدٍ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتِ اليَهُودُ: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ، ¬

_ = قالت قريش لليهود: أعطُونَا شيئا نَسْأَل هذا الرجل، فقالوا: سَلُوهُ عن الروح، فسألوه، فأنزل اللَّه تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. قال الحافظُ في الفتح (9/ 319): ويُمكِنُ الجمعُ بان يتعدَّد النزول بحمل سكوتهِ في المرة الثانية على توقُّعِ مزيدِ بيَانٍ في ذلك، وإن سَاغَ هذا، وإلا فمَا في الصَّحِيحِ أصَحُّ. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب قوله تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} - رقم الحديث (125) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب ويسألونك عن الروح - رقم الحديث (4721) - ومسلم في صحيحه - كتاب صفاتِ المنافقين وأحكامهم - بابُ سُؤال اليهود النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الروح - رقم الحديث (2794). (¬2) انظر فتح الباري (9/ 323).

فَقَدْ أُوْتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: لَوْ كَانَ مَاءُ البَحْرِ مِدَادًا (¬2) لِلْقَلَمِ الذِي تُكْتَبُ بِهِ كَلِمَاتُ رَبِّي وَحِكَمُهُ وآيَاتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ {لَنَفِدَ الْبَحْرُ} أيْ لفَرَغَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَغَ مِنْ كِتَابَةِ ذَلِكَ {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أيْ بِمِثْلِ البَحْرِ آخَرٌ، ثُمَّ آخَرٌ، وَهَلُمَّ جَرًّا، بُحُورٌ تُمِدُّهُ ويُكْتَبُ بِهَا، لَمَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده، والطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ (¬4) مِنَ اليَهُودِ يَوْمًا إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: يَا أبَا القَاسِمِ، حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ (¬5) نَسْأَلُكَ عَنْهَا، لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ (¬6)، ومَا أَخَذَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى بَنِيهِ، لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ، لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الإِسْلَامِ". ¬

_ (¬1) سورة الكهف آية (109) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2309) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب العلم - رقم الحديث (99). (¬2) المِدَادُ: هو الحِبْر الذي يُكتب به. انظر لسان العرب (13/ 52). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (5/ 204). (¬4) العِصَابَةُ: هم الجَمَاعَةُ من الناس من العَشَرَةِ إلى الأرْبَعين. انظر النهاية (3/ 220). (¬5) الخِلَالُ: الخِصَالُ. انظر لسان العرب (4/ 201). (¬6) الذِّمَّةُ: هي العَهْدُ والضَّمَان. انظر النهاية (2/ 155).

قَالُوا: فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ: "فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ". قَالُوا: أخْبِرْنَا عَنْ أرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهَا: أخْبِرْنَا عَنِ الطَّعَامِ الذِي حَرَّمَ إسْرَائِيلُ (¬1) عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ مَاءَ المَرْأَةِ مِنْ مَاءَ الرَّجُلِ، وكَيْفَ يَكُونُ مِنْهُ الذَّكَرُ حَتَّى يَكُونَ ذَكَرًا، وَكَيْفَ تَكُونُ مِنْهُ الأُنْثَى حَتَّى تَكُونَ أُنْثَى، وأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ فِي النَّوْمِ، وَمَنْ وَليُّكَ مِنَ المَلَائِكَةِ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أنا حَدَّثْتُكُمْ لَتبايِعُنِّي؟ " فَأَعْطَوهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا (¬2)، وَطَالَ سُقْمُهُ (¬3)، فنذَرَ للَّهِ نَذْرًا لَئِنْ ¬

_ (¬1) إسرائِيلُ: هو يَعْقُوب عليه السلام. (¬2) المرَضُ الذي أصابَ يعقوبَ عليه السلام: هو عِرْقُ النِسَا، فقد أخرج الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الرعد - رقم الحديث (3380) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2483) بسند حسن عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أقبلتْ يَهُود إلى رَسُول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألكَ عن خمسةِ أشياء. . . قالوا: أخبِرْنا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسه؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَانَ يشتَكِي عِرْقَ النِسَا، فلم يَجِد شيئًا يُلائِمُهُ إلا لحُوم الابل وألبانها، فلذلك حَرَّمها. . . " الحديث. قال ابن القيم في زاد المعاد (4/ 66): عِرْقُ النِسَا: هو وجَعٌ يبتدِئ من مِفْصَل الوَرْكِ، وينزلُ من خَلْف على الفَخِذِ، وربما على الكَعْبِ، وكلَّما طالت مُدَّتُهُ، زاد نُزُولُهُ، وتَهزُلُ معه الرِجلُ والفَخِذُ. (¬3) السُّقْمُ: المَرَض. انظر النهاية (2/ 342).

شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُقْمِهِ، لَيُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُ الإِبِلِ، وَأَحَبُّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانُ الإِبِلِ؟ ". قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". قَالَ: "فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، الذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظ أَبْيَضُ، وَأَنَّ مَاءَ المَرْأَةِ رَقِيق أصْفَرُ، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الوَلَدُ وَالشِّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإنْ عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإنْ عَلَا مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ كَانَتْ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ؟ ". قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". قَالَ: "فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ؟ " (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3569) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (738) (125) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قالت: قلت: يا رَسُول اللَّهِ أتنَامُ قبلَ أن تُوتِرَ؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن عَيْنِي تنامُ ولا يَنَامُ قلبي". وفي رواية عند البخاري في الصحيح - رقم الحديث (3570) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: . . . والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَائِمَة عيناه ولا يَنام قلبه، وكذلك الأنبياء تَنَام أعيُنُهم ولا تَنَام قُلُوبهم. قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (6/ 19): وهذا من خصائص الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم.

* استفتاؤهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن حكم الرجم

قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ". قَالُوا: أَنْتَ الآنَ، حَدِّثْنَا: مَنْ وَليُّكَ مِنَ المَلَائِكَةِ؟ فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ. قَالَ: "وَلِيِّي جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ". قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ، لَوْ كَانَ وَليُّكَ غَيْرُهُ مِنَ المَلَائِكَةِ لَبَايَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ. قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ؟ " قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا مِنَ المَلَائِكَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1) إِلَى آخِرِ الآيَةِ، ونَزَلَتْ: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} (¬2). * اسْتِفْتَاؤُهُمُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ حُكْمِ الرَّجْمِ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ اليَهُودَ جَاؤُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَذَكَرُوا له أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (97). (¬2) سورة البقرة آية (90) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2514) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2854).

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ ". فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ ويُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه- وهُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ -رضي اللَّه عنه-: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. قَالوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَة الرَجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فرجِمَا (¬1). وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، والإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مُرَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَهُودِي مُحَمَّمٍ (¬2) مَجْلُودٍ، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: "أَهَكَذَا تَجدُونَ حَدَّ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ؟ ". فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعَا رَجُلًا مِنْ عُلَمَائِهِمْ، فَقَالَ: "أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، أَهَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزِّنَى فِي كِتَابِكُمْ؟ ". ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب أحكام أهل الذمة - رقم الحديث (6841) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم اليهود "أهل الذّمة في الزنى" - رقم الحديث (1699). (¬2) مُحَمَّمٌ: أي مُسَوَّدُ الوجهِ، من الحُمَمَةِ: وهي الفَحْمَة. انظر النهاية (1/ 427).

فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّكَ أنْشَدْتَنِي بِهَذَا لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزِّنَى فِي كِتَابِنَا الرَّجْمَ، ولَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أخَذْنَا الشَّرِيفَ، تركْنَاهُ، وَإِذَا أخَذْنَا الضَّعِيفَ، أقَمْنَا عَلَيْهِ الحَدَّ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا حَتَّى نَجْعَلَ شَيْئًا نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ والوَضِيعِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالجَلْدِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إنِّي أوَّلُ مَنْ أحْيَا أمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ". قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. . .} إلى قوله تَعَالَى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} (¬1). يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا، فَإِنْ أفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالجَلْدِ، فَخُذُوهُ، وَإِنْ أفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ، فَاحْذَرُوا. إِلَى قَوله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2). وَقَالَ تَعَالَى في اليَهُودِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). قَالَ: هِيَ فِي الكُفَّارِ كُلُّهَا (¬4). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (41). (¬2) سورة المائدة آية (44). (¬3) سورة المائدة آية (47). (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في =

* سؤالهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن حكم الدية

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَذِهِ أحَادِيثٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَكَمَ بِمُوَافَقَةِ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الإِلْزَامِ بِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ، لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِاتِّباعِ الشَّرْعِ المُحَمَّدِيِّ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنْ هَذَا بِوَحْيٍ خَاصٍّ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَيْهِ بِذَلِكَ، وسُؤَالُهُ إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِيُقَرِّرَهُمْ عَلَى مَا بِأَيْدِيهِمْ، مِمَّا تَرَاضَوْا عَلَى كِتْمَانِهِ وَجَحْدِهِ، وعَدَمِ العَمَلِ بِهِ تِلْكَ الدُّهُورِ الطَّوِيلَةِ، فَلَمَّا اعْترَفُوا بِهِ مَعَ عَمَلِهِمْ عَلَى خِلَافِهِ، بِأَنَّ زَيْغَهُمْ وعِنَادَهُمْ وتَكْذِيبَهُمْ لِمَا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ مِنَ الكِتَابِ الذِي بِأَيْدِيهِمْ، وعُدُولهِمْ إِلَى تَحْكِيمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَّمَا كَانَ عَنْ هَوًى مِنْهُمْ وشَهْوَةٍ لِمُوَافَقَةِ آرَائِهِمْ، لَا لِاعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ. مَا يَحْكُمُ بِهِ؛ لِهَذَا قَالُوا: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا}، والتَّحْمِيمَ {فَخُذُوهُ} أي: اقْبَلُوهُ، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} أيْ: مِنْ قَبُولهِ واتِّبَاعِهِ (¬1). * سُؤَالُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ حُكْمِ الدِّيَةِ: كَمَا سَأَلُوا الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ حُكْمِ الدِّيَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ، وَكَانَتِ النَّضِيرُ أشْرَفَ مِنْ قُرَيْظَةَ، قَالَ: وَكَانَ إِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْظَةَ رَجُلًا مِنَ النَّضِيرِ قُتِلَ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ ¬

_ = الزنى - رقم الحديث (1700) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18525). (¬1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 116).

قُرَيْظَةَ وُدِيَ (¬1) مِئَةَ وَسْقٍ (¬2) مِنْ تَمْرٍ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قتَلَ رَجُلٌ مِنَ النَّضِيرِ رَجُلًا مِنْ قُرَيْظَةَ، فَقَالُوا: ادْفَعُوهُ إِلَيْنَا نَقْتُلُهُ، فَقَالُوا: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَتَوْهُ فنَزَلَتْ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (¬3) وَالقِسْطُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، ثُمَّ نَزَلَتْ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} (¬4). وفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وأبِي دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (¬5). قَالَ: كَانَ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا قَتَلُوا قَتِيلًا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، أَدُّوا إِلَيْهِمْ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِذَا قتَلَ بَنُو قُرَيْظَةَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ قَتِيلًا، أَدُّوا إلَيْهِمُ الدِّيَةَ كَامِلَة، فَسَوَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَهُمُ الدِّيَةَ (¬6). ¬

_ (¬1) وُدِيَ: أي أُعْطِيَ دِيَتَهُ. انظر النهاية (5/ 148). (¬2) الوِسْقُ: سِتُّون صاعًا. انظر النهاية (5/ 161). (¬3) سورة المائدة آية (42). (¬4) سورة المائدة آية (50) - والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب القضاء - باب الإخبار عن السبب الذي من أجله أنزل اللَّه جل وعلا {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} - رقم الحديث (5057) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الديات - باب النفس بالنفس - رقم الحديث (4494). (¬5) سورة المائدة آية (42). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3434) - وأبو داود في سننه - كتاب الأقضية - باب الحكم بين أهل الذمة - رقم الحديث (3591).

موقف مشركي المدينة من الرسول -صلى الله عليه وسلم-

مَوْقِفُ مُشرِكِي المَدِينَةِ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقَامَ بَعْضُ أَهْلِ المَدِينَةِ عَلَى شِرْكِهِمْ، وأَبَوْا الدُّخُولَ في الإِسْلَامِ حَتَّى الْتَحَقَ بَعْضُهُمْ بِقُرَيْشٍ وَرَاحَ يُؤَّلِّبُ (¬1) عَلَى الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ، ومِنْ أشْهَرِهِمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ. أَمَّا أَبُو عَامِرٍ فَهُوَ عَمْرُو بنُ صَيْفِيٍّ أحَدُ بَنِي ضُبَيْعَةَ بنِ زَيْدٍ مِنَ الأَوْسِ، وَهُوَ وَالِدُ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ المَلَائِكَةِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَرَأَ عِلْمَ أَهْلِ الكِتَابِ، وكَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ في الجَاهِلِيَّةِ، ولَهُ شَرَفٌ فِي الخَزْرَجِ كَبِيرٌ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُهَاجِرًا إِلَى المَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ، وصَارَتِ لِلْإِسْلَامِ كَلِمَة عَالِيَةٌ، وأظْهَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، شَرِقَ -أيْ غَصَّ- اللَّعِينُ أَبُو عَامِرٍ بِرِيقِهِ، وَبَارَزَ بِالعَدَاوَةِ، وَظَاهَرَ بِهَا، وَخَرَجَ فَارًّا إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَأَلَّبَهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاجْتَمَعُوا بِمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أحْيَاءِ العَرَبِ، وَقَدِمُوا عَامَ أُحُدٍ، فَكَانَ مِنْ أمْرِ المُسْلِمِينَ مَا كَانَ، وَامْتَحَنَهُمُ اللَّهُ، وَكَانَتِ العَاقِتةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَكَانَ هَذَا الفَاسِقُ قَدْ حَفَرَ حَفَائِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَوَقَعَ فِي إحْدَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأُصِيبَ ذَلِكَ اليَوْمَ، فَجُرِحَ فِي وَجْهِهِ ¬

_ (¬1) التألِيبُ: التَّحْرِيضُ. انظر لسان العرب (1/ 177).

* شأن عبد الله بن أبي بن سلول

وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ اليُمْنَى السُّفْلَى، وشُجَّ رَأْسُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَاتَ هَذَا الرَّجُلُ عَلَى كُفْرِهِ وَشِرْكِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ (¬1) * شَأْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ: وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ (¬2) لَعَنَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ بَنِي الحُبْلَى مِنَ الخَزْرَجِ، وكَانَ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ فِي شَرَفِهِ مِنْ قَوْمِهِ اثْنَانِ، وَلَمْ تَجْتَمعِ الأَوْسُ والخَزْرَجُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَحَدِ الفَرِيقَيْنِ غَيْرَهُ، وَكَانَ قَوْمُهُ قَدْ نَظَمُوا له الخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، ثُمَّ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُمْ عَلَى ذلِكَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَوْمُهُ عَنْهُ إِلَى الإِسْلَامِ ضَغِنَ (¬3)، ورَأَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدِ اسْتَلَبَهُ مُلْكًا، وَأَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ، فَلَمَّا رَأَى قَوْمَهُ قَدْ أَبَوْا إِلَّا الإِسْلَامَ دَخَلَ فِيهِ كَارِهًا مُصِرًّا عَلَى نِفَاقٍ وَضِغْنٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 197). (¬2) هو عبدُ اللَّه بن أُبي بن سلولٍ الخَزْرَجِيّ، أبو الحُبَاب، بضم الحاء، المشهور بابن سلول، وسلولٌ جَدَّتُهُ لأبيهِ، رأسُ المنافقين في الإسلام، من أهل المدينة، كان سَيِّد الخزرج في آخر جاهليتهم، وأظهَرَ الإسلام بعد وَقعة بدر، تُقْيَةً، وكان كلما حَلَّتْ بالمسلمين نازِلَةٌ شَمِتَ بهم، وكلما سَمِعَ بسَيِّئَةٍ نَشَرَهَا، وله في ذلك أخبار، ولما مَاتَ لعنه اللَّه تقدَّم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلى عليه، فنزل قوله تَعَالَى سورة التوبة آية (84): {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، ومات على نِفَاقِهِ، وكان ضَخْمًا، يركبُ الفرس، فتَخُطُّ رِجْلاهُ في الأرض. انظر كتاب الأعلام للزركلي (4/ 65). قال الذهبي في السير (1/ 323): ولا حَصَّل دُنْيَا، ولا آخِرَة، نسأل اللَّهَ العَافية. (¬3) الضِّغْنُ: الحِقْدُ والعَداوة والبَغْضاء. انظر لسان العرب (8/ 68). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 196 - 197).

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ (¬1)، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي بَنِي الحَارِثِ بنِ الخَزْرَجِ (¬2) قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، وذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ (¬3) عَبْدُ اللَّهُ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، فَإِذَا فِي المَجْلِسِ أخْلَاطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالمُشْرِكِينَ عَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَاليَهُودِ، وفي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا غَشِيَتِ المَجْلِسُ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ (¬4)، خَمَّرَ (¬5) عَبْدُ اللَّهُ بنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا، فَسَلَّمَ (¬6) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ، فنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ القُرْآنَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهُ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ: أيُّهَا المَرْءُ، إِنَّهُ لَا أحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِينَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا، ارْجعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 100): قَطِيفَة فدَكِيَّة: أي كِسَاء غليظٌ مَنْسُوب إلى فَدَك بفتح الفاء والدال، وهي بلا مشهور على مرحلتين من المدينة. (¬2) قال الحافظ في الفتح (9/ 100): أي في مَنازل بني الحارث، وهم قومُ سعدِ بن عُبادة. (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 100): أي قبلَ أن يُظهِرَ إسلامَهُ. (¬4) قال الحافظ في الفتح (9/ 100): عَجَاجَةُ الدَّابّةِ: أي غُبَارها. (¬5) خَمَّرَ: غَطى. انظر النهاية (2/ 73). (¬6) قال الحافظ في الفتح (9/ 100): يؤخَذُ منه جَوَازُ السلام على المسلمين إذا كان معهم كُفَّار، وينوي حينئذٍ بالسلام المُسلمين، ويحتمل أن يكون الذي سَلَّم به عليهم صِيغَةِ عموم فيها تخصِيصٌ كفوله: "السلام على من اتَّبَع الهدى".

فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ واليَهُودُ، حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ (¬1)، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا، ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَابتهُ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبابٍ (¬2)؟ -يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ- قَالَ: كَذَا كَذَا". فَقَالَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ، فَوَالذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ الذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ، وَلقدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذه البُحَيْرَةِ (¬3) عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فيعَصِّبُونَهُ بِالعِصَابَةِ (¬4)، فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالحَقِّ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 101): أي يتَوَاثَبُونَ، أي قارَبُوا أن يثبَ بعضهم على بعض فيقْتَتِلُوا. وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه قال: حتى هَمُّوا أن يَتَوَاثبُوا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (9/ 101) (12/ 236): بضم الحاء، وهي كُنية عبد اللَّه بن أُبي، وكنَّى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في تلك الحالة لكونِهِ كان مَشْهورًا بها أو لِمَصْلَحَةِ التألفِ، وكان حينئذٍ لم يُظهر الإسلام كما هو بَيِّن من سِيأتى الحديث. (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 101): هذا اللفظ يُطلَقُ على القَرْيَةِ وعلى البَلَدِ، والمرادُ به هنا المدينة النبوية. (¬4) قال الحافظ في الفتح (9/ 101): يعني يُرَئِّسُوه عليهم ويُسَؤَدُوه، وسُمِّي الرئيس مُعَصَّبًا لما يَعْصُبُ برأسه من الأمور، أو لأنهم يَعْصِبُون رؤوسَهم بعِصَابةٍ لا تَنْبَغِي لغيرِهم يمتَازُون بها. وفي رواية إسحاق في السيرة (2/ 197): لقد جاءَنا اللَّه بكَ وإنا لنَنْظُم له الخَرَزَ لنُتَوِّجَهُ.

الذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ (¬1) بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابهُ يَعْفُونَ عَنِ المُشْرِكِينَ وأَهْلِ الكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، ويَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬2). وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬3). وَكَانَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَأَوَّلُ في العفو ما أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أذِنَ اللَّهُ فيهم (¬4). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَان في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَكِبَ حِمَارًا، ¬

_ (¬1) شَرِقَ: أي غَصَّ به، وهو مجازٌ فيما نالَ من أمرِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وحَلّ به، حتى كأنه شيءٌ لم يقدر على إسَاغَتِهِ وابتلاعِهِ فغَصَّ به. انظر النهاية (2/ 418). (¬2) سورة آل عمران آية (186). قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية (2/ 180): فَكَانَ مَنْ قام بِحَقٍّ، أو أمرَ بمعروف، أو نهى عن منكم، فلابد أن يُؤْذَى، فما له دواءٌ إلا الصَّبر في اللَّه، والاستِعَانةُ باللَّه، والرُّجوع إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. (¬3) سورة البقرة آية (109). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} - رقم الحديث (4566) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصبره على أذى المنافقين - رقم الحديث (1798).

وَانْطَلَقَ المُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِيَ أرْضٌ سَبْخَةٌ (¬1)، فَلَمَّا أتاهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ (¬2) حِمَارِكَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ. فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَشَتَمَا (¬3)، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالجَرِيدِ (¬4) وَالنِّعَالِ وَالأَيْدِي، فَبَلَغَنَا (¬5) أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا (¬6)} (¬7). ¬

_ (¬1) الأرضُ السَّبْخَةُ: هي الأرض التي تَعْلُوهَا المُلُوحَةُ، ولا تكادُ تُنبتُ إلا بعضَ الشَّجر. انظر النهاية (2/ 300). (¬2) النتنُ: الرائِحَة الكَرِيهة. انظر لسان العرب (14/ 36). (¬3) قال الحافظ في الفتح (5/ 637): فشَتَمَا: أي شَتَمَ كلُّ واحد منهما الآخر. (¬4) الجَرِيدَةُ: السَّعْفَة. انظر النهاية (1/ 249). (¬5) قال الحافظ في الفتح (5/ 637): القائَلُ هو أنسُ بن مالك -رضي اللَّه عنه- راوِي الحديث. (¬6) قال الحافظ في الفتح (5/ 637): وقد استشكَلَ ابن بطال نزولَ الآية المذكورة، وهي قوله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} في هذه القصة؛ لأن المُخَاصَمَة وقعت بينَ مَن كان مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أصحابِه وبين أصحابِ عبد اللَّهِ بن أُبي، وكانوا إذ ذَاكَ كفَّارًا فكيف ينزل فيهم {طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ولا سيما إن كانت قِصَّة أنس وأسامة مُتَّحدة -قصة أسامة ذكرتها في الحديث الذي قبل هذا الحديث-، فإن في رِواية أسامة: فاستَبَّ المسلمون والمشركون. ويمكن أن يُحمل على التغلِيبِ، مع أن فيها إشْكالًا من جِهَةٍ أخرى وهي أن حديثَ أُسَامة صريحٌ في أن ذلك كان قبلَ وقعَةِ بدرٍ، وقبل أن يُسلم عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه، والآية المذكورة في الحجرات، ونزولها متأخِّر جدًا وقت مَجِيءِ الوُفُود، لكنه يحتمل أن تكون آية الإصلاحِ نزلت قديمًا فيَنْدَفِع الإشكال. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلح - باب ما جاء في الإصلاح بين الناس - =

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ: وَفِي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الصَّفْحِ والحِلْمِ والصَّبْرِ عَلَى الأَذَى فِي اللَّهِ. 2 - وَفيهِ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ وَتَأْلِيفُ القُلُوبِ عَلَى ذَلِكَ. 3 - وَفيهِ أَنَّ رُكُوبَ الحِمَارَ لَا نَقْصَ فِيهِ عَلَى الكِبَارِ. 4 - وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالأَدَبِ مَعَهُ والمَحَبَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَأَنَّ الذِي يُشِيرَ عَلَى الكَبِيرِ بِشَيْءٍ يُورِدُهُ بِصُورَةِ العَرْضِ عَلَيْهِ لَا الجَزْمِ. 5 - وَفِيهِ جَوَازُ المُبَالَغَةِ فِي المَدْحِ لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ أطْلَقَ أَنَّ رِيحَ الحِمَارِ أطْيَبُ مِنْ رِيحِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ (¬1). * اسْتِغْلَالُ قُرَيْشٍ مُشْرِكِي المَدِينَةِ: وَقَدِ اسْتَغَلَّتْ قُرَيْشٌ هَذَا الأَمْرَ، وَوَجَدَ مُشْرِكُو مَكَّةَ ضَالَّتَهُمْ فِي ابْنِ سَلُولٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلَّتِهِمْ، فكَاتَبُوهُ لِيَكِيدَ لِلْمُسْلِمِينَ، ويَقُومَ بِالدَّوْرِ الذِي كَانُوا يَقُومُونَ بِهِ ضِدَّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابِهِ فِي مَكَّةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ ¬

_ = رقم الحديث (2691) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في دعاء النبي -رضي اللَّه عنه-، وصبره على أذى المنافقين - رقم الحديث (1799). (¬1) انظر فتح الباري (5/ 638).

* حراسة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كتَبُوا إِلَى ابنِ أُبَيٍّ ومَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَعَهُ الأوْثَانَ مِنَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ، ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ بِالمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ باللَّهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ، أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ، أَوْ لَنَسِيرَنَّ إلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ، ونَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَقِيَهُمْ، فَقَالَ: "لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمْ المَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أبْنَاءَكمْ وإخْوَاكُمْ"، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَفَرَّقُوا (¬1). * حِرَاسَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: واحْتِرَازًا مِنْ مَكَائِدِ قُرَيْشٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَبِيتُ إِلَّا سَاهِرًا، أَوْ فِي حِرَاسَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَقْدَمَهُ المَدِينَةَ، لَيْلَةً، فَقَالَ: "لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَة"، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ (¬2) سِلَاحٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَذَا؟ ". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب في خبر النضير - رقم الحديث (3004). (¬2) الخشْخَشَةُ: حركَةٌ لها صوت كصَوْتِ السلاح. انظر النهاية (3212).

* فوائد الحديث

قَالَ: سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا جَاءَ بِكَ؟ ". قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجِئْتُ أحْرُسُهُ (¬1)، فَدَعَا له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ نَامَ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - الأَخْذُ بِالحَذَرِ والاحْتِرَاسُ مِنَ العَدُوِّ. 2 - وَأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحْرُسُوا سُلْطَانَهُمْ خَشْيَةَ القَتْلِ. 3 - وفِيهِ الثَّنَاءُ عَلَى مَنْ تَبَرَّعَ بِالخَيْرِ وتَسْمِيَتُهُ صَالِحًا، وَإِنَّمَا عَانَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ مَعَ قُوَّةِ تَوَكُّلِهِ لِلِاسْتِنَانِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ (¬3) يَوْمَ أُحُدٍ، ولَبِسَ عَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرَ، وأقْعَدَ الرُّمَاةَ عَلَى فَمِ الشِّعْبِ، وخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اشْتَدَّ البَأْسُ كَانَ أمَامَ الكُلِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، . . . وتَعَاطَى أسْبَابَ الأَكْلِ والشُّرْبِ، وادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَهُمْ، وَلَمْ يَنْتظِرْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 148): قال العلماء: كان هذا الحديث قبل نزول قوله تَعَالَى في سورة المائدة آية (67): {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ترَكَ الاحتِرَاس حين نزلت هذه الآية، وأمر أصحابه بالانصرافِ عن حِرَاسته. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الحِراسة في الغزو في سبيل اللَّه - رقم الحديث (2885) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2410) (40). (¬3) ظَاهَرَ بينَ دِرْعَيْنِ: أي جَمَع ولَبِسَ أحدهما فوق الآخر. انظر النهاية (3/ 152).

السَّمَاءَ، وهُوَ أحَقُّ الخَلْقِ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ ذَلِكَ، وأيْضًا فَالتَّوَكُّلُ لا يُنَافِي تَعَاطِي الأَسْبَابِ؛ لأَنَّ التَّوَكُّلَ عَمَلُ القَلْبِ وهِيَ عَمَلُ البَدَنِ، وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬1)، وَقَالَ الذِي سَأَلهُ، أعْقِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ" (¬2)، فأشَارَ إِلَى أَنَّ الِاحْتِرَازَ لَا يَدْفَعُ التَّوَكُّلَ، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬3). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ أبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ المَدِينَةَ، وآوَتْهُمُ الأَنْصَارُ، رَمَتْهُمُ العَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، كَانُوا لا يَبِيتُونَ إِلَّا بِالسِّلَاحِ، ولا يُصْبِحُونَ إلَّا فِيهِ (¬4). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاودَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَهْلِ بنِ الحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: ثُوِّبَ (¬5) بالصَّلَاةِ يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي وهُوَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (260). (¬2) حديث صحيح أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب صفة القيامة والرقائق والورع - باب (50) - رقم الحديث (2686) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الرقائق - باب الورع والتوكل - رقم الحديث (731). (¬3) انظر فتح الباري (6/ 176) - (11/ 373). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب شأن نزول آية {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} - رقم الحديث (3564) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 6). (¬5) التَّثْوِيبُ في صلاةِ الفَجْرِ: هو أن يَقُولَ المؤذن: "الصَّلاةُ خيرٌ منَ النَّوم" مرتين. انظر النهاية (1/ 221).

* محاولة قريش منع الأنصار عن المسجد الحرام

يَلْتَفِتُ (¬1) إِلَى الشِّعْبِ. قَالَ أَبُو دَاودَ: وَكَانَ أرْسَلَ فَارِسًا إِلَى الشِّعْبِ مِنَ اللَّيْلِ يَحْرُسُ (¬2). وَأَخْرَجَ الترمذي في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحْرَسُ حتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ (¬3) مِنَ النَّاسِ} (¬4)، فأخْرَجَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأْسَهُ مِنَ القُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: "يا أيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا، فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ" (¬5). * مُحَاوَلة قُرَيْشٍ مَنْعَ الأَنْصَارِ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحَاوِلُ بِكُلِّ الوَسَائِلِ أَنْ تَضُرَّ المُهَاجِرِينَ أَوِ الأَنْصَارَ الذِينَ آوَوا المُهَاجِرِينَ، فَقَدْ حَاوَلَتْ صَدَّ الأَنْصَارِ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 243)، فهذا الالتفاتُ من الاشتِغَال بالجهادِ في الصلاة، وهو يدخل في مداخل العبادات، كصلاة الخوفِ، وقريبٌ منه قول عمرَ -رضي اللَّه عنه-: إني لأجهِّزُ الجيش وأنا في الصلاة، فهذا جمعٌ بين الجهادِ والصلاة. أخرج هذا الأثر عن عمر -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب العمل في الصلاة - باب يُفكر الرجل الشيء في الصلاة -معلقًا- ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (8034) - وإسناده صحيح كما قال الحافظ في الفتح (3/ 418). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب النظر في الصلاة - رقم الحديث (916). (¬3) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 151): أي بلِّغ أنت رِسَالتي، وأنا حافِظُكَ وناصِرُكَ ومؤيِّدك على أعدائك ومُظْفِرُك بهم، فلا تَخَفْ ولا تحزن، فلن يَصِلَ أحد منهم إليك بسوءً يُؤذيك، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل نزول هذه الآية يُحرَس. (¬4) سورة المائدة آية (67). (¬5) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة المائدة - رقم الحديث (3046) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (2/ 118) - وحسن إسناده الحافظ في الفتح (6/ 176).

جَلِيًّا فِي قِصَّةِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- وأَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُود -رضي اللَّه عنه- قَال: انْطَلَقَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- مُعْتَمِرًا، فنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّامِ فَمَرَّ بِالمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-: أَلَا انتظِرْ حَتَّى إِذَا انتصَفَ النَّهَارُ وغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ؟ فَبَيْنَا سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الذِي يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ؟ فَقَال سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا سَعْدٌ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ بِالكَعْبَةِ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وأصْحَابَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَلَاحَيَا (¬1) بَيْنَهُمَا، . . . فَقَالَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-: وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ. وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ: قَال سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-: أمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ، طَرِيقَكَ عَلَى المَدِينَةِ. فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الوَادِي، فَغَضِبَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ لِأُمَيَّةَ: دَعْنَا عَنْكَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ، قَال: إيَّايَ، قَالَ: نَعَمْ (¬2)، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (4/ 801): الملاحَاةُ: هي المُخَاصمَةُ والمُنَازَعَةُ والمُشَاتَمَةُ. (¬2) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري -قال سعدٌ لِأُمَيَّة: لقد سَمِعت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- =

* فوائد الحديث

حَدَّثَ. . .، فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَدْرٍ (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وفي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِد: 1 - مُعْجِزَاتٌ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ظَاهِرَةٌ. 2 - وفيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- مِنْ قُوَّةِ النَّفْسِ وَاليَقِينِ. 3 - وفِيهِ أَنَّ شَأْنَ العُمْرَةِ كَانَ قَدِيمًا. 4 - وفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ مَأْذُونًا لَهُمْ فِي الِاعْتِمَارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْتَمِرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخِلَافِ الحَجِّ، واللَّهُ أعْلَمُ (¬2). * * * ¬

_ = يقول: "إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ"، قال بمكةَ، قال: لا أدري، ففزعَ لذلك أُمية فزَعًا شَدِيدًا. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من يقتل ببدر - رقم الحديث (3950) - وأخرجه في كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3632). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 10).

تشريع الجهاد

تَشْرِيعُ الجِهَادِ (¬1) أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ؛ لِيُعْبَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالفَنِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" (¬2). قَالَ ابنُ القَيِّمِ: وَأَمَّا نَبِيُّ المَلْحَمَةِ (¬3)، فَهُوَ الذِي بُعِثَ بِجِهَادِ أعْدَاءِ اللَّهِ، فَلَمْ ¬

_ (¬1) الجِهَادُ: مُحَارَبة الكفار، وهو المبالغة واستِفْرَاغُ ما في الوُسْعِ والطاقَةِ من قولٍ أو فعلٍ. يُقال: جهد الرجل في الشيءِ: أي جَدَّ فيه وبَالغ، وجَاهَدَ في الحربِ مُجَاهدَةً وجِهَادًا. انظر النهاية (1/ 308). (¬2) عَلّقه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما قيل في الرِّماح - ووصلهُ الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (231) وإسناده قوي - وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (15/ 509) وقال: إسناده صالح. (¬3) أخرج ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخِ - باب صفته -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخباره - رقم الحديث (6314) بسند صحيح على شرط الشيخين عن أبي موسى -رضي اللَّه عنه- قال: كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسمِّي لنا نفسَهُ أسماءً، فقال: "أنا محمدٌ، وأحمد، والمقَفِّي، والحَاشِر، ونبِيُّ الرحمةِ، ونَبِيُّ الملحَمَةِ". وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في أسمائه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2355) دون ذكر ونبي الملحمة.

فَلَمْ يُجَاهِدْ نَبِيٌّ وَأُمَّتُهُ قَطُّ مَا جَاهَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأُمَّتُهُ، والمَلَاحِمُ (¬1) الكِبَارُ التِي وَقَعَتْ وَتَقَعُ بَيْنَ أُمَّتِهِ وبَيْنَ الكُفَّارِ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا قَبْلَهُ، فإنَّ أُمَّتَهُ يَقْتُلُونَ الكُفَّارَ فِي أقْطَارِ الأَرْضِ عَلَى تَعَاقُبِ الأَعْصَارِ، وَقَدْ أَوْقَعُوا بِهِمْ مِنَ المَلَاحِمِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ أُمَّةٌ سِوَاهُمْ (¬2). قَالَ أحْمَد شَوْقِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالُوا غَزَوْتَ، وَرُسْلُ اللَّهِ مَا بُعِثُوا ... لِقَتْلِ نَفْسٍ وَلَا جَاؤُوا لِسَفْكِ دَمِ جَهْلٌ وتَضْلِيلُ أحْلَامٍ وَسَفْسَطَةٌ ... فتَحْتَ بِالسِّيْفِ بَعْدَ الفَتْحِ بِالقلَمِ لَمَّا أتَى لَكَ عَفْوًا كُلُّ ذِي حَسَبٍ ... تَكَفَّلَ السَّيفُ بالْجُهَّالِ والعَمَمِ (¬3) والشَّرُّ إِنْ تَلْقَهُ بِالْخَيرِ ضِقْتَ بِهِ ... ذَرْعًا وإنْ تَلْقَهُ بِالشَّرِّ يَنْحَسِمِ * * * ¬

_ (¬1) المَلْحَمَةُ: هي الحَرْبُ وموضعُ القِتَال، والجمعُ المَلاحِمُ، مأخوذٌ من اشتِبَاكِ الناسِ واختِلاطِهِمْ فيها. انظر النهاية (4/ 206). (¬2) انظر زاد المعاد (1/ 93). (¬3) العماعم: الجماعات المتفرقة. انظر لسان العرب (9/ 407).

مراتب الجهاد

مَرَاتِبُ الجِهَادِ إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالجِهَادُ أرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النَّفْسِ، وجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وجِهَادُ الكُفَّارِ، وجِهَادُ المُنَافِقِينَ. * فَجِهَادُ النَّفْسِ أرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا: إحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلُّمِ الهُدَى، ودِينَ الحَقِّ الذِي لَا فَلَاحَ لَهَا، وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا ومَعَادِهَا إِلَّا بِهِ، ومَتَى فَاتَهَا عِلْمُهُ، شَقِيَتْ فِي الدَّارَيْنِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى العَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ العِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّهَا لَمْ يَنْفَعَهَا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وإلَّا كَانَ مِنَ الذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الهُدَى وَالبَيَناتِ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ، وَلَا يُنَجِّيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَشَاقِّ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَأَذَى الخَلْقِ، ويَتَحَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ للَّهِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ المَرَاتِبَ الأَرْبَعَ، صَارَ مِنَ

* وأما جهاد الشيطان: فمرتبتان

الرَّبَّانِيِّينَ، فَإِنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ العَالِمَ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى رَبَّانِيًّا (¬1) حَتَّى يَعْرِفَ الحَقَّ، ويَعْمَلَ بِهِ، ويُعَلِّمَهُ، فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. * وَأَمَّا جِهَادُ الشَّيْطَانِ: فَمَرْتَبَتَانِ: إحْدَاهُمَا: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقَى إِلَى العَبْدِ مِنَ الشُّبُهَاتِ والشُّكُوكِ القَادِحَةِ في الإِيمَانِ. الثَّانِيَةُ: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الإِرَادَاتِ الفَاسِدَةِ والشَّهَوَاتِ. فَالجِهَادُ الأَوَّلُ: يَكُونُ بَعْدَهُ اليَقِينِ، والثَّانِي بَعْدَهُ الصَّبْرُ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬2) فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَنَّ إِمَامَةَ الدِّينِ، إِنَّمَا تُنَالُ بِالصَّبْرِ واليَقِينِ، فَالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ وَالإِرَادَاتِ الفَاسِدَةَ، واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهَاتِ. * وَأَمَّا جِهَادُ الكُفَّارِ والمُنَافِقِينَ، فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ: بِالقَلْبِ، واللِّسَانِ، والمَالِ، والنَّفْسِ، وجِهَادُ الكُفَّارِ أخَصُّ بِاليَدِ، وجِهَادُ المُنَافِقِينَ أَخَصُّ بِاللِّسَانِ. ¬

_ (¬1) الرَّباني: هو العالِمُ الرَّاسخُ في العِلْم والدين، أو الذي يَطْلُبُ بعلمه وجهَ اللَّه تَعَالَى. انظر النهاية (2/ 167). (¬2) سورة السجدة آية (24).

* وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب

* وَأَمَّا جِهَادُ أرْبَابِ الظُّلْمِ، والبِدع، والمُنْكَرَاتِ، فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ: بِالْيَدِ إِذَا قَدَرَ، فَإِنْ عَجَزَ، انتقَلَ إِلَى اللِّسَانِ، فَإِنْ عَجَزَ، جَاهَدَ بِقَلْبِهِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَرْتَبةً مِنَ الجِهَادِ، "وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفَاقِ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ذم من مات ولم يحدث نفسه بالغزو - رقم الحديث (1910) - وانظر زاد المعاد (3/ 9 - 10).

كم غزوة غزاها الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟

كَمْ غَزْوَةً غَزَاهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي إسْحَاقَ قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بنِ أرْقَمٍ فَقِيلَ له: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ (¬1)، قِيلَ: كَمْ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 5): كذا قال ومُرَاده الغزَوَات التي خرجَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بنفسِهِ سواءً قاتَلَ أو لم يقاتل، لكن روى أبو يَعلى من طريقِ أبي الزُّبير عن جابرٍ أن عَدد الغزواتِ إحدى وعشرون، وإسناده صحيح، وأصله في صحيح مسلم - رقم الحديث (1813) - فعلى هذا فَفَات زيد بن أرقم ذِكر ثِنتين منها، ولعلهُمَا الأبواءُ وبُوَاطٌ، وكأن ذلك خَفِيَ عليه لِصِغَرِهِ، ويؤيد ما قلتُهُ ما وقع عند مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1254) بلفظ: قلت: فما أوَّل غزوة غَزَاها؟ قال: ذاتُ العُشَيْرِ أو العُشيرة. والعُشيرة: الغزوةُ الثَّالثة. وأما قول ابن التين: يُحملُ قولُ زيدِ بن أرقم على أن العُشَيْرَة أول ما غزا هو، أي زيد بن أرقم، فقلت: ما أول غزوةٍ غزاها -أي وأنت معهُ-؟ قال: العُشَيْرُ، فهو محتمل أيضًا، ويكون قد خَفِيَ عليه ثنتان مما بعد ذلك، أو عَدَّ الغزوتين واحدة، فقد قال موسى بن عُقبة: قاتل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه في ثمانٍ: بدرٍ، ثم أُحد، ثم الأحزاب، ثم المُصْطَلق، ثم خَيبر، ثم مكة، ثم حنين، ثم الطائف. وأهمل غزوةَ قريظة؛ لأنه ضمَّها إلى الأحزاب لكونها في أثَرِها، وأفردَهَا غيره لوُقُوعها منفردَةً بعد هَزِيمة الأحزاب، وكذا وقَعَ لغيرهِ عَدُّ الطائف وحنين واحدةً لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر رضي اللَّه عنهما. وقد توسَّع ابن سعد في طبقاته (2/ 251) فبلغ عِدّة المغازي التي خَرج فيها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه سبغا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي، وهو مطابِق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يُفرد وادِي القرى من خَيْبر، أشار إلى ذلك السُّهيلي، وكأن السِّتة الزائدة من هذا =

* الغزوات الكبار التي نزل فيها القرآن

غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلُ؟ قَالَ: العُسَيْرَةُ أَوِ العُشَيْرُ، فَذَكَرْتُ لِقتَادَةَ فَقَالَ: العُشَيْرَةُ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ بريْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ (¬2). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَعَلَّ بُرَيْدَةَ أراد بقوله: قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ إِسْقَاطَ غَزْوَةَ الفَتْحِ، وَيَكُونُ مَذْهَبُهُ أنَّها فُتِحَتْ صُلْحًا، كَمَا قَاله الشَّافِعِيُّ وَمُوَافِقُوهُ (¬3). * الغَزَوَاتُ الكِبَارُ التِي نَزَلَ فِيهَا القُرْآنُ: أَمَّا الغَزَوَاتُ الكِبَارُ الأُمَّهَاتُ فَهُنَّ سَبْع: بَدْوٌ، وَأُحُدٌ، وَالخَنْدَقُ، وخَيْبَرٌ، ¬

_ = القبيل، وعلى هذا يُحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: غَزَا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعًا وعشرين، وأخرجه يعقوب بن سُفيان عن سلمة بن شَبِيب عن عبدِ الرزاق فيه أن سَعِيدًا قال: أوَّلًا ثمَاني عشرة، ثم قال: أرْبعًا وعشرين. قال الزهري: فلا أدرِي أَوَهِم أو كان شَيْئًا سَمِعَهُ بعدُ. قال الحافظ: وحملُهُ على ما ذكرته يدفع الوهْمَ ويجمعُ الأقوال، واللَّه أعلم. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة العشيرة أو العسيرة - رقم الحديث (4949) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب عدد غزوات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1254). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب عدد غزوات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1814) - والمرادُ بقوله -رضي اللَّه عنه- قاتلَ في ثمانٍ منهن: هي بدرٌ، وأُحُد، والأحزاب، وقُرَيظة، والمُصْطلق، وخَيبرُ، وحُنَيْن، والطائف. (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 164).

والفَتْحُ، وحُنَيْن، وتَبَوكَ. وفِي شَأْنِ هَذِهِ الغَزَوَاتِ نَزَلَ القُرْآنُ: 1 - فَفِي غَزْوَةِ بَدْرٍ نَزَلَ كَثِيرٌ مِنْ سُورَةِ الأنْفَالِ. 2 - وَفي غَزْوَةِ أُحُدٍ نَزَلَ آخِرُ آلِ عِمْرَانَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ. . .} إلى قبيل آخِرِهَا بِيَسِيرٍ. 3 - وفي قِصَّةِ الخَنْدَقِ وقُريظَةَ نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ الأَحْزَابِ. 4 - وفِي قِصَّةِ الحُدَيْبِيَةِ وخَيبرٍ نَزَلَ سُورَةُ الفَتْحِ، وَأُشِيرَ فِيهَا إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ. 5 - وَذُكِرَ فتحُ مَكَّةَ فِي سُورَةِ النَّصْرِ. 6 - وفي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ نَزَلَ آيَات مِنْ سُورَةِ التَّوْبةِ. 7 - وفِي غَزْوَةِ تبوكَ نَزَلَ سُورَةُ التَّوْبَةِ. وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ القُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ إِلَّا فِي هَذِهِ الغَزَوَاتِ السَّبْعِ، بَلْ نَزَلَ القُرْآنُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الغَزَوَاتِ، مِثْلَ: غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَنُزُولِ سُورَةِ الحَشْرِ فِيهَا، وَغَيْرِهَا. وجُرِحَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ هَذِهِ الغَزَوَاتِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فَقَطْ، وقَاتَلَتْ مَعَهُ المَلَائِكَةُ مِنْهَا فِي بَدْرٍ، وحُنَيْنٍ، وَأُحُدٍ عَلَى خِلَافٍ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ يَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي غَزْوَتهَا، ونَزَلَتِ المَلَائِكَةُ يَوْمَ الخَنْدَقِ فَزَلْزَلُوا المُشْرِكِينَ وَهَزَمُوهُمْ، ورَمَى

* الإذن بالقتال

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالحَصْبَاءَ فِي وُجُوهِ المُشْرِكِينَ فَهَرَبُوا، فَكَانَ الفَتْحُ فِي غَزْوَتَيْنِ، بَدْرٍ وحُنَيْنٍ، وقَاتَلَ بِالمَنْجَنِيقِ فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الطَّائِفُ، وتَحَصَّنَ بِالخَنْدَقِ فِي غَزْوَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الأَحْزَابُ، أشَارَ بِهِ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * الإِذْنُ بِالقِتَالِ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ينْذِرُ بِالدَّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ صَابِرًا هُوَ وأصْحَابُهُ عَلَى كَيْدِ المُشْرِكِينَ وأذَاهُمْ، امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الأَذَى، وَالكَفِّ، وَالعَفْوِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (¬2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬3). أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: . . . كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ وأهْلُهَا أخْلَاطٌ مِنْهُمْ المُسْلِمُونَ، والمُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الأوْثَانَ، واليَهُودُ، وَكَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابَهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِالصَّبْرِ والعَفْوِ (¬4). وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ المُشْرِكِينَ وأهْلِ الكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ ¬

_ (¬1) انظر سبل الهدى والرشاد (4/ 9). (¬2) سورة الحجر آية (94). (¬3) سورة البقرة آية (109). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة والفئ - باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة - رقم الحديث (3000).

اللَّهُ، ويَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى، قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬1)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬2). وكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتأَوَّلُ العَفْوَ مَا أمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ -أي فِي القِتَالِ- (¬3). فَلَمَّا قَوِيتْ شَوْكَةُ المُسْلِمِينَ واشْتَدَّ سَاعِدُهُمْ بِإِسْلَامِ الأَنْصارِ، أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الإِذْنَ بِالقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَفْرِضْهُ عَلَيْهِمْ. أَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، والنَّسَائيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- وأَصْحَابًا له أَتَوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا فِي عِزٍّ ونَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي أُمِرْتُ بِالعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا"، فَلَمَّا حَوَّلَهُ اللَّهُ إِلَى المَدِينَةِ، أُمِرَ بِالقِتَالِ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (186). (¬2) سورة البقرة آية (109). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} - رقم الحديث (4566). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الجهاد - رقم الحديث (2424)، وقال الحاكم: =

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الحَرْبِ، وَلَمْ تُحَلَّلْ لَهُ الدِّمَاءُ، إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالدّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الأَذَى، وَالصَّفْحِ عَنِ الجَاهِلِ، وكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ اضْطَهَدَتْ مَنِ اتَّبعَهُ مِنَ المُهَاجِرِينَ حَتَّى فتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ونَفَوْهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَهُمْ مِنْ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ، وَمِنْ مُعَذَّب في أيْدِيهِمْ، وبَيْنَ هَارِبٍ فِي البِلَادِ فِرَارًا مِنْهُمْ، مِنْهُمْ مَنْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، ومِنْهُمْ مَنْ بِالمَدِينَةِ، وفِي كُلِّ وَجْهٍ. فَلَمَّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ورَدُّوا عَلَيْهِ مَا أرَادَهُمْ بِهِ مِنَ الكَرَامَةِ، وكَذَّبُوا نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعَذَّبُوا ونَفَوْا مَنْ عَبَدَهُ وَوَحَّدَهُ، وصَدَّقَ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واعْتَصَمَ بِدِينِهِ، أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي القِتَالِ، والِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إِذْنِهِ لِهُ فِي الحَرْبِ، وإحْلَالِهِ لَهُ الدِّمَاءَ، والقِتَالَ، لِمَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، قَوْله تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ (¬1) ¬

_ = هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الجهاد - باب وجوب الجهاد - رقم الحديث (4279). (¬1) الصَّوْمَعَةُ: هي المَعَابِدُ الصغار للرُّهْبَانِ، وهي للنَّصارى. انظر تفسير ابن كثير (5/ 435).

وَبِيَعٌ (¬1) وَصَلَوَاتٌ (¬2) وَمَسَاجِدُ (¬3) يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَاتِ: وَإِنَّمَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الجِهَادَ، فِي الوَقْتِ الأَلْيَقِ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا بِمَكَّةَ كَانَ المُشْرِكُونَ أكْثَرَ عَدَدًا، فَلَوْ أَمَرَ المُسْلِمِينَ، وهُمْ أَقَلُّ مِنَ العُشْرِ، بِقِتَالِ البَاقِين لَشَقَّ عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ يَثْرِبَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكَانُوا نَيِّفًا (¬5) وثَمَانِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ألَا نَمِيلُ عَلَى أَهْلِ الوَادِي -يَعْنُونَ أَهْلَ مِنَى- لَيَالِيَ مِنَى فَنَقْتُلَهُمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِهَذَا" (¬6). ¬

_ (¬1) البِيَع: هي أوسَعُ من الصَّوْمَعَةِ، وأكثر عابدينَ فيها، وهي للنصارى أيضًا. انظر تفسير ابن كثير (5/ 435). (¬2) الصَلَوَات: كَنَائِسُ اليهود. انظر تفسير ابن كثير (5/ 435). (¬3) المَسَاجد: هي للمسلمين. انظر تفسير ابن كثير (5/ 435). (¬4) سورة الحج آية (39 - 41) - والخبر في سيرة ابن هشام (2/ 80 - 81). (¬5) يقال: نافَ الشيء ينوف: إذا طال وارتفع، ونيِّفب على السبعين في العمر: إذا زاد. انظر النهاية (5/ 124). (¬6) تقدَّم الكلامُ بالتفصيل على بَيْعَةِ العَقَبَةِ الثانية فراجعه.

فَلَمَّا بَغَى المُشْرِكُونَ، وأَخْرَجُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَيْنِ أظْهُرِهِمْ، وهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وشَرَّدُوا أصْحَابَهُ شَذَرَ مَذَرَ (¬1)، فَذَهَبَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِلَى الحَبَشَةِ، وآخَرُونَ إِلَى المَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَرُّوا بِالمَدِينَةِ، وَوَافَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، واجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وقَامُوا بِنَصْرِهِ، وَصَارَتْ لَهُمْ دَارَ إسْلَامٍ، وَمَعْقِلًا يَلْجَؤُونَ إِلَيْهِ -شَرَعَ- اللَّهُ جِهَادَ الأَعْدَاءِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الآيَةُ أوَّلَ مَا نَزَل فِي ذَلِكَ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} (¬2). أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيجهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ، قال أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ، إنَّا للَّهِ وإنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَيَهْلِكُنَّ، فنَزَلَتْ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬3). قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَتَكُونُ قِتَال. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: هِيَ أوَّلُ آيَة نَزَلَتْ فِي القِتَالِ (¬4). ¬

_ (¬1) شَذَرَ مَذَرَ: أي فَرَّقَهُ وبدَّدَهُ في كل وجه. انظر النهاية (2/ 407). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (5/ 434). (¬3) سورة الحج آية (39). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1865) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب فرض الجهاد - رقم الحديث (4710) - والترمذي في جامعه - كتاب =

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ في القِتَالِ كَمَا أخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬1). فَكَانَ هَذَا الإِذْنُ بِالقِتَالِ لِإِزَالَةِ البَاطِلِ وَدَحْرِ (¬2) بَغْيِ وَظُلْمِ قُرَيْشٍ عَنِ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الإِذْنِ بِقِتَالِ المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ مِنَ الحِكْمَةِ إزَاءَ هَذِهِ الظُّرُوفِ -التِي مَبْعَثُهَا الوَحِيدُ هُوَ قُوَّةُ قُرَيْشٍ وَتَمَرُّدُهَا-، أَنْ يبسُطَ المُسْلِمُونَ سَيْطَرَتَهُمْ عَنْ طَرِيقِ قُرَيْش التِّجَارِيِّ المُؤَدِّيةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، واخْتَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِبَسْطِ هَذِهِ السَّيْطَرَةِ خُطَّتَيْنِ: الأُولَى: إرْسَالُ البُعُوثِ والسَّرَايَا، واحِدَةً تِلْوَ الأُخْرَى لِمُهَاجَمَةِ قَوَافِلِ قُرَيْشٍ. الثَّانِيَةُ: السَّعْيُ إِلَى عَزْلِ قُرَيْشٍ بِالدُّخُولِ فِي مُعَاهَدَاتٍ دِفَاعِيَّةٍ، وعَدَمِ اعْتِدَاءً مَعَ القَبَائِلِ المُحِيطَةِ بِالمَدِينَةِ، وَالتِي تَخْتَرِقُ قَوَافِلُ قُرَيْشٍ أرَاضِيهَا، وَهِيَ فِي طَرِيقِهَا إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ عُقِدَتْ مُعَاهَدَاتٌ أثْنَاءَ دَوْرِيَّاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَسْكَرِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي (¬3). ¬

_ = التفسير - باب ومن سورة الحج - رقم الحديث (3444). (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة الحج - رقم الحديث (11283) وأورده الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الفتح (5/ 8) وصحح إسناده. (¬2) الدَّحْرُ: هو الدَّفْعُ بعُنْفب على سبيل الإهانَةِ والإذْلالِ. انظر النهاية (2/ 97). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص 196.

السرايا والغزوات قبل غزوة بدر الكبرى سرية سيف البحر

السَّرَايَا (¬1) والغَزَوَاتُ (¬2) قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكبْرَى سَرِيَّةُ سِيْفِ البَحْر (¬3) وكَانَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ في رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الأُولَى لِلْهِجْرَةِ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، وكَانَتْ بِقِيَادَةِ حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- في ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ المُهَاجِرِينَ (¬5)، وعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِوَاءً أبْيَضَ، وَهُوَ أَوَّلُ لِوَاءٍ (¬6) عُقِدَ فِي الإِسْلَامِ، وحَمَلَهُ أَبُو مِرْثَدٍ كَنَّازُ بنُ الحُصَيْنِ الغَنَوِيُّ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) السَرِيَّة: هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تُبعث إلى العدو، وجمعها السَّرَايا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونونَ خلاصَةَ العسكر وخِيَارهم، من الشيء السّري النَّفِيس، وقيل: سُمُّوا بذلك، لأنهم يَنْفُذُون سِرًّا وخُفْيَة. انظر النهاية (2/ 326). (¬2) الغَزْوُ: هو السيرُ إلى قِتَالِ العَدُوِّ. انظر لسان العرب (10/ 67). قلتُ: جَرَتْ عادةُ المحدثين وأهلُ السير والمغازِي أن يُسمُّوا كل عسكم حضَرَهُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه الشَّريفة غزوة، وما لم يَحْضُرْه، بل أرسل بَعضًا من أصحابه إلى العدو سَرِية وبَعْثًا. (¬3) سِيفُ البَحْرِ: بكسر السين أي سَاحله. انظر النهاية (2/ 390). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 1). (¬5) قال ابن سعد في طبقاته (2/ 1): لم يبعث رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا من الأنصار مبعثًا حتى غزا بدرًا، وذلك أنهم شرطوا له أنهم يمنعونَه في دارِهم، وهذا الثَّبت عندنا. (¬6) ذكر ابن سعد في طبقاته (2/ 1): أن أول لِوَاءً عَقَده الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لِحمزة بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه-.=

وخَرَجَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه-، والهَدَفُ اعْتِرَاضُ عِيرٍ (¬1) لِقُرَيْشٍ جَاءَتْ مِنَ الشَّامِ تُرِيدُ مَكَّةَ، وفِيهَا أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فبلَغُوا سِيفَ البَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ العِيصِ (¬2)، فَالْتَقَوْا حَتَّى اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، فَمَشَى مَجْدِيُّ بنُ عَمْرٍو الجُهَنِيُّ، وكَانَ حَلِيفًا لِلْفَرِيقَيْنِ (¬3) جَمِيعًا، إِلَى هَؤُلَاءَ وَإِلَى هَؤُلَاءِ، حَتَّى حَجَزَ (¬4) بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يَقْتَتِلُوا، فتَوَجَّهَ أَبُو جَهْلٍ فِي أَصْحَابِهِ وَعِيرِهِ إِلَى مَكَّةَ، وانْصَرَفَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- وأصْحَابُهُ إِلَى المَدِينَةِ (¬5). * * * ¬

_ = وقال ابن إسحاق في السيرة (2/ 207): وكانت رَايَةَ عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب أول رَايَةٍ عقدها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الإسلام. قال الحافظ في الإصابة (4/ 353): ويمكنُ الجمعُ على رأيِ من يُغَايِرُ بينَ الرَّاية واللِّوَاء، واللَّه أعلم. (¬1) العِيرُ: هي الإبل بأحمالها. انظر النهاية (3/ 297). (¬2) العِيصُ: اسم موضِع قرب المدينة على ساحل البحر. انظر النهاية (3/ 297). (¬3) قلتُ: يفهم من هذا أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قد عَقَدَ حِلْفًا مع جُهَيْنَةَ في وقت مُبَكِّرٍ من قدومه المدينة، ويُسْتَأْنَسُ بما أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1539) بسند ضعيف عن سعد بن أبي وقاصٍ -رضي اللَّه عنه- قال: لما قَدِمَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة جاءته جُهَيْنَةُ، فقالوا: إنك قد نزلتَ بين أظهُرِنَا، فأوْثِقْ لنا حتى نَأتِيكَ وتَؤُمَّنَا، فأوثَقَ لهم، فاسْلَمُوا. (¬4) الحَجْزُ: الفصلُ بين الشَّيئين. انظر لسان العرب (3/ 61). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (2/ 207) - الطبقات لابن سعد (2/ 201).

سرية عبيدة بن الحارث -رضي الله عنه- إلى رابغ

سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ بنِ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَابِغٍ ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عبَيْد بنَ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- وهُوَ ابنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ (¬1) فِي شَوَّالَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، عَقَدَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِوَاءً أَبْيَضَ كَانَ الذِي حَمَلَهُ مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي سِتِّينَ رَجُلًا مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَلَيس فِيهِمْ أنْصَارِيٌّ، فَلَقِيَ أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬2) وَكَانَ مُشْرِكًا فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَهُوَ فِي مِائتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ عَلَى مَاءٍ يقَالُ له: أَحْيَاءُ مِنْ بَطْنِ رَابِغٍ عَلَى عَشَرَةِ أمْيَالٍ مِنَ الجُحْفَةِ، فترَامَى الفَرِيقَانِ بِالنَّبْلِ، وَلَمْ يَسُلُّوا السُّيُوفَ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا لِلْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بَيْنَهُمُ المُنَاوَشَةُ (¬3)، فَرَمَى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي الإِسْلَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ الفَرِيقَانِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ (¬4). ¬

_ (¬1) رَابِغٌ: هيَ مِيقات أهلِ الشام ومصر وتركيا ومن سَلَك طَريقهم، وتبعُد عن مكة اليوم (183) كم، وكانت الجُحْفة هي الميقات فانْدَثَرَت وأصبحَ يُحْرَم اليوم من رَابغٍ. (¬2) هذه رواية ابن سعد في طبقاته (1/ 252)، وذكر ابن إسحاق في السيرة (2/ 204) أن على القوم عِكْرِمة بن أبي جهل -رضي اللَّه عنه-، وكان يومئذٍ مُشْركًا، ولم يُسْلِم إلا في فَتْحِ مَكَّة، فاللَّه أعلم. (¬3) المُنَاوَشَةُ في القتال: تَدَاني الفريقين، وأخذ بعضهم بعضًا. انظر النهاية (5/ 112). (¬4) يُقال: فلانٌ على حامِيَةِ القومِ: أي آخر من يَحْمِيهم في انهِزَامهم. انظر لسان العرب (3/ 348).

وَفَرَّ مِنَ المُشْرِكِينَ إِلَى المُسْلِمِينَ المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- (¬1) حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وعُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ المَازِنِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا لِيَتَوَصَّلَا (¬2) بِالكُفَّارِ (¬3). قُلْتُ: ذَكَرَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ فِي الفَتْحِ أَنَّ بَعْثَ سَرِيَّةِ عُبَيْدَةَ بنِ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه- كَانَ بَعْدَ غَزْوَةِ الأَبْوَاءَ، فَقَالَ: ذَكَرَ أَبُو الأَسْوَدِ فِي مَغَازِيهِ عَنْ عُرْوَةَ وَوَصَلَهُ ابنُ عَائِذٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا وَصَلَ إِلَى الأَبْوَاءِ بَعَثَ عُبَيْدَةَ بنَ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه- فِي سِتِّينَ رَجُلًا، فَلَقُوا جَمْعًا مِنْ قُرَيْشٍ فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ، فَرَمَى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬4). وَإِذَا صَحَّ هَذَا، فَالرَّاجِحُ مَا قَالَهُ أَبُو الأَسْوَدِ وَابْنُ عَائِذٍ، لَكِنْ يَبْقَى الإِشْكَالُ فِي حَمْلِ المِقْدَادِ بنِ عَمْرٍو لِوَاءَ المُسْلِمِينَ فِي سَرِيَّةِ الخَرَّارِ كَمَا سَيَأْتِي، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَهْمًا مِنِ ابْنِ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) ويُعرف كذلك بالمقداد بن الأسوَد -رضي اللَّه عنه-، لأن الأسود بن عبدِ يَغُوث كان قد تبّنَّاه في الجاهلية فصارَ يُنسب إليه، وغَلَبت عليه، واشتهر بذلك، فلمَّا نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} سورة الأحزاب آية (5) قيل له: المِقداد بن عمرو. (¬2) لِيَتَوَصَّلا: أي أَرَيَاهُم أنهما معهم، حتى خرَجَا إلى المسلمين، وتوصَّلا: بمعنى تَوصَّلا وتَقَرَّبا. انظر النهاية (5/ 168). (¬3) انظر تفاصيل هذه السَّرية في: سيرة ابن هشام (2/ 203) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 252) - البداية والنهاية (3/ 257) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 9). (¬4) انظر فتح الباري (8/ 4).

سرية سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- إلى الخرار

سَرِيَّةُ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الخَرَّارِ (¬1) ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الخَرَّارِ فِي ذِي القَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَقَدَ له لِوَاءً أَبْيَضَ حَمَلَهُ المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، وَبَعَثَهُ فِي عِشْرِينَ (¬2) رَجُلًا مِنَ المُهَاجِرِينَ؟ لِيَعْتَرِضَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا يُجَاوِزَ الخَرَّارَ، فَخَرَجُوا عَلَى أقْدَامِهِمْ يَكْمُنُونَ (¬3) بِالنَّهَارِ، وَيَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى صَبَّحُوهَا، فَوَجَدُوا العِيرَ (¬4) قَدْ مَرَّتْ بِالأَمْسِ، فَانْصَرَفُوا إِلَى المَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا (¬5). * * * ¬

_ (¬1) الخَرَّارُ: بفتح الخاء وتشديد الراء الأولى: موضع قُربَ الجُحْفة. انظر النهاية (2/ 21). (¬2) هذا ما ذكره ابن سعد في طبقاته (1/ 252) - وذكر ابن إسحاق في السيرة (2/ 212): أنهم كانوا ثمانية رَهْط، فاللَّه أعلم. (¬3) كَمَنَ: اختفَى. انظر لسان العرب (12/ 160). (¬4) العِير: الإبل بأحْمَالها. انظر النهاية (3/ 297). (¬5) انظر الطبقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 252) - سيرة ابن هشام (2/ 212) - البداية والنهاية (3/ 248).

الوفيات في السنة الأولى للهجرة

الوَفِيَاتُ فِي السَّنَةِ الأُولَى لِلْهِجْرَةِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُسْلِمِينَ بَعْدَ الهِجْرَةِ فِي المَدِينَةِ كُلْثُومُ بنُ الهِدْمِ (¬1) -رضي اللَّه عنه-. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا أَسْلَمَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، وَنَزَلَ بِقُبَاءَ نَزَلَ فِي مَنْزِلِ كُلْثُومِ بنِ الهِدْمِ -رضي اللَّه عنه- (¬2). وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الأُولَى لِلْهِجْرَةِ أسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه-، عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أشْهُرٍ مِنَ الهِجْرَةِ، أَخَذَهُ وَجَعٌ فِي حَلْقِهِ، يُقَالُ له: الذَّبَحَةُ (¬3)، فَمَاتَ مِنْهَا. أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ بَعْضِ أصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: كَوَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أسْعَدَ بنَ زُرَارَةَ في حَلْقِهِ مِنَ الذَّبَحَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (5/ 462): الهِدْم: بكسر الهاء وسُكُون الدال. (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 244) - والإصابة (5/ 462). (¬3) الذَّبَحَة: بفتح الباء وقد تُسكّن: وجعٌ يَعرِض في الحَلْق من الدم، وقيل هي قَرْحةٌ تظهر فيه فيَنْسَدُّ معها وينقَطِع النَّفَسُ فتَقْتُلُ. انظر النهاية (2/ 142). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23207) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الطب - باب ما جاء في الرخصة في التداوي بالكيِّ - رقم الحديث (2175) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5687).

* سبب قلة الوفيات من المسلمين

وفِي رِوَايَةِ ابنِ مَاجَه فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ: فكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ فَمَاتَ (¬1). ثُمَّ حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غُسْلَهُ، وَكَفَّنَهُ فِي ثَلَاثَةِ أثْوَابٍ مِنْهَاُ برْدٌ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَمَشَى أمَامَ جَنَازَتِهِ، وَدَفنَهُ بِالبَقِيعِ -رضي اللَّه عنه-، وهُوَ أوَّلُ مَنْ دُفِنَ بِالبَقِيعِ مِنَ الأنصَارِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ: اتَّفَقَ أَهْلُ المَغَازِي وَالتَّوَارِيخِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى (¬3). قُلْتُ: وَأَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ -رضي اللَّه عنه- قَدِيمُ الإِسْلَامِ، وَشَهِدَ العَقَبَتَيْنِ، وَكَانَ نَقِيبًا عَلَى قَبِيلَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النُّقَبَاءَ أصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ صَلَّى الجُمُعَةَ فِي المَدِينَةِ قَبْلَ مَقْدَمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ. * سَبَبُ قِلَّةِ الوَفِيَّاتِ مِنَ المُسْلمِينَ: قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا العَامِ، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّنِينَ، أَنَّ المُسْلِمِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ الإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِبَعْضِ الحِجَازِ، أَوْ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ، وَفِي خِلَافَةِ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الطب - باب من اكتوى - رقم الحديث (3492). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن مسعد (3/ 309) - وسيرة ابن هشام (2/ 121) - البداية والنهاية (3/ 243). (¬3) انظر الإصابة (1/ 209).

عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- بَلْ وَقَبْلَهَا- انْتَشَرَ الإِسْلَامُ فِي الأَقَالِيمِ، فَبِهَذَا ظَهَرَ لَكَ سَبَبُ قِلَّةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي صَدْرِ الإِسْلَامِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للذهبي (1/ 294).

السنة الثانية للهجرة

السَّنَةِ الثَّانِيَةُ لِلْهِجْرَةِ غَزْوَةُ الأَبْوَاءَ أَوْ (وَدَّانٍ) (¬1) وَهِيَ أوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صحِيحِهِ: وَقَالَ ابنُ إسْحَاقَ: أَوَّلُ مَا غَزَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَبْوَاءَ، ثُمَّ بُوَاطَ، ثُمَّ العُسَيْرَةَ (¬2). وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَى عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ لِوَاءً أبْيَضَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ سَعْدَ بنَ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- وَخَرَجَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي سَبعِينَ رَجُلًا مِنَ المُهَاجِرِينَ لَيْسَ ¬

_ (¬1) الأبْوَاء: بفتح الهمزة وسكون الباء، هو جبَل بين مكة والمدينة، وعنده بلدٌ يُنسب إليه، بينه وبين الجُحْفة مما يَلي المدينة ثلاثةٌ وعشرون مِيلًا، وسُمِّيت الأبواء: لِتَبَوُّءَ السُّيول بها. انظر معجم البلدان (1/ 73) - النهاية (1/ 24). أما وَدَّان: فهي قريةٌ بين مكة والمدينة من نواحي الفُرع، بينها وبين الأبْوَاء نحو من ثمانية أمْيَال، قريبة من الجحفة. انظر معجم البلدان (8/ 448). قال الحافظ في الفتح (8/ 4): الأبْوَاء ووَدّان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية، ولهذا وقع في حديث الصَّعْبِ بن جثّامة قال: وهو بالأبواء أو ودَّان. قلتُ: حديثُ الصَّعبِ بن جثَّامة أخرجه: البخاري في صحيحه - كتاب جزاء الصيد - باب إذا أهدى للمحرم حِمَارًا وَحْشيًا حَيًا لم يقبل - رقم الحديث (1825). (¬2) عَلَّقه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة العُشيرة أو العُسيرة.

فِيهِمْ أنْصَارِيٌ، حَتَّى بَلَغَ الْأَبْوَاءَ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. وَفِي هَذِهِ الغَزْوَةِ وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِخْشِيَّ بنَ عَمْرٍو الضَّمْرِيَّ، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي ضَمْرَةَ فِي زَمَانِهِ، عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ بَنِي ضَمْرَةَ وَلَا يَغْزُوهُ، وَلَا يُكَثِّرُوا عَلَيْهِ جَمْعًا، وَلَا يُعِينُوا عَدُوًّا، وَكتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا. وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 252) - سيرة ابن هشام (2/ 203) - شرح المواهب (2/ 229) - البداية والنهاية (3/ 257).

غزوة بواط

غَزْوَةُ بُوَاطٍ (¬1) ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ فِي مِائتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وحَمَلَ لِوَاءَهُ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ لِوَاءً أبْيَضَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ: سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ (¬2)، وَقِيلَ: السَّائِبَ بنَ عُثْمَانِ بنِ مَظْعُونٍ (¬3)، يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا: أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ الجُمَحِيُّ (¬4) وَمِائَةُ رَجُلٍ منْ قُرَيْشٍ، وَأَلفانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، فبلَغَ بُوَاطَ منْ نَاحِيَةِ رَضْوَى (¬5)، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا وَرَجَعَ إِلَى المَدِينَةِ (¬6). * * * ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 4): أما بُوَاطٌ: فبفتح الباء وقد تُضم وتخفيف الواو: وهو جبل من جبال جُهَيْنَةَ بقرب يَنْبُع. (¬2) هذا ما ذكره ابن سعد في طبقاته (2/ 253). (¬3) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (2/ 210). (¬4) قُتِل هذا الرجل في غزوة بدر الكبرى كافرًا. (¬5) رَضْوى: بفتح الراء وسكون الضاد: جبَلٌ مشهور عظيم بِيَنْبُع. انظر معجم البلدان (4/ 409). (¬6) انظر الطبقات لابن سعد (2/ 253) - سيرة ابن هشام (2/ 210) - شرح المواهب (2/ 231) - البداية والنهاية (3/ 260).

غزوة العشيرة

غَزْوَةُ العُشَيْرَةِ وَهِيَ الغَزْوَةُ الثَّالِثَةُ (¬1) لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ (¬2) عَلَى رَأْسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ لِوَاءً أَبْيَضَ، واسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ أبَا سَلَمَةَ بنَ عَبْدِ الأَسَدِ المَخْزُومِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي خَمْسِينَ ومِائَةٍ، وَيُقَالُ فِي مِائَتَيْنِ مِنَ المُهَاجِرِينَ مِمَّنْ دَعَاهُمْ، وَلَمْ يُكْرِهْ أحَدًا عَلَى الخُرُوجِ، وخَرَجُوا ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه -تعليقًا- كتاب المغازي - باب غزوة العُشَيرة أو العُسَيرة: وقال ابن إسحاق: أول ما غَزَا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأبْوَاء ثم بُوَاط ثم العُشيرة. لكن روى الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب عددِ غَزَوات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1254) عن زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنه- أنه سُئل: ما أول غزوة غَزَاها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: ذات العُسَيْر أو العُشَيْر. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (3/ 261): وهذا الحديث ظاهرٌ في أَنَّ أول الغزوات العُشَيرة، اللهم إلا أن يكون المرادُ غَزْوة شهدها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زيدُ بن أرقم العُشَيرة، وحينئذٍ لا ينفِي أن يكون قبلها غيرها لم يشهدْ زيدُ بن أرقم -رضي اللَّه عنه-، وبهذا يحصل الجَمْعُ بين ما ذكره محمد بن إسحاق وبين هذا الحديث، واللَّه أعلم. قلتُ: ويؤيد ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (19282) عن أبي إسحاق قال: سألت زيد بن أرقم: كم غزا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: تسع عشرة، وغزوت معه سبع عشرة، وسبقني بغزاتين. (¬2) هذا ما ذكره ابن سعد في طبقاته (1/ 253) - وذكر ابن إسحاق في السيرة (2/ 211): أنها كانت في أواخر جُمَادى الأولى، وجعل رُجُوعه -صلى اللَّه عليه وسلم- منها في جمادى الآخرة.

* هل كنى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليا -رضي الله عنه- بأبي تراب في هذه الغزوة؟

عَلَى ثَلَاثِينَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا (¬1)، يَعْتَرِضُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ذَاهِبَةً إِلَى الشَّامِ، وكَانَ قَدْ جَاءَهُ الخَبَرُ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَكَّةَ فِيهَا أمْوَالُ قُرَيْشٍ، فبلَغَ ذَا العُشَيْرَةِ، فَوَجَدَ العِيرَ قَدْ مَضَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَهَذِهِ العِيرُ هِيَ التِي خَرَجَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَيْضًا يُرِيدُهَا حِينَ رَجَعَتْ مِنَ الشَّامِ، فَكَانَ بِسَبَبِهَا حَدَثَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى. وفِي هَذِهِ الغَزْور وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بنِيُ مدْلِجٍ (¬2) وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ. * هَلْ كَنَّى الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- بِأَبِي تُرَابٍ فِي هَذِهِ الغَزْوة؟ : وَقِيلَ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ كَنَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَبَا تُرَابٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَفِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، والطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ وَابْنُ إِسْحَاق فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ عَمَّارَ بنِ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ أنَا وَعَلِيُّ رَفيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ العُشَيْرَةِ، فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَقَامَ بِهَا، رَأَيْنَا نَاسًا مِنْ بَنِيُ مدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ فِي نَخْلٍ، فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: يَا أبَا اليَقْظَانِ (¬3)! هَلْ لَكَ أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءَ، فنَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ؟ ¬

_ (¬1) اعتَقَبْتُ فُلانًا منَ الرُّكوب: أي نزَلْتُ فَرَكِبَ. انظر لسان العرب (9/ 304). (¬2) تقدَّمَ في غزوَةِ ودَّانٍ أو الأبْوَاء أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وادَعَ بنِي ضَمْرَة فلعلها تأكيدًا للأولى، أو أن حُلَفَاء بَنِي مُدْلِج كانوا خَارِجِينَ عن بني ضَمْرَة لأمرٍ ما، وبسببه حالفوا بَنِي مُدْلِج، فكان ابتداءَ صُلْحٍ لبني مُدْلِج. انظر شرح المواهب (2/ 234). (¬3) أبو اليَقْظَانِ: هي كنيَةُ عمَّار بن ياسر -رضي اللَّه عنه-.

* الصحيح أن أبا تراب كني بها -رضي الله عنه- بعد غزوة بدر

فَجِئْنَاهُمْ، فنَظَرْنَا إِلَى عَمَلِهِمْ سَاعَةً، ثُمَّ غَشِيَنَا (¬1) النَّوْمُ، فَانْطَلَقْتُ أنَا وَعَلِيٌّ، فَاضْطَجَعْنَا في صَوْرٍ مِنَ النَّخْلِ (¬2) في دَقْعَاءَ (¬3) مِنَ التُّرَابِ، فَنِمْنَا، فَوَاللَّهِ مَا أَهَبَّنَا (¬4) إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحَرِّكُنَا بِرِجْلِهِ، وَقَدْ تَتَرَّبْنَا (¬5) مِنْ تِلْكَ الدِّقْعَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ: "يَا أبَا تُرَابٍ" لِمَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ التُّرابِ (¬6). * الصَّحِيحُ أَنَّ أبَا تُرَابٍ كُنِّيَ بِهَا -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ: قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ كَنَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بِأَبِي تُرَابٍ كَانَ بَعْدَ نِكَاحِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَ نِكَاحُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا في البَيْتِ. فَقَالَ: "أيْنَ ابنُ عَمِّكِ؟ ". ¬

_ (¬1) غَشِيَ الشيءَ: إذا لابَسَه. انظر لسان العرب (10/ 77). (¬2) صَوْرٌ مِنَ النخل: أي الجَمَاعة من النخل. انظر النهاية (3/ 55). (¬3) الدَّقْعَاءُ: عامَّة التراب، وقيل: التراب الدَّقِيق علي وجهِ الأرض. انظر لسان العرب (4/ 378). (¬4) ما أهَبَّنَا: أي ما أيْقَظَنَا. انظر النهاية (5/ 207). (¬5) تَتَرَّب: لَزِقَ به التراب. انظر لسان العرب (2/ 23). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18321) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1172) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (811).

قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ (¬1) عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لإِنْسَانٍ (¬2): "انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ ". فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ في المَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ مُضْطَجعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في الصَّحِيحِ: وَامْتَلَأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَمْسَحُهُ (¬3) عَنْهُ، وَيَقُولُ: "قُمْ أبَا تُرَابٍ، قُمْ أبَا تُرَابٍ" (¬4). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا (¬5) -أَيْ تَكْنِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) يَقِل: بفتح الياء وكسر القاف: من القَيْلُولة، وهي نوم نِصْف النهار. انظر فتح الباري (2/ 104). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 104): يظهر لي أنَّه سَهْل رواي الحديث؛ لأنه لم يذكر أنَّه كان مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غيره. (¬3) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال: فجعَل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يمسَحُ التُّراب عن ظهره. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب نوم الرجال في المسجد - رقم الحديث (441) - وأخرجه في كتاب الأدب - باب التكَنِّي بأبي تراب - رقم الحديث (6204) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عليّ بن أبي طالب -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2409). (¬5) قول الحافظ: فإن كان مَحْفُوظًا إشارة إلى تَوقفه فيه، فإن الحديث إسناده لا يخلُو من مَقَال. انظر شرح المواهب (2/ 235). قلت: الحديث تفرَّد به ابن إسحاق في روايته، ولم يتابعه عليه أحد، وهو لم =

* فرح علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بهذه الكنية

عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- في غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ أبَا تُرَابٍ- أمْكَنَ الجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَقِّ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-. . . وَالمُعْتَمَدُ في ذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ سَهْلٍ (¬1) في البَابِ، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬2). * فَرَحُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بِهَذِهِ الكُنْيَةِ: وَكَانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِب -رضي اللَّه عنه- لَيَفْرَحُ بِهَذِهِ الكُنْيَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أبَا تُرَابٍ إِلَّا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * أشْقَى الآخِرِينَ الذِي يَقْتُلُ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: وَفِي غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ هَذِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ وَعَمَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَلَا أُحَدِّثُكُمَا بِأَشْقَى النَّاسِ؟ ". ¬

_ = يجزم بصحة هذا الحديث في السيرة (2/ 212)، فإنه بعد أن ذكر الحديث أورد قصة أخرى في تسمية علي -رضي اللَّه عنه- بأبي تراب -وهي التي رواها الشيخان في صحيحيهما- ثم قال: فاللَّه أعلم أي ذلك كان. (¬1) الَّذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما والذي مضَى قبل قليل. (¬2) انظر فتح الباري (12/ 232). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأدب - باب التكنِّي بأبي تراب - رقم الحديث (6204) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2409).

قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "أُحَيْمِرُ (¬1) ثَمُودَ الذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ"، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَرْنِهِ (¬2)، "حَتَّى يَبُلَّ مِنْهَا هَذِهِ"، يَعْنِي لِحْيَتَهُ (¬3). وفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الحَاكِمِ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "إِنَّكَ سَتُضْرَبُ ضَرْبَةً هَاهُنَا وَضَرْبَةً هَاهُنَا". وَأَشَارَ إِلَى صُدْغَيْهِ (¬4)، "فَيَسِيلُ دَمُهَا حَتَّى تَخْتَضِبَ (¬5) لِحْيَتُكَ، ويَكُونُ صَاحِبُهَا أشْقَاهَا، كَمَا كَانَ عَاقِرُ النَّاقَةِ أشْقَى ثَمُودَ" (¬6). قُلْتُ: قُتِلَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- لَيْلَةَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، ¬

_ (¬1) واسمُهُ: قُدَارُ بنُ سَالِفٍ، وكان رَجُلًا عَزيرًا في قومه، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4942) - ومسلمٌ في صحيحه - رقم الحديث (2855) - عن عبد اللَّه بن زَمْعَة أنَّه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب وذكَرَ الناقةَ والذي عَقَرَ، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} انبعَثَ لها رجُلٌ عزِيزٌ عارِمٌ مَنِيعٌ في رَهْطِهِ". عارِمٌ: أي خبِيثٌ شِرِّير. انظر النهاية (3/ 201). (¬2) قَرْنُ الرَّجُل: حَدُّ رأسِهِ وجانِبُه. انظر لسان العرب (11/ 135). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18321) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (811) وهو حديث صحيح - وانظر السلسلة الصحيحة للألباني - رقم الحديث (1088). (¬4) الصُّدْغُ: هو ما بين العين إلى شحمة الأذن. انظر النهاية (3/ 17). (¬5) تختَضِبُ: تَبتَلّ. انظر النهاية (2/ 38). (¬6) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- بشهادة عليّ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4647).

سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، وَقتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُلْجِمٍ الخَارِجِيُّ (¬1) قبَّحَهُ اللَّهُ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) قال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 592): عبدُ الرحمن بن مُلْجِم المُرَادي ذاك المُعثّر الخارجي ليس بأهل لأن يروى عنه، وما أظن له رواية، وكان عَابِدًا قَانتًا للَّه، لكنَّه خُتِمَ له بِشَرٍّ، فقتل أمير المؤمنين عليًّا -رضي اللَّه عنه- مُتَقَرِّبًا إلى اللَّه بدَمِهِ بزعمه، فقُطِعَت أربعَتُه، وسملت عيناه، ثم أُحْرِق، نسأل اللَّه العفو والعافية. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 210) - طبقات ابن سعد (2/ 253) - الرَّوْض الأُنُف (3/ 38) - البداية والنهاية (3/ 260) - شرح المواهب (2/ 232).

غزوة سفوان أو بدر الأولى

غَزْوَةُ سَفَوَانَ (¬1) أَوْ بَدْرٌ الأولَى لَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ إِلَّا لَيَالِيَ قَلَائِلَ لَا تَبْلُغُ العَشْرَ حَتَّى أَغَارَ كُرْزُ بنُ جَابِرٍ الفِهْرِيُّ (¬2) عَلَى سَرْحِ (¬3) المَدِينَةِ، فَاسْتَاقَهُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وكَانَ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَاسْتَخْلَفَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَطَلَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: سَفَوَانُ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَفَاتَهُ كُرْزُ بنُ جَابِرٍ فَلَمْ يَلْحَقْهُ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) سَفَوان: بفتح السين والفاء وادٍ من ناحية بدر، بلغ إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في طلب كُرز بن جابر الفهري لما أغارَ على سرح المدينة. انظر النهاية (2/ 338). (¬2) هو كُرزُ بن جابِرٍ الفِهْرِي كان من رُؤَساء المشركين، ثم أسلم وصَحِبَ، وبعثه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في آثار العُرَنِيِّين في عِشرين فارسًا، واستعمله عليهم، واستشهد -رضي اللَّه عنه- في فتح مكة. انظر الإصابة (5/ 434). (¬3) السَّرْحُ: بفتح السين وسكون الراء وهي الإبل والمواشي التي تسرَحُ للرَّعي. انظر النهاية (2/ 322). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 213) - وعند ابن سعد في طبقاته (2/ 253): أنها كانت قبل غزوة العُشَيرة.

سرية عبد الله بن جحش -رضي الله عنه- إلى نخلة

سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى نَخْلَةٍ (¬1) وَفِي رَجَبَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى نَخْلَةٍ وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا (¬2)، وَقِيلَ في ثَمَانِيَةٍ (¬3) مِنَ المُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَكَانُوا كُلَّ اثْنَيْنِ يَعْتَقِبَانِ بَعِيرًا. وَكتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ، فَيَمْضِيَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا. فَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ الكِتَابَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَإِذَا فِيهِ: "إِذَا نَظَرْتَ في كتَابِي هَذَا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فتَرَصَّدْ (¬4) بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أخْبَارِهِمْ". فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-: سَمْعًا وَطَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةٍ، أَرْصُدُ بِهَا قُرَيْشًا، حَتَّى آتِيَهُ ¬

_ (¬1) نخلة: هو موضع بالحجاز قريب من مكة، فيه نخل وزرع. انظر معجم البلدان (8/ 381). (¬2) هذا ما ذكره ابن سعد في طبقاته (2/ 253). (¬3) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (2/ 213). (¬4) الترَصُّد: الترقُب. انظر لسان العرب (5/ 223).

مِنْهُمْ بِخَبَرٍ، وَقَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجعْ، فَأَمَّا أنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِن، فَوْقَ الفُرُعِ، يُقَالُ لَهُ: بُحْرَانِ، أَضَلَّ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وعُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بَعِيرًّا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ، فتَخَلَّفا عَلَيْهِ في طَلَبِهِ. وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- وبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلَ نَخْلَةً، فَمَرَّتْ بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا (¬1) وَأُدْمًا (¬2) وتِجَارَةً مَنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فِيهَا عَمْرُو بنُ الحَضْرَمِيِّ، وَعُثْمَانُ ونَوْفَلُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بنِ المُغِيرَةِ، وَالحَكَمُّ بَنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ، فَلَمَّا رَآهُمُ القَوْمُ هَابُوهُمْ وأنْكَرُوا أمْرَهُمْ، وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ، فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بنُ مُحْصِنٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، لِيُطَمْئِنَ القَوْمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا: هُمْ عُمَّارٌ، لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، فَسَرَّحُوا (¬3) رِكَابَهُمْ (¬4)، وَصَنَعُوا طَعَامًا، وَتَشَاوَرَ المُسْلِمُونَ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبَ -وهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ- فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلَنَّ الحَرَمَ، ¬

_ (¬1) الزبِيبُ: هو العِنَبُ المُجَفَّف. انظر لسان العرب (6/ 8). (¬2) الأُدْمُ: بضم الهمزة وسكون الدال ما يُؤكل مع الخُبز أي شيء كان. انظر النهاية (1/ 35). (¬3) سَرَحْت الماشيةِ: أي أخرجتها بالغَداة إلى المرعى. انظر لسان العرب (6/ 229). (¬4) الرِّكاب: الإبل التي تَحمِل القوم. انظر لسان العرب (5/ 296).

فَلَيَمْتَنِعُنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فتَرَدَّدَ القَوْمُ، وَهَابُوا الإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا أنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدِرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بنَ الحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقتَلَهُ، وَشَدَّ (¬1) المُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَاسْتُأْسِرَ عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالحَكَمُ بنُ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّا غَنِمْنَا الخُمُسُ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ تَعَالَى الخُمُسَ مِنَ المَغَانِمِ، فَعَزَلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خُمُسَ العِيرِ، وَقَسَّمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ أقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- بِالعِيرِ وَالأَسِيرينِ إِلَى المَدِينَةِ. فَكَانَ في هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَوَّلَ خُمُسٍ في الإِسْلَامِ، وَأَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْكُفَّارِ فيِ الإِسْلَامِ، وَأَوَّلَ أَسِيرَيْنِ في الإِسْلَامِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ قَالَ لَهُمْ: "مَا أمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ في الشَّهْرِ الحَرَامِ"، وَتَوَقَّفَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في التَّصَرُّفَ في العِيرِ وَالأَسِيرَيْنِ، وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُقِطَ في أيْدِي القَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وعَنَّفَهُمْ إخْوَانُهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا، وَاتَّخَذَ المُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّا حَدَثَ وَسِيلَةً لِلطَّعْنِ في المُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الأَمْوَالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ. ¬

_ (¬1) شَدَّ في العَدْو: أسرَعَ وعَدا. انظر لسان العرب (7/ 55).

وَأَرْجَفَ (¬1) اليَهُودُ في المَدِينَةِ، قَصْدَ إِشْعَالِ الفِتْنَةِ، فَلَمَّا أكْثر النَّاسُ في ذَلِكَ مِنَ العِتَابِ وَالإِرْجَافِ مِنَ الأَعْدَاءَ، أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ (¬2) وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ (¬3) وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ فَرِحَ المُسْلِمُونَ، وَقَدْ فَرَّجَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الخَوْفِ وَالهَمِّ (¬5)، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبَضَ العِيرَ وَالأَسِيرَيْنِ، وَبَعَثَتْ إِلَيْهِ ¬

_ (¬1) أرجَفَ القوم: إذا خاضُوا في الأخبار السيِّئَة وذِكر الفتن. انظر لسان العرب (5/ 153). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (1/ 576): أي إن كنتم قَتَلتم في الشهر الحرام فقد صَدُّوكم عن سبيلِ اللَّه مَعَ الكُفْرِ به، وعن المسجد الحرامِ، وإخرَاجكم منه وأنتم أهله أكبَرُ عند اللَّه من قتل مَنْ قتلتم منهم. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (1/ 576): أي قد كانوا يَفْتِنون المسلم في دينه، حَتَّى يَرُدوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبرُ عند اللَّه من القتل. (¬4) سورة البقرة آية (217). (¬5) قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (3/ 152): والمقصودُ أَنَّ اللَّه سبحانه وتَعَالَى حَكَم بين أوليائه وأعدائه بالعدلِ والإنصافِ، ولم يُبَرِّئ أولياءَهُ من ارتكاب الإثم بالقتالِ في الشهرِ الحرام، بل أخبر أنَّه كبيرٌ، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبَرُ وأعظَمُ من مُجَرَّد القتال في الشهر الحرام، فهم أحَق بالذمِّ والعيب والعقوبةِ، لا سيما وأولياؤه =

قُرَيْشٌ في فِدَاءِ عُثْمَانَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالحَكَمِ بنِ كَيْسَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا نَفْدِيكُمُوهُمَا حَتَّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا" -يَعْنِي سَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بنَ غَزْوَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وكَانَا قَدْ تَخَلَّفَا عَنِ القَوْمِ قَبْلَ وُصُولهِمْ نَخْلَةً، بَحْثًا عَنْ بَعِيرِهِمُ الذِي أضَلَّاهُ- فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ. فَقَدِمَ سَعْدٌ وعُتْبَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَفَدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمْ، فَأَمَّا الحَكَمُ بنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وأقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا (¬1). وَبَعْدَ وُقُوعِ مَا وَقَعَ في سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- تَحَقَّقَ خَوْفُ ¬

_ = كانوا متأوِّلين في قتالهم ذلك، أو مقَصِّرِين نوعَ تقصيرٍ يغفره اللَّه لهم في جَنبِ ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرةِ مع رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإيثارِ ما عِند اللَّه، فهم كما قيل: وإذا الحبيبُ أتَى بِذَنْبٍ واحِدٍ ... جاءَتْ مَحَاسِنُهُ بألْفِ شَفِيع فكيفَ يُقاس بِبَغِيض عدوٍ جاء بكل قَبِيح، ولم يأتِ بشَفِيعٍ واحدٍ من المحاسِنِ. (¬1) أخرج قِصَّة سرية عبد اللَّه بن جحش -رضي اللَّه عنه-: النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب البكاء عند التشييع - رقم الحديث (8752) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4880) - (4881) - وابن سعد طبقاته (2/ 253) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 213) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 17) - والطبراني بإسناد حسن كما قال الحافظ في الفتح (1/ 209)، ثم قال الحافظ: ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس عند الطبري في التفسير، فبمجموع هذه الطرق يكون صَحيحًا. قُلتُ: أشارَ البخاري في صحيحه إلى هذه السَّرِية: فقد أخرج في كتاب العلم - باب ما يذكر في المناولة: واحتجَّ بعض الحجاز في المُنَاولة بحديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث كتَبَ لأمِير السرية كِتابًا وقال: لا تَقْرأه حَتَّى تبلُغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قَرَأه علي الناس، وأخبرهم بأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.

المُشْرِكِينَ، وتَجَسَّدَ أمَامَهُمُ الخَطَرُ الحَقِيقِيُّ، وَوَقَعُوا فِيمَا كَانُوا يَخْشَوْنَ الوُقُوعَ فِيهِ، وَعَلِمُوا أَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ في غَايَةٍ مِنَ التَّيَقُّظِ والتَّرَبُّصِ، تَترَقَّبُ كُلَ حَرَكَةٍ مِنْ حَرَكَاتِهِمُ التِّجَارِيَّةَ، وَأَنَّ المُسْلِمِينَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَزْحَفُوا إِلَى (400) كيلو مِترٍ تَقْرِيبًا، ثُمَّ يَقْتُلُوا ويَأْسِرُوا رِجَالَهُمْ، وَيَأْخُذُوا أمْوَالَهُمْ، ويَرْجِعُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وشَعَرَ هَؤُلَاءِ المُشْرِكُونَ بِأَنَّ تِجَارَتَهُمْ إِلَى الشَّامِ أمَامَ خَطَرٍ دَائِمٍ، لَكِنَّهُمْ بَدَلَ أَنْ يَفِيقُوا عَنْ غَيِّهِمْ ويَأْخُذُوا طَرِيقَ الصَّلَاحِ والمُوَادَعَةِ ازْدَادُوا حِقْدًا وَغَيْظًا، وَصَمَّمَ صَنَادِيدُهُمْ وكُبرَاؤُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُوعِدُونَ وَيُهَدِّدُونَ بِهِ مِنْ قَبْلُ، مِنْ إبَادَةِ المُسْلِمِينَ في عُقْرِ دَارِهِمْ، وهَذَا هُوَ الطَّيْشُ الذِي جَاءَ بِهِمْ إِلَى بَدْرٍ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 201.

تحويل القبلة

تَحْوِيلُ القِبْلَةِ وَفِي النِّصْفِ مِنْ رَجَبَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَحْوِيلِ القِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ (¬1). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا (¬2)، ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الكَعْبَةِ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصْحَابُهُ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 134): كان تحويلُ القِبْلة في نصف شهر رجب من السنة الثانية علي الصحيح، وبه جزم الجمهور. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 134): والجمعُ بين الروايتين سهلٌ -أي بين من قال ستّة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا- بأن يكون من جزم بستة عشر لفَّق من شهر القُدُوم وشهرِ التحويل شهرًا وألغَى الزَّائد، ومن جزمَ بسبعة عشر شهرًا عَدَّهُما معًا، ومن شكَّ تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الصلاة من الإيمان - رقم الحديث (40) - وأخرجه في كتاب الصلاة - باب التوجه نحو القِبْلة حيث كان - رقم الحديث (399) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة - رقم الحديث (525) (12).

ثُمَّ صُرِفَتِ القِبْلَةُ بَعْدُ (¬1). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الكَعْبَةِ (¬2) قِبْلَةَ أبِيهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلذَلِكَ كَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ يَجْعَلُ الكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فيصِيبُ القِبْلَتَيْنِ مَعًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيح عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي وَهُوَ بِمَكَّةَ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَالكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعْدَمَا هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفَ إلَى الكَعْبَةِ (¬3). فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَعُدْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ الكَعْبَةِ وَبَيْتِ المَقْدِسِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَانَ مِمَّا يَرْفَعُ يَدَيْهِ، وطَرْفَه إِلَى السَّمَاءَ سَائِلًا اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (¬4) وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬5)، فتَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحْوَ الكَعْبَةِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2252). (¬2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب التوجه نحو القبلة - رقم الحديث (399) - عن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- قال: . . . وكان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبة. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2991). (¬4) أخرج النسائي في السنن الكبرى بسند حسن - رقم الحديث (5674) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5947) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: "أوَّل ما نُسِخ من القُرآن القِبْلة". (¬5) سورة البقرة آية (144).

* وصول خبر تحويل القبلة لأهل قباء

أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ أوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، وأنَّهُ صَلَّى قَبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وأنَّهُ صَلَّى أوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ العَصْرِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: المَشْهُورُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الكَعْبَةِ صَلَاةُ العَصْرِ، وَلهَذَا تَأَخَّرَ الخَبَرُ عَنْ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى صَلَاةِ الفَجْرِ (¬2). * وُصُولُ خَبَرِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ لِأَهْلِ قُبَاءَ: وَوَصَلَ خَبَرُ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ لِأَهْلِ قُبَاءَ، وَهُمْ خَارجَ المَدِينَةِ في صَلَاةِ الفَجْرِ مِنَ اليَوْمِ الثَّانِي. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءَ في صَلَاةِ الصُّبْحِ (¬3) إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أُنْزِلَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الصلاة من الإيمان - رقم الحديث (40). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (1/ 460). (¬3) قال الحافظ في الفتح (2/ 65): وهذا فيه مغايرة لحديث البراء الآتي فإن فيه أنهم كانوا في صلاة العصر، والجواب أن لا منافاة بين الخبرين، لأن الخبرَ وصَلَ وقتَ العَصْر إلى من هو داخل المدينة، وهم بنو حارِثَة وذلك في حديث البراء الآتي، ووصل الخبرُ وقثَ الصُّبح إلى من هو خارج المدينة، وهم بنُو عمرو بن عوف أهل قباء وذلك في حديث ابن عمر هذا.

* فوائد الحديث

عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا، وكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَمَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ في صَلَاةِ العَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الكَعْبَةِ، فتَحَرَّفَ القَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الكَعْبَةِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وفِي هَذَا الحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ طَاعَتِهِمْ -أي الصَّحَابَةُ- للَّهِ وَرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانْقِيَادِهِمْ لِأَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وفِي أحَادِيثِ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - الرَّدُّ عَلَى المُرْجِئَةِ في إنْكَارِهِمْ تَسْمِيَةَ أعْمَالِ الدِّينِ إيمَانًا. 2 - وفِيهِ بَيَانُ شَرَفِ المُصْطَفَى -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ لإِعْطَائِهِ لَهُ مَا أَحَبَّ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب ما جاء في القبلة - رقم الحديث (403) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب تحويل القبلة - رقم الحديث (526). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب التوجه نحو القبلة - رقم الحديث (399) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18707). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (1/ 457).

* ردة فعل الناس لما حولت القبلة

مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالسُّؤَالِ. 3 - وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَنَسْخِ مَا تَقَرَّرَ بِطَرِيقِ الْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّ صَلَاتَهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ بِطَرِيقِ القطْعِ لِمُشَاهَدَتِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى جِهَتِهِ، وَوَقَعَ تَحَوُّلُهُمْ عَنْهَا إِلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ بِخَبَرِ هَذَا الْوَاحِدِ. 4 - وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَثْبُتُ في حَقِّ المُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالإِعَادَةِ مَعَ كَوْنِ الأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ الكَعْبَةِ وَقَعَ قَبْلَ صَلَاتِهِمْ تِلْكَ بِصَلَوَاتٍ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِعْلَامُ ذَلِكَ فَالفَرْضُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ. 5 - وَفِيهِ جَوَازُ تَعْلِيمِ مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ مَنْ هُوَ فِيهَا. 6 - وَفِيهِ أَنَّ اسْتِمَاعَ المُصَلِّي لِكَلَامِ مَنْ لَيْسَ في الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ (¬1). * رَدَّةُ فِعْلِ النَّاسِ لَمَّا حُوِّلَتِ القِبْلَةُ: وَلَمَّا حُوِّلَتِ القِبْلَةُ إِلَى الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ حَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ والرَّيْبِ، مِنَ الكَفَرَةِ وَمِنَ اليَهُودِ ارْتِيَابٌ وَزَيْغٌ عَنِ الهُدَى وتَخَبِيطٌ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (1/ 136) (2/ 66).

وَشَكٌّ، وَقَالُوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أيْ: مَا لِهَؤُلَاءِ تَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا، وَتَارَةً يَسْتَقْبِلُونَ كَذَا؟ (¬1). فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ (¬2) مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: أيْ: هُوَ المَالِكُ المُتَصَرِّفُ الحَاكِمُ الذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، الذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ في خَلْقِهِ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ في شَرْعِهِ، وَهُوَ الذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنِ الطَّرِيقِ القَوِيمِ، وَلَهُ في ذَلِكَ الحِكْمَةُ التِي يَجِبُ لَهَا الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ (¬4). أَمَّا المُسْلِمُونَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ حَالُنَا بِصَلَاتِنَا إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ؟ وَكَيْفَ بِمَنْ مَاتَ مِنْ إخْوَانِنَا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (1/ 454). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيرة (1/ 452): قيل المرادُ بالسفهاء هاهنا: المُشركون، مُشْرِكو العرب، وقيل أحبارُ يَهُود، وقيل المُنَافقون، والآية عامَّةٌ في هؤلاء كلهم، واللَّه أعلم. (¬3) سورة البقرة (142). (¬4) انظر البداية والنهاية (3/ 268 - 269).

* حقد اليهود

اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (¬1) إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَلهَذَا كَانَ مَنْ ثَبَتَ عَلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- واتِّبَاعِهِ في ذَلِكَ، وَتَوَجَّهَ حَيْثُ أمَرَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ، مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ السَّابِقِينَ الأَوَّلينَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأنْصَارِ هُمُ الذِينَ صَلُّوا القِبْلَتَيْنِ (¬3). * حِقْدُ اليَهُودِ: وَبَعْدَ أَنْ حُوِّلَتِ القِبْلَةُ مِنَ المَسْجِدِ الأَقْصَى إِلَى الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، امْتَلَأَتْ قُلُوبُ اليَهُودِ حِقْدًا وَحَسَدًا عَلَى المُسْلِمِينَ، بِهَذا الفَضْلِ الذِي أعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ هِدَايَتُهُمْ لِلْكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، وَصَدَقَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا قَالَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الذِي أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: ". . . إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الجُمُعَةِ التِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنَّها، وَعَلَى القِبْلَةِ الِتي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلنَا خَلْفَ الإِمَامِ: آمِينَ" (¬4). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (1/ 458) أي: صلاتكم إلى بيتِ المَقْدِس قبل ذلك، لا يضِيع ثوابها عند اللَّه. (¬2) سورة البقرة آية (143) - وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الصلاة من الإيمان - رقم الحديث (40) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2691). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (1/ 457). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25029).

صيام يوم عاشوراء

صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ صِيَامِهِمْ هَذَا اليَوْمِ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى مِنْ فِرْعَونَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ أحَقُّ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْكُمْ" فَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ " قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إسْرَائيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى (¬1)، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَنَا أحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، فَصامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ظَاهِرُ الخَبَرِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَإِنَّمَا قَدِمَ المَدِينَةَ في رَبِيعٍ الأَوَّلِ، وَالجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ المُرَادَ أَنَّ أوَّلَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَسُؤَالِهِ عَنْهُ كَانَ بَعْدَ ¬

_ (¬1) زاد مسلم في روايته: شُكْرًا للَّه تَعَالَى فنحنُ نَصُومُه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصيام - باب صوم يوم عاشوراء - رقم الحديث (2004) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب صوم يوم عاشوراء - رقم الحديث (1130).

أَنْ قَدِمَ المَدِينَةَ لَا أَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَهَا عَلِمَ ذَلِكَ، وغَايَتُهُ أَنَّ في الكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ فَأَقَامَ عَاشُورَاءَ، فَوَجَدَ اليَهُودَ فِيهِ صِيَامًا، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ اليَهُودُ كَانُوا يَحْسِبُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، بِحِسَابِ السِّنِينِ الشَّمْسِيَّةِ فَصَادَفَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بِحِسَابِهِمْ اليَوْمَ الذِي قَدِمَ فِيهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، وهَذَا التَّأوِيلُ مِمَّا يَتَرَجَّحُ بِهِ أَوْلَوِيَّةُ المُسْلِمِينَ وَأَحَقِيَّتهُمْ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لإِضْلَالِهِمْ اليَوْمَ المَذْكُورَ وَهِدَايَةِ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَهُ، وَلَكِنَّ سِيَاقَ الأَحَادِيثِ تَدْفَعُ هَذَا التَّأوِيلَ، والِاعْتِمَادُ عَلَى الأَوَّلِ، ثُمَّ وَجَدْتُ في المُعْجَمِ الكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ مَا يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ المَذْكُورَ أَوَّلًا، وَهُوَ مَا أخْرَجَهُ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ أبِيهِ عَنْ خَارِجَةَ بنِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ: لَيْسَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ بِاليَوْمِ الذِي يَقُولُهُ النَّاسُ، إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ تُسْتَرُ فِيهِ الكَعْبَةُ، وَكَانَ يَدُورُ في السَّنَةِ، وَكَانُوا يَأْتُونَ فُلَانًا اليَهُودِيَّ -يَعْنِي لِيَحْسِبَ لَهُمْ- فَلَمَّا أتَوْا زَيْدَ بنَ ثَابِتَ سَأَلُوهُ، وسَنَدُهُ حَسَنٌ، أيْ أَنَّ جَهَلَةَ اليَهُودِ يَعْتَمِدُونَ في صِيَامِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ حِسَابَ النُّجُومِ، فَالسَّنَةُ عِنْدَهُمْ شَمْسِيَّةٌ لَا هِلَالِيَّةٌ (¬1). رَوَى ابنُ مَاجَهْ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ صَيْفِيٍّ، قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ عَاشُورَاءَ: "مِنْكُمْ أَحَدٌ طَعِمَ الْيَوْمَ؟ " قُلْنَا: مِنَّا طَعِمَ وَمِنَّا مَنْ لَمْ يَطْعَمْ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ، مَنْ كَانَ طَعِمَ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْ، وَأَرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ الْعَرُوضِ فَلْيُتمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ". ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (4/ 774).

قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ العَرُوضِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ في الجَاهِلِيَّةِ (¬2)، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ صَامَهُ وأمَرَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ (¬3). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ (¬4) وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيمَا يُخَالِفُ فِيهِ أَهْلَ الأَوْثَانِ، فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ واشْتَهَرَ أمْرُ الإِسْلَامِ أحَبَّ مُخَالفَةَ أَهْلِ الكِتَابِ أَيْضًا، كَمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحِ (¬5)، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، فَوَافَقَهُمْ أَوَّلًا، وَقَالَ: "نَحْنُ أحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ"، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب أبواب الصيام - باب صيام يوم عاشوراء - رقم الحديث (1735). (¬2) قال الحافظ في الفتح (4/ 773): أما صيامُ قريش لعاشُورَاء فلعلهم تلقَّوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا يعظِّمونه بكسوَةِ الكعبة فيه وغير ذلك، ثم رأيتُ في المجلس الثالث من "مجالس الباغندي الكبير" عن عِكرِمة أنَّه سئل عن ذلك فقال: أذنَبَتْ قريش ذَنبًا في الجاهلية فعَظُمَ في صدورهم فقيل لهم: صُومُوا عاشُورَاء يُكفَّر ذلك عنكم. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصيام - باب صوم يوم عاشوراء - رقم الحديث (2002) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب صوم يوم عاشوراء - رقم الحديث (1125). (¬4) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - كتاب اللباس - باب الفَرق - رقم الحديث (5917) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في سدل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شعره - رقم الحديث (2336) - عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أهلِ الكتاب فيما لم يُؤْمر فيه. (¬5) أخرج الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (302) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: أن اليهود =

* فضل صيام يوم عاشوراء

ثُمَّ أحَبَّ مُخَالفَتَهُمْ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ يَوْمٌ قَبْلَهُ، وَيَوْمٌ بَعْدَهُ خِلَافًا لَهُمْ. . . وَعَلَى هَذَا فَصِيَامُ عَاشُورَاءَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: أدْنَاهَا أَنْ يُصَامَ وَحْدَهُ، وفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ مَعَهُ، وفَوْقَهُ أَنْ يُصَامَ التَّاسِعُ والحَادِي عَشَرَ، وَاللَّهُ أعْلَمُ (¬1). * فَضْلُ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: أَمَّا فَضْلُ صِيَامِ عَاشُورَاءَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، سُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؟ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ" (¬2). ¬

_ = كانوا إذا حاضَتِ المرأةُ فيهم، لم يُؤَاكِلُوهَا، ولم يُجَامعوهن في البيوت، فسألَ أصحابُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} سورة البقرة آية (222)، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اصنَعُوا كل شيءٍ إلا النِّكَاحَ" فبلغَ ذلك اليهودَ، فقالوا: ما يُريد هذا الرجل أن يَدَعَ مِنْ أمرنا شَيْئًا إلا خالفَنَا فيه؟ . قال الحافظ في الفتح (11/ 557): . . . والذي جزم به القرطبي أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُوَافقهم -أي أهل الكتاب- لمَصْلَحَةِ التأليف محتمل، ويحتمل أيضًا، وهو أقربُ، أن الحالةَ التي تدُورُ بين الأمرينِ لا ثالثَ لهما إذا لم ينزِل علي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء كان يعمل فيه بموافَقَة أهل الكتاب؛ لأنهم أصحابُ شَرْع بخلاف عبَدَةِ الأوثَانِ، فإنهم ليسوا على شريعةٍ، فلما أسلم المُشركون انحصَرَت المخالفة في أهل الكتاب فأمر بِمُخَالفتهم، . . . وقد زادت الأحاديث بِمُخَالفة أهل الكتاب علي الثلاثين حُكمًا، فمنها: صوم عاشُوراء، ومنها استقبَال القبلة، ومنها مخالفتهم في مُخَالطة الحائضِ، ومنها النهيُ عن صوم يومِ السَّبت منفردًا؛ لأنه عيد لليهود، ومنها فَرْقَ شعر ناصية، وغيرها. (¬1) انظر فتح الباري (4/ 772). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر - رقم الحديث (1162) (197).

فرض صيام رمضان

فَرْضُ صِيَامِ رَمَضَانَ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ في شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ إِلَى الكَعْبَةِ بِشَهْر، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ (¬1). وَقَدْ مَرَّ فَرْضُ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ: * المَرْحَلة الأُولَى: كَانَ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ صِيَامِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬2). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قَالَ: كَانَ مَنْ أَرَادَ مِنَّا أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتِ الَآيَةُ التِي بَعْدَهَا فنَسَخَتْهَا (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ¬

_ (¬1) انظر الطبقات لابن سعد (1/ 121) - زاد المعاد (2/ 29). (¬2) سورة البقرة آية (184). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب (26) - رقم الحديث (4507) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب بيان نسخ قوله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} رقم الحديث (1145).

* المرحلة الثانية

كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أفْطَرَ، فَافْتدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ، حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: وَقَالَ ابنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثنَا الأَعْمَشُ حَدَّثنَا عَمْرُو بنُ مُرَّةَ حَدَّثنَا ابنُ أَبِي لَيْلَى حَدَّثنَا أصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-: نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مَنْ أطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ لَهُمْ في ذَلِكَ، فنَسَخَتْهَا: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فَأُمُرُوا بِالصَّوْمِ (¬2). * المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ صِيَامُهُ، لَكِنْ إِذَا أفْطَرَ أحَدُهُمْ إِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالجِمَاعُ إِلَى صَلَاةِ العِشَاءِ، أَوْ يَنَامَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَتَى نَامَ أَوْ صَلَّى العِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ والجِمَاعُ إِلَى اللَّيْلَةِ القَابِلَةِ، فَوَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ مَشَقَّةً كَبِيرَةً (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب قوله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} رقم الحديث (1145) (150). (¬2) علقه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}. قال الحافظ في الفتح (4/ 699): وصله أبو نعيم في المستخرج والبيهقي من طريقه. (¬3) انظر زاد المعاد (2/ 30) - تفسير ابن كثير (1/ 510).

أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الإِفْطَارَ، فنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ أبَا قَيْسٍ صِرْمَةَ بنَ أَبِي أنَسٍ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَآتَهُ فَقَالَ لَهَا: أعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ (¬1)، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةٌ (¬2) لَكَ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا، فَلَمَّا انتصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ النَّاسُ في رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى، فنَامَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ سَهِرَ عِنْدَهُ، فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ نَامَتْ، فَأَرَادَهَا، فَقَالَتْ: إنِّي قَدْ نِمْتُ، قَالَ: مَا نِمْتِ، ثُمَّ وَقَعَ بِهَا، وَصَنَعَ كَعْبُ بنُ مَالِكٍ مِثْلَ ذَلِكَ، ¬

_ (¬1) فغلبَتْهُ عينَاهُ: أي نَام. (¬2) الخَيبَةُ: الحِرْمَانُ والخُسْرَانُ. انظر لسان العرب (4/ 256). (¬3) سورة البقرة آية (187) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب قوله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} - رقم الحديث (1915) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصوم - باب السحور - رقم الحديث (3460) (3461).

* المرحلة الثالثة

فَغَدَا عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (¬1). * المَرْحَلَة الثَّالِثَةُ: وهِيَ التِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (¬2). * هَدْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رَمَضَانَ: كَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شَهْرِ رَمَضَانَ الإِكْثَارُ مِنْ أنْوَاعِ العِبَادَاتِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُدَارِسُهُ القُرْآنَ في رَمَضَانَ (¬3)، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا لَقِيَهُ ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (187) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15795) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (479). (¬2) سورة البقرة آية (187). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3624) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة رضي اللَّه عنها - رقم الحديث (2450) (98) - وأخرجه الطحاوي في =

جِبْرِيلُ أجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ، وَكَانَ أجْوَدَ النَّاسِ، وَأَجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ (¬1)، يُكْثِرُ فِيهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالإِحْسَانِ، وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَالِاعْتِكَافِ، وَكَانَ يَخُصُّ رَمَضَانَ مِنَ العِبَادَةِ بِمَا لَا يَخُصُّ غَيْرَهُ بِهِ مِنَ الشُّهُورِ (¬2). * * * ¬

_ = شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3625). (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصيام - باب أجودُ ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون في رمضان - رقم الحديث (1902) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجود الناس - رقم الحديث (2308). (¬2) انظر زاد المعاد (2/ 30).

فرض زكاة الفطر

فَرْضُ زَكَاةِ الفِطْرِ وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ فُرِضَتْ زَكَاةُ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ زَكَاةُ الأَمْوَالِ (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا نُعْطِي صَدَقَةَ الفِطْرِ (¬2) قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ (¬3). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ خَطِيبًا، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الفِطْرِ صَاعَ تَمْرٍ، أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ قَالَ: عَنْ كُلِّ رَأْسٍ عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، والحُرِّ وَالعَبْدِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 120). (¬2) قال الحافظ في الفتح (4/ 139): أُضِيفَتِ الصدَقَةُ للفِطْر لكونِهَا تجِبُ في الفِطْر من رمضان. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23840) (23843) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2258). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3412) - وأبو داود في سننه - كتاب الزكاة - باب من روى نصف صاع من قمح - رقم الحديث (1619).

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ والأُنْثَى، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب فرض صدقة الفطر - رقم الحديث (1503) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب زكاة الفطر - رقم الحديث (984).

من بداية غزوة بدر الكبرى إلى نهايتها

مِنْ بدَايَةِ غَزوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى إِلَى نِهَايَتِهَا غَزوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى (¬1) * تَارِيخُهَا: كَانَتْ في نَهَارِ يَوْمَ الجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬2). * قَالُوا عَنْهَا: قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ ذَلِكَ -أيْ وُقُوعُ غَزْوَةِ بَدْرٍ- يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَافَقَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الفُرْقَانِ الذِي أعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَدَمَغَ (¬3) فِيهِ الشِّرْكَ وَخَرَّبَ ¬

_ (¬1) ويُقَال لها بَدْرٌ العُظْمى، وبدرُ القِتَال، ويوم الفُرْقان؛ لأن اللَّه تَعَالَى فرَق فيها بين الحقِّ والباطِلِ، وبدرٌ هي قريةٌ مشهُورةٌ، ويُقال بدرٌ: اسمُ البئرِ التي بها، سُميت بذلك لاستدَارَتِهَا، أو لصَفَاء مائها، فكان البَدْرُ يُرى فيها، وقيل: نِسبَةً إلى رجُلٍ حَفَرَها يقال له: بدرُ بن النازين - انظر فتح الباري (8/ 11) - تفسير ابن كثير (2/ 112). قلتُ: وتبعُد بدر عن المسجد النبوي اليوم (150 كم). (¬2) انظر طبقات ابن سعد (1/ 258) - البداية والنهاية (3/ 283) - تفسير ابن كثير (2/ 111) - سيرة ابن هشام (2/ 238) - صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 72). (¬3) دمَغَ الحقُّ الباطلَ: أي غلَبَه. انظر لسان العرب (4/ 405).

مَحِلَّهُ، هَذَا مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ. . . فَأَعَزَّ اللَّهُ رَسُولَهُ، وأظْهَرَ وَحْيَهُ وتَنْزِيلَهُ، وَبَيَّضَ وَجْهَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقَبِيلَهُ، وَأَخْزَى الشَّيْطَانَ وجِيلَهُ (¬1). وَقَالَ الشَّيخُ أَبُو الحَسَنِ النَّدْوِيُّ: وفِي رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الهِجْرَةِ، كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الكُبْرَى، وَهِيَ المَعْرَكَةُ الحَاسِمَةُ التِي بِهَا تَقَرَّرَ مَصِيرُ الأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَمَصِيرُ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، وَعَلَيْهَا يَتَوَقَّفُ مَصِيرُ الإِنْسَانِيَّةِ المَعْنَوِيّ، فكلُّ مَا حَدَثَ مِنْ فُتُوحٍ وَانْتِصَارَاتٍ، وَكُلُّ مَا قَامَ مِنْ دُوَلٍ وَحُكُومَاتٍ، مَدِينٌ لِلْفَتْحِ المُبِينِ في مَيْدَانِ بَدْرٍ، وَلذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ هَذِهِ المَعْرَكَةَ: "يَوْمَ الفُرْقَانِ"، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {. . . إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (¬2). وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَن حبَنَّكَة المَيْدَانِي: كَانَتْ نتائِجُ هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ الدُّفْعَةَ الأُولَى مِنْ عَطَاءَاتِ النَّصْرِ الرَّبَّانِيِّ المُؤَزَّرِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ، دُونَ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِمْ الوَسَائِلُ وَلَا القُدُرَاتُ المَادِيَّةُ لِاكْتِسَابِ النَّصْرِ. لَقَدْ كَانَ انْتِصَارُ المُسْلِمِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ في هَذِهِ المَعْرَكَةِ بِمَثَابَةِ مُعْجِزَةٍ رَبَّانِيَّةٍ، مَكَّنَ اللَّهُ بِهَا إيمَانَ المُؤْمِنِينَ، وَأَعْطَاهُمْ بِهَا دَلِيلًا مَادِّيًّا مَشْهُودًا عَلَى أَنَّ النَّصْرَ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ (¬3). ¬

_ (¬1) جِيلُه: أي جِنْسه. انظر لسان العرب (2/ 436) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 111). (¬2) سورة الأنفال آية (41) - وانظر السِّيرة النَّبوِيَّة للندوي ص 213. (¬3) انظر كتاب الصيام ورمضان في السنة والقرآن للشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني - ص 382.

* سبب الغزوة

* سَبَبُ الغَزوَةِ: كَانَ سَبَبُ هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ هُوَ: إقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ مِنَ الشَّامِ في عِيرٍ (¬1) لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا أمْوَالٌ لَهُمْ، وَتِجَارَةٌ وَهِيَ نَفْسُ العِيرِ التِي أَفْلَتَتْ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ العُشَيْرَةِ حِينَ ذَهَابِهَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ (¬2). وَكَانَتْ عِيرُهُمْ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَكَانَ المَالُ خَمْسِينَ ألْفَ دِينَارٍ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُوقِيَّةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، إِلَّا حُوَيْطِبُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، فَلِذَلِكَ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، وَكَانَ فِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا أَوْ أرْبَعُونَ، مِنْهُمْ: مَخْرَمَةُ بنُ نَوْفَلٍ، وعَمْرُو بنُ العَاصِ (¬3). * تَهَيُّأُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وخُروجُهُ إِلَى بَدْرٍ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ في تِجَارَةٍ لِقُرَيْشٍ، نَدَبَ (¬4) المُسْلِمِينَ إِلَيْهَا، وَقَالَ لَهُمْ: "هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ، فِيهَا أمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنْفِلُكُمُوهَا" (¬5). ¬

_ (¬1) العِيرُ: هي الإبِلُ بأحمالها. انظر النهاية (3/ 297). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 218). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 218) - البداية والنهاية (3/ 271) - زاد المعاد (3/ 153). (¬4) يقالُ ندَبْتُهُ فانتَدَب: أي بعثتُهُ ودعَوْتُه فأجاب. انظر النهاية (5/ 29). (¬5) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (2/ 218) وإسناده صحيح.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي أيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ونَحْنُ في المَدِينَةِ: "إنِّي أُخْبِرْتُ (¬1) عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلةٌ، فهَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ قِبَلَ هَذِهِ العِيرِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمْنَاهَا؟ " قُلْنَا: نَعَمْ، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ (¬2). وَلَمْ يَسْتَنْفِرِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّ النَّاسِ، بَلْ طَلَبَ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ (¬3) حَاضِرًا، فَانْتَدَبَ النَّاسَ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، فتَخَلَّفَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ لِأنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَلْقَى حَرْبًا، إِنَّمَا خَرَجَ لِلْعِيرِ (¬4). أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ ¬

_ (¬1) أخبره بذلك بَسْبَسَةُ بن عمرو الجهني -رضي اللَّه عنه-، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1901) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: بعثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُسَيْسَةَ، عينًا ينظرُ ما صَنَعتْ عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحدٌ غيري وغير رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحدَّثه الحديث. . . قلتُ: هكذا ورَدَ اسم بَسْبَسة في صحيح مسلم مصغرًا بلفظ: بُسَيْسَة. ووقع عند ابن إسحاق في السيرة (2/ 229): بلفظ: بسبس، وصوَّب الحافظ في الإصابة (1/ 420) الأول: أي: بَسْبَسَةُ. (¬2) أورد ذلك الهيثمي في المجمع (6/ 73 - 74) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 37). (¬3) الظهْرُ: الإبل التي يُحمل عليها ويُركب. انظر النهاية (3/ 152) - جامع الأصول (8/ 182). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 219) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 32) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 254) - البداية والنهاية (3/ 272).

* تاريخ خروجه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لنَا طَلِبَةً (¬1)، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ (¬2) حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا" فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ في ظُهْرَانِهِمْ في عُلْوِ المَدِينَةِ، فَقَالَ: "لَا، إِلَّا مَنْ كَانَ ظُهْرُهُ حَاضِرًا" (¬3). وَلذَلِكَ لَمْ يُعَاتِبْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمْ أتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا في غَزْوَةِ تَبُوكٍ، غَيْرَ أنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ (¬4). * تَارِيخُ خُرُوجِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَدِينَةِ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، واسْتَعْمَلَ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَدَّ أبَا لُبَابَةَ ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (13/ 40): طَلِبه: بفتح الطاء وكسر اللام: أي شيئًا نطلبه. (¬2) الظهر: الإبل التي يُحمل عليها وتُركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬3) أخرج الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنَّة للشهيد - رقم الحديث (1901) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12398). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة تبوك - رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769).

* عدة المسلمين

-رضي اللَّه عنه- مِنَ الرَّوْحَاءِ (¬1)، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى المَدِينَةِ (¬2) كَمَا سَيَأْتِي. * عِدَّةُ المُسْلِمِينَ: وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ خَرَجَ مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ (¬3) عَشَرَ رَجُلًا، مِنَ المُهَاجِرِينَ: نَيِّفًا (¬4) عَلَى سِتِّينَ، والأنْصَارِ: نَيِّفًا وأرْبَعِينَ وَمِائتَيْنِ. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أصْحَابَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ بِعِدَّةِ أصْحَابِ طَالُوتَ الذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَاوَزَ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ (¬5). ¬

_ (¬1) الروحَاءُ: موضعٌ بينهُ وبينَ المدينة ستة وثلاثين مِيلًا. انظر جامع الأصول لابن الأثير (9/ 379). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 275) - سيرة ابن هشام (2/ 224) - الطبقات لابن سعد (1/ 254). (¬3) البِضْعُ في العدد بكسر الباء: ما بين الثلاث إلى التسع. انظر النهاية (1/ 133). (¬4) يُقال: نافَ الشيء يَنُوف: إذا طال وارتفع، ونيِّفٍ علي السبعين في العمر: إذا زاد. انظر النهاية (5/ 124). وفي صحيح البخاري - رقم الحديث (4026) عن عبد اللَّه قال: . . . فجميع من شهد بدرًا من قريش ممن ضُربَ له بسهمه أحدٌ وثمانون رجلًا. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 62): فيُجمع بين هذا الحديث وحديث البراء، بأن حديث البراء أورده فيمن شهدها حِسًّا، وحديث الباب فيمن شهدها حِسًّا وحُكمًا، ويحتمل أن يكون المراد بالعدد الأول الأحرَار، والثاني بانضمام مَوَاليهم وأتباعهم. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عدة أصحاب بدر - رقم الحديث (3959).

وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ المُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نيِّفًا عَلَى سِتِّينَ، وَالأَنْصَارُ نيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائتَيْنِ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَاُبهُ ثلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا (¬2). فَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ هَذِهِ تُفَسِّرُ مَعْنَى البِضْعِ الذِي في حَدِيثِ البَرَاءَ عِنْدَ البُخَارِيِّ بِأَنَّ عَدَدَ المُسْلِمِينَ في بَدْرٍ كَانَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَكَانَ الخَزْرَجُ أكْثَرَ مِنَ الأَوْسِ كَمَا ذَكَرَ ابنُ إسْحَاقَ (¬3) في السِّيرَةِ، وإِنَّمَا قَلَّ عَدَدُ الأَوْسِ عَنِ الخَزْرَجِ، وِإِنْ كَانُوا -أي الأَوْسُ- أشَدَّ مِنْهُمْ، وَأَقْوَى شَوْكَةً (¬4)، وأصْبَرَ عِنْدَ اللِّقَاءَ؛ لِأَنَّ مَنَازِلَهُمْ كَانَتْ في عَوَالِي المَدِينَةِ، وَجَاءَ النَّفِيرُ (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عدة أصحاب بدر - رقم الحديث (3956). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر - رقم الحديث (1763). (¬3) ذكر ابن إسحاق في السيرة (2/ 319): أن عدد الأوْسِ واحد وستون رجلًا، وعدد الخزرج مئة وسبعون رجلًا. (¬4) يقال: فلان ذو شوكة: أي ذو نكاية في العدو. انظر لسان العرب (7/ 240). (¬5) الاستِنْفَار: الاستِنْجَاد والاستِنْصَار: أي إذا طُلِبَ منكم النُّصرة فأجِيبوا وانفِرُوا خارجِينَ إلى الإعانة. انظر النهاية (5/ 79).

* من تخلف بعذر

بَغْتَةً (¬1)، وَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَتْبَعْنَا إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا"، فَاسْتَأْذَنهُ رِجَالٌ ظُهُورُهُمْ في عَلْوِ المَدِينَةِ أَنْ يَسْتَأْنِيَ بِهِمْ حَتَّى يَذْهَبُوا إِلَى ظُهُورِهِمْ، فَأَبَى (¬2) وَلمْ يَكنْ عَزْمُهُمْ عَلَى اللِّقَاءَ، وَلَا أعَدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَلَا تَأهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ، وَلَكِنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ (¬3). * مَنْ تَخَلَّفَ بِعُذْرٍ: تَخَلَّفَ عَنِ الخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ عَدَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بِعُذْرٍ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسِهَامِهِمْ وَأُجُورِهِمْ، فَمِنْ هَؤُلَاءِ الذِينَ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ: 1 - عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-: خَلَّفهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى امْرَأَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَأَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لَكَ أجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ" (¬4). 2 و 3 - طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وسَعِيدُ بنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَعَثَهُمَا ¬

_ (¬1) البَغْتَة: الفَجْأة. انظر النهاية (1/ 141). (¬2) تقدم قبل قليل تخريج هذا الحديث. (¬3) انظر زاد المعاد (3/ 169). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الخمس - باب إذا بعث الإمام رسولًا في حاجة - رقم الحديث (3130).

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يِتَحَسَّسَانِ (¬1) خَبَرَ العِيرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا تَحَيَّنَ (¬2) انْصِرَافَ تِلْكَ العِيرِ مِنَ الشَّامِ، بَعَثَ طَلْحَةَ بنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدَ بنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَتَحَسَّسَانِ خَبَرَهَا، . . . فَقَدِمَ طَلْحَةُ وسَعِيدٌ المَدِينَةَ لِيُخْبِرَا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَبَرَ العِيرَ، فَوَجَدَاهُ قَدْ أُخْبِرَ بِهَا وَخَرَجَ، فَلَحِقَاهُ حَتَّى لَقِيَاهُ بِتُرْبَانَ (¬3) مُنْصَرِفًا مِنْ بَدْرٍ (¬4). 4 - أَبُو لُبَابَةَ بنُ عَبْدِ المُنْذِرِ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الرَّوْحَاءِ، واسْتَخْلفهُ عَلَى المَدِينَةِ (¬5) كَمَا سَيَأْتِي. رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ الْحَيَّاتِ كلَّهُنَّ، حَتَّى حَدَّثَنَا أَبُو لُبَابَةَ بنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْبَدْرِيُّ (¬6)، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح مسلم (16/ 97): التحسُّسُ: هو طلبُ معرفَةِ الأخبارِ الغائِبَةِ والأحوال. (¬2) تَحيَّن: انتظر. انظر لسان العرب (3/ 423). (¬3) تُربَان: موضع كثيرُ المياه، بينه وبين المدينة نحو خمسة فَرَاسخ، والفَرْسخ: ثلاثة أميالٍ أو ستة. انظر النهاية (1/ 182) - انظر لسان العرب (10/ 223). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 254). (¬5) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أبي لبابة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6716) - وانظر سيرة ابن هشام (2/ 224) - الطبقات لابن سعد (1/ 254) (2/ 241). (¬6) هذا هو الشاهد من هذا الحديث أنَّه بدري -رضي اللَّه عنه-، وهو لم يشهد الوقعة، لأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّه، استخلفه على المدينة.

عن قَتْلِ جِنَّانِ (¬1) البُيُوتِ، فَأَمْسَكَ (¬2) 5 - أَبُو أُمَامَةَ بنُ ثَعْلَبَةَ الأَنْصَارِيُّ أَجْمَعَ عَلَى الخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ خَالُهُ أبُو برْدَةَ بنُ نِيَارٍ (¬3): أَقِمْ عَلَى أُمِّكَ يَا ابْنَ أُخْتِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ: بَلْ أَنْتَ فَأَقِمْ عَلَى أُخْتِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَمَرَ أبَا أُمَامَةَ بِالمُقَامِ عَلَى أُمِّهِ، وَخَرَجَ بِأَبِي بُرْدَةَ، فَقَدِمَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَدْرٍ وَقَدْ تُوُفِّيَتْ فَصَلَّى عَلَيْهَا (¬4). 6 - عَاصِمُ بنُ عَدِيٍّ العَجْلَانِيُّ خَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قُبَاءَ وَأَهْلِ العَالِيَةِ (¬5) لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنْ عَاصِمِ بنِ عَدِيٍّ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا أَرَادَ الخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ خَلَّفَ عَاصِمَ بنَ عَدِيٍّ عَلَى قُبَاءَ وَأَهْلِ العَالِيَةِ لِشَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْهُمْ (¬6) فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ ¬

_ (¬1) الجِنَّان: هي الحيات التي تكون في البيوتِ، واحدها جَانّ. انظر النهاية (1/ 296). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب رقم (12) - رقم الحديث (4016) (4017) - ومسلم في صحيحه - كتاب قتل الحيات - باب قتل الحيات - رقم الحديث (2233) (132). (¬3) هو أبو بُردة بن نِيارٍ، واسمه هَانِئٌ، شهد -رضي اللَّه عنه- العقبة، وبَدرًا، والمشاهد كلها مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتوفي -رضي اللَّه عنه- في السنة الثالثة والخمسين من الهجرة. انظر أسد الغابة (4/ 385). (¬4) انظر أسد الغابة (4/ 375). (¬5) العالِيَة والعَوَالي: هي أماكن بأعلى أراضي المدينةِ، أدنَاها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جِهة نَجْد ثمانية أميال. انظر النهاية (3/ 267). (¬6) لم أقِفْ علي هذا الشيءِ الَّذي من أجلِه خَلَّف رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عاصمَ بن عَدِي العَجْلاني -رضي اللَّه عنه- على أهل قُباء وأهل العالِيَة، ولعله خلَّفه من أجل أن يَوُمَّ الناس أو يحكُمَ بينهم، =

وَأَجْرِهِ فَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَهَا (¬1) 7 - الحَارِثُ بنُ الصِّمَّةِ -رضي اللَّه عنه- وَقَعَ فكُسِرَ بِالرَّوْحَاءِ، فَرَدَّهُ إِلَى المَدِينَةِ (¬2). 8 - خَوَّاتُ بنُ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ في مَغَازِيهِ: خَرَجَ خَوَّاتُ بنُ جُبَيْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَدْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الصَّفْرَاءَ (¬3) أصَابَ سَاقَهُ حَجَرٌ فكُسِرَ، فَرَجَعَ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَهْمِهِ (¬4). 9 - حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ بنِ اليَمَانِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أنَي خَرَجْتُ أنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ (¬5)، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: مَا ¬

_ = لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان من عادته إذا خرج لغزوةٍ أن يُخَلِّف بعض من يَنُوب عنه في أمرِ الصلاة وغيرها. (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب عاصم بن عدي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5825) - وابن سعد في الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 254). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 254) - فتح الباري (8/ 20). (¬3) وادِي الصَّفْرَاء: هو وادٍ من ناحِيَة المدينة، وهو كثير النخل والزّرع في طريق الحاج، وسلكه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غير مَرَّة. انظر معجم البلدان (5/ 193). (¬4) انظر أسد الغابة (2/ 131) - الاستيعاب (2/ 38). (¬5) هو حُسَيْل بن جابرٍ والد حُذَيفة، وإنما قيل له اليَمان؛ لأنه أصاب دَمًا في قومه، فهرب إلى المدينة، وحالَفَ بني عبد الأشْهَلِ من الأنصار، فسمَّاه قومه اليمان؛ لأنه حالفَ الأنصار، وهم من اليَمَن، وهاجر إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد مع الرسول أحدًا فَقُتل خَطَأ، قتله المسلمون بسبَبِ الفَوْضى التي حدثت يوم أُحد. انظر الإصابة (2/ 66).

نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا المَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى المَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلَ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: "انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهِدِهِمْ (¬1)، ونَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ" (¬2). 10 - جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ أَمْتِحُ (¬3) لِأَصْحَابِي الْمَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ (¬4). وَقَدْ أنْكَرَ الوَاقِدِيُّ (¬5) رِوَايَةَ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ هَذِهِ، وَقَالَ: هَذَا ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 122): أما قضِيَّةُ حذيفةَ وأبيه فإن الكفار استحلَفُوهُما لا يُقَاتلان مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوةِ بَدْر فأمرهما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالوَفَاء، وهذا ليس للإِيجاب فإنه لا يجب الوفاء بِتَركِ الجهاد مع الإمام ونائِبِه، ولكن أراد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يَشِيع عن أصحابه نقضُ العهدِ وإن كان لا يلزمهم ذلك، لأن المُشِيعَ عليهم لا يَذْكر تأويلًا. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الوفاء بالعهد - رقم الحديث (1787) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23354). (¬3) المَاتِحُ: هو المُسْتَقِي من البئرِ بالدَلْو من أعلى البئر. انظر النهاية (4/ 248). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في المرأة والعبد يُحذيان من الغنيمة - رقم الحديث (2731) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح - والإصابة (1/ 546). (¬5) هو محمد بن عمر بن واقِدٍ الأسلمي، وهو ضعيف، لكنه لا يُستغنى عنه في المغازي والسير. قال عنه الذهبي في السير (9/ 454): جَمَعَ، فأوعى، وخلط الغثَّ بالسمين، والخرَزَ بالدرِّ الثمين، فاطّرحوه لذلك، ومع هذا فلا يُستغنى عنه في المَغَازي، وأيامِ الصحابة وأخبارهم. وقال الإمام الذهبي في السير في موضع آخر (9/ 469): وقد تقرَّر أن الواقدي ضعيفٌ، يُحتاج إليه في الغزوات، والتاريخِ، ونُورِدُ آثاره من غير احتجاجٍ، أما في الفرائض، فلا ينبغي أن يُذكر.

* من حضر بدرا ولم يباشر القتال

وَهْمٌ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ. قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ مُعَلِّقًا عَلَى قَوْلِ الوَاقِدِيِّ في تَارِيخِهِ (¬1) بِقَوْلِهِ: صَدَقَ، فَإِنَّ زَكَرِيَّا بنَ إِسْحَاقَ رَوَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمْ أشْهَدْ بَدْرًا وَلَا أُحُدًا، مَنَعَنِي أَبِي، فَلَمَّا قُتِلَ، لَمْ أَستخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةٍ قَطُّ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ كَانَ يَمْتِحُ المَاءَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا بِاتِّفَاقٍ (¬3). * مَنْ حَضَرَ بَدْرًا وَلَمْ يُبَاشِرِ القِتَالَ: 11 - أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، والحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ سُئِلَ: هَلْ شَهِدْتَ بَدْرًا؟ فَقَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْ بَدْرٍ (¬4). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ في خِدْمَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ ¬

_ (¬1) انظر كلام الإمام الذهبي في حاشية سير أعلام النبلاء (3/ 191). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب عدد غزوات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1813). (¬3) انظر فتح الباري (9/ 411). (¬4) ذكر هذا الحديث الحافظ في الفتح (8/ 19) ونسَبَه إلى الإمام أحمد في المسند وصحح إسناده، ولم أجده في المسند المطبُوع، وإنما وجدتُه في المستدرك للحاكم - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6505).

-رضي اللَّه عنه-؛ لِأَنَّهُ خَدَمَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشْرَ سِنِينَ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ابْتِدَاءَ خِدْمَتِهِ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قُدُومِهِ المَدِينَةَ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى بَدْرٍ، أَوْ خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ زَوْجِ أُمِّهِ أَبِي طَلْحَةَ (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَمْ يَعُدَّ أصْحَابُ المَغَازِي أنَسَ بنَ مَالِكٍ في البَدْرِيِّينَ؛ لِكَوْنِهِ حَضَرَهَا صَبِيًّا مَا قَاتَلَ، بَلْ بَقِيَ في رِحَالِ الجَيْشِ، فَهَذَا وَجْهُ الجَمْعِ (¬2). 12 - حَارِثَةُ بنُ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَأُمُّهُ هِيَ الرُبَيِّعُ -بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ اليَاءِ-: خَرَجَ -رضي اللَّه عنه- لِيَنْظُرَ أحْدَاثَ القِتَالِ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقتَلَهُ، فَعُدَّ مِمَّنْ شَهِدَهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ حَارِثَةَ ابنَ الرُبَيِّعِ، جَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَّارًا (¬3)، وَكَانَ غُلَامًا، فَجَاءَ سَهْمٌ غَرْبٌ (¬4) فَوَقَعَ فِي ثُغْرَهِ (¬5) نَحْرِهِ (¬6) فَقَتَلَهُ (¬7). وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ في السُّنَنِ الْكُبْرَى قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: انْطَلَقَ حَارِثَةُ ابنُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 19). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 397). (¬3) قال السندي في شرحه للمسند (7/ 182): نَظَّارًا: أي يَنظر ما يَجْرِي بين الناس. (¬4) غَرْبٌ: أي لا يُعرف راميه. انظر النهاية (3/ 315). (¬5) الثَّغْرَة: هي نُقْرَة النَّحْر فوقَ الصدر. انظر النهاية (1/ 208). (¬6) النَّحر: هو أعلى الصدر. انظر النهاية (5/ 23). (¬7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12252) - (13871).

* الاختلاف في شهود سعد بن عبادة -رضي الله عنه- بدرا

عَمَّتِي نَظَّارًا يَوْمَ بَدْرٍ، مَا انْطَلَقَ لِقِتَالٍ، فَأَصَابَهُ سَهْم، فَقتَلَهُ (¬1). وَذَكَرَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ أسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَذَكَرَهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: حَارِثَةَ بنَ الرُبَيِّعِ الأَنْصَارِيَّ، قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ حَارِثَةُ بنُ سُرَاقَةَ كَانَ في النَّظَّارَةِ (¬2). * الِاخْتِلَافُ في شُهُودِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- بَدْرًا: 13 - سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: اخْتُلِفَ في شُهُودِهِ غَزْوَةَ بَدْرٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: لَمْ يَشْهَدْ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- بَدْرًا، وَإِنْ كَانَ يُعَدُّ فِيهِمْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ (¬3). وَقَالَ الحَافِظُ في التَّهْذِيبِ: ذَكَرَ البُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو أَحْمَدَ الحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ، أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا (¬4). قُلْتُ: وَقَعَ ذِكْرُهُ في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عِنْدَمَا اسْتَشَارَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ في بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب المناقب - باب حارثة بن سراقة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (8175). (¬2) ذكر ذلك في صحيحه - كتاب المغازي - باب تسميةِ مَن سُمي من أهل بدر. (¬3) انظر فتح الباري (8/ 14). (¬4) انظر تهذيب التهذيب (1/ 695).

* العدد الحقيقي لمن شهد القتال يوم بدر

* العَدَدُ الحَقِيقِيُّ لِمَنْ شَهِدَ القِتَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِذَا تَحَرَّرَ هَذَا الجَمْعُ فَلْيُعْلَمْ أَنَّ الجَمِيعَ لَمْ يَشْهَدُوا القِتَالَ، وإِنَّمَا شَهِدَهُ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ أَهْلَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةِ رِجَالٍ، وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وخَمْسَةً (¬1)، وكَأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ فِيهِمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَكَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ رِجَالٌ آخَرُونَ مِنْ أكَابِرِ الصَّحَابَةِ مِنَ النُّقَبَاءَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ وَغَيْرِهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَلْقَى حَرْبًا أَوْ قِتَالًا حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ (¬3). * عَتَادُ المُسْلِمِينَ: خَرَجَ المُسْلِمُونَ إِلَى بَدْرٍ وعَامَّتُهُمْ مُشَاةٌ عَلَى أقْدَامِهِمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَتَعَاقَبُونَهَا كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو لُبَابَةَ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعْيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ (¬4)، وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 254). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 19). (¬3) انظر زاد المعاد (3/ 169). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (3/ 276): وهذا كان قبل أن يرد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا لُبَابة من الرَّوحاء، ثم كان زَمِيلاه -صلى اللَّه عليه وسلم- عليّ بن أبي طالب، ومِرْثد بن مرثد بدل أبا لُبَابة، وهي رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 225) واللَّه أعلم.

* قطع الأجراس من أعناق الإبل

قَالَ: وَكَانَتْ عَقَبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أنْتُمَا أَقْوَى مِنِّي، وَلَا أنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا" (¬1). وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، وَعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، وزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَبُو كَبْشَةَ -رضي اللَّه عنه- مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا (¬2). * قَطْعُ الأَجْرَاسِ مِنْ أعْنَاقِ الإِبِلِ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالْأَجْرَاسِ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ أعْنَاقِ الإِبِلِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ بِالأَجْرَاسِ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ أعْنَاقِ الإِبِلِ يَوْمَ بَدْرٍ (¬3). قَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِئَلَّا تَخْتَنِقَ الدَّابَّةُ بِهَا عِنْدَ شِدَّةِ الرَّكْضِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3901) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب إباحة تعاقب الجماعة علي البعير الواحد - رقم الحديث (4733). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 225) - البداية والنهاية (3/ 276). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25166) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب التقليد والجرس للدواب - رقم الحديث (4699). (¬4) انظر فتح الباري (6/ 249).

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: نَهَى عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّوَابَّ تَتَأَذَّى بِذَلِكَ ويَضِيقُ عَلَيْهَا نَفَسُهَا وَرَعْيُهَا، ورُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِشَجَرَةٍ فَاخْتَنَقَتْ، أَوْ تَعَوَّقَتْ عَنِ السَّيْرِ (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ فِيمَا أخْرَجَهُ عَنْهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: أُرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ العَيْنِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَيُؤَيِّدُ -أيْ قَولَ الإِمَامِ مَالِكٍ- قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فِي الحَدِيثِ الذِي أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللَّهُ لَهُ" (¬4). وَالتَّمِيمَةُ: مَا عُلِّقَ مِنَ القَلَائِدِ خَشْيَةَ العَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: إِذَا اعْتَقَدَ الذِي قَلَّدَهَا أَنَّهَا تَرُدُّ العَيْنَ فَقَدْ ظَنَّ أَنَّهَا تَرُدُّ القَدَرَ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (6/ 249). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب اللباس والزينة - باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير - رقم الحديث (2115). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17422). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17404) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الرقى والتَّمَائم - باب ذكر الزجر عن تعليق التمائم - رقم الحديث (6086) - وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 202). (¬5) انظر فتح الباري (6/ 249).

* كم عدد فرسان المسلمين؟

* كَمْ عَدَدُ فُرْسَانِ المُسْلِمِينَ؟ : وَكَانَ مَعَ المُسْلِمِينَ فَرَسٌ وَاحِدٌ فَقَطْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ المِقْدَادِ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في التَّهْذِيبِ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ مِمَّنْ شَهِدَهَا فَارِسًا غَيْرُ المِقْدَادِ -رضي اللَّه عنه- (¬2). والمِقْدَادُ هُوَ ابنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، وَيُقَالُ لَهُ: المِقْدَادُ بنُ الأَسْوَدِ؛ لِأَنَّ الأَسْوَدَ بنَ عَبْدِ يَغُوثَ كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ في الجَاهِلِيَّةِ فَصَارَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وغَلَبَتْ عَلَيْهِ، وَاشْتُهِرَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬3)، قِيلَ لَهُ: المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- (¬4). * النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَعَ هَذِهِ القِلَّةِ التِي كَانَتْ في المُسْلِمِينَ في العَدَدِ وَالعُدَّةِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَصَرَهُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَصَدَقَ اللَّهُ العَظِيمُ إِذْ يَقُولُ: {وَلَقَدْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1023) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب إباحة بكاء المرء في صلاته - رقم الحديث (2257). (¬2) انظر تهذيب التهذيب (4/ 146). (¬3) سورة الأحزاب آية (5). (¬4) انظر الإصابة (6/ 160).

نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ (¬1) فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ اليَرْمُوكَ (¬3)، وَعَلَيْنَا خَمْسَةُ أُمَرَاءَ: أَبُو عُبَيْدةَ بنُ الجَرَّاحِ، ويَزِيدُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ، وشُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنَةَ، وخَالِدُ بنُ الوَليدِ، وَعِيَاضُ بنُ غَنْمٍ. . . فكَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: إِنِّي أدُلُّكُمْ عَلَى مَا هُوَ أَعَزُّ نَصْرًا وَأَحْصَنُ جُنْدًا، اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاسْتَنْصِرُوهُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ نُصرَ يَوْمَ بَدْرٍ في أقَلَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في بَابِ الشَّجَاعَةِ والِائْتِمَارِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَامْتِثَالِ مَا أرْشَدَهُمْ إِلَيهِ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 11): أي قليلونَ بالنسبة إلى من لَقِيَهم من المشركين، ومن جِهَة أنهم كانوا مُشَاة إلا القليل منهم، ومن جهة أنهم كانوا عَارِينَ من السلاح، وكان المشركون على العكس من ذلك. وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (2/ 111): أي قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند اللَّه، لا بكثرةِ العَدَدِ والعُدَدِ. (¬2) سورة آل عمران آية (123). (¬3) معركة اليَرْمُوك هي من أعظم المعارك الإسلامية التي انتَصَر فيها المسلمون على الروم، وكانت سنة خمس عشرة من الهجرة النبوية في خلافة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (344) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد - رقم الحديث (4766) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 111) وصحح إسناده.

* استعراض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ورده الصغار

وَالقُرُونِ قَبْلَهُمْ، وَلَا يَكُونَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّهُمْ بِبَرَكَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أمَرَهُمْ، فتَحُوا القُلُوبَ وَالأَقَالِيمَ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي المُدَّةِ اليَسِيرَةِ، مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُيُوشِ سَائِرِ الأَقَالِيمِ، مِنَ الرُّومِ وَالفُرْسِ وَالتُّرْكِ والصَّقَالِبَةِ وَالبَرْبَرِ وَالحُبُوشِ وَأَصْنَافِ السُّودَانِ والقِبْطِ، وطَوَائِفِ بَنِي آدَمَ، قَهَرُوا الجَمِيعَ حَتَّى عَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ، وَظَهَرَ دِينُهُ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ، وَامْتَدَّتِ المَمَالِكُ الإِسْلَامِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ، فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِمْ، إِنَّهُ كَرِيمٌ وَهَّابٌ (¬1). * اسْتِعْرَاضُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ وَرَدُّهُ الصِّغَارَ: خَرَجَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخَيَّمَ بِعَسْكَرِهِ عِنْدَ بِئْرِ أَبِي عِنبَةٍ (¬2)، فَعَرَضَ أصْحَابَهُ، وَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَهُ، وَكَانَ مِمَّنْ رَدَّهُ: أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ، وَالبَرَاءُ بنُ عَازِبٍ، وَرَافِعُ بنُ خَدِيج، وَأُسَيْدُ بنُ ظُهَيْرٍ، وَزَيْدُ بنُ أَرْقَمٍ، وَزَيْدُ بنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (¬3). أَخْرَجَ إلإِمَامُ البُخَاريُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 72). (¬2) بِئر أبي عِنَبَة بكسر العين وفتح النون: بئرٌ معروفة بالمدينة، عندها عرض رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه لما سار إلى بدر. انظر النهاية (3/ 276). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 254).

اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ (¬1). وفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ البَرَاءُ -رضي اللَّه عنه-: اسْتَصْغَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَا وَابْنُ عُمَرَ، فرُدِدْنَا يَوْمَ بَدْرٍ (¬2). وَرُدَّ عُمَيْرُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- فبَكَى، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ سَعْدٌ: رَأَيْتُ أَخِي عُمَيْرًا قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ يَتَوَارَى، فَقُلْتُ: مَالَكَ يَا أَخِي؟ فَقَالَ: إِنِّي أخَافُ أَنْ يَرَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَسْتَصْغِرَنِي فَيَرُدَّنِي، وَأَنَا أُحِبُّ الخُرُوجَ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنِي الشَّهَادَةَ، قَالَ: فَعُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَاسْتَصْغَرَهُ، فَقَالَ: "ارْجعْ"، فبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ سَعْدٌ: فكُنْتُ أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ (¬3) مِنْ صِغَرِهِ (¬4). وَقُتِلَ عُمَيْرٌ -رضي اللَّه عنه- في غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَعُمُرُهُ لسِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً (¬5)، فَقَدْ أَخْرَجَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عدة أصحاب بدر - رقم الحديث (3956). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18633). (¬3) حِمالة السيف: بكسر الحاء هو السير الذي يُقلّده المتقلد، والجمع حَمَائِل. انظر لسان العرب (3/ 334). (¬4) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب مناقب عمير بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4916) - وإسناده حسن - وذكره الهيثمي في المجمع، وعزاه للطبراني والبزار، وقال: إن رجال الطبراني رجال الصحيح - وانظر سير أعلام النبلاء (1/ 97). (¬5) انظر أسد الغابة (3/ 420) - الإصابة (4/ 603).

* توزيع القيادات

الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ (¬1). وَكَانَ عُمَيْرٌ -رضي اللَّه عنه- قَدِيمَ الإِسْلَامِ، مُهَاجِرِيّ، أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُصْعَبِ بنِ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُتِيَ بِقَصْعَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَفَضَلَةٌ فَضْلَةٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَجِيءُ رَجُلٌ مِنْ هَذَا الفَجِّ (¬2) يَأْكُلُ هَذِهِ الفَضْلةَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ". قَالَ سَعْدٌ: وَكُنْتُ تَرَكْتُ أَخِي عُمَيْرًا يَتَوَضَّأُ، قَالَ، فَقُلْتُ: هُوَ عُمَيْرٌ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ فَأَكَلَهَا (¬3). * تَوْزِيعُ القِيَادَاتِ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللِّوَاءَ (¬4) الأَعْظَمَ، وَكَانَ أبْيَضَ إِلَى مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ، وَقَسَّمَ جَيْشَهُ إِلَى كَتِيبَتَيْنِ: 1 - كَتِيبَةُ المُهَاجِرِينَ: وَأَعْطَى عَلَمَهَا عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-. 2 - كَتِيبَةُ الأَنْصَارِ: وَأَعْطَى عَلَمَهَا سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1556). (¬2) الفَجُّ: هو الطريق الواسع -انظر النهاية (3/ 370). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1458) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- من مناقب الصحابة - باب ذكر إثبات الجنة لعبد اللَّه بن سلام - رقم الحديث (7164). (¬4) اللِّوَاءُ: الرَّاية، وهي التي يَجتَمع حولها الجيش. انظر النهاية (4/ 239).

* الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه بالفطر

وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ عَلَى المَيْمَنَةِ، وَالمِقْدَادَ بنَ عَمْرٍو عَلَى المَيْسَرَةِ، وَجَعَلَ عَلَى السَّاقَةِ (¬1) قَيْسَ بنَ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَظَلَّتِ القِيَادَةُ العَّامَّةُ في يَدِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَقَائِدٍ أَعْلَى لِلْجَيْشِ (¬2). وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقْرَ المُسْلِمِينَ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنهما-: فَفَتَحَ اللَّه لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَانْقَلَبُوا (¬3) حِينَ انْقَلَبُوا وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ، وَاكْتَسَوْا، وشَبِعُوا (¬4). * الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالفِطْرِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ أصْحَابَهُ بِالإِفْطَارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْنَا ¬

_ (¬1) السَّاقَةُ: جمع سَائِقِ، وهم الذين يسوقُون جيش الغَزَاة، ويكونون من ورائه يحفَظونه. انظر النهاية (2/ 381). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 224) - الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 255 - 256) - البداية والنهاية (3/ 275). (¬3) الانقَلابُ: الرُّجوع. انظر النهاية (4/ 85). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في نفل السرية - رقم الحديث (2747) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب قسم الفيء - باب شأن نزول سورة الأنفال - رقم الحديث (2643) - (2689) - وأورده ابن الأثير جامع الأصول (8/ 188) - وإسناده حسن.

مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَتَيْنِ في شَهْرِ رَمَضَانَ: يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَوْمَ الفَتْحِ، فَأَفْطَرْنَا فِيهِمَا (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا المُفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى المُفْطِرِ، وَلَا المُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأفْطَرَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حسنٌ (¬2). وَمِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ المُسْلِمِينَ أَفْطَرُوا في هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ مَا أخْرَجَهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، في قِصَّةِ عُمَيْرِ بنِ الحُمَامِ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ". فَقَالَ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟ . قَالَ: "نَعَمْ". ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (142) - وأخرجه الترمذي في سننه - كتاب الصوم - باب ما جاء في الرخصة للمحارب في الإفطار - رقم الحديث (723). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر - رقم الحديث (1116) (96) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11083).

* طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر

قَالَ: بَخٍ بَخٍ (¬1). . . فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ (¬2)، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * طَرِيقُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَدْرٍ: سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هَذَا الجَيْشِ غَيْرَ المُتَأَهِّبِ عَلَى الطَّرِيقِ الرَّئِيسِيِّ المُؤَدِّي إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ عَلَى ذِي الحُلَيْفَةِ، حَتَّى بَلَغَ بِئْرَ الرَّوْحَاءِ، فنَزَلَ بِهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالمُنْصَرَفِ (¬4)، تَرَكَ طَرِيقَ مَكَّةَ عَنْ يَسَاره، وانْحَرَفَ ذَاتَ اليَمِينِ عَلَى النَّازِيَةِ (¬5) يُرِيدُ بَدْرًا، فَسَلَكَ في نَاحِيَةٍ مِنْهَا، حَتَّى جَزَعَ وَادِيًا (¬6) يُقَالُ لَهُ: رُحْقَانٌ، بَيْنَ النَّازِيَةِ وبَيْنَ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ (¬7)، ثُمَّ مَرَّ عَلَى ¬

_ (¬1) بَخٍ بَخٍ: هي كلمة تُقال عند المَدح والرضى بالشيء، وتكرر للمبالغة، ومعناها تعظيم الأمر وتفخيمه. انظر النهاية (1/ 101). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (13/ 41): قَرَنه: هو بقاف وراء مفتوحتين أي جَعْبَته. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1901). (¬4) المُنْصَرَف: بضم الميم وفتح الراء: موضعٌ بين مكة وبدر، بينهما أربعة بُرد. انظر معجم البلدان (8/ 330). (¬5) النازِيَة: هي عين ماء علي طريق الآخذ من مكة إلى المدينة قرب الصَّفْراء، وهي إلى المدينة أقرب. انظر معجم البلدان (8/ 361). (¬6) جَزَعَ الوادي: أي قَطَعَهُ عرضًا. انظر النهاية (1/ 260). (¬7) مَضِيقُ الصفراء: هو من ناحيةِ المدينة، وهو وادٍ كثيرُ النَّخل والزرع في طريق الحاج، وسلكه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غير مرةٍ، وبينه وبين بدر مرحلة. انظر معجم البلدان (5/ 193).

* رفض الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاستعانة بمشرك

المَضِيقِ، ثُمَّ انْصَبَّ (¬1) مِنْهُ، حَتَّى قَرُبَ مِنَ الصَّفْرَاءِ، وَهُنَالِكَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَسْبَسَة بنَ عَمْرٍو الجُهَنِيَّ، وعَدِيَّ بنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى بَدْرٍ يَتَحَسَّسَانِ لَهُ أخْبَارَ العِيرِ (¬2). * رَفْضُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الاسْتِعَانَةَ بِمُشْرِكٍ: وَفِي الطَّرِيقِ وعِنْدَ حَرَّةِ الوَبْرَةِ (¬3) أَدْرَكَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَلٌ مُشْرِكٌ يَطْلُبُ اتِّبِاعَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الوَبْرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ (¬4) وَنَجْدَهٌ (¬5)، فَفَرِحَ أصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: جِئْتُ لِأَتْبَعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ، فَقَال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولهِ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ: "فَارْجعْ، فَلَنْ أسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". ¬

_ (¬1) انصَبَّ منه: أي مضى فيه منحَدِرًا ودَافِعًا. انظر النهاية (3/ 4). (¬2) ذكرنا فيما تقدم أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرسل بَسْبَسة بن عمرو -رضي اللَّه عنه-، وعدي بن أبي الزّغباء -رضي اللَّه عنه- قبل أن يخرج من المدينة، فلما رَجَعا أخبراه بخبر العير، فاستنفَرَ رَسُولُ اللَّهِ الناس إليها، فيكون -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثهما مرتين، مرة قبل الخروج من المدينة، وهذه المرة الثانية. انظر البداية والنهاية (3/ 277) - وسيرة ابن هشام (2/ 225). (¬3) حرَّة الوَبْرَة: موضعٌ من ناحية المدينة. انظر النهاية (5/ 127). (¬4) الجُرْأة: الإقدام على الشيء. انظر النهاية (1/ 246). (¬5) النَّجْدَة: الشدَّة. انظر النهاية (5/ 16).

قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا قَالَ أوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: "فَارْجعْ فَلَنْ أسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". قَالَتْ: ثُمَّ رَجَعَ، فَأَدْرَكَهُ بِالبَيْدَاءِ (¬1)، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا قَالَ أوَّلَ مَرَّةٍ: "تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولهِ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ له الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَانْطَلِقْ" (¬2). قَالَ الحَازِمِيُّ "في الِاعْتِبَارِ" بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الحَدِيثَ: وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ في هَذَا البَابِ، فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ إِلَى مَنْعِ الِاسْتِعَانَةِ بِالمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا، وتَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ هَذَا الحَدِيثِ، وَقَالُوا: هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَا يُعَارِضُهُ لَا يُوَازِيهِ في الصِّحَّةِ والثُّبُوتِ، فتَعَذَّرَ ادِّعَاءُ النَّسْخِ بِهَذَا. وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَغْزُوا مَعَهُ وَيَسْتَعِينَ بِهِمْ، وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ في المُسْلِمِينَ قِلَّةٌ، وَتَدْعُو الحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُوُنوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِمْ، وَلَا يُخْشَى ثَائِرَتُهُمْ، فَمَتَى فُقِدَ هَذَانِ ¬

_ (¬1) البَيْداء: موضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (1/ 168). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر - رقم الحديث (1817) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25158) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2573).

* أبو سفيان يستنفر قريشا

الشَّرْطَانِ، لَمْ يَجُزْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ. قَالُوا: وَمَعَ وُجُودِ الشَّرْطَيْنِ يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وتَمَسَّكُوا في ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَعَانَ بِصَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ في قِتَالِ هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ (¬1)، قَالُوا: وَتَعَيَّنَ المَصِيرُ إِلَى هَذَا؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا. * أَبُو سُفْيَانَ يَسْتَنْفِرُ قُرَيْشًا: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ -وَهُوَ رَئيسُ العِيرِ- في غَايَةِ الحِيطَةِ وَالحَذَرِ، فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ مَكَّةَ مَحْفُوفٌ بِالأَخْطَارِ، وَكَانَ يَتَحَسَّسُ الأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ، حَتَّى جَاءَهُ الخَبَرُ مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدِ اسْتَنْفَرَ أصْحَابَهُ لِلْعِيرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَأْجَرَ أَبُو سُفْيَانَ ضَمْضَمَ بنَ عَمْرٍو الغِفَارِيَّ، وَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِي قُريْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أمْوَالهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ عَرَضَ لَهَا في أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَصَرَخَ بِبَطْنِ الوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ جَدَعَ (¬2) أنْفَ بَعِيرِهِ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، ¬

_ (¬1) أخرج استعانةَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بصفوان بن أمية وهو مشرك يوم حنين: الحاكم في المستدرك - كتاب البيوع - باب لا يجوزُ لامرأة أمر في مالها - رقم الحديث (2347) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4454) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15302). (¬2) الجَدْعُ: القطع. انظر النهاية (1/ 239).

* رؤيا عاتكة

وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اللَّطِيمَةَ (¬1) اللَّطِيمَةَ، أمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ في أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ (¬2). * رُؤْيَا عَاتِكَةَ (¬3): وَقَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ ضَمْضَمٌ إِلَى مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -عَمَّةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رُؤْيَا أخَافتهَا وَأَفْزَعَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أخِيهَا العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي! وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أفْظَعَتْنِي (¬4) وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَنِّي مَا أُحَدِّثُكَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتَّى وَقَفَ بِالأَبْطَحِ (¬5)، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتهِ: أَلَا انْفِرُوا يَا آلَ غُدْرٍ لِمَصَارِعِكُمْ في ثَلَاثٍ، فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلهُ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا: أَلَا انْفِرُوا يَا آل غُدْرٍ ¬

_ (¬1) أي أدرِكُوا اللطيمة، واللطيمةُ بفتح اللام هي الجِمَال التي تحمل العِطر والبَزّ. انظر النهاية (4/ 217). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 219) - الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 255). (¬3) هي عاتِكَة بنت عبد المطلب، عمَّهَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشقيقة أبي طالب، وعبد اللَّه والد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، أسلمت وهاجرت. قال الذهبي في السير (2/ 272): ولم نسمع لها بذكر في غير الرؤيا. (¬4) أفظَعَتْنِي: أكبرتُهَا وخِفْتُها. انظر النهاية (3/ 412). (¬5) أبطُحِ مكة: مَسِيلُ وادِيهَا. انظر النهاية (1/ 134).

لِمَصَارِعِكُمْ في ثَلَاثٍ، ، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَة فَأَرْسَلَهَا (¬1)، فَأَقْبِلِتْ تهْوِي (¬2) حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الجَبَلِ ارْفَضَّتْ (¬3)، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا دَارٌ إِلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهُ فِلْقَةٌ. فَقَالَ العَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، وَأَنْتِ فَاكْتُمِيهَا، وَلَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدٍ. ثُمَّ خَرَجَ العَبَّاسُ، فَلَقِيَ الوَليدَ بنَ عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَذَكَرَهَا لَهُ، وَاسْتَكْتَمَهُ إيَّاهَا، فَذَكَرَهَا الوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةُ، فَفَشَا (¬4) الحَدِيثُ بِمَكَّةَ، حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ في أنْدِيَتِهَا. قَالَ العَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ لِأَطُوفَ بِالبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ في رَهْطٍ (¬5) مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أبَا الفَضْلِ! إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا، فَلَمَّا فَرَغْتُ أقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: تِلْكَ الرُّؤْيَا التِي رَأَتْ عَاتِكَةُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ؟ قَالَ: يَا بَنِى عَبْدِ المُطَّلِبِ! أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنبَأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَنبَأَ نِسَاؤُكُمْ، قَدْ زَعَمَتْ ¬

_ (¬1) أرسلَ الشيءَ: أطلقه. انظر لسان العرب (5/ 214). (¬2) يُقال: هوى يَهْوِي هويًا: إذا أسرع في السير. انظر النهاية (5/ 245). (¬3) ارفَضَّت: تفرقت. انظر النهاية (2/ 222). (¬4) فَشَا: أي انتَشَر. انظر النهاية (3/ 403). (¬5) الرَّهط من الرجال: ما دُون العشرة. انظر النهاية (2/ 257).

عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا في ثَلَاثٍ، فَسَنَتَرَبَّصُ (¬1) بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا مَا تَقُولُ فَسَيَكُونُ، وَإِنْ تَمْضِ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، كتَبْنَا عَلَيْكُمْ كِتَابًا أنَّكُمْ أكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ في العَرَبِ. قَال العَبَّاسُ: فوَاللَّهِ مَا كان مِنِّي إِليْهِ كبِيرٌ، إِلا أَنِّي جحَدت (¬2) ذلِكَ وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا، ثُمَّ تَفَرَّقْنَا. قَالَ الْعَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا أمْسَيْتُ، لَمْ تَبْقَ امْرَأَهٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَّا أتَتْنِي، فَقَالَتْ: أقْرَرْتُمْ لِهَذَا الفَاسِقِ الخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ في رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ في ذَلِكَ غَيْرَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ فَعَلْتُ: مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ، وَأَيْمُ (¬3) اللَّهِ لَأَتَعَرَّضَنَّ لَهُ، فَإِنْ عَادَ لَأَكْفِينَّكُنَّهُ. قَالَ: فَغَدَوْتُ في اليَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضبٌ، أُرَى أَنِّي قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ مِنْهُ، قَالَ، فَدَخَلْتُ المَسْجِدَ فَرَأَيْتُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ أتَعَرَّضُهُ، لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ، وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، حَدِيدَ النَّظَرِ (¬4). قَالَ: إِذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ المَسْجِدِ ¬

_ (¬1) التَّرَبُّص: الانتظارُ. انظر لسان العرب (5/ 109). (¬2) الجُحُودُ: الإنكارُ مع العلم. انظر لسان العرب (2/ 182). (¬3) وأيْمُ اللَّه: من ألفاظِ القَسَم، كقولك لعَمْرُ اللَّه، وعَهْدُ اللَّه. انظر النهاية (1/ 86). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 169): حَدِيدُ البَصَر: أي قَوِيٌّ نَافذ.

* استعداد قريش لقتال الرسول -صلى الله عليه وسلم-

يَشْتَدُّ، فَقُلْتُ في نَفْسِي: مَالَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ؟ أَكُلُّ هَذَا فَرَقٌ (¬1) مِنِّي أَنْ أُشَاتِمَهُ؟ وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتُ ضَمْضَمِ بنِ عَمْرٍو الغِفَارِيٍّ وَهُوَ يَصْرَخُ بِبَطْنِ الوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ جَدَعَ أَنْفَ بَعِيرِهِ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ في أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ، قَالَ العَبَّاسُ: فَشَغَلَنِي أَبُو جَهْلٍ عَنْهُ، وَشَغَلَهُ ضَمْضَم عَنِّي مَا جَاءَ مِنَ الأَمْرِ، وَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ أشَدَّ الفَزَعِ، وَأَشْفَقُوا مِنْ قِبَلِ رُؤْيَا عَاتِكَةَ (¬2). * اسْتِعْدَادُ قُرَيْشٍ لِقِتَالِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَقَالُوا: أَيَظُنُّ مُحَمَّد وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ (¬3)؟ كَلَّا وَاللَّهِ لَيَعْلَمَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ، فنَفَرُوا عَلَى كُلِّ صَعْبٍ (¬4) وَذَلُولٍ (¬5)، وكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إِمَّا خَارج وَإِمَّا بَاعِثٌ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ (¬6)، فَلَمْ ¬

_ (¬1) الفَرَق بالتحريك: الخَوْف والفَزَع. انظر النهاية (3/ 392). (¬2) أخرج حديث رؤيا عاتكة: الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي - باب رؤيا عاتكة - رقم الحديث (4353) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 29) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 219) بأسانيد ضعيفة، ولكن تتقوى بكثرة الروايات، فيرتفع الحديث إلى درجة الحسن لغيره. (¬3) عِيرُ ابن الحضرمي: هي العِيرُ التي أدرَكَها عبد اللَّه بن جحش -رضي اللَّه عنه- في سرية نَخْلَة، وقتل فيها عمرو بن الحضرمي، وأخذ كل ما فيها. (¬4) الصَّعبُ من الدَّوَابِّ: عكس الذَّلُول. انظر لسان العرب (7/ 340). (¬5) الدابة الذَّلُول: هي اللَّيِّنَةُ والسَّهْلة، وهو ضد الصُّعُوبة. انظر لسان العرب (5/ 55). (¬6) أوْعَبَ القومُ: إذا خرجُوا كلهم إلى الغَزْو. انظر لسان العرب (15/ 340).

يَتَخَلَّفْ مِنْ أشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَبُو لَهَبِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، تَخَلَّفَ وبَعَثَ مَكَانَهُ العَاصِي بنَ هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ، وَكَانَ قَدْ لَاطَ (¬1) لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، أَفْلَسَ بِهَا، فَاسْتَأْجَرَهُ بِهَا عَلَى أَنْ يُجْزِيَ عَنْهُ بَعْثَهُ، فَخَرَجَ عَنْهُ، وَتَخَلَّفَ أَبُو لَهَبٍ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَتْرُكُوا كَارِهًا لِلْخُرُوجِ، وَلَا مُسْلِمًا يَعْلَمُونَ إسْلَامَهُ، وَلَا أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ إِلَّا مَنْ لَا يتَّهِمُونَ، إِلَّا أخْرَجُوهُ مَعَهُمْ، فَكَانَ مِمَّنْ أُخْرِجَ كُرْهًا العَبَّاسُ بنُ عَبِدْ المُطَّلِبِ، ونَوْفَلُ بنُ الحَارِثِ، وَطَالِبٌ وَعَقِيل ابْنَا أَبِي طَالِبٍ. وَأَرَادَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ القُعُودَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا (¬2) ثَقِيلًا، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهُوَ جَالِسٌ في المَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ، بِمِجْمَرَةٍ (¬3) فِيهَا نَارٌ وَمُجْمَرٍ (¬4) حَتَّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَيَّةُ! اسْتَجْمِرْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَيَّةُ: قبَّحَكَ اللَّهُ وَقبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) لَاطَ له: أي أرْبَى له. قال أبو عبيد: وسُمي الرِّبا لِيَاطًا؛ لأنه ملصَقٌ بالبيعِ وليسَ ببيعٍ، وقيل: لأنه لاصقٌ بصاحبهِ لا يقضِيهِ ولا يُوضعُ عنه. انظر الرَّوْض الأُنُف (3/ 51). (¬2) جَلِيل: أي مُسِنّ. انظر النهاية (1/ 278). (¬3) المِجْمَر بكسر الميم: هو الذي يُوضع فيه النار للبخور. انظر النهاية (1/ 283). (¬4) المُجْمَر بضم الميم: هو الذي يُتبَخَّر به وأُعِدّ له الجَمْرُ -وهو البخُور-. انظر النهاية (1/ 283). (¬5) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 222): أن الذي حَثَّ أمية على الخروج هو عقبة بن أبي معيط، وفي رواية البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3950) - أن أبا جهل =

* سبب كراهية أمية الخروج

* سَبَبُ كَرَاهِيَةِ أُمَيَّةَ الخُرُوجَ: وَكَانَ سَبَبُ كَرَاهِيَةِ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ عَنِ الخُرُوجِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ انْطَلَقَ سَعْدٌ مُعْتَمِرًا، فنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ سَعْدٌ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ لَعَلِّي أَنْ أَطُوفَ بِالبَيْتِ، فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أبَا صفْوانٍ (¬1) من هذا مَعَكَ؟ فَقَالَ: هَذَا سَعْدٌ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمُ الصُّبَاةَ (¬2) وزَعَمْتُمْ أنَكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وتُعِينُونَهُمْ! أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانٍ مَا رَجَعْتَ إِلَى أهْلِكَ سَالِمًا. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ: أمَا وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ ¬

_ = هو الذي حَثَّ أمية علي الخروج. قال الحافظ في الفتح (8/ 8): وكأن أبا جهل سلّط عقبة عليه حتى صنع به ذلك. (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 8): هي كنيةُ أُمية: كني بابنهِ صفوانَ بن أمية. (¬2) يُقال: صبأَ فلانٌ: إذا خرج من دينٍ إلى دين غيره، وكانت العرب تُسمي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّابِئَ؛ لأنه خرج من دينِ قُريش إلى دين الإسلام. انظر النهاية (3/ 3). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال أبو جهل: تطوفُ بالكعبة آمِنًا وقد آوَيْتُم محمدًا وأصحابه.

أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ، طَرِيقَكَ عَلَى المَدِينَةِ (¬1)، فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يَا سَعْدُ عَلَى أَبِي الحَكَمِ سَيِّدِ أَهْلِ الوَادِي، فَقَالَ سَعْدٌ: دَعْنَا عَنْكَ يَا أُمَيَّةُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ"، قَالَ: بِمَكَّةَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فزَعًا شَدِيدًا (¬2)، فَلَمَّا رَجَعَ أُمَيَّةُ إِلَى أهْلِهِ قَالَ: يَا أُمَّ صَفْوَانٍ أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ لِي سَعْدٌ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: بِمَكَّةَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَاللَّهِ لَا أخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ، فَقَالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ فكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أبَا صَفْوَانٍ إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الوَادِي تَخَلَّفُوا مَعَكَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُو جَهْلٍ حَتَّى قَالَ: أَمَّا إِذَا غَلَبْتَنِي فَوَاللَّهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي فَقَالَتْ لَهُ: يَا أبَا صَفْوَانَ وَقَدْ نَسِيتَ مَا قَالَ لَكَ أخُوكَ اليَثْرِبِيُّ! قَالَ: لَا مَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلَّا قَرِيبًا، فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِذَلِكَ حَتَّى قتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَدْرٍ (¬3). ¬

_ (¬1) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال سعدٌ: واللَّهِ لئن منعتَنِي أن أطوف بالبيت لأقطَعَنَّ مَتْجَرَك بالشام. (¬2) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال: واللَّه ما يكذبُ محمد إذا حَدَّث. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3632) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من يقتل ببدر - رقم الحديث (3950).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - مُعْجِزَاتٌ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ظَاهِرَةٌ. 2 - وَفيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قُوَّةِ النَّفْسِ وَاليَقِينِ. 3 - وَفِيهِ أَنَّ شَأْنَ العُمْرَةِ كَانَ قَدِيمًا. 4 - وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ مَأْذُونًا لَهُمْ في الِاعْتِمَارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْتَمِرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بخِلَافِ الحَجِّ، وَاللَّه أَعْلَمُ (¬1). * عِدَّةُ المُشْرِكِينَ وَعَتَادُهُمْ: وَكَانَ عِدَّةُ المُشْرِكِينَ أَلْف وثَلَاثُمِائَةٍ وتسْعَةَ عَشَرَ (¬2) مُقَاتِلًا في بِدَايَةِ مَسِيرِهِمْ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَةُ فَرَسٍ (¬3) وسِتُّمِائَةِ دِرْعٍ، وَجِمَالٌ كَثِيرَ لَا يُعْرَفُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 10). (¬2) هذه رواية الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر - رقم الحديث (1763) - وعند ابن سعد في طبقاته (1/ 259) أنهم كانوا ألف مقاتل- وعند البيهقي في دلائل النبوة (3/ 105): أنهم كانوا تسعمائة وخمسون مُقَاتلًا. ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن المشركين لما خرجوا كانوا ألف وزيادة، وفي الطريق رَجَع أعداد منهم ولم يُشَارك في القتال إلا تِسعُمائة وخمسون رجلًا كما سيأتي. (¬3) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 278) - وعند البيهقي في الدلائل (3/ 32): أن معهم مائتا فرس.

* الثأر بين قريش وكنانة

عَدَدُهَا بِالضَّبْطِ، وَكَانُوا بِقِيَادَةِ أَبِي جَهْلِ بنِ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ (¬1). * الثَّأْرُ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ: وَلَمَّا فَرَغَتْ قُرَيْشٌ مِنْ جَهَازِهَا، وَأَجْمَعَتْ عَلَى المَسِيرِ، ذَكَرَتْ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ مِنَ العَدَاوَةِ وَالحَرْبِ (¬2)، فَقَالُوا: إنَّا نَخْشَى أَنْ يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، فكَادَ ذَلِكَ يُثْنِيهِمْ، فتَبَدَّى لَهُمْ إبْلِيسُ في صُورَةِ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكِ بنِ جُعْشُمٍ المُدْلِجِيّ (¬3)، وَكَانَ مِنْ أشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَكُمْ جَارٌ (¬4) مِنْ أَنْ تَأْتِيكُمْ كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيءٍ تَكْرَهُونَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا المَوْقِفَ في القُرْآنِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 278) دلائل النبوة للبيهقي (3/ 32) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 259) - البداية والنهاية (3/ 275). (¬2) قال ابن إسحاق في السيرة (2/ 222 - 223): كانت الحرب التي وقعت بين قُريش وبين بَنِي بكر سببها: أن ابن لحفص بن الأخْيَفِ من بني عامر بن لؤي، قتَلَه رجلٌ من بني بكر بإشَارَة من عامر بن يزيد بن المُلَوَّح أحد بني بكر، ثم أخذ بثأرهِ أخُوه مِكْرَز بن حفص فقتل عامرًا وخاضَ بسيفه في بَطنِهِ، ثم جاء من الليل فعلَّقه بأستار الكعبة، فبينما هم في ذلك من حربهم حجز الإسلام بين الناس، فتشاغَلُوا به، حتى أجمَعَتْ قريشٌ المَسِير إلى بدر، فذكروا الذين بينهم وبين بني بكر فخافُوهُمْ بسبب ذلك. (¬3) سُرَاقة هذا هو الذي كان يتبَعُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهجرة، وقد أسلمَ -رضي اللَّه عنه- في غزوةِ الطائف سنة ثمان من الهجرة. (¬4) والمُجِيرُ: هو الذي يَمْنَعُك. انظر لسان العرب (2/ 415).

عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). وَحِينَئِذٍ خَرَجُوا بِحَدِّهِمْ (¬2) وَحَدِيدِهِمْ، يُحَادُّونَ (¬3) اللَّهَ وَرَسُولهُ، وَمَعَهُمْ القِيَانُ (¬4) يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ، ويُغَنِّينَ بِهِجَاءِ المُسْلِمِينَ، وَهُمْ في غَايَةِ البَطَرِ (¬5) وَالكِبْرِ والخُيَلَاءِ (¬6)، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ (¬7) وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬8). قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ، ومُجَاهِدُ، وقتَادَةُ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} قَالُوا: هُمُ المُشْرِكُونَ، الذِينَ قَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ (¬9). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (48). (¬2) الحَدُّ والحِدُّ: سواء من الغضب: أي أنهم خرجوا وهم في مُنتهى الغضب علي المسلمين. انظر النهاية (1/ 340). (¬3) المُحَادَّاة: المُعَادَاة والمُخَالفة والمُنَازعة. انظر النهاية (1/ 340). ومنه قوله تعالى في سورة المجادلة آية (20): {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ}. (¬4) القِيَان: هن الإماء المُغَنِّيَات. انظر النهاية (4/ 118). (¬5) البَطَر: هو الطُّغْيَان عند النَّعْمَة وطُول الغِنَى. انظر النهاية (1/ 134). (¬6) الخُيَلاءُ: الكِبْرُ والعُجْبُ. انظر لسان العرب (4/ 265). (¬7) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 72): رِئَاءَ النَّاس: هو المُفَاخَرَة والتكَبُّر عليهم. (¬8) سورة الأنفال آية (47). (¬9) انظر تفسير ابن كثير (4/ 73).

* المطعمون من قريش

* المُطْعِمُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَكَانَ المُطْعِمُونَ لِجَيْشِ الكُفَّارِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَهُمُ: العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، الحَارِثُ بنُ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ، أَبُو البَخْتَرِيِّ بنَ هِشَامٍ، حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، نُبَيْهًا وَمُنبَّهًا ابْنَي الحَجَّاجِ بنِ عَامِرٍ، سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو. وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ عَشْرَةً أَوْ تِسْعَةً مِنَ الإِبِلِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَحَرَ لَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ أَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَفِيهِمْ أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: رَوَى مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بنُ جُبيْرٍ، وَالحَكَمُ بنُ عُتْيْبَةَ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ أَبْزِي: أَنَّهَا نَزَلَتْ في أَبِي سُفْيَانَ وَنَفَقَتِهِ الأَمْوَالَ في أُحُدٍ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ في أَهْلِ بَدْرٍ. ثُمَّ قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُور لهَا خَاصًّا، فَقَدْ أخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الكُفَّارَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ اتِّباعِ طَرِيقِ الحَقِّ، فَسَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَذْهَبُ أمْوَالُهُمْ، {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (36) - وانظر الخبر في سيرة ابن هشام (2/ 276) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 109 - 110).

* طريق المشركين

حَسْرَةً}، أَيْ: نَدَامَةً، حَيْثُ لَمْ تُجْدِ (¬1) شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَظُهُورَ كَلِمَتِهِمْ عَلَى كَلِمَةِ الحَقِّ، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ، ونَاصِرُ دِينِهِ، وَمُعْلِنُ كَلِمَتِهِ، وَمُظْهِرُ دِينِهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ، فَهَذَا الخِزْيُ لَهُمْ في الدُّنْيَا، وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ، رَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمعَ بِأُذُنِهِ مَا يَسُوؤُهُ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ، فَإِلَى الْخِزْيِ الْأَبَدِيِّ، وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيِّ (¬2). * طَرِيقُ المُشْرِكينَ: تَحَرَّكَ المُشْرِكُونَ بِاتِّجَاهِ بَدْرٍ، وَمَرُّوا في طَرِيقِهِمْ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ (¬3)، ثُمَّ سَلَكُوا وَادِي عُسْفَانَ (¬4)، ثُمَّ قُدَيْدًا (¬5)، ثُمَّ الجُحْفَةَ فنَزَلُوا بِهَا (¬6). * نَجَاةُ العِيرِ وَرِسَالَةُ أَبِي سُفيَانَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَسِيرُ بِالعِيرِ عَلَى الطَّرِيقِ الرَّئِيسِيِّ، وَكَانَ حَذِرًا مُتيَقِّظًا، وَاسْتَبْطَأَ ضَمْضَمًا وَالنَّفِيرَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ مَاءِ بَدْرٍ، لَقِيَ مَجْدِيَّ بنَ عَمْرٍو الجُهَنِيَّ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ أَحْسَسْتَ أَحَدًا مِنْ عُيُونِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ ¬

_ (¬1) لم تُجْدِ: أي لم تُغْنِ. (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 53). (¬3) مَرُّ الظَّهْرَانِ: هو واد بين مكة وعُسْفَان، واسم القرية المضافة إليه: مَرّ، بفتح الميم وتشديد الرَّاء. انظر النهاية (3/ 152). (¬4) عُسْفَان: بضم العين، هي قرية جامِعَةٌ بين مكة والمدينة. انظر النهاية (3/ 214). (¬5) قُدَيْد: مُصغرًا، هو موضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (4/ 20). (¬6) انظر دلائل النبوة للبيهقي (105/ 3).

أَحَدًا أُنْكِرُهُ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبيْنِ قَدْ أَنَاخَا (¬1) إِلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا في شَنٍّ (¬2) لَهُمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا، وَأَشَارَ إِلَى مَنَاخِ بَسْبَسَةَ بنِ عَمْرٍو الجُهَنِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَدِيِّ بنِ أَبِي الزُّغْبَاءَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ بَعَثَهُمَا إِلَى بَدْرٍ يَتَحَسَّسَانِ لَهُ أخْبَارَ العِيرِ -كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ- فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَنَاخِهِمَا، فَأَخَذَ مِنْ أبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا، فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى (¬3)، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ (¬4) يَثْرِبَ، وَهَذِهِ عُيُونُ مُحَمَّدٍ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا، فَضَرَبَ وُجُوهَ العِيرِ، وَاتَّجَهَ بِهَا نَحْوَ سَاحِلِ البَحْرِ، وَترَكَ الطَّرِيقَ الرَّئيسِيَّ الذِي يَمُرُّ بِبَدْرٍ عَلَى اليَسَارِ، ثُمَّ أسْرَعَ فنَجَا، وبِهَذَا نَجَا بِالقَافِلَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ (¬5). فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ نَجَا بِالعِيرِ، أَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ: قَيْسَ بنَ امْرِئِ القَيْسِ بِرِسَالَةٍ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ ورِجَالَكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ، فَارْجِعُوا. فَلَمَّا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ ذَلِكَ، وَهُمْ مَا زَالُوا بِالجُحْفَةِ، هَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ طَاغِيَةُ قُرَيْشٍ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ لَا نَرْجعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا ¬

_ (¬1) أناخَ الإبل: أبْرَكها فبركت. انظر لسان العرب (14/ 321). (¬2) الشَّنُّ: القِرْبَة. انظر النهاية (2/ 453). (¬3) النَّوى: جمع نواة التمر. انظر النهاية (5/ 116). (¬4) العَلائِفُ: جمع عَلَف: وهو ما تأكله الماشية. انظر النهاية (3/ 260). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (2/ 230) - الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 255).

ثَلَاثًا، فنَنْحَرَ الجَزُورَ (¬1)، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، ونَسْقِيَ الخَمْرَ، وتَعْزِفَ عَلَيْنَا القِيَانُ، حَتَّى تَسْمَعَ بِنَا العَرَبُ وبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا (¬2). وَلَكِنْ عَلَى رَغْمَ أَبِي جَهْلٍ قَامَ الأَخْنَسُ بنُ شُرَيْقٍ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ فَقَالَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ! قَدْ نَجَّى اللَّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَخَلَّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بنَ نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا بِي جُبْنَهَا (¬3) وارْجِعُوا، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا في غَيْرِ ضَيْعَةٍ، لَا مَا يَقُولُ هَذَا، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، فَرَجَعُوا مِنَ الجُحْفَةِ، فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، وَكَانُوا حَوَالِي مِائَةِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ (¬4). وَأَرَادَتْ بَنُو هَاشِمٍ الرُّجُوعَ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ أَبُو جَهْلٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تُفَارِقُنَا هَذِهِ العِصَابَةُ (¬5) حَتَّى نَرْجِعَ. وَمَضَى المُشْرِكُونَ نَحْوَ بَدْرٍ حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهَا وَرَاءَ كَثِيبٍ (¬6) يَقَعُ بِالعُدْوَةِ (¬7) القُصْوَى، عَلَى حُدُودِ وَادِي بَدْرٍ (¬8). ¬

_ (¬1) الجَزُور: البعير ذَكَرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 230) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 108). (¬3) الجُبْنُ والجَبَان: هو ضِدُّ الشجاعة والشجاع. انظر النهاية (1/ 230). كأنه يقول: إذا عُيِّرْتم بالإحْجَام عن القتال خَوفًا فاجعَلُوا مَردّ ذلك إليّ وإلى رَأْيِي. (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 255). (¬5) العِصَابة: هم الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين. انظر النهاية (3/ 220). (¬6) الكَثِيب: هو الرَّمل المستطيل المُحْدَوْدِب. انظر النهاية (4/ 132). (¬7) العُدْوة: بالضم والكسر جانب الوادي. انظر النهاية (3/ 176). (¬8) انظر سيرة ابن هشام (2/ 232) - الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 255).

* مشاورة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه

* مُشَاوَرَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ (¬1): وَبَلَغَ خَبَرُ خُرُوجِ قُرَيْشٍ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ لَا يَزَالُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الطَّرِيقِ بِوَادِي ذِفْرَانَ (¬2)، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَجْلِسًا اسْتِشَارِيًّا، وَأَخْبَرَ الصَّحَابَةَ بِخُرُوجِ قُرَيْشٍ، فكَرِهَ بَعْضُهُمُ القِتَالَ، وَعَارَضَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لِقِتَالٍ، إِنَّمَا خَرَجُوا لِمُلَاقَاةِ الفِئَةِ الضَّعِيفَةِ التِي تَحْرُسُ العِيرَ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمُوا أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَفَرَتْ بِخَيْلِهَا وَرَجِلِهَا، وشُجْعَانِهَا وفُرْسَانِهَا، كَرِهُوا لِقَاءَهَا كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً، هِيَ هَذِهِ الكَرَاهِيَةُ التِي يَرْسُمُ التَّعْبِيرُ القُرْآنِيُّ صُورَتَهَا بِطَرِيقَةِ القُرْآنِ الفَرِيدَةِ (¬3): {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (¬4) وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسير (2/ 149): كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث، تَطْيِيبًا لقلوبهم؛ ليكونوا فيما يفعلونه أنْشَطَ لهم. (¬2) ذِفْران بكسر الذال: هو وادٍ قُرْبَ وادي الصفراء. انظر النهاية (2/ 149). ووادي الصفراء تقدم ذكره. (¬3) انظر في ظلال القرآن (3/ 1480). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 15): لما بَلَغَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خروجَ النَّفِير، أوحى اللَّه إليه يَعِدُه إحدى الطائفتين: إما العِيرُ وإما النَّفِير، ورغِبَ كثير من المسلمين إلى العِيرِ؛ لأنه كَسْبٌ بلا قِتَال.

* قادة الصحابة يتكلمون

الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} (¬1). فَأَيْنَ مَا أَرَادَتْهُ العُصْبَةُ المُسْلِمَةُ لِنَفْسِهَا مِمَّا أرَادَهُ اللَّهُ لَهَا؟ لَقَدْ كَانَتْ تَمْضِي -لَوْ كَانَتْ لَهُمْ غَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ- قِصَّةَ غَنِيمَةٍ. . . قِصَّةَ قَوْمٍ أغَارُوا عَلَى قَافِلَةٍ فَغَنِمُوهَا! فَأَمَّا بَدْرٌ فَقَدْ مَضَتْ في التَّارِيخِ كُلِّهِ قِصَّةَ عَقِيدَةٍ. . . قِصَّةَ نَصْرٍ حَاسِمٍ وَفَرْقًا بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ. . . قِصَّةَ انْتِصَارِ الحَقِّ عَلَى أَعْدَائِهِ المُدَجَّجِينَ بِالسِّلَاحِ، المُزَوَّدِينَ بِكُلِّ زَادٍ، وَأَهْلُ الحَقِّ في قِلَّةٍ مِنَ العَدَدِ، وضَعْفٍ في الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ. . . قِصَّةُ انْتِصَارِ القُلُوبِ حِينَ تَتَّصِلُ بِاللَّهِ، وَحِينَ تَتَخَلَّصُ مِنْ ضَعْفِهَا الذَّاتِيِّ، بَلْ قِصَّةُ انْتِصَارِ حَفْنَةٍ مِنَ القُلُوبِ بَيْنَهَا الكَارِهُونَ لِلْقِتَالِ! وَلَكِنَّهَا بِبَقِيَّتِهَا الثَّابِتَةِ المُسْتَعْلِيَةِ عَلَى الوَاقِعِ المَادِّيِّ، وَبِيَقِينِهَا في حَقِيقَةِ القُوَى وَصِحَّةِ مَوَازِينِهَا، قَدِ انتصَرَتْ عَلَى نَفْسِهَا، وَانتصَرَتْ عَلَى مَنْ فِيهَا، وَخَاضَتِ المَعْرَكَةَ وَالكِفَّةُ رَاجِحَةٌ رُجْحَانًا ظَاهِرًا في جَانِبِ البَاطِلِ، فَقَلَبَتْ بِيَقِيِنهَا مِيزَانَ الظَّاهِرِ، فَإِذَا الحَقُّ رَاجِحٌ غَالِبٌ (¬2). * قَادَةُ الصَّحَابَةِ يَتَكَلَّمُونَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَكَلَّمَ قَادَةُ المُهَاجِرِينَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إنَّهَا قُرَيْشٌ وَعِزُّهَا، ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (5 - 7). (¬2) انظر في ظلال القرآن (3/ 1482).

وَاللَّهِ مَا ذَلَّتْ مُنْذُ عَزَّتْ، وَلَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ، وَاللَّهِ لَتُقَاتِلَنَّكَ، فتَأَهَّبْ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ، وَأَعِدَّ لَهُ عُدَّتَهُ (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أيُّهَا النَّاسُ". فَقَامَ المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بنِ عَمْرٍو مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ (¬2) بِهِ، قَالَ المِقْدَادُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، فنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بِرْكِ الغُمَادِ (¬3) لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ، حَتَّى تَبْلُغَهُ (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ البُخَارِيِّ في الصَّحِيحِ قَالَ المِقْدَادُ -رضي اللَّه عنه-: لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (13296) - وانظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 107) - سيرة ابن هشام (2/ 227). (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 13): والمرادُ المُبالغة في عَظَمة ذلك المشهد، وأنه لو خُيِّر بين أن يكون صاحبه وبين أن يحصُلَ له ما يقابل ذلك كَائِنًا ما كان لكان حصوله له أحب إليه. (¬3) بِرْكُ الغُمَادِ: بفتح الباء وتكسر، وتُضم الغين وتُكسر: وهو اسم موضعٍ باليَمَن، وقيل هو موضع وراء مكة بخمس ليال. انظر النهاية (1/ 121). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} - رقم الحديث (3952) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} - رقم الحديث (4609) وابن إسحاق في السيرة (2/ 227).

قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَخَلْفَكَ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ المِقْدَادُ -رضي اللَّه عنه-: يَا اللَّهِ، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا البَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا (¬2)، وَلَوْ أمَرتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا (¬3) إِلَى بِرْكِ الغُمَادِ فَعَلْنَا، فَشَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬4). يَقُولُ ابنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ قَوْلُ المِقْدَادِ (¬5). ثُمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أيُّهَا النَّاسُ"، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ (¬6)، فَفَهِمَتِ الأَنْصَارُ أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- سَيِّدُ الأَنْصَارِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} - رقم الحديث (3952). (¬2) أصل الخَوْض: المشي في الماءِ وتحريكه. انظر النهاية (2/ 83). (¬3) يُقال: فلان تُضرَب إليه أكْبَادُ الإبل: أي يُرحَلُ إليه. انظر لسان العرب (12/ 12). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13296). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} - رقم الحديث (3952). (¬6) قَالَ ابن إسحاق في السيرة (2/ 227): وذلك لأن الأنصار كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رَسُول اللَّهِ إنا برآءُ من ذِمَامِكَ حتى تصلَ إلى ديارنا، فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذِمَّتِنَا نمنعُكَ مما نمنع منه أبناءنا ونِسَاءنا، فكان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتخَوَّف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نَصْرَه إلا مِمَّن دَهَمَهُ -أي غَشِيَهم- بالمدينة من عدُوِّه، وأن ليس عليهم أن يَسِير بهم إلى عدو من بلادهم.

فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَجَلْ"، فَقَالَ سَعْدٌ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ في الحَرْبِ، صُدُقٌ في اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ (¬1). فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَوْلِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: "سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الآنَ أنْظُرُ إِلَى مَصَارع القَوْمِ" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 227). ووقع في صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة بدر - رقم الحديث (1779) - أن المتكلم نِيابة عن الأنصار هو سعد بن عبادة -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد اختلف في شهوده بدر كما تقدم. قال الحافظ في الفتح (8/ 14): ويمكِنُ الجَمْع بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استَشَارهم في غزور بدرٍ مرتين: الأولى وهو بالمدينة أول ما بلغَهُ خبَرُ العِيرِ مع أبي سفيان، وذلك بيِّنٌ في رواية مسلم، ولفظه: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شاوَرَ حين بلغه إقبال أبي سفيان، والثانية كانت بعد أن خرج. (¬2) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (2/ 227) وإسناده صحيح. قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 278): هكذا رواه ابن إسحاق، وله شواهد كثيرة.

* إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بمصارع المشركين

* إِخْبَارُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ بِمَصَارعِ المُشْرِكينَ: ثُمَّ أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْبِرُهُمْ بِمَصَارعِ القَوْمِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُرِينَا مَصَارعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالأَمْسِ، يَقُولُ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّه، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غدًا، إِنْ شَاءَ اللَّه"، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا أَخْطَؤُوا الحُدُودَ التِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * نزولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعُدْوَةِ الدُّنْيَا: ثُمَّ ارْتَحَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ وَادِي ذِفْرَانَ، حَتَّى نَزَلَ بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا، قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا (¬2) وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى (¬3) وَالرَّكْبُ (¬4) أَسْفَلَ مِنْكُمْ (¬5) وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجنة وصفة نعيمها - باب عرض مقعد الميت في الجنة أو النار عليه - رقم الحديث (2873) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (182). (¬2) العُدْوَةُ: جَانِبُ الوادي، أي إذ أنتُم نزولٌ بِعُدوة الوادي الدنيا القَرِيبة من المدينة. انظر تفسير ابن كثير (4/ 66). (¬3) أي الكفار بالعُدْوة القُصْوى، وهي البعيدة التي من ناحية مكة. انظر تفسير ابن كثير (4/ 66). (¬4) الرَّكْب: هي العِير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة. انظر تفسير ابن كثير (4/ 66). (¬5) أسفَلَ منكم: أي مما يلي سِيفَ البحر -أي ساحله-. انظر تفسير ابن كثير (4/ 66) - النهاية (2/ 390).

* الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقوم بعملية استكشافية

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّمَا جَمَعَكُمْ مَعَ عَدُوِّكُمْ في مَكَانٍ وَاحِدٍ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، لِيَنْصُرَكُمْ عَلَيْهِمْ، ويَرْفَعَ كَلِمَةَ الحَقِّ عَلَى البَاطِلِ؛ لِيَصِيرَ الأَمْرُ ظَاهِرًا، وَالحُجَّةُ قَاطِعَةً، وَالبَرَاهِينُ سَاطِعَةً، وَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ حُجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، فَحِينَئِذٍ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} أيْ: يَسْتَمِرُّ في الكُفْرِ مَنِ اسْتَمَرَّ فِيهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، لِقِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ} أَيْ: يُؤْمِنَ مَنْ آمَنَ. {عَنْ بَيِّنَةٍ} أَيْ: حُجَّةٍ وَبَصِيرَةٍ، وَالإِيمَانُ هُوَ حَيَاةُ القُلُوبِ (¬2). * الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُومُ بِعَمَلِيَّةٍ اسْتِكْشَافِيَّةٍ: وَهُنَاكَ وَقَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَمَلِيَّةِ اسْتِكْشَافٍ مَعَ رَفِيقِهِ في الغَارِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، يَسْأَلَانِ عَنْ قُرَيْشٍ، فَوَقَفَا عَلَى شَيْخٍ مِنَ العَرَبِ، يُقَالُ لَهُ: سُفْيَانُ الضَّمْرِيُّ، فَسَأَلهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا أَخْبَرْتَنَا أخْبَرْنَاكَ" قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (42). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 69).

الذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمُ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمُ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَال: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ" (¬1)، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، قَالَ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ؟ أَمِنْ مَاءِ العِرَاقِ؟ ثُمَّ رَجَعَ رَسُول اللَّهِ إِلَى أَصْحَابِهِ (¬2). وَفِي مَسَاءِ ذَلِكَ اليَوْمِ بَعَثَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ، وَسَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ، في نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ خَبَرَ قُرَيْشٍ، فَوَجَدُوا رَوَايَا (¬3) قُرَيْشٍ، وفِيهِمْ غُلَامٌ لِبَنِي الحَجَّاجِ أَسْوَدُ، فَأتَوْا بِهِ إِلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِم يُصَلِّي، فَسَأَل أصْحَابُ الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم- غُلَامَ بَنِي الحَجَّاجِ عَنْ قَافِلَةِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، فَقَال: أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ، فَلَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، قَدْ جَاءَتْ، فَيَضْرِبُونَهُ، فَإِذَا ضَرَبُوهُ قَالَ: نَعَمْ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَإِذَا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فَقَال: مَالِي بِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ عِلْمٍ، وَلكْن هَذِهِ قُرَيْش قَدْ جَاءَتْ، وَرَسُول ¬

_ (¬1) هذه تَوْرِيَةٌ من الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتورِيَة: هي أن يذكر شيئًا ويُريد غيره، يقال: ورَّيْت الخبر أُورَّيه توريةً: إذا سترته وأظهرت غيره. انظر لسان العرب (15/ 283). قلتُ: وإنما قصد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: (من ماء) أنه مَخْلُوق من ماء، وليس في هذا خلاف الحقيقة. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 228). (¬3) الرَّوَايَا من الإبل: هي الحَوَامِلُ للماء، واحدتُهَا رَاوية، وراوِيَة لقريش: أي إبلهم التي كانوا يَسْتَقُون عليها. انظر النهاية (2/ 254).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ: "إنَّكُمْ لَتَضْرُبونَهُ إِذَا صَدَقكُمْ، وَتَدَعُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ" (¬1) وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَوَجَدْنَا فِيهَا -أيْ عِنْدَ بَدْرٍ- رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَمَّا القُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ، فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ: كَمِ القَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَعَلَ المُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ (¬2)، حَتَّى انتهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ له -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَمِ القَوْمُ؟ " قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ، فَجَهِدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ، فَأبَى، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَأَلهُ: "كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الجُزُرِ؟ " قَالَ: عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "القَوْمُ آلفٌ، كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ وَتَبَعِهَا" (¬3). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلرَّجُلَيْنِ -أَيْ غُلَامِ بَنِي الْحَجَّاجِ، وَمَوْلَى عُقْبَةَ بنِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة بدر - رقم الحديث (1779) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13296) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 228). (¬2) في رواية أنس الماضية أن الصحابة ضَرَبُوه؛ لأنه قال من قريش، وكلتا الروايتين تدل على أن المسلمين كانوا كارهين للقتال، وودوا لو كانت القافلة، كما قال تَعَالَى في سورة الأنفال آية (7): {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948).

* نزول المطر

أَبِي مُعَيْطٍ-: "فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أشْرَافِ قُرَيْشٍ؟ " قَالَا: عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو البَخْتَرِيِّ بنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بنُ خُوَيْلِدٍ، وَالحَارِثُ بنُ عَامِرِ بنِ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ، وَالنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهُ وَمُنَبِّهُ ابْنَا الحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بنُ عَبْدِ وُدٍّ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ ألقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ (¬1) أكْبَادِهَا" (¬2). * نُزُولُ المَطَرِ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعِيدًا عَنِ المَاءِ، فَأَصَابَ المُسْلِمِينَ عَطَشٌ شَدِيدٌ، وَأَصَابَهُمْ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَيْهِمْ مَطَرًا، وَكَانَ مَطَرًا خَفِيفًا (¬3)، فَطَهَّرَهُمْ بِهِ، فَشَرِبَ المُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ رِجْسَ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ الوَادِي دَهْسًا (¬4)، فَلَمَّا أصَابَهُ المَاءُ لَبَّدَ الأَرْضَ (¬5) تَحْتَ الأَقْدَامِ ¬

_ (¬1) أَرَادَ صَمِيم قريش ولُبَابَها، وأشرَافَها، لأن الكَبِدَ من أشْرَفِ الأعضاء، وأفْلَاذُ: جمع فِلْذَة، وهي القطعة المقطوعة طُولًا. انظر النهاية (3/ 422). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 229). (¬3) أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (948) - عن عليّ بن أبي طالب قال: . . . ثم إنه أصابنا من الليل طَشٌّ من مطرٍ، فانطلقنا تحت الشجر والحَجَفِ -وهي الترس- نستظلُّ تحتها، من المطر. والطَّشّ: هو المطر الضعيف القليل. انظر النهاية (3/ 113). (¬4) الدَّهْسُ: ما سَهُلَ ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رَمْلًا. انظر النهاية (2/ 134). (¬5) لَبَّدت الأرض: أي جَعَلَتْها قوية لا تَسُوخُ فيها الأرجل. انظر لسان العرب (12/ 222).

* تحرك المسلمين وسيطرتهم على ماء بدر

فَثَبُتَتِ الأَقْدَامُ، وَنَزَلَ المَطَرُ شَدِيدًا عَلَى المُشْرِكِينَ، فَكَانَ بَلَاءً وَنِقْمَةً عَلَيْهِمْ مَنَعَهُمْ مِنَ التَّقَدُّمِ (¬1)، وَفِي هَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ (¬2) بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ (¬3) وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ (¬4) وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} (¬5). قَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المَطَرَ قَبْلَ النُّعَاسِ، فَأَطْفَأَ بِالمَطَرِ الغُبَارَ، وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الأَرْضُ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ (¬6). هَذِهِ المَعْرَكَةُ كُلُّهَا تُدَارُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَتَدْبِيرِهِ وقَدَرهِ، وَتَسِيرُ بِجُنْدِ اللَّهِ وتَوْجِيهِهِ. . . وَهِيَ شَاخِصةٌ بِحَرَكَاتِهَا وَخَطَرَاتِهَا مِنْ خِلَالِ العِبَارَةِ القُرْآنِيَّةِ المُصَوَّرَةِ المُتَحَرِّكَةِ المُحْيِيَةِ لِلْمَشْهَدِ الذِي كَانَ، كَأَنَّهُ يَكُونُ الآنَ (¬7)! . * تَحَرُّكُ المُسْلِمِينَ وسَيْطَرَتُهُمْ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ: ثُمَّ تَحَرَّكَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِجَيْشِهِ نَحْوَ مَاءِ بَدْرٍ؛ لِيَسْبِقَ المُشْرِكِينَ إِلَيْهِ، ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 232). (¬2) أي: من حَدَث أصغر وأكبر، وهو تطهِيرُ الظاهر. انظر تفسير ابن كثير (4/ 24). (¬3) أي: من وسوَسَةٍ أو خاطرٍ سَيِّئ، وهو تطهير الباطن. انظر تفسير ابن كثير (4/ 24). (¬4) أي: بالصبر والإقدام علي مُجَالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، ويُثَبت به الأقدام، وهو شجاعة الظاهر. انظر تفسير ابن كثير (4/ 24). (¬5) سورة الأنفال آية (11). (¬6) انظر تفسير ابن كثير (4/ 24). (¬7) انظر في ظلال القرآن (3/ 1483).

* رواية مشهورة ضعيفة

وَيَحُولَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَفْضَلِ بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَدْرٍ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَدْرٍ، وَبَدْر بِئْرٌ، فَسَبَقْنَا المُشْرِكِينَ إِلَيْهَا (¬1). * رِوَايَةٌ مَشْهُورَة ضَعِيفَةٌ: وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الحُبابَ بنَ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أرَأَيْتَ هَذَا المَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نتقَدَّمَهُ، وَلَا نتأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالحَرْبُ والمَكِيدَةُ؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ القَوْمِ، فنَنْزِلهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ (¬2) مَا وَرَاءَهُ مِنَ القُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ القَوْمَ، فنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ أَشرْتَ بِالرَأْيِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948). (¬2) غَارَ الماء: أي ذهب في الأرض وسَفَلَ فيها. انظر لسان العرب (10/ 140). ومنه قوله تعالى في سورة الملك آية (30): {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ}. (¬3) أخرج قصة مشُورة الحباب بن المنذر -رضي اللَّه عنه-: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر مناقب الحباب بن المنذر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5856) =

* بناء العريش

فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ -رَغْمَ شُهْرَتِهَا- ضَعِيفَةٌ مِنْ حَيْثُ السَّنَدِ، وَمُخَالِفَة لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ التِي أخْرَجَهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ الذِي اخْتَارَ النُّزُولَ عَلَى أفْضَلِ مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بِئْرِ بَدْرٍ أَوَّلَ مَا نَزَلَ. * بِنَاءُ العَرِيشِ (¬1): وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَ المُسْلِمُونَ عَلَى المَاءِ وَاسْتَقَرَّ أمْرُهُمْ، قَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! ألا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبكَ (¬2)، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الأُخْرَى، جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُون مَعَكَ. فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ. ثُمَّ بُنِيَ العَرِيشُ، وَكَانَ مِنْ جَرِيدٍ (¬3)، فَوْقَ تَلٍّ مُشْرِفٍ (¬4) عَلَى المَعْرَكَةِ، ¬

_ = (5857) - قال الذهبي: هذا حديث منكر، وسنده واه - وأخرجها ابن إسحاق في السيرة (2/ 232) بإسناد منقطع - والأموى كما عند ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 283) وفي سنده الكلبي وهو متروك - وأوردها الحافظ في الإصابة (2/ 9) وضعَّفَ إسنادها. (¬1) العَرِيشُ: هو خيمةٌ من خَشَب أو عِيدان تُنْصب ويُظلل عليها. انظر لسان العرب (9/ 134). (¬2) الرَّكَائِبُ: هي الإبل التي تَحْمل القوم. انظر لسان العرب (5/ 296). (¬3) الجَرِيدَةُ: هي السَّعْفَة. انظر النهاية (1/ 249). (¬4) المُشْرِف: المكان الذي تُشرف عليه وتعلوه. انظر لسان العرب (7/ 90).

فَدَخَلَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- (¬1). وَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ في نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَهَذِهِ خُصُوصِيَّة لِلصِّدِّيقِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيْثُ هُوَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في العَرِيشِ، كَمَا كَانَ مَعَهُ في الغَارِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَرْضَاهُ (¬3). وَهَذِهِ الفِكْرَةُ التِي أشَارَ بِهَا سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- هِيَ مِنْ أدَقِّ فُنُونِ الحَرْبِ، فَالقَائِدُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِمَنْأَى عَنْ مَيْدَانِ القِتَالِ؛ حَتَّى يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّوْجِيهِ وَالإِشَارَةِ بِمَا يَرَاهُ مِنْ أسَالِيبِ القِتَالِ، وَحَتَّى لَا يُصَابَ فَيَنْفَرِطَ بِإِصَابَتِهِ عِقْدُ الجَيْشِ، فَيَكُونَ مَاَلَهُ الفَشَلُ والهَزِيمَةُ (¬4). ¬

_ (¬1) جاء ذكر العريش في صحيح البخاري - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} - رقم الحديث (4877) - من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وفيه: أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال وهو في قبة له يوم بدر. . . - ورواه الأموي من حديث ابن إسحاق كما في البداية والنهاية (3/ 293): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خَفَقَ خفقةً في العريش، -يقال خفقَ فلان خفقةً: إذا نام نومة خفيفة-، ثم انتبه، فقال: "أبْشِر يا أبا بكر أتَاك نصرُ اللَّه، هذا جبريل، آخذ بِعِنَانِ فرسه، يقوده علي ثنايَاه النَّقْع"، وإسناده حسن كما قال الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تعليقه علي فقه السيرة ص 226 للغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 239) بدون سند. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 240). (¬3) انظر البداية والنهاية (3/ 288). (¬4) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2/ 135).

* تعبئة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وقضاؤه الليل مصليا

أَخْرَجَ البَزَّارُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: يَا أيُّها النَّاسُ مَنْ أشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، إنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَرِيشًا، فَقُلْنَا مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أحَدٌ إِلَّا أَهْوَى عَلَيْهِ، فَهَذَا أشْجَعُ النَّاسِ (¬1). * تَعْبِئَةُ (¬2) الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ وَقَضَاؤُهُ اللَّيْلَ مُصَلِّيًا: ثُمَّ صَفَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ، وعَبَّاَهُمْ لَيْلًا أحْسَنَ تَعْبِئَةٍ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ السَّاجَ عَشَرَ مِنْ رَمَضانَ، وَجَعَلَ يَمْشِي في مَوْضِعِ المَعْرَكَةِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ في أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ، وَيَقُولُ: "هَذَا مَصْرَعُ (¬3) فُلَانٍ غَدًا، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شاءَ اللَّهُ (¬4)، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ، هَهُنَا وَهَهُنَا". قَالَ أنَسٌ ¬

_ (¬1) أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 287) - والحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 560). (¬2) يُقال: عبَّأتُ الجيش: أي رتبتهم في مواضعهم وهَيَّأتهم للحرب. انظر النهاية (3/ 153). (¬3) المَصْرَع: هو موضع القتل. انظر جامع الأصول (8/ 181). (¬4) ذكرنا فيما تقدم أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر أصحابه بمقتلِ رُؤُوس الكفار قبل ذلك. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (3/ 292): ولا مانع من الجمع بين ذلك، بأن يُخبر به قبل بيوم وأكثرَ، وأن يُخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة، واللَّه أعلم.

* نزول النعاس على الصحابة رضي الله عنهم

-رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا أمَاطَ (¬1) رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ مَوْضِعِ كَفَّيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَأخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: صَفَفْنَا يَوْمَ بَدْرٍ، فنَدَرَتْ مِنَّا نَادِرَةٌ (¬3) أمَامَ الصَّفِّ، فنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "مَعِي (¬4) مَعِي" (¬5). وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ الحَدِيثُ الذِي قَبْلَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: عَبَّأَنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَدْرٍ لَيْلًا (¬6). * نزولُ النُّعَاسِ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَأَصَابَ المُسْلِمِينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِنَ اللَّهِ، فنَامُوا جَمِيعًا، فَكَانَتْ لَيْلَةً هَادِئَةً غَمَرَتْ قُلُوبَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالثِّقَةِ، وَأَخَذُوا ¬

_ (¬1) ما أمَاطَ: أي ما زَال وما بَعُد، والمَيْطُ: هو المَيْلُ والعُدُول. انظر جامع الأصول (8/ 181). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة بدر - رقم الحديث (1779) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13296). (¬3) فنَدَرَتْ مِنَّا نَادِرَة: أي تقدّم منا بعضُ المُقَاتلة أمام الصف. انظر لسان العرب (14/ 90). (¬4) قال السندي في شرح المسند (13/ 475): قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَعِي، مَعِي" أي كونوا معي، أي: في الموقف الذي أختَاره لكم بلا تقدّم وتأخّر عن ذلك. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23567) - وحسن إسناده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 287). (¬6) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الجهاد - باب ما جاء في الصف والتعبئة عند القتال - رقم الحديث (1772) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6021).

مِنَ الرَّاحَةِ قِسْطَهُمْ (¬1). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {. . . يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} (¬2). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ المِقْدَادِ، وَلقدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ أبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: غَشِيَنَا النُّعاسُ وَنَحْنُ في مَصَافِّنَا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنْتُ فِيمَنْ غَشِيَهُ النُّعَاسُ يَوْمَئِذٍ، فَجَعَلَ سَيْفِي يَسْقُطُ مِنْ يَدِي وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ وَآخُذُهُ (¬4). وَأَمَّا قِصَّةُ النُّعَاسِ الذِي غَشِيَ المُسْلِمِينَ قَبْلَ المَعْرَكَةِ فَهِيَ قِصَّةُ حَالَةٍ نَفْسِيَّةٍ عَجِيبَةٍ، لَا تَكُونُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَتَدْبِيرِهِ. . . لَقَدْ فَزعَ المُسْلِمُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ أنْفُسَهُمْ قِلَّةً في مُوَاجَهَةِ خَطَرٍ لَمْ يَحْسِبُوا حِسَابَهُ وَلَمْ يَتَّخِذُوا لَهُ عُدَّتَهُ. . . ¬

_ (¬1) القِسْطُ: الحِصّة والنَّصيب. انظر لسان العرب (11/ 159). (¬2) سورة الأنفال آية (11). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1023) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب إباحة بكاء المرء في صلاته - رقم الحديث (2257). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16357) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي طلحة الأنصاري -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7180).

* صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالليل

فَإِذَا النُّعَاسُ يَغْشَاهُمْ، ثُمَّ يَصْحَوْنَ مِنْهُ وَالسَّكِينَةُ تَغْمُرُ نُفُوسَهُمْ، وَالطُّمَأْنِينَةُ تَفِيضُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. . . وَلقدْ كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى هَذِهِ الآيَاتِ، وَأَقْرَأُ أخْبَارَ هَذَا النُّعَاسِ، فَأُدْرِكُهُ كَحَادِثٍ وَقَعَ، يَعْلَمُ اللَّه سِرَّهُ، وَيُحْكَى لَنَا خَبَرُهُ. . . ثُمَّ إِذَا بِي أَقَعُ في شِدَّةٍ، وَتَمُرُّ عَلَيَّ لَحَظَاتٌ مِنَ الضَّيْقِ المَكْتُومِ، والتَّوَجُّسِ القَلِقِ، في سَاعَةِ غُرُوبٍ. . . ثُمَّ تُدْرِكُنِي سِنَة مِنَ النَّوْمِ لَا تَتَعَدَّى بِضْعَ دَقَائِقَ. . . وَأَصْحُو إِنْسَانًا جَدِيدًا غَيْرَ الذِي كَانَ. . . سَاكِنَ النَّفْسِ. . . مُطْمَئِنَّ القَلْبِ، مُسْتَغْرِقًا في الطُّمَأْنِينَةِ الوَاثِقَةِ العَمِيقَةِ. . . كَيْفَ تَمَّ هَذَا؟ كَيْفَ وَقَعَ هَذَا التَّحَوُّلُ المُفَاجِئُ؟ لَسْتُ أَدْرِي! وَلَكِنِّي بَعْدَهَا أُدْرِكُ قِصَّةَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ. أُدْرِكُهَا في هَذِهِ المَرَّةِ بِكَيَانِي كُلِّهِ لَا بِعَقْلِي، وَأسْتَشْعِرُهَا حَيَّةً في حِسِّي لَا مُجَرَّدَ تَصَوُّرٍ. . . لَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الغَشْيَةُ، وَهَذِهِ الطُّمَأْنِينَةُ، مَدَدًا مِنْ أَمْدَادِ اللَّهِ لِلْعُصْبَةِ المُسْلِمَةِ يَوْمَ بَدْرٍ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَكَأَنَّ ذَلِكَ -أَي النُّعاسَ- كَانَ سَجِيَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شِدَّةِ البَأْسِ؛ لِتَكُونَ قُلُوُبهُمْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِنَصْرِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ (¬2). * صَلَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاللَّيْلِ: أَمَّا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَدْ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ، يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَبْكِي، وَيُكْثِرُ في سُجُودِهِ قَوْلَ: "يَا حَيُّ يَا قيّومُ"، يُكَرِّرُ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن (3/ 1484). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 23).

* صلاة الفجر ليوم الجمعة، وهو يوم الفرقان

حَتَّى أصْبَحَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ المِقْدَادِ، وَلقدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِم، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي، وَيَبْكِي، حَتَّى أصْبَحَ (¬1). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا أصْبَحَ بِبَدْرٍ مِنَ الغَدِ أحْيَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا (¬2). * صَلَاةُ الفَجْرِ لِيَوْمِ الجُمُعَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الفُرْقَانِ: فَلَمَّا طَلَعَ فَجْرُ يَوْمِ الجُمُعَةِ السَّابعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَهُوَ يَوْمُ الفُرْقَانِ، يَوْمَ التْقَى الجَمْعَانِ، نَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصَّلَاةُ عِبَادَ اللَّهِ" فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالحَجَفِ (¬3)، -وَكَانُوا قَدِ اسْتَظَلُّوا تَحْتَهَا مِنَ المَطَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى- فَصَلَّى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَحَرَّضَ عَلَى القِتَالِ ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ جَمْعَ قُريْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلع (¬4) الحَمْرَاءِ مِنَ الجَبَلِ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1023) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب إباحة بكاء المرء في صلاته - رقم الحديث (2257). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر ما يستحب للإمام إذا أراد موقعة للأعداء - رقم الحديث (4759). (¬3) الحَجَفُ: جمعُ جَحَفَةٍ وهِيَ التُّرْسُ. النهاية (1/ 333). (¬4) الضِّلع: هو الجُبَيْل الصغير الذي ليس بالطويل. انظر لسان العرب (8/ 77). (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948) وإسناده صحيح.

* تسوية الصفوف وتوجيهات في كيفية القتال

* تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَتَوْجِيهَاتٌ في كيْفِيَّةِ القِتَالِ: ثُمَّ صَفَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ صَبَاحَ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ قُريْشٌ إِلَى الوَادِي، وَأَخَذَ يُعَدِّلُ صُفُوفَهُمْ بِقِدْحٍ (¬1) في يَدِهِ، يُشِيرُ إِلَى هَذَا تَقَدَّمْ وَإِلَى هَذَا تَأَخَّرْ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بنِ غَزِيَّةَ (¬2) -رضي اللَّه عنه-، حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ (¬3) مِنَ الصَّفِّ، فَطَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَطْنِهِ بِالقِدْحِ، وَقَالَ: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ"، فَقَالَ سَوَاد: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ فَأَقِدْنِي (¬4)، فكشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ الشَّرِيفِ، وَقَالَ: "اسْتَقِدْ"، فَاعْتَنَقَهُ، فَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ العَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْرٍ (¬5). وَبَعْدَ ذَلِكَ أمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ فَقَالَ: "لَا تَبْدَؤُا القِتَالَ حَتَّى آذَنكُمْ"، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . وَجَاءَ المُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدٌ ¬

_ (¬1) القِدْحُ: هو السهم قبل أن يُراشَ ويُرَكَّب نَصْله. انظر النهاية (4/ 18). (¬2) قال الحافظ في الفتح (5/ 147): سَوَادٌ: بفتح السين وتخفيف الواو، وغَزِيَّة: بفتح الغين وتشديد الياء بوزن عطية. (¬3) استَنْتَل: تقدم. انظر النهاية (5/ 12). (¬4) القَوَد: القصاص. انظر النهاية (4/ 104). (¬5) أخرج قصة سواد بن غزية -رضي اللَّه عنه-: ابن إسحاق في السيرة (2/ 238) - وإسناده حسن - وانظر الإصابة (3/ 180) - السلسلة الصحيحة للألباني - رقم الحديث (2835).

مِنْكُمْ إِلَى شَيءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُوذِنُهُ" (¬1). ثُمَّ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أصْحَابَهُ إِلى كَيْفِيَّةِ القِتَالِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ صَفَفْنَا لِقُرَيْشٍ: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ (¬2) فَارْمُوهُمْ، وَاسْتَبِقُوا (¬3) نَبْلَكُمْ" (¬4). وفي رواية أبي داود قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ، وَلَا تَسُلُّوا السُّيُوفَ حَتَّى يَغْشَوْكُمْ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1901) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12398). (¬2) قال الحافظ في الفتح (6/ 189): أي إذا دنوا منكم، وقد استشكل بأن الذي يليق بالدُّنُو المُطَاعنة بالرمح والمُضَاربة بالسيف، . . . فظهرَ أن معنى الحديث الأمر بترك الرمي والقتال حتى يقربوا؛ لأنهم إذا رموهم علي بعد قد لا تصل إليهم وتذهب في غير منفعة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "واستبقوا نَبْلكم". (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 38): والذي يظهرُ لي أن معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "واستبقوا نَبْلكم" لا يتعلق بقوله: "ارمُوهم"، وإنما هو كالبيان للمراد بالأمر بتأخير الرمي حتى يقربوا منهم، أي إنهم إذا كانوا بعيدًا لا تصيبهم السِّهام غالبًا، فالمعنى استبقوا نَبْلكم في الحالة التي إذا رميتم بها لا تصيب غالبًا، وإذا صاروا إلى الحالة التي يمكن فيها الإصابة غالبًا فارموا. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب التحريض علي الرمي - رقم الحديث (2900) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب (10) - رقم الحديث (3985). (¬5) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في سل السيوف عند اللقاء - رقم الحديث (2664) - وإسناده ضعيف.

* نزول جيش قريش إلى وادي بدر ووقوع الانشقاق فيه

وَفِي رِوَايَةِ ابنِ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِ اكتَنَفَكُمُ (¬1) القَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ (¬2) عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ" (¬3). * نُزُولُ جَيْشِ قُرَيْشٍ إِلَى وَادِي بَدْرٍ وَوُقُوعُ الِانْشِقَاقِ فِيهِ: أَمَّا قُرَيْشٌ فَقَضَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ في مُعَسْكَرِهَا بِالعُدْوَةِ القُصْوَى، فَلَمَّا رَاَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تنْحَدِرُ مِنَ الكَثِيبِ إِلَى وَادِي بَدْرٍ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ (¬4) وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فنصْرَكَ الذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ (¬5) الغَدَاةَ" (¬6). فَلَمَّا اطْمَأنَّتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْ عُمَيْرَ بنَ وَهْبٍ الجُمَحِيَّ طَلِيعَةً (¬7) لِيَحْزِرَ (¬8) أصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَأْتِيَهُمْ بِعَدَدِهِمْ وَعُدَّتِهِمْ، فَاسْتَجَالَ (¬9) عُمَيْرٌ بِفَرَسِهِ حَوْلَ العَسْكَرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِم، فَقَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَكِنْ ¬

_ (¬1) إن اكتَنَفَكُم: أي أحاطوا بكم. انظر النهاية (4/ 178). (¬2) يُقال: نَضَحُوهُم بالنبل: إذا رَمَوْهم. انظر النهاية (5/ 60). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 237) - البداية والنهاية (3/ 290). (¬4) المُحَادَاة: المُعَادَاة والمُخَالَفة والمنازعة. انظر النهاية (1/ 340). (¬5) أحِنَه: أي أهلكه. انظر لسان العرب (3/ 423). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (2/ 233). (¬7) طَلِيعة الجيش: هو الذي يَطْلُع من الجيش يُبعَثُ ليطَّلع طلع العدو. انظر لسان العرب (8/ 185). (¬8) حَزَرَهُ: قَدَّره. انظر لسان العرب (3/ 150). (¬9) التِّجْوَال: التِّطْوَاف. انظر لسان العرب (2/ 424).

أمْهِلُونِي حَتَّى أنْظُرَ أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ، فَضَرَبَ (¬1) في الوَادِي حَتَّى أبْعَدَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، وَلَكِنِّي قَدْ رَأَيْتُ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، البَلَايَا (¬2) تَحْمِلُ المَنَايَا، نَوَاضِحُ (¬3) يَثْرِبَ تَحْمِلُ السُّمَّ النَاقِعَ (¬4)، أَمَا ترَوْنَهُمْ خُرْسًا لَا يَتَكَلَّمُونَ، يَتَلَمَّظُونَ (¬5) تَلَمُّظَ الأَفَاعِي، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ العَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَرَوْا رَأْيَكُمْ (¬6). فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى في النَّاسِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أبَا الوَليدِ! إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، المُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى خَيْرٍ تُذْكَرُ بِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، أَوْ قَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَذْهَبَ بِشَرَفِ هَذَا اليَوْمِ مَا بَقِيتَ؟ . قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟ قَالَ: تَرْجعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِكَ عَمْرِو ¬

_ (¬1) ضَرَب في الوادي: أي أسْرَع الذهاب. انظر النهاية (3/ 72). (¬2) البَلَايَا: جمعُ بَلِيَّة: وهي الناقة أو الدابة التي كانت تُعقل -أي تُقيّد- في الجاهلية، تُشدّ عند قبر صاحبها لا تُعلَفُ ولا تُسقى حتى تموت، كانوا يقولون أن صاحبها يُحْشر عليها. انظر لسان العرب (1/ 499). (¬3) النَّوَاضِحُ: هي الإبل التي يُستقى عليها. انظر النهاية (5/ 59). (¬4) النَّاقِعُ: القاتل. انظر النهاية (5/ 95). (¬5) التَّلَمُّظُ: التذوُّق. انظر لسان العرب (12/ 327). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (2/ 234).

بنِ الحَضْرَمِيِّ (¬1)، أَوْ قَالَ: إِنَّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا دَمَ ابنِ الحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ حَلِيفُكَ فتَحَمَّلْ دِيَتَهُ وَتَرْجعَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي، فَعَلَيَّ عَقْلُهُ (¬2)، وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ (¬3). ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ لِحَكِيمِ بنِ حِزَامٍ: فَأْتِ ابنَ الحَنْظَلِيَّةِ -يَعْنِي أبَا جَهْلٍ- فَإِنِّي لَا أخْشَى أَنْ يَشْجُرَ (¬4) أمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ، يَا قَوْمِ اعْصُبُوهَا اليَوْمَ بِرَأْسِي (¬5)، وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ (¬6). وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلَ مَا رَأَى الكُفَّارَ: "إِنْ يَكْنُ في القَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الجَمَلِ الأَحْمَرِ، وَكانَ عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ"، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَلَمَّا دَنَا القَوْمُ مِنَّا وصَافَفْنَاهُمْ، إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ أحْمَرَ يَسِيرُ في ¬

_ (¬1) عمرُو بن الحَضْرَمي: هو أول قَتِيل يقتله المُسْلِمون، قُتِلَ في سرية عبد اللَّه بن جحش -رضي اللَّه عنه- في سرية نخلة. (¬2) العَقْلُ: الدِّيَة. انظر النهاية (3/ 252). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 234) - الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 256). (¬4) اشتَجَر القومُ: إذا تنازَعُوا واختلفوا. انظر النهاية (2/ 399). (¬5) اعصِبُوها اليومَ بِرَأسي: يُريد السُّبَّة التي تلحَقُهم بتَرْكِ الحَرْب، والجُنُوحِ إلى السلم، أي اقرُنُوا هذه الحال بي وانسُبُوها إليّ وإن كانت ذميمة. انظر النهاية (3/ 221). (¬6) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948) وإسناده صحيح.

القَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَلِيُّ، نَادِ لِي حَمْزَةَ -وَكَانَ أقْرَبَهُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ-: مَنْ صَاحِبُ الجَمَلِ الأَحْمَرِ، وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ"؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ يَكُنْ في القَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الجَمَلِ الأَحْمَرِ"، فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنِ القِتَالِ (¬1). فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وَهُوَ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ القِتَالِ قَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ (¬2)، قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا (¬3). وَفِي رِوَايَةِ ابنِ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: انتفَخَ وَاللَّهِ سَحْرُهُ (¬4) حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، كَلَّا وَاللَّهِ لَا نَرْجعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَأَى أَنَّ مُحَمَّدًا وأَصْحَابَهُ أَكْلَةُ جَزُورٍ (¬5)، وَفيهِم ابْنُهُ، فَقَدْ تَخَوَّفكُمْ عَلَيْهِ (¬6). فَقَالَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ لِأَبِي جَهْلٍ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفَّرَ اسْتِهِ (¬7)؟ سَتَعْلَمُ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948). (¬2) العَضِيض: اللزوم، يُقال: عَضَّ عليه يَعَضُّ عَضِيضًا: إذا لَزِمه. انظر النهاية (3/ 229). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948) وإسناده صحيح. (¬4) انتَفَخَ سَحْرُه: أي رِئَتُكَ يقال ذلك للجَبَان. انظر النهاية (2/ 312). (¬5) أرادَ لعنه اللَّه أن المعركة مع المسلمين سهلَةٌ كما تُأكل الجزور وهي الناقة. (¬6) انظر سيرة ابن هشام (2/ 235). (¬7) اسْتُهُ: أي مقعَدَتُه. انظر لسان العرب (6/ 170) -وهذه الكلمة يا مصفَّر استِهِ: تقال للمُتَنَعِّم المُتْرف الذي لم تُحنكه التجارب والشدائد. انظر النهاية (3/ 34).

* بدء القتال وأول قتيل في المعركة

اليَوْمَ أَيُّنَا الجَبَانُ (¬1). وَتَعَجَّلَ أَبُو جَهْل لَعَنَهُ اللَّهُ، وَبَعَثَ إِلَى عَامِرٍ الحَضْرَمِيِّ -أخِي عَمْرٍو الحَضْرَمِيِّ المَقْتُولِ في سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ لَهُ: هَذَا حَلِيفُكَ -أَيْ عُتْبَةُ- يُرِيدُ أَنْ يَرْجعَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ (¬2)، وَمَقْتَلَ أخِيكَ، فَقَامَ عَامِرٌ يَصْرَخُ: وَاعَمْرَاهُ، وَاعَمْرَاهُ، فَحَمِيَ القَوْمُ، وَحَقِبَ (¬3) أمْرُهُمْ، وَاسْتَوْسَقُوا (¬4) عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ الرَّأْيَ الذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عُتْبَةُ (¬5). وَهَكَذَا تَغَلَّبَ الطَّيْشُ عَلَى الحِكْمَةِ. * بَدْءُ القِتَالِ وَأَوَّلُ قَتِيلٍ في المَعْرَكَةِ: قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ الأَسَدِ المَخْزُومِيُّ (¬6)، وَكَانَ رَجُلًا شَرِسًا (¬7) سَيِّئَ الخُلُقِ، فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، خَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ قَدَمَهُ (¬8) بِنِصْفِ سَاقِهِ، وَهُوَ دُونَ الحَوْضِ، فَوَقَع ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948) وإسناده صحيح. (¬2) الخَفْرَة: الذِّمَّة. انظر النهاية (2/ 50). (¬3) حَقِب أمرُ الناس: فَسَدَ. انظر النهاية (1/ 395). (¬4) استَوْسَقُوا: استَجْمَعُوا وانْضَمُّوا. انظر النهاية (5/ 161). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (2/ 235). (¬6) هذا الرجل أخو أبي سلمة بن عبدِ الأسد -رضي اللَّه عنه- زوج أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا التي تزوجها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك. (¬7) يُقال: قوم فيهم شَرَس: أي نُفُور وسُوء خلق. انظر النهاية (2/ 411). (¬8) أطن قدمه: قطعها. انظر لسان العرب (8/ 208).

* المبارزة

عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخُبُ (¬1) رِجْلُهُ دَمًا، ثُمَّ حبَا إِلَى الحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ، يُرِيدُ أَنْ يَبَرَّ يَمِينَهُ، وَلَكِنَّ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقتَلَهُ وَهُوَ دَاخِلَ الحَوْضِ (¬2). فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ أَوَّلَ قَتِيلٍ في المَعْرَكَةِ. * المُبَارَزَةُ: ثُمَّ خَرَجَ ثَلَاثَةٌ مِنْ خِيرَةِ فُرْسَانِ قُرَيْشٍ يَطْلُبُونَ المُبَارَزَةَ، وَهُمْ: عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَأَخُوهُ شَيْبَةُ، وَابْنُهُ الوَلِيدُ، فَلَمَّا انْفَصَلُوا مِنَ الصَّفِّ طَلَبُوا المُبَارَزَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ أفْضَلِ شَبَابِ الأَنْصَارِ وَهُمْ: عَوْفٌ، وَمُعَاذٌ ابْنَا الحَارِثِ -وَأُمُّهُمَا عَفْرَاءُ (¬3) - وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ، فَقَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: رَهْطٌ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالُوا: أَكْفَاءٌ (¬4) كِرَامٌ، مَا لَنَا بِكُمْ حَاجَةٌ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ! أَخْرِجْ لَنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ، قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ"، فَلَمَّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ (¬5)؟ فَأَخْبَرُوهُمْ، فَقَالُوا: نَعَمْ أكْفَاءٌ كِرَامٌ، ¬

_ (¬1) تَشْخب دمًا: تَسِيل دمًا، والشخب: السيلان. انظر النهاية (2/ 403). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (236/ 2). (¬3) قال الحافظ في الإصابة (8/ 240): عفراء هذه لها خصيصة لا توجد لغيرها، وهي أنها تزوجت بعد الحارث، البكير بن ياليل الليثي، فولدت له أربعة: إياس، وعاقلًا، وخَالِدًا، وعامرًا، وكلهم شهدوا بدرًا، وكذلك إخوتهم لأمهم بنو الحارث وهم: مُعَاذ، ومُعَوذ، وعوف، فانتَظَم من هذا أنها امرأة صحابية لها سبعة أولاد شهدوا كلهم بدرًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) الكُفْءُ: النظِير والمُسَاوي. انظر لسان العرب (12/ 112). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (3/ 289): وفي هذا دليل أنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح.

فبارَزَ عُبَيْدَةُ -وَكَانَ أَسَنَّ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المُسْلِمِينَ- عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَليدَ بنَ عُتْبَةَ (¬1)، فَأَمَّا حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلَا صَاحِبَيْهِمَا أَنْ قَتَلَاهُمَا، وَأَمَّا عُبَيْدَةُ فَاخْتَلَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ضَرْبَتَانِ، فأثْخَنَ (¬2) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ كَرَّ (¬3) حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ عَلَى عُتْبَةَ فَقتَلَاهُ، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ، فَجَاؤُوا بِهِ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، وَهُوَ يَنْزِفُ دَمًا، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَدَّ عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- عَلَى قَدَمِهِ الشَّرِيفَةِ، فَقَالَ عُبَيْدَةُ لِرَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا لَعَلِمَ أَنِّي أَحَقُّ بِقَوْلهِ: وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصْرَعُ دُونَهُ ... وَنُذْهَلَ عَنْ أبْنَائِنَا وَالحَلَائِلِ ¬

_ (¬1) قِصَّة المبارزة أخرجها الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 237) - وابن سعد في طبقاته (2/ 257) وإسنادها صحيح. لكن روى أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في المبارزة - رقم الحديث (2665) - بسند صحيح، أن عبيدة بن الحارث بارَزَ الوليد بن عتبة، وحمزة بارز عتبة، وعليّ بارز شيبة. قال الحافظ في الفتح (8/ 27) عن رواية أبي داود هذه: وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارزه عليّ هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقامِ؛ لأن عُبَيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد فكانا شابين. وقد روى الطبراني بسند حسن عن عليّ -رضي اللَّه عنه- قال: أعَنْتُ أنا وحَمْزة عبيدة بن الحارث علي الوليد بن عتبة، فلم يَعِبِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك علينا، وهذا مُوَافق لِرِواية أبي داود، فاللَّه أعلم. (¬2) الإثْخَانُ في الشيء: المُبَالغة فيه والإكثار منه، يُقال: أثخَنَه المرض إذا أثقَلَه ووهنه. انظر النهاية (1/ 203). (¬3) الكَرُّ: الرجوع. انظر لسان العرب (12/ 64).

ثُمَّ مَاتَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاه (¬1). وَفِي هَؤُلَاءَ السِّتَّةِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} (¬2). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: نَزَلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فِي سِتَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ: عَلِيٍّ، وَحَمْزَةَ، وَعُبْيَدَةَ بنِ الحَارِثِ، وَشَيْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَالوَليدِ بنِ عُتْبَةَ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أنا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو (¬4) بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَقَالَ قَيْسُ بنُ عَبَّادٍ: وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قَالَ: هُمُ الذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وعُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ، وَشَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب مناقب عبيدة بن الحارث -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4914) وإسناده صحيح - وانظر سيرة ابن هشام (2/ 237) - فتح الباري (8/ 27) - الطبَّقَات الكُبْرى (1/ 257). (¬2) سورة الحج آية (19). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبو جهل - رقم الحديث (3966) - ومسلم في صحيحه - كتاب التفسير - باب في قوله تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} - رقم الحديث (3033). (¬4) قال الحافظ في الفتح (8/ 26): يَجْثُو: أي يقعد علي ركبتيه مُخَاصمًا، والمراد بهذه الأولية تقييده بالمُجَاهدين من هذه الأمة، لأن المبارزة المذكورة أول مبارزة وقعت في الإسلام.

* فوائد الحديث

وَعُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَالوَليدُ بنُ عُتْبَةَ (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي حَدِيثِ المُبَارَزَةِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ المُبَارَزَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهَا كَالحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَشَرَطَ الأَوْزَاعِيُّ والثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِلْجَوَازِ إِذْنَ الأَمِيرِ عَلَى الجَيْشِ. 2 - وَجَوَازُ إِعَانَةِ المبارِزِ رَفِيقَهُ. 3 - وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِحَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بنِ الحَارِثِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ (¬2). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ: تَأَمَّلْ أسْمَاءَ السِّتَّةِ المُتَبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَيْفَ اقْتَضَى القَدَرُ مُطَابَقَةَ أَسْمَائِهِمْ لِأَحْوَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ، فَكَانَ الكُفَّارُ: شَيبةَ، وَعُتْبَةَ، وَالوَليدَ، ثَلَاثَةُ أسْمَاءٍ مِنَ الضَّعْفِ، فَالوَليدُ له بِدَايَةُ الضَّعْفِ، وَشَيْبَةُ له نِهَايَةُ الضَّعْفِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (¬3)، وَعُتْبَةُ مِنَ العَتْبِ، فَدَلَّتْ أسْمَاؤُهُمِ عَلَى عَتَبٍ يَحِلُ بِهِمْ، وَضَعْفٍ يَنَالُهُمْ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبو جهل - رقم الحديث (3965). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 27). (¬3) سورة الروم آية (54). (¬4) انظر زاد المعاد (2/ 310).

* الهجوم العام ونشوب الحرب

* الهُجُومُ العَامُّ وَنُشُوبُ الحَرْبِ: كَانَتْ نِهَايَةُ هَذِهِ المُبَارَزَةِ بِدَايَةً سَيِّئَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى المُشْرِكِينَ، فَقَدُوا ثَلَاثَةً مِنْ خِيرَةِ فُرْسَانِهِمْ وَقَادَتِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَاسْتَشَاطُوا غَضَبًا، وَكَرُّوا عَلَى المُسْلِمِينَ كَرَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ (¬1). * تَسَاقُطُ الشُّهَدَاءِ: ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَشَدَّ الكُفَّارُ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَنَشَبَتِ الحَرْبُ، فَرُمِيَ مِهْجَعٌ (¬2)، مَوْلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- بِسَهْمٍ فَقتَلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ (¬3). ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بنُ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ فِي النَّظَّارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا- وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الحَوْضِ، بِسَهْمٍ غَرْبٍ (¬4) فَأَصَابَ نَحْرَهُ (¬5) فَقتَلَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الأَنْصَارِ. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ بنِ سُرَاقَةَ أَتَتَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلَا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ -وَكَانَ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ- فَإِنْ كَانَ فِي الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ ¬

_ (¬1) الرحيق المختوم ص 217. (¬2) قال الحافظ في الإصابة (6/ 182): قال ابن هشام: مِهْجع مولى عمر بن الخطاب، كان من السابقين إلى الإسلام، وشهد بدرًا، واستشهد بها. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 239). (¬4) قال الحافظ في الفتح (6/ 107): أي لا يُعرف رَامِيه، أو لا يُعرف من أين أتى. (¬5) النَّحْرُ: أعلى الصدر. انظر النهاية (5/ 23).

كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي البُكَاءِ (¬1)، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأُمِّ حَارِثَةَ: "وَيْحَكِ (¬3) أَوَهَبِلْتِ (¬4)؟ أَوَجَنَّة وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ الْأَعْلَى" (¬5). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَفي هَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الذِي لَمْ يَكُنْ فِي بُحَيْحَةِ (¬6) القِتَالِ، وَلَا فِي حَوْمَةِ الوَغَى (¬7)، بَلْ كَانَ مِنَ النَّظَّارَةِ مِنْ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا أصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الحَوْضِ، وَمَعَ هَذَا أصَابَ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (6/ 108): وكان ذلك قبل تحرِيم النَّوْحِ، فإن تحريمه كان عَقِبَ غزوة أُحد، وهذه القصة كانت عقب غزوة بدر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب من أتاه سهم غرب فقتله - رقم الحديث (2809). (¬3) وَيْح: كلمة تَرحُّم وتوجّع، تُقال لمن وَقَع في هلكة لا يستحقها، وقد تقال بمعنى المدح والتعجب. انظر النهاية (5/ 204). (¬4) هَبِلْتِ: هو بفتح الهاء وكسر الباء، وقد استعاره هاهنا لِفَقْدِ المَيْز والعقل مما أصابها من الثكل بولدها، كأنه قال: أفقدت عقلك بفقد ابنك، حتى جعلت الجنان جنة واحدة. انظر النهاية (5/ 209). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدر - رقم الحديث (3982). (¬6) بُحَيحَة القتال: أي ساحتها. انظر لسان العرب (1/ 534). (¬7) حَوْمَة القتال: مُعْظَمُه وأشد موضعٍ فيه. انظر لسان العرب (3/ 407) - والوغى: الحرب نفسها. انظر لسان العرب (15/ 353).

بِهَذَا المَوْقِفِ الفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى التِي هِيَ أَعْلَى الجِنَانِ وَأَوْسَطُ الجَنَّةِ (¬1)، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أنْهَارُ الجَنَّةِ التِي أَمَرَ الشَّارعُ أُمَّتَهُ إِذَا سَأَلُوا اللَّهَ الجَنَّةَ أَنْ يَسْألوهُ إيَّاهَا (¬2)، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ هَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي نَحْرِ العَدُوِّ، وَعَدُوُّهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أضْعَافِهِمْ عَدَدًا، وَعُدَدًا (¬3). وَلَمَّا اشْتَدَّ القِتَالُ اسْتَفْتَحَ (¬4) أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفْ، فَأَحْنِهِ (¬5) الغَدَاةَ (¬6)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ ¬

_ (¬1) المراد بأوسط الجنة هنا: الأعدل والأفضل. انظر النهاية (5/ 160). ومنه قوله تَعَالَى في سورة البقرة آية (143): {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. . .}. (¬2) يشير الحافظ ابن كثير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب درجات المجاهدين في سبيل اللَّه - رقم الحديث (2790) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في الجنة مِائة درجة أعدّها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوسَ، فإنه أوسَط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". (¬3) انظر كلام الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى في البداية والنهاية (3/ 348). (¬4) استفْتَحَ: أي استنصر. انظر النهاية (3/ 365). (¬5) أحْنِهِ: أي أهلِكْه. انظر لسان العرب (3/ 423). (¬6) أخرج استفتاح أبي جهل لعنه اللَّه تَعَالَى: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23661) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} - رقم الحديث (11137) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب شأن نزول: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} - رقم الحديث (3317) وإسناده صحيح.

* مناشدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه سبحانه وتعالى

جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (¬1) وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فتَطْلُبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يَفْتَحَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُهْلِكَ أَضَلَّ الفَرِيقَيْنِ وَأَقْطَعَهُمَا لِلرَّحِمِ. . . فَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ، فَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْكُمْ تَصْدِيقًا لِاسْتِفْتَاحِكُمْ! لَقَدْ دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى أَضَلِّ الفَرِيقَيْنِ وَأَقْطَعَهُمَا لِلرَّحِمِ! وَلقدْ عَلِمْتُمْ -إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْلَمُوا- مَنْ هُمْ أَضَلُّ الفَرِيقَيْنِ وَأَقْطَعُهُمَا لِلرَّحِمِ! وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الحَقِيقَةِ، وَفي ظِلِّ هَذَا الإِيحَاءَ، يُرَغِّبُهُمْ فِي الانْتِهَاءِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالكُفْرِ وَالحَرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالمُشَاقَّةِ للَّهِ وَرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * مُنَاشَدَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منْذُ رُجُوعِهِ بَعْدَ تَعْدِيلِ الصُّفُوفِ إِلَى العَرِيشِ يُنَاشِدُ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ (¬4)، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِير في تفسيره (4/ 33): أي ولو جمعتم من الجُمُوع ما عسى أن تَجْمَعوا، فإن من كان اللَّه معه فلا غالب له، فإن اللَّه مع المؤمنين، وهم الحِزْب النبوي، والجَنَابُ المصطفوي. (¬2) سورة الأنفال آية (19). (¬3) في ظلال القرآن (3/ 1491). (¬4) الظَّفَر: الفَوْزُ بالمطلوب. انظر لسان العرب (8/ 255).

اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ (¬1) مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ" (¬2)، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ (¬3)، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ (¬4) -رضي اللَّه عنه-، فَجَعَلَ -رضي اللَّه عنه- يَلْتَزِمُهُ (¬5) مِنْ وَرَائِهِ، وَيَسَوِّي عَلَيْهِ رِدَاءَهُ وَيَقُولُ: حَسْبُكَ (¬6) يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ (¬7). ¬

_ (¬1) العِصَابَةُ: هم الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين. انظر النهاية (3/ 220). (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 15 - 16): وإنما قال ذلك رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هَلَك هو ومن معه حينئذٍ لم يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان، ولاستَمَرَّ المشركون يعبدون غير اللَّه، فالمعنى لا يعبد في الأرض بهذه الشريعة. (¬3) أخرج النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب الصلاة عند اللقاء - رقم الحديث (8574) - والطبراني بإسناد حسن، حسنه الحافظ في الفتح (8/ 15) عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: ما سمعنا مُنَاشدًا يَنْشُدُ ضَالَّة أشد مُنَاشدة من محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- لربه يوم بدر. (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (3/ 288): وكان -رضي اللَّه عنه- رقيقَ القلب، شَدِيد الإشفَاقِ على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) الالْتِزَام: الاعتناق. انظر لسان العرب (12/ 273). (¬6) هذه رواية البخاري - وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: يا نبي اللَّه! كذاكَ مناشدتك ربك. قال الإمام النووي: هكذا وفع لجماهير رواة مسلم كذاك بالذال، ولبعضهم كفاك بالفاء مناشدتك ربك. (¬7) أخرج مُناشدة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لربه يوم بدر: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قوله تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} - رقم الحديث (3953) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب ما قيل في درع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2915) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} رقم الحديث (4875) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر - رقم الحديث =

فَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إِنَابَةِ نَبِيٍّ، وَإِلْحَاحِ عَبْدٍ، وَدُعَاءِ مُضْطَرٍّ، وَشَفِعَ لِهَذِهِ العِصَابَةِ فِي كَلِمَاتٍ صَرِيحَةٍ وَاضِحَةٍ، نيَرةٍ خَالِدَةٍ، هِيَ خَيْرُ تَعْرِيفٍ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، وَبَيَان لِمَهَمَّتِهَا وَغَرَضِهَا الذِي خُلِقَتْ لَهُ. . . فَكَأَنَّمَا كَانَ بَقَاءُ المُسْلِمِينَ مَشْرُوطًا بِقِيَامِ حَيَاةِ العُبُودِيَّةِ بِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِهَا، فَلَوِ انْقَطَعَتِ الصِّلَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ العِبَادَةِ، وَرَوَاجِهَا وَازْدِهَارِهَا فِي العَالَمِ، انْقَطَعَتِ الصِّلَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الحَيَاةِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى اللَّهِ لَهُمْ حَقٌّ وَذِمَّةٌ، وَأَصْبَحُوا كَسَائِرِ الأُمَمِ خَاضِعِينَ لِنَوَامِيسِ الحَيَاةِ، وَسُنَنِ الكَوْنِ، بَلْ كَانُوا أَشَدَّ جَرِيمَةً، وَأَقَلَّ قِيمَةً مِنَ الأُمَمِ الأُخْرَى، إِذْ لَمْ يَشْتَرِطْ لِبَقَائِهَا وَحَيَاتِهَا مِثْلَ مَا اشْتَرَطَ لَهُمْ، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (¬1). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ مُسْرِعًا لِأَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مَا فَعَلَ؟ ، فَجِئْتُ فَأَجِدُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: "يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ"، لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى القِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى القِتَالِ، ثُمَّ ¬

_ = (1763) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (208) - (221) - (3042) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب الصلاة عند الالتقاء - رقم الحديث (8574) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 239). (¬1) سورة الفرقان آية (77) - وانظر كتاب إلى الإسلام من جديد ص 14. للشيخ أبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* نزول الملائكة

جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى فتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ (¬1). وَفي هَذَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬2). * نُزُولُ المَلَائكَةِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ هَذَا الدُّعَاءَ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، أَغْفَى إِغْفَاءَةً (¬3)، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَقَالَ: "أَبْشِرْ يَا أبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعنَانِ (¬4) فرَسِهِ يَقُودُهُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ" (¬5). وَفي رِوَايَةٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ عَلَيْهِ أَدَاةُ الحَرْبِ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الإمامة وصلاة الجماعة - باب تطويل الدعاء في سجود تلاوة القرآن - رقم الحديث (840) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب عمل اليوم والليلة - باب الاستنصار عند اللقاء - رقم الحديث (10372) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (8/ 190). (¬2) مُرْدِفِين: أي بعضهم على أَثَر بعض. انظر تفسير ابن كثير (4/ 20) - والآية في سورة الأنفال آية (9). (¬3) أغْفَى إغْفَاءَة: أي نام نومة خفيفة. انظر النهاية (3/ 337). (¬4) العِنان: سَير اللجام. انظر النهاية (3/ 283). (¬5) النَّقْعُ: الغبار: انظر النهاية (5/ 95). أخرج ذلك الأموي فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 293)، وهو من رواية ابن إسحاق، وإسناده حسن، كما قال الألباني في تعليقه على فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 226 - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 239) بدون سند. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب شهودِ الملائكة بدرًا - رقم الحديث (3995).

وَجَاءَ نَصْرُ اللَّهِ، وَأَنْزَلَ جُنْدَهُ، وَأَيَّدَ رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى المَلَائِكَةِ {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬1). إِنَّهُ الأَمْرُ الهَائِلُ. . . إنَّهَا مَعِيَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فِي المَعْرَكَةِ، وَاشْتِرَاكُ المَلَائِكَةِ فِيهَا مَعَ العُصْبَةِ المُسْلِمَةِ. . . هَذَا هُوَ الأَمْرُ الذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْغَلَنَا عَنْهُ أَنْ نَبْحَثَ: كَيْفَ اشْترَكَتِ المَلَائِكَةُ؟ وَلَا كَمْ قَتِيلًا قَتَلَتْ؟ ، وَلَا كَيْفَ قتَلَتْ؟ . . . إِنَّ الحَقِيقَةَ الكَبِيرَةَ الهَائِلَةَ فِي المَوْقِفِ هِيَ تِلْكَ الحَقِيقَةُ. . . إِنَّ حَرَكَةَ العُصْبَةِ المُسْلِمَةِ فِي الأَرْضِ بِهَذَا الدِّينِ أمْرٌ هَائِلٌ عَظِيمٌ. . . أمْرٌ يَسْتَحِقُّ مَعِيَّةَ اللَّهِ لِمَلَائِكَتِهِ فِي المَعْرَكَةِ، واشْتِرَاكَ المَلَائِكَةِ فِيهَا مَعَ العُصْبَةِ المُسْلِمَةِ (¬2). ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ العَرِيشِ، وَهُوَ يَثبُ فِي الدِّرْعِ، وَيَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (¬3). أَخْرَجَ الإِمَامُ أحمدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (12). (¬2) في ظلال القرآن (3/ 1485). (¬3) سورة القمر آية (45 - 46) - وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} - رقم الحديث (4877) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3042).

* كم أمد الله تعالى المسلمين من الملائكة؟

أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِي وَلِأَبِي بَكْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ: مَعَ أحَدِكُمَا جِبْرِيلُ، وَمَعَ الآخَرِ مِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ القِتَالَ، أَوْ قَالَ: يَشْهَدُ الصَّفَّ (¬1). * كَمْ أَمَدَّ اللَّهُ تَعَالَى المُسْلِمين مِنَ المَلَائِكَةِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي هَذَا الوَعْدِ: هَلْ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ يَوْمَ أُحُدٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا -وَهُوَ الصَّحِيحُ-: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}، ورُوِيَ هَذَا عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، والرَّبِيعِ بنِ اصنسٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَاخْتَارَهُ ابنُ جَرِيرٍ. قَالَ عَبَّادُ بنُ مَنْصُورٍ: عَنِ الحَسَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} قَالَ: هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1257). (¬2) سورة آل عمران الآيات (123 - 126).

وَرَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى الشَّعْبِيِّ: أَنَّ المُسْلِمِينَ بَلَغَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ كُرْزَ بنَ جَابِرٍ يُمِدُّ المُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ}. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ قتادَةَ قَالَ: أَمَدَّ اللَّه المُسْلِمِينَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ المَلَائِكَةِ. وَعَنِ الرَّبِيعِ بنِ أَنَسٍ قَالَ: أمَدَّ اللَّهُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ، ثُمَّ زَادَهُمْ فَصَارُوا ثَلَاثَةَ آلافٍ، ثُمَّ زَادَهُمْ فَصَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ -عَلَى هَذَا القَوْلِ- وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّة بَدْرٍ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (¬1). فَالجَوَابُ: أَنَّ التَّنْصيصَ عَلَى الأَلْفِ هَاهُنَا لَا يُنَافِي الثَّلَاثَةَ الآلَافِ فَمَا فَوْقَهَا، لِقَوْلهِ تَعَالَى: {مُرْدِفِينَ} بِمَعْنَى: يَرْدُفهُمْ غَيْرُهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ أُلُوفٌ أُخَرُ مِثْلُهُمْ، وَهَذَا السِّيَاقُ شَبِيهٌ بِهَذَا السِّيَاقِ فِي سُورَةِ آل عِمْرَانَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هُوَ المَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ قِتَالَ المَلَائِكَةِ إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: . . . وَقَدْ لَمَّحَ المُصَنِّفُ -أي البُخَارِيُّ- ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (9). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 112).

* تحريض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على القتال

بِالِاخْتِلَافِ فِي النُّزُولِ فَذَكَرَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} (¬1) فِي غَزْوَةَ أُحُدٍ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬2)، وَذَكَرَ مَا عَدَا ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ المُعْتَمَدُ (¬3). * تَحْرِيضُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ عَلَى القِتَالِ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فجَعَلَ يُحَرِّضُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَى القِتَالِ، وَيُبَشِّرُ النَّاسَ بِالجَنَّةِ، ويُشَجِّعُهُمْ بِنُزُولِ المَلَائِكَةِ، وَالنَّاسُ مَا زَالُوا عَلَى مَصَافِّهِمْ لَمْ يَحْمِلُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُمُ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَحَصَلَ لَهُمُ النُّعَاسُ الذِي هُوَ دَلِيل عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالثَّبَاتِ وَالإِيمَانِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ اليَوْمَ رَجُلٌ فيقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا أدْخَله اللَّهُ الجَنَّةَ" (¬4). * قِصَّةُ عُمَيْرِ بنِ الحُمَامِ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ"، فَقَالَ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَنَّة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ؟ ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (121). (¬2) سورة آل عمران آية (128). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 11). (¬4) رواه ابن إسحاق في السيرة (2/ 239)، بدون سند، لكن يشهد له حديث الإمام مسلم الآتي.

* رمي الرسول -صلى الله عليه وسلم- المشركين بالحصباء والهجوم عليهم

قَالَ: "نعم"، قَالَ: بَخٍ بَخٍ (¬1)، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ " قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا"، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ (¬2)، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أنا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، وَأَخَذَ سَيْفهُ، ثُمَّ قَاتَلَ القَوْمَ حَتَّى قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). قَالَ الحَافِظُ: وَفي قِصَّةِ عُمَيْرِ بنِ الحُمَامِ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الفَوَائِدِ: مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ نَصْرِ الإِسْلَامِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الشَّهَادَةِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ (¬4). وَقَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَفِي قِصَّةِ عُمَيْرِ بنِ الحُمَامِ -رضي اللَّه عنه- جَوَازُ الِانْغِمَارِ فِي الكُفَّارِ، والتَّعَرُّضُ لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَة عِنْدَ جَمَاهِيرِ العُلَمَاءِ (¬5). * رَمْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُشْرِكِينَ بِالحَصْبَاءِ وَالهُجُومُ عَلَيْهِمْ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ حَفْنَةً (¬6) مِنَ الحَصْبَاءِ (¬7) فَاسْتَقْبَلَ بِهَا الكُفَّارَ، ¬

_ (¬1) بَخٍ بَخٍ: هي كلمة تُقال عند المدح والرضى بالشيء وتكرر للمبالغة. انظر النهاية (1/ 101). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (13/ 41): قَرَنه: هو بقاف وراء مفتوحتين أي جَعْبَته. (¬3) أخرج قصة عمير بن الحمام -رضي اللَّه عنه- الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1901) - والإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (12398). (¬4) انظر فتح الباري (8/ 99). (¬5) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (13/ 41). (¬6) الحَفْنَة: هي ملء الكف. انظر النهاية (1/ 393). (¬7) الحَصْبَاء: الحصى الصغار. انظر النهاية (1/ 378).

* مشاركة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في القتال

وَقَالَ: "شَاهَتِ الوُجُوهُ" ثُمَّ رَمَى بِهَا فِي وَجْهِ القَوْمِ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحَصْبَاءَ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬1). * مُشَارَكَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي القِتَالِ: وَقَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ (¬2) بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى العَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا حَضَرَ البَأْسُ (¬4) يَوْمَ بَدْرٍ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، مَا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أقْرَبَ إِلَى المُشْرِكِينَ مِنْهُ (¬5). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ ¬

_ (¬1) روى ذلك الطبراني كما في المجمع (6/ 84) - وقال الهيثمي: إسناده حسن - وانظر سيرة ابن هشام (2/ 240) - وزاد المعاد (3/ 163). (¬2) لاذَ به: إذا الْتَجَأَ إليه وانْضَمَّ واستَغَاثَ. انظر النهاية (4/ 236). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (654). (¬4) البَأْسُ: الشدة في الحرب. انظر لسان العرب (1/ 301). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1042).

* بطولات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: "لَا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ" (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ قِتَالًا شَدِيدًا بِبَدَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- كَمَا كَانَا فِي العَرِيشِ يُجَاهِدَانِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، ثُمَّ نَزَلَ فَحَرَّضَا وَحَثَّا عَلَى القِتَالِ، وَقَاتَلَا بِالأَبْدَانِ جَمِيعًا بَيْنَ المَقَامَيْنَ الشَّرِيفَيْنِ (¬2). * بُطُولَاتُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ: أَمَّا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَدْ قَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ، وَظَهَرَتْ مِنْهُمْ بُطُولَاتٌ كَثِيرَةٌ. * بُطُولَةُ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ فِي الزُّبَيْرِ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ بِالسَّيْفِ، إِحْدَاهُنَّ فِي عَاتِقِهِ (¬3)، قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأُدْخِلُ أصَابِعِي فِيهَا، قَالَ: ضُرِبَ ثِنْتَينِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَوَاحِدَةٌ يَوْمَ اليَرْمُوكِ، قَالَ عُرْوَةُ: وَقَالَ لِي عَبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوَانَ حِينَ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ: يَا عُرْوَةُ، هَلْ تَعْرِفُ سَيْفَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1901) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12398). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 295). (¬3) العَاتِقُ: ما بين المنكب والعنق. انظر لسان العرب (9/ 38).

* بطولة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-

الزُّبَيْرِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا فِيهِ؟ قُلْتُ: فِيهِ فَلَّةٌ (¬1) فُلَّهَا يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: صَدَقْتَ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ (¬2). * بُطُولَةُ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لِسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-: مَتَى أُجِبْتَ الدَّعْوَةَ؟ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ، كُنْتُ أَرْمِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَضَعُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ أَقُولُ: اللَّهُمَّ زَلْزِلْ أقْدَامَهُمْ، وَأَرْعِبْ قُلُوبَهُمْ، وَافْعَلْ بِهِمْ وَافْعَلْ، فَيَقُولُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ" (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْدًا يُقَاتِلُ يَوْمَ بَدْر قِتَالَ الفَارِسِ وَالرَّاجِلِ (¬4). ¬

_ (¬1) فَلّه: بفتح الفاء: أي كسرت قطعة من حده. انظر النهاية (3/ 324). (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 30): هذا شطر من بيت مشهور من قصيدة مشهورةٍ للنابِغَة الذُّبْيَانِي يقول فيها: ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أن سُيُوفَهُم ... بِهِنَّ فُلُولٌ من قِرَاع الكَتَائِبِ وهو من المدح في معرض الذَمِّ؛ لأن الفَلَّ في السيف نَقْص حِسِّيٌّ، لكنه لما كان دليلًا على قُوَّةِ ساعد صاحبه كان من جملة كماله. والخبرُ أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبي جهل - رقم الحديث (3973). (¬3) أورده الهيثمي في المجتمع (9/ 153) وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن. (¬4) الرَّاجلُ: أي الماشي. انظر النهاية (2/ 188). والخبر أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1319).

* بطولة أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بنَ العَاصِ (¬1) وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ (¬2). * بُطُولَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ شَوْذَبَ، قَالَ: جَعَلَ أَبُو أَبِي عُبَيْدَةُ بنُ الجَرَّاحِ يَتَصَدَّى لِأَبِي عُبَيْدَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَعَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ يَحِيدُ (¬3) عَنْهُ، فَلَمَّا أكْثَرَ الجَرَّاحُ قَصَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَقتَلَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ هَذِهِ الآيَةَ، حِينَ قتلَ أبَاهُ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ (¬4) وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ¬

_ (¬1) كذا في هذا الخبر سعيد بن العاص، وهو وَهْم، والصحيح العاص بن سعيد، قال الشيخ محمود شاكر مُصَوّبًا في طبعته من تفسير الطبري (13/ 374): فالذي جاء في الخبر هنا سَعِيد بن العاص، وَهْم، فإن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي مُتَأخر، قُبِض رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وله تسع سنين، وهو لم يُشرك قَطّ، وقُتل أبُوه العاص بن سعيد يوم بدر كافرًا، ويكون الصواب كما قال الحافظ في الإصابة (4/ 603) في ترجمة عمير بن أبي وقاص: العاص بن سعيد بن العاص، ويكون الاختلاف إذن في الذي قتله: أهو علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- كما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة (2/ 328)، أم سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- كما في المسند، فاللَّه أعلم. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1556). (¬3) حَايَدَه: أي جانبه. انظر لسان العرب (3/ 412). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (8/ 54): أي: من اتصف بأنه لا يواد من حاد اللَّه =

* بطولة حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه-

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). وَلهَذَا قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، حِينَ جَعَلَ الأَمْرَ شُورَى بَعْدَهُ فِي أُولَئِكَ السِّتَّةِ (¬2) قَالَ: لَوْ كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفْتُهُ (¬3). * بُطُولَةُ حَمْزَةَ بنِ عَبْد المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَصحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ لِي أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وَأنا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ عَلِيٍّ آخُذُ بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الإِلَهِ مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ المُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ ، قُلْتُ: ذَاكَ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، قَالَ: ذَاكَ الذِي فَعَلَ بِنَا الأَفَاعِيلَ (¬4). ¬

_ = ورسوله ولو كان أباه أو أخاه، فهذا ممن كتب اللَّه في قلبه الإيمان، أي: كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته. (¬1) سورة المجادلة آية (22) - والخبر أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب حلية أبي عبيدة بن الجراح - رقم الحديث (5201) - وأخرجه الطبراني كما قال الحافظ في الإصابة (3/ 476) - وجوَّد إسناده. (¬2) الستة الذين جَعَل عمر -رضي اللَّه عنه- الأمر إليهم لما طُعِنَ هم: عثمان بن عفان، عليّ بن أبي طالب، عبد الرحمن بن عوف، طلحة بن عبيد اللَّه، الزبير بن العوام، سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين. (¬3) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب أبو عبيدة أمين هذه الأمة - رقم الحديث (5214). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الجهاد - باب شأن نزول آية السكينة - رقم الحديث (2594) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 243) بدون سند.

* مباشرة الملائكة في قتل وأسر الكفار

* مُبَاشَرَةُ المَلَائِكَةِ فِي قَتْلِ وَأَسْرِ الكُفَّارِ: أَمَّا المَلَائِكَةُ فَقَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ المَعْرَكَةِ، وَشَدُّوا عَلَى المُشْرِكِينَ، وَشَارَكُوا الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قتلِ وَأَسْرِ المُشْرِكِينَ، وَلَمْ تُبَاشِرِ المَلَائِكَةُ القِتَالَ فِي أَيِّ غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، أَمَّا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فَقَدْ نَزَلَتْ لِحِمَايَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ فنَزَلَتْ لِإِرْهَابِ الكُفَّارِ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ تُقَاتِلِ المَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى بَدْرٍ مِنَ الأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُوُنونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتُ الفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فنَظَرَ إِلَى المُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ (¬2) أنْفَهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ -أَي اخْضَرَّ لَوْنُهُ-، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 245). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 74): الخَطمُ: الأثَرُ على الأنف. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة يوم بدر - رقم الحديث (1763) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب غزوة بدر - رقم الحديث (4793).

وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: يَا بُنَيَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْسِ المُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ المَازِنيِّ -رضي اللَّه عنه-وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا- قَالَ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قتَلَهُ غَيْرِي (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ (¬3) قَصِيرٌ بِالعَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ (¬4) مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ (¬5)، مَا أَرَاهُ فِي القَوْمِ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب سهل بن حنيف - رقم الحديث (5790) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23778) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 245). (¬3) هو أبو اليَسَر بفتح الياء والسين، واسمه كعب بن عمرو الخزرجي الأنصاري، شهد العقبة وبدرًا وأسر العباس، وهو آخر من مات بالمدينة من أهل بدر، توفي -رضي اللَّه عنه- سنة (55 هـ). انظر الإصابة (7/ 380). (¬4) الأجْلَحُ من الناس: الذي انحَسَر الشعر عن جانِبَي رأسه. انظر النهاية (1/ 275). (¬5) الأبْلَقُ: هو ارتفاع التَّحْجِيلِ إلى الفخذين، والتحْجِيل هو: بياضٌ يكون في يَدَي الفرس ورجليه. أي أن البياض بلغ بالفرس إلى الفخذين. انظر لسان العرب (1/ 486) (3/ 65).

الأَنْصَارِيُّ: أَنا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ" (¬1). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ الذِي أَسَرَ العَبَّاسَ بنَ عَبْدَ المُطَّلِبِ أَبُو اليَسَرِ بنُ عَمْرٍو، وَهُوَ كَعْبُ بنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَيْفَ أَسرْتَهُ يَا أبَا اليَسَرِ؟ " قَالَ: لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ وَلَا قَبْلُ، هَيْئتهُ كَذَا، هَيْئتهُ كَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ" (¬2). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ وَابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ هِشَامَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتْ عَلَى الزُّبَيْرِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ مُعْتَجِرًا (¬3) بِهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فنَزَلَتِ المَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ عَمَائِمُ صُفْرٌ، عَلَى سِيمَا الزُّبَيْرِ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: "مِنْ أَفْضَلِ المُسْلِمِينَ" -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- قَالَ: ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (948). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3310). (¬3) الاعتِجَارُ بالعمامة: هو أن يَلُفَّها على رأسه ويَرُدّ طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيء تحت ذقنِهِ. انظر النهاية (3/ 168). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب أول غزوة في الإسلام بدر - رقم الحديث (5608) - وابن سعد في طبقاته (3/ 55).

* نكوص إبليس

وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلَائِكَةِ (¬1) * نُكُوصُ (¬2) إِبْلِيسَ: وَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا تَفْعَلُ المَلَائِكَةُ بِالمُشْرِكِينَ فَرَّ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ -وَكَانَ قَدْ جَاءَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بنِ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرْنَا- فتَشَبَّثَ بِهِ الحَارِثُ بنُ هِشَامٍ، وَهُوَ يَظُنُّهُ سُرَاقَةُ، فَقَالَ إِلَى أَيْنَ يَا سُرَاقَةُ؟ أَلمْ تَزْعُمْ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ لَا تُفَارِقُنَا، فَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ، ثمَّ دَفَعَ الحَارِثَ فَأَلْقَاهُ، وَخَرَجَ هَارِبًا حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي البَحْرِ (¬3). وَفِي هَذَا المَوْقِفِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬4). أَخْرَجَ الإِمَامُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأِ بِسَنَد مُرْسَلٍ عَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ كَرِيزٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرَ، وَلَا أَدْحَرَ (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب شهود الملائكة بدرًا - رقم الحديث (3992). (¬2) النُّكُوصُ: الرُّجوع إلى الوراء، وهو القَهْقَرى. انظر النهاية (5/ 101). (¬3) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 79) - سيرة ابن هشام (2/ 274). (¬4) سورة الأنفال آية (48). (¬5) الدَّحْرُ: الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال. انظر النهاية (2/ 97).

* الهزيمة الساحقة

وَلَا أَحْقَرَ، وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ"، قِيلَ: وَمَا رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُ قَد رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ (¬1) المَلَائِكَةَ" (¬2). * الهَزِيمَةُ السَّاحِقَةُ: وَحِينَئِذٍ أَصْدَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَامِرَهُ الأَخِيرَةَ بِالهُجُومِ الكَاسِحِ فَقَالَ: "شُدُّوا" (¬3)، فَبَدَأَ الصَّحَابَةُ بِالهُجُومِ فَجَعَلُوا يَقْلِبُونَ الصُّفُوفَ، وَيُقَطِّعُونَ الأَعْنَاقَ، وَزَادَهُمْ نَشَاطًا وَحِدَّةً لِمَا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَثِتُ فِي الدِّرْعِ، وَيَقُولُ فِي جَزْمٍ وَصَرَاحَةٍ: "سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" (¬4)، فَقَاتَلَ المُسْلِمُونَ أَشَدَّ قِتَالٍ، وَأَعَانَتْهُمُ المَلَائِكَةُ. وَبَدَأَتْ أَمَارَاتُ (¬5) الفَشَلِ وَالِاضْطِرَابِ فِي صُفُوفِ المُشْرِكِينَ، وَجَعَلَتْ ¬

_ (¬1) الوازع: الذي يتقدَّم الصف فيصلحه ويُقدّم ويُؤخِّر. انظر جامع الأصول (9/ 264). (¬2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ - في الحج - باب جامع الحج - رقم الحديث (245) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6866). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 240). (¬4) سورة القمر آية (45) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} - رقم الحديث (3953) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} - رقم الحديث (4875). (¬5) الأمَارَة: العلامة. انظر لسان العرب (1/ 208).

* نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن قتل رجال من قريش

تَتَهَدَّمُ أَمَامَ حَمَلَاتِ المُسْلِمِينَ العَنِيفَةِ، وَاقْترَبَتِ المَعْرَكَةُ مِنْ نِهَايَتَهَا، وَأَخَذَتْ جُمُوعُ المُشْرِكِينَ فِي الفِرَارِ وَالِانْسِحَابِ، وَرَكِبَ المُسْلِمُونَ ظُهَورَهُمْ (¬1) يَأْسِرُونَ وَيَقْتُلُونَ حَتَّى تَمَّتْ عَلَيْهِمُ الهَزِيمَةُ (¬2). * نَهْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ قَتْلِ رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ عَنْ قَتْلٍ عَدَدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كُرْهًا، لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا البَخْتَرِيِّ بنَ هِشَامٍ (¬3) فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ العَبَّاسَ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا" (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَأْسِرُوا مِنْ بَنِي ¬

_ (¬1) الظَهرُ: هي الإبل التي يُحمل عليها وتُركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬2) انظر الرحيق المختوم ص 129. (¬3) قال ابن إسحاق في السيرة (2/ 241): وإنما نهى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل أبي البَخْتَري؛ لأنه كان أكفَّ القوم عن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقضِ الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب. (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب دعاء أبي حذيفة بالشهادة - رقم الحديث (5042) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 240) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 140) وإسناده حسن.

* موقف أبي حذيفة بن عتبة -رضي الله عنه-

عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَإِنَّهُمْ خَرَجُوا كرْهًا" (¬1). * مَوقِفُ أَبِي حُذَيْفَةَ بنِ عُتْبَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالكَفِّ عَنْ هَؤُلَاءَ، قَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بنُ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وعَشِيرَتَنَا وَنَتْرُكُ العَبَّاسَ! وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأُلْحِمَنَّهُ (¬2) السَّيْفَ، فَبَلَغَتْ مَقَالتهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: "يَا أبا حَفْصٍ أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالسَّيْفِ؟ " قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأبِي حَفْصٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنقهُ بِالسَّيْفِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ نَافَقَ. فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ: مَا أنا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الكَلِمَةِ التِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا، إِلَّا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّيَ الشَّهَادَةُ، فَقُتِلَ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ اليَمَامَةِ شَهِيدًا، وَهُوَ ابنُ لسِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * مَقْتَلُ أَبِي البَخْتَرِيِّ بنِ هِشَامٍ: وَلَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنَ النَّفَرِ الذِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ قَتْلِهِمْ، إِلَّا أَبَا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (676). (¬2) لُحِمَ: أي قُتِلَ. انظر النهاية (4/ 206). (¬3) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب دعاء أبي حذيفة بالشهادة - رقم الحديث (5042) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 240) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 140) وإسناده حسن.

* مصرع الطغاة

البَخْتَرِيِّ، وَاسْمُهُ العَاصُ بنُ هِشَامِ بنِ الحَارِثِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ المُجَذَّرَ بْنَ ذِيَادٍ البَلَوِيَّ لَقِيَ أبَا البَخْتَرِيِّ فِي المَعْرَكَةِ، وَمَعَهُ زَمِيلٌ لَهُ فَخَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُ: جُنَادَةُ بنُ مُلَيْحَةَ اللَّيْثيُّ، فَقَالَ المُجَذَّرُ لِأَبِي البَخْتَرِيِّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ نَهَانَا عَنْ قتلِكَ، فَقَالَ: وَزَمِيلِي؟ قَالَ المُجَذَّرُ: لَا وَاللَّهِ، مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِكَ، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا بِكَ وَحْدَكَ. فَقَالَ أَبُو البَخْتَرِيِّ: لَا وَاللَّهِ، لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لَا تَتَحَدِّثُ عَنِّي نِسَاءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الحَيَاةِ، فَاقْتَتَلَا، فَقتَلَهُ المُجَذَّرُ بنُ ذِيَادٍ، ثُمَّ إن المُجَذَّرَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لَقَدْ جَهِدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ فَآتِيَكَ بِهِ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَنِي، فَقَاتَلْتُهُ، فَقتَلْتُهُ (¬1). * مَصْرَعُ الطُّغَاةِ: * مَقْتَلُ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ لعنَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ مَنْ عَانَدَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ الذِي كَانَ يُعَذِّبُ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه- فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقِصَّةُ قتلِهِ أخْرَجَهَا الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ إسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، وَسَأَذْكُرُ رِوَايَةَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ لِأَنَّ فِيهَا تَفْصِيلًا أَكْثَرَ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: كَانَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدُ عَمْرٍو، فَتَسَمَّيْتُ حِينَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 241) - البداية والنهاية (3/ 302).

أَسْلَمْتُ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذْ نَحْنُ بِمَكَّةَ، يَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، أَرَغِبْتَ عَنِ اسْمٍ سَمَّاكَهُ أَبَوَاكَ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْني وَبَيْنَكَ شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا أَنا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ، فَقُلْتُ له: يَا أَبَا عَلِيٍّ، اجْعَلْ مَا شِئْتَ، قَالَ: فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فكُنْتُ إِذَا مَرَرْتُ بِهِ، قَالَ: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ فَأُجِيبُهُ، فَأتَحَدَّثُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيِّ بنِ أُمَيَّةَ، آخِذٌ بِيَدِهِ، وَمَعِي أدْرَاعٌ، قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَأَنَا أحْمِلُهَا، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ لِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو! فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الإِلَهِ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ؟ فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الأَدْرَاعِ التِي مَعَكَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَطَرَحْتُ الأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي بِهِمَا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَقُودُهُمَا إِذْ رَآه بِلَالٌ مَعِي -وَكَانَ أُمَيَّةُ يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى تَرْكِ الإِسْلَامِ- فَقَالَ بِلَالٌ: رَأْسُ الكُفْرِ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، فَقُلْتُ: أَيْ بِلَالُ! أَبَأَسِيرِي، قَالَ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، ثُمَّ صَرَخَ بِلَالٌ فِي الأَنْصَارِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ، فَقتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يتبَعُونَا -وَكَانَ أُمَيَّةُ رَجُلًا ثَقِيلًا (¬1) - فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ، فبرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فتَجَلَّلُوهُ (¬2) بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى ¬

_ (¬1) رجلًا ثقيلًا: أي ضخم الجثة. انظر فتح الباري (5/ 248). (¬2) فتَجَلّلوه بالسيوف: أي علوه بالسيوف. انظر لسان العرب (2/ 336).

* مقتل عبيدة بن سعيد بن العاص

قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ (¬1). * مَقْتَلُ عُبَيْدَةَ بنِ سَعِيدِ بنِ العَاصِ: أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بنَ سَعِيدِ بنِ العَاصِ، وَهُوَ مُدَجَّجٌ (¬2) لَا يُرَى منهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكْنَى: أبَا ذَاتِ الكِرْشِ، فَقَالَ: أنا أَبُو ذَاتِ الكِرْشِ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالعَنَزَةِ (¬3)، فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنَيْهِ فَمَاتَ، قَالَ هِشَام: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمَطَّأْتُ (¬4)، فَكَانَ الجَهْدُ أَنْ نَزَعْتُهَا وَقَدْ انْثَنَى طَرَفَاهَا، قَالَ عُرْوَةُ: فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِص عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- أَخَدهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- مِنْهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه-، وَقَعَتْ عِنْدَ آل عَلِيٍّ، فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج قصة مقتل أمية بن خلف البخاري في صحيحه - كتاب الوكالة - باب إذا وكّل المسلم حربيا في دار الحرب - رقم الحديث (2301) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 242). (¬2) مُدَجَّج: أي عليه سلاحٌ تَامٌّ، سُمي به، لأنه يَدِجُّ: أي يمشي رُوَيدًا لثقله، وقيل: لأنه يتغطى به، من دَجَّجَت السماء: إذا تَغَيَّمَت. انظر النهاية (2/ 96). (¬3) العَنَزَةُ: هي عَصا قَدْرَ نصف الرُّمح أو أكبر شيئًا، فيها سِنَان مثل سنان الرمح. انظر النهاية (3/ 278). (¬4) تَمَطَّأت: أي تَمَدَّد، أراد أنه سحبها بقوة حتى تمدد. انظر النهاية (4/ 289). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (12) - رقم الحديث (3998).

* مقتل أبي جهل لعنه الله

* مَقْتَلُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فنَظَرْتُ عَنْ يَمِيني وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا (¬1)، فَغَمَزَنِي (¬2) أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمُّ! هَلْ تَعْرِفُ أَبا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ (¬3) حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا (¬4)، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -رضي اللَّه عنه-: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ. قَالَ: فَغَمَزَنِيَ الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ (¬5) أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الذِي تَسْأَلَانِي عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ، فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتَّى قَتَلَاهُ (¬6)، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَاهُ. ¬

_ (¬1) أي بين رجلين أقوى من الرجلين اللذين كنت بينهما وأشَدّ. انظر النهاية (3/ 89). (¬2) الغَمْزُ: الإشارة بالعَيْن أو الحاجب أو اليد. انظر النهاية (3/ 346). (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 55): سَوَادِي سَوَاده: أي شخصي شخصه. (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 55): أي لا أفارقه حتى يموت أحدُنَا وهو الأقرب أجلًا. (¬5) فلم أنْشَبْ: أي فلم ألبث. انظر النهاية (5/ 45). (¬6) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - قال عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-: فشَدَّا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه. قال الحافظ في الفتح (8/ 40): والصقر هو من سِبَاع الطير، وأحد الجوارح الأربعة =

فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ ". فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ ". قَالَا: لَا. فنَظَرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: "كِلَاكُمَا قتَلَهُ" (¬1). وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بنِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ، وَكَانَ الفَتَيَانِ مُعَاذُ بنُ عَفْرَاءَ (¬2)، وَمُعَاذُ بنُ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ (¬3). ¬

_ = وهي: الصقر، والبازي، والشاهين، والعقاب، وشبههما به لما اشتهر عنه من الشجاعة والشهامة والإقدام على الصيد، ولأنه إذا تشَبَّث بشيء لم يفارقه حتى يأخذه. (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 25): وإطلاقُ كونهما قَتَلَاه يخالفُ في الظاهر حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- أنه وجده وبه رَمَق، وهو محمولٌ على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبقَ به إلا مثل حركة المذبوح، وفي تلك الحال لقيه ابن مسعود فضرب عنقه. واللَّه أعلم. (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 25): وقع في صحيح البخاري - رقم الحديث (3962) - ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (12143) - عن أنس بن مالك قال: . . . فوجده ابن مسعود قد ضربه ابنا عفراء. وفي رواية ابن إسحاق (2/ 246): أن ابن عفراء هو معوذ، والذي في الصحيح أنه معاذ بن عفراء، وهما أخوان، فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء شَدّ عليه مع معاذ بن عمرو بن الجَمُوح كما في الصحيح، وضربه بعد ذلك معوذ بن عفراء حتى أثبته، ثم حَزَّ رأسه ابن مسعود، فتجمع الأقوال كلها. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب من لم يخمس الأسلاب - رقم الحديث (3141) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب (10) - رقم الحديث (3988) =

وَرَوَى ابنُ إسْحَاقَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُعَاذِ بنِ الجَمُوحَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ القَوْمَ، وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الحَرَجَةِ (¬1)، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الحَكَمِ لَا يُخْلَصُ (¬2) إِلَيْهِ، قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَتْ (¬3) قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ. . .، قَالَ: وَضَرَبَنِي عِكْرِمَةُ ابْنُهُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي، فتَعَلَّقْتُ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِيَ (¬4) القِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ (¬5) بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا (¬6)، ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ عَقِيرٌ (¬7)، مُعَوِّذُ بنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أثبتَهُ، فترَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ (¬8)، وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى قُتِلَ (¬9). ¬

_ = وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحقاق القاتل سلب القتيل - رقم الحديث (1752) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1673). (¬1) الحَرَجَة: مجتمعُ شَجَرٍ مُلْتَفٍّ، شَبَّه شِدّة حراسة المشركين لأبي جهل به. انظر النهاية (1/ 348). (¬2) لا يُخْلَص إليه: أي لا يصل إليه. انظر النهاية (2/ 59). (¬3) أطَنَ قدمه: قَطَعها. انظر لسان العرب (8/ 208). (¬4) أجهَضَنِي: أي منعني. انظر النهاية (1/ 310). (¬5) يَتَمَطَّطُ: أي يتمدد. انظر النهاية (4/ 289). (¬6) قال الإمام الذهبي في السير (1/ 251): هذه واللَّه الشجاعة، لا كآخر مِنْ خَدْشٍ بسهم ينقطع قلبه، وتخور قواه. (¬7) عَقِير: مقطوع الساق. انظر لسان العرب (9/ 313). (¬8) وبه رَمَق: أي بقية الروح وآخر النفس. انظر النهاية (2/ 240). (¬9) أخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 246).

* عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- يُجْهِزُ عَلَى أَبِي جَهْلٍ: وَلَمَّا انْتَهَتِ المَعْرَكَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أبو جَهْلٍ؟ " (¬1). فتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى. . . وَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنقهِ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ -يَعْنِي قَتضَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ- فَآذَانِي وَلَكَزَنِي (¬2)، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي! أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ (¬3) اليَوْمَ؟ قُلْتُ: للَّهِ وَلِرَسُولهِ. . . قَالَ: لقدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ احْتَزَزْتُ (¬4) رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبي جهل - رقم الحديث (3961) - (3962) - (3963) - وباب (12) - رقم الحديث (4020) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب قتل أبي جهل - رقم الحديث (1800). (¬2) اللكزُ: الدَّفع في الصدر بالكف. انظر النهاية (4/ 230). (¬3) لمن الدائرة: أي الدولة والظَّفَر والنُّصرة. انظر النهاية (2/ 93). (¬4) الحَزُّ: القطع. انظر النهاية (1/ 363).

* قتلى الفريقين

"آللَّهُ الذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ الذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، فَحَمِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللَّهَ تَعَالَى (¬1). وَرَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ رَكْعَتَيْنِ (¬2). * قَتْلَى الفَرِيقَيْنِ: وَهَكَذَا انْتَهَتْ هَذِهِ المَعْرَكَةُ العَظِيمَةُ بِهَزِيمَةٍ سَاحِقَةٍ لِلْكُفَّارِ، وَبِفَتْحٍ مُبِينٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سِتَّةٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ. أَمَّا المُشْرِكُونَ فَقَدْ لَحِقَتْهُمْ خَسَائِرُ فَادِحَةٌ، قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ، وَعَامَّتُهُمْ مِنَ القَادَةِ وَالزُّعَمَاءِ (¬3). أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَقتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (2/ 246) وإسناده حسن. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في الصلاة والسجدة عن الشكر - رقم الحديث (1391). (¬3) انظر الرحيق المختوم (224). (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر - رقم الحديث (1763).

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابهُ أَصَابُوا مِنَ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلًا (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: هَذَا هُوَ الحَقُّ فِي عَدَدِ القَتْلَى، وَأَطْبَقَ أَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّهُمْ خَمْسُونَ قَتِيلًا يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، سَرَدَهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ (¬2) فَبَلَغُوا خَمْسِينَ، وَزَادَ الوَاقِدِيُّ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَأَطْلَقَ كَثِير مِنْ أَهْلِ المَغَازِي أَنَّهُمْ بِضْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ أسْمَاءِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعَ مَنْ قُتِلَ، وَقَوْلُ البَرَاءِ: إِنَّ عِدَّتَهُمْ سَبْعُونَ قَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابنُ عَبَّاسٍ وَآخَرُونَ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِم مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (¬3)، وَاتفقَ أَهْلُ العلْمِ بِالتَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ المُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ أَهْلُ أُحُدٍ، وَأَنَّ المُرَادَ بِأَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلَى أَنَّ عِدَّةَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ بِأُحُدٍ سَبْعُونَ نَفْسًا، وَبِذَلِكَ جَزَمَ ابنُ هِشَامٍ، وَاسْتَدَلَّ له بِقَوْلِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: فَأَقَامَ بِالطَّعْنِ المُطَعَّنِ مِنْهُمُ ... سَبْعُونَ عُتْبَة مِنْهُمْ وَالأَسْوَدُ يَعْنِي عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ بنَ عَبْدِ شَمْسٍ، وَالأَسْوَدَ بنَ عَبْدِ الأَسَدِ بنَ هِلَالٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (10) - رقم الحديث (3986). (¬2) في السيرة (2/ 321). (¬3) سورة آل عمران آية (165).

* طرح المشركين في القليب

المَخْزُومِيَّ قَتَلَهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-. ثُمَّ سَرَدَ ابنُ هِشَامٍ أسْمَاءً أُخْرَى مِمَّنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ غَيْرَ مَنْ ذَكَرَهُ ابنُ إِسْحَاقَ فزَادُوا عَلَى السِّتِّينَ فَقَوِيَ مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). * طَرْحُ المُشْرِكِينَ فِي القَلِيبِ: وَلَمَّا انتهَتِ المَعْرَكَةُ أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ (¬2) فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ (¬3) مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخَبَّثٍ (¬4). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي المُسْنَدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي القَلِيبِ، فَطُرِحُوا فِيهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انتفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُحَرِّكُوهُ، فتَزَايَلَ (¬5)، فَأَقَرُّوهُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 39). (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 32): كأن الذين طُرحوا في القليب كانوا الرؤساء منهم، ثم من فريش، وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى. (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 32): الطَوَيّ: هِي البئر التي طُوِيت وبُنِيت بالحجارة لتَثْبُتَ ولا تَنْهَار. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبي جهل - رقم الحديث (3976) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنة وصفة نعيمها - رقم الحديث (2875) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16359). (¬5) تَزَايَلَ: تَفَرَّق. انظر لسان العرب (6/ 128).

* موقف أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة -رضي الله عنه-

وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنَ التُّرَابِ وَالحِجَارَةِ (¬1). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: . . . فَلَمَّا جَرُّوهُ -أَيْ أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ- تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ (¬2). قَالَ العُلَمَاءُ: إِنَّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِلْقَائِهِمْ فِي البِئْرِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرِيحِهِمْ، وَإِلَّا فَالحَرْبِيُّ لَا يَجِبُ دَفْنُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ البِئْرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ معِينٌ (¬3). * مَوْقِفُ أَبِي حُذَيْفَةَ بنِ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمَّا أُلْقِيَ الكُفَّارُ فِي القَلِيبِ، وَبَعْدَ أَنْ غُيِّبَ (¬4) عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ وَالِدُ أَبِي حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- بِالتُّرَابِ وَالحِجَارَةِ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أبا حُذَيْفَةَ! لَعَلَّكَ قَدْ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟ " فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي اللَّهِ، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26361). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- كتاب الجزية والموادعة - باب طرح جيف المشركين في البئر - رقم الحديث (3185). (¬3) الماء المَعِينُ: هو الماء الجاري. انظر تفسير ابن كثير (8/ 183) - لسان العرب (13/ 147) - فتح الباري (1/ 468). (¬4) غُيِّبَ: أي دُفِنَ في قبره. انظر لسان العرب (10/ 151). (¬5) الحِلْمُ بكسر الحاء: الأنَاةُ والعَقْلُ. انظر لسان العرب (3/ 304).

* الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينادي صناديد قريش في القليب

وَفَضْلًا (¬1)، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إِلَى الإِسْلَام، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، بَعْدَ الذِي كُنْتُ أرْجُو لَهُ، أحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- بِخَيْرٍ (¬2). * الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنَادِي صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ فِي القَلِيبِ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثَ لَيَالٍ (¬3) فِي بَدْرٍ بَعْدَ انْتِهَاءَ الْمَعْرَكَةِ، فَلَمَّا كَانَ ¬

_ (¬1) يَتَجلى حِلْمُ وعَقْلُ عُتبة بن ربيعة في أنه حاول إقناعَ قريش على عدم خَوْض المعركة مع المسلمين ونُصْحه الشديد لهم، لكن دُون جدوى، وهو الذي قال فيه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كما تقدم: "إن يكن في القوم أحدٌ يأمرُ بخير، فعسى أن يكون صاحبَ الجمل الأحمر"، وكان عُتبة بن ربيعة، وهو الذي حاور رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مكة، فقرأ عليه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سورة فصلت، فعاد لقريش ينصحهم باتباع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أو بتركه ودعوته، فإن ظهر على العرب فهو من عزّ فريش -وقد تقدم ذكر ذلك في الفترة المكية، فراجعه-. (¬2) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7088) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أموات المشركين - رقم الحديث (5045) وإسناده جيد - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 352) بدون سند. (¬3) كان هذا من عادة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُقيم في أرض المعركة بعد انتهائها ثلاث ليالٍ، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3065) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4776) عن أبي طلحة -رضي اللَّه عنه- قال: كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا غلب قَومًا أحبَّ أن يُقِيم بعَرْصَتِهم ثلاثًا، وفي رواية البخاري قال: ثلاث ليال. قال الحافظ في الفتح (6/ 297): العَرْصَة: بفتح العين والصاد وسكون الراء: هي البُقْعة الواسعة بغير بِنَاء من دار وغيرها. وقال المُهَلَّب فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (6/ 297): حكمة الإقامة لإراحة الظهر -وهي الإبل- والأنفُس، ولا يخفى أن محله إذا كان في أمن من عدو وطارِقٍ. =

بِبَدْرٍ اليَوْمُ الثَّالِثُ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ، فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أصْحَابَهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَاهُ يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرِّكيِّ (¬1)، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِم: "يَا فُلَانَ بنَ فُلَانٍ، وَفُلَانَ بنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ ". فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ". قَالَ قتادَةُ: أحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أسْمَعَهُمْ قَوْله، تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا، وَنَقِيمَةً وحَسْرَةً ونَدَمًا (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم: "يَا أبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، يَا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ (¬3)، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإنِّي ¬

_ = وقال ابن الجوزي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (6/ 297): إنما كان يُقِيم ليظهر تأثير الغلبة فكأنه يقول: من كانتْ فيه قوة منكم فليرجعْ إلينا. (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 32): شَفَةُ الرَّكيِّ: أي طرف البئر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبي جهل - رقم الحديث (3976) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجنة وصفة نعيمها - باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه - رقم الحديث (2873) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16359). (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 33): وفي بعض مَن ذُكِرَ نَظَرٌ، لأن أمية بن خلف لم يكن =

* خطأ في الرواية

وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تنادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا! قَالَ: "مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا" (¬1). * خَطَأٌ فِي الرِّوَايَةِ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (¬2) أَنَّ مِنْ بَيْنِ الَّذِينَ نَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْوَليدَ بنَ عُقْبَةَ، وَهُوَ غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ الوَلِيدُ بنُ عُتْبَةَ. قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ نُسَخِ مُسْلِمٍ: الْوَلِيدُ بنُ عُقْبَةَ بِالْقَافِ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ غَلَطٌ، وَصَوَابُهُ الْوَلِيدُ بنُ عُتْبَةَ بِالتَّاءِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي شَيْبَةَ بَعْدَ هَذَا (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} (¬4) قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. قَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ: وَهُمْ قُرَيْشٌ، وَمُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِعْمَةُ اللَّهِ، {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ ¬

_ = في القليب؛ لأنه كان ضَخْمًا فانتَفَخ، فلما سَحَبُوه تقطع، فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه، لكن يُجمع بينهما بأنه كان قريبًا من القليب فنُودِي فيمن نودي. (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنة وصفة نعيمها - باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه - رقم الحديث (2874) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12020). (¬2) صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسِّير - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين - رقم الحديث (1794). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 129). (¬4) سورة إبراهيم آية (28).

* مكة تتلقى أنباء الهزيمة وموت أبي لهب

الْبَوَارِ} (¬1) قَالَ: النَّارَ يَوْمَ بَدْرٍ (¬2). وَبَعْدَ انْتِهَاءِ هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ، وَأَخْذِ الأَسْرَى، قِيلَ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: عَلَيْكَ بِالعِيرِ، لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ، فنَادَاهُ العَبَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لَهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولِمَ؟ " قَالَ العَبَّاسُ: لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقْتَ" (¬3). * مَكَّةُ تَتَلَقَّى أنْبَاءَ الهَزِيمَةِ ومَوْتُ أَبِي لَهَبٍ: فَرَّ المُشْرِكُونَ مِنْ سَاحَةِ بَدْرٍ فِي صُورَةٍ غَيْرِ مُنَظَّمَةٍ، تَبَعْثَرُوا فِي الوِدْيَانِ وَالشِّعَابِ، وَاتَّجَهُوا صَوْبَ مَكَّةَ مَذْعُورِينَ، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَدْخُلُونَهَا خَجَلًا (¬4). وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ الحَيْسُمَانُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الخُزَاعِيُّ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الحَكَمِ بنُ ¬

_ (¬1) البَوَار: الهلاك. انظر لسان العرب (1/ 535). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبي جهل - رقم الحديث (3977). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2022) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 16). وقال: إسناده جيد، وصححه أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه - كتاب التفسير - باب صورة تقسيم الغنائم - رقم الحديث (3314) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الأنفال - رقم الحديث (3335) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) انظر الرحيق المختوم ص 255.

هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وَزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الحَجَّاجِ، وَأَبُو البَخْتَرِيِّ بنُ هِشَامٍ، فَلَمَّا أَخَذَ يُعَدِّدُ أشْرَافَ قُرَيْشٍ، قَالَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الحِجْرِ: وَاللَّهِ إِنْ يَعْقِلْ هَذَا، فَاسْأَلْوهُ عَنِّي، فَقَالُوا: وَمَا فَعَلَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ؟ . قَالَ: هَا هُوَ ذَاكَ جَالِسًا فِي الحِجْرِ، وَقَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلا (¬1). رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ -رضي اللَّه عنه- مَوْلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَكَانَ الإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ البَيْتِ، فَأَسْلَمَ العَبَّاسُ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الفَضْلِ، وَأَسْلَمْتُ، وَكَانَ العَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ، وَيَكْرَهُ خِلَافَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، فَبَعَثَ مَكَانَهُ العَاصَ بنَ هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ، . . . فَلَمَّا جَاءَهُ الخَبَرُ عَنْ مُصَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَبَتَهُ (¬2) اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَعْمَلُ الأَقْدَاحَ (¬3) أنْحَتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ، ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 257). (¬2) كَبَتَهُ اللَّه: أي أذَلَّه وصَرَفه. انظر النهاية (4/ 121) - تفسير ابن كثير (8/ 41). ومنه قوله تَعَالَى في سورة المجادلة آية (5): {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. . .}. (¬3) الأقْدَاح: هي جمع قَدَح، وهو الذي يُوكل فيه، وقيل: هي جمع قِدْح، وهو السهم الذي كانوا يستقسمون به، أو الذي يُرمى به عن القوس. انظر النهاية (4/ 18).

فَوَاللَّهِ إِنِّي لَجَالِسٌ فِيهَا أنْحَتُ أقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمُّ الفَضْلِ جَالِسَة، وَقَدْ سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِنَ الخَبَرِ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ (¬1) الحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فبيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ، إِذَا قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمَّ إِلَيَّ فَعِنْدَكَ لَعَمْرِيَ الخَبَرُ، قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي! أخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أمْرُ النَّاسِ؟ . قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا القَوْمَ فَمَنَحْنَاهُمْ أكْتَافنَا يَقْتُلُونَنَا كَيْفَ شَاؤُوا، وَأَيْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا، عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، بَيْنَ السَّمَاءَ وَالأَرْضِ، وَاللَّهِ مَا تُلِيقُ (¬2) شَيْئًا، وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الحُجْرَةِ بِيَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاللَّهِ المَلَائِكَةُ، قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً، فَثَاوَرْتُهُ (¬3) فَاحْتَمَلَنِي فَضَرَبَ بِيَ الأَرْضَ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، فَقَامَتْ أُمُّ الفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الحُجْرَةِ فَأَخَذَتْهُ، فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فَلقتْ (¬4) فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ لِأَبِي لَهَبٍ: اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ؟ . ¬

_ (¬1) الطُّنُبُ: وهو الطرف والناحية، ويُطلق أيضًا على الحبل الذي تشد به الخيمة. انظر النهاية (3/ 127) - لسان العرب (8/ 205). (¬2) ما تُلِيقُ: لا يَثْبُتُ أمامها شيء. انظر لسان العرب (12/ 378). (¬3) المُثَاوَرَة: المُوَاثبة. انظر لسان العرب (2/ 148). (¬4) الفَلْق بسكون اللام: الشّق. انظر النهاية (3/ 423).

فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ مُوَليًا ذَلِيلًا، فَوَاللَّهِ مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِالعَدَسَةِ (¬1) فَقتَلَتْهُ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَلَقَدْ تَرَكَهُ ابْنَاهُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَا يَدْفِنَانِهِ حَتَّى أنْتَنَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِابْنَيْ أَبِي لَهَبٍ: أَلَا تَسْتَحِيَانِ إِنَّ أبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتهِ؟ فَقَالَا: إنَّا نَخْشَى هَذِهِ القَرْحَةَ، وَكَانَتْ قُرَيْش تَتَّقِي العَدَسَةَ كَمَا تَتَّقِي الطَّاعُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: انْطَلِقَا فَأَنَا مَعَكُمَا، فَوَاللَّهِ مَا غَسَلُوهُ إِلَّا قَذْفًا بِالمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ، فَقَذَفُوهُ فِي أَعْلَى مَكَّةَ إِلَى جِدَارٍ، وَقَذَفُوا عَلَيْهِ الحِجَارَةَ (¬2). وَهَكَذَا تَلَقَّتْ مَكَّةُ أنْبَاءَ الهَزِيمَةِ السَّاحِقَةِ فِي مَيْدَانِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَثَرَ ذَلِكَ فِيهِمْ أَثَرًا سَيِّئًا جِدًّا، حَتَّى مَنَعُوا النّيَاحَةَ (¬3) عَلَى القَتْلَى، لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ المُسْلِمُونَ (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ أحْيَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ، وَهُوَ تَرْكُهُمُ النَّوْحَ عَلَى قتلَاهُمْ، فَإِنَّ البُكَاءَ عَلَى ¬

_ (¬1) العدَسَة: هي بَثرَةٌ تُشبه العَدسة، تخرجُ في مواضع من الجَسَد، من جِنْسِ الطاعون، تقتُلُ صاحبها غَالئا. انظر النهاية (3/ 172). (¬2) أخرج قصة أبي رافع مع أبي لهب: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23864) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر إسلام العباس -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5454) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 258). (¬3) النُّوَّحُ: النساء يجتَمِعْنَ للحزن. انظر لسان العرب (14/ 320). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 259).

* طرفة للأسود بن عبد المطلب

المَيِّتِ مِمَّا يَبُلُّ فُؤَادَ الحَزِينِ (¬1). وَعِنْدَ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ قَالَ: لَمَّا وَصَلَ الخَبَرُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَتَحَقَّقُوهُ، قَطَّعَتِ النِّسَاءُ شُعُورَهُنَّ، وَعُقِرَتْ خُيُولٌ كَثِيرَةٌ وَرَوَاحِلُ (¬2). * طُرْفَةٌ لِلْأَسْوَدِ بنِ عَبْدِ المُطلِبِ: وَمِنَ الطَّرَائِفِ أَنَّ الأَسْوَدَ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ أُصِيبَ له ثَلَاثَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ ضَرِيرَ البَصَرِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنَ اللَّيْلِ، فبعَثَ غُلَامَهُ، وَقَالَ له: انْظُرْ هَلْ أُحِلَّ النَّحْبُ (¬3)؟ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قتلَاهَا؟ لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ -ابْنِهِ- فَإِنَّ جَوْفِي قَدِ احْترَقَ، فَرَجَعَ الغُلَامُ، وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أضَلَّتْهُ، فَلَمْ يتمالَكْ الأَسْوَدُ نَفْسَهُ، وَقَالَ: أَتَبْكِي أَنْ يَضِلَّ لَهَا بَعِيرٌ ... وَيَمْنَعَهَا مِنَ النَّوْمِ السَّهُودِ (¬4) فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ ... عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتِ الجُدُودِ (¬5) وَبَكَى إِنْ بُكِيَتْ عَلَى عَقِيلٍ ... وَبَكَى حَارِثًا أَسَدَ الأُسُودِ ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 328). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 327). (¬3) النحبُ: البكاء بصوت طويل ومَدّ. انظر النهاية (5/ 23). (¬4) السُّهُود أو السُّهَاد: الأرَقُ. انظر لسان العرب (6/ 408). (¬5) الجُدُود: جمع جَدّ: وهو الحظ. انظر النهاية (1/ 237).

* عودة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة

وَبَكْيَهُمْ وَلَا تُسَمَّى جَمِيعًا ... وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ (¬1) أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمُ رِجَالٌ ... وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا (¬2) * عَوْدَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ببَدْرٍ، بَعْدَ انْتِهَاءِ المَعْرَكَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ -وَكَانَتْ هَذِهِ عَادَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا ذَكَرْنَا- ثُمَّ أَقْبَلَ رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ، وَمَعَهُ الأُسَارَى مِنَ المُشْرِكِينَ، فِيهِمْ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيطٍ، وَالنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، وَاحْتَمَلَ مَعَهُ النَّفَلَ (¬3) الذِي أَصَابَ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ كَعْبٍ الأَنْصَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- (¬4). * أَمْرُ الغَنَائِمِ: وَقَبْلَ رَحِيلِ المُسْلِمِينَ مِنْ بَدْرٍ وَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ حَوْلَ الغَنَائِمِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا لَمْ يَكُنْ شُرعَ يَوْمَئِذٍ، وَاشْتَدَّ الخِلَافُ بَيْنَهُمْ حَتَّى أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الأَنْفَالِ. أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَأَلْتُ: عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- عَنِ الأَنْفَالِ، فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أصْحَابِ بَدْرٍ ¬

_ (¬1) النِد بالكسر: المِثْل والنظير. انظر النهاية (5/ 30). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 259) - البداية والنهاية (3/ 328). (¬3) النَّفَلُ: بالتحريك الغنيمة. انظر النهاية (5/ 86). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 254).

* سبب الاختلاف في غنائم غزوة بدر

نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي الأَنْفَالِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أخْلَاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أيْدِينَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ المُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ، يَقُولُ: عَلَى السَّوَاءِ (¬1). * سَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي غَنَائِم غَزْوَةِ بَدْرٍ: وَكَانَ سَبَبُ الخِلَافِ فِي غنَائِمِ بَدْرٍ مَا أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمُ وابْنُ إسْحَاقَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ العَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى العَسْكَرِ يَحْوُونَهُ (¬2) ويَجْمَعُونَهُ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22747) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 253) - وحسن إسناده الحافظ في الفتح (6/ 319). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (3/ 321): وقد زعم أبو عبيدٍ القاسم بن سلام رَحِمَهُ اللَّهُ أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسم غنائم بدر على السَّوَاء بين الناس، ولم يُخَمِّسها، ثم نزل بيان الخمس بعد ذلك ناسخًا لما تقدم، وهكذا روى الوَالِبِي عن ابن عباس وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي، وفي هذا نظر، واللَّه أعلم. فإن في سياق الآيات قبل آية الخمس وبعدها كلها في غزوة بدر، فيقتضي أن ذلك نَزَل جملة في وقت واحد غير مُتَفَاصِل بتأخيرٍ يقتضي نَسْخَ بعضه بعضًا، ثم في الصحيحين - البخاري (3091) - ومسلم (1979) عن عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أنه قال: في قصة شَارِفَيْهِ اللذَيْن اجتب أسنمتها حمزة: إن إحداهما كانت من الخُمُس يوم بدر، ما يرد صريحًا على أبي عبيد أن غنائم بدر لم تُخمس، بل خمست كما هو قول البخاري وابن جرير وغيرهما، وهو الصحيح الراجح واللَّه أعلم. وقال الحافظ في الفتح (8/ 51): الجمهورُ على أن آية الخمس نزلت في قصة بدر. (¬2) حَوَى الشيء: جمعه وأحرَزَهُ. انظر لسان العرب (3/ 409).

وَأَحْدَقَتْ (¬1) طَائِفَة بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يُصِيبُ العَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً (¬2)، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَفَاءَ (¬3) النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الذِينَ جَمَعُوا الغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ، وَقَالَ الذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ العَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا، نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا العَدُوَّ وهَزَمْنَاهُمْ، وَقَالَ الذِينَ أحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا، نَحْنُ أحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ العَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً وَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬4). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ مِنَ النَّفْلِ كَذَا وَكَذَا"، فتَقَدَّمَ الفِتْيَانُ (¬5) وَلَزِمَ المَشْيَخَةُ (¬6) الرَّايَاتِ فَلَمْ يَبْرَحُوهَا، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ المَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا (¬7) لَكُمْ، لَوِ ¬

_ (¬1) أحْدَقَ به: أحَاطَ. انظر لسان العرب (3/ 87). (¬2) الغِرَّة بكسر الغين: الغَفْلة. انظر النهاية (3/ 318). (¬3) يقال فَاءَ يَفِيءُ: أي رجع. انظر النهاية (3/ 434). (¬4) سورة الأنفال آية (1) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22762) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 253) - وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه - كتاب التفسير - باب صورة تقسيم الغنائم - رقم الحديث (3312). (¬5) في رواية ابن حبان في صحيحه قال: فتَسَارَعَ الشُّبَّان. (¬6) في رواية ابن حبان في صحيحه قال: وبَقِيَ الشيوخ. (¬7) الرِدء: العون والناصر. انظر النهاية (2/ 195). =

* سبب آخر

انْهَزَمْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالغُنْمِ وَنَبْقَى، فَأَبَى الفِتْيَانُ، وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. . .} إلى قوله تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (¬1). * سَبَبٌ آخَرُ: وَوَرَدَ سَبَبٌ آخَرُ فِي نُزُولِ آيَةِ الأنْفَال وَهُوَ مَا أخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بنَ العَاصِ (¬2) وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الكَتِيفَةِ، فَأتَيْتُ بِهِ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي القَبَضِ" (¬3). قَالَ: فَرَجَعْتُ، وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قتلِ أَخِي، وَأَخْذِ سَلَبِي، قَالَ: فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الأَنْفَالِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = ومنه قوله تعالى في سورة القصص آية (34) على لسان موسى عليه السلام: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}. (¬1) سورة الأنفال آية (1) - والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلح - باب وأصلحوا ذات بينكم - رقم الحديث (5093) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في النفل - رقم الحديث (2737) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (8/ 206). (¬2) قوله -رضي اللَّه عنه-: سعيد بن العاص وَهْم، والصحيح العاص بن سعيد، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى. (¬3) القَبَضُ: بالتحريك بمعنى المَقْبُوض، وهو ما جُمع من الغنيمة قبل أن تُقسم. انظر النهاية (4/ 6).

"اذْهَبْ فَخُذْ سيْفَكَ" (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بنِ وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ شَفَانِيَ اللَّهُ اليَوْمَ مِنَ المُشْرِكِينَ، لِي هَذَا السَّيْفَ، قَالَ: "إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَيْسَ لَكَ وَلَا لِي، ضَعْهُ"، قال: فَوَضَعْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، قُلْتُ: عَسَى أَنْ يُعْطِي هَذَا السَّيْفُ اليَوْمَ مَنْ لَمْ يُبْلَ بَلَائِي (¬2)، قَالَ: إِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي (¬3)، قُلْتُ: قَدْ أُنْزِلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قال: "كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ، وَلَيْسَ هُوَ لِي، وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي، فَهُوَ لَكَ"، قال: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬4). وَظَاهِرُ هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَنَّ مَا فِيهَا كُلَّهَا أسْبَابٌ لِنُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ (¬5)، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُسْتَنْكَرُ فَإِنَّ الجَمِيعَ أَخْبَرَ بِمَا شَاهَدَهُ أَوْ حَصَلَ لَهُ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ، وَالأَسْبَابُ قَدْ تَتَعَدَّدُ كَمَا هُوَ مَعْلُوم. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1556) - وأصله في صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب الأنفال - رقم الحديث (1748) (34). (¬2) يُبْلَ بَلَائي: أي لم يعْمَل مثل عَمَلي في الحرب. انظر النهاية (1/ 154). (¬3) في رواية الترمذي في جامعه، قال: فجاءني الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) سورة الأنفال آية (1) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1538) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الأنفال - رقم الحديث (3079) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأصله في صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب الأنفال - رقم الحديث (1748) (34). (¬5) الآية هي قوله تَعَالَى في سورة الأنفال آية (1): {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

* قسمة الغنائم

* قِسْمَةُ الغَنَائِمِ: فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَنْطِقَةِ الصَّفْرَاءَ فِي طَرِيقِ العَوْدَةِ إِلَى المَدِينَةِ، قَسَمَ هُنَالِكَ الغَنَائِمَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فَأَخْرَجَ الخُمُسَ، وَقَسَمَ البَاقِي بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّحَابَةَ الذِينَ لَم يَشْهَدُوا غَزْوَةَ بَدْرٍ بِسَبَبِ أعْذَارِهِمْ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمَرِّضُ زَوْجَتَهُ رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ضُرِبَتْ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْمُهَاجِرِينَ بِمِائَةِ سَهْمٍ (¬2). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَتْ لِي شارِفٌ (¬3) مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: نَفَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ سَيْفَ أَبِي جَهْلٍ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الخمس - باب إذا بعث الإمام رسولًا في حاجة - رقم الحديث (3130). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (12) - رقم الحديث (4027). (¬3) الشَّارِفُ: هي الناقة المُسِنَّة. انظر النهاية (2/ 415). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الخمس - باب فرض الخمس - رقم الحديث (3091) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأشربة - باب تحريم الخمر - رقم الحديث (1979). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4246) - وأبو داود في سننه -كتاب =

* صفي الرسول -صلى الله عليه وسلم-

* صَفِيُّ (¬1) الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَغَانِمِ شَيْءٌ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ فَرَسًا، أَوْ سَيْفًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَتَبِعَهُمَا عَلَى ذَلِكَ أكْثَرُ العُلَمَاءِ (¬2). فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ صَفِيَّةُ (¬3) مِنَ الصَّفِيِّ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي العَلَاءِ بنِ الشِّخِّيرِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ مُطَرِّفٍ فِي سُوقِ الإِبِلِ، فَجَاءَهُ أعْرَابِيٌّ مَعَهُ قِطْعَةُ أَدِيمٍ (¬5)، أو جِرَابٌ (¬6)، فقال: مَنْ يَقرَأ؟ ، أَوْ فِيكمْ مَنْ يَقرَأ؟ ، قلتُ: نَعَمْ، فَأَخَذْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُول اللَّهِ، لبنِي زُهَيْرِ ¬

_ = الجهاد - باب من أجاز على جَريح مُثْخَن يُنفل من سلبه - رقم الحديث (2722) (¬1) الصَّفِيُّ: ما كان يأخذه رَئيس الجيش ويَختَاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. انظر النهاية (3/ 37). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (4/ 61). (¬3) هي صَفِيَّة بنت حيي بن أخطب، أم المؤمنين، من ذرية هارون عليه السلام، وكانت شريفة عاقلة، ذات حَسَب وجمال ودِينٍ، وحِلْم، ووَقَار، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وتوفيت سنة خمسين للهجرة. انظر سير أعلام النبلاء (2/ 231). (¬4) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر ما خص اللَّه جل وعلا صفيه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4822) - وأبو داود في سننه - كتاب الخراج - باب ما جاء في سهم الصفي - رقم الحديث (2994). (¬5) الأدِيم: الجلد. انظر لسان العرب (1/ 96). (¬6) الجِراب: بكسر الجيم هو وِعاء من جلد الشاء. انظر لسان العرب (2/ 228).

* نصيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الغنائم

بنِ أُقَيْشٍ -حَيٍّ مِنْ عُكْلٍ-: أَنَّهُمْ إِنْ شَهِدُوا أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَفَارَقُوا المُشْرِكِينَ، وَأَقَرُّوا بِالخُمْسِ فِي غَنَائِمِهِمْ، وَسَهْمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَفِيِّهِ، فَإِنَّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" (¬1). * نَصِيبُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الغَنَائِمِ: فَكَانَ مِنْ نَصِيبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، مَا أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَيْفَهُ ذَا الفِقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ (¬2). ثُمَّ صَارَ هَذَا السَّيْفُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ كَانَ أَهْدَى جَمَلَ أَبِي جَهْلٍ، الذِي كَانَ اسْتُلِبَ (¬4) يَوْمَ بَدْرٍ فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ (¬5) مِنْ فِضَّةٍ، عَامَ الحُدَيْبِيَةِ فِي هَدْيِهِ؛ لِيُغِيظَ بِذَلِكَ المُشْرِكِينَ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20737) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب قسم الخمس - باب (1) - رقم الحديث (4432). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2445) - وابن ماجة في سننه - كتاب الجهاد - باب السلاح - رقم الحديث (2808). (¬3) انظر زاد المعاد (3/ 93). (¬4) السَّلَبُ: هو ما يأخذه أحد القَرْنَيْن في الحرب من قَرْنه مما يكون عليه ومعه من سلاح وثياب ودابَّة وغيرها. انظر النهاية (2/ 348). (¬5) البُرَّة: حلقة تُجعل في لَحْمِ الأنف. انظر النهاية (1/ 122). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2362) - وابن ماجة - كتاب المناسك - باب الهدي من الإناث والذكور - رقم الحديث (3100).

* مقتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط

* مَقْتَلُ النَّضْرِ بنِ الحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى المَدِينَةِ وَمَعَهُ الأَسْرَى، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مِنْطَقَةِ الصَّفْرَاءَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَتْلِ النَّضْرِ بنِ الحَارِثِ، وَكَانَ حَامِلَ لِوَاءِ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ، وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ كَيْدًا لِلْإِسْلَامِ، وَإِيذَاءً لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَضَرَبَ عُنُقهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فَقتَلَهُ (¬1). وَعِنْدَمَا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عِرْقِ الظَّبْيَةِ أَمَرَ عَاصِمَ بنَ ثَابِتِ بنِ أَبِي الأَقْلَحِ، أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ الذِي وَضَعَ سَلَى الْجَزُورِ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ سَاجِدٌ (¬2)، وَهُوَ الذِي وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ سَاجِدٌ (¬3). فَقَالَ عُقْبَةُ: مَنْ لِلصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "النَّارُ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 255) - البداية والنهاية (3/ 324). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر. . . - رقم الحديث (240) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين - رقم الحديث (1794) - وقد ذكرنا ذلك في الفترة المكية -فراجعه-. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب فضائل الأنصار- باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه من المشركين - رقم الحديث (3856) -وقد ذكرنا ذلك في الفترة المكية -فراجعه-. (¬4) أخرج مقتل عقبة بن أبي معيط: الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4514) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في قتل الأسير صبرًا - رقم الحديث (2686) - والحاكم في المستدرك - كتاب الجهاد - باب اختيار أحوط الأميرين في أمر - رقم الحديث (2618) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 324) - وإسناده صحيح.

* تبشير أهل المدينة بالنصر

قَوْلُ عُقْبَةَ: مَنْ لِلصِّبْيَةِ: أَيْ مَنْ يَكْفُلُ الأَطْفَالَ ويُرَبِّيهِمْ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ اسْتِعْطَافَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "النَّارُ"، قَالَ الطِّيبِيُّ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّارَ عِبَارَةٌ عَنِ الضَّيَاعِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الجَوَابَ مِنَ الأُسْلُوبِ الحَكِيمَ، أَيْ لَكَ النَّارُ، وَدَعْ أَمْرَ الصِّبْيَةِ، فَإِنَّ كَافِلَهُمْ هُوَ اللَّهُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ -النَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ- مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَكْثَرِهِمْ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَبَغْيًا وَحَسَدًا، وَهِجَاءً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ فَعَلَ (¬2). * تَبْشِيرُ أَهْلِ المَدِينَةِ بِالنَّصْرِ: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، قَرِيرَ العَيْنِ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُ، وَمَعَهُ الأُسَارَى، وَالغَنَائِمُ الكَثِيرَةُ، وَقَدْ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَشِيرًا إِلَى المَدِينَةِ بِالفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى مَنْ أشْرَكَ بِاللَّهِ، أَحَدُهُما: عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ، وَالثَّانِي: زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ. أَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَدْرٍ، بَعَثَ بَشِيْرَيْنِ إِلَى أَهْلِ المَدِينَةِ، بَعَثَ زَيْدَ بنَ ¬

_ (¬1) انظر معالم السنن للخطابي (3/ 95). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 324).

حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَهْلِ العَالِيَةِ، يُبَشِّرُونَهُمْ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَوَافَقَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ ابْنَهُ أُسَامَةَ حِينَ سُوِّي التُّرَابُ عَلَى رُقيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقِيلَ له: ذَاكَ أَبُوكَ حِينَ قَدِمَ، قَالَ أُسَامَةُ: فَجِئْتُ وَهُوَ وَاقِف لِلنَّاسِ يَقُولُ: قُتِلَ عُتْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بنُ هِشَامٍ، وَنُبِيهُ وَمُنبِّهُ ابْنَا الحَجَّاجِ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ أَحَقٌّ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ (¬1). وَرَوَى البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَجَاءَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ عَلَى العَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالبِشَارَةِ، قَالَ أُسَامَةُ: فَسَمِعْتُ الهَيْعَةَ (¬2)، فَخَرَجْتُ، فَإِذَا زَيْدٌ قَدْ جَاءَ بِالبِشَارَةِ، فَوَاللَّهِ مَا صَدَّقْتُ حَتَّى رَأَيْتُ الأُسَارَى (¬3). وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- فَجَعَلَ يُنَادِي أَهْلَ العَالِيَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! أَبْشِرُوا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقتلِ المُشْرِكِينَ وأَسْرِهِمْ، قُتِلَ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الحَجَّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَقُتِلَ زَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو، قَالَ عَاصِمُ بنُ عَدِيٍّ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فنَحَوْتُهُ (¬4) ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كان زيد بن حارثة أحَبَّ القوم إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (5012) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 254). (¬2) الهَيْعَة: الصوت الذي تَفْزَع منه وتَخَافه من عدو. انظر النهاية (5/ 248). (¬3) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 130) - وابن سعد في طبقاته (1/ 258). (¬4) نَحَوْتُه: قَصَدْتُه. انظر النهاية (5/ 25).

* تهنئة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنصر

فَقُلْتُ: أَحَقًّا يَا ابْنَ رَوَاحَةَ؟ فَقَالَ؛ إِي وَاللَّهِ، وَغَدًا يَقْدُمُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَسْرَى مُقَرَّنِينَ، ثُمَّ تَتبَعَ دُورَ الأَنْصَارِ بِالعَالِيَةِ يُبَشِّرُهُمْ دَارًا دَارًا، وَالصِّبْيَانُ يُنْشِدُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ الفَاسِقُ، حَتَّى انتهَى إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ بنِ زَيْدٍ (¬1). قَالَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا نَخْشَى بِحَوْلِ اللَّهِ قَوْمًا ... وَإِنْ كَثُرُوا وَأَجْمَعَتِ الزُّحُوفُ إِذَا مَا أَلَّبُوا (¬2) جَمْعًا عَلَيْنَا ... كَفَانَا حَدَّهُمْ رَبٌّ رَؤُوفُ سَمَوْنَا يَوْمَ بَدْرٍ بِالعَوَالِي ... سِرَاعًا مَا تُضَعْضِعُنَا (¬3) الحُتُوفُ (¬4) فَلَمْ تُرَ عُصْبَةً فِي النَّاسِ أَنْكَى ... لِمَنْ عَادَوْا إِذَا لَقِحَتْ كُشُوفُ وَلَكِنَّا تَوَكَّلْنَا وَقُلْنَا ... مَآثِرُنَا وَمَعْقِلُنَا السُّيُوفُ لَقِينَاهُمْ بِهَا لَمَّا سَمَوْنَا ... وَنَحْنُ عِصَابَة وَهُمُ أُلُوفُ (¬5) * تَهْنِئَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّصْرِ: وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مِنْطَقَةِ الرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ رُؤُوسُ المُسْلِمِينَ ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 323) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 132). (¬2) ألَّبُوا: جمعوا. انظر لسان العرب (1/ 177). (¬3) الضَّعْضَعَة: الخضوع والتذلل. انظر لسان العرب (8/ 61). (¬4) الحُتُوفُ: جمع حَتْفٍ وهو الموت. انظر لسان العرب (3/ 41). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (3/ 26).

* قضية الأسرى

يُهَنِّؤُونَهُ بِمَا فتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ الحُضَيْرِ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ الحَمْدُ للَّهِ الذِي أَظْفَرَكَ وَأَقَرَّ عَيْنَكَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًّا، وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عِيرٌ، وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ عَدُوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقْتَ" (¬1). ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ مُؤَيَّدًا مُظَفَّرًا، قَدْ خَافه كُلُّ عَدُوٍّ لَهُ دَاخِلَ وَخَارجَ المَدِينَةِ، فَأَسْلَمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، وَأَصْحَاُبهُ فِي الإِسْلَامِ نِفَاقًا. * قَضِيَّةُ الأَسْرَى: أَمَّا الْأَسْرَى، فَقَدْ فَرَّقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: "اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا" (¬2). فَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يُطْعِمُونَ أَسْرَاهُمُ الخُبْزَ. قَالَ أَبُو عَزِيزٍ أَخُو مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ -وَكَانَ أَسِيرًا-: كُنْتُ فِي رَهَطٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ أَوْ عَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالخُبْزِ، وَأَكَلُوا التَّمْرَ، لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِيَّاهُمْ بِنَا، حَتَّى مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 323) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 133). (¬2) أخرج ذلك الطبراني في الصغير والكبير كما في المجمع (6/ 86) وقال الهيثمي: إسناده حسن.

* موقف لسودة بنت زمعة، رضي الله عنها

خُبْزٍ إِلَّا نَاوَلَنِي إِيَّاهَا، قَالَ: فَأَسْتَحْيِي، فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ، فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا (¬1). * مَوْقِفٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، رضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَدْ دُهِشَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا رَأَتْ سُهَيْلَ بنَ عَمْرٍو وَيَدَاهُ مَعْقُودَتَانِ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ فَقَالَتْ: أَبَا يَزِيدَ، أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، أَلَا مُتُّمْ كِرَامًا! ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ تُحَرِّضِينَ؟ ". فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ مَا مَلَكْتُ حِينَ رَأَيْتُ أبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبلٍ أَنْ قُلْتُ مَا قُلْتُ (¬2). * اسْتِشَارَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ فِي شَأْنِ الأَسْرَى: ثُمَّ أخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَشِيرُ أصْحَابَهُ فِي الأَسْرَى، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَلَمَّا أَسَرُوا الأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الطبراني في الصغير والكبير كما في المجمع (6/ 86)، وقال الهيثمي: إسناده حسن - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 256). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب مشاورة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه في أسارى بدر - رقم الحديث (4361) - وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في الأسير يوثق - رقم الحديث (2680) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6040) - وإسناده حسن.

عَنْهُمَا: "مَا ترَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الأُسَارَى؟ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! هُمْ بَنُو العَمِّ وَالعَشِيرَةُ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا تَرَى يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟ ". فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَرَى الذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فنَضْرِبَ أعْنَاقَهُمْ، فتمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنقهُ، وَتُمَكِنِّي مِنْ فُلَانٍ -نَسِيبًا لِعُمَرَ- فَأَضْرِبَ عنقه، حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ (¬1) لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ (¬2) وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ. فهَوِيَ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الفِدَاءَ. قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يبكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَباكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الفِدَاءَ، لَقَدْ ¬

_ (¬1) الهَوَادة: هي السُّكون والرُّخصَة والمُحَاباة. انظر النهاية (5/ 242). (¬2) صَنَادِيدُهُم: أي أشرافهم، وعُظَماؤهم، ورُؤَساؤهم، الواحد: صِنْدِيد بكسر الصاد. انظر النهاية (3/ 51). (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 74): فَهَوِي: بكسر الواو أي أحَبَّ ذلك واستحسنه.

عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ" -شَجَرَةً قَرِيبَةً مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ (¬1) فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ (¬2) لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الحَاكِمِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُمَرَ: "كَادَ أَنْ يُصِيبَنَا ¬

_ (¬1) الإثْخَانُ في الشيء: المبَالغة فيه والإكثار منه، والمراد به هاهنا المبالغة في قتل الكفار. انظر النهاية (1/ 203). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 90): والمراد بالكتاب الذي سبق إحلال الغنائم لهذه الأمة، وقد روي ذلك عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة، والأعمش، وهو اختيار ابن جرير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ويستشهد لهذا القول ما رواه البخاري - رقم الحديث (335) - ومسلم - رقم الحديث (521) في صحيحيهما عن جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُعطيت خمسًا، لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرعْبِ مَسِيرة شهر، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وأُعْطِيتُ الشفاعة، وكان النَّبيُّ يبعَثُ إلى قومهِ خَاصَّةً وبُعثتُ إلى النَّاس عامة". (¬3) سورة الأنفال (67 - 96) - وأخرج قصة استشارة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بالأسرى: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر - رقم الحديث (1763) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (208) (13555) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب غزوة بدر - رقم الحديث (4793) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب شأن نزول قوله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} - رقم الحديث (3323) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3309).

فِي خِلَافِكَ بَلَاءٌ" (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا الغَنَائِمَ، رَحْمَةً رَحِمَنَا بِهَا، وَتَخْفِيفًا خَفَّفَهُ عَنَّا لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَعْفِنَا" (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ اخْتِصَاصُ هَذِهِ الأُمَّةِ بِحِلِّ الغَنِيمَةِ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ مِنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفِيهَا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الغَنِيمَةَ، وَقَدْ ثبتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لَكِنْ وَقَعَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ خُمِّسَتْ غَنِيمَةُ السَّرِيَّةِ التِي خَرَجَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-، وَذَلِكَ قَبْلَ بَدْر بِشَهْرَيْنِ، وَيُمْكِنُ الجَمْعُ بِمَا ذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬3): أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَّرَ غَنِيمَةَ تِلْكَ السَّرِيَّةِ حَتَّى رَجَعَ مِنْ بَدْرٍ فَقَسَمَهَا مَعَ غَنَائِمِ بَدْرٍ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه - كتاب التفسير - باب شأن نزول قوله تَعَالَى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} - رقم الحديث (3323). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحلت لكم الغَنَائم" - رقم الحديث (3124) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة - رقم الحديث (1747) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر تحليل اللَّه جل وعلا الغنائم لأمة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4807) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1071) - والإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (8200). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 254). (¬4) انظر فتح الباري (6/ 349).

* ترجيح ابن القيم رأي أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ تَحِلَّ الغَنَائِمُ لِأَحَدٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ، كَانَتْ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ نَار فتَأْكُلَهَا"، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الغَنَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬1). * تَرْجِيحُ ابْنِ القَيِّمِ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ، فِي أَيِّ الرَّأْيَيْنِ كَانَ أَصْوَبَ -رَأْيُ أَبِي بَكْرٍ أَمْ عُمَرَ- فَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ، قَوْلَ عُمَرَ لِهَذَا الحَدِيثِ، وَرَجَّحَتْ طَائِفَةٌ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ، لِاسْتِقْرَارِ الأَمْرِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَتِهِ الكِتَابَ الذِي سَبَقَ مِنَ اللَّهِ بِإِحْلَالِ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلمُوَافَقَتِهِ الرَّحْمَةَ التِي غَلَبَتِ الغَضَبَ (¬2)، وَلتَشْبِيهِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَهُ فِي ذَلِكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَتَشْبِيهِهِ لِعُمَرَ بِنُوحٍ وَمُوسَى (¬3) عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلحُصُولِ الخَيْرِ العَظِيمِ الذِي حَصَلَ بِإسْلَامِ ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (68 - 69) والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر الوقت الذي أنزل اللَّه جل وعلا آية الأنفال - رقم الحديث (4806) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7433) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3310). (¬2) أخرج البخاري في صحيحه - رقم الحديث (7554) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2751) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7299) - (8958) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي"، وفي رواية: "إن رحمتي غلبت غضبي، فهو مكتوبٌ عنده فَوْق العرش". (¬3) أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند ضعيف لانقطاعه - رقم الحديث (3632) عن ابن =

* نسخ حكم الفداء وجعله للإمام

أَكْثَرِ أُولَئِكَ الأَسْرَى، وَلخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلحُصُولِ القُوَّةِ التِي حَصلَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالفِدَاءَ، وَلمُوَافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي بَكْرٍ أَوَّلًا، وَلمُوَافَقَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ آخِرًا حَيْثُ اسْتَقَرَّ الأَمْرُ عَلَى رَأْيِهِ، وَلكَمَالِ نَظَرِ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ رَأَى مَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ حُكْمُ اللَّهِ آخِرًا، وَغَلَّبَ جَانِبَ الرَّحْمَةِ عَلَى جَانِبِ العُقُوبَةِ. قَالُوا: وَأَمَّا بُكَاءُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِنُزُولِ العَذَابِ لِمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَلَمْ يُرِدْ ذَلِكَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَرَادَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، فَالفِتْنَةُ كَانَتْ تَعُمُّ، وَلَا تُصِيبُ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ خَاصَّةً، كَمَا هُزِمَ العَسْكَرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: لَنْ نُغْلَبَ اليَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، وَبِإْعَجاِب كَثْرَتِهِمْ لِمَنْ أَعْجَبتْهُ مِنْهُمْ، فَهُزِمَ الجَيْشُ بِذَلِكَ فِتْنَةً وَمِحْنَةً، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الأَمْرُ عَلَى النَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَاللَّه أَعْلَمُ (¬1). * نسْخُ حُكْمِ الفِدَاءِ وَجَعْله لِلْإِمَامِ: كَانَ أَخْذُ الفِدَاءِ فِي أَوَّلِ الإِسْلَامِ، ثُمَّ جُعِلَ فِيمَا بَعْدُ الخِيَارُ لِلْإِمَامِ بَيْنَ القَتْلِ أَوِ الفِدَاءِ أَوِ المَنِّ مَا عَدَا الأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذْ لَا يَجُوزُ قتلُهُمْ، مَا دَامُوا ¬

_ = مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . وإن مَثَلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السَّلام، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السَّلام، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السَّلام، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام، قال: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ". (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 101).

غَيْرَ مُحَارِبِينَ (¬1)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَقَدِ اسْتَقَرَّ فِي الأَسْرَى عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ: أَنَّ الإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ: إِنْ شَاءَ قتلَ -كَمَا فَعَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- ببَنِي قُرَيْظَةَ- وَإِنْ شَاءَ فَادَى بِمَالٍ -كَمَا فَعَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَسْرَى بَدْرٍ- أَوْ بِمَنْ أُسِرَ مِنَ المُسْلِمِينَ -كَمَا فَعَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تِلْكَ الجَارِيَةِ وَابْنَتِهَا اللَّتَيْنِ كَانتا فِي سَبْيِ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ، حَيْثُ رَدَّهُمَا وَأَخَذَ فِي مُقَابِلِتِهِمَا مِنَ المُسْلِمِينَ الذِينَ كَانُوا عِنْدَ المُشْرِكِينَ (¬3)، وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ (¬4) مَنْ أَسَرَ (¬5). وَقَالَ الإِمَامُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ مِنَ القَوْلِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬6) مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ صِفَةَ النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخِ مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي كِتَابِنَا أَنَّهُ مَا لَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُ حُكْمَيْهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مَا قَامَتِ الحُجَّةُ بِأَنَّ أحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلآخَرِ، وَغَيْرُ ¬

_ (¬1) انظر المغني لابن قدامة (8/ 372). (¬2) سورة محمد آية (4). (¬3) أخرج خبر الجارية وابنتها: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى - رقم الحديث (1755). (¬4) اسْتَرَقّ: أي صار مملوكًا. انظر النهاية (2/ 228). (¬5) انظر تفسير ابن كثير (4/ 91). (¬6) سورة محمد آية (4).

مُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الخِيَارِ فِي المَنِّ (¬1) وَالفِدَاءِ وَالقَتْلِ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِلَى القَائِمِينَ بَعْدَهُ بِأَمْرِ الأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ القَتْلُ مَذْكُورًا فِي هَذِهِ الآيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَذِنَ بِقَتْلِهِمْ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية (¬2)، بَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ فِيمَنْ صَارَ أَسِيرًا فِي يَدِهِ مِنْ أَهْلِ الحَرْبِ، فَيَقْتُلُ بَعْضًا، وَيُفَادِي بِبَعْضٍ، وَيَمُنُّ عَلَى بعْضٍ، مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ قتلَ عُقْبَةَ بنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَقَدْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، وَقَتَلَ بَنِي قرَيْظَةَ (¬3)، وَقدْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-، وَصَارُوا فِي يَدِهِ سِلْمًا، وَهُوَ عَلَى فِدَائِهِمْ وَالمَنِّ عَلَيْهِمْ قَادِرٌ، وَفَادَى بِجَمَاعَةٍ أُسَارَى المُشْرِكِينَ الذِينَ أُسِرُوا بِبَدْرٍ، وَمَنَّ عَلَى ثُمَامَةَ بنِ أُثَالٍ الحَنَفِيِّ، وَهُوَ أَسِيرٌ فِي يَدِهِ (¬4)، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ ثَابِتًا مِنْ سَيْرِهِ فِي أَهْلِ الحَرْبِ مِنْ لَدُنْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِحَرْبِهِمْ، إِلَى أَنْ قبضَهُ إِلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، دَائِمًا ذَلِكَ فِيهِمْ (¬5). ¬

_ (¬1) مَنَّ عليه: أحسَنَ وأنْعَم. انظر لسان العرب (13/ 197). (¬2) سورة التوبة آية (5). (¬3) أخرج قتل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بني قريظة: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4121) (4122) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتال من نقض العهد - رقم الحديث (1768). (¬4) أخرج مَن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على ثُمَامَةَ بن أثالٍ: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال - رقم الحديث (4372) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ربط الأسير وحبسه - رقم الحديث (1764). (¬5) انظر كلام الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (11/ 307).

* فداء الأسارى

وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَقْوَالَ العُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الأَسِيرِ قَالَ: فَدَلَّ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ الجُمْهُورِ: إِنَّ ذَلِكَ رَاجعٌ إِلَى رَأْي الإِمَامِ (¬1). * فِدَاءُ (¬2) الأُسَارَى: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِدَاءَ الأَسْرَى كُلٌّ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِدَاءٌ، وَيُحْسِنُ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِدَاءه أَنْ يُعَلِّمَ أَوْلَادَ الأَنْصَارِ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، فَإِذَا حَذِقُوا (¬3) فَهُوَ فِدَاؤُهُ، وَبَعْضُ الأَسْرَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ، فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأَطْلقهُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ. أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُسِرَ سَبْعُونَ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَةً ذَهَبًا (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الأَنْصَارِ الكِتَابَةَ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (6/ 262). (¬2) الفِدَاء بالكسر: فَكَاكُ الأسير. انظر النهاية (3/ 378). (¬3) حَذِقَ: أتْقَنَ. انظر النهاية (1/ 343). (¬4) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 477) - وحسن إسناده الحافظ في الفتح (8/ 58). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2216).

* من الرسول -صلى الله عليه وسلم- لرجال من قريش بغير فداء

قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَبُولُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَعْلِيمَ القِرَاءَةِ والكِتَابَةِ بَدَلَ الفِدَاءِ فِي هَذَا الوَقْتِ الذِي كَانُوا فِيهِ بِأَشَدِّ الحَاجَةِ إِلَى المَالِ، يُرِيَنَا سُمُوَّ الإِسْلَامِ، فِي نَظْرَتِهِ إِلَى العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ وَإِزَالَةِ الأُمِّيَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ مِنْ دِينٍ كَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬1). وَاسْتَفَاضَتْ فِيهِ نُصُوصُ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي التَّرْغِيبِ فِي العِلْمِ، وَبَيَانِ مَنْزِلَةِ العُلَمَاءِ، وَبِهَذَا العَمَلِ الجَلِيلِ يُعْتَبَرُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أوَّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ الأَسَاسِ فِي إِزَالَةِ الأُمِّيَّةِ، وَإِشَاعَةِ القِرَاءَةِ وَالكِتَابَةِ، وَأَنَّ السَّبْقَ فِي هَذَا لِلْإِسْلَامِ (¬2). * مَنُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِرِجَالٍ مِنْ قُرَيشٍ بِغَيْرِ فِدَاءٍ: مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَطْلَقَهُمْ بِغَيْرِ فِدَاءٍ: المُطَّلِبُ بنُ حَنْطَبٍ، وَصَيْفِيُّ بنُ أَبِي رِفَاعَةَ، وَأَمَّا أَبُو عَزَّةَ الجُمَحِيُّ، فَقَدْ كَانَ فَقِيرًا، وَذُو بَنَاتٍ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَقَدْ عَرَفْتَ مَالِي مِنْ مَالٍ، وَإِنِّي لَذُو حَاجَةٍ وَذُو عِيَالٍ، فَامْنُنْ عَلَيَّ، فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ، وَلَا يُظَاهِرَ (¬3) ¬

_ (¬1) سورة العلق الآيات (1 - 5). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (2/ 164 - 165). (¬3) ظاهَرَ عليه: أعَان عليه. انظر لسان العرب (8/ 278).

* أول من افتدى من الأسرى

عَلَيْهِ أَحَدًا، وَلَا يُكَثِّرَ عَلَيْهِ أَبَدًا، فَلَمْ يَفِ لَهُ بِشَيْءٍ، وَلَعِبَ المُشْرِكُونَ بِعَقْلِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ أُسِرَ أَيْضًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُنَّ عَلَيَّ، وَذَكَرَ فَقْرَهُ وَعِيَاله، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا أَدَعُكَ تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ: سخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، لَا يُلدغ المُؤْمنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ" (¬1)، وَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ (¬2). * أَوَّلُ مَنِ افْتَدَى مِنَ الأَسْرَى: أَوَّلَ أَسِيرٍ افتدِيَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ أَبُو وَدَاعَةَ الحَارِثُ بنُ ضُبَيْرَةَ السَّهْمِيُّ، فَدَاهُ ابْنُهُ المُطَّلِبُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لَهُ بِمَكَّةَ ابْنًا كَيِّسًا (¬3) تَاجِرًا ذَا مَالٍ، وَكَأَنَّكُمْ بِهِ قَدْ جَاءَكُمْ فِي طَلَبِ فِدَاء أَبِيهِ"، فَكَانَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَتْ قُرَيْش: لَا تَعْجَلُوا بِفِدَاءَ أَسْرَاكُمْ لَا يَأْرَبُ (¬4) عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُطَّلِبُ بنُ أَبِي وَدَاعَةَ: صَدَقْتُمْ، لَا تَعْجَلُوا، وَانْسَلَّ (¬5) مِنَ اللَّيْلِ، فَقَدِمَ ¬

_ (¬1) أخرج لفظ: "لا يلدغ المُؤْمن من جُحْرِ مرتين": البخاري في صحيحه - كتاب الأدب - باب لا يلدغ المؤمن من جُحْرِ مرتين - رقم الحديث (6133) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين - رقم الحديث (2998) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5964). (¬2) انظر قصة أبي عَزَّة الجمحي في: سيرة ابن هشام (3/ 69) - البداية والنهاية (3/ 313). (¬3) الكيِّسُ: العاقل. انظر النهاية (4/ 188). ومنه الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17123) - بسند ضعيف عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّه قال: "الكَيِّسُ من دانَ نفسه، وعَمِلَ لما بعدَ الموت. . ". (¬4) يأرَبُ: أي يتشدد عليكم فيه. انظر النهاية (1/ 40). (¬5) انْسَلّ: أسرع. انظر النهاية (5/ 42).

* فداء سهيل بن عمرو -رضي الله عنه-

المَدِينَةَ، فَفَدَى أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَرَجَعَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ أَسِيرٍ فُدِيَ (¬2). * فِدَاءُ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-: مِنْ بَيْنِ الأُسَارَى سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو، وَكَانَ خَطِيبًا مُصَقَّعًا مَفُوَّهًا، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دَعْنِي أَنْزع ثَنِيّتَي سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو يَدْلَعُ (¬3) لِسَانَهُ، فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالَ: "إِنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمُّهُ" (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا المَقَامُ الذِي قَامَهُ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- كَانَ بِمَكَّةَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ العَرَبِ، وَنَجَمَ (¬5) النِّفَاقُ بِالمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَامَ بِمَكَّةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَثَبَّتَهُمْ عَلَى الدِّينِ الحَنِيفِ (¬6). وَكَانَ الذِي افتدَى سُهَيْلَ بنَ عَمْرٍو، هُوَ مِكْرَزُ بنُ حَفْصِ بنِ الأَخْيَفِ (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23864) وإسناده ضعيف - وانظر البداية والنهاية (3/ 328) - سيرة ابن هشام (2/ 260). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 328). (¬3) يَدْلَع لسانه: أي يُخْرِجُهُ من فَمِهِ حَتَّى يَسْتَرْخِي. انظر لسان العرب (4/ 389). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 260) - البداية والنهاية (3/ 329) - الإصابة (3/ 178). (¬5) نَجَمَ: طلع وظهر. انظر لسان العرب (14/ 59). (¬6) انظر البداية والنهاية (3/ 329). (¬7) انظر سيرة ابن هشام (2/ 260) - البداية والنهاية (3/ 329).

* فداء أبي العاص بن الربيع -رضي الله عنه-

* فِدَاءُ أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبيع -رضي اللَّه عنه-: مِنَ الأَسْرَى كَذَلِكَ صِهْرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو العَاصِ بنُ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-، زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ مَا زَالَ مُشْرِكًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءَ أسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي فِدَاءِ أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ بِمَالٍ، وبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لِخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي العَاصِ حِينَ بَنَى (¬1) عَلَيْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: "إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الذِي لَهَا، فَافْعَلُوا"، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَطْلَقُوهُ، وَرَدُّوا عَلَيْهَا الذِي لَهَا (¬2). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَخَذَ عَهْدًا عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِأنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةَ أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ فِي مَكَّةَ لَمْ تُهَاجِرْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ، خَرَجَتِ ابْنَتُهُ مِنْ ¬

_ (¬1) البِنَاءُ: الدخول بالزوجة. انظر النهاية (1/ 156). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26362) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4708) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في فداء الأسير بالمال - رقم الحديث (2692).

مَكَّةَ مَع بَنِي كِنَانَةَ فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهَا -وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَامِلًا- فَأدْرَكَهَا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ، فَلَمْ يَزَلْ يَطْعَنُ بَعِيرَهَا بِرُمْحِهِ حَتَّى صَرَعَهَا، فَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَاهْرِيقَتْ دَمًا، فَانْطَلَقَ بِهَا، وَاشْتَجَرَ فِيهَا بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو أُمَيَّةَ، فَقَالَ بَنُو أُمَيَّةَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا، وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمِّهِمْ أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ بنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَكَانَتْ عِنْدَ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَتْ تَقُولُ لَهَا هِنْدٌ: هَذَا فِي سَبَبِ أَبِيكِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ: "ألا تَنْطَلِقُ فتَجِئُ بِزَيْنَبَ؟ " (¬1)، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَخُذْ خَاتَمِي هَذَا، فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ"، فَانْطَلَقَ زَيْدٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَلْطُفُ (¬2) وَتَرَكَ بَعِيرَهُ حَتَّى أَتَى رَاعِيًا، فَقَالَ لَهُ: لِمَنْ تَرْعَى؟ قَالَ: لِأَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: فَلِمَنْ هَذِهِ الغَنَمُ؟ قَالَ: لِزَيْنَبَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَارَ مَعَهُ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا تُعْطِيَهَا إِيَّاهُ، وَلَا تَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَعْطَاهُ الخَاتَمَ، فَانْطَلَقَ الرَّاعِي، ¬

_ (¬1) قال الإمام الطحاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مشكل الآثار (1/ 135): تأمَّلنا ما كان من رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الحديث من إطلاقه لِزَيد السَّفر بزينب، فوجدنا زَيْدًا قد كان حِينَئِذٍ في تَبَنِّي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إياه، حَتَّى كان يُقال له: زَيْدُ بن محمد، ولم يَزَل بعد ذلك كذلك إلى أن نسخ اللَّه ذلك، فأخرَجَهُ من بُنُوَّته، . . . فوقفنا على أن ما كان أمر به -صلى اللَّه عليه وسلم- زيدًا قبل ذلك في زينب وفي إباحته لها وله السفر من كل واحد منهما مع صاحبه، كان على الحكم الأول، وفي الحال التي كان زيدٌ فيها أَخًا لزينب، فكان بذلك مَحْرمًا لها، جائزًا له السفر بها، كما يَجُوز لأخ لو كان لها من النسب من السفر بها. (¬2) يُقال: يَلْطُف لطفًا: إذا رَفق، أي أنه كان -رضي اللَّه عنه- رَفِيقًا بِبَعِيره. انظر لسان العرب (12/ 283).

فَأَدْخَلَ غَنَمَهُ، وَأَعْطَاهَا الخَاتَمَ فَعَرَفَتْهُ، فَقَالَتْ: مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ، قَالَتْ: وَأَيْنَ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: مَكَانَ كَذَا وَكَذا، فَسَكَنَتْ حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا زَيْد: ارْكَبِي بَيْنَ يَدَيَّ، قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ ارْكَبْ أَنْتَ، فَرَكِبَ وَرَكِبتْ وَرَاءَهُ حَتَّى أَتَتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "هِيَ أَفْضَلُ بَنَاتِي (¬1) أُصِيبَت فِيَّ" (¬2). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُثْنِي عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه- زَوْجِ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَيَقُولُ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي" (¬3). ¬

_ (¬1) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أفْضَلُ بناتِي". قال الحافظ في الفتح (7/ 477): وَأَمَّا ما أخرجه الطحاوي وغيره من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في قصة مَجِيء زيد بن حارثة بزينب بنت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من مكة، وفي آخره قال: "هِيَ أفضلُ بناتي أُصِيبَتْ فِيَّ"، فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثُبُوته بأن ذلك كان مُتَقَدِّمًا، ثم وَهَبَ اللَّه تَعَالَى لفاطمة من الأحوال السَّنِيَّة والكمال ما لم يشاركها أحدٌ من نساء هذه الأمة مطلقًا، واللَّه أعلم. (¬2) أخرجه الطحاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (142) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذهاب زيد بن حارثة ليجئ بزينب من مكة - رقم الحديث (6919) - وأورده الحافظ في الفتح (7/ 481) وقال: إسناده جيد. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفضائل - باب ذكر أصهار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: منهم أَبُو العاص بن الربيع - رقم الحديث (3729) - وأخرجه في كتاب الشروط - باب الشروط في المهر - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة - رقم الحديث (2449) (95) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4987).

* شأن هبار بن الأسود

* شَأْنُ هَبَّارِ بنِ الأَسْوَدِ: وَأَمَّا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ الذِي طَعَنَ بَعِيرَ زَيْنَبَ فَأَسْقَطَهَا مِنْهُ، فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ أنهُ مَنْ وَجَدَهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البخاري فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَعْثٍ فَقَالَ: "إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ أَرَدْنَا الخُرُوجَ: "إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا" (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ" (¬2). هَكَذَا بِالإِفْرَادِ، فكأَنَّ إِفْرَادَ هَبَّارِ بنِ الْأَسْوَدِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِهِ كَانَ الأَصْلَ فِي ذَلِكَ، وَالآخَرَ كَانَ تَبعًا له (¬3). وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابنِ عُيَيْنَةَ عَنِ ابنِ أَبِي نَجِيحٍ: أَنَّ هَبَّارَ بنَ الأَسْوَدِ أَصَابَ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَيْءٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَرِيَّةً فَقَالَ: "إِنْ وَجَدْتُمُوهُ فَاجْعَلُوهُ بَيْنَ حَزْمَتَيْ حَطَب ثُمَّ أَشْعِلُوا فِيهِ النَّارَ"، ثُمَّ قَالَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب لا يعذب بعذاب اللَّه - رقم الحديث (3016). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في كراهية حرق العدو بالنار - رقم الحديث (2673). (¬3) انظر فتح الباري (6/ 258).

* فداء العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ" (¬1). فَلَمْ تُصِب هَذِهِ السَّرِيَّةُ هَبَّارَ بنَ الأَسْوَدِ، فَأَهْدَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَمَهُ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- (¬2). * فِدَاء العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-: مِنْ بَيْنِ الأَسْرَى العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، أَسَرَهُ أَبُو اليَسَرِ كَعْبُ بنُ عَمْرٍو الخَزْرَجِيُّ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- كَمَا ذَكَرْنَا. وَكَانَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- رَجُلًا طَوِيلًا (¬3)، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا إِلَى المَدِينَةِ طَلَبَتِ الأَنْصَارُ ثَوْبًا يُلْبِسُونَهُ، فَلَمْ يَجِدُوا قَمِيصًا يَصْلُحُ لَهُ، إِلَّا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ المُنَافِقِ، فكَسَاهُ إِيَّاهُ، وَهُوَ نَفْسُ القَمِيصِ الذِي كَفَّنَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَلُولٍ المُنَافِقَ لَمَّا مَاتَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى وَأُتِيَ بِالعَبَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، فنَظَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ يُقَدَرُ عَلَيْهِ، فكَسَاهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إيَّاهُ، ¬

_ (¬1) أورد الحافظ في الفتح (6/ 559 - وسكت عليه - وانظر سيرة ابن هشام (2/ 268). (¬2) انظر فتح الباري (6/ 259). (¬3) قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 79) في ترجمة العباس -رضي اللَّه عنه-: كان من أطوَلِ الرجال، وأحسَنِهِم صورة، وأبْهَاهُم، وأجْهَرِهِم صوتًا، مَعَ الحِلْمِ الوَافر، والسُّؤْدُدِ.

فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَمِيصهُ الذِي أَلْبَسَهُ (¬1). أَمَّا فِدَاءُ العَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه- فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَن عَنْ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْعَبَّاسِ: "يَا عَبَّاسَ، افْدِ نَفْسَكَ، وَابْنَ أَخِيكَ عَقِيلَ بنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بنَ الحَارِثِ، وحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بنَ جَحْدَمٍ"، أَحَدَ بَنِي الحَارِثِ بنِ فِهْرٍ، فَقَالَ العَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا (¬2)، وَلَكِنَّ القَوْمَ اسْتَكْرَهُونِي، فَقَالَ رَسُولىُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ، إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي حَقًّا، فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ، وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ"، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (6/ 252): أي لعبد اللَّه بن أُبي بن سلول عند دفنه. وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الكسوة للأسارى - رقم الحديث (3008). (¬2) قال الحافظ في الفتح (3/ 584) (7/ 442): اخْتُلِف في الوقت الذي أسلم فيه العباس -رضي اللَّه عنه-، فقيل: أسلم قبل الهجرة، وأقام بأمرِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له في ذلك لمصلحة المسلمين، روى ذلك ابن سعد في طبقاته (4/ 323) من حديث ابن عباس، وفي إسناده الكلبي وهو متروك، ويرده أن العباس أسر ببدر، وقد فَدى نفسه، وَأَما قول أبي رافع -رضي اللَّه عنه- في قصة بدر: "كان الإسلام دخل علينا أهل البيت"، فلا يَدُلُّ على إسلام العباس حينئذ، فإنَّه كان ممن أسِرَ يوم بدر، وفدى نفسه وعَقِيلًا ابن أخيه أبي طالب، ولأجل أنَّه لم يُهَاجر قبل الفتح لم يدخله عمر -رضي اللَّه عنه- في أهل الشورى مع معرِفَتِهِ بفضله واستِسْقَائِهِ به، والمشهور أنَّه أسلم قبل فتح خيبر، ويدل عليه حديث أنس -رضي اللَّه عنه- في قصة الحجاج بن عِلاط. قلت: ستأتي قِصَّة الحجاج بن عِلاط في أحداث غزوة خيبر إن شاء اللَّه.

* موقف الأنصار من العباس -رضي الله عنه-

قَدْ أَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ أُوقِيَّةَ ذَهَبٍ (¬1)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْسِبْهَا مِنْ فِدَايَ، قَالَ: "لَا، ذَلِكَ شَيْءٌ أَعْطَانَاهُ اللَّهُ مِنْكَ"، فَقَالَ العَبَّاسُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِي مَالٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأيْنَ المَالُ الذِي وَضَعْتَهُ بِمَكَّةَ، حَيْثُ خَرَجْتَ، عِنْدِ أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ (¬2)، وَلَيْسَ مَعَكُمَا أَحَدٌ غَيْرُكُمَا؟ ، فَقُلْتَ: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَلِلْفَضْلِ كَذَا، وَلِقُثَمٍ كَذَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ كَذَا"، فَقَالَ العَبَّاسُ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا عَلِمَ بِهَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي وَغَيْرَهَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ (¬3). وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْر أُسِرَ سَبْعُونَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِدَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّة ذَهَبًا، وَجَعَلَ عَلَى عَمِّهِ العَبَّاسِ مِائَةً، وَعَلَى عَقِيلٍ ثَمَانِينَ (¬4). * مَوْقِفُ الأَنْصَارِ مِنَ العَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَتْرُكَ فِدَاءَ العَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ ¬

_ (¬1) الأوقِيَّة: أربعون درهمًا. انظر النهاية (1/ 81). (¬2) أم الفَضْل: هي زوجة العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، واسمها لُبَابة بنت الحارث الهلالية، وقد أسلمت، وهي أُخت ميمونة زوج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر الإصابة (8/ 449). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3310) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر فداء العباس يوم بدر - رقم الحديث (5460) - وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 409). (¬4) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 477) - وأورده الحافظ في الفتح (8/ 58) وحسن إسناده.

* نزول آية

-رضي اللَّه عنه- أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا (¬1) عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ لَا تَذَرُونَ مِنْهُ دِرْهَمًا" (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَالحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يُعْفِ العَبَّاسَ مِنَ الفِدَاءَ؛ لِأنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ مُحَابَاةً له؛ لِكَوْنِهِ عَمَّهُ لَا لِكَوْنِهِ قَرِيبَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَقَطْ، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ القَرِيبَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَظَاهَرَ بِمَا يُؤْذِي قَرِيبَهُ، وَإِنْ كَانَ فِي البَاطِنِ يَكْرَهُ مَا يُؤْذِيهِ، فَفِي تَرْكِ قَبُولِ مَا يَتَبَرَّعُ لَهُ الأَنْصَارُ بِهِ مِنَ الفِدَاءَ تَأْدِيبٌ لِمَنْ يَقَعُ له مِثْلُ ذَلِكَ (¬3). * نُزُولُ آيَةٍ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) قولهم: لابن اختنا عباس: قال الحافظ في الفتح (8/ 57) (5/ 474): أي ابن عبد المطلب، وأم العباس ليست من الأنصار، بل جَدَّته أم عبد المطلب هي الأنصاربة، فأطلقوا على جدَّة العباس أُخْتًا لكونها منهم، وعلى العباس ابنها؛ لكونها جدته، وهي سَلْمى بنت عمرو بن زيد بن النجار من بني الخزرج، وهذا من قُوَّة الذكاء، وحُسْنِ الأدب في الخطاب، وإنما امْتَنَعَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من إجابتهم لِئَلا يكون في الدِّين نوع مُحَاباة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (12) - رقم الحديث (4018). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 58). (¬4) سورة الأنفال آية (70).

قَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: أَعْطَانِي اللَّهُ مَكَانَ العِشْرِينَ أُوقِيَّةً فِي الإِسْلَامِ عِشْرِينَ عَبْدًا، كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ، مَعَ مَا أَرْجُو مِنْ مَغْفِرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (¬1). وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، قَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ كُنْتَ أَخَذْتَ مِنِّي أضْعَافَهَا، فَآتَانِيَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْثُرُوهُ (¬3) فِي المَسْجِدِ"، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلَّا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ العَبَّاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خُذْ"، فَحَثَا (¬4) فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ (¬5)، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: "لَا"، قَالَ: ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر فداء العباس يوم بدر - رقم الحديث (5460) - وإسناده حسن. (¬2) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 477). (¬3) انْثروهُ: أي صُبُّوه. انظر لسان العرب (14/ 37). (¬4) حَثَا: رمى. انظر النهاية (1/ 327). (¬5) يُقِلُّه بضم الياء وتشديد اللام: أي يرفعه ويحمله. انظر لسان العرب (11/ 289).

* فوائد الحديث

فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: "لَا"، فنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ، قَالَ: "لَا" قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: "لَا"، فنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ (¬1). ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ -حَتَّى خَفَى عَلَيْنَا- عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - بَيَانُ كَرَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ إِلَى المَالِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. 2 - وَفِيهِ أَنَّ الإِمَامَ يَنْبَغِي له أَنْ يُفَرِّقَ مَالَ المَصَالِحِ فِي مُسْتَحِقِّيهَا وَلَا يُؤَخِّرَهُ. 3 - وَفِيهِ أَنَّ سَهْمَ القُرْبَى مِنَ الفَيْءِ لَا يَخْتَصُّ بِفَقِيرِهِمْ؛ لِأَنَّ العَبَّاسَ كَانَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ. 4 - وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ جَوَازُ وَضْعِ مَا يَعُمُّ نَفْعُهُ فِي المَسْجِدِ، كَالمَاءَ لِشُرْبِ مَنْ يَعْطَشُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). ¬

_ (¬1) الكَاهِلُ: أعلى الظهر. انظر النهاية (4/ 18). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب القسمة وتعليق القِنْو في المسجد - رقم الحديث (421). (¬3) انظر فتح الباري (2/ 79) - (6/ 405).

* إجلال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمه العباس -رضي الله عنه-

* إِجْلَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمِّهِ العَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُجِلُّ (¬1) عَمَّهُ العَبَّاسَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُجَهِّزُ بَعْثًا فِي مَوْضِعِ سُوقِ النَّخَّاسِينَ اليَوْمَ، إِذْ طَلَعَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا العَبَّاسُ عَمُّ نَبِيَكُمْ، أَجْوَدُ قُريْشٍ كفًّا (¬2) وَأَوْصَلُهَا" (¬3). * وُقُوعُ الإِسْلَامِ فِي قَلْبِ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ: قَدِمَ جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَدِينَةِ لِيَفْدِيَ أَسْرَاهُ، فَوَافَقَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي صَلَاةِ المَغْرِبِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الطُّورِ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ وُقُوعِ الإِسْلَامِ فِي قَلْبِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْتُ فِي فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يُصلِّي بِالنَّاسِ المَغْرِبَ، وَهُوَ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (¬4). ¬

_ (¬1) يُجلّ: يُعظم. انظر النهاية (1/ 278). (¬2) الكَفُّ: اليد: أي كان -رضي اللَّه عنه- كريمًا جوادًا. انظر لسان العرب (12/ 124). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1610) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب وصف المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- عمه العباس بالجود والوصل - رقم الحديث (7052). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب فداء المشركين - رقم الحديث (3050) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب القراءة في الصبح - رقم الحديث (463).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (¬1)، قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطيرَ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ جُبَيْرٌ -رضي اللَّه عنه-: وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا وَقَرَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِي (¬3). قَالَ جُبَيْرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ صَلَاتِهِ، كَلَّمْتُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِي حَيًّا فكلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى (¬4) لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ" (¬5) يَعْنِي أُسَارَى بَدْرٍ. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ، لِأَنَّ المُطْعِمَ بنَ عَدِيٍّ أَجَارَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ، وَكَانَ أَحَدَ الذِينَ قَامُوا فِي ¬

_ (¬1) سورة الطور آية (35 - 37). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الطور - رقم الحديث (4854). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (12) - رقم الحديث (4023). (¬4) قال ابن الأثير في النهاية (5/ 12): النتْنَى: يعني أسارى بدر، سماهم نَتْنَى لكفرهم. والنَّتْنُ: الرائحة الكريهة. انظر لسان العرب (14/ 36). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (12) - رقم الحديث (4024) - وأخرجه في كتاب فرض الخمس - باب ما منّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأسارى من غير أن يُخمس - رقم الحديث (3139) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16733).

* إسلام عمير بن وهب -رضي الله عنه-

نَقْضِ الصَّحِيفَةِ التِي كَتَبَتهَا قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حِينَ حَصَرُوهُمْ فِي الشِّعْبِ (¬1). وَقَدْ مَاتَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ وَالِدُ جُبَيْرٍ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِنَحْوِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ عَلَى كُفْرِهِ (¬2). وَأَسْلَمَ جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ بَيْنَ الحُدَيْبِيَةِ وَالفَتْحِ، وَقِيلَ أَسْلَمَ فِي الفَتْحِ (¬3). * إِسْلَامُ عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ له قَدْرٌ وَشرَفٌ فِي قُرَيْشٍ، وَهُوَ ابنُ عَمِّ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، وَشَهِدَ بَدْرًا مَعَ المُشْرِكِينَ كَافِرًا، وَهُوَ الذِي حَرَّشَ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ مِنْ أَبْطَالِ المُشْرِكِينَ وَشَيَاطِينِهِمْ، فَلَمَّا انْهَزَمَ المُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ، كَانَ عُمَيْرٌ فِيمَنْ نَجَا، وَأُسِرَ ابْنُهُ وَهْبُ بنُ عُمَيْرٍ يَوْمَئِذٍ، فَجَلَسَ يَوْمًا مَعَ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ فِي الحِجْرِ -حِجْرِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِيَسِيرٍ، فتَذَاكَرَ أَصْحَابَ القَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ مَا فِي العَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ، فَقَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ له عِنْدِي قَضَاءٌ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةً (¬4)، ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ، فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ، أَنَا ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 60). (¬2) انظر أسد الغابة (1/ 310). (¬3) انظر الإصابة (1/ 517) - أسد الغابة (1/ 310). (¬4) العِلَّةُ: الحَدَث يَشْغَلُ صاحبه عن حاجته، كأن تلك العِلَّة صارت شُغلًا ثانيًا مَنَعَه عن =

أَقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجَزُ عَنْهُمْ، فَقَالَ له عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأنْكَ، قَالَ: أَفْعَلُ، ثُمَّ أَمَرَ عُمَيْرٌ بِسَيْفِهِ، فَشُحِذَ (¬1) لَهُ، وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ، فَبَيْنَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فِي نَفَرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ بِهِ مِنْ عَدُوِّهِمْ، إِذْ نَظَرَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ حِينَ أنْاخَ (¬2) عَلَى بَابِ المَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا (¬3) السَّيْفَ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: هَذَا الكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ، وَاللَّهِ مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ، وَهُوَ الذِي حَرَّشَ (¬4) بَيْنَنَا وَحَزَرَنَا (¬5) لِلْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ" فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ (¬6) فِي عُنُقِهِ فَلَبَّبَهُ (¬7) بِهَا، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الخَبِيثِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ، ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ = شُغْله الأول. انظر لسان العرب (9/ 367). (¬1) يُقال: شَحَذْت السيف والسكين: إذا حدَدْتُه بالمسن. انظر النهاية (2/ 402). (¬2) أنَاخَ الإبل: أبْرَكَها فبركت. انظر لسان العرب (14/ 312). (¬3) توَشَّحَ الرجلُ بِسَيفه: أي لَبِسَه. انظر لسان العرب (15/ 306). (¬4) حرَّشَ بينهم: أفْسَدَ وأغْرَى بعضهم ببعض. انظر لسان العرب (3/ 123). (¬5) حَزَرَه: قَدَّرَه. انظر لسان العرب (3/ 150). (¬6) حمالة السيف: عِلّاقته. انظر لسان العرب (3/ 334). (¬7) لَبَّبْتُ الرجلَ: إذا جعلتُ في عُنُقِه ثوبًا أو غيره وجَرَرْتُه به. انظر النهاية (4/ 194).

-صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعُمَرُ -رضي اللَّه عنه- آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، قَالَ: "أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ"، فَدَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحًا -وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمْ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَكرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلَامِ، تَحِيَّةِ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ بِهَا لَحَدِيثَ عَهْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ " قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الذِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَأَحْسِنُوا فِيهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟ " قَالَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ عَنَّا شَيْئًا؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اصْدُقْنِي، مَا الذِي جِئْتَ لَهُ؟ " قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ فِي الحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ القَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ". فَقَالَ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنَ الوَحْي، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالحَمْدُ للَّهِ الذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، وَسَاقَنِي هَذَا المَسَاقَ، ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ، فَفَرِحَ المُسْلِمُونَ حِينَ هَدَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "فَقِّهُوا أَخَاكمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ القُرْآنَ، وأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ"، فَفَعَلُوا.

* فرح النجاشي بنصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بدر

ثُمَّ قَالَ عُمَيْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي، فَأَقْدِمَ مَكَّةَ، فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَى رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِلَى الإِسْلَامِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ، وَإِلَّا آذَيْتُهُمْ فِي دِينِهِمْ كَمَا كُنْتُ أُوذِي أَصْحَابَكَ فِي دِينِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرٌ، يَقُولُ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الآنَ فِي أَيَّامٍ، تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ، وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ، حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ فَأَخْبَرَهُ عَنْ إِسْلَامِ عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ، فَحَلَفَ صَفْوَانُ أَنْ لَا يُكَلِّمَ عُمَيْرًا أَبَدًا، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا. فَلَمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكَّةَ أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى الإِسْلَامِ، وَيُؤْذِي مَنْ خَالفَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ (¬1). قُلْتُ: وَقَدْ أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الأَسْرَى عَلَى فتَرَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَبَعْدَهَا. * فَرَحُ النَّجَاشِيِّ بِنَصْرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَدْرٍ: وَلَمَّا بَلَغَ النَّجَاشِيَّ نَصْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَدْرٍ، فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا، فَقَدْ ¬

_ (¬1) أخرج قصة إسلام عمير بن وهب -رضي اللَّه عنه-: ابن إسحاق في السيرة (2/ 272) بسند صحيح مرسل. قال الحافظ في الإصابة (4/ 60): قال موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب مرسلًا، وذكر قصة عمير بن وهب -رضي اللَّه عنه-، وجاء من وجهٍ آخر موصولًا أخرجه ابن مندة.

* فضل من شهد غزوة بدر الكبرى

رَوَى البَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَرْسَلَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، عَلَيْهِ خِلْقَانٌ (¬1) جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: فَأَشْفَقْنَا مِنْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وُجُوهِنَا، قَالَ: إِنِّي أُبَشِّرُكُمْ بِمَا يَسُرّكُمْ، إِنَّهُ جَاءَنِي مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ عَيْنٌ (¬2) لِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ نَصَرَ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُ، وَأُسِرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، الْتَقَوْا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: بَدْرٌ، كَثِيرُ الأَرَاكِ (¬3)، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، كُنْتُ أَرْعَى بِهِ لِسَيِّدِي، رَجُلٌ مِنْ ضَمْرَةَ إِبِلَهُ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: مَا بَالُكَ جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ لَيْسَ تَحْتَكَ بِسَاطٌ، وَعَلَيْكَ هَذِهِ الأَخْلَاقُ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ حَقًّا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُحْدِثُوا للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَوَاضُعًا عِنْدَمَا أَحْدَثَ لَهُمْ نِعْمَةً، فَلَمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِي نَصْرَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحْدَثْتُ له هَذَا التَّوَاضُعَ (¬4). * فَضْلُ مَنْ شَهِدَ غَزْوَةَ بَدْرٍ الكُبْرَى: جَاءَ فِي فَضْلِ مَنْ شَهِدَ غَزْوَةَ بَدْرٍ الكُبْرَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: ¬

_ (¬1) خِلْقَان: جمع خَلِق، وثوبٌ خَلِق: أي بَالِي. انظر لسان العرب (4/ 195). (¬2) العين: الجَاسُوس. انظر النهاية (3/ 299). (¬3) الأرَاك: هو شَجَرٌ معروف. انظر النهاية (1/ 43). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 134) - سبل الهدى والرشاد (4/ 68) - البداية والنهاية (3/ 326).

مَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاذِ بنِ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: "مِنْ أَفْضَلِ المُسْلِمِينَ" -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلَائِكَةِ (¬1). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جِبْرِيلُ أَوْ مَلَكٌ، فَقَالَ: كَيْفَ أَهْلُ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُمْ عِنْدَنَا أَفَاضِلُ النَّاسِ"، قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ عِنْدَنَا مِنْ المَلَائِكَةِ (¬2). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فِي قِصَّةِ حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَمَا أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ عَزْمَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ. . . فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُول وَالمُؤْمِنِينَ فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عنقه، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَليْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّة" أَوْ "فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب شهود الملائكة بدرًا - رقم الحديث (3992). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن أهل بدر هم أفضل الصحابة - رقم الحديث (7224) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15820).

* استشكال حديث

يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"، فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُول أَعْلَمُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفي هَذَا الحَدِيثِ بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ لَمْ تَقَعْ لِغَيْرِهِمْ (¬2). * اسْتِشْكَالُ حَدِيثٍ: وَقَدِ اسْتُشْكِلَ قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ" فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ خِلَافُ عَقْدِ الشَّرْعِ، قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الخِطَابَ خِطَابُ إِكْرَامٍ وَتَشْرِيفٍ، تَضمَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءَ حَصَلَتْ لَهُمْ حَالَة غُفِرَتْ بِهَا ذُنُوبُهُمُ السَّالِفَةُ، وتَأَهَّلُوا أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ مَا يُسْتَأْنَفُ مِنَ الذُّنُوبِ اللَّاحِقَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الصَّلَاحِيَةِ لِلشَّيْءِ وُقُوعُهُ، وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ صِدْقَ رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي كُلِّ مَنْ أَخْبَرَ عَنه بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عَلَى أَعْمَالِ الجَنَّةِ إِلَى أَنْ فَارَقُوا الدُّنْيَا، وَلَوْ قُدِّرَ صُدُورُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِهِمْ لَبَادَرَ إِلَى التَّوْبَةِ وَلَازَمَ الطَّرِيقَ المُثْلَى، وَيَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِالقَطْعِ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى سِيَرِهِمْ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدرًا - رقم الحديث (3983) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2494) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (600) (7940). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 37). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 37) - (9/ 626).

وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَوْلُه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ تَقَعُ مِنْهُمْ -كَمَا وَقَعَ مِسْطَحٌ -رضي اللَّه عنه- فِي حَقِّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قِصَّةِ الإِفْكِ، وَكَمَا شَرِبَ قُدَامَةُ بنُ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- الخَمْرَ- مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} (¬1) فَقَالَ له عُمَرُ: أَخْطَأْتَ التَّأوِيلَ، فَحَدَّهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- (¬2) لَكِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالمَغْفِرَةِ تَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ المَشْهَدِ العَظِيمِ -مَشْهَدِ بَدْرٍ- (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبَ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ -رضي اللَّه عنه- جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالحُدَيْبِيَةَ" (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ عَطَاءُ البَدْرِيِّينَ ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (93). (¬2) انظر الإصابة (5/ 324) - وانظر سير أعلام النبلاء (1/ 161). (¬3) انظر فتح الباري (9/ 422). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2495) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14484) - (27042).

خَمْسَةَ آلَافٍ، خَمْسَةَ آلَافٍ، وَقَالَ عُمَرُ: لَأُفَضِّلَنَّهُمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ (¬1). وَأَخْرَجَ البَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَرْجُو (¬2) أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" (¬3). وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ حَارِثَةَ بنِ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَمَا قُتِلَ وَكَانَ فِي النَّظَّارَةِ، وَقَوْلِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأُمِّهِ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى" (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعَلِّقًا عَلَى حَدِيثِ حَارِثَةَ بنِ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: وَفي هَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الذِي لَمْ يَكُنْ فِي بُحَيْحَةِ القِتَالِ (¬5)، وَلَا فِي حَوْمَةِ الوَغَى (¬6)، بَلْ كَانَ مِنَ النَّظَّارَةِ مِنْ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الحَوْضِ، وَمَعَ هَذَا أَصَابَ بِهَذَا المَوْقِفِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (12) - رقم الحديث (4022). (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 37): قال العلماء: إن الترجي في كلام اللَّه، وكلام رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- موقوع. (¬3) أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 349)، وقال: تفرد البزار بهذا الحديث، ولم يخرجوه، وهو على شرط الصحيح - واللَّه أعلم. (¬4) تقدم تخريج هذا الحديث. (¬5) بُحَيحة القتال: أي سَاحَتُها. انظر لسان العرب (1/ 534). (¬6) حَوْمَة القتال: أي مُعْظَمُهُ وأشدُّ موضع فيه. انظر لسان العرب (3/ 407) - والوغى: الحرب نفسها. انظر لسان العرب (15/ 353).

* ما نزل من القرآن في غزوة بدر

الفِرْدَوْسَ التِي هِيَ أَعْلَى الجِنَانِ وَأَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الجَنَّةِ التِي أَمَرَ الشَّارعُ أُمَّتَهُ إِذَا سَأَلُوا اللَّهَ الجَنَّةَ أَنْ يَسْأَلُوهُ إِيَّاهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ هَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي نَحْرِ العَدُوِّ، وَعَدَدُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْعَافِهِمْ عَدَدًا وَعُدَدًا (¬1). * مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: وَحَوْلَ مَوْضُوعِ هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ نَزَلَتْ سُورَةُ الأَنْفَالِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُورَةُ الأَنْفَالِ؟ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ (¬2). وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْقَضَى أَمْرُ بَدْرٍ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنَ القُرْآنِ الأَنْفَالَ بِأَسْرِهَا (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 348). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الأنفال - رقم الحديث (4645). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 278).

الأحداث بين غزوة بدر، وغزوة أحد

الأَحْدَاثُ بيْنَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَغَزْوَةِ أُحُدٍ وَفَاةُ رقيَّةَ بِنْتِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ وَفَاتُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَمَا وَصَلَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- المَدِينَةَ بِالبُشْرَى بِانْتِصَارِ المُسْلِمِينَ فِي بَدْرٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَدْرٍ بَعَثَ بَشِيرينِ إِلَى أَهْلِ المَدِينَةِ، بَعَثَ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَهْلِ العَالِيَةِ يُبَشِّرُونَهُمْ بِفَتْحِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَوَافَقَ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ ابْنُهُ أُسَامَةُ حِينَ سُوِّيَ التُّرَابُ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وَكَانَتْ رُقَيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَدِ اشْتَكَتْ، فَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهَا زَوْجَهَا عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمْ يَشْهَدْ عُثْمَانُ بَدْرًا بِسَبَبِ تَخَلُّفِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب كان زيد بن حارثة أحب القوم إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (5012).

إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ" (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الخمس - باب إذا بعث الإمام رسولًا في حاجة - رقم الحديث (3130).

أول عيد فطر يمر على المسلمين

أَوَّلُ عِيدِ فِطْرٍ يَمُرُّ عَلَى المُسْلِمِينَ قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الرَّحْمَنِ المُبارَكْفُورِي: وَمِنْ أَحْسَنِ المَوَاقِعِ وَأَرْوَعِ الصُّدَفَاتِ أَنَّ أَوَّلَ عِيدٍ تَعَيَّدَ بِهِ المُسْلِمُونَ فِي حَيَاتِهمْ هُوَ العِيدُ الذِي وَقَعَ فِي شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ، إِثْرَ الفَتْحِ المُبِينِ الذِي حَصَلُوا عَلَيْهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَمَا أَرْوَعَ هَذَا العِيدَ السَّعِيدَ الذِي جَاءَ بِهِ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ تَوَّجَ هَامَتَهُمْ (¬1) بِتَاجِ الفَتْحِ وَالعِزِّ، وَمَا أَرْوَقَ مَنْظَرَ تِلْكَ الصَّلَاةِ التِي صَلَّوْهَا بَعْدَ أَنْ خَرَجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ، وَقَدْ فَاضَتْ قُلُوبُهُمْ رَغْبَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَنِينًا إِلَى رَحْمَتِهِ وَرِضْوَانِهِ بَعْدَمَا أَوْلَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ، وَأَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ، وَقَدْ ذَكَّرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بذَلِكَ فَقَالَ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). وَكَانَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: ¬

_ (¬1) الهَامَةُ: أعْلَى الرأس. انظر لسان العرب (15/ 162). (¬2) سورة الأنفال آية (26) - وانظر كلام الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في الرحيق المختوم ص 231.

* هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في العيد

"إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ"، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَال: قَدِمَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الفِطْرِ، وَيَوْمَ النَّحْرِ" (¬1). * هَدْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي العِيدِ: وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عِيدِ الفِطْرِ أَنَّهُ لَا يَخْرُج إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى يَأْكُلَ ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ وِتْرًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ، وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا (¬2). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَال: مَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ فِطْرٍ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12006) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1488). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العيدين - باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج - رقم الحديث (953). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب العيدين - رقم الحديث (2814).

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَلْبَسُ أَجْمَلَ ثِيَابِهِ، فَكَانَ له حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا لِلْعِيدَيْنِ وَالجُمُعَةِ (¬1). وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْرُجُ مَاشِيًا، وَالعَنَزَةُ (¬2) تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى المُصَلَّى، نُصِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُصَلِّيَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ المُصَلَّى كَانَ إِذْ ذَاكَ فَضَاءً لَمْ يَكُنْ فِيهِ بِنَاءٌ وَلَا حَائِطٌ، وَكَانَتِ الحَرْبَةُ سُتْرَتَهُ (¬3). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَغْدُو إِلَى المُصَلَّى وَالعَنَزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ وَتُنْصَبُ بِالمُصَلَّى بيْنَ يَدَيْهِ، فيصَلِّي إِلَيْهَا (¬4). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخَالِفُ الطَّرِيقَ يَوْمَ العِيدِ، فَيَذْهَبُ فِي طَرِيقٍ، وَيَرْجعُ فِي آخَرَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ (¬5). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (1/ 425). (¬2) العَنَزَة: مثل نِصْفِ الرُّمح أو أكبر شيئًا. انظر النهاية (3/ 278). (¬3) انظر زاد المعاد (1/ 426). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العيدين - باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد - رقم الحديث (973). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العيدين - باب من خالف الطريق إذا رجع من العيد - رقم الحديث (986).

* الحكمة في مخالفة الطريق

-رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ إِلَى العِيدَيْنِ، رَجَعَ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ الذِي خَرَجَ مِنْهُ (¬1). * الحِكْمَةُ فِي مُخَالفَةِ الطَّرِيقِ: وَالحِكْمَةُ مِنْ مُخَالفَةِ الطَّرِيقِ: لِيُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِ الطَّرِيقَيْنِ، وَقِيلَ: لِيَنَالَ بَرَكتَهُ الفَرِيقَانِ، وَقِيلَ: لِيَقْضِيَ حَاجَةَ مَنْ لَهُ حَاجَةٌ مِنْهُمَا، وَقِيلَ: لِيُظْهِرَ شَعَائِرَ الإِسْلَامِ فِي سَائِرِ الفِجَاجِ وَالطُّرُقِ، وَقِيلَ: لِيَغِيظَ المُنَافِقِينَ بِرُؤْيَتِهِمْ عِزَّةَ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَقِيَامَ شَعَائِرِهِ، وَقِيلَ: لِتَكْثُرَ شَهَادَةُ البِقَاعِ، فَإِنَّ الذَّاهِبَ إِلَى المَسْجِدِ وَالمُصَلَّى إِحْدَى خُطْوَتَيْهِ تَرْفَعُ دَرَجَةً، وَالأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً حَتَّى يَرْجعَ إِلَى مَنْزِلهِ، وَقِيلَ -وَهُوَ الأَصَحُّ-: إِنَّهُ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وَلغَيْرِهِ مِنَ الحِكَمِ التِي لَا يَخْلُو فِعْلُهُ عَنْهَا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب العيدين - رقم الحديث (2815) - وأخرجه ابن ماجة - كتاب إقامة الصلاة - باب ما جاء في الخروج يوم العيد من طريق والرجوع من غيره - رقم الحديث (1301). (¬2) انظر زاد المعاد (1/ 432).

زواج علي -رضي الله عنه- من فاطمة رضي الله عنها

زَوَاجُ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- مِنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَزَوَّجَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي السَّنَةِ الأُولَى مِنَ الهِجْرَةِ، وَبَنَى بِهَا (¬1) فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ، عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ الشَّهْرِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي شَوَّالَ، فَإِنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ كَانَتْ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي ذِي الحِجَّةِ (¬2). وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بِفَاطِمَةَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ (¬3) مِنْ نَصِيبِي مِنَ المَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الخُمُسِ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- واعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ (¬4) أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسٍ (¬5). ¬

_ (¬1) البِنَاء: الدُّخول بالزوجةِ. انظر النهاية (1/ 156). (¬2) انظر فتح الباري (6/ 319). (¬3) الشَّارِفُ: الناقة المُسِنَّة. انظر النهاية (2/ 415). (¬4) الإِذْخِر بكسر الهمزة: هي حَشِيشة طيِّبة الرائحة تسقَّف بها البيوتُ فوقَ الخَشَب. انظر النهاية (1/ 36). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الخمس - باب فرض الخمس - رقم الحديث =

* خطبتها وصداقها رضي الله عنها

وَكَانَ عُمُرُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَوْمَ بَنَى بِهَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً (¬1)، وَعُمُرُ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- يَومَئِذٍ خَمْسَهٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً (¬2). * خِطْبَتُهَا وَصَدَاقُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَدْ سَبَقَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فِي خِطْبَتِهِ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَرَدَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لِكَوْنِهَا كَانَتْ صَغِيرَةً، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهَا صَغِيرَةٌ"، فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فَزَوَّجَهَا مِنْهُ (¬3). قَالَ الإِمَامُ السِّنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ المُوَافَقَةَ فِي السِّنِّ أَوِ المُقَارَبَةِ مَرْعِيَّةٌ لِكَوْنِهَا أَقْرَبَ إِلَى المُؤَالَفَةِ، ثُمَّ قَدْ يُتْرَكُ ذَاكَ لِمَا هُوَ ¬

_ = (3091) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأشرِبَة - باب تحريم الخمر - رقم الحديث (1979). (¬1) انظر الإصابة (8/ 264) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 253). (¬2) انظر البداية والنهاية (6/ 725). (¬3) أخرجه ابن حبَّان في صحيحه - كتاب إخبَاره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر الإخبار عما قاله المصطفى لأبي بكر وعمر عند خِطبَتِهما فاطمة ابنته - رقم الحديث (6948) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب النكاح باب تزويج المرأة مثلها من الرجال في السن - رقم الحديث (5310).

أَعْلَى مِنْهُ كَمَا فِي تَزْوِيجِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬1). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: عِنْدَكَ فَاطِمَةُ (¬2)، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا حَاجَةُ ابنِ أَبِي طَالِبٍ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَرْحَبًا وَأَهْلًا"، لَمْ يَزِدْهُ عَلَيْهَا، فَخَرَجَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى أُولَئِكَ الرَّهْطِ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي، وَلَكِنَّهُ قَالَ لِي: "مَرْحَبًا وَأَهْلًا"، قَالُوا: يَكْفِيكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِحْدَاهُمَا أَعْطَاكَ الأَهْلَ، وَأَعْطَاكَ المَرْحَبَ (¬3). وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: أَرَدْتُ أَنْ أَخْطِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَتَهُ، فَقُلْتُ: مَا لِي مِنْ شَيْءٍ فَكَيْفَ؟ ثُمَّ ذَكَرْتُ صِلَتَهُ وَعَائِدَتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَطَبْتُهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ " قُلْتُ: لَا. قَالَ: "فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟ " (¬4). قَالَ: هِيَ عِنْدِي. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) انظر حاشية النسائي (5/ 154). (¬2) في رواية البزار: قالوا لعلي -رضي اللَّه عنه-: لو خَطَبت فاطمة. (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5947). (¬4) الحُطْمِيَّة: هي التي تَحْطِمُ السيوف، أي تكسرها، وقيل: هي العَرِيضَة الثَّقِيلة، وقيل: =

* جهازها رضي الله عنها

"فَأَعْطِنِيهَا"، قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ (¬1). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا اسْتَحَلَّ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلاَّ بِبَدَنٍ (¬2) مِنْ حَدِيدٍ (¬3). * جِهَازُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: "جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَاطِمَةَ فِي خَمِيلٍ (¬4)، وَقِرْبَةٍ (¬5)، وَوِسَادَةِ أَدَمٍ (¬6) حَشْوُهَا لِيفُ الإِذْخِرِ" (¬7). ¬

_ = هي منسوبةٌ إلى بَطْنٍ من عبد القَيس يُقال لهم: حُطَمَةُ بن مُحَارب، كانوا يعملون الدروع، وهذا أشبه الأقوال. انظر النهاية (1/ 387). (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر ما أعطى علي -رضي اللَّه عنه- في صَدَاق فاطمة - رقم الحديث (6945) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب النكاح - باب تحلة الخلوة وتقديم العطية قبل البناء - رقم الحديث (5541) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (603). (¬2) البَدَن: الدِّرع. انظر النهاية (1/ 108). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر وصف الدرع الحُطمية - رقم الحديث (6946). (¬4) في رواية ابن حبان قال: خَمِيلَة. قال ابن حبان في صحيحه (15/ 399): والخميلة: قَطِيفَة بيضاء من الصُّوف. (¬5) القِربة: يُستسقى بها، وتكون للماءِ. انظر لسان العرب (11/ 86). (¬6) الأدِيمُ: الجِلد. انظر لسان العرب (1/ 96). (¬7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (643) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر وصف ما جُهزت به فاطمة - رقم الحديث (6947).

* وليمة العرس

* وَلِيمَةُ (¬1) العُرْسِ: وَلَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَبْنِيَ بِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَلِيُّ، إِنَّهُ لَابُدَّ لِلْعُرْسِ مِنَ وَلِيمَةٍ". فَقَالَ سَعْدٌ: عَلَيَّ كَبْشٌ، وَجَمَعَ لَهُ رَهْطٌ مِنَ الأَنْصَارِ آصُعًا (¬2) مِنْ ذُرَةٍ (¬3). فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ البِنَاءِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَلْقَانِي"، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَفْرَغَهُ عَلَى عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِمَا، وَبَارِكْ عَلَيْهِمَا، وَبَارِكْ فِي نَسْلِهِمَا" (¬4). * أَوْلَادُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَوَلَدَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: الحَسَنَ، وَالحُسَيْنَ، وَمُحَسِّنًا، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَزَيْنبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ. أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الحَسَنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ هُوَ ¬

_ (¬1) الولِيمَة: هي الطعام الذي يُصنع عند العرس. انظر النهاية (5/ 196). (¬2) الصَّاع: مكيالٌ لأهل المدينة. انظر لسان العرب (7/ 442). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23035) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1178) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5947) وإسناده حسن. (¬4) أخرج ذلك الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5947) وإسناده حسن.

* عقيقة الحسن والحسين رضي الله عنهما

حَسَنٌ"، فَلَمَّا وُلِدَ الحُسَيْنُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ"، فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ " قَالَ: قُلْتُ: حَرْبًا. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ هُوَ مُحَسِّنٌ"، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ هَارُونَ: شَبْرٌ وَشَبِيرٌ وَمُشَبِّرٌ" (¬1). وَجَاءَ فِي تَسْمِيَةِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ سَبَبٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا وُلِدَ الحَسَنُ سَمَّاهُ حَمْزَةَ، فَلَمَّا وُلِدَ الحُسَيْنُ سَمَّاهُ بِعَمِّهِ جَعْفَرَ، قَالَ فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُغَيِّرَ اسْمَ هَذَيْنِ"، فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَمَّاهُمَا حَسَنًا وَحُسَيْنًا (¬2). * عَقِيقَةُ (¬3) الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَعَقَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا يَوْمَ السَّابعِ مِنْ وِلَادَتِهِمَا، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ يَوْمَ السَّابِعِ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (769) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر الحسن والحسين - رقم الحديث (6958). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1370) (¬3) العَقِيقَة: هي الذَّبِيحة التي تُذبح عن المولود، وأصل العَقِّ: الشق والقطع، وقيل للذبيحة عَقِيقة؛ لأنها يُشَقُّ حَلْقُها. انظر النهاية (3/ 250).

* شأن الحسن بن علي -رضي الله عنه- وفضله

وَسَمَّاهُمَا، وَأَمَرَ أَنْ يُمَاطَ عَنْ رَأْسِهِمَا الأَذَى (¬1). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقَّ عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا (¬2). * شَأْنُ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- وَفَضْلُهُ: فَأَمَّا الحَسَنُ بنُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَهُوَ سِبْطُ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ، وَرَيْحَانَتُهُ، وَأَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَجْهٍ (¬4)، وُلِدَ -رضي اللَّه عنه- لِلنِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ (¬5)، فَحَنَّكَهُ (¬6) رَسُولُ اللَّهِ بِرِيقِهِ، وَسَمَّاهُ حَسَنًا، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الأطعمة - باب العقيقة - رقم الحديث (5311) - والحاكم في المستدرك - كتاب الذبائح - باب عق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحسن والحسين يوم السابع - رقم الحديث (7662). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الضحايا - باب في العقيقة - رقم الحديث (2841) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده عن بريدة بن الحُصيب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (23001) وإسناده قوي - وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5309) - وإسناده صحيح. (¬3) السِّبط: الطائفة والقطع منه -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر النهاية (2/ 301). (¬4) أخرج الإمام البخاري صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب الحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رقم الحديث (3752) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: لم يكن أحد أشبه بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬5) انظر فتح الباري (7/ 464) - سير أعلام النبلاء (3/ 246). (¬6) قال الحافظ في الفتح (11/ 5): التحنيك: مضغ الشيء ووضعه في فم الصبي، وذلك حنكه به، يصنع ذلك بالصبي لِيَتَمَرَّن على الأكل ويقوي عليه.

وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبَوَيْهِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، وَرُبَّمَا مَصَّ لِسَانَهُ (¬1) وَاعْتَنَقَهُ وَدَاعَبَهُ، وَرُبَّمَا جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَاجِدٌ فِي الصَّلَاةِ، فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُطِيلُ السُّجُودَ مِنْ أَجْلِهِ (¬2)، ورُبَّمَا صَعِدَ مَعَهُ إِلَى المِنْبَرِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الحَدِيثِ: أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ رَأَى الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ مُقْبِلَيْنِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمَا، فَاحْتَضَنَهُمَا، وَأَخَذَهُمَا مَعَهُ إِلَى المِنْبَرِ، وَقَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ. .}، إِنِّي رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ نَزَلْتُ إِلَيْهِمَا" (¬3). قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ عَنِ الحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَقَدْ كَانَ هَذَا الإِمَامُ سَيِّدًا، وَسِيمًا، جَمِيلًا، عَاقِلًا، رَزِينًا (¬4)، جَوَادًا، مُمَدَّحًا، خَيِّرًا، دَيِّنًا، وَرِعًا، مُحْتَشِمًا، كَبِيرَ الشَّأْنِ (¬5). أَخْرَجَ الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ مُتَّكِئًا عَلَى يَدِي، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16848) - وإسناده صحيح. (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16033) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الصلاة - باب هل يجوز أن تكون سَجْدَة أطولَ من سجدة - رقم الحديث (731) - وإسناده صحيح. (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22995) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الفرائض - باب ذوي الأرحام - رقم الحديث (6039) - وإسناده قوي. (¬4) يُقال: رجل رَزِين: إذا كان ذُو ثَبَات ووقَارٍ وسُكُون. انظر النهاية (2/ 201). (¬5) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 253).

فَطَافَ فِيهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَاحْتَبَى (¬1) فِي المَسْجِدِ، وَقَالَ: "أَيْنَ لُكَاعٌ (¬2)؟ ادْعُوا لِي لُكَاعًا"، فَجَاءَ الحَسَنُ، فَاشْتَدَّ حَتَّى وَثَبَ فِي حَبْوَتِهِ، فَأَدْخَلَ فَمَهُ فِي فَمِهِ ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ" ثَلَاثًا (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ وَفِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَامِلًا الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، وَلُعَابُهُ يَسِيلُ عَلَيْهِ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ جَاءَ الحَسَنُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ" (¬5). ¬

_ (¬1) الاحتِبَاء: هو أن يَضُمَّ الإنسان رجليه إلى بَطْنِه بثوبٍ يجمعُهُما به مع ظهره، ويشدُّه عليهما. انظر النهاية (1/ 324). (¬2) اللُّكَعُ: بضم اللام يريد به الصغير، يقال للصغير: لُكَعٌ، فإن أُطْلِقَ على الكبير، أُرِيدَ به الصغير العلم. انظر جامع الأصول (9/ 29). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب البيوع - باب ما ذُكِرَ في الأسواق - رقم الحديث (2122) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل الحسن والحسين -رضي اللَّه عنهما- رقم الحديث (2421) (57) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10891). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (9779) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1370). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلح - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "إن ابنِي هذا سَيِّد" - رقم الحديث (2704) - وأخرجه في كتاب الفتن- =

* فوائد الحديث

وَالمَقْصُودُ بِالفِئَتَيْنِ فِي هَذَا الحَدِيثِ جَيْشُ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَجَيْشُ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، وَبُويِعَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ بِالخِلَافَةِ تَنَازَلَ عَنْهَا لِمُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ تَسْلِيمُ الحَسَنِ -رضي اللَّه عنه- الأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي الخَامِسِ مِنْ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ العَامُ عَامَ الجَمَاعَةِ؛ لِاجْتِمَاعِ الكَلِمَةِ فِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه-. قَالَ ابْنُ العِمَادِ فِي شَذَرَاتِ الذَّهَبِ فِي أَحْدَاثِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْهَا: سَارَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- بِجُيُوشِهِ نَحْوَ الشَّامِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ قَيْسُ بنُ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ -رضي اللَّه عنه- بِجُيُوشِهِ فَالْتَقَوْا بِنَاحِيَةِ الأَنْبَارِ (¬1)، فَوَفَّقَ اللَّهُ الحَسَنَ -رضي اللَّه عنه-، فَحَقَنَ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ، وَتَرَكَ الأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ، وَظَهَرَ حِينَئِذٍ صِدْقُ الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ فِيهِ حَيْثُ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ" (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. ¬

_ = باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن بن علي: "إِنَّ ابنِي هذا لَسَيِّد" - رقم الحديث (7109). (¬1) الأنْبَارُ: هي مدينة في العراق على الفُرَاتِ في غَرْبي بغداد. انظر معجم البلدان (1/ 206). (¬2) انظر شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/ 228).

2 - وَمَنْقَبَةٌ لِلْحَسَنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ تَرَكَ المُلْكَ لَا لِقِلَّةٍ، وَلَا لِذِلَّةٍ وَلَا لِعِلَّةٍ، بَلْ لِرَغْبَتِهِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ لِمَا رَآهُ مِنْ حَقْنِ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ، فَرَاعَى أَمْرَ الدِّينِ وَمَصْلَحَةَ الأُمَّةِ. 3 - وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الخَوَارِجِ الذِينَ كَانُوا يُكَفِّرُونَ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- وَمَنْ مَعَهُ، وَمُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- وَمَنْ مَعَهُ، بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلطَّائِفَتَيْنِ بِأَنَّهُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ. 4 - وَفِيهِ فَضِيلَةُ الإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقْنِ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ. 5 - وَفِيهِ وِلَايَةُ المَفْضُولِ الخِلَافَةَ مَعَ وُجُودِ الأَفْضَلِ؛ لِأَنَّ الحَسَنَ -رضي اللَّه عنه- وَمُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- وَلِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا الخِلَافَةَ، وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، وَسَعِيدُ بنُ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- فِي الحَيَاةِ، وَهُمَا بَدْرِيَّانِ. 6 - وَفِيهِ جَوَازُ خَلْعِ الخَلِيفَةِ نَفْسَهُ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلْمُسْلِمِينَ. 7 - وَفِيهِ النُّزُولُ عَنِ الوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ بِالمَالِ. 8 - وَفِيهِ أَنَّ السِّيَادَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالأَفْضَلِ، بَلْ هُوَ الرَّئِيسُ عَلَى القَوْمِ وَالجَمْعُ سَادَةٌ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّؤْدُدِ، وَقِيلَ مِنَ السَّوَادِ لِكَوْنِهِ يَرْأَسُ عَلَى السَّوَادِ العَظِيمِ مِنَ النَّاسِ أَي الأَشْخَاصِ الكَثِيرَةِ. 9 - وَفِيهِ إِطْلَاقُ الِابْنِ عَلَى ابْنِ البِنْتِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (14/ 571).

* شأن الحسين بن علي -رضي الله عنه- وفضله

* شَأْنُ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- وَفَضْلُهُ: وَأَمَّا الحُسَيْنُ -رضي اللَّه عنه- فَوُلِدَ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الهِجْرَةِ (¬1)، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَسْفَلِ صَدْرِهِ إِلَى أَسْفَلِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ، وَالفَضَائِلِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: الحَسَنُ أَشْبَهُ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالحُسَيْنُ أَشْبَهُ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الطَّيَالِسِيِّ، قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: كَانَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ وَجْهِهِ إِلَى سُرَّتِهِ، وَكَانَ الحُسَيْنُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا أَسْفَلَ ذَلِكَ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (7/ 465) - سير أعلام النبلاء (3/ 280). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - رقم الحديث (6974) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (774) - وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1366). (¬3) أخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (132). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10999) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن سبطي المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- =

* مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: كُنْتُ شَاهِدًا لِابْنِ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَمِعْتُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا" (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: أَوْرَدَ ابْنُ عُمَرَ هَذَا مُتَعَجِّبًا مِنْ حِرْصِ أَهْلِ العِرَاقِ عَلَى السُّؤَالِ عَنِ الشَّيْءِ اليَسِيرِ، وَتَفْرِيطِهِمْ فِي الشَّيْءِ الجَلِيلِ (¬2). * مَقْتَلُ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَقَدْ قُتِلَ الحُسَيْنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ الجُمُعَةِ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ المُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ، وَلَهُ مِنَ العُمُرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً (¬3). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَفِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالحُسَيْنُ ¬

_ = يكونان في الجنة سيدا شباب أهل الجنة - رقم الحديث (6959). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب الحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رقم الحديث (3753) - وأخرجه في كتاب الأدب - باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته - رقم الحديث (5994) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5568). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 469). (¬3) انظر البداية والنهاية (8/ 596).

* شأن محسن بن علي رضي الله عنهما

مَعِي فَبَكَى، فَتَرَكْتُهُ، فَدَنَا مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ جِبْرِيلُ: أَتُحِبُّهُ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". فَقَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ سَتَقْتُلُهُ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ مِنْ تُرْبَةِ الأَرْضِ التِي يُقْتَلُ بِهَا (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمَّارَ بنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَنَامِ بِنِصْفِ النَّهَارِ، أَشْعَثَ أغْبَرَ، مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ يَلْتَقِطُهُ أَوْ يَتَّبَّعُ فِيهَا شَيْئًا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَمُ الحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، لَمْ أَزَلْ أَتَتَبَّعُهُ مُنْذُ اليَوْمِ"، قَالَ عَمَّارٌ: فَحَفِظْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، فَوَجَدْنَاهُ قُتِلَ ذَلِكَ اليَوْمِ (¬2). * شَأْنُ مُحَسِّنِ بنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَأَمَّا مُحَسِّنٌ فَقَدْ مَاتَ صَغِيرًا، قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: اتَّفَقَ أَهْلُ العِلْمِ بِالأَخْبَارِ أَنَّ مُحَسِّنَ بنَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، مَاتَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * شَأْنُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَأَمَّا أَمُّ كُلْثُومٍ، فَوُلِدَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ سِتٍّ مِنَ الهِجْرَةِ، وَرَأَتِ النَّبِيَّ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26524) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1391). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2165). (¬3) انظر فتح الباري (3/ 502).

-صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ تَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا (¬1)، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَوَلَدَتْ لَهُ زَيْدًا، وَمَاتَ عَنْهَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِبَنِي عَمِّهَا جَعْفَرَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، تَزَوَّجَتْ بِعَوْنِ بنِ جَعْفَرَ، فَمَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَخُوهُ مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، فَمَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَخُوهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَعْفَرٍ، فَمَاتَتْ عِنْدَهُ (¬2). أَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي الشَّوَاهِدِ عَنْ عَلِيِّ بنِ الحُسَيْنِ قَالَ: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- خَطَبَ إِلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أُمَّ كُلْثُومٍ، فَقَالَ: أَنْكِحْنِيهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي أَرْصُدُهَا (¬3) لِابْنِ أَخِي عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: أنْكِحْنِيهَا فَوَاللَّهِ مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ يَرْصُدُ مِنْ أَمْرِهَا مَا أَرْصُدُهُ فَأَنْكَحَهُ عَلِيٌّ، فَأَتَى عُمَرُ المُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَلَا تُهَنُّونِي؟ فَقَالُوا: بِمَنْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: بِأُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ وَابْنَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "كُلُّ نَسَبٍ وَسَبَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سَبَبِي وَنَسَبِي"، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَسَبٌ وَسَبَبٌ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 500). (¬2) انظر البداية والنهاية (5/ 306). (¬3) الإرصاد: الانتِظَار. انظر لسان العرب (5/ 224). ومنه قوله تعالى في سورة التوبة آية (107): {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ. . .}. (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب نكاح عمر بأم كلثوم وسببه - رقم الحديث (4738) - وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (2036).

* شأن زينب بنت علي رضي الله عنهما

* شَأْنُ زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَأَمَّا زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَإِنَّهَا وُلِدَتْ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتِ امْرَأَةً عَاقِلَةً لَبِيبَةً (¬1) جَزْلَةً (¬2)، زَوَّجَهَا أبُوهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَخِيهِ جَعْفَرَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيًّا، وَعَوْنًا الأَكْبَرَ، وَعَبَّاسًا، وَمُحَمَّدًا، وَأُمَّ كُلْثُومٍ، وَكَانَتْ مَعَ أَخِيهَا الحُسَيْنِ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا قُتِلَ، وَحُمِلَتْ إِلَى دِمَشْقَ، وَمَاتَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ (¬3). * غَضَبُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى مَاتَتْ، وَعِنْدَمَا أَرَادَ عَلَيٌّ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ، غَضِبَتْ فَاطِمَةُ، وَأَتَتِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَشْتَكِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ المِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ، وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ أَنْكَحْتُ أَبَا العَاصِ بنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي (¬4)، وَإِنَّ فَاطِمَةَ ¬

_ (¬1) لَبِيبة: عَاقلة. انظر لسان الرب (12/ 216). (¬2) امرأة جَزْلة: جيدة الرأي. انظر لسان العرب (2/ 276). (¬3) انظر الإصابة (8/ 166) - أسد الغابة (5/ 300) - البداية والنهاية (5/ 306). (¬4) قال ابن الأثير في جامع الأصول (11/ 504): هذا المُشَارُ إليه بالوعد والوَفَاءِ: هو =

بَضْعَةٌ (¬1) مِنِّي، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءُهَا، وَاللَّهِ لَا تَجْتَمعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ بَنِي هِشَامِ بنِ المُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، ثُمَّ لَا آذَنُ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ ابنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِي وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّهَا هِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا، ويُؤْذِينِي مَا آذَاهَا". وَفِي لَفْظٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي، وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا"، ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ (¬2) فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ، قَالَ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي، وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا (¬3)، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبِنْتُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبَدًا". ¬

_ = أبو العاص بن الربيع زوجُ رينبَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كان أُسِرَ في غزوة بدر الكبرى، فَنفذت زينب فداءه من مكة، فعرف رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الذي نفذته قِلادةً كانت لخديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَرَقَّ لها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رِقَّةً شديدة، واستطْلَقَ أسيرَها من المسلمين، وشَرَط رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على أبي العاص بن الربيع أن يُنْفِذِ زينب إليه إذا وصل إلى مكة، فَفَعل -رضي اللَّه عنه-. (¬1) البَضْعَةُ بالفتح: هي القطعة من اللَّحْمِ، وقد تُكسَرُ، أي أنها جزءٌ منه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما أن القطعة من اللحم جزء من اللحم. انظر النهاية (1/ 133). (¬2) هو أَبُو العاص بن الربيع -رضي اللَّه عنه- زوج زينب بنت الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) قال الحافظ في الفتح (10/ 412): أي هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة، وأما الجمع بينهما الذي يستلزم تأذِّي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لتأذِّي فاطمة به فلا، والذي يظهر لي أنَّه لا يبعد أن يُعَدَّ في خصائص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يُتزوج على بناته، ويحتمل أن يكون ذلك خَاصًّا بفاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

* سبب غضب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابنته فاطمة رضي الله عنها

فَترَكَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- الخِطْبَةَ (¬1). * سَبَبُ غَضَبِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَلَّ أَنْ يُوَاجِهَ أَحَدًا بِمَا يُعَابُ بِهِ، وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا جَهَرَ بِمُعَاتَبَةِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- مُبَالَغَةً فِي رِضَا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَتْ هَذِهِ الوَقْعَةُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَأَخَّرَ مِنْ بَنَاتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرُهَا، وَكَانَتْ أُصِيبَتْ بَعْدَ أُمِّهَا بِإِخْوَتِهَا، فَكَانَ إِدْخَالُ الغَيْرَةِ عَلَيْهَا مِمَّا يَزِيدُ حُزْنَهَا (¬2). * حُبُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَلْقًا وَكَلَامًا، وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ إِلَيْهَا، وَقَبَّلَهَا، وَرَحَّبَ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ كَلَامًا وَحَدِيثًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب ما ذكر من درع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعَصَاه وسيفه - رقم الحديث (3110) - وأخرجه في كتاب فضائل الصحابة - باب ذكر أصهار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3729) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف - رقم الحديث (5230) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة بنت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رقم الحديث (2449) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18913). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 453).

فَاطِمَةَ، وَكَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا، وَقَبَّلَهَا، وَرَحَّبَ بِهَا، وَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَتْ هِيَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَتْهُ، وَأَخَذَتْ بِيَدِهِ (¬1). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ سَمْتًا (¬2) وَهَدْيًا (¬3) وَدَلًّا (¬4) بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَرْحَبًا يَا ابْنَتِي"، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب إخبار المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- فاطمة أنها أول لاحق به من أهله - رقم الحديث (6953). (¬2) السَّمْتُ: هو حُسْنُ القَصْدِ والمَذْهَبِ في دِينه ودنياه. انظر لسان العرب (6/ 354). (¬3) الهَدْيُ: السِّيرة والهَيْئَة والطَّرِيقَة. انظر النهاية (5/ 219). (¬4) الدَّلُّ: هو عبارة عن الحالةِ التي يكون عليها الإنسان من السَّكِينَةِ والوَقَار، وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيئة. انظر النهاية (2/ 122). (¬5) أخرجه أبو داود في السنن - كتاب الأدب - باب ما جاء في القيام - رقم الحديث (5217) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب المناقب - باب مناقب فاطمة بنت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رقم الحديث (8311). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإِسلام - رقم الحديث (3623) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رقم الحديث (2450).

* فضائل فاطمة رضي الله عنها

* فَضَائِلُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ: "يَا فَاطِمَةُ! أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ" (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الأَرْضِ خُطُوطًا أَرْبَعَةً، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (¬2). * اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَأَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَقْدِيمِ فَاطِمَةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ نِسَاءِ عَصْرِهَا وَمَنْ بَعْدَهُنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإِسلام - رقم الحديث (3624) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رقم الحديث (2450). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2668) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن خديجة من أفضل نساء أهل الجنة - رقم الحديث (7010).

إِلَّا مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ"، وَأَنَّهَا رُزِئَتْ (¬1) بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دُونَ غَيْرِهَا مِنْ بَنَاتِهِ، فَإِنَّهُنَّ مِتْنَ فِي حَيَاتِهِ، فَكُنَّ فِي صَحِيفَتِهِ، وَمَاتَ هُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَيَاتِهَا، فَكَانَ فِي صَحِيفَتِهَا، وَكُنْتُ أَقُولُ ذَلِكَ اسْتِنْبَاطًا إِلَى أَنْ وَجَدْتُهُ مَنْصُوصًا: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ طَرِيقِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الحُسَيْنِ بنِ عَلِيٍّ: إِنَّ جَدَّتَهَا فَاطِمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا، وَأَنَا عِنْدَ عَائِشَةَ فَنَاجَانِي فَبَكَيْتُ، ثُمَّ نَاجَانِي فَضَحِكْتُ، فَسَأَلَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَأخْبِرُكِ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَتَرَكَتْنِي، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَأَلَتْ فَقُلْتُ: نَاجَانِي. . .، فَذَكَرَ الحَدِيثَ فِي مُعَارَضَةِ جِبْرِيلَ لَهُ بِالقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّهُ قَالَ: "أَحْسَبُ أَنِّي مَيِّتٌ فِي عَامِي هَذَا، وَأَنَّهُ لَمْ تُرْزَأ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَاءِ العَالَمِينَ مِثْلَ مَا رُزِئْتِ، فَلَا تَكُونِي دُونَ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ صَبْرًا"، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: "أَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ إِلَّا مَرْيَمَ" فَضَحِكَتْ (¬2). قُلْتُ: (القَائِلُ ابنُ حَجَرٍ)، وَأَصْلُ الحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ دُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) الرَّزْءُ: المُصِيبَة بفَقْدِ الأعِزَّة، وهو من الانتِقَاصِ. انظر لسان العرب (5/ 200) - النهاية (2/ 200). (¬2) أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (3/ 263) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (146). (¬3) انظر فتح الباري (7/ 477).

* لا تعارض بين الأحاديث

وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: فَلِهَذَا عَظُمَ أَجْرُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الأَحَادِيثِ: قُلْتُ: وَهَذَا الفَضْلُ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِابْنَتِهِ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الحَدِيثِ الذِي أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: "هِيَ أَفْضَلُ بَنَاتِي أُصِيبَتْ فِيَّ" (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي قِصَّةِ مَجِيءِ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- بِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ، وَفِي آخِرِهِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هِيَ أَفْضَلُ بَنَاتِي أُصِيبَتْ فِيَّ". فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُتَقَدِّمًا، ثُمَّ وَهَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِفَاطِمَةَ مِنَ الأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَالكَمَالِ مَا لَمْ يُشَارِكْهَا أَحَدٌ مِنْ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ مُطْلَقًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * وَفَاةُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، لَيْلًا ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (6/ 725). (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (142) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من مكة إلى المدينة - رقم الحديث (6919) - وأورده الحافظ في الفتح (7/ 481) وجوّد إسناده. (¬3) انظر فتح الباري (7/ 477).

وَعُمُرُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قِيلَ سَبْعٌ، وَقِيلَ ثَمَانٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . وَعَاشَتْ -أَيْ فَاطِمَةُ- بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- لَيْلًا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4240) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نُوَرِّث ما تركْنَا فَهُوَ صَدَقة" - رقم الحديث (1759).

ظهور النفاق والمنافقين في المدينة

ظُهُورُ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ فِي المَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ فِي مَكَّةَ نِفَاقٌ؛ لِأَنَّ المُسْلِمِينَ كَانُوا ضِعَافًا، وَكَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الإِسْلَامِ يَتَعَرَّضُ لِلْخَطَرِ وَالضَّرَرِ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا مَنْ صَدَقَ عَزْمُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ، وَجَازَفَ بِحَيَاتِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ، فَلَمَّا انْتَقَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَبَعْدَ الهَزِيمَةِ السَّاحِقَةِ التِي تَعَرَّضَ لَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، بَدَأَتْ ظَاهِرَةُ النِّفَاقِ تَظْهَرُ، فَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ ظَاهِرًا، وَأَبْطَنُوا الكُفْرَ وَالحِقْدَ وَالكَيْدَ فِي قُلُوبِهِمْ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَكَانَ زَعِيمُ المُنَافِقِينَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبي بنِ سَلُولٍ، الذِي كَانَ قَوْمُهُ قَدْ نَظَمُوا لَهُ الخَرَزَ لَيُتَوِّجُوهُ مَلِكًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ مَقْدَمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ- (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ (¬2)، ¬

_ (¬1) انظر كلام الشيخ أبي الحسن النَّدْوي في هذا الموضوع في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة - ص 200. (¬2) قال الحافظ في الفتح (9/ 102): توَجَّه: أي ظَهَرَ وَجْهُهُ.

فَبَايِعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلِمُوا (¬1). يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ (¬2) وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (¬3). أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرَةِ (¬4) بَيْنَ الغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} - رقم الحديث (4566). (¬2) قال الحافظ ابن كثير تفسيره (2/ 437): ولا شك أن اللَّه تَعَالَى لا يُخادَع، فإنَّه العالم بالسرائر والضمائر، ولكن المُنَافقين لجهلِهِم وقِلَّة علمهم وعقلهم، يعتقِدُون أن أمرهم كما رَاجَ عندَ الناس وجَرَت عليهم أحكام الشريعة ظاهرًا، فكذلك يكونُ حُكمهم يوم القيامة عند اللَّه، وأن أمرهم يَرُوج عنده، كما أخبر عنهم تَعَالَى أنهم يوم القيامة يَحْلِفُون له: أنهم كانوا على الاستقامة والسَّدَادِ، ويعتقدون أن ذلك نَافِعٌ لهم عنده، فقال تَعَالَى في سورة المجادلة آية (18): {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. (¬3) سورة النساء آية (142 - 143). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 107): العَائِرَةُ: هي المُتَرَدِّدَةُ الحائِرَة لا تدرِي لأيهما تَتْبَعُ. (¬5) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2784).

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ النَّدْوِيِّ: وَعَادَى الإِسْلَامُ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَفِي السِّيَادَةِ طَمَعٌ، وَضَاقَ ذَرْعًا بِهَذَا الدِّينِ الزَّاحِفِ، الذِي هَدَمَ كُلَّ مَا بَنَاهُ، وَنَقَضَ كُلَّ مَا أَبْرَمَهُ، وَجَعَلَ لِلْمَدِينَةِ شَأْنًا غَيْرَ الشَّأْنِ، وَمِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ أُمَّةً وَاحِدَةً، أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَبَذَلَتْ نُفُوسَهَا دُونَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدَّمَتْ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ وَالأَزْوَاجِ، فَامْتَلَأَتْ قُلُوبُ هَؤُلَاءِ المُنَافِقِينَ غَيْظًا وَحَسَدًا، فَصَارُوا يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ، وَيُقَلِّبُونَ لَهُ الأُمُورَ، وَتَكَوَّنَتْ فِي المَدِينَةِ جَبْهَةٌ مُعَادِيَةٌ، مُتَسَرِّبَةٌ فِي المُجْتَمَعِ الإِسْلَامِيِّ، وَكَانَ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرٍ دَائِمًا، فَقَدْ تَكُونُ أَشَدَّ خَطَرًا عَلَى الإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ مِنَ الأَعْدَاءِ المُجَاهِرِينَ، وَمِنْ هُنَا زَخَرَ (¬1) القُرْآنُ بِذِكْرِهِمْ، وَإِزَاحَةِ السِّتَارِ عَنْهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ مَعَ الإِسْلَامِ، وَلِلْإِسْلَامِ مَعَهُمْ شَأْنٌ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) زَخَرَ: امتَلَأ. انظر لسان العرب (6/ 30). (¬2) انظر كتاب السِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ص 201.

غزوة بني قينقاع

غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ حَدَثَتْ غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1). وَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ مِنْ أَشْجَعِ يَهُودٍ، وَكَانُوا صَاغَةً (¬2)، وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَهْدٌ -كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ أَمْرِ الصَّحِيفَةِ التِي كَتَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِكُلِّ مَنْ سَكَنَ المَدِينَةَ- فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ أَظْهَرُوا البَغْيَ وَالحَسَدَ، وَنَبَذُوا العَهْدَ مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. أَخْرَجَ ابنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدِمَ المَدِينَةَ، جَمَعَ اليَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ، أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا"، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا (¬3) لَا يَعْرِفُونَ القِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 71) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 263) - سيرة ابن هشام (3/ 54) - البداية والنهاية (3/ 376). (¬2) الصَّوَّاغ: هو صَائِغُ الحُلِيِّ. انظر النهاية (3/ 56). (¬3) الأَغْمَارُ: جمعُ غُمْرٍ بالضم: وهو الجَاهِلُ الغِرُّ الذي لم يُجَرِّب الأمور. انظر النهاية (3/ 345).

قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬1). كَانَ مَا أَجَابَ بِهِ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ الإِعْلَانُ السَّافِرُ بِالحَرْبِ، وَزَادَ يَهُودُ بَنِي قَيْنُقَاعَ جُرْأَةً، فَقَلَّمَا لَبِثُوا أَنْ أَثَارُوا فِي المَدِينَةِ قَلَقًا وَاضْطِرَابًا، فَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: أَنَّ امْرَأَةً مِنَ العَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبٍ (¬2) لَهَا، فَبَاعَتْهُ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَجَلَسَتْ إِلَى صَائِغٍ، فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ، فَعَمَدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا، فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهْرِهَا -وَهِيَ غَافِلَةٌ- فَلَمَّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا، فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ، فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ الصَّائِغُ يَهُودِيًّا، فَشَدَّتِ اليَهُودُ عَلَى المُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ، فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ المُسْلِمِ المُسْلِمِينَ عَلَى اليَهُودِ، فَغَضِبَ المُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي قَيْنُقَاعَ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (12 - 13) - والحديث أخرجه ابن إسحاق في السيرة (3/ 53) - وأبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة والفيء - باب كيف كان إخراج اليهود من المدينة - رقم الحديث (3001) - وأورده الحافظ في الفتح (8/ 71) - وحسن إسناده. (¬2) الجَلَبُ: ما يُجْلَبُ للبَيْعِ من كل شيء. انظر النهاية (1/ 273). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 54) - البداية والنهاية (4/ 376).

* حصار بني قينقاع ثم جلاؤهم

* حِصَارُ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمَّ جَلَاؤُهُمْ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ يَهُودَ بَنِي قَيْنُقَاعَ نَقَضُوا العَهْدَ وَالمِيثَاقَ، وَتَوَسَّعُوا فِي اسْتِفْزَازِهِمْ سَارَ إِلَيْهِمْ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بَشِيرَ بنَ عَبْدِ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه-، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ لِوَاءً أَبْيَضَ. فَلَمَّا رَأَوْا المُسْلِمِينَ تَحَصَّنُوا فِي حُصُونِهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَشَدَّ الحِصَارِ، وَدَامَ الحِصَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً إِلَى هِلَالِ ذِي القَعْدَةِ، حَتَّى قَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَكُتِّفُوا (¬1). فَحِينَئِذٍ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ لَعَنَهُ اللَّهُ بِدَوْرِهِ النِّفَاقِيِّ، فَأَلَحَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ -وَكَانَ بَنُو قَيْنُقَاعَ حُلَفَاءَ الخَزْرَجِ- فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَدْخَلَ ابنُ سَلُولٍ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرْسِلْنِي" وَغَضِبَ حَتَّى رَأَوْا لِوَجْهِهِ ظُلَلًا (¬2)، ثُمَّ قَالَ: "وَيْحَكَ أَرْسِلْنِي" قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي ¬

_ (¬1) الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 264) - البداية والنهاية (4/ 377). (¬2) قال السهيلي في الروض الأنف (3/ 224): الظُلَلُ: جمع ظُلَّة، وهي ما حَجَبَ عنك ضَوْءُ الشمس وصَحْوُ السماء، وكان وجه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مشرقًا بَسَّامًا، فإذا غَضِبَ تلوَّن ألوانًا، فكانت تلكَ الألوانُ حَائِلَةً دُون الإشْرَاق والطلاقَةِ والضِّيَاءِ المنتشرِ عند تبَسُّمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

مَوَالِيَّ، أَرْبَعَمِائَةِ حَاسِرٍ (¬1) وَثَلاثُمِائَةِ دَارعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ؟ ، إِنِّي وَاللَّهِ امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ (¬2)، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُمْ لَكَ" (¬3). وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُجْلَوْا (¬4) مِنَ المَدِينَةِ بِذَرَارِيهِمْ وَنِسَائِهِمْ، وَأَمْهَلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَوَكَّلَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا عُبَادَةَ بنَ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه-. فَأَخَذَهُمْ عُبَادَةُ -رضي اللَّه عنه- بِالرَّحِيلِ وَالإِجْلَاءِ، وَطَلَبُوا التَّنَفُّسَ (¬5)، فَقَالَ لَهُمْ عُبَادَةُ: وَلَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَكُمْ ثَلَاثٌ لَا أَزِيدُكُمْ عَلَيْهَا، هَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا مَا نَفَّسْتُكُمْ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثٌ خَرَجَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى سَلَكُوا إِلَى الشَّامِ، وَبَلَغَ خَلْفَ ذُبَابٍ (¬6)، ثُمَّ رَجَعَ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَنِي النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقتَلَ ¬

_ (¬1) الحَاسِرُ: هو الذي لا دِرْعَ عليه ولا مِغْفَر، والمِغْفَر: هو ما يلبسه الدارع على رأسه. انظر النهاية (1/ 369) (3/ 336). (¬2) الدائرة: أي الغَلَبَة. انظر النهاية (2/ 130). (¬3) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (3/ 54) وإسناده مرسل صحيح. (¬4) الجَلَاءُ: الخُرُوج عن البلد. انظر لسان العرب (2/ 343). (¬5) يُقال: لك في هذا الأمر نُفَسَة: أي مُهْلة. انظر لسان العرب (14/ 236). (¬6) ذُباب: هو جبلٌ بالمدينة. انظر النهاية (2/ 141).

رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ. . . وَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَهُودَ المَدِينَةِ كُلَّهُمْ: بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ، وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ، وَكُلَّ يَهُودِيٍّ كَانَ بِالمَدِينَةِ (¬1). وَغَنِمَ المُسْلِمُونَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَرْضُونَ وَلَا مَزَارعُ، إِنَّمَا كَانُوا صَاغَةً، وَوَجَدُوا فِي حُصُونِهِمْ آلَةَ الصِّيَاغَةِ، وَسِلَاحًا كَثِيرًا، فَقُسِّمَتِ الغَنَائِمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ إِخْرَاجِ الخُمُسِ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ الذِي وَلِيَ قَبْضَ أَمْوَالِهِمْ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير - رقم الحديث (4028) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب إجلاء اليهود من الحجاز - رقم الحديث (1766). (¬2) انظر تفاصيل غزوة بني قينقاع في: سيرة ابن هشام (3/ 53 - 55) - البداية والنهاية (4/ 376) - فتح الباري (8/ 71) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 263 - 264) - شرح المواهب (2/ 349).

غزوة السويق

غَزْوَةُ السَّوِيقِ (¬1) وَفِي الخَامِسِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ حَدَثَتْ غَزْوَةُ السَّوِيقِ (¬2). لَمَّا رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ فَلُّ (¬3) قُرَيْشٍ مِنْ بَدْرٍ، نَذَرَ أَبُو سُفْيَانَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءً مِنْ جَنَابَةٍ (¬4) حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَثْأَرَ لِأَصْحَابِهِ. فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، لِيَبَرَّ بِيَمِينِهِ، وَوَصَلَ إِلَى أَطْرَافِ المَدِينَةِ لَيْلًا، وَلَجَأَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، فَأَتَى حُيَيَّ بنَ أَخْطَبَ، فَضَرَبَ عَلَيْه بَابَهُ، ¬

_ (¬1) السويق: هو قَمْحٌ أو شعِيرٌ يُقْلَى ثمَّ يُطْحَن فيتزوَّد به ملتُوتًا -أي مُبَلَّلًا- بماءٍ أو سَمْنٍ أو عَسَل. انظر شرح المواهب (2/ 353) - لسان العرب (6/ 438). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 50) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 264) - شرح المواهب (2/ 353). (¬3) الفَلُّ: القوم المُنْهَزِمُون. انظر النهاية (3/ 425). (¬4) قال الإمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (3/ 221): وفي هذا الحديث أن الغُسل من الجنابة كان معمُولًا به في الجاهلية بقيَّةً من دينِ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كما بَقِيَ فيهم الحجُّ والنِّكاح، ولذلك سمَّوْها جَنَابة لمجانَبَتِهِمْ في تلك الحال البيت الحرام، ومواضع قرباتهم، ولذلك عُرِفَ معنى الكلمة في القرآن أعني قوله تَعَالَى في سورة المائدة آية (6): {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، فكان الحَدَث الأكبر معروفًا بهذا الاسم، فلم يحتاجُوا إلى تفسيره، بخِلافِ الوُضُوء فلم يعرف قبل الإِسلام، فبيَّنَه سبحانه وتَعَالَى بقوله في سورة المائدة آية (6): {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.

* خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم-

فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ بَابَهُ وَخَافَهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى سَلَّام بنِ مِشْكَمٍ، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، وَصَاحِبَ كَنْزِهِمْ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَضَيَّفَهُ وَسَقَاهُ خَمْرًا، وَأَخْبَرَهُ مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، فَبَعَثَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْا نَاحِيَةً مِنَ المَدِينَةِ، يُقَالُ لَهَا: العُرَيْضُ (¬1)، فَحَرَّقُوا فِي أَصْوَارٍ (¬2) مِنْ نَخْلٍ بِهَا، وَوَجَدُوا رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَحَلِيفًا لَهُ فِي حَرْثٍ لَهُمَا، فَقَتَلُوهُمَا، ثُمَّ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. * خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ يَطْلُبُهُمْ فِي مِائَتَيْنِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى المَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بَشِيرَ بنَ عَبْدِ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه-، فَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ يُلْقُونَ جُرَبَ (¬3) السَّوِيقَ، وَهِيَ عَامَّةُ أَزْوَادِهِمْ، يَتَخَفَّفُونَ مِنْهَا لِلنَّجَاءِ، حَتَّى بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرْقَرَةَ (¬4) الكُدْرِ (¬5)، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ، وَقَدْ فَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَكَانَتْ غَيْبَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) العُرَيضُ: بضم العين مُصَغَّر: واد بالمدينة به أموالًا لأهلها. انظر النهاية (3/ 193). (¬2) الأَصْوَار: جمع صَوْر: هي الجماعة مِنَ النَّخْل. انظر النهاية (3/ 55). (¬3) الجُرَبُ: جمع جِرَابٍ، وهو وِعَاءٌ من إهَابٍ -أي جلد- الشاء لا يوضع فيه إلا يابس. انظر لسان العرب (2/ 228). (¬4) القَرْقَرَ: الأرض المستوية. انظر النهاية (4/ 43). (¬5) الكُدرُ: ماءٌ لبني سليم، وأصل الكُدْرِ: طيرٌ في ألوانها كُدْرَة، سُمي الموضع أو الماء بها. انظر لسان العرب (4/ 43) - الرَّوْض الأُنُف (3/ 220).

خَمْسَةَ أَيَّامٍ، فَقَالَ المُسْلِمُونَ حِينَ رَجَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُول اللَّهِ! أَتَطْمَعُ لَنَا أَنْ تَكُونَ غَزْوَةً؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ ابنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ غَزْوَةَ السَّوِيقِ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا طَرَحَ القَوْمُ مِنْ أَزْوَادِهِمْ السَّوِيقَ، فَرَجَعَ المُسْلِمُونَ بِسَوِيقٍ كَثِيرٍ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل هذه الغزوة في: سيرة ابن هشام (3/ 50 - 51) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 264) - وعند ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 366): أن غزوة السويق هذه هي غزوة "قرقرة الكدر".

أول أضحى رآه المسلمون

أَوَّل أَضْحَى رَآهُ المُسْلِمُونَ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَارِيخِهِ: وَبَعْدَ أَنِ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ حَضَرَتِ الأَضْحَى، وَكَانَ أَوَّلَ أَضْحَى رَآهُ المُسْلِمُونَ، فَذُكِرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَّى وَأَهْلَ الْيُسْرِ مِنْ أَصْحَابِهِ، يَوْمَ العَاشِرِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى المُصَلَّى، فَصَلَّى بِهِمْ، فَذَلِكَ أَوَّلُ صَلَاةِ أَضْحَى صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ بِالمَدِينَةِ بِالمُصَلَّى، وَذَبَحَ فِيهِ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ شَاتَيْنِ، وَقِيلَ شَاةً (¬1). * هَدْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الأُضْحِيَةِ: وَأَمَّا هَدْيُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الأَضَاحِي فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ الأُضْحِيَةَ، وَكَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، وَكَانَ يَنْحَرُهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ العِيدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ مِنَ النُّسُكِ (¬2) فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ" (¬3)، هَذَا الذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ وَهَدْيُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) انظر تاريخ الطبري (2/ 49). (¬2) النُّسُك: الطاعة والعبادة، وكل ما يُتَقَرَّب به إلى اللَّه تَعَالَى. انظر النهاية (5/ 41). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأضاحي - باب الذبح بعد الصلاة - رقم الحديث (5560) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأضاحي - باب وقتها - رقم الحديث (1961).

* فوائد الحديث

أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ -وَاللَّفْظُ لَهُ- عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُضَحِّي (¬1) بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ (¬2)، وَكَانَ يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ وَاضِعًا عَلَى صِفَاحِهِمَا (¬3) قَدَمَهُ (¬4). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - اسْتِحْبَابُ مُبَاشَرَةِ المُضَحِّي الذَّبْحَ بِنَفْسِهِ. 2 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ. 3 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّكْبِيرِ مَعَ التَّسْمِيَةِ. 4 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ وَضْعِ الرِّجْلِ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِ الأُضْحِيَةِ الأَيْمَنِ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 115): وكأنَّ تسميتها أُضْحِيَة اشتقت من اسم الوقت الذي تُشْرَع فيه. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 124): الأملَحُ: هو الذي فيه سَوَادٌ وبَيَاض، والبياض أكثر. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 134): والصِّفَاح بكسر الصاد: المُرَاد الجانب الواحد من وَجْهِ الأضحية. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأضاحي - باب أضحية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بكبشين أقرنين - رقم الحديث (5553) - وباب من ذبح الأضاحي بيده - رقم الحديث (5558) - وباب التكبير عند الذبح - رقم الحديث (5565) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأضاحي - باب استحباب الأضحية - رقم الحديث (1966) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11960).

* هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عيد الأضحى

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ إِضْجَاعَهَا يَكُونُ عَلَى الجَانِبِ الأَيْسَرِ فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى الجَانِبِ الأَيْمَنِ لِيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَى الذَّابحِ فِي أَخْذِ السِّكِّينِ بِاليَمِينِ وَإِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِيَدِهِ اليَسَارِ (¬1). * هَدْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عِيدِ الأَضْحَى: وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّضْحِيَةَ، وَدَخَلَ يَوْمُ العَشْرِ (¬2)، فَلَا يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ، وَبَشَرِهِ شَيْئًا، ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (¬3). وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اخْتِيَارُ الأُضْحِيَةِ، وَاسْتِحْسَانُهَا، وَسَلَامَتُهَا مِنَ العُيُوبِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (11/ 125 - 134). (¬2) المقصود بأيام العَشْرِ: هي العشْرُ الأُوَلُ من ذي الحجة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأضاحي - باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا - رقم الحديث (1977). (¬4) انظر زاد المعاد (2/ 293).

وفاة عثمان بن مظعون -رضي الله عنه-

وَفَاةُ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- وَفِي ذِي الحِجَّةِ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1)، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ سَادَةِ المُهَاجِرِينَ، وَمِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ المُتَّقِينَ الذِينَ فَازُوا بِوَفَاتِهِمْ فِي حَيَاةِ نَبِيِّهِمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِمْ (¬2). أَسْلَمَ -رضي اللَّه عنه- أَوَّلَ الإِسْلَامِ، قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: أَسْلَمَ عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ إِلَى الحَبَشَةِ هُوَ وَابْنُهُ السَّائِبُ الهِجْرَةَ الأُولَى مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُمْ وَهُمْ فِي الحَبَشَةِ أَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمَتْ فَعَادُوا (¬3). ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ اجْتِهَادًا فِي العِبَادَةِ، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَيَجْتَنِبُ المُبَاحَاتِ، وَيَعْتَزِلُ النِّسَاءَ، وَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي التَّبَتُّلِ (¬4) وَالِاخْتِصَاءِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَدَّ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 148) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 212). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 154). (¬3) انظر أسد الغابة (3/ 225). (¬4) التَّبَتُّلُ: هو الانقِطَاع عن النِّسَاء وترك النكاح. انظر النهاية (1/ 95).

* حديث ضعيف

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالحِكْمَةُ فِي مَنْعِهِمْ مِنَ الِاخْتِصَاءِ إِرَادَةُ تَكْثِيرِ النَّسْلِ لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ الكُفَّارِ، وَإِلَّا لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لَأَوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ عَلَيْهِ، فَيَنْقَطِعَ النَّسْلُ فَيَقِلَّ المُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ وَيَكْثُرَ الكُفَّارُ، وَهُوَ خِلَافُ المَقْصُودِ مِنَ البِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ (¬2). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُثْمَانَ بنَ مَظْعُونٍ وَهُوَ مَيِّتٌ حَتَّى رَأَيْتُ الدُّمُوعَ تَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ (¬3). * فَضِيلَةٌ لِعُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب ما يكره من التبتل والخِصاء - رقم الحديث (5073) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه - رقم الحديث (1402). (¬2) انظر فتح الباري (10/ 148). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24165) - والترمذي في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في تقبيل الميت - رقم الحديث (1010) - وأخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في تقبيل الميت - رقم الحديث (1456).

* عين جارية لعثمان بن مظعون -رضي الله عنه-

حَنْطَبٍ- قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- أُخْرِجَ بِجَنَازَتِهِ فَدُفِنَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ، فَقَامَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَحَسَرَ (¬1) عَنْ ذِرَاعَيْهِ، قَالَ كَثِيرٌ: قَالَ الْمُطَّلِبُ: قَالَ الذِي يُخْبِرُنِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ ذِرَاعَي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ حَسَرَ عَنْهُمَا، ثُمَّ حَمَلَهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ، وَقَالَ: "أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي" (¬2). * عَيْنٌ جَارِيَةٌ لِعُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فَي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ العَلَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ لِعُثْمَانَ فِي النَّوْمِ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "ذَاكَ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ" (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ عَمَلُهُ يَجْرِي لَهُ"، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِعُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- شَيْءٌ عَمِلَهُ بَقِيَ لَهُ ثَوَابُهُ جَارِيًا كَالصَّدَقَةِ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الأَغْنِيَاءِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ لَهُ صَدَقَةٌ اسْتَمَرَّتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، ¬

_ (¬1) حَسَرَ: كشف. انظر النهاية (1/ 368). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يُعَلَّم - رقم الحديث (3206) - وأخرجه مختصرًا ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في العلامة في القبر - رقم الحديث (1561). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التعبير - باب العين الجارية في المنام - رقم الحديث (7018).

فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرَأَيْنَهَا سَيِّئَةَ الهَيْئَةِ، فَقُلْنَ لَهَا: مَالَكِ؟ فَمَا فِي قُرَيْشٍ أَغْنَى مِنْ بَعْلِكِ (¬1)! قَالَتْ: مَا لَنَا مِنْهُ شَيْءٌ؟ أَمَّا لَيْلُهُ فَقَائِمٌ، وَأَمَّا نَهَارُهُ فَصَائِمٌ (¬2). وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِعَمَلِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- مُرَابَطَتُهُ فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَجْرِي لَهُ عَمَلُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ القَبْرِ" (¬3). وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ" (¬4). ¬

_ (¬1) البَعْلُ: الزَّوْجُ. انظر النهاية (1/ 140). ومنه قوله تعالى في سورة النساء آية (128): {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا. . .}. (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (316). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في فضل الرباط - رقم الحديث (2500) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر انقطاع الأعمال بعد الموت وبقاء عمل المرابط - رقم الحديث (4624) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23951). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب فضل الرباط في سبيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ - =

* دفن عثمان بن مظعون -رضي الله عنه-

فَلْيُحْمَلْ حَالُ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى ذَلِكَ وَيَزُولُ الإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ (¬1). * دَفْنُ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ -رضي اللَّه عنه-: وَدُفِنَ -رضي اللَّه عنه- فِي البَقِيعِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دُفِنَ بِالبَقِيعِ مِنَ المُهَاجِرِينَ (¬2). * * * ¬

_ = رقم الحديث (1913) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الجهاد - باب فضل المرابط - رقم الحديث (4361). (¬1) انظر فتح الباري (14/ 446). (¬2) انظر أسد الغابة (3/ 226) - الإصابة (4/ 382).

السنة الثالثة للهجرة

السَّنَةُ الثَّالِثَةُ لِلْهِجْرَةِ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ أَوْ قَرْقَرَةُ الكُدْرِ وَفِي مُنْتَصَفِ المُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا بَلَغَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ تَجَمَّعَتْ بِقَرْقَرَةِ الكُدْرِ، وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي سُلَيْمٍ، وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ سِبَاعَ بنَ عُرْفُطَةَ الغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه-، أَوِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-. فَسَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَعْلَى الوَادِي، وَاسْتَقْبَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَطْنِ الوَادِي، فَوَجَدَ رُعَاءً فِيهِمْ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ: يَسَارٌ، فَسَأَلَهُ عَنِ النَّاسِ، فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِمْ إِنَّمَا أُورِدُ لِخِمْسٍ (¬1)، وَهَذَا يَوْمُ رِبْعِيٍّ (¬2)، وَالنَّاسُ قَدِ ارْتَفَعُوا إِلَى المِيَاهِ، وَنَحْنُ عُزَّابٌ ¬

_ (¬1) الخِمْسُ بكسر الخاء: من أظْمَاءِ الإبل أن تَرْعَى ثلاثَةَ أيامٍ وتَرِدَ اليومَ الرابع. انظر لسان العرب (4/ 216). (¬2) الرِّبعُ بكسر الراء: الظمأ، من أظمَاءِ الإبل، وهو أن تُحبس الإبل عن الماء أَرْبَعًا، ثمَّ ترِدَ الخَامس. انظر لسان العرب (5/ 114).

فِي النَّعَمِ (¬1)، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ ظَفِرَ بِالنَّعَمِ، فَانْحَدَرَ بِهِ إِلَى المَدِينَةِ، وَكَانَتِ النَّعَمُ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ، فَأَخْرَجَ خُمُسَهُ وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَعِيرَيْنِ، وَصَارَ يَسَارٌ فِي سَهْمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَعْتَقَهُ، وَغَابَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً (¬2). * * * ¬

_ (¬1) النَّعَم: بفتح النون المشدَّدة، هي الإبل والشاء. انظر لسان العرب (14/ 212). وَعَزَبَ الرجُلُ بإبلِهِ: إذا رَعَاهَا بَعِيدًا من الدار التي حَلَّ بها الحيّ. انظر لسان العرب (9/ 183). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 49) - الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 264).

غزوة ذي أمر أو غطفان

غَزْوَةُ ذِي أَمْرٍ أَوْ غَطَفَانَ وَفِي المُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1) خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَهِيَ أَكْبَرُ حَمْلَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ قَادَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، وَذَلِكَ عِنْدَمَا جَاءَهُ الخَبَرُ مِنْ عُيُونِهِ (¬2) أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بنِ مُحَارِبٍ تَجَمَّعُوا (بِذِي أَمْرٍ) فِي نَجْدٍ يُرِيدُونَ الإِغَارَةَ عَلَى أَطْرَافِ المَدِينَةِ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِخُرُوجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَرَبُوا إِلَى رُؤُوسِ الجِبَالِ. * قِصَّةُ دُعْثُورِ بنِ الحَارِثِ: سَارَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَلَغَ مَاءً يُقَالُ لَهُ: ذُو أَمْرٍ، فَعَسْكَرَ بِهِ، وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ كَثِيرٌ، فَابْتَلَّتْ ثِيَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، وَنَشَرَ ثِيَابَهُ لِتَجِفَّ، وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ المُشْرِكِينَ، وَاشْتَغَلَ المُسْلِمُونَ بِشُؤُونِهِمْ، فَبَعَثَ المُشْرِكُونَ رَجُلًا شُجَاعًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: دُعْثُورُ بنُ الحَارِثِ؛ لِقَتْلِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَمَا شَعَرَ بِهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ مَشْهُورًا، فَقَالَ: مَنْ ¬

_ (¬1) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (3/ 52) - وعند ابن سعد في طبقاته (2/ 266): أن خروجه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الثالثة للهجرة. (¬2) العَيْنُ: أي الجَاسُوسُ. انظر النهاية (3/ 299).

* قصة أخرى شبيهة بقصة دعثور

يَمْنَعُكَ مِنِّي يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ"، وَدَفَعَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صَدْرِهِ، فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: "مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ " قَالَ: لَا أَحَدْ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ لَا أُكَثِّرَ (¬1) عَلَيْكَ جَمْعًا أَبَدًا. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَيْفَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالُوا: وَيْلَكَ، مَالَكَ؟ فَقَالَ: نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي، فَوَقَعْتُ لِظَهْرِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَشَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا أُكَثِّرُ عَلَيْهِ جَمْعًا، وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2). * قِصَّةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ دُعْثُورٍ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (¬3) قِصَّةٌ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ دُعْثُورِ بنِ الحَارِثِ، وَلَكِنْ بِغَيْرِ سِيَاقِ أَهْلِ السِّيَرِ وَالمَغَازِي، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الغَزْوَةِ، وَبِغَيْرِ اسْمِهِ ¬

_ (¬1) لا أُكْثِّرُ: أي لا أجمع عليك. لسان العرب (12/ 36). (¬2) سورة المائدة آية (11) - والخبر في سيرة ابن هشام (3/ 52) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 266) - البداية والنهاية (4/ 375) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 167). (¬3) صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4135) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب توكُّلِه -صلى اللَّه عليه وسلم- على اللَّه تَعَالَى وعِصْمَة اللَّه له من الناس - رقم الحديث (843).

هَذَا، بَلِ اسْمُهُ غَوْرَثُ بنُ الحَارِثِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ البَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ قِصَّةٌ تُشْبِهُ هَذِهِ فَلَعَلَّهُمَا قِصَّتَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ مَحْفُوظَةً فَهِيَ غَيْرُهَا قَطْعًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ اسْمُهُ غَوْرَثُ بنُ الحَارِثِ، وَلَمْ يُسْلِمْ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَاهَدَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 169). (¬2) انظر البداية والنهاية (4/ 375).

مقتل كعب بن الأشرف

مَقْتَلُ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ كَانَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مِنْ أَشَدِّ اليَهُودِ عَدَاوَةً لِلرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ عَرَبِيًّا مِنْ قَبِيلَةِ طَيِّءٍ، مِنْ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَ أَصَابَ دَمًا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَأَتَى المَدِينَةَ فَحَالَفَ بَنِي النَّضِيرِ، فَشَرُفَ فِيهِمْ، وَتَزَوَّجَ عَقِيلَةَ بِنْتَ أَبِي الحُقَيْقِ، فَوَلَدَتْ لَهُ كَعْبًا، وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، سَادَ يَهُودَ الحِجَازِ بِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَكَانَ يُعْطِي أَحْبَارَ يَهُودٍ وَيَصِلُهُمْ، وَكَانَ حِصْنُهُ شَرْقِيَّ جَنُوبِ المَدِينَةِ فِي خَلْفِيَّاتِ دِيَارِ بَنِي النَّضِيرِ (¬1). وَكَانَ مِنْ عَدَاوَتِهِ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ انْتِصَارِ المُسْلِمِينَ، وَقَتْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِي بَدْرٍ، قَالَ: أَحَقٌ هَذَا؟ هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ العَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءَ القَوْمِ لَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لِي مِنْ ظَهْرِهَا. فَلَمَّا تَأَكَّدَ لَدَيْهِ الخَبَرُ، انْبَعَثَ عَدُوُّ اللَّهِ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالمُسْلِمِينَ، وَيَمْدَحُ عَدُوَّهُمْ، وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَرْضَ بِهَذا القَدْرِ حَتَّى رَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَبَكَى قَتْلَاهُمْ فِي بَدْرٍ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ بِمَكَّةَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 77) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 265) - سيرة ابن هشام (3/ 58) - شرح المواهب (2/ 368).

عَلَى المُطَّلِبِ بنِ أَبِي وَدَاعَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَنْزَلَهُ وأَكْرَمَهُ، وَجَعَلَ يُنْشِدُ الأَشْعَارَ، وَيُحَرِّضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالمُسْلِمِينَ. أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ أَتَوْهُ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ السِّقَايَةِ (¬1) وَالسِّدَانَةِ (¬2)، وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ يَثْرِبَ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هَذَا الصُّنَيْبِيرُ (¬3) المُنْبَتِرُ (¬4) مِنْ قَوْمِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ، فَنَزَلَ عَلَى رَسُول اللَّهِ {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (¬5)} (¬6)، وَنَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ ¬

_ (¬1) السِّقَايَة: هي ما كانت قريش تَسْقِيهِ الحُجَّاج من الزَّبِيب المَنْبُوذ في الماء. انظر النهاية (2/ 342). (¬2) سَدَانة الكعبة: هي خِدْمَتها وتوَلِّي أمرها. انظر النهاية (2/ 320). (¬3) الصُّنَيْبِيرُ: تصغيرُ الصُّنْبُورِ، وهو الأبْتَرُ، لا عَقِبَ له، وأصل الصُّنْبُورِ: سعفَةٌ تَنْبُتُ في جِذع النخلة لا في الأرض، وقيل: هي النخلة المنفردة التي يَدِقُّ أسفلها، أراد أنَّه إذا قُلِع انقطع ذكره، كما يذهب أثر الصنبور؛ لأنه لا عقب له. انظر النهاية (3/ 51). (¬4) المنبَتِرُ: الذي لا وَلَدَ له، أرادوا أنَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يَعِشْ له ولد. انظر النهاية (1/ 94). (¬5) الأبتر: الذي لا ولد له. انظر النهاية (1/ 94). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (8/ 505): فتوهموا -أي هؤلاء الكفار- لجهلهم أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ماتَ بنوه ينقَطِعُ ذِكْرُه، وحاشا وكَلَّا، بل قد أبقى اللَّهُ ذكره على رؤوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رِقَاب العباد، مستَمِرًّا على دوام الآباد، إلى يوم الحشرِ والمعاد، صلوات اللَّه وسلامه عليه دائمًا إلى يوم التناد. (¬6) سورة الكوثر آية (3).

بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} (¬1). ثُمَّ رَجَعَ كَعْبٌ إِلَى المَدِينَةِ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، وَأَخَذَ يُشَبِّبُ (¬2) فِي أَشْعَارِهِ بِنِسَاءِ الصَّحَابَةِ، وَيُؤْذِيهِمْ بِسَلَاطَةِ (¬3) لِسَانِهِ أَشَدَّ الإِيذَاءِ. فَحِينَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ (¬4)؟ فَإِنَّهُ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، فَانْتَدَبَ لَهُ: مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ، وَأَبُو نَائِلَةَ سِلْكَانُ بنُ سَلَامَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَالحَارِثُ بنُ أَوْسٍ، وَأَبُو عَبْسِ بنِ جَبْرٍ، وَكَانَ قَائِدَ هَذِهِ المَجْمُوعَةِ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-. وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَالَ: "مَنْ لِكَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ"، فَقَامَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (51) - والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر تسمية المشركين صَفِيَّ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصُنيبير والمنبتر - رقم الحديث (6572) - وأخرجه البراز في مسنده - رقم الحديث (2293) - وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (8/ 504): إسناده صحيح. (¬2) شَبَّبَ بالمرأة: قال فيها الغَزَل. انظر لسان العرب (7/ 12). (¬3) السلِيطُ: الطويلُ اللِّسَان. انظر لسان العرب (6/ 326). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 77): أي مَنِ الذي ينتَدِبُ إلى قتله. (¬5) في رواية ابن إسحاق (3/ 61)، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فافعل إن قَدِرْتَ على ذلك".

فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ (¬1) شَيْئًا، قَالَ: "قُلْ" فَذَهَبَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ إِلَى كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ -أَيْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا (¬2) وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا (¬3) وَاللَّهِ لَتَمُلَّنَّهُ (¬4). فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا (¬5) أَوْ وَسْقَيْنِ. قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ أَرْهِنُونِي (¬6). قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ . قَالَ كَعْبٌ: أَرْهِنُونِي نِسَاءَكُمْ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ العَرَبِ؟ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): كأنه استأذنه أن يفتَعِلَ شيئًا يَحْتَال به، ومن ثمَّ بوب عليه البخاري في صحيحه: باب الكذب في الحرب، وقد ظهر من سياق ابن سعد في طبقاته (2/ 265) للقصة أنهم استأذنوا أن يشكُوا منه ويعيِّبُوا رأيه. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): عَنَّانَا: بتشديدِ النون الأولى: من العَنَاءِ وهو التَّعَب. (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 78): أي وزيادة على ذلك. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): لَتَمُلَّنَّه: بفتح اللام الأولى وتشديد اللام الثانية والنون: من المَلَالِ. وقال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 136): أي: يتضجَّرُون منه أكثر من هذا الضَّجَرِ. (¬5) الوَسْق: بفتح الواو وسكون السين: سِتُّون صاعًا. انظر النهاية (5/ 161). (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 78): أرهِنُوني: أي ادفعوا لي شيئًا يكون رَهْنًا على التَّمْرِ الذي تريدونه.

قَالَ كَعْبٌ: فَأَرْهِنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فيسَبُّ أَحَدُهُمْ؟ فيقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأَمَةَ، يَعْنِي السِّلَاحَ. فَوَاعَدَهُ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالسَّلَاحِ. وَصَنَعَ أَبُو نَائِلَةَ مِثْلَ مَا صَنَعَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، فَقَدْ جَاءَ كَعْبًا فتَنَاشَدَ مَعَهُ أَطْرَافَ الأَشْعَارِ سُوَيْعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ الأَشْرَفِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ، فَاكْتُمْ عَنِّي. قَالَ كَعْبٌ: أَفْعَلُ. قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ -أَي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَلَاءً، عَادَتْنَا العَرَبُ، ورَمَتْنَا عَنْ قَوْس وَاحِدَةٍ، وَقَطَعَتْ عَنَّا السُّبُلَ، حَتَّى ضَاعَ العِيَالُ، وَجَهِدَتِ الأَنْفُسُ، وَأَصْبَحْنَا قَدْ جَهِدْنَا وَجَهِدَ عِيَالُنَا. ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: إِنَّ مَعِيَ أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلَ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ، فتَبِيعَهُمْ وَتُحْسِنَ في ذَلِكَ. وَهَكَذَا نَجَحَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ، وَأَبُو نَائِلَةَ في هَذَا الحِوَارِ إلى مَا قَصَدَا، فَإِنَّ كَعْبًا لَنْ يُنْكِرَ مَعَهُمَا السِّلَاحَ، وَالأَصْحَابَ بَعْدَ هَذَا الحِوَارِ. وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ -لَيْلَةِ الرَّابع عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ- اجْتَمَعَتْ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ قَائِلًا: "انْطَلِقُوا عَلَى اسمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ"،

ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بَيْتِهِ، وَطَفِقَ يُصَلِّي، وَيَدْعُو رَبَّهُ. وَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إلى حِصْنِ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ، فَقَامَ لِيَنْزِلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأتهُ -وَكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ- أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ . فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ. قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إلى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ مُتَطَيِّب يَنْفُحُ رَأْسُهُ. وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِذَا مَا جَاءَنِي فَإِنِّي آخُذُ بِشَعْرِهِ فَأَشُمُّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ، فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ. فَلَمَّا نَزَلَ كَعْبٌ إِلَيْهِمْ تَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً، وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَبُو نَائِلَةَ: هَلْ لَكَ يَا ابْنَ الأَشْرَفِ أَنْ نَتَمَاشَى إلى شِعْبِ العَجُوزِ، فنَتَحَدَّثَ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا؟ . قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ، فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ وَهُوَ في الطَّرِيقِ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبًا أَعْطَرَ قَطُّ. فَقَالَ كَعْبٌ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ العَرَبِ، فَقَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أتأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَدْخَلَ يَدَهُ في رَأْسِهِ فَشَمَّهُ.

ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أَعُودُ -أَيْ لِشَمِّ رَأْسِهِ- قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَعَادَ لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ: ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ أَبُو نَائِلَةَ: أَعُودُ -أَيْ لِشَمِّ رَأْسِهِ- قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ في رَأْسِهِ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ أَبُو نَائِلَةَ لِأَصْحَابِهِ: دُونَكُمْ عَدُوَّ اللَّهِ، فَاخْتَلفتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، لَكِنَّهَا لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَأَخَذَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ مِعْوَلًا، فَوَضَعَهُ في ثُنَّتِهِ (¬1)، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ عَانَتَهُ، فَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ قَتِيلًا، وَكَانَ قَدْ صَاحَ صَيْحَةً شَدِيدَةً أَفْزَعَتْ مَنْ حَوْله، فَلَمْ يبقَ حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ النِّيرَانُ. وَرَجَعَتْ هَذِه المَجْمُوعَةُ، وَقَدْ أُصِيبَ الحَارِثُ بنُ أَوْسٍ بِذُبَابِ (¬2) بَعْضِ سُيُوفِ أَصْحَابِهِ، فَجُرِحَ وَنَزَفَ الدَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ حَرَّةَ العَرِيضِ، رَأَتْ أَنَّ الحَارِثَ لَيْسَ مَعَهُمْ، فَوَقَفُوا سَاعَةً حَتَّى أَتاهُمْ يتبَعُ آثارَهُمْ، فَاحْتَمَلُوهُ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بَقِيعَ الغَرْقَدِ كَبّروا، فَسَمعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَكْبِيرَهُمْ، فَعَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوهُ، فَكَبَّرَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفْلَحَتِ الوُجُوهُ"، قَالُوا: وَوَجْهُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَمِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللَّهَ تَعَالَى عَلَى قَتْلِهِ، وَتَفَلَ عَلَى جُرْحِ الحَارِثِ فَبَرِئ (¬3). ¬

_ (¬1) الثُنَّةُ: بضم الثاء وتشديد النون: ما بين السرة والعانة من أسفل البطن. انظر النهاية (1/ 218). (¬2) ذُبابُ السيف: طرفه الذي يضرب به. نظر النهاية (2/ 141). (¬3) أخرج قصة مقتل كعب بن الأشرف: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل كعب بن الأشرف - رقم الحديث (4037) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب =

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ قتلِ المُشْرِكِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ العَامَّةُ قَدْ بَلَغَتْهُ. 2 - وَفِيهِ جَوَازُ الكَلَامِ الذِي يُحْتَاجُ إِلَيْهِ في الحَرْبِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَائِلهُ إلى حَقِيقَتِهِ. 3 - وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى قُوَّةِ فِطْنَةِ امْرَأَةِ كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، وَصِحَّةِ حَدِيثِهَا، وَبَلَاغَتِهَا في إِطْلَاقِهَا أَنَّ الصَّوْتَ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ (¬1). وَلَمَّا عَلِمَتِ اليَهُودُ بِمَصْرَعِ طَاغِيَتهَا كَعْبِ بنِ الأَشْرَفِ، دَبَّ الرُّعْبُ في قُلُوبِهِمْ العَنِيدَةِ، وَعَلِمُوا أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَنْ يَتَوَانَى في اسْتِخْدَامِ القُوَّةِ حِينَ يَرَى أَنَّ النُّصْحَ لَا يُجْدِي نَفْعًا لِمَنْ يُرِيدُ العَبَثَ بِالأَمْنِ، وَإِثَارَةِ الِاضْطِرَابَاتِ وَعَدَمَ احْتِرَامِ المَوَاثِيقِ، فَلَمْ يُحَرِّكُوا سَاكِنًا لِقَتْلِ طَاغِيَتهِمْ، بَلْ لَزِمُوا الهُدُوءَ، وَتَظَاهَرُوا بِإيفَاءَ العُهُودِ، وَاسْتَكَانُوا، وَأَسْرَعَتِ الأَفَاعِي إلى جُحُورِهَا تَخْتَبِئُ فِيهَا (¬2). ¬

_ = الجهاد والسير - باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود - رقم الحديث (1801) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في العدو يؤتى على غرة - رقم الحديث (2768) - وابن سعد طبقاته (2/ 265) - وابن كثير في البداية والنهاية (4/ 379) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 57) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 187). (¬1) انظر فتح الباري (8/ 80). (¬2) انظر الرحيق المختوم ص 245.

سرية زيد بن حارثة -رضي الله عنه- إلى القردة

سَرِيَّةُ زَيدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى القَرَدَةَ وَهَذِهِ السَّرِيَّةُ هِيَ آخِرُ، وَأَنْجَحُ سَرِيَّةٍ قَامَ بِهَا المُسْلِمُونَ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَحَدَثَتْ في جُمَادَى الآخِرَةِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ. وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَ قُرَيْشًا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، خَافَتْ أَنْ تَسْلُكَ الطَّرِيقَ المُعْتَادَةَ الذِي كَانَتْ تَسْلُكُهُ إلى الشَّامِ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَقَالُوا -وَقَدِ اقْترَبَ مَوْسِمُ رِحْلَتِهِمْ في الصَّيْفِ إلى الشَّامِ-: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَوَّرَ (¬1) عَلَيْنَا مَتْجَرَنَا، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِنَا، فَمَا نَدْرِي أَيْنَ نَسْلُكُ، فَقَالَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ: إِنْ أَقَمْنَا بِمَكَّةَ أَكَلْنَا رُؤُوسَ أَمْوَالِنَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ بَقَاءٍ، وَإِنَّمَا حَيَاتنا بِمَكَّةَ عَلَى التِّجَارَةِ. فَقَالَ الأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَسْلُكُ بِكُمْ طَرِيقَ النَّجْدِيَّةِ -وَهِي طَرِيقٌ طَوِيلَةٌ جِدًّا تَخْتَرِقُ نَجْدَ إلى الشَّامِ، وَتَمُرُّ في شَرْقِيِّ المَدِينَةِ عَلَى بُعْدٍ كَبِيرٍ مِنْهَا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْهَلُ هَذِهِ الطَّرِيقَ كُلَّ الجَهْلِ-. فَقَالَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ -أَي الدَّلِيلُ؟ . قَالَ: فُرَاتُ بنُ حَيَّانٍ: مِنْ بَنِي بَكْرِ بنِ وَائِلٍ، فَدَعَوْهُ، فَاسْتَأْجَرُوهُ دَلِيلًا ¬

_ (¬1) عَوَّر: أفسد. انظر لسان العرب (9/ 468).

* خروج زيد بن حارثة -رضي الله عنه-

عَلَى الطَّرِيقِ، وَخَرَجَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ، وَفِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ، وَفِضَّةٌ كَثِيرَةٌ وَزْنَ ثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، يَقُودُهَا صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَقِيلَ أَبُو سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ، فَسَلَكَ بِهِمْ فُرَاتُ بنُ حَيَّانَ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ طَرِيقِ العِرَاقِ. وَقَدْ بَلَغَتِ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْبَاءُ هَذِهِ العِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُعَيْمَ (¬1) بنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيَّ قَدِمَ المَدِينَةَ، وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فنَزَلَ عَلَى كِنَانَةِ بنِ أَبِي الحُقَيْقِ في بَنِي النَّضِيرِ، فَشَرِبَ مَعَهُ الخَمْرَ، وَعِنْدَهُ سَلِيطُ بنُ النُّعْمَانِ -وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ- وَلَمْ تُحَرَّمِ الخَمْرُ يَوْمَئِذٍ، فَلَمَّا أَخَذَتِ الخَمْرُ مِنْ نُعَيْمٍ تَحَدَّثَ بِالتَّفْصِيلِ عَنْ أَمْرِ العِيرِ وَخُطَّةِ سَيْرِهَا، فَخَرَجَ سَلِيط مِنْ سَاعَتِهِ مُسْرِعًا إلى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِمْ. * خُرُوجُ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَبعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، في مِائَةِ رَاكِبٍ يَعْتَرِضُ عِيرَ قُرَيْشٍ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ يُقَالُ لَهُ: القَرَدَةُ، فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا كُلَّهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ حَرَسِ القَافِلَةِ إِلَّا الفِرَارُ بِدُونِ أَيِّ مُقَاوَمَةٍ. * أَسْرُ دَلِيلِ القَافِلَةِ وَإِسْلَامُهُ: وَأَسَرَ المُسْلِمُونَ دَلِيلَ القَافِلَةِ فُرَاتَ بنَ حَيَّانٍ، فَقَدِمُوا بِهِ، وَبِالعِيرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَرُّوا بِهِ بِحَلَقَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ فُرَات: إِنِّي مُسْلِمٌ، فَقَالُوا: ¬

_ (¬1) أسلم نُعَيْمُ بن مسعود -رضي اللَّه عنه- يوم الخندَقِ، وحَسُن إسلامه، وهو الذي أوقع الخلاف بين بني قُرَيْظَةَ، وغطفَان، وقريش يوم الخندق.

يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْكُمْ رِجَالًا نَكِلُهُمْ إلى إِيمَانِهِمْ، مِنْهُمْ: فُرَاتُ بنُ حَيَّانَ" (¬1). وَلَمَّا أَسْلَمَ فُرَاتٌ -رضي اللَّه عنه- حَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَفَقُهَ في الدِّينِ، وَلَمْ يَزَلْ يَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أَنْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَانْتَقَلَ إلى مَكَّةَ فنَزَلَهَا. وَقَسَمَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَنَائِمَ هَذه السَّرِيَّةِ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ، بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الخُمُسَ (¬2). وَكَانَتْ مَأْسَاةً شَدِيدَةً، وَنَكْبَةً كَبِيرَةً أَصَابَتْ قُرَيْشًا بَعْدَ بَدْرٍ، اشْتَدَّ لَهَا قَلَقُ قُرَيْشٍ، وَزَادَتْهَا هَمًّا وَحُزْنًا، وَلَمْ تبقَ أَمَامَهَا إِلَّا طَرِيقَانِ، إِمَّا أَنْ تَمْتَنِعَ عَنْ غَطْرَسَتِهَا وَكِبْرِيائِهَا، وَتَأْخُذَ طَرِيقَ المُوَادَعَةِ وَالمُصَالَحَةِ مَعَ المُسْلِمِينَ، أَوْ تَقُومَ بِحَرْبٍ شَامِلَةٍ تُعِيدُ لَهَا مَجْدَهَا التَّلِيدَ وَعِزَّهَا القَدِيمَ، وَتَقْضِي عَلَى قُوَّاتِ المُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ لَا تبقَى لَهُمْ سَيْطَرَةٌ عَلَى هَذَا وَلَا ذَاكَ، وَقَدْ اخْتَارَتْ مَكَّةُ الطَّرِيقَ الثَّانِيَةَ، فَازْدَادَ إِصْرَارُها عَلَى المُطَالَبَةِ بِالثَّأْرِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِلِقَاءِ المُسْلِمِينَ في تَعْبِئَةٍ كَامِلَةٍ، وَتَصْمِيمُهَا عَلَى الغَزْوِ في دِيَارِهِمْ، فكان ذَلِكَ وَمَا سَبَقَ مِنْ أَحْدَاثٍ التَمْهِيدَ القَوِيِّ لِمَعْرَكَةِ أُحُدٍ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18965) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في الجاسوس الذمي - رقم الحديث (2652) - والحاكم في المستدرك - كتاب الجهاد - باب نهى التفريق في المنزل إذا نزلوا - رقم الحديث (2588) - وإسناده صحيح. (¬2) انظر خبر هذه السرية في: سيرة ابن هشام (3/ 56) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 267) - البداية والنهاية (4/ 378) - شرح المواهب (2/ 384). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص 247.

زواج عثمان -رضي الله عنه- من أم كلثوم بنت الرسول -صلى الله عليه وسلم-

زَوَاجُ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بنْتِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ بِكْرًا (¬1)، وَلَمْ تَلِدْ لِعُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- (¬2). وَكَانَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- قَدْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا رُقَيَّةَ، فَمَرِضَتْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَأَمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَبْقَى عِنْدَهَا عِنْدَمَا ذَهَبَ إِلَى بْدرٍ، فَمَاتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَمَا جَاءَ بَشِيرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَهْلِ المَدِينَةِ بِالفَتْحِ، وَالنَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ-، فَلَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ زَوَّجَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَتَهُ الثَّانِيَةَ أُمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالحَقِّ، فكنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ للَّهِ وَلِرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَآمَنَ بِمَا بُعِثَ بِهِ، ثُمَّ هَاجَرْتُ الهِجْرَتَيْنِ، وَنِلْتُ صِهْرَ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَوَاللَّهِ مَا ¬

_ (¬1) كانت رضي اللَّه عنها عند عُتبة بن أبي لَهَب، فلما نزلت سورة المسد، أمره أبوه أن يطلقها، فطلقها ولم يكن دَخَل بها. انظر أسد الغابة (5/ 486). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 252) - الإصابة (8/ 460) - أسد الغابة (5/ 486). (¬3) الصّهِرُ: القَرَابَةُ، يكال: صاهَرْتُ القوم: إذا تزوَّجت فيهم. انظر لسان العرب (7/ 428).

عَصَيْتُهُ، وَلَا غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (¬1). وَلَمْ يُعْرَفْ لِأَحَدٍ تَزَوَّجَ ابْنَتَيْ نَبِيٍّ غَيْرُ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفضائل - باب مناقب عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3696) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (480) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4750).

زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من حفصة بنت عمر رضي الله عنهما

زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حَفْصَةَ بنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1)، بَعْدَ أَنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ زَوْجِهَا خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ -رضي اللَّه عنه- الذِي كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا بَعْدَ بَدْرٍ. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- حِينَ تَأيَّمَتْ (¬2) حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَتُوُفِّيَ بِالمَدِينَةِ، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، فَقَالَ: سَأَنْظُرُ في ذَلِكَ، قَالَ: فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَلَقِيَني، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ النِّكَاحَ يَوْمِيَ هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ، قَالَ: فَلَمْ يَرْجعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فكُنْتُ أَوْجَدَ (¬3) عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَخَطَبَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 285) - سير أعلام النبلاء (2/ 227) - أسد الغابة (5/ 250). (¬2) يُقال: امرأةٌ أيِّمٌ: إذا كانت بغيرِ زوج. انظر لسان العرب (1/ 290). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (10/ 222): أي أشدَّ غَضَبًا على أبي بكر من غضبِي على =

* فوائد الحديث

-صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَني أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ في نَفْسِكَ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ، فَلَمْ أَرْجعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجعَ إِلَيْكَ شَيْئًا لَمَّا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَذْكُرُهَا، وَلَمْ أَكُنْ أُفْشِي سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَوْ ترَكَهَا لَنَكَحْتُهَا (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: 1 - فِيهِ أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا العُذْرُ -وَهُوَ ذِكْرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحَفْصَةَ- لَقَبِلَهَا أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فيسْتَفَادُ مِنْهُ عُذْرُ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- في كَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ عُثْمَانُ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ. 2 - وَفِيهِ فَضْلُ كِتْمَانِ السِّرِّ، فَإِذَا أَظْهَرَهُ صَاحِبُهُ ارْتَفَعَ الحَرَجُ عَمَّنْ سَمِعَهُ. 3 - وَفِيهِ عِتَابُ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ، وَعَتَبُهُ عَلَيْهِ وَاعْتِذَارُهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ جُبِلَتِ الطِّبَاعُ البَشَرِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ كِتْمَانِ أَبِي بَكْرٍ ذَلِكَ أنَّهُ خَشِيَ أَنْ يبدُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ حَفْصَةَ، فَيَقَعُ في قَلْبِ عُمَرَ ¬

_ = عثمان، وذلك لأمرين: أحدهما: ما كان بينهما من أكيد المَوَدَّة، والثاني: لكون عثمان أجابَهُ أولًا ثم اعتذَرَ له ثانيًا, ولكون أبي بكر لم يُعِدْ عليه جوابًا. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير - رقم الحديث (5122) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب ذكر الإباحة للمرء أن يذكر التي يريد أن يخطبها لإخوانه - رقم الحديث (4039).

* طلاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- حفصة رضي الله عنها ومراجعته إياها

انْكِسَارٌ، وَلَعَلَّ اطِّلَاعَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَصَدَ خِطْبَةَ حَفْصَةَ كَانَ بِإِخْبَاره لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشَارَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُمُ عَنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُرِيدُهُ. 4 - وَفِيهِ عَرْضُ الإِنْسَانِ بِنْتَهُ، وَغَيْرَهَا مِنْ مُوليَاتِهِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ خَيْرَهُ وَصَلَاحَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ العَائِدِ عَلَى المَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا استِحْيَاءَ في ذَلِكَ. 5 - وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِعَرْضِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ حِينَئِذٍ مُتَزَوِّجًا (¬1). * طَلَاقُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَفْصَةَ رضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمُرَاجَعَتُهُ إِيَّاهَا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا (¬2). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ لَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 222). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب الرجعة - رقم الحديث (4275) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4611).

* نبذة عن حفصة رضي الله عنها

طَلَّقَكِ؟ إِنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَكِ، ثُمَّ رَاجَعَكِ مِنْ أَجْلِي، فَأَيْمُ اللَّهِ لَئِنْ كَانَ طَلَّقَكِ، لَا كَلَّمْتُكِ كَلِمَةً أَبَدًا (¬1). * نُبْذَةٌ عن حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِسِتِّ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ حَيْثُ بَايَعَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُعَاوِيَةَ -رضي اللَّه عنه- في عَامِ الجَمَاعَةِ، وَقِيلَ تُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ بِالمَدِينَةِ، في خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، وَصَلَّى عَلَيْهَا مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي المَدِينَةِ، وَدُفِنَتْ بِالبَقِيعِ وَعُمْرُهَا سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب الرجعة - رقم الحديث (4276) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4613). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 287) - سير أعلام النبلاء (2/ 229) - أسد الغابة (5/ 251).

زواج الرسول من زينب بنت خزيمة رضي الله عنها

زَوَاجُ الرَّسُولِ مِنْ زَيْنَبَ بنْتِ خُزَيْمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ الهِلَالِيَّةَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ. وَكَانَتْ تُسَمَّى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمَّ المَسَاكِينِ لِكَثْرَةِ إِطْعَامِهَا المَسَاكِينَ وَصَدَقَتِهَا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأُمِّهَا. وَكَانَتْ زَوْجَ الطُّفَيْلِ بنِ الحَارِثِ فَطلَّقَهَا، فتَزَوَّجَهَا عُبَيْدَةُ بنُ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَاسْتُشْهِدَ عَنْهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، فَاسْتُشْهِدَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَيْهِ، فتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ تَلْبَثْ عِنْدَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا يَسِيرًا شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً حَتَّى تُوُفِّيَتْ في آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا في حَيَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ عُمُرُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا تُوُفِّيَتْ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا. فَصَلَّى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَفنَهَا بِالبَقِيعِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل زواج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من زينب بنت خزيمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 303) - أسد الغابة (5/ 297) - الإصابة (8/ 157) - سير أعلام النبلاء (2/ 218).

من بداية غزوة أحد إلى نهايتها

مِنْ بدَايَةِ غَزْوَةِ أُحُدٍ إِلَى نِهَايَتِهَا غَزْوَةُ أُحُدٍ (¬1) غَزْوَةُ أُحُدٍ لَمْ تَكُنْ مَعْرَكَةً في المَيْدَانِ وَحْدَهُ، إِنَّمَا كَانَتْ مَعْرَكَةً كَذَلِكَ في الضَّمِيرِ. . . كَانَتْ مَعْرَكَةً مَيْدَانُهَا أَوْسَعُ المَيَادِينِ؛ لِأَنَّ مَيْدَانَ القِتَالِ فِيهَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا جَانِبًا وَاحِدًا مِنْ مَيْدَانِهَا الهَائِلِ الذِي دَارَتْ فِيهِ. . . مَيْدَانُ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، وَتَصَوُّرَاتُهَا وَمَشَاعِرُهَا، وَأَطْمَاعُهَا وَشَهَوَاتُهَا، وَدَوَافِعُهَا وَكَوَابِحُهَا، عَلَى العُمُومِ. . . وَكَانَ القُرْآنُ هُنَاكَ يُعَالِجُ هَذه النَّفْسَ بِأَلْطَفِ وَأَعْمَقِ، وَبِأَفْعَلِ وَأَشْمَلِ مَا يُعَالِجُ المُحَارِبُونَ أَقْرَانَهُمْ في النِّزَالِ (¬2). * وَقْتُهَا: حَدَثَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ نَهَارَ يَوْمِ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ ¬

_ (¬1) قال الإِمام السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (3/ 240): أُحدٌ الجبل المعروف بالمدينة، سُمي بهذا الاسم لتوحُّدِه وانقطاعه عن جبال أُخر هنالك. وقد جاءت أحاديث في فضل جبلِ أُحد، منها ما أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4083) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1393) - عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: نَظَرَ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أُحد فقال: "إن أُحدًا جبل يحبُّنَا ونحِبُّه". قال الإِمام النووي في شرح مسلم (9/ 138): قيل: معناهُ يحبُّنا أهله وهم أهل المدينة ونحبُّهم، والصحيح أنه على ظاهره، وأن معناه يحبّنا هو بنفسه، وقد جعل اللَّه فيه تَمْيِيزًا. (¬2) في ظلال القرآن (1/ 457) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* سببها

الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1). * سَبَبُهَا: أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا رَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ إلى مَكَّةَ، وَقَدْ أُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ لَمْ يُصْابُوا بِمِثْلِهَا، مِنْ قتلِ صَنَادِيدِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَقُومُوا بِحَرْبٍ شَامِلَةٍ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، تَشْفِي غَيْظَهَا، وَتَرْوِي غِلَّةَ حِقْدِهَا، وَأَخَذَتْ في الِاسْتِعْدَادِ لِخَوْضِ مِثْلِ هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ. وَكَانَ عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهلٍ، وَصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَأَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي رَبِيَعَةَ أَكْثَرَ زُعَمَاءَ قُرَيْشٍ نَشَاطًا، وَتَحَمُّسًا لِخَوْضِ هَذِهِ المَعْرَكَةِ. وَأَوَّلُ مَا فَعَلُوهُ بِهَذَا الصَّدَدِ أَنَّهُمْ احْتَجَزُوا العِيرَ التِي كَانَ قَدْ نَجَا بِهَا أَبُو سُفْيَانَ وَالتِي كَانَتْ سَبَبًا لِمَعْرَكَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا لِلَّذِينَ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ فِيهَا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ (¬2)، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا المَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرَنَا ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 88) كانت هذه الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث باتِّفاق الجمهور. والدليل على أن وقعة أُحُدٍ كانت في النهار قوله تَعَالَى في سورة آل عمران آية (121): {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 90): وقوله تَعَالَى: {غَدَوْتَ} أي خرجت أوَّل النهار. (¬2) وتَرَهُ: نقَصَهُ، والموتُورُ: الذي قُتل له قتيلٌ فلم يُدْرِكْ بدمه. انظر لسان العرب (15/ 205). ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (552) - ومسلم في =

* استنفار قريش العرب والإغراء بقتل حمزة -رضي الله عنه-

بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا، فَأَجَابُوا لِذَلِكَ، وَكَانَتْ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَالمَالُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ (¬1) * اسْتِنْفَارُ قُرَيْشٍ العَرَبَ وَالإِغْرَاءُ بِقَتْلِ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَتَجَهَّزَتْ قُرَيْشٌ لِحَرْبِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبَعَثَتْ نَفَرًا يَسِيرُونَ في العَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلى نَصْرِهِمْ، وَأَخَذُوا لِذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ التَّحْرِيضِ. وَأَبَى أَنْ يُعِينَهُمْ أَبُو عَزَّةَ الجُمَحِيُّ (¬2)، فَمَشَى إِلَيْهِ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ له: يَا أَبَا عَزَّةَ إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ، فَاخْرُجْ مَعَنَا، فَأَبَي، وَقَالَ: مَنَّ عَلَيَّ مُحَمَّدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَاهَدْتُهُ لَا أُظَاهِرُ عَلَيْهِ عَدُوًّا أَبَدًا، وَأَنَا أَفِي لَهُ بِمَا عَاهَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اخْرُجْ مَعَنَا وَلَكَ اللَّهُ عَلَيَّ إِنْ رَجَعْتَ أَنْ أُغْنِيكَ، وَإِنْ أُصِبْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتَكَ مَعَ بَنَاتِي، يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ. فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ، وَمُسَافِعُ بنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُبَيْرَةُ بنُ أَبِي وَهْبٍ يَسْتَنْفِرُونَ بَنِي كِنَانَةَ، وَأَهْلَ تِهَامَةَ بِأَشْعَارِهِمْ، وَيُحَرِّضُونَهُمْ وَيَدْعُونَهُمْ إلى حَرْبِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬

_ = صحيحه - رقم الحديث (626) عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الذي تَفوتُه صلاة العصر كأنما وترَ أهلَهُ ومالَهُ". (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 68) - البداية والنهاية (4/ 384) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 267) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 224). (¬2) هذا الرجل أُسِرَ في غزوة بدر الكبرى ومَنّ عليه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأطلقه بغير فِدَاء، لكنه أخذ عليه العهد أنه ما يقاتل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 69) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 268) - البداية والنهاية (4/ 384) - الرَّوْض الأُنُف (3/ 241).

* جبير بن مطعم وقتل حمزة -رضي الله عنه-

* جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ وَقَتْلُ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَدَعَا جُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا له حبَشِيًّا يُقَالُ له: وَحْشِيٌّ، وَكَانَ يَقْذِفُ بِالحَرْبَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بنِ عَدِيٍّ، فَأَنْتَ حُرٌّ (¬1)، وَكَانَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- قَتَلَ طُعَيْمَةَ يَوْمَ بَدْرٍ. * قِوَامُ جَيْشِ المُشْرِكينَ وَخُرُوجُهُ: وَمَا زَالَتْ قُرَيْشٌ تَجْمَعُ الجُمُوعَ مِنْ حُلفائِهَا، وَالأَحَابِيشَ (¬2)، وَالأَعْرَابَ مِنْ كِنَانَةَ، وَتِهَامَةَ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهَا أَبُو عَامِرٍ الفَاسِقُ، وَهُوَ وَالِدُ حَنْظَلَةَ غَسِيلِ المَلَائِكَةِ -رضي اللَّه عنه- في خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ، فتَجَمَّعَ لِقُرَيْشٍ ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فِيهِمْ سَبْعُمِائَةِ دَارعٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائتا فَرَسٍ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ بَعِيرٍ. ورَأَى قَادَةُ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مَعَهُمُ النِّسَاءَ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ في اسْتِمَاتَةِ الرِّجَالِ، وَحَتَّى لَا يَفِرُّوا، فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بِزَوْجَتِهِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ بِزَوْجَتِهِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل حمزة بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4072) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16077). (¬2) الأحابِيشُ: هم أحياء من قبيلةِ القَارَّةِ، انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشًا، والتحبُّش: التجّمع، وقِيل حالفُوا قُريشًا تحتِ جَبَل يُسمى حُبْشيًا فسُمُّوا بذلك. انظر النهاية (1/ 319).

* العباس -رضي الله عنه- يرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخبر قريش

وَخَرَجَ طَلْحَةُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ بِسُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَخَرَجَ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ بِزَوْجَتِهِ بَرْزَةَ بِنْتِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّةِ، وَخَرَجَ عَمْرُو بنُ العَاصِ بِزَوْجَتِهِ رَيطَةَ بِنْتِ مُنبِّهِ بنِ الحَجَّاجِ، فَكَانَتْ عِدَّةُ النِّسَاءِ اللَّاتِي خَرَجْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، مَعَهُنَّ الدُّفُوفُ وَالخُمُورُ، فكُنَّ يبكِينَ قتلَى بَدْرٍ، وَيُحَرِّضْنَ الرِّجَالَ عَلَى القِتَالِ، وَعَدَمِ الهَزِيمَةِ وَالفِرَارِ. وَكَانَتِ القِيَادَةُ العَامَّةُ إلى أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ، وَقِيَادَةُ الفُرْسَانِ إلى خَالِدِ بنِ الوَليدِ، يُعَاوِنُهُ عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، أَمَّا اللِّوَاءُ فَكَانَ إلى بَنِي عَبْدِ الدَّارِ (¬1). * العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- يُرْسِلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَبَرِ قُرَيْشٍ: فَلَمَّا خَرَجَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، بِرِسَالَةٍ مُسْتَعْجَلَةٍ إلى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ضَمَّنَهَا جَمِيعَ تَفَاصِيلِ جَيْشٍ قُرَيْشٍ، وَدَفَعَ بِالكِتَابِ إلى رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ كَانَ قَدِ اسْتَأْجَرَهُ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ المَدِينَةَ في ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَفَعَلَ، وَسَلَّمَ الرِّسَالة إلى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِمَسْجِدِ قُباءَ، فَقَرَأَ الرِّسَالَةَ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَأَمَرَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالكِتْمَانِ (¬2). قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في الِاسْتِيعَابِ: وَكَانَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- يَكْتُبُ بِأَخْبَارِ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 70) - الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 268) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 225) - البداية والنهاية (4/ 385). (¬2) انظر الطبقات لابن سعد (2/ 268).

* حراسة المدينة

المُشْرِكِينَ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يَتَقَوَّوْنَ بِهِ بِمَكَّةَ (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: وَلَمْ يَزَلِ العَبَّاسُ مُشْفِقًا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مُحِبًّا لَهُ، صَابِرًا عَلَى الأَذَى، وَلَمَّا يُسْلِمْ بَعْدُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَيْلَةَ العَقَبَةِ عَرَفَ، وَقَامَ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ في اللَّيْلِ، وَتَوَثَّقَ لَهُ مِنَ السَّبْعِينَ، ثُمَّ خَرَجَ إلى بَدْرٍ مَعَ قَوْمِهِ مُكْرَهًا، فَأُسِرَ، فَأَبْدَى لَهُمْ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ (¬2)، ثُمَّ رَجَعَ إلى مَكَّةَ، فَمَا أَدْرِي لِمَاذَا أَقَامَ بِهَا (¬3)؟ . ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَادَ مُسْرِعًا إلى المَدِينَةِ، وَأَخَذَ يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (¬4). * حِرَاسَةُ المَدِينَةِ: وَحِينَئِذٍ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحِرَاسَةِ المَدِينَةِ، وإعْلَانِ حَالَةِ الطَّوَارِئِ فِيهَا خَوْفا مِنْ أَنْ يُؤْخَذُوا عَلَى غِرَّةٍ، وَقَامَ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ فِيهِمْ: سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، ¬

_ (¬1) انظر الاستيعاب لابن عبد البر (2/ 359). (¬2) قال الذهبي في السير (2/ 99): ولو جَرَى هذا -أي أنه مسلم- لما طلب من العباس فداء يوم بدر، والظاهر أن إسلامه كان بعد بدر. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (3/ 584): والمشهورُ أَنَّ العبَّاس أسلم قبل فتح خيبر، ويدلُّ عليه حديث أنس في قِصَّة الحجاج بن عِلاط. قلتُ: قصَّة الحجاج بن علاط سيأتي ذكرها في غزوة خيبر إن شاء اللَّه. (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 96). قلتُ: وأما ما جاء في أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر العباس -رضي اللَّه عنه- بالإقامة بمكة من أجل أن يُرسل له أخبار المشركين فكلُّها أحاديث ضعيفة لا تثبت. انظر سير أعلام النبلاء (2/ 99). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 268).

* وصول جيش المشركين إلى المدينة

وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وَسَعْدُ بنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِحِرَاسَةِ الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَاتُوا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ عَلَى بَابِهِ، وَعَلَيْهِمُ السِّلَاحُ حَتَّى أَصْبَحُوا (¬1). * وُصُولُ جَيشِ المُشْرِكِينَ إلى المَدِينَةِ: تَابَعَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ مَعَهَا مَسِيرَهَا إلى المَدِينَةِ، حَتَّى اقْتَرَبُوا مِنَ المَدِينَةِ، فَسَلَكُوا وادِي العَتِيقِ، ثُمَّ انْحَرَفُوا مِنْهُ إلى ذَاتِ اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ، في بَطْنِ قَنَاةٍ (¬2) عَلَى شَفِيرِ الوَادِي (¬3) مُقَابِلَ المَدِينَةِ، فَعَسْكَرُوا هُنَاكَ، وَكَانَ وُصُولُهُمْ لَيْلَةَ الخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالَ. وشَاعَ خَبَرُ قُرَيْشٍ وَمَسِيرُهُمْ في النَّاسِ، حَتَّى نَزَلُوا ذَا الحُلَيْفَةِ وَأَرْجَفَ (¬4) اليَهُودُ وَالمُنَافِقُونَ، فَبَعَثَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَيْنَيْنِ لَهُ هُمَا: أَنَسٌ وَمُؤْنِسٌ ابْنَا فَضَالة الظَّفَرِيَّانِ، لَيْلَةَ الخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالَ، فَأتيا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بخَبَرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ قَدْ خَلَّوْا إِبِلَهُمْ وَخَيْلَهُمْ في زَرْعٍ لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَرَكُوهُ لَيْسَ بِهِ خَضِرًا، ثُمَّ بَعَثَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحبابَ بنَ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه- إِلَيْهِمْ، فَدَخَلَ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 268). (¬2) قَنَاة: هو واد من أودية المدينة، عليه حَرْثٌ ومَالٌ وزَرْع. انظر النهاية (4/ 103). (¬3) شَفِيرُ الوادي: أي جانبه. انظر النهاية (2/ 434). (¬4) أرجَفَ القوم: إذا خاضُوا في الأخبارِ السيِّئَةِ وذِكْرِ الفِتَنِ. انظر لسان العرب (5/ 153). ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب آية (60): {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}.

* رؤيا الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومشاورته أصحابه رضي الله عنهم

فِيهِمْ، فَحَزَرَهُمْ (¬1) جَاءَهُ بِعِلْمِهِمْ (¬2). * رُؤْيَا الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمُشَاوَرتُهُ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَبَعْدَ أَنْ تَأَكَّدَ لِلرَّسُولِ خَبَرُ قُرَيْشٍ، وَوُصُولُهُمْ إلى المَدِينَةِ، عَقَدَ اجْتِمَاعًا اسْتِشَارِيًّا مَعَ الصَّحَابَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِرُؤْيَاهُ التِي رَآهَا لَيْلَةَ الجُمُعَةِ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ، وَاللَّه خَيْرًا (¬3)، رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ في ذُبَابِ (¬4) سيْفِي ثَلْمًا (¬5)، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي في دِرْعٍ حَصِينَةٍ". فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرُؤْيَاهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَاذَا أَوَّلْتَ رُؤْيَاكَ؟ قَالَ: "فَأَمَّا البَقَرُ، فَهِيَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي يُقْتَلُونَ، وَأَمَّا الثَّلْمُ الذِي رَأَيْتُ في ذُبَابِ سيْفِي، فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقْتَلُ، وَأَوَّلْتُ الدِّرْعَ الحَصِينَةَ المَدِينَةَ" (¬6). ¬

_ (¬1) حزَرَهُم: أي عدَّهم. انظر لسان العرب (3/ 150). (¬2) انظر التفاصيل في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 268) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 225) - سيرة ابن هشام (3/ 73). (¬3) قال الحافظ في الفتح (7/ 128): هذا من جملة الرؤيا كما جزم به عياض وغيره، كذا بالرفع فيهما على أنه مبتدأ وخبر، وفيه حذفٌ تقديرُه: وصنع اللَّه خير. (¬4) ذُبَاب السيف: طَرَفه الذي يُضْرَب به. انظر النهاية (2/ 141). (¬5) الثَّلْمُ: الكسر. انظر النهاية (1/ 215). (¬6) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (3/ 207) وإسناده حسن - وانظر سيرة ابن هشام (3/ 70) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 268).

وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيْتُ في سَيْفِي ذِي الفِقَارِ فَلًّا (¬1)، فَأَوَّلْتُهُ: فَلًّا يَكُونُ فِيكُمْ، وَرَأَيْتُ أَنِّي مُرْدِفٌ كبْشًا، فَأَوَّلْتُهُ: كَبْشَ الكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنِّي في دِرْعٍ حصِينةٍ، فأولتُهَا: المَدِينَةَ" (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيْتُ في رُؤْيَايَ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ بِهِ اللَّهُ مِنَ الفَتْحِ، وَاجْتِمَاع المُؤْمِنِينَ" (¬3). ثُمَّ قَدَّمَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأْيَهُ إلى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: "امْكُثُوا في المَدِينَةِ، وَاجْعَلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي الآطَامَ (¬4)، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا القَوْمُ قَاتَلْنَاهُمْ في الأَزِقَةِ" (¬5). ¬

_ (¬1) الفَلَّة: الثُّلْمَة في السيف. انظر النهاية (3/ 424). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2445). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب من قتل من المسلمين يوم أحد - رقم الحديث (4081) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الرؤيا - باب رؤيا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2272). (¬4) الأُطُمُ بالضم: بناءٌ مرتَفِعُ وجمعُهُ آطَامٌ. انظر النهاية (1/ 57). (¬5) الزُّقاقُ بالضم: الطريق. انظر النهاية (2/ 277). والخبر في: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 268) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 207).

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ في السُّنَنِ الْكُبْرَى، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَوْ قَاتَلْتُمُوهُمْ في السِّكَكِ (¬1)، فَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْحِيطَانِ" (¬2). وَكَانَتِ المَدِينَةُ قَدْ شُبِّكَتْ بِالبُنْيَانِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى صَارَتْ كَالحِصنِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالمَدِينَةِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا، قَاتَلْنَاهُمْ" (¬3). وَكَانَ هَذَا أَيْضًا رَأْيَ الأَكَابِرِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ المُنَافِقُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ المَجْلِسَ بِصِفَتِهِ أَحَدِ زُعَمَاءَ الخَزْرَجِ. قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الرَّحْمَنِ المُبَارَكْفُورِي: وَيبدُو أَنَّ مُوَافَقَةَ ابنِ سَلُولٍ لِهَذَا الرَّأْيِ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ أَنَّ هَذَا هُوَ المَوْقِفُ الصَّحِيحُ مِنْ حَيْثُ الوِجْهَةِ العَسْكَرِيَّةِ، بَلْ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّبَاعُدِ عَنِ القِتَالِ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ أَحَدٌ، وَشَاءَ اللَّهُ أَنْ ¬

_ (¬1) السِّكَّةُ: الطريق. انظر النهاية (2/ 345). (¬2) أخرج ذلك النسائي في السنن الكبرى - كتاب التعبير - باب الورع - رقم الحديث (7600) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14787). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14787).

* رأي شباب الصحابة رضي الله عنهم

يُفْتَضَحَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (¬1) -كَمَا سَيَأْتِي-. * رَأْيُ شَبَابِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَكِنْ كَانَ رَأْيُ الأَغْلَبِيَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ الخُرُوجَ إلى العَدُوِّ، وَخَاصَّةً الذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَاللَّهِ مَا دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا -أَي الْمَدِينَةُ- في الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ يدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا في الْإِسْلَامِ، اخْرُجْ بِنَا إلى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا وَضَعُفْنَا (¬2). * رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ الْمُنَافِقِ: فَقَالَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالمَدِينَةِ، لَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إلى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبَسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ في وَجْهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاؤُوا (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَأَبَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الخُرُوجَ إلى العَدُوِّ، وَلَمْ يتَنَاهَوْا إلى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَأْيِهِ، وَلَوْ رَضُوا بِالذِي أَمَرَهُمْ كَانَ ذَلِكَ، ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 251. (¬2) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14787) - وإسناده صحيح - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (3/ 71) بدون سند. (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 387) - سيرة ابن هشام (3/ 71).

* تهيؤ الرسول -صلى الله عليه وسلم- للخروج

وَلَكِنْ غَلَبَ القَضَاءُ وَالقَدَرُ، وَعَامَّةُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالخُرُوجِ رِجَالٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا قَدْ عَلِمُوا الذِي سَبَقَ لِأَصْحَابِ بَدْرٍ مِنَ الفَضِيلَةِ (¬1). فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أَبَى إِلَّا الخُرُوجَ إلى العَدُوِّ، وَلَمْ يَتَنَاهَوْا إلى رَأْيِهِ، قَالَ: "شَأْنُكُمْ إِذًا" (¬2). * تَهَيُّؤُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْخُرُوجِ: ثُمَّ صَلَّى الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُمُعَةَ بِالنَّاسِ، فَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ إِذَا صَبَرُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّهَيُّؤِ لِعَدُوِّهِمْ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ. ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ العَصْرَ، وَقَدْ حُشِدَوا وَحَضَرَ أَهْلُ العَوَالِي، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْتَهُ. وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمْ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: اسْتَكْرَهْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الخُرُوجِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِمَا يُرِيدُ، وَالوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فردُّوا الأَمْرَ إِلَيْهِ، فنَدِمُوا جَمِيعًا عَلَى مَا صَنَعُوا. ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (4/ 387). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - وإسناده صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (14787).

فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ لَبِسَ لَأَمَتَهُ (¬1)، وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ (¬2)، وَتَقَلَّدَ السَّيْفَ، فَلَمَّا رَآه النَّاسُ قَامُوا، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَكَ، وَلَا نَسْتَكْرِهَكَ عَلَى الخُرُوجِ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ" (¬3). ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في النَّاسِ بِالخُرُوجِ إلى العَدُوِّ، وَأَنْ لَا يَرْجعَ حَتَّى يُقَاتِلَ. * عَقْدُ الأَلْوِيَةِ وَخُرُوجُ المُسْلِمِينَ إِلَى أُحُدٍ: ثُمَّ عَقَدَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَلْوَيةَ، لِوَاءً لِلْأَوْسِ دَفَعَهُ إلى أُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَلوَاءً لِلْخَزْرَجِ دَفَعَهُ إِلَى الْحُبَابِ بنِ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه-، وَلوَاءً لِلْمُهَاجِرِينَ دَفَعَهُ إلى مُصْعَبَ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ بِمَنْ بَقِي في المَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ السَّعْدَانِ أَمَامَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-، وَسَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- يَعْدُوَانِ، ¬

_ (¬1) اللَّأَمَةُ: الدرع. انظر النهاية (4/ 191). (¬2) أي لبس درعًا فوق دِرع. انظر النهاية (3/ 152). (¬3) علقه الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الاعتصام - باب قول اللَّه تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} - ووصله الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14787) (15722) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في لبس الدرع - رقم الحديث (2590) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6077) - وإسناده صحيح.

* استعراض الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيشه

وَكَانَا دَارِعَيْنِ، وَخَرَجَ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- حَاسِرًا (¬1). * اسْتِعْرَاضُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَيْشَهُ: سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَهُ جَيْشُهُ، حَتَّى وَصَلَ إلى مَكَانٍ يقَالُ لَهُ: الشَّيْخَيْنِ (¬2) فَعَسْكَرَ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَعْرِضُ (¬3) جَيْشَهُ، فَرَدَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَكَانَ مِنَ الذِينَ رَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ اليَوْمِ: عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ، وَزَيدَ بنَ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ، وزَيْدَ بنَ أَرْقَمٍ، وَالبَرَاءَ بنَ عَازِبٍ، وَعَمْرَو بنَ حَزْمٍ، وَأُسَيْدَ بنَ ظَهِيرٍ، وَعرابَةَ بنَ أَوْسٍ، وَأَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْهُ (¬4)، وَعَرَضَهُ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَهُوَ ابنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة فَأَجَازَهُ (¬5). ¬

_ (¬1) الحاسِرُ: هو الذي لا درعَ عليه ولا مِغْفَر. انظر النهاية (1/ 369). (¬2) منطقةُ الشيخين: هو موضعٌ بالمدينة عسكَرَ به رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلةَ خرجَ إلى أُحُدٍ، وبه عَرضَ النَّاس. انظر النهاية (2/ 462). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 149): عرضُ الجيشِ: اختِبَارُ أحوالهم قبل مُبَاشَرَة القتال للنَّظَر في هيئتهم، وترتيبِ مَنَازِلهم وغير ذلك. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 150): المراد بالإيجازَة: الإمضَاءُ للقتال. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4097) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب بيان من البلوغ - رقم الحديث (1868) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4661).

* إجازة رافع بن خديج -رضي الله عنه-، وسمرة بن جندب -رضي الله عنه-

* إِجَازَةُ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه-، وَسَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ -رضي اللَّه عنه-: وَأَجَازَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه-، وَسَمُرَةَ بنَ جُنْدُبٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى صِغَرِ سِنِّهِمَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ مَاهِرًا في رِمَايَةِ النَّبْلِ فَأَجَازَهُ، فَقَالَ سَمُرَةُ بنُ جُنْدُبٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا أَقْوَى مِنْ رَافِعٍ، أَنَا أَصْرَعُهُ، فَلَمَّا أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ، أَمَرَهُمَا أَنْ يَتَصَارَعَا أَمَامَهُ، فتَصَارَعَا، فَصَرَعَ سَمُرَةُ -رضي اللَّه عنه- رَافِعًا -رضي اللَّه عنه-، فَأَجَازَهُ أَيْضًا. وَفي مِنْطَقَةِ الشَّيْخَيْنِ أَدْرَكَهُمُ المَسَاءُ، فَصلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ المَغْرِبَ ثُمَّ صَلَّى العِشَاءَ، وَبَاتَ هُنَاكَ، وَاخْتَارَ خَمْسِينَ رَجُلًا لِحِرَاسَةِ المُعَسْكَرِ يَتَجَوَّلُونَ حَوْلَهُ، وَكَانَ قَائِدَهُمْ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَتَوَلَّى حِرَاسَةَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ذَكْوَانُ بنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ (¬1). * رُجُوعُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ بِالمُنَافِقِينَ: وَقَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ أَدْلَجَ (¬2) رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في السَّحَرِ، وَكَانَ دَلِيلُهُ أَبُو حَثَمَةَ الْحَارِثيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَانْتَهَى إلى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: الشَّوَظُ، بَيْنَ المَدِينَةِ وَأُحُدٍ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الفَجْرِ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ الفَجْرَ. وَفي هَذِهِ الفَتْرَةِ انْخَزَلَ (¬3) عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ، وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ المُنَافِقِينَ -أَيْ ثُلُثُ الجَيْشِ- وَهُوَ يَقُولُ لَعَنَهُ اللَّهُ عَنِ الرَّسُولِ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 74) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 268). (¬2) الدُّلجةُ: هو سير الليل. انظر النهاية (2/ 120). (¬3) انخزَل: أي انفَرَد. انظر النهاية (2/ 29).

-صلى اللَّه عليه وسلم-: عَصَانِي وَأَطَاعَ الوِلْدَانَ، وَمَنْ لَا رَأْيَ لَهُ، ما نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا؟ ارْجِعُوا أَيُّهَا النَّاسُ، فَرَجَعَ بِمَنْ اتَّبعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالشَّكِّ، وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ في سَبْعِمِائَةٍ (¬1). فَتَبِعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ -رضي اللَّه عنه- وَالِدُ جَابِرٍ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ! أُذَكِّرُكُمُ اللَّه أَنْ لَا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، فَلَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ، وَأَبَوْا إِلَّا الِانْصِرَافَ، قَالَ لَهُمْ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْكُمْ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَفِي هَؤُلَاءَ المُنَافِقِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) قال البيهقي في دلائل النبوة (3/ 220): هذا هو المشهور عند أهل المغازي أنهم بَقو في سبعمائة مقاتل. وَوَهِم ابن القيم في زاد المعاد (3/ 174) فقال: فيهم -أي في السبعمائة رجل- خمسون فارس. وتعقبه الحافظ في الفتح (8/ 93) بقوله: وهو غلطٌ بيِّن، وقد جزم موسى بن عقبة بأنه لم يكن معهم في أُحدٍ شيء من الخيل، ووقع عند الواقدي، وذكره ابن سعد في الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 269): كان معهم فرسٌ لرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفرس لأبي بُردَة. (¬2) سورة آل عمران آية (166 - 167).

* تأثر بني سلمة وبني حارثة بالمنافقين

وَنَزَلَ أَيْضًا قَوْلُه تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬1). قَالَ مُجَاهِدُ بنُ جَبْرٍ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: مَيَّزَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ المُنَافِقَ مِنَ المُؤْمِنِ (¬2). فَلَمَّا انْخَزَلَ ابنُ سَلُولٍ وَأَصْحَابهُ، قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ نُقَاتِلُهُمْ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَا نُقَاتِلُهُمْ، فنَزَلَ قَوْلُه تَعَالَى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ (¬3) بِمَا كَسَبُوا (¬4)} (¬5). قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ في هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ في سَبَبِ نُزُولِهَا (¬6). * تَأَثُّرُ بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ بِالمُنَافِقِينَ: وَلَمَّا رَجَعَ ابنُ سَلُولٍ وَأَصْحَابُهُ هَمَّتْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ بِالرُّجُوعِ، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (179). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (2/ 173) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 223). (¬3) أركسَهُم: أوقعَهُم. انظر تفسير ابن كثير (2/ 371). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (2/ 371): أي بسبب عِصْيانهم ومُخَالفَتِهِم الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- واتباعهم البَاطِل. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (4050) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2776) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21599). (¬6) انظر فتح الباري (8/ 101).

* لا نستعين بالمشركين

فَعَصَمَهُمَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَثَبَّتَهُمَا، وَلَحِقَتَا بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفيهِمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا (¬1) وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2). رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} بَنِي سَلِمة وَبَنِي حَارِثَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (¬3). * لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ: وَفي طَرِيقِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أُحُدٍ جَاءَهُ يَهُودُ بَنِي قَيْنُفَاعَ لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ، فَأَبَى -صلى اللَّه عليه وسلم- لأنَّهُمْ لَمْ يُسْلِمُوا، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ، حَتَّى إِذَا خَلَّفَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ إِذَا هُوَ بِكَتِيبَةٍ خَشْنَاءَ (¬4)، فَقَالَ: "مَنْ هَؤُلَاءِ؟ ". قَالُوا: بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَلَامٍ، وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ¬

_ (¬1) الفَشَلُ: الجَزَع، والجُبْنُ والضَّعْفُ. انظر النهاية (3/ 402). (¬2) سورة آل عمران آية (122). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4051) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأنصار - رقم الحديث (2505). (¬4) كتيبة خشناء: أي كثيرة السلاح. انظر النهاية (2/ 34).

* متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسيره إلى أحد

أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، فَقَالُ: "أَسْلِمُوا". فَأَبَوْا، فَقَالَ لَهُمْ: "فَلْيَرْجِعُوا فَإِنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ" (¬1). * مُتَابعَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَسِيرَهُ إِلَى أُحُدٍ: ثُمَّ قَامَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعْدَ رُجُوعِ المُنَافِقِينَ بِبَقِيَّةِ الجَيْشِ -وَهُمْ سَبْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ- لِيُوَاصِلَ سَيْرَهُ نَحْوَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مُعَسْكَرُ المُشْرِكِينَ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُحُدٍ في مَنَاطِقَ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى القَوْمِ مِنْ كَثَبٍ (¬2) مِنْ طَرِيقٍ لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟ ". فَقَامَ أَبُو حَثَمَةَ الْحَارِثِيُّ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ اخْتَارَ طَرِيقًا قَصِيرًا إلى أُحُدٍ، يَمُرُّ بِحَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبِمَزَارِعِهِمْ، حَتَّى مَرَّ بِحَائِطٍ (¬3) لِمِرْبَعِ بنِ قَيْظِيٍّ، وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ البَصَرِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالجَيْشِ قَامَ يَحْثُو (¬4) في وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ حَقًّا، فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي، ثُمَّ أَخَذَ حَفْنَةً (¬5) مِنْ تُرَابٍ في يَدِهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ، فَابْتَدَرَ (¬6) إِلَيْهِ سَعْدُ بنُ زَيْدٍ الأَشْهَلِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَضَرَبَهُ ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الجهاد - باب لا نستعين بالمشركين على المشركين - رقم الحديث (2610) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2580). (¬2) الكَثَبُ: القُرْب. انظر النهاية (4/ 132). (¬3) الحائطُ: هو البُسْتان. انظر النهاية (1/ 444). (¬4) حثَا: رَمى. انظر النهاية (1/ 327). (¬5) الحفْنَة: هي ملءُ الكَفِّ. انظر النهاية (1/ 393). (¬6) بدرَتْ إن الشيء: أسرَعَتْ. انظر لسان العرب (1/ 340).

* تعبئة الرسول -صلى الله عليه وسلم- جيشه ووصيته للرماة

بِالقَوْسِ في رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، وَأَرَادَ القَوْمُ قَتْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَقْتُلُوهُ، فهَذَا الأَعْمَى أَعْمَى القَلْبِ، أعْمَى البَصَرِ" (¬1). وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ، في عُدْوَةِ (¬2) الوَادِي إلى الجَبَلِ، فَعَسْكَرَ بِجَيْشِهِ مُسْتَقْبِلًا المَدِينَةَ، وَجَاعِلًا ظَهْرَهُ إلى جَبَلِ أُحُدٍ، وَجَعَلَ جَبَلَ عَيْنَيْنِ (¬3) عَنْ يَسَارِهِ، وَعَلَى هَذَا صَارَ جَيْشُ العَدُوِّ فَاصِلًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَبَيْنَ المَدِينَةِ (¬4). * تَعْبِئَةُ (¬5) الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَيْشَهُ وَوَصِيَّتُهُ لِلرُّمَاةِ: وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالَ عَبَّأَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَأَخَذَ يُسَوِّي صُفُوفَهُمْ، وَأَمَّرَ رَسولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ جُبَيْرِ بنِ النُّعْمَانِ الأَنْصَارِيَّ الأَوْسِيَّ البَدْرِيَّ -رضي اللَّه عنه-، عَلَى خَمْسِينَ رَامٍ (¬6)، وَأَمَرَهُمْ بِالتَمَرْكُزِ عَلَى جَبَلٍ صَغِيرٍ يَقَعُ عَلَى الضِّفَّةِ الجَنُوبِيَّةِ مِنْ وَادِي قناةٍ -عُرِفَ فِيمَا بَعْدُ بِجَبَلِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (3/ 73) بدون سند. (¬2) عُدوَةُ الوادِي بضمِّ العينِ وفتحها: جانبُه. انظر النهاية (3/ 176). (¬3) جبل عينين: هو الجبل الذي أقام عليه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرُّماة يوم أُحد، والمعروف بجبل الرُّماة. انظر النهاية (3/ 3011). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (3/ 73) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 269). (¬5) عبَّأهم: أي رتَّبهم في مواضعهم وهيأهم للحرب. انظر لسان العرب (619). (¬6) أخرج الإِمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3039) عن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- قال: جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الرجَّالة يوم أُحد، وكانوا خمسين رجلًا: عبد اللَّه بن جبير. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4043) قال البراء -رضي اللَّه عنه-: . . . وأجلسَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جَيشًا من الرماة، وأَمَّر عليهم عبد اللَّه.

الرُّمَاةِ- وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِأَمِيرِهِمْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: "انْضَحِ (¬1) الخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لَا نُؤْتيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ" (¬2). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلرُّمَاةِ: "احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإنْ رَأَيْتُمُونَا نُقَتَلُ، فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلرُّمَاةِ: "إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفُنَا الطَّيْرُ (¬4) فَلَا تَبْرَحُوا (¬5) مَكَانَكُمْ هَذَا حَتَّى أُرْسلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا القَوْمَ، وَأَوْطَأناهُمْ، فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسلَ إِلَيْكُمْ" (¬6). أَمَّا بَقِيَّةُ الجَيْشِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَيْمَنَةِ: المُنْذِرَ بنَ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، وَعَلَى المَيْسَرَةِ: الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- يُسَانِدُهُ: المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، وَكَان لِلزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه- مَهَمَّةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الصُّمُودُ في وَجْهِ فُرْسَانِ خَالِدِ بنَ الوَليدِ (¬7). ¬

_ (¬1) نَضَحَ: رمى. انظر النهاية (5/ 60). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 74). (¬3) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) وإسناده حسن. (¬4) الخَطْفُ: استلابُ الشيءِ وأخذه بسُرعة، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تخطَّفَنا الطيْر": أي تستَلِبَنا وتطِيرَ بِنا، وهو مبالغة الهَلاك. انظر النهاية (2/ 47). (¬5) بَرِحَ: أي زَال. انظر لسان العرب (1/ 364). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب- رقم الحديث (3039) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18593). (¬7) انظر زاد المعاد (3/ 174).

* تحريض الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على القتال

وَفِي هَذَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ (¬1) وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). لَقَدْ كَانَتْ خُطَّةً حَكِيمَةً وَدَقِيقَةً جِدًّا، تَتَجَلَّى فِيهَا عَبْقَرِيَّةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَسْكَرِيَّةُ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَيِّ قَائِدٍ مَهْمَا تَقَدَّمَتْ كَفَاءَتُهُ أَنْ يَضَعَ خُطَّة أَدَقَّ وَأَحْكَمَ مِنْ هَذِهِ، فَقَدْ احْتَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَفْضَلَ مَوْضِعٍ مِنْ مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ، مَعَ أَنَّهُ نَزَلَ فِيهِ بَعْدَ العَدُوِّ، فَقَدْ حَمَى ظَهْرَهُ وَيَمِينَهُ بِارْتفَاعَاتِ جَبَلِ أُحُدٍ، وَحَمَى مَيْسَرَتَهُ وَظَهْرَهُ، حِينَ احْتَدَمَ القِتَالُ بِسَدِّ الثُّلْمَةِ الوَحِيدَةِ التِي كَانَتْ تُوجدُ في جَانِبِ الجَيْشِ الإِسْلَامِيِّ، وَاخْتَارَ لِمُعَسْكَرِهِ مَوْضِعًا مُرْتَفِعًا يَحْتَمِي بِهِ، إِذَا نَزَلَتْ الهَزِيمَةُ بِالمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْتَجِئُ إلى الفِرَارِ، حَتَّى يَتَعَرَّضَ لِلْوُقُوعِ في قَبْضَةِ العِدَاءِ المُطَارِدِينَ وَأَسْرِهِمْ (¬3). وَهَكَذَا تَمَّت تَعْبِئَةُ الجَيْشِ النَّبَوِيِّ صَبَاحَ يَوْمِ السَّبْتِ الخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِلْهِجْرَةِ. * تَحْرِيضُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحابَهُ عَلَى القِتَالِ: ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبُثُّ رُوحَ الحَمَاسَةِ، وَالبَسَالَةِ في أَصْحَابِهِ، وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ اللقاءِ، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ سَيْفًا ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسير هذه الآية (2/ 110): أي بيّن لهم منازلهم، ونجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم. (¬2) سورة آل عمران آية (121). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص 256.

بَاتِرًا (¬1)، وَقَالَ لَهُمْ: "مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا السَّيْفَ؟ "، فبسَطُوا أَيْدِيَهُمْ، كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَأَحْجَمَ (¬2) القَوْمُ" (¬3). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ، قَالَ أَبُو دُجَانَةَ (¬4) وَاسْمُهُ -رضي اللَّه عنه- سِمَاكُ (¬5) بنُ خَرَشَةَ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "أَنْ تَضْرِبَ بِهِ العَدُوَّ حَتَّى يَنْحَنِي" (¬6). وَفِي رِوَايَةِ البَيْهَقِيِّ في الدَّلَائِلِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَّا تَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا وَلَا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ" (¬7). فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه-: أنا آخُذُهُ بِحَقِّهِ. قَالَ أَنَسٌ: فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ (¬8) المُشْرِكِينَ (¬9). ¬

_ (¬1) البَاتِرُ: القاطِعُ. انظر لسان العرب (1/ 309). (¬2) أحجَمَ القَوْمُ: أي نكصُوا وتأخَّرُوا وتهيبوا أخذه. انظر النهاية (1/ 334). (¬3) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي دجانة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2470). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 158): دُجَانةَ بضم الدال وتخفيف الجيم. (¬5) سِمَاك: بكسر السين وفتح الميم. (¬6) انظر سيرة ابن هشام (3/ 74). (¬7) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (3/ 233 - 234). (¬8) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (16/ 20): قوله -رضي اللَّه عنه-: ففَلق به هامَ المشركين: أي شَقّ رؤوسهم. (¬9) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي =

* جواز إظهار الكبر في الحرب

وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه-، رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ (¬1) في الحَرْبِ، وَكَانَتْ لَهُ عِصَابَةٌ (¬2) حَمْرَاءُ إِذَا اعْتَصَبَ بِهَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ حَتَّى المَوْتِ، فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ عَصَبَ رَأْسَهُ بِتِلْكَ العِصَابَةِ ثُمَّ جَعَلَ يتبَخْتَرُ (¬3) بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَلَمَّا رَآه الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتبَخْتَرُ قَالَ: "إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يبغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا في مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ" (¬4). * جَوَازُ إِظْهَارِ الكِبْرِ في الحَرْبِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَظَاهِرِ الكِبْرِ المُحَرَّمَةِ في الأَحْوَالِ العَامَّةِ، تَزُولُ حُرْمَتُهَا في حَالَاتِ الحَرْبِ، فَمِنْ مَظَاهِرِ الكِبْرِ المُحَرَّمَةِ أَنْ يَسِيرَ المُسْلِمُ في الأَرْضِ مَرَحًا (¬5) مُتَبَخْتِرًا، وَلَكِنَّ ذَلِكَ في مَيْدَانِ القِتَالِ أَمْرٌ حَسَنٌ، وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، وَمِنْ مَظَاهِرِ الكِبْرِ المُحَرَّمَةِ تَزيينُ البُيُوتِ أَوِ الأَوَانِي وَالأَقْدَاحِ بِالذَّهَبِ ¬

_ = دجانة - رقم الحديث (2470) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12235). (¬1) يُقال: اختَال، يختَالُ: إذا تكبر. انظر النهاية (2/ 84). (¬2) العِصَابة: هي كل ما عَصَبْتَ به رأسك من عِمَامة أو مِنْدِيل أو خِرقة. انظر النهاية (3/ 220). (¬3) المتبَخْتِر: هو المتكبِّر في مشيتهِ المُعْجَبُ بنفسه. انظر النهاية (1/ 101). (¬4) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (3/ 233 - 234). (¬5) قال اللَّه تَعَالَى في سورة لقمان آية (18): {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (6/ 339): أي متكبرًا جَبّارًا عَنِيدًا، لا تفعل ذلك يبغِضُك اللَّه، ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: مختال معجَبٍ في نفسه، فخورٍ: أي على غيره.

* تعبئة قريش جيشها

أَوِ الفِضَّةِ، غَيْرَ أَنَّ تَزْيِينَ آلَاتِ الحَرْبِ وَأَسْلِحَتِهَا بِالفِضَّةِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ، فَمَظْهَرُ الكِبْرِ هُنَا حَقِيقَتُهُ افْتِخَارٌ بِعِزَّةِ الإِسْلَامِ عَلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ هُوَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ التِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفُوتَ المُسْلِمِينَ أَهَمِّيَّتُهَا (¬1). * تَعْبِئَةُ قُرَيْشٍ جَيْشَهَا: أَمَّا قُرَيْشٌ فَقَدْ عَبَّأَتْ جَيْشَهَا حَسَبَ نِظَامِ الصُّفُوفِ، فَكَانَتِ القِيَادَةُ العَامَّةُ إلى أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَاسْتَعْمَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ خَيْلِهِمْ خَالِدَ بنَ الوَليدِ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائتَا فَرَسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَجَعَلُوا عَلَى المُشَاةِ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ، وَيُقَالُ عَمْرَو بنَ العَاصِ، وَعَلَى الرّمَاةِ وَكَانُوا مِائَة، عَبْدَ اللَّهِ بنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَدَفَعُوا اللِّوَاءَ إلى طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. وَقَدْ كَانَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ أَصْحَابَ اللِّوَاءِ مُنْذُ أَنِ اقْتَسَمَتْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ المَنَاصِبَ التِي وَرِثُوهَا مِنْ قُصَيِّ بنِ كِلَابٍ، يَرِثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ ينَازِعَهُمْ في ذَلِكَ. لَكِنَّ أَبَا سُفْيَانَ جَاءَهُمْ لِيُحَرِّضَهُمْ عَلَى القِتَالِ، وَليُثِيرَهُمْ عَلَى حِمَايَةِ اللِّوَاءَ فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، إِنَّكُمْ قَدْ وَليتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبلِ رَايَاتِهِمْ، إِذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَنَكْفِيكُمُوهُ. ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة ص 180 للدكتور: محمد سعيد رمضان البوطي.

* محاولات فاشلة في إيقاع الفرقة والنزاع في جيش المسلمين

فَغَضِبَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ لِقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ أَشَدَّ الغَضَبِ، فَهَمُّوا بِهِ وَتَوَعَّدُوهُ، وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُسَلِّمُ إِلَيْكَ لِوَاءَنَا! سَتَعْلَمُ غَدًا إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ، وَقَدْ ثَبتُوا عِنْدَ احْتِدَامِ المَعْرَكَةِ حَتَّى أُبِيدُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ (¬1). وَهَكَذَا نَجَحَ أَبُو سُفْيَانَ في إِثَارَةِ حَمِيَّتهِمْ لِحِمَايَةِ اللِّوَاءَ. * مُحَاوَلَاتٌ فَاشِلَةٌ في إِيقَاعِ الفُرْقَةِ وَالنِّزَاعِ في جَيْشِ المُسْلِمِينَ: وَقبيْلَ نُشُوبِ المَعْرَكَةِ حَاوَلَتْ قُرَيْشٌ إِيقَاعَ الفُرْقَةِ وَالنِّزَاعِ في صُفُوفِ المُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَسُولًا إلى الأَنْصَارِ يَقُولُ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ! خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّنَا نَنْصَرِفْ عَنْكُمْ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا بِقِتَالِكُمْ. وَلَكِنْ أَيْنَ هَذِهِ المُحَاوَلَةُ أَمَامَ الإِيمَانِ الذِي لَا تَقُومُ لَهُ الجِبَالُ، فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الأَنْصَارُ رَدًّا عَنِيفا، وَأَسْمَعُوهُ مَا يَكْرَهُ. ثُمَّ خَرَجَ إلى الأَنْصَارِ أَبُو عَامِرٍ الفَاسِقُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ عَمْرِو بنِ صَيْفِيٍّ، وَكَانَ يُسَمَّى الرَّاهِبَ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الفَاسِقَ، وَكَانَ رَأْسَ الأَوْسِ في الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ جَاهَرَهُ بِالعَدَاوَةِ، فَخَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ وَمَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الأَوْسِ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَذَهَبَ إلى قُرَيْشٍ يُؤَلِّبُهُمْ (¬2) وَيَحُضُّهُمْ عَلَى قِتَالِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمِنْ مَكَائِدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ حَفْرُ الحُفَرِ ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 209) - البداية والنهاية (4/ 391) - سيرة ابن هشام (3/ 75). (¬2) ألَّبَهم: جمعهم. انظر لسان العرب (1/ 177).

* جهود نساء قريش في التحريض على القتال

لِيَقَعَ فِيهَا المُسْلِمُونَ، فَكَانَ مِمَّنْ وَقَعَ في أَحَدِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ قَوْمَهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، فَذَهَبَ وَأَخَذَ ينَادِي قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ! أَنَا أَبُو عَامِرٍ، فَقَالُوا: لَا أنْعَمَ اللَّهُ بِكَ يَا فَاسِقُ، فَقَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ، فتَرَامَوْا بِالحِجَارَةِ هُمْ وَالمُسْلِمُونَ حَتَّى وَلَّى أَبُو عَامِرٍ وَأَصْحَابهُ (¬1). وَهَكَذَا بَاءَتْ كُلُّ مُحَاوَلَاتِ قُرَيْشٍ في التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صُفُوفِ المُسْلِمِينَ بِالفَشَلِ. * جُهُودُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ في التَّحْرِيضِ عَلَى القِتَالِ: قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجَةُ أَبِي سُفْيَانَ في نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ، يَتَجَوَّلْنَ بَيْنَ الصُّفُوفِ، وَيَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ، وَيُحَرِّضْنَ عَلَى القِتَالِ، وَيَقُلْنَ: وَيْهًا بَنِي عَبْدِ الدَّار ... وَيْهًا حُمَاةَ الأَدْبَار ... ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّار وَيَقُلْنَ أَيْضًا: إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ ... وَنَفْرُشُ النَّمَارِقْ (¬2) أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ ... فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ (¬3) ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 75) - البداية والنهاية (4/ 391). (¬2) النَّمارِق: هي الوسَائد. انظر لسان العرب (14/ 291). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الغاشية آية (15): {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ}. (¬3) المقه: المحبَّة. انظر لسان العرب (15/ 409). =

* بدء القتال وإبادة حملة لواء المشركين

* بَدْءُ القِتَالِ وَإِبَادَةُ حَمَلَةِ لِوَاءِ المُشْرِكينَ: ثُمَّ الْتَحَمَ الجَيْشَانِ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا في كُلِّ مَكَانٍ مِنْ مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ، وَكَانَ ثِقَلُ المَعْرَكَةِ يَدُورُ حَوْلَ لِوَاءِ المُشْرِكِينَ، فَقَدْ تَعَاقَبَ (¬1) بَنُو عَبْدِ الدَّارِ لِحَمْلِ اللِّوَاءِ بَعْدَ قَتْلِ قَائِدِهِمْ طَلْحَةُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، فَحَمَلَهُ أَخُوهُ أَبُو شَيْبَةَ عُثْمَانُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَتَقَدَّمَ لِلْقِتَالِ، وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ عَلَى أَهْلِ اللِّوَاءِ حَقًّا ... أَنْ تُخْضَبَ (¬2) الصَّعْدَة (¬3) أَوْ تَنْدَقَّا فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَضَرَبَهُ عَلَى عَاتِقِهِ ضَرْبَةً بَترَتْ (¬4) يَدَهُ مِنْ كَتِفِهِ، حَتَّى وَصَلَتْ إلى سُرَّتِهِ، فَبَانَتْ رِئَتُهُ، وَمَاتَ. ثُمَّ رَفَعَ اللِّوَاءَ أَخُوهُمَا أَبُو سَعْدِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- بِسَهْم أَصَابَ حُنْجُرَتَهُ، فَقَتَلَهُ. ثُمَّ رَفَعَ اللِّوَاءَ مُسَافِعُ بنُ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ عَاصِمُ بنُ ثَابِتِ بنِ أَبِي الأَقْلَحِ -رضي اللَّه عنه- بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ حَمَلَ اللِّوَاءَ بَعْدَهُ أَخُوهُ الحَارِثُ بنُ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَرَمَاهُ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. ¬

_ = وانظر التفاصيل في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 269) - سيرة ابن هشام (3/ 76) - البداية والنهاية (4/ 390). (¬1) العَاقب: الذي يخلِفُ من كان قبله. انظر النهاية (3/ 242). (¬2) تُخَضَّب: تبتَّل. انظر النهاية (2/ 38). (¬3) الصعدة: هي الرمح. انظر لسان العرب (7/ 344). (¬4) بتر: قَطع. انظر النهاية (1/ 94).

فَكَانَتْ أُمُّهُمَا -وَهِيَ سُلَافَةُ- مَعَهُمَا، فَلَمَّا رَأَتْ مَا فَعَلَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- بِأَبْنَائِهَا، نَذَرَتْ إِنْ أَمْكَنَهَا اللَّهُ مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ الخَمْرَ، وَكَانَ عَاصِمٌ -رضي اللَّه عنه-، قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا، وَلَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، ثُمَّ حَمَلَ اللِّوَاءَ كِلَابُ بنُ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقتَلَهُ الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-. فَهَؤُلَاءِ الأَرْبَعَةُ أَوْلَادُ طَلْحَةَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، كُلُّهُمْ قُتِلُوا حَوْلَ لِوَاءِ المُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ أَبُوهُمْ طَلْحَةُ وَعَمَّاهُمْ عُثْمَانُ وَأَبُو سَعْدٍ. ثُمَّ حَمَلَ اللِّوَاءَ بَعْدَهُمْ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَرْطَاةُ بنُ شُرَحْبِيلَ، فَقتَلَهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَقِيلَ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ حَمَلَ اللِّوَاءَ شُرَيْحُ بنُ قَارِظٍ، فَقتَلَهُ قُزْمَانُ، ثُمَّ حَمَلَ لِوَاءَ المُشْرِكِينَ أَبُو يَزِيدَ بنُ عُمَيْرِ بنِ هَاشِمٍ، وَيُقَالُ أَبُو زَيْدٍ عَمْرُو بنُ عَبْدِ مَنَافِ بنِ هَاشِمٍ العَبْدَرِيُّ، فَقتَلَهُ قُزْمَانُ. وهَكَذَا قُتِلَ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ حَمَلَةِ لِوَاءَ المُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ. وَأَصْبَحَ لِوَاءُ المُشْرِكِينَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ، مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ، فَتَرَكُوهُ مُلْقًى عَلَى الأَرْضِ (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ أَوَّلَ النَّهَارِ، حَتَّى قُتِلَ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 269) - سيرة ابن هشام (3/ 82).

* شدة الصحابة رضي الله عنهم في القتال

أَصْحَابِ لِوَاءِ المُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ (¬1). * شِدَّةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في القِتَالِ: وَبَيْنَمَا كَانَ القِتَالُ شَدِيدًا حَوْلَ لِوَاءَ المُشْرِكِينَ، كَانَ القِتَالُ المَرِيرُ يَجْرِي في جَمِيعِ مَيْدَانِ المَعْرَكَةِ، وَلقدْ ظَهَرَتْ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بُطُولَاتٌ عَظِيمَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: * شِدَّة أَبي دجَانَةَ -رضي اللَّه عنه- في القِتَالِ: أَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ عَنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ في نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّيْفَ فَمَنَعَنِيهِ، وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ، وَمِنْ قُريْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلتهُ إِيَّاهُ قَبْلَهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَتَرَكَنِي، وَاللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ، فَأَخْرَجَ عِصَابَةً (¬2) لَهُ حَمْرَاءَ، فعَصَبَ (¬3) بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ المَوْتِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي ... وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ (¬4) لَدَى النَّخِيلِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609). (¬2) العِصَابة: هي كل ما يُعصَب -أي يُلف- ويُشدُّ به الرأس من خِرقة أو عمامة. انظر النهاية (3/ 220). (¬3) عَصبَ الشيءَ: طواهُ ولَوَاه. انظر لسان العرب (9/ 230). (¬4) السفحُ: هو أصلُ الجبل -أي أسفله-. انظر لسان العرب (6/ 275).

أَلَّا أَقُومَ الدَّهْرَ في الكُيُولِ (¬1) ... اضْرِبْ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قتلَهُ، وَكَانَ في المُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لَنَا جَرِيحًا إِلَّا ذَفَّفَ (¬2) عَلَيْهِ، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ، فَدَعَوْتُ اللَّه أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالْتَقَيَا، فَاخْتَلفا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَ المُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ، فَاتَّقَاهُ بدُرْقَتِهِ (¬3)، فَعَضَتْ بِسَيْفِهِ (¬4)، فَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ أَمْعَنَ (¬5) أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه- في الصُّفُوفِ حَتَّى انتهَى إلى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ الجَبَلِ، فَأَهْوَى بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرَقِ رَأْسِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا. قَالَ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا انْكَشَفَ القِتَالُ، قُلْتُ لِأَبِي دُجَانَةَ: كُلُّ عَمَلِكَ قَدْ رَأَيْتُ، مَا خَلَا رَفْعِكَ السَّيْفَ عَلَى المَرْأَةِ لِمَ لَمْ تَضْرِبْهَا. فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه-: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يُحْمِشُ (¬6) النَّاسَ حَمْشًا شَدِيدًا، فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ وَلْوَلَ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً (¬7). ¬

_ (¬1) الكُيُول: مؤخِّرة الصفوف. انظر النهاية (4/ 190). (¬2) تذفيف الجريح: الإجهاز عليه وقتله. انظر النهاية (2/ 150). (¬3) الدرقَةُ: هي الترسُ من جلودٍ ليس فيه خشَبٌ ولا عقب. انظر لسان العرب (4/ 333). (¬4) عَضَتْ بسيفِهِ: أي لزمتْهُ ولَزِقَت به. نظر لسان العرب (9/ 257). (¬5) أمْعَنَ: أي جَدَّ وأبعَد. انظر النهاية (4/ 293). (¬6) يُحمِشُ الناس: أي يسُوقُهم بغضب. انظر النهاية (1/ 423). (¬7) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر شجاعة أبي دجانة - رقم =

* مقتل عبد الله بن حرام والد جابر رضي الله عنهما

* مَقْتَلُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حَرَامٍ وَالدِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مِنَ الذِينَ أَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا يَوْمَ أُحُدٍ وَقُتِلَ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، جَيءَ بِأَبِي مُسَجًّى (¬1)، وَقَدْ مُثِّلَ (¬2) بِهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ، فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ أَرَدْتُ أَنْ أَرْفَعَ الثَّوْبَ، فنَهَانِي قَوْمِي، فَرَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَوْ أَمَرَ بِهِ فَرُفِعَ، فَسَمعَ صَوْتَ بَاكِيَةٍ أَوْ صَائِحَةٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَذِهِ؟ "، فَقَالُوا: بِنْتُ عَمْرٍو، أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو (¬3). فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلِمَ تَبْكِي (¬4)؟ فَمَا زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ" (¬5). ¬

_ = الحديث (5069) - وانظر سيرة ابن هشام (3/ 77) - البداية والنهاية (4/ 391) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 233). (¬1) مُسَجَّى: أي مُغَطّى. انظر النهاية (2/ 310). (¬2) مُثِّل: بضم الميم وكسر الثاء، ومثلت بالقتيل: إذا قطَعَ أطرفه أو أنفَه أو أذنه ونحو ذلك. انظر النهاية (4/ 251). (¬3) قال الحافظ في الفتح (3/ 512): هذا شكٌّ من سفيان -أحد الرواة- والصواب بنت عمرو، وهي فاطمة بنت عمرو. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (3/ 512): لأن هذا الجليل القدرِ الذي تُظِلُّه الملائكة بأجنحَتهَا لا ينبغي أن يُبكى عليه، بل يُفرَحَ له بما صار إليه. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب (34) - رقم الحديث (1293) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب من قُتِل من المسلمين يوم أحد - رقم الحديث =

* وصية عبد الله بن حرام لابنه جابر رضي الله عنهما

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَقِيَني النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ لِي: "يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ "، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أباكَ؟ ". قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطٌّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّ اللَّه أَحْيَا أَبَاكَ فكَلَّمَهُ كفَاحًا (¬1)، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ أُعْطِكَ، قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} " (¬2) * وَصِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حَرَامٍ لِابْنِهِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ -رضي اللَّه عنه- أَوْصَى وَلَدَهُ جَابِرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ¬

_ = (4080) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عبد اللَّه بن عمرو بن حرام - رقم الحديث (2471) (129). (¬1) كِفاحًا: أي مُوَاجهةً ليس بينهما حِجَاب ولا رَسُول. انظر النهاية (4/ 160). (¬2) سورة آل عمران آية (169) - والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر البيان بأن اللَّه تَعَالَى كلم عبد اللَّه بن عمرو بن حرام بعد أن أحياه كفاحًا - رقم الحديث (7022) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة آل عمران - رقم الحديث (3256) - وأخرجه ابن ماجه في سننه - في المقدمة - رقم الحديث (190).

* فوائد الحديث

بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَحِفْظِ أَخَوَاتِهِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا في أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فَإِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا، فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - الإِرْشَادُ إلى بِرِّ الأَوْلَادِ بِالآبَاءَ خُصُوصًا بَعْدَ الوَفَاةِ. 2 - وَفِيهِ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِمْ بِمَكَانَتِهِمْ مِنَ القَلْبِ. 3 - وَفِيهِ قُوَّةُ إِيمَانِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- المَذْكُورِ لِاسْتِثْنَائِهِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّنْ جَعَلَ وَلَدَهُ أَعَزَّ عَلَيْهِ مِنْهُمْ. 4 - وَفِيهِ كَرَامَتُهُ بِوُقُوعِ الأَمْرِ عَلَى مَا ظَنَّ. 5 - وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِجَابِرَ -رضي اللَّه عنه- لِعَمَلِهِ بِوَصِيَّةِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ في قَضَاءَ دَيْنِهِ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب هل يخرج الميت من القبر؟ - رقم الحديث (1351). (¬2) انظر فتح الباري (3/ 581).

* الملائكة تغسل حنظلة -رضي الله عنه-

* المَلَائِكَةُ تُغَسِّلُ حَنْظَلةَ -رضي اللَّه عنه-: وَمِنَ الأَبْطَالِ الذِينَ قُتِلُوا في هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ حَنْظَلَةُ -غَسِيلُ المَلَائِكَةِ- وَأَبُوهُ أَبُو عَامِرٍ الفَاسِقُ الذِي ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى عَدَاوَتَهُ لِلْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَادَ حَنْظَلَةُ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ قَائِدَ قُرَيْشٍ لَكِنَّ شَدَّادَ بنَ الأَسْوَدِ قتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ النَّاسُ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إلى دُونِ الأَعْرَاضِ (¬1) إلى جَبَلٍ بِنَاحِيَةِ المَدِينَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي عَامِرٍ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآه شَدَّادُ بنُ الأَسْوَدِ، فعلَاهُ شَدَّادُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قتَلَهُ، وَقَدْ كَادَ يَقْتُلُ أَبَا سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلة تُغَسِّله المَلَاِئكَةُ، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ" (¬2)، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الهَائِعَةَ (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَذَاكَ قَدْ غَسَّلَتْهُ المَلَائكَةُ" (¬4). ¬

_ (¬1) أعرَاضُ المدينةِ: هي قُرَاهَا التي في أودِيَتِهَا، وقيل: أعراضُ المدينة: هي بُطُون سَوَادها حيث الزرع والنخل. انظر معجم البلدان (1/ 178). (¬2) أي زوجَتُه: وهي جميلةُ بنت عبد اللَّه بن أُبي بن سَلُول المنافق، وكانت امرأة صالحةً مؤمِنَة. (¬3) الهائِعَةُ: صوتُ الصارخِ للفَزَع. انظر لسان العرب (15/ 180). (¬4) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر حنظلة غسيل الملائكة - رقم الحديث (7025) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر شهادة حنظلة - رقم الحديث (4970).

* عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- يخوض في الجنة بعرجته

* عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- يَخُوضُ في الجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ: وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- أَعْرَجَ شَدِيدَ العَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَبْنَاءٍ شَبَابٍ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، قَالَ له أَبْنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَذَرَكَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَذِنَ لَهُ (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، أَنَّهُ قَالَ: أتى عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ في سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي بِرَجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً في الجَنَّةِ -وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ- فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَقَتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَمَرَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صَحِيحَةً في الجَنَّةِ" (¬2). وَأَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَ عَمْرُو دنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ قُتِلَ اليَوْمَ دَخَلَ الجَنَّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَالذِي نَفْسِي بِيَده، لَا أَرْجعُ إلى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَمْرُو, لَا تَأَلَّ (¬3) عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَهْلًا يَا عُمَرُ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 101) - زاد المعاد (3/ 187) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 246). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في المسند - رقم الحديث (22553). (¬3) يتألَّ على اللَّه: أي يحلِفُ عليه سُبحانه وتَعَالَى. انظر جامع الأصول (4/ 456).

* نبذة عن عمرو بن الجموح -رضي الله عنه-

لَأَبَرَّهُ (¬1) مِنْهُمْ: عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ، يَخُوضُ في الجَنَّةِ بِعَرْجَتِهِ" (¬2). * نُبْذَةٌ عَنْ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه-: قُلْتُ: وَعَمْرُو بنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلِمَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟ " قُلْنَا: جَدُّ بنُ قَيْسٍ، عَلَى أنَّا نُبَخِّلُهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ (¬3)، بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ" (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ وَالحَاكِمِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَيِّدُكُمْ بِشْرُ (¬5) بنُ البَرَاءِ بنُ مَعْرُورٍ" (¬6). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَيُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ الحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ قِصَّةِ بِشْرِ بنِ ¬

_ (¬1) لأبَرَّه: أي لصدَقَه. انظر النهاية (1/ 117). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر عمرو بن الجموح - رقم الحديث (7024). (¬3) يعني أي داءً أقبَحَ من البُخْلِ. انظر النهاية (2/ 132). (¬4) أخرجه الإمام البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (296). (¬5) هو بِشْرُ بن البراء بن معرور الأنصاري الخزرجي من بني سَلِمَة، شهد العقبة وبدرًا وأُحدًا، ومات بخيبر حين افتتحها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة سبع من الهجرة من الأكْلَةِ التي أكَل مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الشاة المَسْمُومة. انظر أسد الغابة (1/ 211). (¬6) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5538) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب بشر بن البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5018).

* الأصيرم -رضي الله عنه- دخل الجنة ولم يصل لله ركعة

البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ قتلِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * الأُصَيْرِمُ -رضي اللَّه عنه- دَخَلَ الجَنَّةَ وَلَمْ يُصَلِّ للَّهِ رَكْعَةً: وَكَانَ عَمْرُو بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- المَعْرُوفُ بِالأُصَيْرِمِ الأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ يَأْبَى الإِسْلَامَ عِنْدَمَا قَدِمَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ-، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، قَذَفَ اللَّهُ الإِسْلَامَ في قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى (¬2) التِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ، وَلَحِقَ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَاتَلَ فَأَثْبَتَتْهُ (¬3) الجِرَاحُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ، فَلَمَّا انْجَلَتِ (¬4) الحَرْبُ، طَافَ بَنُو عَبْدِ الأَشْهَلِ في القَتْلَى؟ يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ، فَوَجَدُوا الأُصَيْرِمَ وَبِهِ رَمَقٌ (¬5) يَسِيرٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الأُصَيْرِمَ، مَا جَاءَ بِهِ؟ لَقَدْ كَانَ يَأْبَى عَلَيْنَا الإِسْلَامَ، ثُمَّ سَأَلُوهُ مَا الذِي جَاءَ بِكَ؟ أَحَدَبٌ (¬6) عَلَى قَوْمِكَ، أَمْ رَغْبَةٌ في الإِسْلَامِ؟ فَقَالَ: بَلْ رَغْبَةً في الإِسْلَامِ، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 487). (¬2) المقصُود بالحسنى: الجنَّة، ومنه قوله تَعَالَى في سورة النساء آية (95): {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (2/ 388): أي الجنَّة، والجزاء الجزيل. (¬3) أثبتَتْهُ الجِرَاح: إذا اشتدَّت عليه، فلم يستطع الحركة. انظر لسان العرب (2/ 80). (¬4) انجَلَت: أي انكشَفَتْ وانتهت. انظر النهاية (1/ 280). (¬5) الرمقُ: بقيَّة الحياة. انظر لسان العرب (5/ 318). (¬6) يُقال حَدِب عليه: إذا عطف وأشفق. انظر النهاية (1/ 337).

* المجدع عبد الله بن جحش -رضي الله عنه-

آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى أَصَابَنِي مَا ترَوْنَ، وَمَاتَ في وَقْتِهِ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمْ يُصَلِّ للَّهِ صَلَاةً قَطُّ (¬1). * المُجَدَّعُ (¬2) عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ ابنُ الأَثِيرِ: كَانَ يُقَالُ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-: المُجَدَّعُ في اللَّهِ (¬3)، وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ في أُحُدٍ بَعْدَ أَنْ يُجَدَّعَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَلَا تَأْتِي نَدْعُو اللَّهَ، فَخَلَوْا في نَاحِيَةٍ، فَدَعَا سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِذَا لَقِينَا القَوْمَ غَدًا فَلَقِّينِي رَجُلًا شَدِيدًا بَأْسُهُ، شَدِيدًا حَرَدُهُ (¬4)، فَأُقَاتِلُهُ فِيكَ، وَيُقَاتِلُنِي ثُمَّ ارْزُقْنِي عَلَيْهِ الظَّفَرَ (¬5) حَتَّى أَقْتُلَهُ، وَآخُذَ سَلَبَهُ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي غَدًا رَجُلًا شَدِيدًا حَرَدُهُ، شَدِيدًا بَأْسُهُ، أُقَاتِلُهُ فِيكَ، ويُقَاتِلُنِي ثُمَّ ¬

_ (¬1) أخرج قِصَّة استشهاد الأُصيرم -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (23634) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 100) - وإسناده حسن كما قال الحافظ في الإصابة (4/ 500). (¬2) الجَدْع: قطع الأنف والأذن، والشفة، وهو بالأنف أخَصُّ، يُقال: رجل أجدَعُ ومجدوعٌ: إذا كان مقطوع الأنف. انظر النهاية (1/ 239). (¬3) انظر أسد الغابة (2/ 566). (¬4) الحَرْدُ: الغيظُ والغضب. انظر لسان العرب (3/ 110). (¬5) الظَّفَرُ بالفتح: الفوز بالمطلوب. انظر لسان العرب (8/ 255).

* مقتل سعد بن الربيع -رضي الله عنه-

يَأْخُذُنِي فَيَجْدَعَ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيتُكَ غَدًا قُلْتَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ فِيمَ جُدِعَ أنْفُكَ وَأُذُنُكَ؟ فَأَقُولَ: فِيكَ وَفِي رَسُولكَ، فَيَقُولَ: صَدَقْتَ. قَالَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا بَنِيَّ كَانَتْ دَعْوَةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ خَيْرًا مِنْ دَعْوَتِي، لَقَدْ رَأَيْتُهُ آخِرَ النَّهَارِ، وَإِنَّ أُذُنَهُ وَأَنْفَهُ لَمُعَلَّقَاتٍ في خَيْطٍ (¬1). هَذِهِ صُورَةٌ لِلرُّجُولَةِ الفَارِعَةِ (¬2) التِي اصْطَدَمَ بِهَا الكُفْرُ أَوَّلَ المَعْرَكَةِ وَآخِرَهَا، فَمَادَ (¬3) أَمَامَهَا، وَاضْطَرَبَتْ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِ الأَرْضُ، فَمَا رَبِحَ شَيْئًا في بِدَايَةِ القِتَالِ، وَلَا انتفَعَ بِمَا رَبِحَ آخِرَهُ. . . مَنْ سِرُّ هَذَا الإِلْهَامِ؟ مَنْ مُشْرِقُ هَذَا الضِّيَاءَ؟ مَنْ مُبْعِثُ هَذَا الِاقْتِدَارِ؟ إِنَّهُ مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-! إِنَّهُ هُوَ الذِي رَبَّى ذَلِكُمُ الجِيلَ الفَذَّ، وَمِنْ قَلْبِهِ الكَبِيرِ أُتْرِعَتْ (¬4) هَذِهِ القُلُوبُ تَفَانِيًا في اللَّهِ، وَإِيثَارًا لِمَا عِنْدَهُ (¬5). * مَقْتَلُ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-: وَسَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه- هُوَ الذِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَغْنِيَاءَ الأَنْصَارِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ في ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك صححه - كتاب الجهاد - باب من سأل اللَّه القتل من عند نفسه - رقم الحديث (2456) - وأورده الحافظ في الفتح (6/ 378) وصحح إسناده. (¬2) الفارعَةُ: العالية. انظر لسان العرب (10/ 238). (¬3) مادَ: زاغَ. انظر لسان العرب (13/ 229). (¬4) ترع: امتلأَ. انظر لسان العرب (2/ 29). (¬5) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 263.

تَقْسِيمِ مَالِهِ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ-، وَقَدْ قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: "إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ كيْفَ تَجِدُكَ؟ ". قَالَ زَيْدٌ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ القَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ في آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقْرِئُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: "أَخْبِرْنِي كيْفَ تَجِدُكَ؟ ". قَالَ -رضي اللَّه عنه-: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُنِي أَجِدُ رِيحَ الجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِيَ الأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُخْلَصَ (¬1) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفِيكُمْ شُفْرٌ (¬2) يَطْرِفُ. قَالَ زَيْدٌ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ (¬3). ¬

_ (¬1) يُقال: خلص فلان إلى فلان: أي وصَل إليه. انظر النهاية (2/ 59). (¬2) الشُّفْرُ بالضم، وقد تفتح: حرفُ جَفْنِ العينِ الَّذي ينبتُ عليه الشعر. انظر النهاية (2/ 433). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب شهادة سعد بن الربيع -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4958) - والإمام مالك في الموطأ - كتاب الجهاد - باب الترغيب في الجهاد - رقم الحديث (41).

* المنتحر في النار

* المُنْتَحِرُ في النَّارِ: مِمَّنْ قَاتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ حَمِيَّةً، وَلَيْسَ بِنِيَّةِ الجِهَادِ في سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ (¬1)، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ عَنْ عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ قتَادَةَ قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ غَرِيبٌ، لَا يُدْرَى مِمَّنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا ذُكِرَ لَهُ: "إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنَ المُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الجِرَاحُ، فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ اليَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فَأَبْشِرْ، قَالَ: بِمَاذَا أُبَشَّرُ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ، فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقتَلَ بِهِ نَفْسَهُ (¬2). * حَدِيثٌ في التَّرْهِيبِ مِنَ الِانْتِحَارِ: قُلْتُ: جَاءَتِ الأَحَادِيثُ الكَثِيرَةُ في التَّرْهِيبِ مِنْ أَنْ يَقْتُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 246): قُزْمَان: بضم القاف وسكون الزاي. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 99). وأخرج البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4203) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه - رقم الحديث (112) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22813) قصة شيبة بقصة قُزمان لكنه لم يسم الرجل الَّذي قتل نفسه - وقيدها الإمام البخاري في غزوة خيبر، لكنه أيضًا لم يسم الرجل الَّذي قتل نفسه.

* المنحور أبو رهم الغفاري -رضي الله عنه-

وَمَنْ قتَلَهَا فَسَيَكُونُ مَصِيرُهُ النَّارَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ في نَارِ جَهَنَّمَ يَترَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا؛ لدًا، وَمَنْ تَحَسَّى (¬1) سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبدًا، وَمَنْ قتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ (¬2) بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا" (¬3). * المَنْحُورُ أَبُو رُهْمٍ الغِفَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-: مِمَّنْ أَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا يَوْمَ أُحُدٍ أَبُو رُهْمٍ كُلْثُومُ بنُ الحُصيْنِ الغِفَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ رُمِيَ يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ في نَحْرِهِ (¬4)، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَسَقَ (¬5) عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَرِئَ، فَكَانَ أَبُو رُهْمٍ يُسَمَّى المَنْحُورَ (¬6). * البَطَلُ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَاتَلَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قِتَالًا شَدِيدًا في هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ، ¬

_ (¬1) تَحَسَّى: أي شرب. انظر لسان العرب (3/ 181). (¬2) قال الحافظ في الفتح (11/ 416): يَجَأُ بفتح أوله: أي يُطعن بها. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الطب - باب شرب السم - رقم الحديث (5778) - وأخرجه مسلم - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه - رقم الحديث (109) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10195). (¬4) النحْرُ: أعلى الصدر. انظر النهاية (5/ 23). (¬5) بسَق: أي بزق وبصق. انظر النهاية (1/ 128). (¬6) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 442).

* هذا الحصر فيه نظر

حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ شِدَّةِ إِعْجَابِهِ بِسَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ أُحُدٍ، فَدَّاهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: "يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" (¬1). * هَذَا الحَصْرُ فِيهِ نَظَرٌ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَصْرِ -أَيْ حَصْرِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا قَالَ لِأَحَدٍ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي إِلَّا لِسَعْدٍ- نَظَرٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ الخَنْدَقِ (¬2)، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ بِقَيْدِ يَوْمِ أُحُدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * شِدَّةُ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الأَسَدِ -رضي اللَّه عنه-: وَقَاتَلَ أَبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الأَسَدِ -رضي اللَّه عنه- زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ هِنْدِ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّة رَضِيَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4059) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2411) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (709). (¬2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الفضائل - باب مناقب الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3720). قلتُ: سيأتي ذكر ذلك في غزوة الخندق، إن شاء اللَّه. (¬3) انظر فتح الباري (7/ 450).

* مقتل رافع بن خديج

اللَّهُ عَنْهُمَا، فَجُرِحَ يَوْمَ أُحُدٍ في عَضُدِهِ (¬1)، فَمَكَثَ شَهْرًا يُدَاوِيهِ فَبَرِئَ، وَقَدْ انْدَمَلَ الجُرْحُ (¬2) عَلَى بَغْيٍ لَا يَعْرِفُهُ (¬3)، وَمَاتَ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي (¬4). * مَقْتَلُ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ: وَمِمَّنْ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا في أُحُدٍ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدَيْهِمَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ امْرَأَةِ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَتْ: أَنَّ رَافِعًا رُمِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ بِسَهْمٍ في ثُنْدُوَتِهِ (¬5)، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْزَعِ السَّهْمَ، قَالَ: "يَا رَافِعُ، إِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ وَالقُطْبَةَ (¬6) جَمِيعًا، وَإِنْ شِئْتَ نَزَعْتُ السَّهْمَ، وَتَرَكتُ القُطْبَةَ، وَشَهِدْتُ لَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّكَ شَهِيدٌ"، قَالَ رَافِعٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلِ انْزَعِ السَّهْمَ، وَدعَ القُطْبَةَ، وَاشْهَدْ لِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَنِّي شَهِيدٌ، قَالَ: فنَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّهْمَ، وَتَرَكَ القُطْبَةَ (¬7). وَظَلَّ رَافِعُ بنُ خَدِيجٍ -رضي اللَّه عنه- لَا يُحِسُّ بِشَيْءٍ إِلَى أَنِ انْتَفَضَ جُرْحُهُ فَمَاتَ، ¬

_ (¬1) العضُدُ: ما بين الكتف والمرفق. انظر النهاية (3/ 228). (¬2) اندَمَل الجرح: إذا صَلُحَ. انظر النهاية (2/ 125). (¬3) اندمَلَ جرحُهُ علي بغْيٍ لا يعرفه: أي انخَتَمَ علي فسادٍ ولم يَعلم به. انظر النهاية (2/ 125). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 128). (¬5) الثُنْدُوة: اللحم الَّذي حول الثدوي، انظر لسان العرب (2/ 134). (¬6) القُطْبَةُ: نصل السهم. انظر النهاية (4/ 70). (¬7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27128) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1004) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (6439).

* يوم أحد كله لطلحة -رضي الله عنه-

وَذَلِكَ في خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * يَوْمُ أُحُدٍ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَمَّا طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- فَقَدْ أَبْلَى -رضي اللَّه عنه- بَلَاءً عَظِيمًا يَوْمَ أُحُدٍ، وَوَقَى رَسُولَ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- بِنَفْسِهِ، وَاتَّقَى عَنْهُ النَّبْلَ بِيَدِهِ حَتَّى شُلَّتْ، كَمَا سَيَأْتِي. رَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُوسَى وَعِيسَى ابْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِمَا، أَنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ: سَلْهُ (¬2) عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ (¬3) مَنْ هُوَ؟ وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مَسْأَلتِهِ، يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ، فَسَأَلَهُ الأَعْرَابِيُّ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. قَالَ طَلْحَةُ: ثُمِّ إِنِّي اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ المَسْجِدِ، وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ؟ "، قَالَ الأَعْرَابِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (2/ 364). (¬2) أي اسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) النَّحْبُ: النذْرُ، كأنه ألزمَ نفسه أن يَصْدُق أعداء اللَّه في الحرب فوفى به. وقيل: النحبُ: الموتُ، كأنه يُلْزِم نفسه أن يُقاتل حَتَّى يموت. انظر النهاية (5/ 23). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب طلحة بن عبيد اللَّه - رقم الحديث (3751).

* شدة وشجاعة حمزة -رضي الله عنه-

* شِدَّةُ وَشَجَاعَةُ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-: كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ قِتَالًا يَوْمَ أُحُدٍ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ أَخَذَ يَهُدُّ الكَافِرِينَ هَدًّا. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ وَحْشِيِّ بنِ حَرْبٍ قَاتِلِ حَمْزَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى القِتَالِ فَلَمَّا اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعُ بنُ عَبْدِ العُزَّى الخُزَاعِيُّ، فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ البُظُورِ (¬1) أَتُحَادُّ (¬2) اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: ثُمَّ شَدَّ (¬3) عَلَيْهِ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ (¬4). * قِصَّةُ الرَّجُلِ الذِي أَلْقَى الثَّمَرَاتِ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ، فَأَيْنَ أَنَا؟ . ¬

_ (¬1) البُظُور: جمع بَظْرٍ، وهي اللحمة التي تقطع من فرج المرأة عند الختان، ودعاهُ بذلك؛ لأن أمه كانت تختِنُ النساء. انظر فتح الباري (7/ 118) - النهاية (1/ 137). (¬2) المُحَادَّاة: المُعَاداةُ والمُخَالفَة. انظر النهاية (1/ 340). (¬3) شَدَّ في العدو: أي أسرَعَ وعَدَا. انظر لسان العرب (7/ 55). (¬4) قوله: كأمس الذاهب: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (7/ 118): هي كنايةٌ عن قتلِهِ أي صَيَّره عَدَمًا، وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 78) قال: فكأنما أخطَأَ رأسَهُ، وهذا يُقال عند المبالغة في الإصابة. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل حمزة بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4072).

* أمهر الرماة أبو طلحة الأنصاري -رضي الله عنه-

فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في الجَنَّةِ"، فَأَلقى تَمَرَاتٍ في يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ، وَزَعَمَ ابْنُ بِشْكُوَالَ أَنَّهُ عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الخَطِيبُ، وَاحْتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ عُمَيْرَ بنَ الحُمَامِ -رضي اللَّه عنه- أَخْرَجَ تَمَرَاتٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ (¬2). لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ في حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالقِصَّةُ التِي في البَابِ وَقَعَ التَّصْرِيحُ في حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَالذِي يَظْهَرُ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا لِرَجُلَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * أَمْهَرُ الرُّمَاةِ أَبُو طَلْحَةَ (¬4) الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-: وَقَاتَلَ أَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- قِتَالًا عَظِيمًا يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْهَرِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (4046) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1899) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14314). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1901) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12398). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 99). (¬4) هو أبو طلحة الأنصاري، واسمه زيدُ بن سهل الخزرجي، من بني النجار أخوال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أحد أعيانِ البدريين، وهو زوجُ أمِّ سُليم والدة أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وآخي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينه وبين أبي عبيدةَ بن الجراح، مات -رضي اللَّه عنه- سنة خمسين أو سنة إحدى وخمسين. انظر أسد الغابة (2/ 246).

الرُّمَاةِ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُجَوِّبٌ (¬1) عَلَيْهِ، بِحَجَفَةٍ (¬2) لَهُ، وَكانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ (¬3)، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْن أَوْ ثَلَاثًا (¬4). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْجَبُ بِشَجَاعَةِ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ أَشَدُّ عَلَى المُشْرِكينَ مِنْ فِئَةٍ" (¬5). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في المُسْنَدِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "صَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ في الجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ" (¬6)، قَالَ: وَكَانَ يَجْثُو (¬7) بَيْنَ يَدَيْهِ ¬

_ (¬1) مُجَوِّبٌ: بضم أوله وفتح الجيم وتشديد الواو: أي مُتَرّس عليه يَقِيه بها، ويُقال للتّرس أيضًا جوبة. انظر فتح الباري (8/ 108) - النهاية (1/ 300). (¬2) الحَجَفَةُ: هي الترس. انظر النهاية (1/ 333). (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 109): شَدِيدُ النزْعِ: أي رميُ السهم. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4064) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السير - باب غزوة النساء مع الرجال - رقم الحديث (1811) - وأخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (12024). (¬5) الفِئَةُ: هي الفِرْقَةُ والجماعَةُ من الناس. انظر النهاية (3/ 364). والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13105) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬6) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خيرٌ من فئة": قال السندي رحمه اللَّه تعالى في شرح المسند (7/ 135): أي أهيبُ في صدورِ العدوِّ من فئة. (¬7) الجَاثِي: هو الَّذي يجلسُ علي ركبتَيْهِ. انظر لسان العرب (2/ 180). =

* مخيريق خير يهود

فِي الحَرْبِ ثُمَّ يَنْثُرُ كِنَانَتَهُ، وَيَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الوِقَاءُ، وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الفِدَاءُ (¬1). * مُخَيْرِيقٌ (¬2) خَيْرُ يَهُودٍ: مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلٌ اسْمُهُ مُخَيْرِيقُ، وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ يَهُودٍ، فَإِنَّهُ يَوْمَ أُحُدٍ ذَهَبَ إِلَى يَهُودٍ، وَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ، قَالُوا: إِنَّ اليَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، قَالَ: لَا سَبْتَ لَكُمْ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ، وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ، يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودٍ" (¬3). وَكَانَ مُخَيْرِيقٌ أَوْصَى بِأَمْوَالِهِ إِلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ رَوَى عُمَرُ بنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَتْ صَدَقَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمَدِينَةِ أَمْوَالًا لِمُخَيْرِيقَ، وَكَانَ يَهُودِيًّا مِنْ بَقَايَا بَنِي قَيْنُقَاعَ، نَازِلًا بِبَنِي النَّضِيرِ، فَشَهِدَ أُحُدًا فَقُتِلَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُخَيْرِيقٌ سَابِقُ يَهُودٍ"، وَأَوْصَى ¬

_ = ومنه قوله تَعَالَى في سورة الجاثية آية (28): {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرِ في تفسيره (7/ 271): أي علي رُكَبِها من الشدة والعظمة. (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13745) - والحديث صحيح. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (6/ 323): مُخَيْرِيق: بضم الميم، مصغرًا. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 99) - الإصابة (6/ 46).

* انتصار المسلمين الساحق ودور الرماة

مُخَيْرِيقٌ بِأَمْوَالِهِ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * انْتِصَارُ المُسْلِمِينَ السَّاحِقُ وَدَوْرُ الرُّمَاةِ: وَهَكَذَا دَارَتْ رَحَا (¬2) الحَرْبِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ (¬3) بِالسُّيُوفِ، وَوَلَّتْ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ لَا يَلْوُونَ (¬4) عَلَى شَيْءٍ، وَكَانَتِ الهَزِيمَةُ التِي لَا شَكَّ فِيهَا، وَسَيْطَرَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَرْضِ المَعْرَكَةِ سَيْطَرَةً تَامَّةً، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (¬5). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَهَزَمُوهُمْ، فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْدُدْنَ، قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ (¬6) وَأَسْوَاقُهُنَّ (¬7)، رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ (¬8). ¬

_ (¬1) أورد ذلك الحافظ في الفتح (6/ 323) - وسكت عليه. (¬2) يُقال: دارتْ رَحَا الحربِ: إذا قامت على سَاقها. انظر النهاية (2/ 193). (¬3) حَسُّوهم بالسيوفِ: أي استأصَلُوهُم قتلًا. انظر النهاية (1/ 370). (¬4) لا يَلْوُون: أي لا يلتَفِتُون. انظر النهاية (4/ 239). (¬5) سورة آل عمران آية (152). (¬6) الخَلْخَالُ: نوعٌ من أنواعِ الحُليِّ تلبسُهُ المرأةُ في ساقِهَا. انظر لسان العرب (4/ 205). (¬7) قال الحافظ في الفتح (8/ 93): أسواقُهُنَّ: جمعُ سَاقي، وسبب رفعهن ثِيَابهُنَّ ليُعِينَهُنَّ ذلك على سرعَةِ الهرب. (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب - رقم الحديث (3039) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (4043).

* مطاردة الصحابة للمشركين

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: هُزِمَ المُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ (¬1). وَفِي رِوَايَةِ ابنِ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ قَالَ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه-: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ (¬2) هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَصَوَاحِبَاتِهَا مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: مَا نُصِرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَوْطِنٍ كَمَا نُصِرَ يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ في يَوْمِ أُحُدٍ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} " (¬4). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَالحَسُّ: القَتْلُ (¬5). * مُطَارَدَةُ الصَّحَابَةِ لِلْمُشْرِكِينَ: وَبَدَأَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ هَذَا الِانْتِصَارِ العَظِيمِ يَتْبَعُونَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأيمان والنذور - باب قوله تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} - رقم الحديث (6668). (¬2) الخَدَمُ: جمع خَدَمَة، وهو الخَلْخَال. انظر النهاية (2/ 15). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 86) - وإسناده صحيح. (¬4) سورة آل عمران آية (152). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب قصة غزوة أُحد - رقم الحديث (3217).

* مخالفة الرماة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-

المُشْرِكِينَ، وَيَجْمَعُونَ الغَنَائِمَ، وَقَدْ كَانَ لِلرُّمَاةِ دَوْرٌ بَارِزٌ في هَذَا النَّصْرِ المُؤَزَّرِ، فَقَدْ حَمَلَتْ (¬1) خَيْلُ المُشْرِكِينَ بِقِيَادَةِ خَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى المُسْلِمِينَ، لِيُحْدِثُوا البَلْبَلَةَ وَالِاضْطِرَابَ في صُفُوفِهِمْ، لَكِنْ دُونَ جَدْوَى بِسَبَبَ نَضْحِ (¬2) الرُّمَاةِ عَلَيْهِمْ بِالنَّبْلِ، حَتَّى رَجَعَتْ خَيْلُهُمْ مَغْلُوبَةً، وَفَشِلَتْ هَجَمَاتُهُمُ الثَّلَاثُ (¬3). * مُخَالفَةُ الرُّمَاةِ أَمْرَ الرَسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَبَيْنَمَا المُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَ المُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَيَجْمَعُونَ الغَنَائِمَ، وَإِذْ بِالرُّمَاةِ الذِينَ وَضَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الجَبَلِ يَتْرُكُونَ أَمَاكِنَهُمْ. أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَهَزَمُوهُمْ، . . . فَقَالَ أَصحَابُ ابْنِ جُبَيْرٍ: الغَنِيمَةَ أَيْ قَوْمِ الغَنِيمَةَ، ظَهَرَ (¬4) أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنتظِرُونَ؟ . فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)؟ . ¬

_ (¬1) حَمَلَ: أي جهد. انظر لسان العرب (3/ 336). (¬2) يُقال نضحوهم بالنبل: إذا رموهم. انظر النهاية (5/ 60). (¬3) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 210). (¬4) ظهَرَ: غلَبَ. انظر النهاية (3/ 152). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسَّيَر - باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب - رقم الحديث (3039).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنِ الْبَرَاءَ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . قَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهُ بنُ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا تَبْرَحُوا (¬1). فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ، فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الغَنِيمَةِ (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في المُسْنَدِ وَالحَاكِمِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَلَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبَاحُوا (¬3) عَسْكَرَ المُشْرِكِينَ، أَكَبَّ (¬4) الرُّمَاةُ جَمِيعًا (¬5)، فَدَخَلُوا في العَسْكَرِ يَنْهَبُونَ (¬6). وَتَرَكَ أَغْلَبُ الرُّمَاةِ الخَمْسِينَ أَمَاكِنَهُمْ التِي أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا يَتْرُكُوهَا، وَخَلَّوْا ظُهُورَ المُسْلِمِينَ لِلْعَدُوِّ، وَثَبَتَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- في مَكَانِهِ وَثَبَتَ مَعَهُ نَفَرٌ مَا يَبْلُغُونَ العَشَرَةَ (¬7). ¬

_ (¬1) برَحَ مكانَهُ: زالَ عنه. انظر لسان العرب (1/ 361). والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (4043). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب - رقم الحديث (3039) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18593). (¬3) استباحُوهم: أي استأصَلُوهُم. انظر لسان العرب (1/ 534). (¬4) أكبَّ علي الشيءِ: أقبلَ عليه ولزِمَه. انظر لسان العرب (12/ 8). (¬5) قلتُ: يُفهم من كلام ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أن كُلَّ الرماة نزَلُوا عن الجبل؛ ليأخُذُوا الغنائم، وهو صحيحٌ إلا عدد قليل لا يتجاوز العشرة. (¬6) النَّهب: الغارَة والسَّلَب. انظر لسان العرب (14/ 299). والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (3217). (¬7) انظر سيرة ابن هشام (3/ 86) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 249).

وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ (¬1) مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا (¬2) وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ (¬3)} (¬4). وَالقُرْآنُ يُسَلِّطُ الضَّوْءَ عَلَى خَفَايَا القُلُوبِ، التِي مَا كَانَ المُسْلِمُونَ أَنْفُسُهُمْ يَعْرِفُونَ وُجُودَهَا في قُلُوبِهِمْ (¬5). فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ: فَلَوْ حَلَفْتُ يَوْمَئِذٍ رَجَوْتُ أَنْ أَبَرَّ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنْيَا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} (¬6). وَبِذَلِكَ يَضَعُ قُلُوبَهُمْ أَمَامَهُمْ مَكْشُوفَةً بِمَا فِيهَا، وَيُعَرِّفُهُمْ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْهُمُ الهَزِيمَةُ لِيَتَّقُوهَا (¬7). ¬

_ (¬1) قال البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- في تفسير هذه الآية، كما رواه عنه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (18600): أي عصيتُمْ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من بعد ما أرَاكم الغَنَامْ وهزيمَةَ العدو. (¬2) قال الإمام القرطبي في تفسيره (5/ 363): أي الغنيمة. (¬3) قال الإمام القرطبي في تفسيره (5/ 363): هم الذين ثبتوا في مراكِزِهِم، ولم يُخَالفوا أمر نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أمِيرِهم عبد اللَّه بن جبير -رضي اللَّه عنه-. (¬4) سورة آل عمران آية (152). (¬5) انظر في ظلال القرآن (1/ 494). (¬6) أخرج هذا الأثر عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4414) - وإسناده حسن لغيره. (¬7) انظر في ظلال القرآن (1/ 494).

* خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يلتف من وراء المسلمين

* خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- يَلْتَفُّ مِنْ وَرَاءِ المُسْلِمِينَ: وَانتهَزَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- هَذِهِ الفُرْصَةَ الذَّهَبِيَّةَ، فَاسْتَدَارَ بِسُرْعَةٍ خَاطِفَةٍ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مُؤَخِّرَةِ جَيْشِ المُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَبَادَ عَبْدَ اللَّهَ بنَ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1) وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ انْقَضَّ عَلَى المُسْلِمِينَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَصَاحَ فُرْسَاُنهُ صَيْحَةً عَالِيَةً عَرَفَ المُشْرِكُونَ المُنْهَزِمُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ وَتُنَادِي، فَأَقْبَلُوا، وَأَسْرَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ هِيَ: عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الحَارِثِيَّةُ، فَرَفَعَتْ لِوَاءَ المُشْرِكِينَ المَطْرُوحَ عَلَى الأَرْضِ، فَاجْتَمَعَ حَوْلَهُ المُشْرِكُونَ، وَتَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى المُسْلِمِينَ، وَأُحِيطَ بِهِمْ مِنَ الأَمَامِ وَالخَلْفِ (¬2). * اضْطِرَابُ المُسْلِمِينَ وَنُزُولُ القَتْلِ فِيهِمْ: فَلَمَّا وَقَعَ المُسْلِمُونَ فِي هَذَا التَّطْوِيقِ مِنْ قِبَلِ المُشْرِكِينَ، حَدَثَتْ فَوْضَى عَارِمَةٌ في صُفُوفِهِمْ، وَانْفَلَتَ الزِّمَامُ، وَضَاعَ النِّظَامُ، لَقَدْ تَحَوَّلَ جَيْشُ المُسْلِمِينَ إِلَى شَبَكَةٍ لَا يُعْرَفُ لَهَا أَوَّلٌ وَلَا آخِر، تِلْكَ الصُّفُوفُ المُنَظَّمَةُ التِي كَانَتْ تُقَاتِلُ كَبُنْيَانٍ مَرْصُوصٍ، حَوَّلَهَا الرُّمَاةُ بِمُخَالفَتِهِمْ أَمْرَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى شَيْءٍ كَالفَوْضَى. ¬

_ (¬1) في رواية ابن سعد في طبقاته (3/ 250): . . . ورمى عبد اللَّه بن جُبَير -رضي اللَّه عنه- حَتَّى فَنِيَتْ نبله، ثم طَاعَنَ بالرمح حَتَّى انكَسَر، ثم كُسِر جفنُ سيفه، فقاتلهم حَتَّى قُتِل، فلمَّا وقع جرَّدُوه، ومثلوا به أقْبَحَ المثل. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 87) - الرحيق المختوم (ص 264).

* المسلمون يقتلون اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما خطأ

أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَلَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ المُشْرِكِينَ، أَكَبَّ الرُّمَاةُ جَمِيعًا فَدَخَلُوا في العَسْكَرِ يَنْهَبُونَ، وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَهُمْ: هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابعِ يَدَيْهِ- وَالْتَبَسُوا، فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الخَلَّةَ التِي كَانُوا فِيهَا دَخَلَتِ الخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ المَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَبَسُوا، وَقُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ المُشْرِكُونَ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ (¬2)، فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ (¬3) هِيَ وَأُخْرَاهُمْ (¬4). * المُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ اليَمَانَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَطَأً: فَبَصُرَ حُذَيْفَةُ -رضي اللَّه عنه- فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ اليَمَانِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب قصة غزوة أُحد - رقم الحديث (3217). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 109): أي احتَرِزُوا من جهةِ أُخْرَاكم، وهي كلمةٌ تُقال لمَنْ يَخْشى أن يُؤْتى عندَ القتال من وَرَائه، وكان ذلك لما تَرَكَ الرُّماة مكانهم، ودَخَلُوا ينتَهِبُون عسكرَ المُشركين. (¬3) يُقال: جلدنَاهم بالسيوف: أىِ ضَرَبْنَاهم. انظر لسان العرب (2/ 323). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4065).

قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ (¬1). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مَحْمُودَ بنِ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: اخْتَلفتْ سُيُوفُ المُسْلِمِينَ عَلَى اليَمَانِ أَبِي حُذَيْفَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَا يَعْرِفُونَهُ فَقتَلُوهُ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَدِيَهُ (¬2)، فتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى المُسْلِمِينَ (¬3). وَرَوَى الحَاكِمُ وَابْنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَحْمُودَ بنِ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أُحُدٍ. . . كَانَ اليَمَانُ وَالِدُ حُذَيْفَةَ، وَثَابِتُ بنُ وَقْشٍ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ، فترَكَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمَّ خَرَجَا، حَتَّى دَخَلَا في النَّاسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتُ بنُ وَقْشٍ -رضي اللَّه عنه- فَقتَلَهُ المُشْرِكُونَ، وَأَمَّا اليَمَانُ وَهُوَ حُسَيْلُ بنُ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- وَالِدُ حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- فَاخْتَلفتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُ المُسْلِمِينَ، فَقتَلُوهُ، وَلَا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي أَبِي، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا عَرَفْنَاهُ، وَصَدَقُوا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4065). (¬2) يدِيه: أي يدفَعَ له الدِّيَة. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23639).

* مقتل حمزة -رضي الله عنه-

لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَدِيَهُ، فتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى المُسْلِمِينَ، فزَادَهُ ذَلِكَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْرًا (¬1). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي: في لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ الضَّعْفِ الإِنْسَانِيِّ عَرَضَتْ لِفَرِيقٍ مِنَ الجُنْدِ، فَأَوْقَعَتِ الِارْتِبَاكَ في صُفُوفِ الجَيْشِ كُلِّهِ، فَضَاعَتْ في سَاعَةِ نَزَقٍ (¬2) كُلُّ المَكَاسِبِ التِي أَحْرَزَتْهَا الشَّجَاعَةُ النَّادِرَةُ، وَالتَّضْحِيَةُ البَالِغَةُ (¬3). * مَقْتَلُ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَمَعَ هَذِهِ الفَوْضَى وَالفُرْقَةِ التِي حَدَثَتْ في المُسْلِمِينَ انْكَشَفَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- لِوَحْشِيٍّ، فَاسْتَغَلَّ وَحْشِيٌّ ذَلِكَ فَرَمَاهُ بِالرُّمْحِ فَقتَلَهُ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ، وَالطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدِهِ، عَنْ وَحْشِيِّ بنِ حَرْبٍ (¬4) -قَاتِلِ حَمْزَةَ- قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا لِجُبيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، فَقَالَ لِي: إِنَّ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب قصة شهادة اليمان بن جابر- رقم الحديث (4961) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 97). (¬2) النَّزَقُ: الطَّيْشُ. انظر لسان العرب (14/ 110). (¬3) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 255. (¬4) قال الحافظ في التهذيب (4/ 305): وحشيُّ بن حرب، مولى جبير بن مطعم، ويُقال مولى طُعيمة بن عَدي، وهو قاتل حمزة عم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان ممن خرج مع خَالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- إلى اليَمَامة، وشارك في قتلِ مُسَيْلمة الكذاب، ثم شَهِدَ اليرموك، وسكَنَ حمص، وكان مُغْرمًا بالخَمْرِ، وفرضَ له عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في ألفَيْنِ، ثم رَدَّها إلى ثلاثِ مئة بسبَبِ الخَمْرِ، وكان إسلامُه في الفتح، وقدم مع وفدِ الطائِفِ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.

حَمْزَةَ قتَلَ عَمِّي طُعَيْمَةَ بنَ عَدِيٍّ بِبَدْرٍ، فَإِنْ قتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ وَحْشِيٌّ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى القِتَالِ، وَكُنْتُ رَجُلًا حبَشِيًّا أَقْذِفُ بِالحَرْبَةِ قَذْفَ الحَبَشَةِ، قَلَّمَا أُخْطِئُ بِهَا شَيْئًا، فَخَرَجْتُ يَوْمَئِذٍ مَا أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ أَحَدًا، وَلَا أُقَاتِلَهُ إِلَّا حَمْزَةُ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ خَرَجْتُ أَنْظُرُ حَمْزَةَ وَأَتَبَصَّرُهُ، حَتَّى رَأَيْتُهُ في عُرْضِ النَّاسِ مِثْلَ الجَمَلِ الأَوْرَقِ (¬1)، يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ هَدًّا، مَا يَرْفَعُ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا قَمَعَهُ (¬2) بِالسَّيْفِ، فَهِبْتُهُ، وَجَعَلْتُ ألوذُ (¬3) مِنْهُ، فَلُذْتُ بِصَخْرَةٍ، وَمَعِي حَرْبَتِي، حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ هَزَزْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ أَرْسَلْتُهَا فَوَقَعَتْ في ثُنَّتِهِ (¬4) حَتَّى خَرجَتْ مِنْ بينِ وِرْكَيْهِ (¬5). وَفِي رِوَايَةِ ابنِ إسْحَاقَ في السِّيرَةِ، قَالَ وَحْشِيٌّ: . . . حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَذَهَبَ لِيَنُوءَ (¬6) نَحْوِي، فَغُلِبَ (¬7)، وتُرِكْتُ وَإيَّاهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى العَسْكَرِ، فَقَعَدْتُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِغَيْرِهِ ¬

_ (¬1) الأورَقُ: الأسْمَرُ. انظر النهاية (5/ 153). (¬2) قَمَعَهُ: قهرَهُ وذلَّلَه فذل. انظر لسان العرب (11/ 304). (¬3) لاذَ: لجأَ إليه. انظر لسان العرب (12/ 356). (¬4) الثُنَّة: ما بين السرَّة والعانَةِ من أسفل البطن. انظر النهاية (1/ 218). (¬5) الوَرْكُ: ما فوقَ الفَخِذِ. انظر النهاية (5/ 153). والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل حمزة بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4072) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1410). (¬6) يَنُوء نَوْءًا: أي نَهَضَ وطلع. انظر النهاية (5/ 107). (¬7) في رواية الطيالسي في مسنده قال: فذهب ليَقُومُ فلم يستَطِعْ، فقتلته.

* عمر حمزة -رضي الله عنه- لما استشهد

حَاجَةً، وَإِنَّمَا قتلْتُهُ لِأُعْتَقَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّة أُعْتِقْتُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي حَدِيثِ وَحْشِيٍّ مِنَ الفَوَائِدِ: الحَذَرُ في الحَرْبِ، وَأَنْ لَا يَحْقِرَ المَرْءُ مِنْهَا أَحَدًا، فَإِنَّ حَمْزَةَ لَاُبدَّ أَنْ يَكُونَ رَأَى وَحْشِيًّا في ذَلِكَ اليَوْمِ لَكِنَّهُ لَمْ يَحْتَرِزْ مِنْهُ احْتِقَارًا مِنْهُ إِلَى أَنْ أُتِيَ مِنْ قِبَلِهِ (¬2). * عُمْرُ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا اسْتُشْهِدَ: قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَكَانَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- أَخَا النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَأَخَا أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الأَسَدِ، أَرْضَعَتْهُمْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ (¬3)، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حَمْزَةُ قَدْ جَاوَزَ الخَمْسِينَ مِنَ السِّنِينِ يَوْمَ قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- (¬4). * مَقْتَلُ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: وَتَرَاجَعَ المُسْلِمُونَ وَترَكَ بَعْضُهُمْ سَاحَةَ القِتَالِ، وَثَبَتَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ حَامِلُ لِوَاءَ المُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ابنُ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 77). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 121). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الشهادات - باب الشهادة على الأنساب - رقم الحديث (2645) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب (21) - رقم الحديث (5101) - ومسلم في صحيحه - كتاب الرضاع - باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة - رقم الحديث (1446) - وباب تحريم الربيبة وأخت المرأة - رقم الحديث (1449). (¬4) انظر البداية والنهاية (4/ 441).

* إشاعة مقتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتأثير ذلك على الصحابة

قَمِئَةٍ وَهُوَ فَارِسٌ، فَضَرَبَ يَدَهُ اليُمْنَى فَقَطَعَهَا، وَمُصْعَبٌ يَقُولُ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ اليُسْرَى، فَضَرَبَ ابْنُ قَمِئَةَ يَدَهُ اليُسْرَى فَقَطَعَهَا، فَضَمَّ اللِّوَاءَ بِعَضُدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، ثُمَّ هَجَمَ ابْنُ قَمِئَةَ فَضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ، فَقتَلَهُ، وَسَقَطَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَتِيلًا، وَسَقَطَ اللِّوَاءُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَرْفَعَ اللِّوَاءَ، فَرَفَعَهُ (¬1). * إِشَاعَةُ مَقْتَلِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ: فَلَمَّا قتَلَ ابنُ قَمِئَةَ مُصْعَبَ بنَ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ مُصْعَبٌ يُشْبِهُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا لَبِسَ لَأَمَتَهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ قتَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَهُوَ يَقُولُ: قتَلْتُ مُحَمَّدًا، وَصَرَخَ الشَّيْطَانُ بِصَوْتٍ عَالٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَلَمَّا سَمِعَ المُسْلِمُونَ ذَلِكَ، عَظُمَ الأَمْرُ عَلَيْهِمْ، وَطَاشَتْ أَحْلَامُهُمْ (¬2)، وَذُهِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَصْبَحُوا حَيَارَى لَا يَدْرُونَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَصَارُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 81). (¬2) الأحْلامُ: العُقُول. انظر النهاية (1/ 416). ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (432) في صلاة الجماعة: "لِيَلِنِي منكُم أولُو الأحلام والنُّهى". أي ذَوُو الألباب والعقول، واحدها حِلم بالكسر، وكأنه من الحِلْم: الأناةُ والتثبُّت في الأمور، وذلك من شعار العقلاء. انظر النهاية (1/ 416).

* الفرقة الأولى

* الفِرْقَةُ الأُولَى: لَاذَتْ بِالفِرَارِ وَتَرَكَتْ سَاحَةَ المَعْرَكَةِ، فَلَمْ تَرُدَّهُمْ إِلَّا حِيطَانُ (¬1) المَدِينَةِ، وَكَانَ الفَارُّونَ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، فَمِنْهُمْ مَنِ انْطَلَقَ إِلَى فَوْقِ الجَبَلِ، إِلَى قَرِيبٍ مِنَ المِهْرَاسِ (¬2) في الشِّعْبِ، وَمِنْهُمُ اسْتَمَرَّ في الهَزِيمَةِ، فَمَا رَجَعُوا إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءَ القِتَالِ، وَهَؤُلَاءِ قَلِيلُونَ، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ انْهَزَمَ: عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، وَالحَارِثُ بنُ حَاطِبٍ، وَسَوَادُ بنُ غَزِيَّةَ، وسَعْدٌ وعُقْبَةُ ابْنَا عُثْمَانَ، وَرِفَاعَةُ بنُ مُعَلَّى، وَخَارِجَةُ بنُ عَمْرٍو، وَأَوْسُ بنُ قَيْظِيٍّ، وَهَؤُلَاءِ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬3). عَفَا عَمَّا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ ضَعْفٍ وَمِنْ نِزَاعٍ وَمِنْ عِصْيَانٍ، وَعَفَا كَذَلِكَ عَمَّا وَقَعَ مِنْكُمْ مِنْ فِرَارٍ وَانْقِلَاب وَارْتِدَادٍ. . . عَفَا عَنْكُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً، وتَجَاوُزا عَنْ ضَعْفِكُمُ البَشَرِيِّ الذِي لَمْ تُصَاحِبْهُ نِيَّةٌ سَيِّئَةٌ، وَلَا إِصْرَارٌ عَلَى الخَطِيئَةِ. . . عَفَا عَنْكُمْ، لأَنَّكُمْ تُخْطِئُونَ وتَضَعُفُونَ في دَائِرَةِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ (¬4). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ البَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ القُعُودُ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءَ قُرَيْشٌ، ¬

_ (¬1) الحائط: هو البستان من النخيل. انظر النهاية (1/ 444). (¬2) المِهرَاسُ: هو ماءٌ بجبل أُحد. انظر النهاية (5/ 224). (¬3) سورة آل عمران آية (155). (¬4) انظر في ظلال القرآن (1/ 494).

* الفرقة الثانية

قَالَ: مَنِ الشَّيْخُ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ أَتُحَدِّثُنِي؟ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا البَيْتِ أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ . . . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ (¬1). * الفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: فَصَارُوا حَيَارَى لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُتِل، فَصَارَ غَايَةُ الوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى بَصِيرَتِهِ في القِتَالِ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ، وَهُمْ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ تَرَاجَعَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا عَرَفُوا أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيٌّ (¬2). * قِصَّةُ أَنَسِ بنِ النَّضْرِ -رضي اللَّه عنه-: فَمَرَّ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ -رضي اللَّه عنه- عَمُّ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ أَذْهَلَتْهُمُ الشَّائِعَةُ -وَهِيَ قتلُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَلقَوْا بِسِلَاحِهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: فَمَاذَا تَصْنَعُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ثُمَّ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءَ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءَ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَلَقِيَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- مُنْهَزِمًا، فَقَالَ: أَيْنَ يَا أَبَا عَمْرٍو؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} - رقم الحديث (4066). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 108).

فَقَالَ: يَا سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ الجَنَّةُ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ (¬1)، ثُمَّ أَخَذَ يُقَاتِلُ المُشْرِكِينَ حَتَّى قُتِلَ -رضي اللَّه عنه-. قَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعْدَ المَعْرَكَةِ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَصْنَعَ مَا صَنَعَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ (¬2)، فَوُجِدَ في جَسَدِهِ بِضْع وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ إِلَّا أُخْتُهُ (¬3) بِبَنَانِهِ (¬4)، وَكَانَ حَسَنَ البَنَانِ. قَالَ أنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا نرَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي أَشْبَاهِهِ وَهِيَ قَوْلُه تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬5). ¬

_ (¬1) هذه رواية البخاري في صحيحه، وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه، والطيالسي، والنسائي قال أنس -رضي اللَّه عنه-: واهًا لريح الجنَّة أجدُهُ دونَ أُحد. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 100): ودَلَّ قول سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- هذا في أنسَ بن النَّضْرِ -رضي اللَّه عنه- علي شجاعة مُفْرِطة في أنس بن النضر -رضي اللَّه عنه- بحيث أن سعدَ بن مُعَاذ -رضي اللَّه عنه- مع ثباتِهِ يوم أُحد، وكمال شجاعته ما جسُرَ -أي ما أقدم- على ما صنَعَ أنس بن النضر. (¬3) وقع في رواية الإمام مسلم في صحيحه تسميتها: الرُبيّع بنت النضر. (¬4) البَنَانُ: هي الإصبع. (¬5) سورة الأحزاب آية (23). وأخرج قصة أنس بن النضر -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب قوله تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} - رقم الحديث (2805) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزو أحد - رقم الحديث (4048) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (1903) - =

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ أَنَسِ بنِ النَّضْرِ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ بَذْلِ النَّفْسِ في الجِهَادِ. 2 - وَفِيهِ فَضْلُ الوَفَاءِ بِالعَهْدِ؛ لِأَنَّ أَنَسًا عَاهَدَ اللَّهَ بِقَوْلهِ: لَئِنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قِتَالٌ مَعَ قُرَيْشٍ بَعْدَ بَدْرٍ؛ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، وَلَوْ شَقَّ عَلَى النَّفْسِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى إِهْلَاكِهَا. 3 - وَأَنَّ طَلَبَ الشَّهَادَةِ في الجِهَادِ لَا يَتَنَاوَلَهُ النَّهْيُ عَنِ الإِلْقَاءِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. 4 - وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَسِ بنِ النَّضْرِ -رضي اللَّه عنه-، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صِحَّةِ الإِيمَانِ وَكَثْرَةِ التَّوَقِّي، وَالتَّوَرُّعِ، وَقُوَّةِ اليَقِينِ (¬1). * الفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: وَأَمَّا الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: فَهُمُ الذِينَ ثَبَتُوا مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَمَا سَيَأْتِي. * ثَبَاتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَأَمَّا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَدْ ثَبَتَ في سَاحَةِ المَعْرَكَةِ ثَبَاتَ الجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، ¬

_ = وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2157) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} - رقم الحديث (11338) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الأحزاب - رقم الحديث (3478). (¬1) انظر فتح الباري (6/ 103).

وَلَمْ يُفَارِقْ مَكَانَهُ، قَالَ المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-: فَوَالذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ، مَا زَالَتْ قَدَمُهُ شِبْرًا وَاحِدًا عَنْ مَوْقِفِهِ، وَإِنَّهُ لَفِي وَجْهِ العَدُوِّ (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا إِذَا احْمَرَّ البَأْسُ (¬2)، وَلَقِيَ القَوْمُ القَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى القَوْمِ مِنْهُ (¬3). فَلَمَّا انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يُنَادِيهِمْ: "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ"، فَعَرَفَ المُشْرِكُونَ صَوْتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فكَرُّوا (¬4) عَلَيْهِ وَهَاجَمُوهُ، وَمَالُوا إِلَيْهِ بِثِقْلِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَئِذٍ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَفِيهِمْ: طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، وَقِيلَ: بَلْ سَبْعَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَرَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ. وَعِنْدَ ابنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ (¬5) قَالَ: وَثَبَتَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا: سَبْعَةً مِنَ المُهَاجِرِينَ فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَسَبْعَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ. ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 264). (¬2) احمرَّ البأس: أي إذا اشتَّدتِ الحرب استقْبَلْنَا العَدُوَّ به، وجعلناهُ لنا وِقَاية. انظر النهاية (1/ 421). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1347). (¬4) الكَرُّ: الرُّجوع. انظر لسان العرب (12/ 64). (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 270).

* مقتل السبعة من الأنصار

* مَقْتَلُ السَّبْعَةِ مِنَ الأَنْصَارِ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُفْرِد يَوْمَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ (¬1)، فَلَمَّا رَهِقُوهُ (¬2)، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّة، أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الجَنَّةِ؟ ". فتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّة، أَوْ هُوَ رَفِيقِي في الجَنَّةِ؟ "، فتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِصَاحِبَيْهِ: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا" (¬3). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 106): كأن المرادُ بالرجلَيْنِ: طلحةُ وسعدٌ، ويشهدُ لذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4060) عن مَعْمَرٍ عن أبيه قال: زَعَمَ أبو عُثْمَان أنَّه لم يَبْقَ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعضِ تِلكَ الأيام التي يُقَاتل فيهن غير طلحة وسعد. فكأن المرادُ بالحَصْرِ في هذا الحديث تخصيصُه بالمهاجرين، فكأنه قال: لم يَبْقَ معه من المهاجرين غير هذينِ، وتعيَّن حملُهُ علي ما أوَّلته، وأن ذلك باعتبار اختلافِ الأحوال وأنهم تفرَّقُوا في القتال، فلما وقَعَتِ الهَزِيمة فيمن انهَزَمَ، وصاحَ الشيطان: قُتِل مُحمد، اشتغل كُل واحد منهم بهَمِّه، والذَّبِّ عن نفسه، ثم عرفوا عن قرب بِبَقَائه فتراجعوا إليه أَوَّلًا فالأول، ثم بعد ذلك كان يندُبُهم إلى القتال فيشتَغِلُون به. (¬2) يُقال: رَهِقه بالكسر يرهقه رهقًا: إذا غشيه. انظر النهاية (2/ 257). (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (1789) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد - رقم الحديث (4718).

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى، وَالبَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَوَلَّى النَّاسُ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في نَاحِيَةٍ في اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا (¬1) مِنَ الأَنْصَارِ، وَفِيهِمْ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، فَأَدْرَكَهُ المُشْرِكُونَ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فَقَالَ: "مَنْ لِلقوْمِ؟ ". فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "كَمَا أَنْتَ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: "أَنْتَ"، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ الْتَفَتَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا بِالمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: "مَنْ لِلقوْمِ؟ ". قَالَ طَلْحَةُ: أنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَمَا أَنْتَ". قَالَ رَجُل مِنَ الأَنصَارِ: أَنَا. فَقَالَ: "أَنْتَ"، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَلِكَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَيُقَاتِلُ قِتَالَ مَنْ قَبْلَهُ حَتَّى يُقْتَلَ، حَتَّى بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (¬2). ¬

_ (¬1) وجاء عن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في مسند الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين - رقم الحديث (18593) قال -رضي اللَّه عنه-: . . . فلم يبقَ مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غير اثْنَيْ عَشَر رجلًا. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 106) في رواية أنس -رضي اللَّه عنه- أنهم كانوا سبعة، وفي رواية جابر -رضي اللَّه عنه-، والبراء -رضي اللَّه عنه- أنهم اثني عشر، وعند ابن سعد في طبقاته (2/ 270) قال: أربعة عشرة رجلًا، فلعلهم جاؤوا بعد ذلك. (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الجهاد - باب ما يقول من يطعنه العدو - رقم =

* ما أصاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الجراح

وَكَانَ آخِرَ مَنْ قُتِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الأَنْصَارِ عُمَارَةُ بنُ زِيَادِ بنِ السَّكَنِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الجِرَاحَةُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَدْنُوهُ مِنِّي"، فَأَدْنَوْهُ مِنْهُ، فَوَسَّدَهُ قَدَمَهُ، فَمَاتَ، وَخَدُّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * مَا أَصَابَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الجِرَاحِ: وَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ مَقْتَلِ هَؤُلَاءِ الأَنْصَارِ غَيْرُ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَشَدَّ المُشْرِكُونَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرَمَاهُ عُتْبَةُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِالحِجَارَةِ، فَوَقَعَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِشِقِّهِ، وَأُصِيبَتْ شَفَتُهُ السُّفْلَى فَجَرَحَهَا، وَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ اليُمْنَى (¬2)، وَكُسِرَتِ البَيْضَةُ (¬3) عَلَى رَأْسِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ فَشَجَّهُ في جَبْهَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَتَى ابنُ قَمِئَةَ فَعَلَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالسَّيْفِ، وَضَرَبَهُ عَلَى مَنْكبهِ (¬4) الأَيْمَنِ ضَرْبَةً شَدِيدَةً، شَكَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَجْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ ضَرَبَهُ عَلَى وَجْنَتَيْهِ (¬5) وَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ¬

_ = الحديث (4342) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 236) - وجود إسناده الحافظ في الفتح (8/ 106). (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 234). (¬2) الرَّبَاعية: هي إحدى الأسنان الأربَعِ التي تَلِي الثَّنَايا بين الثنية والنَّابِ. انظر لسان العرب (5/ 119). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 113): والمراد بكسر الرَّبَاعية، أنها كُسِرت فذهب منها فِلقَة -أي قطعة- ولم تُقلع من أصلها. (¬3) البيضَةُ: الخُوذَة. انظر النهاية (1/ 169). (¬4) المَنْكِب: ما بين الكتِفِ والعُنُق. انظر النهاية (5/ 99). (¬5) الوَجْنَة: أعلى الخَدِّ. انظر النهاية (5/ 138).

* استجابة الله تعالى دعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم-

ابْنُ قَمِئَةَ، فَدَخَلَتْ حَلَقَاتٌ مِنْ حِلَقِ المِغْفَرِ (¬1) في وَجْنَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَقْمَاكَ (¬2) اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" (¬3). وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْفَعُ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ، فَسَقَطَ في حُفْرَةٍ مِنَ الحُفَرِ التِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الفَاسِقُ قَدْ حَفَرَهَا لِيَقَعَ فِيهَا المُسْلِمُونَ، فَجُحِشَتْ (¬4) رُكبَتَاهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخَذ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا (¬5). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمُّوا (¬6) وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ، وَهَشَمُوا (¬7) عَلَيْهِ البَيْضَةَ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ" (¬8). * اسْتِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى دَعْوَةَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دَعْوَةَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ابْنِ قَمِئَةَ، فَإِنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ إِلَى أَهْلِهِ خَرَجَ إِلَى غَنَمِهِ، فَوَجَدَهَا عَلَى ذُرْوَةِ جَبَلٍ، ¬

_ (¬1) المِغْفَر: ما يلبسه الدارع علي رأسه. انظر النهاية (3/ 336). (¬2) أقمَاهُ: أذَلَّه. انظر لسان العرب (11/ 311). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 89) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 270). (¬4) جُحِشَتْ: خُدِشَت. انظر النهاية (1/ 233). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (3/ 89). (¬6) قال الحافظ في الفتح (8/ 123): دَمُّوا بتشديد الميم: أي جرحُوه حَتَّى خرَجَ منه الدم. (¬7) هَشَمَ: كَسَر. انظر النهاية (5/ 228). (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب ما أصاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الجراح يوم أُحد - رقم الحديث (4073) (4074) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4915).

* دفاع طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-

فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ تَيْسًا، فَلَمْ يَزَلْ يَنْطَحُهُ حَتَّى قَطَّعَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَشَدَّ عَلَيْهِ التَّيْسُ فنَطَحَهُ نَطْحَةً أَرْدَاهُ مِنْ شَاهِقِ الجَبَلِ فتَقَطَّعَ (¬1). وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عُتْبَةَ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ الحَوْلَ (¬2) حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا"، فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ (¬3) وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ وَابْنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قتلِ رَجُلٍ قَطُّ كَحِرْصِي عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُهُ لَسَيِّئَ الخُلُقِ، مُبغَّضًا فِي قَوْمِهِ (¬4) * دِفَاعُ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- عَنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ هَدَفُ المُشْرِكِينَ قتلَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِلَّا أَنَّ طَلْحَةَ بنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَامَا بِبُطُولَةٍ نَادِرَةٍ، وَقَاتَلَا بِبَسَالَةٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ، حَتَّى لَمْ يَتْرُكَا -وَهُمَا اثْنَانِ- سَبِيلًا إِلَى المُشْرِكِينَ لِتَحْقِيقِ هَدَفِهِمْ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة لأبي نعيم (2/ 489). (¬2) الحَوْلُ: السنة. انظر النهاية (1/ 445). (¬3) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 265). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 265) - سيرة ابن هشام (3/ 96). (¬5) انظر الرحيق المختوم ص 268.

فَعِنْدَمَا تَجَمَّعَ المُشْرِكُونَ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقُتِلَ النَّفَرُ مِنَ الأَنْصَارِ دُونَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَطَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لِلقَوْمِ؟ ". فَقَالَ طَلْحَةُ: أنَا، فَقَاتَلَ طَلْحَةُ قِتَالَ الأَحَدَ عَشَرَ حَتَّى ضُرِبَتْ يَدُهُ، فَقُطِعَتْ أَصَابِعُهُ، فَقَالَ: حِسٌّ (¬1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ، لَرَفَعَتْكَ المَلَائِكَةُ والنَّاسُ يَنْظُرُونَ" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، ضُرِبَتْ كَفُّهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ: حِسٌّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ، لَرَأَيْتُ يُبْنَى لَكَ بِهَا بَيْتٌ في الجَنَّةِ، وَأَنْتَ حَيٌّ في الدُّنْيَا" (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ (¬4) وَقَى بها النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ (¬5). ¬

_ (¬1) حِسٌّ؛ بكسر الحاء والتشديد كلمة تُقال عندَ الألم المُفَاجِئِ. انظر النهاية (1/ 370). (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الجهاد - باب ما يقول من يطعنه العدو - رقم الحديث (4342) - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 236) - وجود إسناد الحافظ في الفتح (8/ 106). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1294). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 107): شَلّاء: أي أصابها الشَّلَل، والشلل هو: ما يُبطل عمل الأصابع أو بعضها. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4063).

* دفاع سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُوسَى بنِ طَلْحَةَ قَالَ: جُرِحَ طَلْحَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِضْعًا وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً (¬1). * دِفَاعُ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- عَنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَأَمَّا سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّ المُقَاتِلِينَ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْم انْهَزَمَ النَّاسُ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِى وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: نَثَلَ (¬2) لِيَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِنَانَتَهُ (¬3) -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمَي" (¬4). * نُزُولُ المَلَائِكَةِ: وَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَلَائِكَتَهُ لِحِمَايَةِ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ (¬5)، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1296). (¬2) نثل: أي أخرج. انظر النهاية (5/ 14). (¬3) الكِنَانة: هي جَعْبَة السهام تتخَذُ من جُلودٍ لا خشَب فيها، أو من خَشَبٍ لا جُلُود فيها. انظر لسان العرب (12/ 173). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4055). (¬5) في رواية الطيالسي قال سعد: رأيتُ يومَ أُحد عن يَمِين رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن يساره رَجُلَيْن.

* عودة الصحابة حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستماتتهم في الدفاع عنه

بِيضٌ، كَأَشَدِّ القِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ (¬1). زَادَ مُسْلِمٌ في رِوَايَتِهِ عَنْهُ -رضي اللَّه عنه-: يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (¬2). قُلْتُ: نَزَلَتِ المَلَائِكَةُ لِحِمَايَةِ الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ تُقَاتِلِ المَلَائِكَةُ إِلَّا في غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى. قَال ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمْ تُقَاتِلِ المَلَائِكَةُ في يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَكَانُوا يَكُوُنونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ (¬3). * عَوْدَةُ الصَّحَابَةِ حَوْلَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاسْتِمَاتَتُهُمْ في الدِّفَاع عَنْهُ: وَمَا كَادَ الصَّحَابَةُ الذِينَ يُقَاتِلُونَ المُشْرِكِينَ، يَسْمَعُونَ صَوْتَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنَادِيهِمْ: "إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ"، حَتَّى أَقْبَلُوا إِلَيْهِ، وَقَدْ كَثُرَ فِيهِمُ الجِرَاحُ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، سَبْعَةٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَسَبْعَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ، وَالحَارِثُ بنُ الصِّمَّةِ، وَمَالِكُ بنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ ¬

_ (¬1) في رواية الطيالسي قال سعد: ما رأيتهم قبلَ ذلك اليومِ ولا بعده. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4054) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في قتال جبريل ومكائيل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أُحد - رقم الحديث (2306) - وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (203). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (2/ 245) - تفسير البغوي (1/ 412).

* دفاع أبي دجانة -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-

الخُدْرِيِّ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَأُمُّ عُمَارَةَ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. * دِفَاعُ أَبِي دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه- عَنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ يَدْفَعُوا المُشْرِكِينَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِكُلِّ مَا أُتُوا مِنْ قُوَّةٍ، مَعَ كَثْرَةِ الجِرَاحِ التِي فِيهِمْ، فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه- وَتَرَّسَ (¬1) نَفْسَهُ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَقَعُ النَّبْلُ في ظَهْرِهِ، وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى امْتَلَأَ ظَهْرُهُ سِهَامًا، وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ، غَيْرَ مُبَالٍ مَا أَصَابَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ (¬2). * دِفَاعُ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَمِمَّنِ اسْتَمَاتَ في الدِّفَاعِ عَنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُجَوِّبٌ (¬3) عَلَيْهِ بِحَجَعَةٍ (¬4) لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ (¬5) مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْثُرْهَا لِأَبِي ¬

_ (¬1) تَرَّس: أي سَتَرَ ووَقى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بنفسه. انظر لسان العرب (2/ 28). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 91) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 234). (¬3) مُجوِّبٌ بضم أوله وفتح الجيم وتشديد الواو: أي متَرِّس عليه يَقِيه بها، ويُقال للترس أيضًا جَوبة. انظر فتح الباري (8/ 108) - النهاية (1/ 300). (¬4) الحَجَفَة: هي التُّرسُ. انظر النهاية (1/ 333). (¬5) الجَعْبَة: هي الآلة التي تُجعل فيها السِّهام. انظر النهاية (1/ 265).

طَلْحَةَ"، قَالَ: وَيُشْرِفُ (¬1) النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْظُرُ إِلَى القَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُشْرِفْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ" (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ أَشَدُّ عَلَى المُشْرِكِينَ مِنْ فِئَةٍ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في المُسْنَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "صَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ في الجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَةٍ" (¬4). قَالَ: وَكَانَ يَجْثُو (¬5) بَيْنَ ¬

_ (¬1) يُشْرِف: أصله من الشَّرف، وهو العُلُو، كأنه ينظرُ إليه من موضعٍ مرتفعٍ فيكون أكثر لإدراكه. انظر النهاية (2/ 414). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الْفَتْحِ (8/ 109): أي أفدِيكَ بنفسي. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4064) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة النساء مع الرجال - رقم الحديث (1811) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12024). (¬3) الفِئَة: الفِرقة والجماعة من الناس. انظر النهاية (3/ 364). والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13105). (¬4) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خيرٌ من فِئَةٍ": قال السندي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح المسند (7/ 135): أي أهْيَبُ في صدورِ العدو من فئة. (¬5) الجاثِي: هو الذي يجلِسُ علي ركبتيه. انظر النهاية (1/ 232) - ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية - آية (28): {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً}.

* دفاع سهل بن حنيف -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

يَدَيْهِ في الحَرْبِ ثُمَّ يَنْثُرُ كِنَانتهُ، ويَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الوِقَاءُ، وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ (¬1). * دِفَاعُ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ -رضي اللَّه عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَمِنْهُمْ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ ثَبَتَ مَعَ الرَّسُولِ حِينَ انْكَشَفَ النَّاسُ، وَبَايَعَ يَوْمَئِذٍ عَلَى المَوْتِ، وَجَعَلَ يَنْضَحُ (¬2) يَوْمَئِذٍ بِالنَّبْلِ (¬3) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَبِّلُوا (¬4) سَهْلًا فَإِنَّهُ سَهْلٌ" (¬5). * دِقَاعُ عَيْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَقَاتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، حَتَّى أُصِيبَ فَمُهُ يَوْمَئِذٍ فَهُتِمَ (¬6) وَجُرِحَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ جِرَاحَةً، وَجُرِحَ في رِجْلِهِ فَكَانَ يَعْرُجُ مِنْهَا (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13745). (¬2) ينضَحُ: يَرْمِي. انظر النهاية (5/ 60). (¬3) النبل: هي السِّهَام. انظر النهاية (5/ 9). (¬4) يُقال: نَبَّلتُ الرجل: إذا ناوَلْتُهُ النبل ليَرْمِي. انظر النهاية (5/ 8). (¬5) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نبِّلُوا سهلًا" - رقم الحديث (5788) - وابن سعد في طبقاته (3/ 247). (¬6) الهَتْمُ: انكسارُ الثَّنَايا من أصُولها، والثنَايا هي: الأسنان التي في مُقَدَّم الفم. انظر لسان العرب (15/ 26) (2/ 141). (¬7) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب حلية عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5396) - وانظر سير أعلام النبلاء (1/ 75) - الإصابة (4/ 292).

* دفاع مالك بن سنان -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* دِفَاعُ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ -رضي اللَّه عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَأَمَّا مَالِكُ بنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ امْتَصَّ دَمَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ وَجْنَتِهِ (¬1) الشَّرِيفَةَ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَنْقَاهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُجَّهُ" (¬2)، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَمُجُّهُ أَبَدًا، ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَاتَلَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ خَالَطَ دَمِي دَمُهُ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَالِكِ بنِ سِنَانٍ" (¬3). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ مَسَّ دَمِي دَمُهُ لَمْ تُصِبْهُ النَّارُ" (¬4). * بُطُولَةُ نُسَيْبَةَ بِنْتِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَاتَلَتْ أُمُّ عُمَارَةَ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ المَازِنِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: شَهِدَتْ أُمَّ عُمَارَةَ بِنْتَ كَعْبٍ أُحُدًا، مَعَ زَوْجِهَا غَزِيَّةُ بنُ عَمْرٍو وَابْنَيْهَا، وخَرَجَتْ تَسْقِي، وَمَعَهَا شَنٌّ (¬5) لَهَا. ¬

_ (¬1) وجْنَتُه: هي أعلى الخَدِّ. انظر النهاية (5/ 138). (¬2) مَجَّهُ: أي ألقاه. انظر النهاية (4/ 253). (¬3) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مالك بن سنان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6446) - وإسناده حسن بالشواهد. (¬4) انظر سيرة ابن هشام (3/ 89). (¬5) الشَّنُّ: القِرْبَة. انظر النهاية (2/ 453).

* جهاد النساء

وَكَانَتْ تُقَاتِلُ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ القِتَالِ، وأَبْلَتْ بَلَاءً حَسَنًا، وَإِنَّهَا لَحَاجِزَةٌ (¬1) ثَوْبَهَا عَلَى وَسَطِهَا، حَتَّى جُرِحَتْ اثْنَيْ عَشَرَ جُرْحًا، وكَانَ قَدْ ضَرَبَهَا ابنُ قَمِئَةَ -قبَّحَهُ اللَّهُ- ضَرْبَةً عَلَى عَاتِقِهَا (¬2)، وَكَانَ أَعْظَمَ جِرَاحِهَا، فَدَاوَتْهُ سَنَةً، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: "مَنْ يُطِيقُ مَا تُطِيقِينَ يَا أُمَّ عِمَارَةَ؟ "، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ نُرَافِقَكَ في الجَنَّةِ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي في الجَنَّةِ". فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنَ الدُّنْيَا (¬3). قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الإِنْسَانَ لَيُدْهَشُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَاعَةِ التِي لَا نَكَادُ نَجِدُ لَهَا مِثَالًا في تَارِيخِ الدُّنْيَا، وَإِنَّ لِهَذِهِ السَّيَدَةِ البَطَلَةِ لَتَارِيخًا حَافِلًا في بَابِ الجِهَادِ في الإِسْلَامِ، . . . وَشَهِدَتْ كَذَلِكَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأَبْلَت بَلَاءً حَسَنًا في حُرُوبِ الرِّدَّةِ (¬4). * جِهَادُ النِّسَاءِ: وَلقدْ ضَرَبَ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، أَرْوَعَ الأَمْثِلَةِ في غَزْوَةِ أُحُدٍ العَظِيمَةِ، فكُنَّ يَسْقِينَ العَطْشَى، وَيُدَاوِينَ الجَرْحَى، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . وَلقدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ¬

_ (¬1) احتَجَزَ الرجُلُ بالإزَارِ: إذا شده على وَسَطِه. انظر النهاية (1/ 332). (¬2) العَاتِقُ: ما بين المِنْكَبِ والعُنُق. انظر لسان العرب (9/ 38). (¬3) انظر الطبَّقَات الكبْرى لابن سعد (8/ 441) - سير أعلام النبلاء (2/ 279) - سيرة ابن هشام (3/ 91). (¬4) انظر السِّيرة النَّبوِية في ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة (2/ 203).

* جهاد أم سليط رضي الله عنها

وَأُمَّ سُلَيْمٍ (¬1)، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ (¬2) أَرَى خَدَمَ (¬3) سُوقِهِمَا تَنْقُلَانِ (¬4) الْقِرَبِ عَلَى مُتُونِهِمَا (¬5) ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ القَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ، فتَمْلَآنِهَا ثُمَّ تَجِيئَانِ، فَتُفْرِغَانِهِ في أَفْوَاهِ القَوْمِ (¬6). * جِهَادُ أُمِّ سَلِيطٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَلِيطٍ، وَهِيَ وَالِدَةُ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، كَانَتْ زَوْجًا لِأَبِي سَلِيطٍ، فَمَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الهِجْرَةِ، فتَزَوَّجَهَا مَالِكُ بنُ سِنَانٍ الخُدْرِيُّ فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا سَعِيدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ بنِ أَبِي ¬

_ (¬1) أم سُلَيمٍ: هي أمُّ أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬2) التشْمِير: هو الجِدُّ في العمل والاجتهاد. انظر النهاية (2/ 447). (¬3) الخَدَم بفتح الخاء والدال: جمع خَدَمَة، وهو الخَلْخَال. انظر النهاية (2/ 15). قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 158): ونظر أنس -رضي اللَّه عنه- لِخَدَم سوقهما لم يكن فيها نَهْيٌ؛ لأن هذا كان يوم أُحُدٍ قبل أمْرِ النساء بالحِجَاب، وتحرِيمِ النظر إليهنَّ؛ ولأنه لم يذكر هنا أنَّه تعمَّد النظر إلى نفس السَّاق، فهو محمُول على أنَّه حَصَلَتْ تلك النظرة فجأةً بغير قَصْدٍ ولم يستَدِمْهَا. (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري قال أنس لَهُ: تَنْقُزَانِ لِلْقِرَب. والنَّقْزُ: الوثْبُ والقفْزُ، كنايةٌ عن سُرعة السير، أي يحملان القرب، ويقفِزَانِ بها وَثْبًا. انظر النهاية (5/ 92). (¬5) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 158): مُتُونِهِما: أي ظُهورهما. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال - رقم الحديث (2880) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} - رقم الحديث (4064) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة النساء مع الرجال - رقم الحديث (1811).

مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَسَمَ مُرُوطًا (¬1) بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ المَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- التِي عِنْدَكَ -يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ- فَقَالَ عُمَرُ: أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ، وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءَ الأَنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ عُمَرُ: فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ (¬2) لَنَا القِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَنِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إِذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ المَاءَ وَيُدَاوِينَ الجَرْحَى (¬4). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ جَوَازُ خُرُوجِ النِّسَاءَ في الغَزْوِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِنَّ في السَّقْي وَالمُدَاوَاةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهَذ المُدَاوَاةُ لِمَحَارِمِهِنَّ وَأَزْوَاجِهِنَّ، وَمَا كَانَ مِنْهَا لِغَيْرِهِمْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَسُّ بَشَرَةٍ إِلَّا في مَوْضِعِ الحَاجَةِ (¬5). قَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَة: فَالإِسْلَامُ يُبِيحُ لِلْمَرْأَةِ المُشَارَكَةَ في ¬

_ (¬1) المِرْط: هو كساءٌ، ويكون من صُوفٍ. انظر النهاية (4/ 273). (¬2) تَزْفُرُ: بفتح أوله وسكون الزاي وكسر الفاء: أي تحمل. انظر النهاية (2/ 276). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو - رقم الحديث (2881). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة النساء مع الرجال - رقم الحديث (1810). (¬5) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 158).

* انحياز الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه نحو الجبل

الجِهَادِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ التَّدَيُّنِ وَالتَّصَوُّنِ وَالتَّعَفُّفِ، وَعَدَمِ الِابْتِذَالِ، وَالوُقُوعِ في المَآثِمِ، وَإِلَّا كَانَ ضَرَرُهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهَا، وَإِفْسَادُهَا أَكْثَرَ مِنْ إِصْلَاحِهَا (¬1). * انْحِيَازُ (¬2) الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ الجَبَلِ: وَبَعْدَ أَنْ تَمَكَّنَ الصحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الذِينَ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَدِّ هَجَمَاتِ المُشْرِكِينَ، اسْتَطَاعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَشُقَّ الطَّرِيقَ إِلَى بَقِيَّةِ المُسْلِمِينَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَهُ -بَعْدَ انْتِشَارِ شَائِعَةِ قَتْلِهِ- كَعْبُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ تَتَلَأْلَآنِ مِنْ تَحْتِ المِغْفَرِ، فنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! أَبْشِرُوا! هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنِ اصْمِتْ، وَذَلِكَ لِئَلَّا يَعْرِفَ المُشْرِكُونَ مَكَانَهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الصَّوْتَ بَلَغَ إِلَى آذَانِ المُسْلِمِينَ، فَلَاذَ إِلَيْهِ المُسْلِمُونَ، حَتَّى تَجَمَّعَ حَوْلَهُ حَوَالِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَرِحُوا حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَهَانَ عَلَيْهِمْ مَا فَاتَهُمْ مِنَ القَوْمِ بَعْدَ ظُهُورِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا نَحْوَ جَبَلِ أُحُدٍ، وَعِنْدَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشُقُّ الطَّرِيقَ إِلَى شِعْبِ الجَبَلِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، والزُّبَيْرُ، وسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَالحَارِثُ بنُ الصِّمَّةِ، وَكَعْبُ بنُ مَالِكٍ، وَأَبُو ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة (2/ 205). (¬2) انحَازَ القومُ: ترَكُوا أماكِنَهُمْ إلى آخر. انظر لسان العرب (3/ 389).

* صعود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصخرة

دُجَانَةَ، وَسَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ وَغَيْرُهُمْ، سَعَى المُشْرِكُونَ إِلَى عَرْقَلَةِ انْسِحَابِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمُسْلِمِينَ، واشْتَدُّوا في هُجُومِهِمْ، لِعَرْقَلَةِ الِانْسِحَابِ إِلَّا أَنَّهُمْ فَشِلُوا أَمَامَ بَسَالَةِ (¬1) لُيُوثِ (¬2) المُسْلِمِينَ. وَهَكَذَا انْهَزَمَ المُشْرِكُونَ، وَفَشِلَتْ مُحَاوَلَاتُهُمْ أَمَامَ بَسَالَةِ المُسْلِمِينَ (¬3). * صُعُودُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّخْرَةَ: وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَعْلُوَ الصَّخْرَةَ التِي في الشِّعْبِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ لَمْ يَسْتَطِعْ، لِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ بَدَّنَ (¬4)، وَظَاهَرَ بَيْنَ دَرْعَيْنِ (¬5)، وَأَصَابَهُ الضَّعْفُ لِكَثْرَةِ مَا نَزَفَ دَمًا مِنْ جُرْحِهِ، فَبَرَكَ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- تَحْتَهُ، فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الصَّخْرَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ" (¬6). ¬

_ (¬1) البَسَالَةُ: الشَّجَاعة. انظر النهاية (1/ 128). (¬2) اللَّيْثُ: الشِّدَّةُ والقُوَّة، وبه سُمِّي الأسد ليثًا. انظر لسان العرب (12/ 373). (¬3) أخرجَ انحِيَازَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى جبَلِ أُحُدٍ: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) وإسناده حسن - وأما معرفة كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فقد أخرجها: أبو نعيم في الدلائل (2/ 482) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 93) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 237) - وإسناده صحيح. (¬4) بَدَّن: أي كَبَّرَ وأسَنَّ، والبادِنُ: الضَّخْمُ. انظر النهاية (1/ 107). (¬5) ظاهَرَ بينَ دِرْعَيْنِ: أي لبِسَ دِرْعَيْنِ أحدُهُمَا فوقَ الآخر. انظر النهاية (3/ 152). (¬6) أخرجَ صُعودَ الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على ظهرِ طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في مسنده (1417) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر طلحة بن =

* مقتل أبي بن خلف لعنه الله

أَيْ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا اسْتَوْجَبَ بِهِ الجَنَّةَ حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا صَنَعَ. * مَقْتَلُ أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: فَلَمَّا أَسْنَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ مُحَمَّدٌ؟ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، فَقَالَ القَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَيَعْطِفُ (¬1) عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا؟ ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعُوهُ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: فَاعْتَرَضَهُ رِجَالٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسْتَأْخِرُوا، اسْتَأْخِرُوا"، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحَرْبَةَ مِنَ الحَارِثِ بنِ الصِّمَّةِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا أَخَذَهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً تَطَايَرَ عَنْهُ أصْحَابُهُ تَطَايُرَ الشَّعْرَاءِ (¬2) عَنْ ظَهْرِ البَعِيرِ إِذَا انْتَفَضَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَطَعَنَهُ في تُرْقُوَتِهِ (¬3) مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ (¬4) الدِّرْعِ، وَالبَيْضَةِ تَدَهْدَهَ (¬5) مِنْهُ -أَيْ مِنَ الطَّعْنَةِ- عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا، ¬

_ = عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6979) - والترمذي في جامعه - كتاب الجهاد - باب ما جاء في الدرع - رقم الحديث (1787) - وأخرجه في كتاب المناقب - باب مناقب طلحة بن عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4071) - وإسناده حسن. (¬1) عطفَ عليه: إذا كَرَّ، والكَرُّ: الرجوع. انظر لسان العرب (9/ 269) (12/ 64). (¬2) الشَعْرَاء: هي ذِبَّانٌ حُمْرٌ، وقيل: زُرقٌ تقعُ على الإبل والحَمِيرِ وتؤذِيهَا أذًى شديدًا. انظر النهاية (2/ 430). (¬3) التُّرْقوُةُ: هي العَظْمُ الَّذي بين ثُغرَةِ النَّحْرِ والعاتق. انظر النهاية (1/ 183). (¬4) سابِغَةُ الدرع: هي شيء من حَلَقِ الدروع تستُرُ العنق. انظر النهاية (2/ 304) - لسان العرب (6/ 160). (¬5) تَدَهْدَهَ: أي تدحْرَجَ وسقَطَ. انظر النهاية (2/ 133).

وَجَعَلَ يَخُورُ كَمَا يَخُورُ الثَّوْرُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَقَدْ خَدَشَهُ في عُنُقهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ، فَقَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ، وَاللَّهِ إِنَّ بِكَ مِنْ بَأْسٍ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ: "أَنَا أَقْتُلُكَ"، فَوَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. وَقِصَّةُ ذَلِكَ أَنَّ أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ كَانَ يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ عِنْدِي فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا (¬1) مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". وَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرِفٍ (¬2)، وَهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى مَكَّةَ (¬3). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (¬4). ¬

_ (¬1) الفَرَقُ؛ بالتحريك مِكْيَالٌ ضخمٌ لأهلِ المَدِينة معروف. انظر النهاية (3/ 391). (¬2) سَرِف بكسر الراء: موضع من مكة علي عشرة أميال. انظر النهاية (2/ 326). (¬3) أخرج قصَّة مقتل أُبي بن خلف: أبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 414) - وابن سعد في طبقاته (2/ 272) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 237) مرسلًا عن سعيد بن المسيب، ووصله الواحدي في أسباب النزول ص 56 - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب طعن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُبي بن خلف - رقم الحديث (3316) - وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - ما أصاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الجراح يوم أُحد - رقم الحديث (4073) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (1793).

* آخر هجوم قام به المشركون

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَوْلَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فِي سَبِيلِ اللَّهِ" احْتِرَازٌ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقْتُلُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ قَاصِدًا قَتْلَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ، رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا، أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ (¬2) مِنَ المُمَثِّلِينَ" (¬3). * آخِرُ هُجُومٍ قَامَ بِهِ المُشْرِكُونَ: وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الشِّعْبِ، قَامَ المُشْرِكُونَ بِآخِرِ هُجُومٍ حَاوَلُوا فِيهِ النَّيْلَ (¬4) مِنَ المُسْلِمِينَ، إِلَّا أَنَّ المُسْلِمِينَ رَمَوْهُمْ بِالحِجَارَةِ، وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى فَشِلُوا، وَارْتَدُّوا عَلَى أعْقَابِهِمْ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالشِّعْبِ، مَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ خَيْلِ قُرَيْشٍ لِلجَبَلِ، يَقُودُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَخَالِدُ بنُ الوَليدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا" (¬5)، "اللَّهُمَّ! إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 127). (¬2) المُمَثِّل: أي مُصوِّر. انظر النهاية (4/ 251). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (3868) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (6). (¬4) نالَ منَ القوم: إذا أصَابَ منهم. انظر النهاية (5/ 124). (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) وإسناده حسن.

* تغشية النعاس للمؤمنين

تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ" (¬1)، ثُمَّ نَدَبَ (¬2) أَصْحَابَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَصَدَّى لَهُمْ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فِي رَهْطٍ (¬3) مِنَ المُهَاجِرِينَ، فَقَاتَلُوهُمْ وَرَمَوْهُمْ بِالحِجَارَةِ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ مِنَ الجَبَلِ (¬4). * تَغْشِيَةُ النُّعَاسِ لِلْمُؤْمِنِينَ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ عَلَى المُسْلِمِينَ، حِينَ اشتَدَّ عَلَيْهِمُ الخَوْفُ، فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ نَائِمٌ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} (¬5). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا، يَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ فَآخُذُهُ (¬6). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، . . . وَلقدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحباب الدعاء بالنصر - رقم الحديث (1743) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 96). (¬2) ندبتَهُ: أي بعثَتُه ودعَوْتَهُ فأجَاب. انظر النهاية (5/ 29). (¬3) الرهط من الرجال: ما دُون العشرة. انظر النهاية (2/ 257). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (3/ 96). (¬5) سورة آل عمران آية (154). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (21) - رقم الحديث (4068).

طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلَاثًا، مِنَ النُّعَاسِ (¬1). وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا يَمِيدُ (¬2) تَحْتَ حَجَفَتِهِ (¬3) مِنَ النُّعَاس، فَذَلِكَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَالمَقْصُودُ أَنَّ أُحُدًا وَقَعَ فِيهَا أَشْيَاءُ مِمَّا وَقَعَ فِي بَدْرٍ، مِنْهَا: حُصُولُ النُّعَاسِ حَالَ الْتِحَامِ الحَرْبِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى طُمَأْنِينَةِ القُلُوبِ بِنَصْرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَتَمَامِ تَوَكُّلِهَا عَلَى خَالِقِهَا وَبَارِئِهَا (¬5). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ: وَالنُّعَاسُ فِي الحَرْبِ وَعِنْدَ الخَوْفِ دَلِيلٌ عَلَى الأَمْنِ، وَهُوَ مِنَ اللَّهِ، وَفِي الصَّلَاةِ، وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَالعِلْمِ مِنَ الشَّيْطَانِ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة النساء مع الرجال - رقم الحديث (1811). (¬2) يَمِيد: تحزَك ومَال. انظر لسان العرب (13/ 230). (¬3) الحَجَفَة: التُّرْسُ. انظر النهاية (1/ 333). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة آل عمران - رقم الحديث (3252) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب قصة غزوة أحد - رقم الحديث (3218). (¬5) انظر البداية والنهاية (4/ 404). (¬6) انظر زاد المعاد (3/ 182).

* حال المنافقين

* حَالُ المُنَافِقِينَ: وَأَمَّا المُنَافِقُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، أَجْبَنُ القَوْمِ وَأَرْعَنُهُمْ (¬1)، وَأَخَذَلُهُمْ لِلْحَقِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ (¬2) يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ (¬3) يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬4). * مُدَاوَاةُ جِرَاحِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَلَمَّا هَدَأَ الأَمْرُ أَخَذَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُدَاوُونَ جِرَاحَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) الرُّعُونة: الحُمْقُ. انظر لسان العرب (5/ 250). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (2/ 145): يعني لا يغشَاهُمُ النعاس من القَلَقِ والجَزَع والخَوف. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (2/ 145): اعتقدوا أن المشرِكِين لما ظهَرُوا تلك الساعة أنها الفَيْصَلَة، وأن الإسلام قد بَادَ وأهله، هذا شأنُ أهل الرَّيْبِ والشَّكِّ إذا حصل أمرٌ من الأمور الفَظِيعَة، تحصل لهم هذه الظُّنُون الشنيعة. (¬4) سورة آل عمران آية (154).

قَالَ: . . . أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فَأَتَى المِهْرَاسَ (¬1)، وَأَتَاهُ بِمَاءٍ فِي دَرَقَتِهِ (¬2)، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا فَعَافَهُ، فَغَسَلَ بِهِ الدَّمَ الذِي فِي وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اشتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬3). ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخَذَتْ تُدَاوِي جِرَاحَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَومُ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ المُشْرِكُونَ خَرَجَ النِّسَاءُ إِلَى الصَّحَابَةِ يُعِينُونَهُمْ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ فِيمَنْ خَرَجَ، فَلَمَّا رَأَتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اعْتَنَقَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَغْسِلُ جِرَاحَاتِهِ بِالمَاءِ فَيَزْدَادُ الدَّمُ (¬4). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَكَانَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَغْسِلُ الدَّمَ، وكَانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- يَسْكُبُ (¬5) عَلَيْهَا المَاءَ بِالمِجَنِّ (¬6)، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ المَاءَ لَا يَزِيدُ ¬

_ (¬1) المِهْرَاسُ: هو ماءٌ بجَبَلِ أُحد. انظر النهاية (5/ 224). (¬2) الدّرَقَةُ: التُّرْسُ من جُلُودٍ ليست فيها خشبٌ ولا عقب. انظر لسان العرب (4/ 333). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر طلحة بن عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6979). (¬4) أورد ذلك الحافظ في الفتح (8/ 123) - وسكت عليه. (¬5) سكب: صَبَّ. انظر لسان العرب (6/ 302). (¬6) المِجَنُّ: التُّرْس. انظر النهاية (4/ 256).

* فوائد الحديث

الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ (¬1) فَأَحْرَقْتُهُ حَتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْصَقْتُهُ بِالْجُرُوحِ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ (¬3) الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: "كَيْفَ يُفْلحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ؟ "، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬4). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ التَّدَاوِي. 2 - وَأَنَّ الأَنْبِيَاءَ قَدْ يُصَابُونَ بِبَعْضِ العَوَارِضِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنَ الآلَامِ وَالأَسْقَامِ لِيَعْظُمَ لَهُمْ بِذَلِكَ الأَجْرُ، وتَزْدَادَ دَرَجَاتُهُمْ رِفْعَةً، وَليَتَأَسَّى بِهِمْ أَتْبَاعُهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى المَكَارِهِ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ¬

_ (¬1) الحَصِير: هو البِسَاط الصغير من النَّبَات، يبسَطُ في البيوت. انظر لسان العرب (3/ 203) - النهاية (1/ 380). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب ما أصاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الجراح يوم أُحد - رقم الحديث (4075) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (1790). (¬3) سَلَتَ: أمَاطَهُ وأزَالَه. انظر النهاية (2/ 348). (¬4) سورة آل عمران آية (128) - والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (1791) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11956) (13083).

* تشويه شهداء المسلمين

3 - وَفِيهِ مُبَاشَرَةُ المَرْأَةِ لِأَبِيهَا، وَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا، وَمُدَاوَاتُهَا لأمراضهم (¬1). * تَشْوِيهُ شُهَدَاءِ المُسْلِمِينَ: فَلَمَّا رَأَى المُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ لَنْ يَصِلُوا إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِلَى الصَّحَابَةِ، آثَرُوا الِانْسِحَابَ، وَلَمْ يَكُوُنوا يَعْرِفُوا مَا مَصِيرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَلْ قُتِلَ أَمْ لَا، فَأَخَذُوا يَتَهَيَّؤُونَ لِلرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يُمَثِّلُونَ بِقَتْلَى المُسْلِمِينَ، يُقَطِّعُونَ الآذَانَ، وَالأُنُوفَ، وَالفُرُوجَ، ويَبْقَرُونَ (¬2) البُطُونَ. وَبَقَرَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَاكَتْهَا (¬3) فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا، فَأَلْقَتْهَا، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ إِنْ قَدِرَتْ عَلَى حَمْزَةَ لَتَأْكُلَنَّ مِنْ كَبِدِهِ (¬4). وَلَمْ يَتْرُكِ المُشْرِكُونَ قَتِيلًا مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا مَثَّلُوا بِهِ، إِلَّا حَنْظَلَةَ بنَ أَبِي عَامِرٍ -غَسِيلَ المَلَائِكَةِ- فَتُرِكَ بِسَبَبِ وَالِدِهِ الفَاسِقِ، كَانَ مَعَ المُشْرِكِينَ. وَمِمَّنْ مُثِلَ بِهِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَجَدَعُوا (¬5) أَنْفَهُ وَأُذُنَهُ. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (1/ 472) (8/ 123). (¬2) البَقْرُ: الشَّقُّ والفَتْحُ. انظر لسان العرب (1/ 459). (¬3) يُقال: لُكْتُ الشيءَ في فَمِي: إذا عَلَكْته. انظر لسان العرب (12/ 360). (¬4) أخرج أكل هند بنت عَبة رضي اللَّه عنها - لأنها أسلمت يوم فتح مكة - من كبد حمزة -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4414) - وهو حديث حسن لغيره. (¬5) الجدعُ: قطعُ الأنفِ والأذن. انظر النهاية (1/ 239).

* شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة

وَمِمَّنْ مُثِّلَ بِهِ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-، قَطَعُوا أَنْفَهُ وَأُذُنَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَرُوا بَطْنَهُ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * شَمَاتَةُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ نِهَايَةِ المَعْرَكَةِ: فَلَمَّا أَرَادَ المُشْرِكُونَ الِانْصِرَافَ، أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الجَبَلِ، فَنَادَى المُسْلِمِينَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُجِيبُوهُ"، ثُمَّ قَالَ: أَفِي القَوْمِ ابنُ أَبِي قُحَافَةَ؛ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُجِيبُوهُ"، ثُمَّ قَالَ: أَفِي القَوْمِ ابنُ الخَطَّابِ؛ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُجِيبُوهُ". ثُمَّ رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ، فَقَدْ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ (¬2)، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ (¬3). فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالأَيَّامُ دُوَلٌ (¬4)، وَالحَرْبُ سِجَالٌ (¬5)، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الجَنَّةِ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 101) - دلائل النبوة للبيهقي (2/ 213). (¬2) في رواية الإمام أحمد في المسند، قال عمر -رضي اللَّه عنه-: يا رَسُول اللَّهِ، ألا أجيبه؛ قال: "بلى". (¬3) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3039) - قال عمر -رضي اللَّه عنه-: إن الذينَ عدَدْتَ لأحيَاءٌ كُلُّهم، وقد بقيَ لك ما يَسُوءُك. (¬4) دالَتِ الأيام: أي دَارَتْ. انظر لسان العرب (4/ 444). (¬5) الحربُ سِجَالٌ: أي مرَّة لنا ومرَّة علينا. انظر النهاية (2/ 310).

* فوائد الحديث

ثُمَّ أَخَذَ أَبُو سُفْيَانَ يَرْتَجِزُ (¬1): أُعْلُ هُبَلْ، أُعْلُ هُبَلْ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تُجِيبُونَهُ؟ ". قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُوُلوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ"، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا العُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تُجِيبُونَهُ؟ "، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ"، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - مَنْزِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخُصُوصِيَّتُهُمَا بِهِ بِحَيْثُ كَانَ أَعْدَاؤُهُ لَا يَعْرِفُونَ بِذَلِكَ غَيْرَهُمَا، إِذْ لَمْ يَسْأَلْ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ غَيْرِهِمَا. 2 - وأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللَّهِ، وَيَعْتَرِفَ بِالتَّقْصِيرِ عَنْ أَدَاءِ شُكْرِهَا. ¬

_ (¬1) الرَّجَزُ: هو بحرٌ من بُحُور الشِّعْر معروفٌ، ونوعٌ من أنواعه، ويُسمى قائِلُهُ راجز. انظر النهاية (2/ 182). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - ككتاب الجهاد والسير - باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب - رقم الحديث (3039) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (4043) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2609) - (18593).

* مواعدة التلاقي في بدر

3 - وَفِيهِ شُؤْمُ ارْتِكَابِ المَعْصِيَةِ، وَأَنَّهُ يَعُمُّ ضَرَرُهُ مَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1). 4 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ آثَرَ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ، وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ دُنْيَاهُ، وَاسْتُفِيدَ مِنْ هَذِهِ الكَائِنَةِ أَخْذُ الصَّحَابَةِ الحَذَرَ مِنَ العَوْدِ إِلَى مِثْلِهَا، وَالمُبَالَغَةُ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحَرُّزُ مِنَ العَدُوِّ الذِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ. . .} إلى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬2). * مُوَاعَدَةُ التَّلَاقِي فِي بَدْرٍ: وَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانُ، وَمَنْ مَعَهُ نَادَى فِي المُسْلِمِينَ: إِنَّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ (¬3)، حَيْثُ قَتَلْتُمْ أَصْحَابَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: "قُلْ نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدٌ"، فَافْتَرَقَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (25). (¬2) سورة آل عمران آية (179) - وانظر كلام الحافظ في الفتح (8/ 96). (¬3) الحَوْلُ: السنة. انظر النهاية (1/ 445). (¬4) أخرج مواعدة أبي سفيان للمسلمين في بدر العام المقبل: النسائي في السنن الكبرى -=

* التأكد من موقف المشركين

* التَّأَكُّدُ مِنْ مَوْقِفِ المُشْرِكِينَ: فَلَمَّا ذَهَبَ المُشْرِكُونَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1) وَقَالَ لَهُ: "اخْرُجْ فِي آثَارِ القَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ؟ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنَبُوا الخَيْلَ (¬2)، وَامْتَطَوْا (¬3) الإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكبُوا الخَيْلَ وَسَاقُوا الإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ المَدِينَةَ، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ فِيهَا، ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ" (¬4). قَالَ عِلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَجَنَّبُوا الخَيْلَ، وَامْتَطَوُا الإِبِلَ، وَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ. فَجَاءَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِانْصِرَافِهِمْ إِلَى مَكَّةَ (¬5). * تَفَقُّدُ المُسْلِمِينَ قَتْلَاهُمْ وَجَرْحَاهُمْ: وَلَمَّا انْصَرَفَتْ قُرَيْشٌ إِلَى مَكَّةَ طَابَتْ أَنْفُسُ المُسْلِمِينَ لِذَهَابِهِمْ، وَانتشَرُوا ¬

_ = كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} - رقم الحديث (11017) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 105) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح (9/ 96). (¬1) هَذِهِ رِوَايَةُ ابن إسحاق في السيرة (3/ 105) - وفي رواية البيهقي في دلائل النبوة (3/ 213): أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-. فلعلَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرسَلَهُمَا جميعًا، واللَّه أعلم. (¬2) جَنَبَ الفرس: بالتحريك أي قادَهُ إلى جنبه. انظر لسان العرب (2/ 372). (¬3) امتَطَوا الإبل: أي رَكِبُوها. انظر النهاية (4/ 290). (¬4) لَأُنَاجِزَنَّهُم: أي لأقَاتِلَنَّهُمْ وأخَاصِمَنَّهُمْ. انظر النهاية (5/ 18). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (3/ 105) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 213).

* الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن عمه حمزة -رضي الله عنه-

يَتَفَقَّدُونَ قَتْلَاهُمْ وَجَرْحَاهُمْ، فَكَانَ مِنْ بَيْنِ الجَرْحَى: سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-، وَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَوُجِدَ مِنْ بَيْنِ الجَرْحَى الأُصَيْرِمُ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، وَمِنْ بَيْنِ القَتْلَى عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ، وَالِدُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَمْرُو بنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه-، وَمُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَمُخَيْرِيقٌ اليَهُودِيُّ -رضي اللَّه عنه- وَغَيْرُهُمْ. * الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبْحَثُ عَنْ عَمِّهِ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَلْتَمِسُ عَمَّهُ حَمْزَةَ رمنه، فَرَآهُ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ، فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُناهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْلَا أَنْ تَجْزَعَ (¬1) صَفِيَّةُ، لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَحْشُرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ بُطُونِ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ" (¬2). وَجَاءَتْ صَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُرِيدُ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى أَخِيهَا حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَهَا الزُّبَيْرَ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَصْرِفَهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- أَقْبَلَتْ صَفِيَّةُ تَطْلُبُهُ لَا تَدْرِي مَا صَنَعَ، فَلَقِيَتْ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلزُّبَيْرِ: اذْكُرْ لِأُمِّكَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ لِعَلِيٍّ: لَا اذْكُرْ أَنْتَ لِعَمَّتِكَ، قَالَتْ: مَا فَعَلَ حَمْزَةُ، فَأَرَيَاهَا أنَّهُمَا لَا ¬

_ (¬1) الجزع: الحزن. انظر النهاية (1/ 261). (¬2) أخرج ذلك الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4913) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12300) - وأبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب الشهيد يغسَّل - رقم الحديث (3136) - وإسناده حسن.

يَدْرِيَانِ فَجَاءَتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أخَافُ عَلَى عَقْلِهَا"، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهَا وَدَعَا فَاسْتَرْجَعَتْ وَبَكَتْ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي الزُّبَيْرُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ تَسْعَى، حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى القَتْلَى، قَالَ: فكَرِهَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ ترَاهُمْ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المَرْأَةَ المَرْأَةَ". قَالَ الزُّبَيْرُ: فتَوَسَّمْتُ (¬2) أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا، فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِي إِلَى القَتْلَى، قَالَ: فَلَدَمَتْ (¬3) فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَلْدَةً (¬4)، قَالَتْ: إِلَيْكَ، لَا أَرْضَ لَكَ (¬5)، قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَزَمَ عَلَيْكِ. قَالَ: فَوَقَفَتْ، وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا، فَقَالَتْ: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب استشهاد حمزة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4947) وسكت عليه - وقال الذهبي: سمعه أبو بكر بن عياش من يزيد، وليسا بمعتمدين، لكن للحديث شواهد يصح بها، ففي الباب، عن ابن مسعود أخرجه الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (4414) - وهو حديث حسن لغيره - وعن الزبير بن العوام أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1418) - وإسناده حسن. (¬2) توسَّمْتُ: تفَرَّسْتُ. انظر لسان العرب (15/ 303). (¬3) لَدَمتْ: أي ضَرَبَتْ ودَفعَتْ. انظر النهاية (4/ 212). (¬4) جلدَة: أي قَوِيَّة. انظر النهاية (1/ 275). (¬5) لا أرضَ لكَ: هي كما يُقال: لا أُمَّ لك: فهو يُقَال إما للتعجُّبِ، أو للزَّجْرِ، أو للتهوِيلِ، أو للإعجاب. انظر لسان العرب (1/ 218).

* غضب الصحابة رضي الله عنهم بسبب التمثيل بإخوانهم

لِأَخِي حَمْزَةَ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ، فكَفِّنُوهُ فِيهِمَا (¬1). * غَضَبُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ بِسَبَبِ التَّمْثِيلِ بِإِخْوَانِهِمْ: وَلَمَّا رَأَى المُسْلِمُونَ تَمْثِيلَ المُشْرِكِينَ بِقَتْلَاهُمْ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قُتِلَ مِنَ الأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ المُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَئِنْ كَانَ لَنَا يَوْمٌ مِثْلُ هَذَا مِنَ المُشْرِكِينَ، لَنُرْبِيَنَّ (¬2) عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الفَتْحِ -أَيْ فتحُ مَكَّةَ- قَالَ رَجُلٌ لَا يُعْرَفُ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ اليَوْمِ، فنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَمِنَ الأَسْوَدُ وَالأَبْيَضُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا، نَاسًا سَمَّاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬3). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "كفُّوا عَنِ القَوْمِ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1418). (¬2) لنُرْبِيَنَّ: أي لنَزِيدَنَّ ولنُضَاعِفَنَّ. انظر النهاية (2/ 177). (¬3) سورة النحل آية (126) - قال الإمام القرطبي في تفسيره (12/ 461): أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية، نزلت في شأن التمثيل بحمزة -رضي اللَّه عنه- في يوم أُحد. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21229) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة النحل - رقم الحديث (11215).

* جمع الشهداء

* جَمْعُ الشُّهَدَاءِ: ثُمَّ أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قتلَى أُحُدٍ، قَالَ: "أَشْهَدُ عَلَى هَؤُلَاءِ، مَا مِنْ مَجْرُوحٍ جُرِحَ فِي اللَّهِ، إِلَّا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وجُرْحُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ المِسْكِ" (¬2). ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الحَدِيدُ، وَالجُلُودُ، وَأَنْ يَدْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَلَا يُغَسَّلُوا. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ ثَعْلَبَةَ بنِ صُعَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ: "زَمِّلُوهُمْ (¬3) فِي ثِيَابِهِمْ" (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي المُسْنَدِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب من قُتِل من المسلمين يوم أُحد - رقم الحديث (4079) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4913). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23658) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (258). (¬3) زَمَّلُوهُمْ: أي لفُّوهُمْ فيها. انظر النهاية (2/ 283). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23657) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (258).

صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَشْرَفَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الشُّهَدَاءِ الذِينَ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: "زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنِّي قَدْ شَهِدتُ عَلَيْهِمْ" (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ"، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: "لَا تُغَسِّلُوهُمْ، فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كُلَّ دَمٍ، يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا، ودُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23660) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4911). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب من لم ير غسل الشهداء - رقم الحديث (1346) - وباب اللحد والشق في القبر - رقم الحديث (1353) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4911). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14189). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4912) - وأبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في الشهيد يُغسل - رقم الحديث (3135).

* هل صلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- على شهداء أحد أم لا؟

قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ المَقْتُولَ فِي مَعْرَكَةِ الكُفَّارِ لَا يُغَسَّلُ (¬1). * هَلْ صَلَّى الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ أَمْ لَا؟ : اخْتُلِفَ فِي صَلَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ: * مَنْ قَالَ إِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ: رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا (¬2). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ لَمْ يُغَسَّلُوا، وَدُفِنُوا بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ (¬3). * مَنْ قَالَ إِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَيْهِمْ: أَخْرَجَ الحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . ثُمَّ أُمِرَ بِالقَتْلَى ¬

_ (¬1) انظر شرح السنة (5/ 366) للإمام البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب من قُتِل من المسلمين يوم أُحد - رقم الحديث (4079) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4911). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4912) - وأبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في الشهيد يُغسل - رقم الحديث (3135).

* القول بأنه صلى فقط على حمزة -رضي الله عنه-

فَجَعَلَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ، فَيَضَعُ تِسْعَةً وَحَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَيُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ، ويُتْرَكُ حَمْزَةُ، ثُمَّ يُؤْتَوْا بِتِسْعَةٍ فَيُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ، وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ، ثُمَّ يُؤْتَوْا بِتِسْعَةٍ فَيُكَبَّرُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ حَتَّى فَرَعَ مِنْهُمْ (¬1). * القَوْلُ بِأَنَّهُ صَلَّى فَقَطَ عَلَى حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّ إِلَّا عَلَى حَمْزَةَ، فَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ -يَعْنِي شُهَدَاءَ أُحُدٍ- غَيْرَهُ (¬2). * الجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ: قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ المَقْتُولَ فِي مَعْرَكَةِ الكُفَّارِ لَا يُغَسَّلُ، وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ ¬

_ (¬1) أخرج الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب استشهاد حمزة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4947) - وسكَتَ عليه، وقال الذهبي: سمعه أبو بكر بن عياش من يزيد، وليسا بمعتمدين، ولكن للحديث شواهد يصح بها، ففي الباب عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4414) وهو حديث حسن لغيره - وعن عبد اللَّه بن الزبير، أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 290) وإسناده جيد. (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4913) - وأبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في الشهيد يُغسل - رقم الحديث (3137).

لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ (¬1)، وَأَحْمَدُ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ (¬2). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ فِي تَهْذِيبِ السُّنَنِ: وَالصَّوَابُ فِي المَسْأَلةِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِهَا لِمَجِيءِ الآثَارِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَمْرَيْنِ، وَهَذَا إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الأَلْيَقُ بِأُصُولهِ وَمَذْهَبِهِ (¬3). وَأَمَّا قَوْلُ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ يَعْنِي شُهَدَاءَ أُحُدٍ غَيْرَ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه-. فَقَدْ قَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ المُشْكِلِ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى حَمْزَةَ، وَمِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا أَشْغَلَهُ يَوْمَئِذٍ مِمَّا كَانَ نَزَلَ بِهِ فِي وَجْهِهِ الشَّرِيفِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمِنْ هَشْمِ البَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ¬

_ (¬1) قال الإمام الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في "الأم" فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (3/ 571): جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُصل على قتلى أُحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبّر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه. (¬2) انظر شرح السنة (5/ 366) للإمام البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬3) انظر تهذيب السنن (4/ 295) لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬4) انظر شرح مشكل الآثار (12/ 436).

* دفن الشهداء

* دَفْنُ الشُّهَدَاءِ: ثُمَّ أَمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِدَفْنِ القَتْلَى، فَكَانَ يُوضَعُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، بَلْ كَانَ يُكَفَّنُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ، وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا بِالمُسْلِمِينَ مِنَ الجِرَاحِ التِي يَشُقُّ مَعَهَا أَنْ يَحْفِرُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، وَقِلَّةِ الثِّيَابِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ هِشَامِ بنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَصَابَ النَّاسَ قَرْحٌ (¬1) وَجَهْدٌ شَدِيدٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: شَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- القَرْحَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالُوا: كَيْفَ تَأْمُرُ بِقَتْلَانَا؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "احْفِرُوا، وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا فِي القَبْرِ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ نُقَدِّمُ؟ قَالَ: "أكْثَرُهُمْ جَمْعًا وَأَخْذًا لِلْقُرْآنِ" (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: "أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرآنِ؟ ". فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ (¬3). ¬

_ (¬1) القَرْحُ بفتح القاف وضمها: هو الجُرْحُ. انظر النهاية (4/ 32). ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران آية (140): {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. . .}. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16251) (16254). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب من قُتِل من المسلمين يوم أُحد -=

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ تَكْفِينِ الرَّجُلَيْنِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ إِمَّا بِجَمْعِهِمَا فِيهِ، وَإِمَّا بِقَطْعِهِ بَيْنَهُمَا. 2 - وَجَوَازُ دَفْنِ اثْنَيْنِ فِي لَحْدٍ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ أَفْضَلِهِمَا لِدَاخِلِ اللَّحْدِ (¬1). * دَفْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ حَرَامٍ، وَعَمْرِو بنِ الجَمُوحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: وَدُفِنَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ عَبْدُ اللَّهُ بنُ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرٍ، وَعَمْرُو بنُ الجَمُوحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -رضي اللَّه عنهم-، قَالَ جَابِرٌ: . . . فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ (¬2) فِي قَبْرٍ (¬3). ¬

_ = رقم الحديث (4079) - وأخرجه في كتاب الجنائز - باب الصلاة على الشهيد - رقم الحديث (1343). (¬1) انظر فتح الباري (3/ 572). (¬2) قال الحافظ في الفتح (3/ 579): والرجل الآخر: هو عمرُو بن الجموح -رضي اللَّه عنه-، وكان صَدِيقَ والد جابر، وزوج أخته هند بنت عمرو. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب هل يُخرج الميت من القَبْرِ واللحد لعلة؟ - رقم الحديث (1351).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي (¬1) فِي نَمِرَةٍ (¬2) وَاحِدَةٍ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَى عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الجَنَّةِ -وَكَانَتْ رِجْلُهُ عَرْجَاءَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَقتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أخِيهِ (¬4) ,. . . فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِمَا فَجُعِلُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (¬5). وَرَوَى ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْفِنُوا عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَمْرٍو، وَعَمْرَو بنَ الجَمُوحِ فِي قَبْرٍ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 579): كأن جابرًا سمَّاهُ عمَّه تعظيمًا. (¬2) قال الحافظ في الفتح (3/ 575): نَمِرَة: بفتح النون وكسر الميم: هي بُرْدَةٌ من صُوفٍ. قلتُ: وقع عند ابن سعد في طبقاته (3/ 287) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: أنهما كفنا في نمرتين. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 575): فإن ثبتَ حُمِل على أن النَّمِرَة الواحدة شُقَّتْ بينهما نصفين. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب من يقدم في اللحد - رقم الحديث (1348). (¬4) قال ابن عبد البر في التمهيد فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (3/ 580): ليس هُوَ ابن أخيه، وإنما هو ابن عَمِّه. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 580): وهو كما قال. (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22553).

* دفن حمزة وعبد الله بن جحش رضي الله عنهما في قبر واحد

وَاحِدٍ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الصَّفَاءِ"، وَقَالَ: "ادْفِنُوا هَذَيْنِ المُتَحَابَّيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ" (¬1) * دَفْنُ حَمْزَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: وَدُفِنَ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- مَعَ ابْنِ أُخْتِهِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ (¬2). وَكَانَ الثَّوْبُ الذِي كُفِّنَ فِيهِ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- إِذَا غُطِّيَ بِهِ رَأْسُهُ -رضي اللَّه عنه- ظَهَرَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّى رِجْلَاهُ ظَهَرَ رَأْسُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . لَكِنَّ حَمْزَةَ لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ، إِذَا جُعِلَتْ عَلَى رَأْسِهِ قَلَصَتْ (¬3) عَنْ قَدَمَيْهِ، وَإِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ، حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ، وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الإِذْخِرُ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُفِّنَ حَمْزَةُ -رضي اللَّه عنه- فِي نَمِرَةٍ، كَانُوا إِذَا مَدُّوهَا عَلَى رَأْسِهِ، خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا مَدُّوهَا عَلَى رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 287) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 109). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 108) - الإصابة (4/ 33) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 50). (¬3) قَلَصَ: ارتَفَع. انظر النهاية (4/ 88). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21072).

* تكفين مصعب بن عمير -رضي الله عنه-

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُقَدِّمُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَيَجْعَلُوهُ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ (¬1). * تَكْفِينُ مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: وَكُفِّنَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فِي بُرْدَةٍ إِذَا غَطُّوا رَأْسَهُ ظَهَرَتْ قَدَمَاهُ، وَإِذَا غَطَّوْا قَدَمَيْهِ ظَهَر رَأْسُهُ. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ خَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا (¬2)، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَترَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ (¬3) رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنْ إِذْخِرٍ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12300) (14521) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4917). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (13/ 63): أي من عرض الدنيا. (¬3) بدت: ظهرت. انظر لسان العرب (1/ 347). (¬4) الإذْخِرُ بكسر الهمزة: هي حَشِيشَةٌ طيِّبَة الرائحة تسْقَفُ بها البُيُوتُ فوقَ الخشب. انظر النهاية (1/ 36). والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3897) - وأخرجه في كتاب الرقائق - باب فضل الفقر - رقم الحديث (6448) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في كفن الميت - رقم الحديث (940) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4046) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21058).

* فوائد الحديث

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- أُتِيَ بِطَعَامٍ، وَكَانَ صَائِمًا فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي برْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، . . . ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ (¬1)، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ: 1 - فَضْلُ الزُّهْدِ. 2 - وَأَنَّ الفَاضِلَ فِي الدِّينِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا لِئَلَّا تَنْقُصَ حَسَنَاتُهُ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -رضي اللَّه عنه- بِقَوْلِهِ: خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا قَدْ عُجِّلَتْ (¬3). وَكَانَ مُصْعَبٌ -رضي اللَّه عنه- فتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا، وَكَانَتْ أُمُّهُ تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ، وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَتَرَكَ كُلَّ هَذَا النَّعِيمِ، وَاسْتُشْهِدَ، وَلَمْ يَجِدُوا لِكَفَنِهِ إِلَّا برْدَةً إِذَا غَطَّوْا رَأْسَهُ ظَهَرَتْ رِجْلَاهُ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 98): يُشِيرُ -رضي اللَّه عنه- إلى ما فُتِح لهم من الفُتوح والغنائم، وحصل لهم من الأموال، وكان لعبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه- من ذلك الحَظّ الوافر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة أُحد - رقم الحديث (4045) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4048). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 98).

* دفن شهداء أحد بمصارعهم

وَإِذَا غَطَّوْا رِجْلَيْهِ ظَهَرَ رَأْسُهُ (¬1). * دَفْنُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِمَصَارِعِهِمْ: وَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ المُسْلِمِينَ قَدِ احْتَمَلُوا قَتْلَاهُمْ إِلَى المَدِينَةِ لِيَدْفِنُوهُمْ بِهَا، فَأَتَاهُمْ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُدْفَنُوا حَيْثُ صُرِعُوا. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ قَتْلَى أُحُدٍ حُمِلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ، فنَادَى مَنَادِي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْ رُدُّوا القَتْلَى إِلَى مَصَارِعِهِمْ" (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي وَخَالِي، عَادِلَتَهُمَا (¬3) عَلَى نَاضِحٍ (¬4)، فَدَخَلَتْ بِهِمَا المَدِينَةَ لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، إِذْ لَحِقَ رَجُلٌ منَادِي، أَلَا إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالقَتْلَى، فتَدْفِنُوهَا فِي مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ، فَرَجَعْنَا بِهِمَا، فَدَفَنَّاهُمَا حَيْثُ قُتِلَا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 62). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14169) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في الشهيد - رقم الحديث (3183). (¬3) عَادِلتهما: أي شَدَدْتُهُمَا على جَنْبَي البَعِير كالعِدْلَين. انظر النهاية (3/ 173). (¬4) الناضِحُ: البعير الذي يُسْتَقى عليه الماء. انظر لسان العرب (14/ 174). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15281) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الجنائز - باب الشهيد - رقم الحديث (3184).

* كرامة الله عز وجل للشهيد

* كَرَامَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلشَّهِيدِ: أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . كَانَ أَبِي أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ الآخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً (¬1)، غَيْرَ أُذُنِهِ (¬2). وَأَخْرَجَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ، وَالإِمَامُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فَدَخَلَ السَّيْلُ قَبْرَهُمَا -أَيْ قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ حَرَامٍ وَالِدِ جَابِرٍ، وَعَمْرِو بنِ الجَمُوحِ لِأَنَّهُمَا دُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ- فَحُفِرَ عَنْهُمَا، وَعَبْدُ اللَّهِ قَدْ أَصَابَهُ جُرْحٌ فِي وَجْهِهِ، فَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ، فَأُمِيطَتْ (¬3) يَدُهُ عَنْ جِرَاحِهِ، فَانْبَعَثَ (¬4) الدَّمُ، فَرُدَّتْ يَدُهُ إِلَى مَكَانِهَا فَسَكَنَ (¬5) الدَّمُ. قَالَ جَابِر: فَرَأَيْتُ أَبِي فِي حُفْرَتِهِ كَأَنَّهُ نَائِمٌ، وَمَا تَغَيَّرَ مَنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلَا ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (3/ 580): هُنَيَّة: أي لم يتغَيَّر منه شيء إِلَّا شيئًا يَسِيرًا، وهي أذنه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب هل يُخرج الميت من القبر واللحد لعلَّة؟ - رقم الحديث (1351). (¬3) أماطَ الشيءَ: تنَحَّى وبعد. انظر لسان العرب (13/ 233). (¬4) انبعَثَ الشيءُ: اندَفَعَ. انظر لسان العرب (1/ 438). (¬5) سَكَنَ الدَّمُ: أي توقَّفَ. انظر لسان العرب (6/ 311).

كَثِيرٌ، فَقِيلَ لَهُ: فَرَأَيْتَ أَكْفَانَهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا كُفِّنَ فِي نَمِرَةٍ خُمِّرَ (¬1) بِهَا وَجْهُهُ، وَجُعِلَ عَلَى رِجْلَيْهِ الحَرْمَلُ (¬2)، فَوَجَدْنَا النَّمِرَةَ كَمَا هِيَ، وَالحَرْمَلُ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَبَيْنَ ذَلِكَ سِتٌّ وأَرْبَعُونَ سَنَةً (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهَذَا الحَدِيثُ الذِي رَوَاهُ البُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- يُخَالِفُ فِي الظَّاهِرِ رِوَايَةَ ابْنِ سَعْدٍ وَالإِمَامَ مَالِكًا مِنْ أَنَّه حُفِرَ عَنْهَا بَعْد سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِكَوْنِهِمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ قُرْبَ المُجَاوَرَةِ، أَوْ أَنَّ السَّيْلَ خَرَقَ أَحَدَ القَبْرَيْنِ فَصَارَا كَقَبْرٍ وَاحِدٍ (¬4). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ -رضي اللَّه عنه- يُجْرِي العَيْنَ التِي عِنْدَ قُبُورِ الشُّهَدَاءَ بِالمَدِينَةِ أَمَرَ مُنَادِيًا، فنَادَى: مَنْ كَانَ لَهُ مَيِّتٌ، فَلْيَأْتِهِ، قَالَ جَابِرٌ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي، فَأَخْرَجْنَاهُمْ رِطَابًا يَتَثَنَّوْنَ (¬5)، فَأَصَابَتِ المِسْحَاةُ (¬6) ¬

_ (¬1) التخْمِيرُ: التغْطِيَةُ. انظر لسان العرب (4/ 211). (¬2) الحَرْمَلُ: هو نبتٌ وَرَقُهُ كورَقِ الخِلافِ، ونُورُه كنُورِ اليَاسَمِين. انظر لسان العرب (3/ 144). (¬3) أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 288) - وأخرجه الإمام مالك في الموطأ - كتاب الجهاد - باب الدفن في قبر واحد للضرورة - وصحح إسناده الحافظ في الفتح (3/ 580). (¬4) انظر فتح الباري (3/ 580). (¬5) يتَثَنَّونَ: أي يَنْحَنُون. انظر لسان العرب (2/ 136). (¬6) المِسْحَاة: هي المِجْرَفة من الحديد. انظر النهاية (4/ 280).

* فضل شهداء أحد

أُصْبُعَ رَجِلٍ مِنْهُمْ، فَانْفَطَرَتْ (¬1) دَمًا (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَبَيْنَمَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَثَارَ (¬3) أَبَاكَ عُمَّالُ مُعَاوِيَةَ، فَبَدَا (¬4)، فَخَرَجَ طَائِفَةٌ مِنْهُ، فَأَتَيْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ الذِي دَفَنْتُهُ، لَمْ يَتَغَيَّرْ إِلَّا مَا لَمْ يَدَعِ القَتْلُ أَوِ القَتِيلَ، فَوَارَيْتُهُ (¬5). * فَضْلُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ: وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي فَضلِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَأَذْكُرُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: "أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ (¬6) مَعَ أَصْحَابِ نُحْصِ (¬7) الجَبَلِ"، يَعْنِي سَفْحِ الجَبَلِ (¬8). ¬

_ (¬1) فَطَرَ الشيءَ: شَقَّهُ. انظر لسان العرب (10/ 285). ومنه قوله تعالى في سورة الانفطار آية (1): {إِذَا السَّمَاءُ اَنفَطَرَت}. (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 411). (¬3) أثار: ظَهَر. انظر لسان العرب (2/ 148). (¬4) فَبَدَا: أي خرَجَ وظهر. انظر النهاية (1/ 108). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15281). (¬6) غُودِرْتُ: أي ليتَنِي استُشْهِدْتُ معهم، والمُغَادَرَةُ: التَّرْكُ، وفيه دلالةٌ على زيادة شرف شهداء أُحد من بين الشُّهداء، واللَّه أعلم. انظر النهاية (3/ 310). (¬7) النُحصُ بالضم: هو أصلُ الجبل وسفحُهُ، تمنى أن يكون استشهد معهم يوم أُحد. انظر النهاية (5/ 24). (¬8) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15025) - وأخرجه البيهقي في =

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُودَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ، قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الجِهَادِ، وَلَا يَنْكُلُوا (¬1) عَنِ الحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الآيَاتِ عَلَى رَسُولِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: أَمَّا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاء، فَهِيَ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ، فَهِيَ كَالكَوَاكِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَرْوَاحِ عُمُومِ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا تَطِيرُ بِأَنْفُسِهَا، فنَسْأَلُ اللَّهَ الكَرِيمَ المَنَّانَ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الإِيمَانِ (¬3). ¬

_ = دلائل النبوة (3/ 304). (¬1) نَكَلَ عن الأمر: إذا امْتَنَعَ. انظر النهاية (5/ 102). (¬2) سورة آل عمران آية (169) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2388) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في فضل الشهادة - رقم الحديث (2520) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب أرواح الشهداء في جوف طير - حديث رقم (3219). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (2/ 164).

* زيارة شهداء أحد

* زِيَارَةُ شُهَدَاءِ أُحُدٍ: أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُرِيدُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ (¬1)، فَلَمَّا تَدَلَّيْنَا (¬2) مِنْهَا، وَإِذَا قُبُور بِمَحْنِيَةٍ (¬3)، فَقُلْنَا: يَا رَسُول اللَّهِ، أَقُبُورُ إِخْوَانِنَا هَذِهِ؟ قَالَ: "قُبُورُ أَصْحَابِنَا"، فَلَمَّا جِئْنَا قُبُورَ الشُّهَدَاءِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذِهِ قُبُورُ إِخْوَانِنَا" (¬4) وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْتِي الشُّهَدَاءَ، فَإِذَا أَتَى فُرْضَةَ الشِّعْبِ (¬5)، يَقُولُ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} " (¬6)، ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ ¬

_ (¬1) الحَرَّةُ: هي أرضٌ بظَاهِرِ المدينة بها حِجَارة سُود كثيرة. انظر النهاية (1/ 351). (¬2) التَّدَلِّي: النُّزول من العلو. انظر النهاية (2/ 122). (¬3) قوله -رضي اللَّه عنه-: فإذا قُبُور بمحنِيَة: أي بحيثُ ينعَطِفُ الوادي، وهو مُنْحَنَاه أيضًا، ومَحَانِي الوادي مَعَاطِفُه. انظر النهاية (1/ 437). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1387) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب زيارة القبور - رقم الحديث (2043) - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 305) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8669). (¬5) فُرضةُ الجَبَل: ما انحدَرَ من وَسَطِهِ وجانِبِه، والشِّعْبُ: ما انفَرج بين جبلين. انظر النهاية (3/ 388) - لسان العرب (7/ 128). (¬6) سورة الرعد آية (24).

* عدد شهداء المسلمين في أحد

-رضي اللَّه عنه- بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَفْعَله، وَكَانَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- يَفْعَلُ ذَلِكَ (¬1). * عَدَدُ شُهَدَاءِ المُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ: بَلَغَ عَدَدُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعِينَ رَجُلًا، سِتَّةً مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَهُمْ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَمُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ، وَشَمَّاسُ بنُ عُثْمَانَ، وَسَعْدُ بن خَوْلي مَوْلَى حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَعَمْرٌو الأَسْلَمِيُّ، وَأَرْبَعٌ وَسِتُّونَ مِنَ الأَنْصَارِ (¬2). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قتَادَةَ قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءَ العَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَغَرَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ قتَادَةُ، وَحَدَّثنَا أَنَسُ بنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ الجَمِيعَ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ كَذَلِكَ إِلَّا الْقَلِيلُ (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (3/ 306). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 126). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب من قُتِل من المسلمين يوم أُحد - رقم الحديث (4078). (¬4) انظر فتح الباري (8/ 126).

* قتلى المشركين

جَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بنَ جُبَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فَذَكَرَ حَدِيثَ غَزْوَةِ بَدْرٍ ثُمَّ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ. . .، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قُتِلَ مِنَ الأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ المُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ (¬3). * قَتْلَى المُشْرِكِينَ: أَمَّا قَتْلَى المُشْرِكِينَ فَبَلَغَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (10) - رقم الحديث (3986) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18593). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (208). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21229) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة النحل - رقم الحديث (11215). (¬4) هذا ما ذكره ابن سعد في طبقاته (2/ 271)، بينما ذكر ابن إسحاق في السيرة (3/ 144) أن عدد قتلى المشركين يوم أُحد اثنان وعشرون رجلًا، فاللَّه أعلم.

* دعاء وتضرع لله رب العالمين

* دَعَاءٌ وَتَضَرُّعٌ للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ: وَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرُّجُوعَ إِلَى المَدِينَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَفَ عَلَى جَبَلِ أُحُدٍ، فَأَثْنَى عَلَى رَبِّهِ، وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالحَاكِمُ وَالبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُبَيْدِ بنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَفَأَ المُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي"، فَصَاروا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ المُقِيمَ الذِي لَا يَحُولُ ولَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْألكَ النَّعِيمَ يَوْمَ العَيْلَةِ (¬1)، وَالأَمْنَ يَوْمَ الخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ، وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الكَفَرَةَ الذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وعَذَابَكَ، ¬

_ (¬1) العَيْلَةُ: بفتح العين الفقر. انظر النهاية (3/ 298).

* رجوع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وشدة المحبة له

اللَّهُمَّ قَاتِلِ الكَفَرَةَ، الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ، إِلَهَ الحَقِّ" (¬1). * رُجُوعُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ وَشِدَّةُ المَحَبَّةِ لَهُ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَسَاءَ السَّبْتِ رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ، فَصَلَّى بِهَا المَغْرِبَ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ قَدْ خَرَجْنَ يَتَلَقَّيْنَ النَّاسَ، فَلَقِيَتْهُمْ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فنعِي لَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهُا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ زَوْجَ المَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ"، وَفِي لَفْظٍ "إِنَّ لِلزَّوْج مِنَ المَرْأَةِ لَشُعْبَةً" (¬2). * قِصَّةُ الْمَرْأَةِ الدِّينَارِيَّةِ: وَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ، قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلَانٍ، هُوَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15492) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الدعاء والتكبير - باب دعاؤه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أُحد - رقم الحديث (1911) - (4364) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب عمل اليوم والليلة - رقم الحديث (10370) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (699). (¬2) أخرج ذلك ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في البكاء على الميت - رقم الحديث (1590) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب إن للزوج من المرأة لشعبة - رقم الحديث (6990) - وإسناده ضعيف.

* دخول الرسول -صلى الله عليه وسلم- المدينة

بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ، قَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأُشِيرَ لَهَا، حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ (¬1). * دُخُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، وَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ البُكَاءَ، وَالنُّوَاحَ فِي البُيُوتِ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ ". قَالُوا: هَذِهِ نِسَاءُ الأَنْصَارِ يَبْكِينَ قَتْلَاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: "لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ عَلَيْهِ". فَبَلَغَ ذَلِكَ نِسَاءَ الأَنْصَارِ، فَجِئْنَ يَبْكِينَ عَلَى حَمْزَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ، سَمِعَ نِسَاءَ الأَنْصَارِ يَبْكِينَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَالَ: "لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ"، فَبَلَغَ ذَلِكَ نِسَاءَ الأَنْصَارِ، فَجِئْنَ يَبْكِينَ عَلَى حَمْزَةَ، قَالَ: فَانتبَهَ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَسَمِعَهُنَّ وَهُنَّ يَبْكِينَ، فَقَالَ: "وَيْحَهُنَّ! لَمْ يَزَلْنَ يَبْكِينَ بَعْدُ مُنْذُ اللَّيْلةَ؟ مُرُوهُنَّ فَلْيَرْجِعْنَ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ اليَوْمِ" (¬2). ¬

_ (¬1) جَلَلٌ: أي هَيِّنٌ يسير. انظر النهاية (1/ 279). والخبر أخرجه ابن إسحاق في السيرة (3/ 110) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 302) - وإسناده حسن. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5563) - وابن ماجه في سننه - كتاب =

* نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النياحة

* نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ النِّيَاحَةِ: ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّيَاحَةِ (¬1)، وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا، وَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اثْنتانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ (¬2): الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى المَيِّتِ" (¬3). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُهُنَّ أَهْلُ الإِسْلَامِ: النِّيَاحَةُ، وَالِاْسِتْسَقاُء بِالأَنْوَاءِ (¬4)، وَالتَّعَايُرُ" (¬5). ¬

_ = الجنائز - باب ما جاء في البكاء على الميت - رقم الحديث (1591) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الجنائز - باب البكاء على الميت - رقم الحديث (1447). (¬1) النِّيَاحةُ: النسَاءُ يجتمعْنَ للحزن. انظر لسان العرب (14/ 320). (¬2) قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (2/ 50): فيه أقوال: أصحُّها: أن معناه هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية. (¬3) أخرج هذا الحديث الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة - رقم الحديث (67). (¬4) قال ابن الأثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في النهاية (5/ 107): الأنواء: هي ثمانٌ وعِشْرُون منزلة، ينزلُ القمر كل ليلة في منزلة منها، ومنه قوله تَعَالَى في سورة يس آية (39): {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}، وكانت العرب تزعُمُ أن مع سُقُوط المنزِلَةِ، وطُلوع رَقِيبها يكون مَطرًا، وينسُبُونه إليها، فيقولون: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا. وإنما غَلَّظ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أمْرِ الأنواء؛ لأن العرب كانت تَنْسُبُ المطر إليها، فأما مَنْ جعل المطر من فِغل اللَّه تَعَالَى، وأراد بقوله: مُطِرْنَا بنوء كذا، أي وقت كذا، وهو هذا النَّوْء الفلاني، فإن ذلك جائز: أي أن اللَّه قد أجْرَى العادة أن يأتِيَ المَطَرُ في هذه الأوقات. (¬5) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في النياحة ونحوها - رقم الحديث (3141) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7560) وإسناده صحيح.

* من أجاد القتال يوم أحد

* مَنْ أَجَادَ القِتَالَ يَوْمَ أُحُدٍ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِهِ، وَمَعَهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، أَعْطَى سَيْفَهُ فَاطِمَةَ لِتَغْسِلَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْطَى فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ سَيْفَهُ، فَقَالَ: "يَا بُنيَةُ اغْسِلِي عَنْ هَذَا الدَّمَ"، فَأَعْطَاهَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- سَيْفَهُ، وَقَالَ: وَهَذَا فَاغْسِلِي عَنْهُ دَمَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَنِي اليَوْمَ القِتَالَ. وَفِي لفظٍ: فَإِنَّهَا قَدْ شَفَتْنِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَئِنْ كُنْتَ أَجَدْتَ الضَّرْبَ بِسَيْفِكَ لَقَدْ أَجَادَهُ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَعَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ، وَالحَارِثُ بنُ الصِّمَّةِ" (¬1). * حِرَاسَةُ المَدِينَةِ: وَبَاتَ المُسْلِمُونَ فِي المَدِينَةِ لَيْلَةَ الأَحَدِ، بَعْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ يَحْرُسُونَ أَنْقَابَ المَدِينَةِ وَمَدَاخِلَهَا، وَقَدْ أَنْهَكَهُمُ (¬2) التَّعَبُ، وَبَاتَ الأَنْصَارُ عَلَى بَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمَسْجِدِ يَحْرُسُونَهُ خَوْفًا مِنْ هُجُومِ العَدُوِّ عَلَى المَدِينَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب ذكر شجاعة علي وسهل بن حنيف وسماك بن خرشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجمعين يوم أُحد - رقم الحديث (4365). (¬2) نَهَكَهُ: أجْهَدَهُ. انظر لسان العرب (14/ 308). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 274).

غزوة حمراء الأسد

غَزْوَةُ حَمْرَاءَ الأَسَدِ (¬1) كَانَتْ يَوْمَ الأَحَدِ بَعْدَ أُحُدٍ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ أُحُدًا كَانَتْ يَوْمَ السَّبْتِ، لِسِتَّ عَشَرَ لَيْلَةٍ مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ (¬2)، وَقِيلَ: لِثَمَانِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ (¬3). * سَبَبُهَا: وَكَانَ سَبَبُهَا مَا بَلَغَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ بِقُرَيْشٍ إِلَى المَدِينَةِ لِيَسْتَأْصِلُوا مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ المُشْرِكُونَ عَنْ أُحُدٍ، وَبَلَغُوا الرَّوْحَاءَ (¬4)، قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قتَلْتُمُوهُ، وَلَا الكَوَاعِبَ (¬5) أَرْدَفْتُمْ، وَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ، ¬

_ (¬1) حمراءُ الأسَدِ: هو موضع على ثمانية أميال من المدينة انتهى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه في طلب المشركين. انظر معجم البلدان (3/ 181). (¬2) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (3/ 133). (¬3) هذا ما ذكره ابن سعد في طبقاته (2/ 274). (¬4) الرَّوْحَاءُ: موضعٌ بينه وبين المدينة سِتّة وثلاثين ميلًا. انظر جامع الأصول (9/ 379). (¬5) الكَوَاعِبُ: جمع كَاعِبٍ، وهي الفتاة إذا نَهَدَ ثَدْيُهَا -أي إذا ارتَفَع عن الصَّدْرِ-، وصارَ له حجْمٌ. انظر لسان العرب (12/ 108) - النهاية (4/ 155). =

* استئذان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الخروج

ارْجِعُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فنَدَبَ (¬1) النَّاسَ، فَانتدَبُوا حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ (¬2). فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصُّبْحَ أَمَرَ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه- أَنْ يُنَادِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُكُمْ بِطَلَبِ العَدُوِّ، وَلَا يَخْرُجُ مِعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَ القِتَالَ بِالأَمْسِ. * اسْتِئْذَانُ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الخُرُوجِ: فكَلَّمَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَّ أَبِي كَانَ خَلَّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ أَوْ قَالَ تِسْعٍ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ! إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَكَ أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنَّ، وَلَسْتُ بِالذِي أُؤْثِرُكَ بِالجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى نَفْسِي، فتَخَلَّفْ عَلَى أَخَوَاتِكَ، فتَخَلَّفْتُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ تتوَجَّهَ وَجْهًا إِلَّا كُنْتُ مَعَكَ، فَأْذَنْ لِي أَخْرُجْ مَعَكَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ أَحَدٌ لَمْ يَشْهَدِ القِتَالَ يَوْمَ أُحُدٍ غَيْرَهُ. وَاسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ وَرَدَّهُ (¬3). ¬

_ = ومنه قوله تعالى في سورة النبأ آية (33): {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}. (¬1) يُقالُ: ندبتُهُ فانتَدَبَ: أي بعثتُهُ ودعَوْتُهُ فأجاب. انظر النهاية (5/ 29). (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} - رقم الحديث (11017) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح (9/ 96). (¬3) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 274) - سيرة ابن هشام (3/ 112).

* خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد

* خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى حَمْرَاءَ الأَسَدِ: حَمَلَ لِوَاءَ المُسْلِمِينَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ مَجْرُوحٌ فِي وَجْهِهِ، وَمَشْجُوجٌ فِي جَبْهَتِهِ، وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُوَ مُتَوَهِّنٌ (¬1) مَنْكِبُهُ الأَيْمَنُ مِنْ ضَرْبَةِ ابْنِ قَمِئَةَ، وَرُكْبَتَاهُ مَجْحُوشَتَانِ (¬2)، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ القِتَالَ بِأُحُدٍ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الجِرَاحِ وَالقَرْحِ (¬3). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬4): {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬5). قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبُوكَ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ، وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ المُشْرِكُونَ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا. قَالَ: "مَنْ يَذْهَبُ فِي أَثَرِهِمْ"، فَانتدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ (¬6) رَجُلًا قَالَ: كَانَ ¬

_ (¬1) الوَهَنُ: الضَّعْفُ. انظر النهاية (5/ 203). (¬2) جُحِشَ: أي خُدِشَ. انظر النهاية (1/ 233). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 274). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 124): في الكلام حذف تقديره: عن عائشة أنها قرأت هذه الآية {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا}، أو أنها سئلت عن هذه الآية أو نحو ذلك. (¬5) سورة آل عمران آية (172). (¬6) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في البداية والنهاية (4/ 428): هذا السياق غريبٌ =

فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬1). وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَلِيلُهُ فِي السَّيْرِ ثَابِتُ بنُ الضَّحَّاكِ الخَزْرَجِيُّ، حَتَّى عَسْكَرَ بِحَمْرَاءَ الأَسَدِ، وَأَقَامَ المُسْلِمُونَ بِذَلِكَ المَكَانِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَانُوا يُوقِدُونَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي النِّيرَانَ حَتَّى كَانَتْ تُرَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحَمْرَاءَ الأَسَدِ مَعْبَدَ بنَ أَبِي مَعْبَدٍ الخُزَاعِيَّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ هَوَاهُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانُوا لَا يُخْفُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْئًا كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزّ (¬2) عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَقِيَ أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ ¬

_ = جدًا، فإن المشهُورُ عند أصحابِ المغَازِي، أن الذين خَرَجوا مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى حمرَاء الأسد كل من شَهِدَ أُحدًا، وكانوا سَبعمائة -كما تقدم- قُتِل منهم سبعون وبقي الباقون. وقال الشَّامِيُّ في سبُل الهدى والرشاد (4/ 314): ولا تخالف بينَ قولِ عائِشَةَ وما ذكره أصحاب المغازي؛ لأنه يمكن أن يكون السبعونَ سبقُوا غيرهم، ثم تلاحقَ الباقونَ، ولم يُنبّه على ذلك الحافظ في الفتح. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب الذين استجابوا للَّه والرسول - رقم الحديث (4077) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب من فضائل طلحة والزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رقم الحديث (2418). (¬2) عَزَّ: أي عَظُمَ واشتَدَّ. انظر لسان العرب (9/ 186).

* رجوع أبي سفيان بجيشه إلى مكة

قَالَ: مُحَمَّدٌ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ (¬1) عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، فِيهِمْ مِنَ الحَنَقِ (¬2) عَلَيْكُمْ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْحَكَ مَا تَقُولُ؟ . قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى ترَى نَوَاصِيَ الخَيْلِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ، قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ. * رُجُوعُ أَبِي سُفْيَانَ بِجَيْشِهِ إِلَى مَكَّةَ: فَخَافَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ فَأَسْرَعُوا إِلَى مَكَّةَ، وَعِنْدَ انْصِرَافِهِمْ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ المَدِينَةَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ المِيرَةَ (¬3)، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ، وَأُحَمِّلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ غَدًا زَبِيبًا (¬4) بِعُكَاظَ (¬5)، إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُو: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ، فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ. ¬

_ (¬1) يتحرَّقُون: أي يتلهَّبُون. انظر لسان العرب (3/ 132). (¬2) الحَنَقُ: الغَيْظُ. انظر النهاية (1/ 434). (¬3) المِيرَةُ: الطعَامُ ونحَوه، مما يُجْلَبُ للبيع. انظر النهاية (4/ 323). (¬4) الزَّبِيبُ: هو العِنَبُ المُجَفَّف. انظر لسان العرب (6/ 8). (¬5) عُكَاظ: موضعٌ بقربِ مكةَ، كانت تُقامُ به في الجاهلية سوق يقيمون فيه أيامًا. انظر النهاية (3/ 257).

فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ بِحَمْرَاءَ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالذِي قَالَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ". وَفِي هَذَا المَوْقِفِ نَزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَيعْمَ الوَكِيلُ قَالَهَا: إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬2). وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحَمْرَاءَ الأَسَدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِي يَوْمِ الأَرْبِعَاءَ عَادَ إِلَى المَدِينَةِ، وَقَدِ اسْتَرَدَّ المُسْلِمُونَ الكَثِيرَ مِنْ هَيْبَتِهِمْ، بَعْدَ أَنْ كَادَتْ تَتَزَعْزَعُ بِسَبَبِ غَزْوَةِ أُحُدٍ (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (172 - 173). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب الذين قال لهم الناس - رقم الحديث (4563). (¬3) انظر تفاصيل غزوة حمراء الأسد في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 274) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 312 - 318) - سبل الهدى والرشاد (4/ 308) - البداية والنهاية =

* مقتل أبي عزة الجمحي

* مَقْتَلُ أَبِي عَزَّةَ الجُمَحِيِّ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى المَدِينَةِ أَبَا عَزَّةَ الجُمَحِيَّ (¬1)، وَهُوَ الذِي كَانَ قَدْ مَنَّ (¬2) عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، لِفَقْرِهِ وَكَثْرَةِ بَنَاتِهِ، وَعَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ وَلَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا، فنَقَضَ العَهْدَ، وَخَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ، وَصَارَ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ وَيُحَرِّضُهُمْ بِأَشْعَارِهِ عَلَى قِتالِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أُسِرَ جِيءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي (¬3)، وَامْنُنْ عَلَيَّ، فَإِنَّ لِي بَنَاتٍ، وَأُعْطِيكَ عَهْدًا أَنْ لَا أَعُودَ لِمِثْلِ مَا فَعَلْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ، لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ (¬4) بِمَكَّةَ بَعْدَهَا، وَتَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ". وَفِي لَفْظٍ: "سَخِرْتُ بِمُحَمَّدٍ مَرَّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ". وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ" (¬5)، ¬

_ = (4/ 426) - سيرة ابن هشام (3/ 133). (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في البداية والنهاية (4/ 430): ولم يُؤْسَر من المشركين سِوى أبي عَزَّة الجمحي كما ذكره الشافعي وغيره، وقتله رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَبْرًا بين يديهِ أمَرَ الزبير، ويقال: عاصم بن ثابت، فضرب عنقه. كل من قُتل في غير معركةٍ ولا حرب ولا خطأ فإنه مقتُولٌ صَبْرًا. انظر النهاية (3/ 8). (¬2) مَنَّ عليه: أحسنَ وأنعَمَ. انظر لسان العرب (13/ 197). (¬3) أقالَهُ: صفَحَ عنه وتجَاوَزَ. انظر لسان العرب (11/ 289). (¬4) عارِضَا الإنسان: صَفْحَتَا خدَّيْه. انظر النهاية (3/ 192). (¬5) أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه - كتاب الأدب - باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين - رقم الحديث (6133) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين- رقم الحديث (2998) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5964).

* ما نزل من القرآن يوم أحد

فَضُرِبَ عُنُقَهُ (¬1). * مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ يَوْمَ أُحُدٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ سِتِّينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فِيهَا تَفْصِيلٌ لِأَحْدَاثِ هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ، وَقَدِ اتَّجَهَتِ الآيَاتُ إِلَى مَزْجِ العِتَابِ الرَّقِيقِ بِالدَّرْسِ النَّافِعِ وَتَطْهِيرِ المُؤْمِنِينَ، حَتَّى لَا يَتَحَوَّلَ انْكِسَارُهُمْ فِي المَيْدَانِ إِلَى قُنُوطٍ يَفُلُّ قُوَاهُمْ، وَحَسْرَةً تَشُلُّ إِنْتَاجَهُمْ، وتَبْدَأُ الآيَاتُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). فَمِنَ الآيَاتِ التِي نَزَلَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬3). {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬4). {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل أسر أبي عزة الجمحي في: فتح الباري (12/ 163) - سيرة ابن هشام (3/ 116) - البداية والنهاية (4/ 423). (¬2) سورة آل عمران آية (121). (¬3) سورة آل عمران آية (137). (¬4) سورة آل عمران آية (139).

بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1). {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (¬2). {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬3). {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (¬4). {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬5). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (¬6). إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الآيَاتِ التِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (140). (¬2) سورة آل عمران آية (141). (¬3) سورة آل عمران آية (142). (¬4) سورة آل عمران آية (143). (¬5) سورة آل عمران آية (144). (¬6) سورة آل عمران آية (149).

* بعض ما اشتملت عليه غزوة أحد من الأحكام والفقه

* بَعْضُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ غَزْوَةُ أُحُدٍ مِنَ الأَحْكَامِ وَالفِقْهِ: ذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ القَيِّمِ "زَادِ المَعَادِ"، بَعْضَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الغَزْوَةُ العَظِيمَةُ مِنَ الأَحْكَامِ وَالفِقْهِ فَمِنْهَا: 1 - أَنَّ الجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَبِسَ لَأَمَتَهُ وَشَرَعَ فِي أَسْبَابِهِ، وَتَأَهَّبَ لِلْخُرُوجِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجعَ عَنِ الخُرُوجِ حَتَّى يُقَاتِلَ عَدُوَّهُ. 2 - وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ إِذَا طَرَقَهُمْ عَدُوُّهُمْ فِي دِيَارِهِمُ الخُرُوجَ إِلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا دِيَارَهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ فِيهَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْصَرَ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، كَمَا أَشَارَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ. 3 - وَمِنْهَا جَوَازُ سُلُوكِ الإِمَامِ بِالعَسْكَرِ فِي بَعْضِ أَمْلَاكِ رَعِيَّتِهِ إِذَا صَادَفَ ذَلِكَ طَرِيقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ المَالِكُ. 4 - وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَأْذَنُ لِمَنْ لَا يُطِيقُ القِتَالَ مِنَ الصِّبْيَانِ غَيْرِ البَالِغِينَ، بَلْ يَرُدُّهُمْ إِذَا خَرَجُوا، كَمَا رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنَ عَمْرَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصِّبْيَانِ. 5 - وَمِنْهَا جَوَازُ الغَزْوِ بِالنِّسَاءَ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِنَّ فِي الجِهَادِ. 6 - وَمِنْهَا جَوَازُ الِانْغِمَاسِ فِي العَدُوِّ، كَمَا انْغَمَسَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ -رضي اللَّه عنه- وَغَيْرُهُ. 7 - وَمِنْهَا جَوَازُ دُعَاءَ الرَّجُلِ أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتَمَنِّيهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَمَنِّي المَوْتِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-.

8 - وَمِنْهَا أَنَّ المُسْلِمَ إِذَا قتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لِقَوْلهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُزْمَانَ الذِي أَبْلَى يَوْمَ أُحُدٍ بَلَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا اشْتَدَّتْ بِهِ الجِرَاحُ، نَحَرَ نَفْسَهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ". 9 - وَمِنْهَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الشَّهِيدِ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ (¬1)، وَلَا يُكَفَّنُ فِي غَيْرِ ثِيَابِهِ، بَلْ يُدْفَنُ فِيهَا بِدَمِهِ وَكُلُومِهِ (¬2)، إِلَّا أَنْ يُسْلَبَهَا، فَيَكَفَّنُ فِي غَيْرِهَا. 10 - وَمِنْهَا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الشُّهَدَاءِ أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَصَارِعِهِمْ، وَلَا يُنْقَلُوا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، فَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الصَّحَابَةِ نَقَلُوا قَتْلَاهُمْ إِلَى المَدِينَةِ، فنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَمْرِ بَرَدِّ القَتْلَى إِلَى مَصَارِعِهِمْ. 11 - وَمِنْهَا جَوَازُ دَفْنِ الرَّجُلَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ فِي القَبْرِ الوَاحِدِ، عِنْدَ الحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ. 12 - وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ عَذَرَهُ اللَّهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الجِهَادِ لِمَرَضٍ أَوْ عَرَجٍ، يَجُوزُ لَهُ الخُرُوجُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، كَمَا خَرَجَ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ أَعْرَجٌ. 13 - وَمِنْهَا أَنَّ المُسْلِمِينَ إِذَا قتَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ فِي الجِهَادِ يَظُنُّونَهُ كَافِرًا، ¬

_ (¬1) انظر فيما تقدم عند الكلام على هل صلَّى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على الشهداء أم لا؟ (¬2) الكَلْمُ: هو الجُرْحُ. انظر النهاية (4/ 173).

* ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد

فَعَلَى الإِمَامِ دِيَتُهُ مِنْ بَيْتِ المَالِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرَادَ أَنْ يَدِيَ اليَمَانَ أَبَا حُذَيْفَةَ، فَامْتَنَعَ حُذَيْفَةُ مِنْ أَخْذِ الدِّيَةِ، وَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى المُسْلِمِينَ (¬1). * ذِكْرُ بَعْضِ الحِكَمِ وَالغَايَاتِ المَحْمُودَةِ التِي كَانَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: لَقَدْ بَسَطَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الفَذِّ "زَادِ المَعَادِ" الدُّرُوسَ وَالعِبَرَ التِي كَانَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: 1 - فَمِنْهَا تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَافِتةِ المَعْصِيَةِ، وَالفَشَلِ، وَالتَّنَازُعِ، وَأَنَّ الذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). فَلَمَّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتَهِمْ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَتَنَازُعِهِمْ، وَفَشَلِهِمْ، كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدَّ حَذَرًا وَيَقْظَةً، وَتَحَرُّزًا مِنْ أَسْبَابِ الخُذْلَانِ. 2 - وَمِنْهَا أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ وَسُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ، جَرَتْ بِأَنْ يُدَالُوا مَرَّةً، وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ، فَإِنَّهُمْ لَوِ انتصَرُوا دَائِمًا، دَخَلَ مَعَهُمُ المُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْتُصِرَ عَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 189 - 196). (¬2) سورة آل عمران آية (152).

دَائِمًا، لَمْ يَحْصُلِ المَقْصُودُ مِنَ البِعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيّز مَنْ يتْبَعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقِّ، وَمَا جَاؤُوا بِهِ مِمَّنْ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالغَلَبَةِ خَاصَّةً. 3 - وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ هِرَقْل لِأَبِي سُفْيَانَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ الحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ ، قَالَ: سِجَالٌ, يدَالُ عَلَيْنَا المَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُخْرَى. قَالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقبَةُ (¬1). 4 - وَمِنْهَا أَنْ يتَمَيَّزَ المُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنَ المُنَافِقِ الكَاذِبِ، فَإِنَّ المُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ (¬2)، دَخَلَ مَعَهُمْ في الإِسْلَامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ المُؤْمِنِ وَالمُنَافِقِ، فَأَطْلَعَ المُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ في هَذِهِ الغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَّاتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا، وَانْقَسَمَ النَّاسُ إلى كَافِرٍ، وَمُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ، انْقِسَامًا ظَاهِرًا، وَعَرَفَ المُؤْمِنُونَ أَنَّ لَهُمْ عَدُوًّا في نَفْسِ دُورِهِمْ، وَهُمْ مَعَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهُمْ، فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب (6) - رقم الحديث (7) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل - رقم الحديث (1773). (¬2) الصِّيتُ: الذِّكرُ والشُّهرَةُ والعِرْفَان. انظر النهاية (3/ 59).

5 - وَمِنْهَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ في كُلِّ مَوْطِنٍ، وَجَعَلَ لَهُمُ التَّمْكِينَ وَالقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا؛ لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ (¬1) وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ، لَكَانُوا في الحَالِ التِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمُ الرِّزْقَ، فَلَا يُصْلحُ عِبَادَهُ إِلَّا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالشِّدَّةُ وَالرَّخَاءُ، وَالقَبْضُ وَالبَسْطُ، فَهُوَ المُدَبِّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إِنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. 6 - وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا امْتَحَنَهُمْ بِالغَلَبَةِ، وَالكَسْرَةِ، وَالهَزِيمَةِ، ذَلُّوا وَانْكَسَرُوا، وَخَضَعُوا، فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ العِزَّ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خِلْعَةَ النَّصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (¬2)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} (¬3). فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ، وَيَجْبُرَهُ، وَيَنْصُرَهُ، كَسَرَهُ أَوَّلًا، وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ، ونَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ. 7 - وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَيَّأَ لِعِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ في دَارِ كَرَامَتِهِ، لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يَكُوُنوا بَالِغِيهَا إِلَّا بِالبَلَاءِ وَالمِحْنَةِ، فَيُقَيِّضُ (¬4) لَهُمُ ¬

_ (¬1) الشَّامخُ: العالي، وشمَخَ بأنفِهِ: أي ارتفع وتكبّر. انظر النهاية (2/ 447). (¬2) سورة آل عمران آية (123). (¬3) سورة التوبة آية (25). (¬4) قيَّضَ: أي سبَّب وقَدَّر. انظر النهاية (4/ 115).

الأَسْبَابَ التِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا مِنِ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولهِمْ إِلَيْهَا. 8 - وَمِنْهَا أَنَّ النُّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنَ العَافِيَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّصْرِ وَالغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إلى العَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا في سَيْرِهَا إلى اللَّهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبّها وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ، قَيَّضَ لَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ المَرَضِ العَائِقِ عَنِ السَّيْرِ الحَثِيثِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ البَلَاءُ وَالمِحْنَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي العَلِيلَ الدَّوَاءَ الكَرِيهَ، وَيَقْطَعُ مِنْهُ العُرُوقَ المُؤْلمَةَ لِاسْتِخْرَاجِ الأَدْوَاءِ (¬1) مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الأَدْوَاءُ، حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ. 9 - وَمِنْهَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَوْليَائِهِ، وَالشُّهَدَاءُ هُمْ خَوَاصُّهُ وَالمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ إِلَّا الشَّهَادَةُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ، تُرَاقُ دِمَاؤُهُمْ في مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَيُؤْثرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابّه عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ إلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَّا بِتَقْدِيرِ الأَسْبَابِ المُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ العَدُوِّ. 10 - وَمِنْهَا أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ ويَمْحَقَهُمْ، قَيَّضَ لَهُمُ الأَسْبَابَ التِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلَاكَهُمْ وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ ¬

_ (¬1) الأدواء: الأمراض. انظر لسان العرب (4/ 454).

بَغْيُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ، ومُبَالَغَتُهُمْ في أَذَى أَوْليَائِهِ، وَمُحَارَبَتِهِمْ، وَقِتَالِهِمْ، والتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْليَاؤُهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ، ويَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (¬1). فَجَمَعَ لَهُمْ في هَذَا الخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ. 11 - وَمِنْهَا أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَثَبَّتَهُمْ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ أَنْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَوْ قُتِلَ، بَلِ الوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دينِهِ وتَوْحِيدِهِ، ويَمُوتُوا عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَلُوا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْ قُتِلَ، لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ، فكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ، وَمَا بُعِثَ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيُخَلَّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الإِسْلَامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ المَوْتَ لابُدَّ مِنْهُ، سَوَاءً مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْ بَقِيَ (¬2). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (139). (¬2) انظر كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (3/ 196 - 201).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون [3]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للمؤلف فهرسة مكتبة الكويت الوطنية أثْنَاء النشر 239 العازمي، مُوسَى بن رَاشد. اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون: دراسة مُحَققَة للسيرة النَّبَوِيَّة (الْجُزْء الثالث) تأليف مُوسَى بن رَاشد العازمي - ط 1 - الكويت: مُوسَى بن رَاشد العازمي، 2011 ج 3 (646 ص)؛ 24 سم. ردمك: 0 - 03 - 44 - 99966 - 978 1. السِّيرَة النَّبَوِيَّة ... أ. العنوان ردمك: 0 - 03 - 44 - 99966 - 978 رقم الْإِيدَاع: 242/ 2011 الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م تمّ طباعة الْكتاب على نَفَقَة عبد اللَّه الْعلي المطوع - رَحمَه اللَّه - الناشر المكتبة العامرية إعلان وطباعة وَنشر وتوزيع الكويت - حَولي - شَارِع الْمثنى - مجمع البدري - مَحل رقم 13 تلِي فاكس: 0096522623880 - جوال: 0096599862197 الْبَرِيد الإلكتروني: [email protected] manaar [email protected] موقع المكتبة: www.sites.google.com/site/amriabookstore

دولة الكويت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية السيد الفاضل/ مدير إدارة الثقافة الإسلامية المحترم السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته,, وبعد بالإشارة إلى الكتاب رقم (315) بشأن مراجعة: مادة بحث عدد (1) الوارد بتاريخ: 3/ 3/ 2011 بعنوان: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون ج 3 إعداد: موسى بن راشد العازمي نشر: بعد الإطلاع على النسخة المذكورة أعلاه ومراجعتها نحيطكم علمًا بأنه لم تتبين لنا ملاحظات تذكر. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام,, رئيس لجنة الكتب والمصنفات الفنية الأصل بتوقيع خليف مثيب الأذينة الوكيل المساعد للشئون الثقافية

الأحداث بين غزوة أحد وغزوة الخندق

الأَحْدَاثُ بَيْنَ غَزْوَةِ أُحُدٍ وَغَزْوَةِ الخَنْدَقِ كَانَ لِغَزْوَةِ أُحُدٍ أَثَرٌ سَيِّئٌ عَلَى سُمْعَةِ المُسْلِمِينَ، فَقَدْ زَالَتْ هَيْبَتُهُمْ عَنِ النُّفُوسِ، وَطَمِعَتْ بِهِمُ القَبَائِلُ، وَكَاشَفَهُمُ (¬1) اليَهُودُ وَالمُنَافِقُونَ بِمَا كَانُوا يُضْمِرُونَهُ (¬2) مِنَ العَدَاوَةِ والبُغْضِ، فَلَمْ يَمْضِ عَلَى هَذِهِ الغَزْوَةِ شَهْرَانِ حَتَّى تَهَيَّأَت قَبَائِلُ بَنِي أَسَدٍ لِلْإِغَارَةِ (¬3) عَلَى المَدِينَةِ، ثُمَّ أَخَذَ خَالِدُ بنُ سُفْيَانَ الهُذَلِيُّ يَجْمَعُ الرِّجَالَ لِنَفْسِ الغَرَضِ، ثُمَّ قَامَتْ قَبَائِلُ عَضْلٍ وَالقَارَّةُ بِمَكِيدَةٍ تَسَبَّبَتْ في قتلِ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَامَ عَامِرُ بنُ الطُّفيْلِ في نَفْسِ الوَقْتِ بِمَكِيدَةٍ مِثْلِهَا تَسَبَّبَتْ في قتلِ سَبْعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ نَقَضَ بَنُو النَّضِيرِ العَهْدَ وهَمُّوا بِقَتْلِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَافِلًا عَنْ هَذِهِ التَّحَرّكَاتِ والمَطَامِعِ، بَلْ كَانَ يُوَاجِهُهَا بِحِكْمَتِهِ حَتَّى اسْتَطَاعَ أَنْ يُعِيدَ لِلْمُسْلِمِينَ هَيْبَتَهُمْ وَمَكَانتهُمْ. وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الأَحْدَاثِ: ¬

_ (¬1) كاشَفَهُ بالعداوَةِ: بادَأَهُ بها. انظر لسان العرب (12/ 102). (¬2) أضمَرْتُ الشيءَ: أخفَيْتُهُ. انظر لسان العرب (8/ 85). (¬3) يُقالُ: أغَارَ يُغِيرُ: إذا شَدَّ في العدو. انظر النهاية (3/ 253).

سرية أبي سلمة -رضي الله عنه- إلى بني أسد

سَرِيَّةُ أَبِي سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي أَسَدٍ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ طُلَيْحَةَ وَسَلَمَةَ ابْنَيْ خُوَيْلِدٍ قَدْ سَارَا في قَوْمِهِمَا بَنِي أَسَدٍ، وَمَنْ أَطَاعَهُمَا إلى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا بَلَغَ الخَبَرُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعَا أبَا سَلَمَةَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ الأَسَدِ المَخْزُومِيِّ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ قَدْ جُرِحَ بِأُحُدٍ في عَضُدِهِ (¬1)، فَمَكَثَ شَهْرًا يُدَاوِيهِ حَتَّى رَأَى أَنْ قَدْ بَرِئَ -وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اخْرُجْ في هَذِهِ السَّرِيَّةِ، فَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَيْهَا"، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ، وَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سِرْ حَتَّى تَرِدَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ، فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ تَلَاقى عَلَيْكَ جُمُوعُهُمْ". وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا. خَرَجَ أَبُو سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- في أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ في أَوَّلِ مُحَرَّمٍ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، حَتَّى انْتَهَى إلى مَاءٍ لَهُمْ بِجَبَلٍ يُسَمَّى قَطَنٌ، فَأَغَارَ عَلَى سَرْحٍ (¬2) لَهُمْ، فَأَخَذَهُ، وَأَخَذَ رِعَاءً لَهُمْ مَمَالِيكَ ثَلَاثَةً، وَأَفْلَتَ سَائِرُهُمْ، فَجَاؤُوا جَمْعَهُمْ ¬

_ (¬1) العَضُد: ما بين الكَتِف والمِرْفق. انظر النهاية (3/ 228). (¬2) السَّرح: الماشِيَة. انظر النهاية (2/ 328).

* وفاة أبي سلمة -رضي الله عنه-

فَأَخْبَرُوهُمُ الخَبَرَ، وَحَذَّرُوهُمْ، فتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ في كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمَّا وَرَدَ (¬1) أَبُو سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- مَاءَهُمْ وَجَدَ جَمْعَهُمْ قَدْ تَفَرَّقَ، فَعَسْكَرَ وَفرَقَ أَصْحَابَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَامَتْ مَعَهُ، وَفِرْقَتَانِ أَغَارَتَا في نَاحِيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَرَجَعَتَا إِلَيْهِ سَالِمَتَيْنِ، وَقَدْ أَصَابَتَا نَعَمًا كَثِيرَة، ثُمَّ عَادُوا إِلَى المَدِينَةِ ظَافِرِينَ غَانِمِينَ. * وَفَاةُ أَبِي سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- المَدِينَةَ انْتَفَضَ بِهِ جُرْحُهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى مَاتَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ، أَوْ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْهُ (¬2). رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ (¬3) بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ البَصَرُ"، فَضَجَّ (¬4) نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَدْعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ المَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُوُلونَ"، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ¬

_ (¬1) وَرَدَ: حَضَرَ. انظر لسان العرب (15/ 268). ومنه قوله تعالى في سورة القصص آية (23): {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ. . .}. (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 274) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 319) - البداية والنهاية (4/ 442) - زاد المعاد (3/ 218). (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (6/ 198): شَقَّ بصرُهُ: أي ارتفع. (¬4) الضَّجِيجُ: الصِّيَاح عند المَكْرُوهِ والمشقَّة والجَزَع. انظر النهاية (3/ 69).

لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ (¬1)، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ في قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ" (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: غَرِيبٌ وَفِي أَرْضِ غُرْبَةٍ (¬3)، لَأَبْكِيَنَّهُ بُكَاءً يُتَحَدَّثُ عَنْهُ، فكُنْتُ قَدْ تَهَيَّاْتُ لِلْبُكَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ أَقْبْلَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ (¬4) تُرِيدُ أَنْ تُسْعِدَنِي (¬5)، فَاسْتَقْبَلَهَا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَال: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تُدْخِلِي الشَّيْطَانَ بَيْتًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْهُ؟ " مَرَّتَيْنِ، فكَفَفْتُ (¬6) عَنِ البُكَاءِ، فَلَمْ أَبْكِ (¬7). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُول: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَة، فَيَقُولُ: إنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ! أجُرْنِي في مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أخْلَفَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) الغَابِرِين: أي البَاقِين، ومنه قوله تَعَالَى في سورة الأعراف آية (83): {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. انظر النهاية (3/ 350). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في إغماض الميت والدعاء له - رقم الحديث (920) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26543). (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (6/ 199): معناه أنَّه من أهل مكة، وماتَ بالمَدِينة. (¬4) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (6/ 199): المراد بالصَّعِيد هنا عَوَالِي المدينة، وأصلُ الصَّعِيد ما كان على وَجْهِ الأرض. (¬5) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (6/ 199): تسعدني: أي تساعدني في البكاء والنياحة. (¬6) كفَفْتُ عن الشيءِ: إذا توقَّفْتُ عنه. انظر لسان العرب (12/ 125). (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب البكاء على الميت - رقم الحديث (922).

لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"، قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب ما يُقال عند المصيبة - رقم الحديث (918) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26635) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5754).

سرية عبد الله بن أنيس -رضي الله عنه- لقتل خالد بن سفيان الهذلي

سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُنَيْسٍ -رضي اللَّه عنه- لِقَتْلِ خَالِدٍ بنِ سُفْيَانَ الهُذَلِيِّ وَفِي الخَامِسِ مِنْ مُحَرَّمٍ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ أُنَيْسًا -رضي اللَّه عنه- لِقَتْلِ خَالِدٍ بنِ سُفْيَانَ الهُذَلِيِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُنَيْسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بنَ سُفْيَانَ بنَ نُبَيْحٍ الهُذَلِيَّ، يَجْمَعُ لِيَ النَّاسَ لِيَغْزُونِي وَهُوَ بِعُرَنَه (¬1)، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْعَتْهُ (¬2) لِي حَتَّى أَعْرِفَهُ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا رَأَيْتَهُ وَجَدْتَ لَهُ إِقْشَعْرِيرَةً" (¬3). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا رَأَيْتَهُ هِبْتَهُ وَفَرَقْتَ (¬4) مِنْهُ، وَذَكرْتَ الشَّيْطَانَ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُنَيْسٍ -رضي اللَّه عنه-: فَخَرَجْتُ مُتَوَشِّحًا بِسَيْفِي (¬5) حَتَّى وَقَعْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِعُرَنَه مَعَ ظُعُنٍ (¬6) يَرْتَادُ (¬7) لَهُنَّ مَنْزِلًا، حِينَ كَانَ وَقْتُ العَصْرِ، فَلَمَّا ¬

_ (¬1) عُرَنة: موضعٌ عندَ الموقِفِ بعَرَفَات. انظر النهاية (3/ 202). (¬2) النَّعْتُ: هو وصفُ الشَّيْءِ. انظر النهاية (5/ 68). (¬3) القَشْعَرِيرَةُ: الرِّعْدَة. انظر لسان العرب (11/ 174). (¬4) الفَرَق بالتحريك: الخَوْفُ والفَزَع. انظر النهاية (3/ 392). (¬5) تَوَشَّحَ السيف: أي لَبِسه. انظر لسان العرب (15/ 306). (¬6) الظُعُن: النساء، واحدتها ظَعِيَنة. انظر النهاية (3/ 143). (¬7) يَرْتَادُ: أي يطلب. انظر لسان العرب (5/ 356).

رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ مَا وَصَفَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الإِقْشَعْرِيرَةِ، فَأَقْبَلْتُ نَحْوَهُ وَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُحَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَصَلَّيْتُ وَأَنَا أَمْشِي نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِيَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَلَمَّا انْتهَيْتُ إِلَيْهِ، قَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ ، قُلْتُ رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ سَمِعَ بِكَ وبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَكَ لِهَذَا، قَالَ: أَجَلْ أَنَا في ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُنيْسٍ -رضي اللَّه عنه-: فَمَشَيْتُ مَعَهُ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا أمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ حَتَّى قتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ، وَترَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُكِبَّاتٍ (¬1) عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَآنِي، قَالَ: "أفْلَحَ الوَجْهُ"، قُلْتُ: قتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "صَدَقْتَ"، قَالَ: ثُمَّ قَامَ مَعِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلَ بِي بَيْتَهُ، فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: "أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُنَيْسٍ"، قَالَ: فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ العَصَا؟ . قُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا. قَالُوا: أَوَلَا تَرْجعُ إلى رَسُولِ اللَّهِ فتَسْأَلهُ عَنْ ذَلِكَ؟ . قَالَ: فَرَجَعْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ أَعْطَيْتَنِي هَذِهِ العَصَا؟ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آيَةٌ (¬2) بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ ¬

_ (¬1) أَكَبَّ على الشيء: أقبَلَ عليهِ ولَزِمَه. انظر لسان العرب (12/ 8). (¬2) الآية: العَلَامة. انظر النهاية (1/ 88).

المُتَخَصِّرُونَ (¬1) يَوْمَئِذٍ". فَقَرَنَهَا (¬2) عَبْدُ اللَّهِ بِسَيْفِهِ، فَلَمْ تَزلْ مَعَهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ أُمِرَ بِهَا فَضمَّتْ مَعَهُ في كَفَنِهِ، ثُمَّ دُفِنَا جَمِيعًا (¬3) * * * ¬

_ (¬1) المِخْصَرَة: ما يختَصِرُه الإنسان بيده فيمسِكُهُ من عصا، أو عُكَّازة، وقد يتَّكِئُ عليه. انظر النهاية (2/ 35). (¬2) قَرَنْتُ بين الشَّيْئَيْنِ: جمعتُهُمَا في حبلٍ وَاحد. انظر لسان العرب (11/ 139). (¬3) أخرج قصة قتل خالد بن سفيان الهذلي على يَدِ عبد اللَّه بن أُنَيْس -رضي اللَّه عنه-: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16047) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر عبد اللَّه بن أنيس -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7160) - وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب صلاة الطالب - رقم الحديث (1249) - وابن سعد في طبقاته (2/ 275) - وإسنادها حسن كما قال الحافظ في الفتح (8/ 133).

سرية الرجيع

سَرِيَّةُ الرَّجِيعِ (¬1) وَكَانَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ في صَفَرَ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَ (¬2) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشَرَةَ (¬3) رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ (¬4) -جَدَّ ¬

_ (¬1) الرَّجيع: هو ماءٌ لِقَبيلة هُذَيل. انظر النهاية (2/ 186). (¬2) ذكر ابن إسحاق في السيرة (3/ 188) سبب هذا البعث فقال: قَدِمَ على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد أُحد رَهْطٌ من عَضَل والقَارة -وهما قبيلتان من الهون بن خزيمة بن مدركة- فقالوا: يَا رَسُول اللَّهِ! إن فِينَا إسلامًا، فأبعث معنا نَفرًا من أصحابك يُفَقِّهوننا في الدين، ويُقرِئُوننا القرآن، ويعلِّمُوننا شرائع الإِسلام، فبعث رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- معهم نَفَرًا ستة من أصحابه. (¬3) في رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 188): أنَّهم كانوا سِتَّةً، وسماهم، وهم: عَاصِم بن ثابت، ومِرْثَد بن أبي مِرْثَد، وخُبَيْبُ بن عَدِي، وزيدُ بن الدَّثِنَّة -بفتح الدال وكسر الثاء-، وعبد اللَّه بن طَارِق، وخالد بن البُكَيْر. وجزم ابن سعد في طبقاته (2/ 277): بأنهم كانوا عشرة، وساقَ أسماءَ الستة المذكورين، وزاد: مُعتِّب بن عبيد، وهو أخو عبد اللَّه بن طارق لأمه. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 133): فلعل الثلاثة الآخرين كانوا أتباعًا لهم، فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. (¬4) في رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 188)، وابن سعد في طبقاته (2/ 277): أن الأمير عليهم كان مِرْثد بن أبي مِرْثد. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 133): وما في الصحيح أصح.

عَاصِمِ بنِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- فَانْطَلَقُوا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَة (¬1) -وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ، يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ، فنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائتَيْ رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا (¬2) آثَارَهُمْ حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ تَمْرًا تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِم وَأَصْحَاُبهُ لَجَؤُوا إلى فَدْفَدٍ (¬3)، وَأَحَاطَ بِهِمُ القَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُونَا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ، وَلَا نَقْتُلُ مِنْكُمْ أَحَدًا (¬4)، فَقَالَ عَاصِمُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- أَمِيرُ السَّرِيَّةِ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِلُ اليَوْمَ في ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ (¬5)، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا في سَبْعَةٍ (¬6). ¬

_ (¬1) في رواية الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2720) - وابن سعد في طبقاته (2/ 277): الهَدَّةُ -بتشديد الدال بغير ألف-. (¬2) قَصُّ الأثَرِ: أي تَتَبُّعُهُ. انظر النهاية (4/ 64). (¬3) الفَدْفَد: الموضعُ المُرْتَفِعُ. انظر النهاية (3/ 377) - فتح الباري (8/ 134). (¬4) في رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 277): قالوا لهم: إنَّا واللَّه ما نُرِيد قِتَالكم، إنما نُرِيد أن نُصِيبَ بكم ثَمَنا من أهل مكة. (¬5) وفي رواية الطيالسي في مسنده: قال عاصم -رضي اللَّه عنه-: اللهم بلِّغ عنا نَبِيَّك السلام. (¬6) أي في جملة سبعة، وفي رواية الطيالسي في مسنده: فَقُتِل منهم سَبْعة، ونزل ثلاثة في العهد والميثاق. وأخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب هل يستأسر الرَّجل؟ - رقم الحديث (3045) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2720).

فَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قتلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ (¬1) يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُلَّةِ (¬2) مِنَ الدَّبْرِ (¬3)، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ (¬4). وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الدَّبْرَ تَطِيرُ في وُجُوهِهِمْ وَتَلْدَغُهُمْ، فَحَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَقْطَعُوا (¬5). وَفِي رِوَايَةِ ابنِ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ: فَلَمَّا قُتِلَ عَاصِمٌ أَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِهِ، لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ: لَئِنْ قَدِرَتْ عَلَى رَأْسِ عَاصِمٍ لَتَشْرَبَنَّ في قِحْفِهِ (¬6) الخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ، فَلَمَّا حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ الدَّبْرُ، قَالُوا: دَعُوهُ حَتَّى يُمْسِيَ فتَذْهَبَ عَنْهُ، فنَأْخُذَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَطَرًا، فَصَارَ سَيْلًا، فَاحَتَمَل عَاصِمًا، فَذَهَبَ بِهِ، وَقَدْ كَانَ عَاصِم قَدْ أَعْطَى اللَّه عَهْدًا أَنْ لَا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ، وَلَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا (¬7). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 138): لعل العَظِيم المذكورَ عُقْبَة بن أبي مُعيط، فإن عاصمًا قتله صَبْرًا بأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر. (¬2) الظُّلَّة: بضم الظاء هي السَّحَابة. انظر النهاية (3/ 146). (¬3) الدَّبْرُ: بفتح الدال وسكون الباء: هي الزنانير، وقيل: النحل. انظر النهاية (2/ 93). (¬4) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4086). (¬5) انظر فتح الباري (8/ 138). (¬6) القِحْفُ: العظم الذي فوق الدِّماغ من الجمجمة. انظر لسان العرب (11/ 44). (¬7) انظر سيرة ابن هشام (3/ 189).

* شأن الثلاثة الذين نزلوا على العهد

قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا مَا قَالَهُ ابنُ إِسْحَاقٍ: احْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ لَمْ تَشْعُرْ بِمَا جَرَى لِهُذَيْلٍ مِنْ مَنع الدَّبْرِ لَهَا مِنْ أَخْذِ رَأْسِ عَاصِمٍ، فَأَرْسَلَتْ مَنْ يَأْخُذُهُ، أَوْ عَرَفُوا بِذَلِكَ، وَرَجَوْا أَنْ تَكُونَ الدَّبْرُ ترَكَتْهُ، فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهِ (¬1). فَكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ الدَّبْرَ مَنَعَتْهُ: يَحْفَظُ اللَّهُ العَبْدَ المُؤْمِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَمَا حَفِظَهُ في حَيَاتِهِ (¬2). * شَأْنُ الثَّلَاثَةِ الذِينَ نَزَلُوا عَلَى العَهْدِ: وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الذِينَ نَزَلُوا بِالعَهْدِ وَالمِيثَاقِ وَهُمْ: خُبَيْبُ بنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ، وزَيْدُ بنُ الدَّثِنَّةِ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ طَارِقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ بَنِي لَحْيَانَ لَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ (¬3) فَأَوْثَقُوهُمْ (¬4)، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ طَارِقٍ -رضي اللَّه عنه-: هَذَا أَوَّلُ الغَدْرِ، وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي في هَؤُلَاءِ لَأُسْوَةً -يُرِيدُ أَصْحَابَهُ الذِينَ قُتِلُوا- وَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ (¬5) عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَأَبَى، فَقتَلُوهُ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 138). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 190). (¬3) القِسِيُّ: جمع قَوْسٍ وهو معروف. (¬4) أوثَقُوهُم: أي ربَطُوهم بأوتَارِ القِسِي. انظر لسان العرب (15/ 212). (¬5) اعتَلَجَ القوم: تَصَارَعا وتَقَاتَلا. انظر لسان العرب (9/ 349). (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 134): وهذا يقتضي أن ذلك وَقَع منه أول ما أسَرُوهم، لكن في رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 190) قال: فخَرَجُوا بالنفر الثلاثة حَتَّى إذا كانوا =

* مقتل زيد بن الدثنة

فَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبِ بنِ عَدِيٍّ، وَزَيْدِ بنِ الدَّثِنَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬1). * مَقْتَلُ زَيْدِ بنِ الدَّثِنَّةِ: فَأَمَّا زَيْدُ بنُ الدَّثِنَّةِ -رضي اللَّه عنه- فَاشْتَرَاهُ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَبَعَثَ بهِ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ مَعَ مَوْلًى لَهُ، يُقَالُ لَهُ: نِسْطَاسٌ، إِلَى التَّنْعِيمِ (¬2)، وَأَخْرَجُوهُ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، وَاجْتَمَعَ رَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ: أَنْشُدُكَ اللَّه يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ في مَكَانِكَ نَضْرِبُ عُنُقَهُ، وَأَنَّكَ في أَهْلِكَ؟ قَالَ زَيْدٌ -رضي اللَّه عنه-: وَاللَّهِ مَا أُحبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا الآنَ في مَكَانِهِ هُوَ فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ، وَأَنِّي جَالِسٌ في أَهْلِي. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، ثُمَّ قُتِلَ زَيْدُ بنُ الدَّثِنَّةِ -رضي اللَّه عنه- (¬3). ¬

_ = بِمَرِّ الظَّهْرَان انتزع عبد اللَّه بن طارق -رضي اللَّه عنه- يده وأخذ سيفه، فذكر قِصَّة قتله، فيحتمل أنهم إنما ربطوهم بعد أن وصلوا إلى مر الظهران، وإلا فما في الصحيح أصح. (¬1) أخرج ذلك كله البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب هل يستأسر الرَّجل - رقم الحديث (3045) - وانظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 277) - سيرة ابن هشام (3/ 190). (¬2) التَّنْعِيمُ: بالفتح ثم السكون وكسر العين: مكانٌ معرُوفٌ خارجَ مكة على أربعة أميال من مكة إلى جهة المدينة. انظر معجم البلدان (2/ 458) - فتح الباري (4/ 444). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 191) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 277).

* مقتل خبيب بن عدي -رضي الله عنه-

* مَقْتَلُ خُبَيْبِ بنِ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: وَأَمَّا خُبَيْبُ بنُ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه- فَاشْتراهُ بَنُو الحَارِثِ بنِ عَامِرِ بنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ الذِي قَتَلَ الحَارِثَ بنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا. قَالَتْ بِنْتُ الحَارِثِ: فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قتلِهِ اسْتَعَارَ مِنِّي مُوسَى يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، قَالَتْ: فَغَفُلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي، فَدَرَجَ (¬1) إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّي، وَفِي يَدِهِ المُوسَى، فَقَالَ: أَتخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ (¬2) عِنَبٍ، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ في الحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ، وَهُوَ في الحَدِيدِ، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إلى التَّنْعِيمِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الصِّبْيَانُ، وَالنِّسَاءُ، وَالعَبِيدُ، وَجَمَاعَةُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى صَلْبِهِ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فترَكُوهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ أَتَمَّهُمَا وَأَحْسَنَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَوِّلَ فِيهِمَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى القَوْمِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا طَوَّلْتُ جَزَعًا مِنَ المَوْتِ لَزِدْتُ، أَوْ قَالَ: لَطَوَّلْتُهُمَا، فَكَانَ خُبَيْبٌ -رضي اللَّه عنه- أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ لِكُلِّ مَسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا. ¬

_ (¬1) دَرَجَ: أي مشى. انظر لسان العرب (4/ 319). (¬2) القِطْفُ بكسر القاف: العُنْقُودُ. انظر النهاية (4/ 74).

ثُمَّ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا (¬1)، وَلَا تُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (¬2). قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ: فَكَانَ مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: حَضَرتُهُ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ حَضَرَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُلْقِينِي إلى الأَرْضِ فَرَقًا (¬3) مِنْ دَعْوَةِ خُبَيْبٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دُعِيَ عَلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ لِجَنْبِهِ زَالَتْ عَنْهُ (¬4). ثُمَّ أَنْشَدَ خُبَيْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ في اللَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ في ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ (¬5) شِلْوٍ (¬6) مُمَزَّعِ (¬7) ¬

_ (¬1) بِدَدا: يروى بِكسر الباء، جمع بُدَّة وهي الحِصَّة والنَّصِيبُ، أي اقتُلْهُم حِصصًا مُقَسَّمة لكِلِّ واحد حِصَّته ونصيبه، ويروي بفتح الباء، أي مُتفرِّقين في القتل واحدًا بعد واحد. انظر النهاية (1/ 105). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4086) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 192). (¬3) الفَرَق بالتحريك: الخوف والفزع. انظر النهاية (3/ 392). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (3/ 192). (¬5) الأوصال: جمع وَصَل، وهو العضو. انظر النهاية (5/ 168). (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 137): الشِلو بكسر الشين: الجَسَد، وقد يطلق على العُضْوِ، ولكن المراد به هنا الجسد. (¬7) قال الحافظ في الفتح: (8/ 137): المُمَزَّع: المُقَطَّع.=

ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بنُ الحَارِثِ فَقتَلَهُ (¬1) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ: أَنَّ الذِي قتلَ خُبَيْبًا -رضي اللَّه عنه- هُوَ: أَبُو سَرْوعَةَ (¬2). قَال الحَافِظُ في التَّهْذِيبِ: أَطْبَقَ أَهْلُ الحَدِيثِ عَلَى أَنَّ أَبَا سَرْوعَةَ هُوَ عُقْبَةُ بنُ الحَارِثِ (¬3)، وَقَوْلُهُمْ أَوْلَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬4). وَرَوَى ابنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بنِ الحَارِثِ قَالَ: مَا أَنَا وَاللَّهِ قتلْتُ خُبَيْبًا؛ لِأنِّي كُنْتُ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أبَا مَيْسَرَةَ العَبْدَرِيِّ أَخَذَ الحَرْبَةَ، فجَعَلَهَا في يَدِي، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي وَبِالحَرْبَةِ، ثُمَّ طَعَنَهُ بِهَا حَتَّى قَتَلَهُ (¬5). وَقَدْ رَثَا حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- خُبَيبًا -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: ¬

_ = وأخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب هل يستأسر الرجل؟ - رقم الحديث (3045) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4086) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2720). (¬1) أخرج مقتل خبيب -رضي اللَّه عنه- على يَدِ عُقبة بن الحارث: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4086). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4087). (¬3) أسلم عقبة بن الحارث -رضي اللَّه عنه- يوم الفتح، وحسن إسلامه. (¬4) انظر تهذيب التهذيب (3/ 122). (¬5) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (3/ 192) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح (8/ 139).

مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا تَرْقَا (¬1) مَدَامِعُهَا ... سَحًّا (¬2) عَلَى الصَّدْرِ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ الفَلِقِ (¬3) عَلَى خُبَيْبٍ وَفِي الرَّحْمَنِ مَصْرَعُهُ ... لَا فَشِلٍ (¬4) حِينَ تَلْقَاهُ وَلَا نَزَقِ (¬5) وَقَالَ أَيْضًا -رضي اللَّه عنه-: يَا عَيْنُ جُودِي بِدَمْعٍ مِنْكِ مُنْسَكِبٍ (¬6) ... وَابْكِي خُبَيْبًا مَعَ الغَادِينَ لَمْ يَؤُبِ (¬7) صَقْرًا تَوَسَّطَ في الأَنْصَارِ مَنْصِبُهُ ... حُلْوُ السَّجِيَّةِ (¬8) مَحْضًا (¬9) غَيْرَ مُؤْتَشِبِ (¬10) ¬

_ (¬1) يُقال: رقَأَتْ دمعَتُه: أي جفَّت وانقَطَعَتْ. انظر لسان العرب (5/ 278). (¬2) سَحًّا: دائِمَةَ الصَّبِّ والهَطْلِ. انظر النهاية (2/ 311). (¬3) الفَلِقِ: المُنْشَقُّ. انظر لسان العرب (10/ 321). (¬4) الفَشِل: الرَّجل الضعيف الجبان. انظر لسان العرب (10/ 268). (¬5) النَّزَق: خِفَّة في كل أمرٍ وعَجَلة في جهل وحُمق. انظر لسان العرب (14/ 110). وانظر الأبيات في: ديوان حسّان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- ص 173. (¬6) سَكَبَ: صب. انظر لسان العرب (6/ 302). (¬7) الأوبُ: الرُّجوع. انظر لسان العرب (1/ 257). (¬8) السَّجِيَّة: الطبِيعَة والخُلُق. انظر لسان العرب (6/ 180). (¬9) المَحْضُ: الخَالِصُ. انظر لسان العرب (13/ 37). (¬10) الشَّوْبُ: الخَلْطُ. انظر لسان العرب (7/ 231). ومنه قوله تعالى في سورة الصافات - آية (67): {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ}.

* فوائد الحديث

قَدْ هَاجَ عَيْنِي عَلَى عِلَّاتِ (¬1) عبْرَتِها ... إِذْ قِيلَ نُصَّ (¬2) عَلَى جِذْعٍ مِنَ الخَشَبِ (¬3) * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي سَرِيَّةِ الرَّجِيعِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ لِلْأَسِيرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِ الأَمَانِ، وَلَا يُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهِ وَلَوْ قُتِلَ، أَنَفَةً مِنْ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ كَافِرٍ، وَهَذَا إِذَا أَرَادَ الأَخْذَ بِالشِّدَّةِ، فَإِنْ أَرَادَ الأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ لَهُ أَنْ يَسْتَأْمِنَ. 2 - وَفِيهِ الوَفَاءُ لِلْمُشْرِكِينَ بِالعَهْدِ. 3 - وَالتَّوَرُّعُ عَنْ قتلِ أَوْلَادِهِمْ. 4 - وَالتَّلَطُّفُ بِمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ. 5 - وَفِيهِ إِثْبَاتُ كَرَامَاتِ الأَوْليَاءِ. 6 - وَفِيهِ الدُّعَاءُ عَلَى المُشْرِكِينَ بِالتَّعْمِيمِ. 7 - وَفِيهِ الصَّلَاةُ عِنْدَ القَتْلِ. 8 - وَفيهِ إِنْشَادُ الشِّعْرِ. ¬

_ (¬1) عِلَّات كل شيء: ما زاد عليه. انظر لسان العرب (9/ 382). (¬2) نُصَّ: أي رُفِعَ. انظر لسان العرب (14/ 162). (¬3) انظر ديوان حسّان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- ص 37.

9 - وَإِنْشَادُهُ عِنْدَ القَتْلِ. 10 - وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِ خُبَيْبٍ -رضي اللَّه عنه- وَشِدَّتِهِ في دِينِهِ. 11 - وَفِيهِ أَنَّ اللَّه يَبْتَلِي عَبْدَهُ المُسْلِمَ بِمَا شَاءَ كَمَا سَبَقَ في عِلْمِهِ لِيُثِيبَهُ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ. 12 - وَفِيهِ اسْتِجَابَةُ دُعَاءَ المُسْلِمِ، وَإِكْرَامُهُ حَيًّا وَمَيْتًا (¬1). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي: حَزِنَ المُسْلِمُونَ لِفُقْدَانِهِمْ عَاصِمًا وَصَحْبَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلمَصْرَعِ أَسِيرَيْهِمْ خُبَيْبِ بنِ عَدِيٍّ، وَزَيْدِ بنِ الدَّثِنَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى هَذَا النَّحْوِ الفَاجعِ، فَقَدْ خَسِرُوا فَرِيقًا مِنَ الدُّعَاةِ الأَكْفَاءِ الشُّجْعَانِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمُ الإِسْلَامُ في هَذِهِ الفَتْرَةِ مِنْ تَارِيخِهِ. . .، وَمَعَ أَنَّ هَذِهِ الوَقْعَةَ تُوجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَبَصَّرُوا قَبْلَ بَعْثِ أَيِّ وَفْدٍ لِنَشْرِ الإِسْلَامِ بَيْنَ القَبَائِلِ البَعِيدَةِ وَالمَجَاهِلِ المُرِيبَةِ، إِلَّا أَنَّ ضَرُورَةَ بَثِّ الدَّعْوَةِ -مَهْمَا فَدَحَتِ (¬2) الخَسَائِرُ- ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 138). أخرج تفاصيل سرية الرجيع: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4086) - وكتاب الجهاد والسير - باب هل يستأسر الرجل؟ - رقم الحديث (3045) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2720) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7928) (8096) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر خبيب بن عدي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7039) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 323) - وابن سعد في طبقاته (2/ 277) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 187). (¬2) فَدَحَهُ: أثقَلَه. انظر لسان العرب (200/ 10).

جَعَلَتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْظُرُ إلى هَذِهِ التَّضْحِيَاتِ عَلَى أَنَّهَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، كَالتَّاجِرِ الذِي يَتَحَمَّلُ المَغَارِمَ (¬1) الثَّقِيلَةَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ؛ لِأَنَّ الِانْسِحَابَ مِنَ السُّوقِ -بُغْيَةَ تَجَنُّبِهَا- قَضَاءٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ يَبْقَى مُتَجَمِّلًا (¬2) حَتَّى تَهُبَّ الرِّيحُ مِنْ جَدِيدٍ رُخَاءً تُعَوِّضُ مَا فَقَدَ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) الغُرْمُ: الدَّيْنُ، ورجل غارِمٌ: عليه دَيْنٌ. انظر لسان العرب (10/ 59). (¬2) جَمَّلتَ الشَّيْءَ: إذا أطلتَ حَبْسَهُ. انظر لسان العرب (2/ 364). (¬3) انظر فقه السيرة ص 276.

فاجعة بئر معونة أو سرية القراء

فَاجِعَةُ بئْرِ مَعُونَةَ (¬1) أَوْ سَرِيَّةُ القُرَّاءِ وَكَانَتْ في صَفَرَ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَسَبَبُهَا عِنْدَ الإِمَامِ البُخَارِيِّ في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: أَنَّ رِعْلًا (¬2) وذَكْوَانَ (¬3) وَعُصَيَّةَ (¬4) وَبَنِي لِحْيَانَ (¬5)، اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَدُوٍّ، فَأَمَدَّهُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَبْعِينَ (¬6) مِنَ الأَنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمُ القُرَّاءَ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ، وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ (¬7). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: جَاءَ نَاسٌ إلى النَّبِيِّ ¬

_ (¬1) بئرُ مَعُونَة: بفتح الميم وضم العين في أَرضِ بني سُليم، بين مكة والمدينة. انظر النهاية (4/ 293). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 131): رِعل: بكسر الراء، بطن من بني سليم يُنسبون إلى رِعْلِ بن عَوْفِ بن مَالك. (¬3) قَالَ الحَافِظ في الفَتْحِ (8/ 131): ذَكْوَان: بطنٌ من بني سليم يُنسبون إلى ذكْوَانَ بن ثَعْلَبَةَ. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (7/ 232): عُصيَّةُ: بالتصغِير، وهم بطنٌ من بني سُلَيْم يُنسبون إلى عصية بن خُفاف. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 141): ذكر بني لِحْيَان في هذه القصة وَهْمٌ، وإنما كان بَنُو لِحيانَ في قصة خُبَيب في غزوة الرَّجيع التي قبل هذه. (¬6) في رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 204): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ إليهم أربعين من أصحابه. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 141): ويمكن الجَمْعُ بينه وبين الذي في الصحيح بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقيَّة العدة أتباعًا. (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرَّجيع، ورِعْل، وذَكْوان، وبئر معونة - رقم الحديث (4090).

* وصول الصحابة رضي الله عنهم إلى بئر معونة

-صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا القُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمُ القُرَّاءُ (¬1). وَعِنْدَ ابنِ سَعْدٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ أبَا بَرَاءٍ عَامِرَ بنَ مَالِكٍ المَعْرُوفَ بِمُلَاعِبِ الأَسِنَّةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِسْلَامَ، وَدَعَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ مِنَ الإِسْلَامِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، لَوْ بَعَثْتَ رِجَالًا مِنْ أَصحَابِكَ إلى أَهْلِ نَجْدٍ، فَدَعَوْهُمْ إلى أَمْرِكَ، رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ"، فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ: أَنَا لَهُمْ جَارٌ، فَابْعَثْهُمْ فَلْيَدْعُوا النَّاسَ إلى أمْرِكَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سبْعِينَ (¬2) رَجُلًا مِنْ أصحَابِهِ (¬3). * وُصُولُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى بِئْرِ مَعُونَةَ: مَضى الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى وَصَلُوا إلى بِئْرِ مَعُونَةَ، فَنَزَلُوا بِهَا، وبَعَثُوا حَرَامَ بنَ مَلْحَانَ -رضي اللَّه عنه-، خَالَ أنَسِ بنِ مَالِكٍ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ إلى عَدُوِّ اللَّهِ عَامِرِ بنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمْ يَنْظُرْ عَدُوُّ اللَّهِ عَامِرُ بنُ الطُّفَيْلِ في كِتَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَلْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَوْمَأَ (¬4) إلى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ حَتَّى أنْفَذَهُ بِالرُّمْحِ، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (677). (¬2) هذه رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 275) وهي موافقة لرواية الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4090) - وعند ابن إسحاق في السيرة (3/ 204): أربعين. (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 275) - سيرة ابن هشام (3/ 204). (¬4) الإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس، واليد، والعين، والحاجب. انظر النهاية (1/ 82).

* مقتل أصحاب سرية القراء رضي الله عنهم

فَقَالَ حَرَامٌ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ (¬1). وَعِنْدَمَا خَرَجَ الدَّمُ مِنْ حَرَامٍ -رضي اللَّه عنه- نَضَحَهُ (¬2) عَلَى وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، ثُمَّ سَقَطَ مَيْتًا -رضي اللَّه عنه- (¬3) * مَقْتَلُ أصْحَابِ سرِيَّةِ القُرَّاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: ثُمَّ اسْتَنْفَرَ عَامِرُ بنُ الطُّفَيْلِ قبَّحَهُ اللَّهُ بَنِي عَامِرٍ إلى قِتَالِ البَاقِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوهُ، وَقَالُوا: لَنْ نَخْفِرَ (¬4) جِوَارَ أَبِي بَرَاءٍ، فَاسْتَنْفَرَ عَلَيْهِمْ. قَبَائِلَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، رِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، فَأَجَابُوهُ إلى ذَلِكَ، فَخَرَجُوا حَتَّى غَشَوُا (¬5) القَوْمَ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ في رِحَالِهِمْ، فَقَالَ لَهُمُ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ مَا إيَّاكُمْ أَرَدْنَا، وإِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ في حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ الصَّحَابَةُ سُيُوفَهُمْ فَقَاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ كُلُّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ السَّبْعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا كَعْبَ بنَ زَيْدِ بنِ النَّجَّارِ، الذِي تُرِكَ وَبِهِ رَمَقٌ (¬6)، فَعَاشَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع، ورِعل، وذكوان، وبئر معونة - رقم الحديث (4092) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب من ينكب في سبيل اللَّه - رقم الحديث (2801) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (677). (¬2) النَّضْحُ: الرَّشُّ. انظر لسان العرب (14/ 173). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع، ورِعل، وذكران، وبئر معونة - رقم الحديث (4092). (¬4) أخفَرْتَ الرجُلَ: إذا نقَضْتَ عَهْدَهُ وذِمَامَهُ. انظر النهاية (2/ 50). (¬5) يُقَالُ: غَشِيَهُ يَغْشَاهُ: إذا جاءَهُ. انظر لسان العرب (10/ 77). (¬6) وبهِ رَمَقٌ: أي بَقِيَّةُ رُوحٍ وآخر النفس. انظر النهاية (2/ 240).

* كرامة لعامر بن فهيرة -رضي الله عنه-

وَكَانَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَالمُنْذِرُ بنُ عُقْبَةَ الأَنْصَارِيُّ فِي سَرْحِ (¬1) المُسْلِمِينَ، فَلَمْ يُنْبِئْهُمَا بِمُصَابِ أَصْحَابِهِمَا إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى مَوْضِعِ الوَقْعَةِ، فَقَالَا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنٌ، فَأَقْبَلَا لِيَنْظُرَا، فَإِذَا أصْحَابُهُمْ في دِمَائِهِمْ، وَإِذَا الخَيْلُ التِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ، فَقَالَ المُنْذِرُ بنُ عُقْبَةَ لِعَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ: مَا ترَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فنخْبِرَهُ الخَبَرَ، فَقَالَ المُنْذِرُ بنُ عُقْبَةَ -رضي اللَّه عنه-: لَكِنِّي مَا كُنْتُ لِأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ المُنْذِرُ بنُ عَمْرٍو (¬2)، وَمَا كُنْتُ لِتُخْبِرَنِي عَنْهُ الرِّجَالُ، ثُمَّ قَاتَلَ القَوْمَ حَتَّى قُتِلَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَخَذُوا عَمْرَو بنَ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- أَسِيرًا، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ، أَخَذَهُ عَامِرُ بنُ الطُّفيْلِ وَجَزَّ (¬3) نَاصِيَتَهُ (¬4) وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى أُمِّهِ، وَرَجَعَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- إلى المَدِينَةِ وَأَخْبَرَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). * كَرَامَةٌ لِعَامِرِ بنِ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: كَانَ مِنْ بَيْنِ القَتْلَى عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬6)، وَقَدْ ظَهَرَتْ لَهُ في هَذِهِ المَعْرَكَةِ ¬

_ (¬1) السَّرْحُ: المَاشِيَةُ. انظر النهاية (2/ 322). (¬2) هو المُنْذِرُ بن عمرو بن أبي خُنَيْسٍ من بني ساعِد من الخَزْرَجِ، وكان -رضي اللَّه عنه- عَقَبِيًّا بَدْرِيًا من أكابر الصَّحَابَة. انظر الإصابة (6/ 171). (¬3) الجَزُّ: قصُّ الشعر. انظر النهاية (1/ 259). (¬4) الناصية: مَنْبَتُ الشَّعر في مقدم الرأس. انظر لسان العرب (14/ 169). (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 275) - سيرة ابن هشام (5/ 203) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 339 - 340). (¬6) قتله جبَّار بن سُلمى، ثم إنه وفد على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عام الوفود، فأسلم وحسن إسلامه -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (1/ 302).

* نبذة عن عامر بن فهيرة -رضي الله عنه-

كَرَامَة، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الذِينَ ببئْرِ مَعُونَةَ، وَأُسِرَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ لَهُ عَامِرُ بنُ الطُّفَيْلِ: مَنْ هَذَا؟ فَأَشَارَ إلى قَتِيلٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه-: هَذَا عَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَمَا قُتِلَ رُفِعَ إلى السَّمَاءِ حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إلى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ، ثُمَّ وُضِعَ (¬1). وَكَانَ الذِي قتَلَهُ جَبَّارُ بنُ سُلْمَى -كَمَا ذَكَرْنَا-. قَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في الِاسْتِيعَابِ: عَامِرُ بنُ الطُّفَيْلِ هُوَ الذِي قتَلَ عَامِرَ بنَ فُهَيْرَةَ (¬2). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَأَنَّ نِسْبَتَهُ إلى عَامِرِ بنِ الطُّفَيْلِ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ رَأْسَ القَوْمِ (¬3). * نُبْذَةٌ عَنْ عَامِرِ بنِ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَعَامِرُ بنُ فُهَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ مَمْلُوكًا لِلطُّفَيْلِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَخْبَرَةَ، فَأَسْلَمَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ، فَاشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الطُّفَيْلِ، فَأَعْتَقَهُ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَارَ الأَرْقَمِ، وَقَبْلَ أَنْ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4093). (¬2) انظر الاستيعاب (2/ 345). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 146).

* حزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- على مقتل أصحابه رضي الله عنهم

يَدْعُوَ فِيهَا إلى الإِسْلَامِ، وَكَانَ حَسَنَ الإِسْلَامِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يَرْعَى الغَنَمَ في الهِجْرَةِ، ثُمَّ يَرُوحُ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- في الغَارِ، وَكَانَ رَفِيقَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ في هِجْرَتِهِمَا إلى المَدِينَةِ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- وَشَهِدَ بَدْرًا، وَأُحُدًا، ثُمَّ قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَهُوَ ابنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً -رضي اللَّه عنه- (¬1). * حُزْنُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى مَقْتَلِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَجَاءَ خَبَرُ فَاجِعَةِ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَخَبَرُ مَقْتَلِ عَاصِمِ بنِ ثَابِتٍ، وَخُبَيْبِ بنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ الرَّجِيعِ إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَحَزِنَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حُزْنًا شَدِيدًا، وَلَقَدْ بَلَغَ حُزْنُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ مَكَثَ شَهْرًا يَدْعُو في كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَعُصَيَّةَ الذِينَ غَدَرُوا بِالقُرَّاءِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ قُرْآنًا يُتْلَى، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ. أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وإِنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ بَلَغ عَنَّا نَبِيَّكَ، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا" (¬2). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . أنْزَلَ اللَّهُ فِي ¬

_ (¬1) انظر الاستيعاب لابن عبد البر (2/ 345). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد - رقم الحديث (677) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13854).

الذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرآنًا قَرَأْنَاهُ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا، وَرَضِينَا عَنْهُ (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَدَ (¬2) عَلَى شَيْءٍ قَطُّ، مَا وَجَدَ عَلَى أَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ، أَصْحَابِ سَرِيَّةِ المُنْذِرِ بنِ عَمْرٍو (¬3). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنّسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الذِينَ قتَلُوا أصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلَاثِينَ صَبَاحًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ، وذَكْوَانَ، ولِحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ عَصَتِ اللَّه وَرَسُولَهُ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد السير - باب قوله تَعَالَى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} - رقم الحديث (2814) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب استحباب القنوت في جمع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة - رقم الحديث (677) (297) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب فضل الشهادة - رقم الحديث (4651). (¬2) الوَجْدَ: الحُزْنُ. انظر لسان العرب (15/ 220). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب من جلس عند المصيبة - رقم الحديث (1300) - وأخرجه في كتاب الدعوات - باب الدعاء على المشركين (6394) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة - رقم الحديث (677) (302) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13027). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4090) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد - باب استحباب القنوت في =

* حكمة ظهرت للحافظ

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قنتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَهْرًا مُتَتَابِعًا في الظُّهْرِ، وَالعَصْرِ، وَالمَغْرِبِ، وَالعِشَاءَ، وَالصُّبْحِ، في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، مِنَ الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ، يَدْعُو عَلَيْهِمْ، عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلى الإِسْلَامِ، فَقَتَلُوهُمْ (¬1). * حِكْمَةٌ ظَهَرَتْ لِلْحَافِظِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَظَهَرَ لِي أَنَّ الحِكْمَةَ في جَعْلِ قنوتِ النَّازِلَةِ في الِاعْتِدَالِ دُونَ السُّجُودِ مَعَ أَنَّ السُّجُودَ مَظِنَّةُ الإِجَابَةِ، كَمَا ثَبَتَ "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" (¬2)، وثُبُوتُ الأَمْرِ بِالدُّعَاءَ فِيهِ أَنَّ المَطْلُوبَ مِنْ قُنُوتِ النَّازِلَةِ أَنْ يُشَارِكَ المَأْمُومُ الإِمَامَ في الدُّعَاءِ وَلَوْ بِالتَّأْمِينِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ، بِخِلَافِ القُنُوتِ في الصُّبْحِ، فَاخْتُلِفَ في مَحَلِّهِ وَفِي الجَهْرِ بِهِ (¬3). ¬

_ = جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة - رقم الحديث (677) (297) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب فضل الشهادة - رقم الحديث (4651). (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2746) - وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب القنوت في الصلوات - رقم الحديث (1443). (¬2) هذا الحديث أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب ما يقال في الركع والسجود - رقم الحديث (482) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (9461). (¬3) انظر فتح الباري (3/ 177).

* موقف ملاعب الأسنة من هذا الغدر

* مَوْقِفُ مُلَاعِبِ الأَسِنَّةِ مِنْ هَذَا الغَدْرِ: أَمَّا أَبُو بَرَاءٍ عَامِرُ بنُ مَالِكٍ المَعْرَوفُ بِمُلَاعِبِ الأَسِنَّةِ سَيِّدُ بَنِي عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ الذِي أَعْطَى رَسُولَ اللَّهِ الجِوَارَ لِهَؤُلَاءِ القُرَّاءِ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ هَؤُلَاءِ القُرَّاءِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الهَمِّ (¬1). * عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ -رضي اللَّه عنه- يَقْتُلُ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرٍ: وَلَمَّا أَقْبَلَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ -رضي اللَّه عنه- إلى المَدِينَةِ لَقِيَ في طَرِيقِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فنَزَلَا مَعَهُ في ظِلٍّ كَانَ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَهُمَا عَقْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجِوَارٌ، لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ، وَقَدْ سَأَلهُمَا حِينَ نَزَلَا: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَا: مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَأَمْهَلَهُمَا، حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقتَلَهُمَا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ قَدْ أصَابَ بِهِمَا ثَأْرَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَدِمَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- المَدِينَةَ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَقْتَلِ أَصْحَابِهِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، ثُمَّ أخْبَرَهُ بِمَقْتَلِهِ لِلْعَامِرِيَّيْنِ، فَقَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ! لَقَدْ كَانَ لَهُمَا مِنِّي أَمَانٌ وَجِوَارٌ؛ لَأَدِيَنَّهُمَا، فَبَعَثَ بِدِيَتِهِمَا إلى قَوْمِهِمَا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 341). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 340) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 276) - سيرة ابن هشام (3/ 206).

غزوة بني النضير

غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ في شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1) وَقَالَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: جَعَلَهُ ابنُ إِسْحَاقَ -أَيْ جَعَلَ حَدِيثَ بَنِي النَّضِيرِ- بَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَأُحُدٍ (¬2). وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَتْ عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَبْلَ وَقْعَةِ أُحُدٍ (¬3). قُلْتُ: رَجَّحَ الحَافِظُ في الفَتْحِ قَوْلَ ابنِ إِسْحَاقَ (¬4). * سَبَبُ هَذِهِ الغَزْوةِ: اخْتُلِفَ في سَبَبِ هَذِهِ الغَزْوَةِ: * السَّبَبُ الأَوَّل: ذَكَرَ جُلُّ أَهْلِ المَغَازِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ إلى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ ¬

_ (¬1) هذا تاريخها عند ابن إسحاق في السيرة (3/ 210) - وابن سعد في طبقاته (2/ 278). (¬2) علَّقه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير. (¬3) علَّقه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير، ووصله عبد الرزاق في مصنفه. (¬4) انظر فتح الباري (8/ 70).

في دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قتَلَهُمَا عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ -رضي اللَّه عنه-؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ قَدْ أَخَذَ العَهْدَ عَلَى اليَهُودِ أَنْ يُعَاوِنُوهُ في الدِّيَاتِ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ كِتَابَةِ الصَّحِيفَةِ لِأَهْلِ المَدِينَةِ- فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، ثُمَّ أَتَى بَنِي النَّضِيرِ فكَلَّمَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: نَعَمْ يَا أبَا القَاسِمِ نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ، مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ، فَجَلَسَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُويهِمْ يَنْتَظِرُ وَفَاءَهُمْ بِمَا وَعَدُوا، وَجَلَسَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أجْمَعِينَ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا خَلَا اليَهُودُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ هَمُّوا بِالغَدْرِ بِهِ، وَائْتَمَرُوا بِقَتْلِهِ، فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ، فَمَنْ رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا البَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيَقْتُلَهُ بِهَا ويُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْهُمْ هُوَ: عَمْرُو بنُ جَحَّاشِ بنِ كَعْبٍ، فَقَالَ: أنَا لِذَلِكَ، فَصَعِدَ لِيُلْقِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَخْرَةً، كَمَا قَالَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَرَادَ القَوْمُ، فَقَامَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُظْهِرًا أنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَةً، وَتركَ أصْحَابَهُ في مَجْلِسِهِمْ، وَرَجَعَ سَرِيعًا إلى المَدِينَةِ. فَلَمَّا اسْتَبْطَأَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-أَصْحَاُبهُ، قَامُوا في طَلَبِهِ، فَلَقَوْا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنَ المَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلًا المَدِينَةَ، فَأَقْبَلَ أصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخَبَرَ بِمَا أَرَادَتْ يَهُودُ مِنَ الغَدْرِ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحَرْبِهِمْ وَالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 355) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 278) - سيرة ابن هشام (3/ 211) - البداية والنهاية (4/ 455).

* السبب الثاني

وَنَزَلَ في ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1). * السَّبَبُ الثَّانِي: أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِي في مُصَنَّفِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ عَنْ رَجُل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: . . . فكَتَبَتْ كُفَّارُ قُرْيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ: أَنكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ (¬2)، وَالْحُصُونِ، وَأَنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ (¬3) نِسَائِكُمْ شَيْءٌ، فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ الْيَهُودَ أَجْمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ عَلَى الْغَدْرِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أُخْرُجْ إِلَيْنَا في ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ، وَلْنَخْرُجْ في ثَلَاثِينَ حَبْرًا (¬4)، حَتَّى نَلْتَقِيَ في مَكَانِ كَذَا، فَيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ، وَآمَنُوا بِكَ، آمَنَّا كُلُّنَا، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ حَبْرًا مِنْ يَهُودٍ، حَتَّى إِذَا بَرَزُوا في برازٍ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِبَعْضٍ: كَيْفَ تَخْلُصُونَ (¬5) إِلَيْهِ، ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (11). (¬2) الحَلْقة: بفتح الحاء وسكون اللام السلاح. انظر النهاية (1/ 410). (¬3) الخَدَمُ: بفتح الخاء والدال هو الخلخال. انظر لسان العرب (4/ 41). (¬4) الحَبر: بفتح الحاء العَالِمُ، وكان يقال لابن عباس رضي اللَّه عنهما: الحَبر والبحر لعلمه وسعته. انظر النهاية (1/ 317). (¬5) خلَصَ فلان إلى فلان: أي وصل إليه. انظر لسان العرب (4/ 173).

* بعث محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-

وَمَعَهُ ثَلَاثوُنَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: كَيْفَ تَفْهَمُ وَنَفْهَمُ، وَنَحْنُ سِتُّونَ رَجُلًا؟ اخْرُجْ في ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، وَيَخْرُجُ إِلَيْكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا، فَلْيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ آمَنُوا بِكَ آمَنَّا كُلُّنَا، وَصَدَّقْنَاكَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاشْتَمَلُوا عَلَى الْخَنَاجِرِ (¬1)، وَأَرَادُوا الْفَتْكَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ نَاصِحَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى بَنِي أَخِيهَا، وَهُوَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ (¬2)، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ مَا أَرَادَتْ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقْبَلَ أَخُوهَا مُسْرِعًا، حَتَّى أَدْرَكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْكَتَائِبِ، فَحَاصَرَهُمْ (¬3). * بَعْثُ مُحَمَّدِ بنِ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنِ اخْرُجُوا مِنَ المَدِينَةِ، فَلَا تُسَاكِنُونِي بِهَا، وَقَدْ هَمَمْتُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنَ الْغَدْرِ، فَمَنْ رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ"، فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا يَتَجَهَّزُونَ، وَأَرْسَلُوا إلى ¬

_ (¬1) اشتَمَلَ بالثَّوْبِ: إذا أدَارَهُ على جسده كله حَتَّى لا تخرج منه يده. انظر لسان العرب (7/ 302). أي أنَّهم غطوا هذه الخَنَاجِر تحت أجسادهم بهذا الثوب. (¬2) سيأتي خبر أخوة الإنصار ليهود بني النضير بعد قليل. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج - باب في بني النضير - رقم الحديث (3004) - وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه - رقم الحديث (9733) - وأورده الحافظ في الفتح (8/ 70) وصحح إسناده.

* حصار بني النضير

ظَهْرٍ (¬1) لَهُمْ بِذِي الجَدْرِ (¬2)، وَاسْتَأْجَرُوا مِنْ نَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ إِبِلًا. فَلَمَّا سَمِعَ المُنَافِقُونَ بِهِمْ أَرْسَلَ لَهُمُ ابنُ سَلُولٍ: لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، إِنَّا مَعَكُمْ، لَئِنْ قُويلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَقَوِيَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نُفُوسُ بَنِي النَّضِيرِ، فَأَرْسَلَ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبٍ سَيِّدُ بَنِي النَّضِيرِ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنَّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا، وَلَئِنْ قَاتَلْتَنَا قَاتَلْنَاكَ، وَنَابَذُوهُ بِنَقْضِ العُهُودِ، وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬3). * حِصَارُ بَنِي النَّضِيرِ: فَسَارَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَصْحَابِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ: ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْتَجَؤُوا إلى حُصُونِهِمْ، فَقَامُوا عَلَيْهَا يَرْمُونَ بِالنَّبْلِ وَالحِجَارَةِ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) الظَّهر: الإبل التي يُحمل عليها تركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬2) ذي جَدْر بسكون الدال: هو مسرح -أي مرعى- على ستة أميال من المدينة بناحية قباء. انظر معجم البلدان (3/ 38). (¬3) سورة الحشر الآيات (11 - 13). والخبر في الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 378).

بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَتَحْرِيقِهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانٌ -رضي اللَّه عنه-: وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ (¬1) بَنِي لُؤَيٍّ (¬2) ... حَرِيقٌ بِالبُوَيْرَةِ (¬3) مُسْتَطِيرُ (¬4) فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه-: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرَّقَ في نَوَاحِيهَا السَّعِيرُ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (¬5). وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ ¬

_ (¬1) سَرَاة بفتح السين: جَمْعُ سرى، وهو الرئيس والشريف. انظر النهاية (2/ 327) - وفتح الباري (8/ 72). (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 72): بَنِي لؤي: هم قريش. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 72): البُوَيْرَةُ: مصَغَّرُ بُؤْرَة، وهي الحُفْرَة، وهي هنا: مكان معروف بين المدينة وبين منطقة تَيْمَاء، وهي من جهة قِبْلَةِ مسجِدِ قُبَاء إلى جهة الغرب. (¬4) مُسْتَطِيرٌ: مُشْتَعِلٌ. انظر فتح الباري (8/ 72). (¬5) سورة الحشر آية (5) - والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير - رقم الحديث (4032) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَن: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} - رقم الحديث (4884) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها - رقم الحديث (1746) (30) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1109).

* قذف الله تعالى في قلوب اليهود الرعب وجلاؤهم

صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} قَالَ: اللِّينَةُ: النَّخْلُ، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}، قَالَ: اسْتَنْزَلُوهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ وَأُمِرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ إِهَانَةً لَهُمْ، وَإِرْهَابًا وَإِرْعَابًا لِقُلُوُبهِمْ (¬2). فَلَمَّا ظَهَرَ لِبَنِي النَّضِيرِ تَخَلِّي المُنَافِقِينَ عَنْهُمْ، وَكَانَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ المُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (¬3). * قَذْفُ اللَّهِ تَعَالَى في قُلُوبِ اليَهُودِ الرُّعْبَ وَجَلَاؤُهُمْ: وَقَذَفَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَاشْتَدَّ الحِصَارُ عَلَيْهِمْ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ حُصُونَهُمْ لَنْ تَمْنَعَهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الجَلَاءِ (¬4)، وَعَلَى أَنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب التفسير - باب ومن سورة الحشر - رقم الحديث (3588) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1111). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (8/ 61). (¬3) سورة الحشر الآيتان (16 - 17). (¬4) الجَلَاءُ: إخراجهم من أراضيهم إلى أرض أخرى. انظر النهاية (1/ 218) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 359).

لَهُمْ مَا أَقَلَّتْ (¬1) الإِبِلُ مِنَ الأَمْتِعَةِ، وَالأَمْوَالِ إِلَّا الحَلْقَةَ، يَعْنِي السِّلَاحَ. رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَنِي النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبْت قُرْيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقتَلَ رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ (¬2). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الجَلَاءِ، وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الإِبِلُ مِنَ الأَمْتِعَةِ وَالأَمْوَالِ إِلَّا الحَلْقَةَ، يَعْنِي السِّلَاحَ (¬3). فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الإِبِلُ، وَكَانَتْ سِتُّمِائَةِ بَعِيرٍ، فَكَانُوا يَهْدِمُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ؛ لِيَحْمِلُوا مَا اسْتَحْسَنُوهُ مِنَ الأَبْوَابِ وَالنَّوَافِذِ، بَلْ حَتَّى حَمَلَ بَعْضُهُمُ الأَوْتَادَ وَجُذُوعَ السُّقُفِ حَتَّى لَا يَنتفِعَ المُسْلِمُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِمْ. ثُمَّ حَمَلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ عَلَى الهَوَادِجِ، فَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مُظْهِرِينَ ¬

_ (¬1) أقَلَّ الشيء واسْتَقَلَّهُ: إذا رَفَعَهُ وحمله. انظر النهاية (4/ 91). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير - رقم الحديث (4028) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب إجلاء اليهود من الحجاز - رقم الحديث (1766). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب سورة الحشر - رقم الحديث (3850).

* أخوة الأنصار واليهود قبل الإسلام

التَّجَلُّدَ (¬1)، مَعَهُمُ الدُّفُوفُ وَالمَزَامِيرُ، وَالقِيَانُ (¬2) يَعْزِفْنَ خَلْفَهْمُ. فَسَارَ أَكْثَرُهُمْ وَأَشْرَافُهُمْ كَسَلَّامِ بنِ أَبِي الحُقَيْقِ، وَكِنَانَةُ بنُ الرَّبِيعِ، وَحُيَيُّ بنُ أَخْطَبٍ، إلى خَيْبَرَ، فَلَمَّا نَزَلُوهَا دَانَ (¬3) لَهُمْ أَهْلُهَا، وَسَارَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلى الشَّامِ (¬4). * أُخُوّةُ الأَنْصَارِ وَاليَهُودِ قَبْلَ الإِسْلَامِ: وَكَانَ في بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ؛ لِأَنَّ المَرْأَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ إِذَا لَمْ يَعِشْ لَهَا وَلَدٌ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنَّ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬5)، قَالَ: كَانَتِ المَرْأَةُ مِنَ الأَنْصَارِ لَا يَكَادُ يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، فتَحْلِفُ: لَئِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ لَتُهَوِّدَنَّهُ، فَلَمَّا أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ إِذَا فِيهِمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْنَاؤُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيةَ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. ¬

_ (¬1) الجَلَدُ: القُوَّة والصبر. انظر النهاية (1/ 275). (¬2) القِيَان: الإماء المُغَنِّيَاتُ. انظر النهاية (4/ 118). (¬3) دَانَ لهم أهلُهَا: أي أطاعتْهُم وخضَعَتْ لهم. انظر لسان العرب (4/ 459). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 278) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 359). (¬5) سورة البقرة آية (256).

* أول فيء في الإسلام

قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: فَمَنْ شَاءَ لَحِقَ بِهِمْ، وَمَنْ شَاءَ دَخَلَ في الإِسْلَامِ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ المُشْكِلِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَتِ الأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَبْنَاؤُنَا وَإِخْوَانُنَا مَعَهُمْ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيِّرُوا أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ، فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ، فَهُمْ مِنْهُمْ"، قَالَ: فَأَجْلَوْهُمْ مَعَهُمْ (¬2). * أَوَّلُ فَيْءٍ (¬3) في الإِسْلَامِ: وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا ترَكُوهُ مِنَ الأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ، فَوَجَدَ خَمْسِينَ دِرْعًا وَخَمْسِينَ بَيْضَةً (¬4)، وَثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا، وَكَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ وَأَرْضُهُمْ وَدِيَارُهُمْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَمْ يُخَمِّسْهَا؛ لِأَنَّ اللَّه أَفَاءَهَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجِفِ (¬5) المُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الإيمان - باب التكليف - رقم الحديث (140) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4279). (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4280). (¬3) الفَيْءُ: هو ما حَصَلَ للمسلمين من أموال الكُفَّار من غير حَرْبٍ ولا جِهَاد. انظر النهاية (3/ 434). (¬4) البَيْضَةُ: الخُوذَةُ. انظر النهاية (1/ 169). (¬5) الإيجَافُ: سرعَةُ السَّير، وقد أوجف دابته: إذا حثها. انظر النهاية (5/ 137). (¬6) قال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه فقه السيرة ص 193: اتَّفق الأئمة =

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (¬1). فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ خَاصَّةً لِفَقْرِهِمْ، وَبِذَلِكَ أَغْنَى اللَّهُ تَعَالَى المُهَاجِرِينَ، وَأَزَالَ فَاقتهُمْ (¬2)، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنْفِقُ مِمَّا بَقِيَ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ في السِّلَاحِ وَالكُرَاعِ (¬3) عُدَّةً في سَبِيلِ اللَّهِ (¬4). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّا لَمْ يُوجِفِ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ في السِّلَاحِ وَالكُرَاعِ عُدَّةً في سَبِيلِ اللَّهِ (¬5). ¬

_ = على أن ما غنمه المسلمون من أعدائهم بدون قِتَال، (وهو الفَيْءُ) يعود النظر والتصرُّف فيه إلى ما يراه الإِمام من المصلحة، وأنه يجب عليه تقسِيمُه بين الجيش كما تقسم عليهم الغنائم التي غَنِمُوها بعد قتال وحرب، مسَتِدِّلين على ذلك بِسِيَاسَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تقسيم فيءِ بني النضير، وقد نَزَل القرآن مُصَوِّبًا لذلك. (¬1) سورة الحشر آية (6). (¬2) الفاقَةُ: الحاجة والفقر. انظر النهاية (3/ 432). (¬3) الكُرَاع: بضم الكاف هي: الخيل. انظر النهاية (4/ 143). (¬4) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 278). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب المجن ومن يترس بترس صاحبه - رقم الحديث (2904) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير -=

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ: أَيْ يَعْزِلُ لَهُمْ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُنْفِقُهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ في وُجُوهِ الخَيْرِ، فَلَا تَتِمُّ عَلَيْهِ السَّنَةُ، وَلِهَذَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عَلَى شَعِيرٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ (¬1)، وَلَمْ يَشْبَعْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا (¬2)، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِكَثْرَةِ جُوعِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجُوعِ عِيَالِهِ (¬3). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّخْلَاتِ، حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدّ عَلَيهِم (¬4). ¬

_ = باب حكم الفيء - رقم الحديث (1757) (48) - وأخرج الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4352). (¬1) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما قيل في درع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2916) عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: توفي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير. (¬2) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الرقائق - باب كيف كان عيش النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه - رقم الحديث (6454) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - رقم الحديث (2970) (21) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: ما شبع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أيام تباعًا من خبز بُر، حتى مضى لسبيله. (¬3) انظر كلام الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح صحيح مسلم (12/ 61). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير - رقم الحديث (4030) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم - رقم الحديث (1771) (71) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13291).

* نزول سورة الحشر بكاملها

* نُزُولُ سُورَةِ الحَشْرِ بِكَامِلِهَا: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في أَمْرِ بَنِي النَّضِيرِ سُورَةَ الحَشْرِ بِأَسْرِهَا، يَذْكُرُ فِيهَا مَا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نِقْمَتِهِ، وَمَا سَلَّطَ عَلَيْهِمْ بِهِ رَسُوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَا عَمِلَ بِهِ فِيهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حُكْمَ الفَيْءِ، وَأَّنَّهُ حَكَمَ بِأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَلَّكَهَا لَهُ، فَوَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيْثُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الفَيْءَ، وَأَنَّهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ عَلَى مِنْوَالِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ، وَلذِي القُرْبَى، وَاليَتَامَى، وَالمَسَاكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءَ مِنْكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المُنَافِقِينَ ذَامًّا لَهُمْ، الذِينَ مَالُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ في البَاطِنِ، وَوَعَدُوهُمْ النَّصْرَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، بَلْ خَذَلُوهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ، وَغَرُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جُبْنِهِمْ، وَقِلَّةِ عَمَلِهِمْ، وَخِفَّةِ عَقْلِهِمْ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا قَبِيحًا شَنِيعًا بِالشَّيْطَانِ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُورَةُ الحَشْرِ، قَالَ: نَزَلَتْ في بَنِي النَّضِيرِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (4/ 460). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الحشر - رقم الحديث (4882).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قُلْ: سُورَةَ النَّضِيرِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَأَنَّهُ كَرِهَ تَسْمِيَتَهَا بِالحَشْرِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ المُرَادَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإِنَّمَا المُرَادُ هُنَا إِخْرَاجُ بَنِي النَّضِيرِ (¬2). وَبِإِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ أَرَاحَ اللَّهُ المُسْلِمِينَ مِنْ شَوْكَةٍ ثَانِيَةٍ كَانَتْ تَقُضُّ مَضَاجِعَهُمْ، وَلَوْ أَنَّ هَؤُلَاءَ الأَشْرَارَ نَجَحُوا في مَكِيدَتِهِمْ؛ لَقَضَوْا عَلَى الإِسْلَامِ في مَهْدهِ، وَأَيَّةُ خَسَارَةٍ كَانَ سَيُمْنَى بِهَا العَالَمُ لَوْ لَمْ يَسْتَضِئْ بِنُورِ الإِسْلَامِ وَتَعَالِيمِهِ؟ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالِغُ أَمْرِهِ لَا مَحَالَةَ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الحشر- رقم الحديث (4883). (¬2) انظر فتح الباري (9/ 618). (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2/ 401).

غزوة بدر الآخرة

غَزْوَةُ بَدْرٍ الآخِرَةُ (¬1) وَفِي شَعْبَانَ (¬2) مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَهُ أَلْفٌ وَخُمْسُمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى بَدْرٍ لِمَوْعِدِهِ الذِي وَاعَدَ بِهِ أَبَا سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ: عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3)، وَكَانَتْ بَدْرٌ مُجْتَمَعًا يَجْتَمعُ فِيهِ العَرَبُ، وَسُوقًا مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَخَرَجَ الصَّحَابَةُ بِبَضَائِعَ لَهُمْ وَتجَارَاتٍ. * خُرُوجُ أَبِي سُفْيَانَ بِجَيْشِهِ: أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَقَدْ خَرَجَ في أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَعَهُمْ خَمْسِينَ ¬

_ (¬1) وتُسَمَّى غزوةَ بدرٍ الصغرى لعدم وقوع حَرْبٍ فيها، وتُسمى أيضًا بدر المَوْعِد للمُوَاعدة عليها مع أبي سفيان يوم أُحد. انظر شرح المواهب (2/ 535). (¬2) هذا الذي ذكره ابن إسحاق في السيرة (3/ 231) - وذكر ابن سعد في طبقاته (2/ 279): أنها كانت في ذي القعدة. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 471): والصحيح قول ابن إسحاق أن ذلك في شعبان من هذه السنة الرابعة للهجرة، ووافق قَوْل موسى بن عقبة أنها في شعبان، لكن قال في السنة الثالثة للهجرة، وهذا وَهْم، فإن هذه تواعدوا إليها من أُحد، وكانت أُحد في شوال سنة ثلاث. (¬3) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 231) - وعند ابن سعد في طبقاته (2/ 279): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- استخلف علي المدينة عبد اللَّه بن رَوَاحة -رضي اللَّه عنه-، فاللَّه أعلم.

فَرَسًا، وَكَانَ كَارِهًا لِلْخُرُوجِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ (¬1)، وَقِيلَ: عُسْفَانَ (¬2)، ثُمَّ أَلقى اللَّهُ تَعَالَى في قَلْبِهِ الرُّعْبَ، فَرَأَى أَنْ يَرْجعَ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ هَذَا العَامَ عَامُ جَدْبٍ (¬3)، وَلَا يُصْلِحُكُمْ إِلَّا عَامٌ خِصْبٌ (¬4)، تَرْعَوْنَ فِيهِ الشَّجَرَ، وَتَشْرَبُونَ فِيهِ اللَّبَنَ، وَإِنِّي رَاجعٌ فَارْجِعُوا، فَرَجَعَ النَّاسُ. ثُمَّ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ نُعَيْمَ بنَ مَسْعُودٍ الأَشْجَعِيَّ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي قَدْ وَاعَدْتُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَنْ نَلْتَقِي بِبَدْرٍ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ الوَقْتُ، وَهَذَا عَامُ جَدْبٍ، وَإِنَّمَا يُصْلِحُنَا عَامٌ خَصْبٌ، وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَخْرُجَ فَيَجْتَرِئَ عَلَيْنَا، وَقَدْ جَعَلْتُ لَكَ عِشْرِينَ بَعِيرًا عَلَى أَنْ تَقْدُمَ المَدِينَةَ فتخَذِّلَ (¬5) أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنِ الخُرُوجِ لِبَدْرٍ، فَوَافَقَ نُعَيْمُ بنُ مَسْعُودٍ عَلَى ذَلِكَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ، فَوَجَدَ النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ، فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا بِرَأْيٍ، أَلَمْ يَخْرُجْ مُحَمَّدٌ في نَفْسِهِ، أَلَمْ يَقْتُلْ أَصْحَابَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ بِجَمْعِ أَبِي سُفْيَانَ لَهُمْ، وَمَا مَعَهُ مِنَ العُدَّةِ وَالسِّلَاحِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرُجَنَّ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعِيَ أَحَدٌ". ¬

_ (¬1) مَرُّ الظهْرَان: هو وادٍ بين مكة وعُسفان. انظر النهاية (3/ 152). (¬2) عُسْفَان: هي قرية جامعة بين مكة والمدينة. انظر النهاية (3/ 214). (¬3) الجَدْب: القَحْط. انظر النهاية (1/ 235). (¬4) الخِصْب: ضد الجَدْب. انظر النهاية (2/ 35). (¬5) التَّخْذِيلُ: حَمْلُ الرجل علي خِذْلان صَاحِبه، وتثبيطه عن نُصْرته. انظر لسان العرب (4/ 45).

* التحقيق في نزول آية

فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابهُ إِلَى بَدْرٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ يَنْتَظِرُ أَبَا سُفْيَانَ لِمِيعَادِهِ، فَأَتَاهُ مَخْشِيُّ بنُ عَمْرٍو الضَّمْرِيُّ -وَهُوَ الذِي كَانَ وَادَعَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى بَنِي ضَمْرَةَ في غَزْوَةِ وَدَّانٍ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ إِنَّ كُنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا أنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَمَا الذِي جَاءَ بِكَ إِلَى هَذَا المَوْسِمِ؟ أَجِئْتَ لِلِقَاءِ قُرَيْشٍ عَلَى هَذَا المَاءَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، يَا أَخَا بَنِي ضَمْرَةَ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ رَدَدْنَا إِلَيْكَ مَا كَانَ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ، ثُمَّ جَالَدْنَاكَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وبَيْنَكَ". فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، مَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْكَ مِنْ حَاجَةٍ. وبَاعَ المُسْلِمُونَ في تِلْكَ المُدَّةِ مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ، فَرَبِحُوا، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . كَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: مَوْعِدُكُمْ مَوْسِمُ بَدْرٍ حَيْثُ قَتَلْتُمْ أَصْحَابَنَا، فَأَمَّا الجَبَانُ، فَرَجَعَ، وَأَمَّا الشُّجَاعُ، فَأَخَذَ أُهْبَةَ القِتَالِ وَالتِّجَارَةِ، فَلَمْ يَجِدُوا بِهِ أَحَدًا، وَتَسَوَّقُوا، فَاَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (¬1) * التَّحْقِيقُ في نُزُولِ آيَةٍ: قُلْتُ: ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الذِينَ خَرَجُوا مَعَ رَسُول ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (174) - والخبر أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة آل عمران - رقم الحديث (11017).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وإِلَى حَمْرَاءَ الأَسَدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الإِمَامُ ابنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَأَوْلَى القَوْلَيْنِ في ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الذِي قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ مِنْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، كَانَ في حَالِ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مَعَهُ فِي أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، مُنْصَرَفَهُمْ عَنْ أُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الأَسَدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا مَدَحَ الذِينَ وَصَفَهُمْ بِقَوْلهمْ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} بَعْدَ الذِي قَدْ كَانَ نَالَهُمْ مِنَ القُرُوحِ وَالكُلُومِ (¬1) بِقَوْلهِ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}، وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصِّفَةُ إِلَّا صِفَةَ مَنْ تَبعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ جَرْحَى أَصْحَابِهِ بِأُحُدٍ إِلَى حَمْرَاءَ الأَسَدِ. وَأَمَّا الذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ الصُّغْرَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ جَرِيحٌ إِلَّا جَرِيح قَدْ تَقَادَمَ انْدِمَالُ جُرْحِهِ، وَبَرِئَ كُلْمُهُ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ حَمْرَاءَ الأَسَدِ (¬3). ¬

_ (¬1) الكُلُومُ: جمع كَلْمٍ: وهو الجرح. انظر النهاية (4/ 173). (¬2) انظر كلام الإمام ابن جرير الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (3/ 523). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (2/ 169).

* رجوع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة النبوية

* رُجُوعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَقَدْ سَمِعَ النَّاسُ بِمَسِيرِهِ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا أَمْرُهُ، وَكَانَ الذِىِ أَخْبَرَ قُرَيْشًا مَعْبَدُ بنُ أَبِي مَعْبَدٍ الخُزَاعِيُّ، فَإِنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِبَدْرٍ، ثُمَّ خَرَجَ سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمُوَافَاتِهِ بَدْرًا في أَصْحَابِهِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل غزوة بدر الآخرة في: سيرة ابن هشام (3/ 231) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 279) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 384) - البداية والنهاية (4/ 469) - شرح المواهب (2/ 535).

زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أم سلمة رضي الله عنها

زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَفِي شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1) تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ المَخْزُومِيَّةُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ زَوْجِهَا وَابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الأَسَدِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَتْ وَلَدَتْ مِنْهُ: سَلَمَةَ، وَعُمَرَ، وَزَيْنَبَ، وَدُرَّةَ. وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أجُرْنِي في مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا". قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أَيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). أَخْرَجَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 210) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 287). (¬2) أخرج هذا الحديث الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب ما يُقال عند المصيبة - رقم الحديث (918) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26635) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5754).

البُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ بنِ أَبِي سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، أَرْسَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: مَرْحبًا بِرَسُولِ اللَّهِ، إِنَّ فِيَّ خِلَالًا (¬1) ثَلَاثًا: أَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الغَيْرَةِ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ (¬2)، وَأَنَا امْرَأَةٌ لَيْسَ مِنْ أَوْليَائِي أَحَدٌ شَاهِدًا يُزَوِّجُنِي. فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غَيْرَتِكِ، فَإِنِّي أَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ صِبيتِكِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَكْفِيهِمْ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ أنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدًا فَيُزَوِّجُكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدُ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدًا وَلَا غَائِبًا يَكْرَهُنِي". فَقَالَتْ لِابْنِهَا (¬3): ¬

_ (¬1) خِلَال: أي خِصَال. انظر لسان العرب (4/ 201). (¬2) مُصْبِيَة: بضم الميم وسكون الصاد وكسر الباء: أي ذات صبيان. انظر النهاية (3/ 11). (¬3) قلتُ: اختلف فيمن وَليَ زواجَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من أمِّ سلمة، فقيل عُمَرُ بن أبي سلمة، كما روى ذلك الطحاوي - رقم الحديث (5751) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26669). قال ابن القيم في زاد المعاد (1/ 105): ظنَّ بعض الرواة أنه ابنها عمر، فرواه بالمعنى، وقال: فقالت لابنها، وذَهِلَ عن تعذُّر ذلك عليه لصِغَرِ سنه، إذ كان له من العمر يومئذ ثلاث سنين؛ لأن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها في سنة أربع، ومات -صلى اللَّه عليه وسلم- ولعمر تسع سنين. قلت: ومما يؤكد صغر سن عمر بن أبي سلمة -رضي اللَّه عنه- ما أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5376) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2022) عن عمر بن أبي سلمة -رضي اللَّه عنه- قال: كنت غلامًا في حِجْرِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكانت يدي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فقال لي: "يا غُلَام! سَمِّ اللَّه، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يَلِيك". قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (10/ 654): قوله (غلامًا): أي دون البلوغ، يُقال للصبي من =

زَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فزَوَّجَهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةِ ابنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: جَاءَنِي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطِبُنِي، فَقُلْتُ: مِثْلِي لَا يُنْكَحُ، أَمَّا أَنَّا، فَلَا وَلَدَ فِيَّ، وَأَنَا غَيُورٌ ذَاتُ عِيَالٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنَا أَكبَرُ مِنْكِ، وَأَمَّا الغَيْرَةُ فيذْهِبُهَا اللَّهُ، وَأَمَّا العِيَالُ، فَإِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولهِ"، فتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يأْتِيهَا لِيَدْخُلَ بِهَا، فَإِذَا رَأَتْهُ أَخَذَتْ بِنْتَهَا زَيْنَبَ فَجَعَلَتْهَا في حِجْرِهَا (¬3) لِتُرْضِعَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيِيًّا كَرِيمًا يَسْتَحْيِي، فَيَنْصِرَفُ، فَجَاءَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه- وَأَخَذَ زَيْنَبَ، فَدَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بنِ أَبِي ¬

_ = حيثُ يُولد إلى أن يبلغ الحلم: غلام. وقيل: زوجها لرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنها سلمة بن أبي سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. قال الإمام الذهبي في السير (3/ 408): سلمة بن أبي سلمة، طال عمره، وما روى كلمة، وهو الذي زوج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمه أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وذكر الحافظ في الإصابة (3/ 126) قول ابن إسحاق: بأن سلمة بن أبي سلمة هو الذي زوج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمه أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثم قال الحافظ: وهذا أثبت من قول من قال: إن الذي زوج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من أم سلمة ابنها عمر بن أبي سلمة. (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5751) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26669) - وصحَّحه الحافظ في الإصابة (8/ 405). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب ذكر وصف تزويج المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة - رقم الحديث (4065). (¬3) الحِجْر: الحِضْن: انظر النهاية (1/ 330).

سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْتِيهَا، فَإِذَا جَاءَ أَخَذَتْ زَيْنَبُ، فَوَضَعَتْهَا في حِجْرِهَا لِتُرْضِعَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيِيًّا كَرِيمًا، يَسْتَحْيِي، فَيَرْجِعُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَفَطِنَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه- لِمَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ وَجَاءَ عَمَّارُ، وَكَانَ أَخَاهَا لِأُمِّهَا (¬1)، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَانْتَشَطَهَا (¬2) مِنْ حِجْرِهَا، وَقَالَ: دَعِي هَذِهِ المَقْبُوحَةَ (¬3) المَشْقُوقَةَ التِي آذَيْتِ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَخَلَ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ في البَيْتِ، وَيَقُولُ: "أَيْنَ زُنَابُ؟ مَا فَعَلَتْ زُنَابُ"؟ قَالَتْ: جَاءَ عَمَّارٌ، فَذَهَبَ بِهَا، قَالَ: فَبَنَى بِأَهْلِهِ (¬4). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ قَالَ: . . . فتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالَ: "إِنِّي آتِيكُمْ اللَّيْلَة"، قَالَتْ: فَأَخْرَجْتُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ كَانَتْ في جَرَّتِيْ (¬5)، وَأَخْرَجْتُ شَحْمًا، فَعَصَدْتُ (¬6) لَهُ، قَالَ: فَبَاتَ، ثُمَّ أَصْبَحَ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) في رواية ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (2949) قال: وكان عمار بن ياسر أخاها من الرضاعة. (¬2) نَشط: أي جَذَبَها ورَفَعَها إليه. انظر النهاية (5/ 49). (¬3) مَقْبُوحًا: أي مُبْعدًا. انظر النهاية (4/ 4). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26669) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب الحال التي يختلف فيها حال النساء - رقم الحديث (8877) - وصحح إسناده الحافظ في الإصابة (8/ 405). (¬5) الجَرَّة: هي إناءٌ معروفٌ من الفخار. انظر النهاية (1/ 251). (¬6) العَصِيدة: هي دقيقٌ يُلَتُّ بالسَّمْنِ ويُطبخ. انظر النهاية (3/ 222).

* نبذة عن أم سلمة رضي الله عنها

رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ أَصْبَحَ: "إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ (¬1)، وَإِنْ أُسَبِّعْ لَكِ أُسَبِّعْ لِنسَائِي" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا تَزَوَّجَهَا، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ (¬3)، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي" (¬4). * نُبْذَةٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْصُوفَةً بِالجَمَالِ البَارعِ، وَالعَقْلِ البَالِغِ، وَالرَّأْيِ الصَّائِبِ، وَإِشَارَتُهَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ تَدُلُّ عَلَى وُفُورِ عَقْلِهَا ¬

_ (¬1) أي أقمتُ عِنْدَكِ سبعةَ أيَّامٍ: فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5214) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر علي الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب علي البكر أقام عندها ثلاثًا. (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب ذكر وصف تزويج المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة - رقم الحديث (4065) - وأخرجه ابن سعد في طبقاته (8/ 291) بإسناد صحيح، كما قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (10/ 299). (¬3) قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (10/ 38): أي لا يلحقكِ هَوَانٌ ولا يضيع من حقك شيء، بل تأخذِينَهُ كاملًا. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الرضاعة - باب قدر ما تستحقه البكر والثيب - رقم الحديث (1460) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26504) - وأخرجه ابن ماجه - كتاب النكاح والطلاق - باب الإقامة علي البكر والثيب - رقم الحديث (1917).

* غيرة أزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أم سلمة رضي الله عنها

وَصَوَابِ رَأْيِهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ، وَأَشْرَفِهِنَّ نَسَبًا (¬1). * غَيْرَةُ أَزْوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ سَلَمَةَ حَزِنْتُ حُزْنًا شَدِيدًا لِمَا ذَكَرُوا لَنَا مِنْ جَمَالِهَا، قَالَتْ: فَتَلَطَّفْتُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا، فَرَأَيْتُهَا وَاللَّهِ أَضْعَافَ مَا وُصِفَتْ لِي مِنَ الحُسْنِ وَالجَمَالِ (¬2). وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ بِطَعَامٍ في صَحْفَةٍ لَهَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ، فَجَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُلْتَفَّةً بِكِسَاءٍ، وَمَعَهَا فِهْرٌ (¬3)، فَفَلَقَتِ الصَّحْفَةَ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ فِلْقَي الصَّحْفَةِ، وَقَالَ: "غَارَتْ أُمُّكُمْ"، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَحْفَةَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَعْطَى صَحْفَةَ أُمِّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬4). * وَفَاةُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَقَدْ عُمِّرَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى بَلَغَهَا مَقْتَلُ الحُسَيْنِ -رضي اللَّه عنه-، الشَّهِيدِ، فَوَجَمَتْ (¬5) لِذَلِكَ، وَغُشِيَ عَلَيْهَا، وحَزِنَتْ عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَلَمْ تَلْبَثْ بَعْدَهُ ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 202). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 291). (¬3) الفِهْر: بكسر الفاء هو الحَجَرُ مِلءُ الكَفِّ. انظر النهاية (3/ 433). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3354). (¬5) الوَاجِمُ: الذي أسكته الهَمُّ، وعَلَتْهُ الكآبَةُ، وقيل الوجوم: الحزن. انظر النهاية (5/ 138).

إِلَّا يَسِيرًا، حَتَّى مَاتَتْ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ في خِلَافَةِ يَزِيدَ بنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ آخِرَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَفَاةً (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 202 - 210) - الإصابة (8/ 407).

السنة الخامسة للهجرة

السَّنَةُ الخَامِسَةُ لِلْهِجْرَةِ غَزْوَةُ دُومَةِ الجَنْدَلِ (¬1) كَانَتْ في رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الخَامِسَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَسَبَبُهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَلَغَهُ أَنَّ بِدُومَةِ الجَنْدَلِ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ القَبَائِلِ، وَأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ، وَيَنْهَبُونَ مَا مَعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ المَدِينَةِ لِمُهَاجَمَتِهَا. فَنَدَبَ (¬2) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى المَدِينَةِ سِبَاعَ بنَ عُرْفُطَةَ الغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَلْفٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ، وَيَكْمُنُونَ (¬3) النَّهَارَ، وَمَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَلِيلٌ لَهُ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ: (مَذْكُورٌ)، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ دُومَةِ الجَنْدَلِ، هَجَمُوا عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرُعَاتِهِمْ، فَأَصَابُوا مَا أَصَابُوا مِنْهُمْ، وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ في كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمَّا عَلِمَ أَهْلُ دُومَةِ الجَنْدَلِ تَفَرَّقُوا، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَاحَتِهِمْ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا وَبَثَّ السَّرَايَا وَفَرَقَهَا، فَرَجَعَتْ وَلَمْ تُصِبْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَأُخِذَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) دُومَةُ الجَنْدَلِ: بضم الدال موضع على طرَف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. انظر الطبقات لابن سعد (2/ 280) - معجم البلدان (4/ 325). (¬2) يُقالُ: نَدَبْتُهُ فانتَدبَ: أي بعثته ودعوته فأجاب. انظر النهاية (5/ 29). (¬3) كَمَنَ: استَتَرَ واستَخْفَى. انظر النهاية (4/ 174).

* مميزات هذه الغزوة

عَنْهُمْ، فَقَالَ: هَرَبُوا حِينَ سَمِعُوا أَنَّكَ أَخَذْتَ نَعَمَهُمْ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا (¬1). * مُمَيِّزَاتُ هَذِهِ الغَزْوَةِ: وَقَدِ امْتَازَتْ هَذِهِ الغَزْوَةُ بِأَمْرَيْنِ: 1 - أَنَّهَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ المَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ، إِذْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ مَسِيرَةُ خَمْسِ لَيَالٍ، وَقَدْ كَانَتْ بِمَثَابَةِ إِعْلَانٍ عَنْ دَعْوَةِ الإِسْلَامِ بَيْنَ سُكَّانِ البَوَادِي الشَّمَالِيَّةِ وَأَطْرَافِ الشَّامِ الجَنُوبِيَّةِ، وَأَحَسُّوا بِقُوَّةِ الإِسْلَامِ، كَمَا كَانَ إِرْهَابًا لِقَيْصَرَ وَجُنْدِهِ. 2 - أَنَّ سَيْرَ الجَيْشِ الإِسْلَامِيِّ هَذِهِ المَسَافَاتِ الطَّوِيلَةِ قَدْ كَانَ فِيهِ تَدْرِيبٌ لَهُ عَلَى السَّيْرِ إِلَى الجِهَاتِ النَّائِيَةِ، وَفِي أَرْضٍ لَمْ يَعْهَدُوهَا مِنْ قَبْلُ، وَلذَلِكَ تُعْتَبَرُ هَذِهِ الغَزْوَةُ فَاتِحَةَ سَيْرِ الجُيُوشِ الإِسْلَامِيَّةِ لِلْفُتُوحَاتِ العَظِيمَةِ في بِلَادِ آسِيَا وَإِفْرِيقِيَا فِيمَا بَعْدُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل هذه الغزوة في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 280) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 389) - سيرة ابن هشام (3/ 236) - شرح المواهب (2/ 539). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (2/ 251) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

قدوم وفد مزينة

قُدُومُ وَفْدِ مُزَيْنَةَ وَفِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الخَامِسَةِ لِلْهِجْرَةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعُمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فِيهِمُ: النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ، وَقُرَّةُ بنُ إِيَاسٍ، وَبِلَالُ بنُ الحَارِثِ، فَبَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الإِسْلَامِ، وَجَعَلَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الهِجْرَةَ في دَارِهِمْ، وَقَالَ: "أَنْتُمْ مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُمْ، فَارْجِعُوا إِلَى أَمْوَالِكُمْ"، فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ عَنِ النُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّنٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَرْبَعِ مِئَةٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَمْرِهِ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا طَعَامٌ نتزَوَّدُهُ! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: "زَوِّدْهُمْ". فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَا عِنْدِي إِلَّا فَاضِلَةٌ مِنْ تَمْرٍ، وَمَا أُرَاهَا تُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "انْطَلِقْ فَزَوِّدْهُمْ"، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى عِلِّيَّةٍ (¬2) لَهُ، فَإِذَا فِيهَا تَمْرٌ مِثْلَ البَكْرِ (¬3) الأَوْرَقِ (¬4)، فَقَالَ: خُذُوا، فَأَخَذَ القَوْمُ حَاجَتَهُمْ، قَالَ: ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 141). (¬2) العِلِّيَّة: هي بكسر العين وضمها: الغرفة. انظر النهاية (3/ 267). (¬3) البَكرُ: بكسر الباء: الفَتِيُّ من الإبل. انظر النهاية (1/ 147). (¬4) الأوْرَقُ: الأسْمَرُ. انظر النهاية (5/ 153).

وَكُنْتُ أَنَا في آخِرِ القَوْمِ، قَالَ: فَالْتَفَتُّ، وَمَا أَفْقِدُ مَوْضِعَ تَمْرَةٍ، وَقَدِ احْتَمَلَ مِنْهُ أَرْبَعُ مِئَةِ رَجُلٍ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ قُرَّةَ بنِ إيَاسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رَهْطٍ مِنْ مُزَيْنَةَ، فَبَايَعْنَاهُ (¬2). وَأَقْطَعَ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِلَالَ بنَ الحَارِثِ أَرْضًا فِيهَا جَبَلٌ وَمَعْدِنٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاودَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنْ كَثِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ عَوْفٍ المُزَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقْطَعَ بِلَالَ بنَ الحَارِثِ المُزَنِيِّ مَعَادِنَ (¬4) القَبَلِيَّةِ (¬5): جَلْسِيَّهَا (¬6) وَغَوْرِيَّهَا (¬7)، وَحَيْثُ يَصْلُحُ لِلزَّرْعِ مِنْ قُدْسٍ (¬8)، وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ، وَكتَبَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَعْطَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِلَالَ بنَ الحَارِثِ المُزَنيَّ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23746). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15581) - وأبو داود في سننه - كتاب اللباس - باب في حل الإزارر - رقم الحديث (4082) - وأخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب اللباس - باب حل الإزرار - رقم الحديث (3578). (¬3) أقطَعَ: أي أعطى. انظر النهاية (4/ 73). (¬4) المعادِنُ: هي المواضع التي تُستخرج منها جَوَاهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك. انظر النهاية (3/ 174). (¬5) القَبَلية: هو موضع بين منطقة نخلة والمدينة. انظر النهاية (4/ 9). (¬6) الجَلْس: كل مرتفع من الأرض. انظر النهاية (1/ 276). (¬7) الغَوْر: ما انخفض من الأرض. انظر النهاية (3/ 352). (¬8) قُدْس: بضم القاف وسكون الدال: جبل معروف. انظر النهاية (4/ 22).

* حديث في فضل مزينة

أَعْطَاهُ مَعَادِنَ القَبَلِيَّةِ: جَلْسِيَّهَا وَغَوْرِيَّهَا، وَحَيْثُ يَصْلُحُ لِلزَّرْع مِنْ قُدْسٍ، وَلَمْ يُعْطِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ" (¬1). * حَدِيثٌ في فَضْلِ مُزَيْنَةَ: جَاءَ في فَضْلِ مُزَيْنَةَ مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغِفَارٌ وَأَسْلَمُ ومُزَيْنَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَوْ قَالَ: جُهَيْنَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ مُزَيْنةَ، خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أَسَدٍ وَطَيءٍ وَغَطفَانَ" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2785) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج - باب إقطاع الأرضين - رقم الحديث (3062) - (3063). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة - رقم الحديث (2521) (191) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8826).

زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زينب بنت جحش رضي الله عنها، ونزول الحجاب

زَوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَنُزُولُ الحِجَابِ (¬1) هِيَ السَّيِّدَةُ الجَلِيلَةُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشِ بنِ رِئَابٍ الأَسَدِيَّةُ أُخْتُ الشَّهِيدِ المُجْدَّعِ في اللَّهِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأُمُّهَا السَّيِّدَةُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمَّةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَدِيمَةَ الإِسْلَامِ، وَمِمَّنْ هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ، وَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * الحِكْمَةُ مِنْ هَذَا الزَّوَاجِ: وَكَانَ المُرَادُ مِنْ هَذَا الزَّوَاجِ: إِبْطَالُ حُرْمَةِ زَوْجَةِ الِابْنِ المُتَبَنَّى، وَالقَضَاءُ عَلَى عَنْجَهِيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ بِالِاعْتِزَازِ بِالأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ (¬2). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ زَوَّجَهَا مِنْ حِبِّهِ وَمَوْلَاهُ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، الذِي كَانَ يُدْعَى قَبْلَ إِبْطَالِ التَّبَنِّي بِزَيْدِ بنِ مُحَمَّدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ إِلَّا زَيْدَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 196): الحجابُ كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعةٍ، وأما قول الواقدي: إن الحجاب كان في ذي القعدة سنة خمس، فمردُودٌ، وقد جزم خليفة وأبو عبيدة وغير واحد بأنه كان سنة ثلاث من الهجرة. (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 294) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

بنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نزلَ في القُرْآنُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬1). فَلَمَّا خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- ظَنَّتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِنَفْسِهِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا عَلِمَتْ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِزَيْدٍ أَبَتْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ لِزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتَنْكَفَتْ (¬2) مِنْهُ، وَقَالَتْ: أَنِا خَيْرٌ مِنْهُ حَسَبًا، وَكَانَتِ امْرَأَةً فِيهَا حِدَّةٌ (¬3)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬4). فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَدْ رَضِيتَهُ لِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْكَحًا (¬5)؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَتْ: إِذَنْ لَا أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَدْ أَنْكَحْتُهُ نَفْسِي (¬6). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (5) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} - رقم الحديث (4782) - وأخرجه مسلم - كتاب الفضائل - باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رقم الحديث (2425). (¬2) اسْتَنْكَفَ عن الأمر: امتَنَعَ. انظر لسان العرب (14/ 286). ومنه قوله تعالى في سورة النساء آية (172): {. . وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}. (¬3) الحِدَّة: ما يعتري الإنسان من الغَضَب. انظر لسان العرب (3/ 80). (¬4) سورة الأحزاب آية (36) - والخبر أورده الإمام ابن جرير الطبري رحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (10/ 301). (¬5) مَنكحًا: أي زوجًا. انظر النهاية (5/ 100). (¬6) انظر تفسير الطبري (10/ 301).

* مكثت زينب رضي الله عنه عند زيد -رضي الله عنه- سنة

* مَكَثَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- سَنَةً: فَمَكَثَتْ زَيْنَبُ عِنْدَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ يَشْكُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِيهِ بِلِسَانِهَا، وتَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ بِشَرَفِهَا. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَهَمَّ بَطَلَاقِهَا، فَاسْتَأْمَرَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ" (¬1). فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُوصِي زَيْدًا بِإِمْسَاكِهَا، ثُمَّ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُحَمِّلَ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ ذَلِكَ -فِيمَا يَحْمِلُ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ- مُؤْنَةَ إِزَالَةِ آثَارِ نِظَامِ التَّبَنِّي، فَيَتَزَوَّجَ مِنْ مُطَلَّقَةِ مُتَبَنَّاهُ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، ويُوَاجِهَ المُجْتَمَعَ بِهَذَا العَمَلِ، الذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُوَاجِهَ المُجْتَمَعَ بِهِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ إِبْطَالِ عَادَةِ التَّبَنِّي في ذَاتِهَا (¬2). فَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَحْيِي أَنْ يَأْمُرَ زَيْدًا بِطَلَاقِهَا، وَكَانَ يَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَعِيبُوا عَلَيْهِ، وَيَقُولُوا: تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ بِالتَّبَنِّي (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوحيد - باب وكان "عرشه علي الماء" - رقم الحديث (7420) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الأحزاب - رقم الحديث (3491). (¬2) انظر في ظلال القرآن (5/ 2868). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 479): أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة - أي قصة إبطال التبني - من طريق السدي فساقها سياقًا واضحًا حسنًا.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ (¬1) وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (¬2) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ (¬3) مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ (¬4) وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (¬5). أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كَانَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَاتِمًا شَيْئًا لَكتَمَ هَذِهِ الآيَةَ (¬6). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الوَحْي، لَكَتَمَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (6/ 424): أنعم اللَّه عليه بالإسلام ومُتَابعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (6/ 424): أي بالعِتْقِ من الرِّقِّ، وكان سَيِّدًا كبير الشأن جليلَ القَدْر، حبيبًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُقال له: الحِبُّ، ويُقال لابنه أسامة: الحِبُّ ابن الحِبِّ. أخرج الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25898) - بسند حسن عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: ما بعث رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن حارثة في جيش قَطُّ إلا أَمَّره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 479): والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو إخبار اللَّه تَعَالَى إياه أنها ستصِيرُ زوجته. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 479): الذي كان يحمله علي إخفاءِ ذلك خشيةَ قولِ الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد اللَّه تَعَالَى إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبَنِّي بأمر لا أبلغ في الإبطالِ منه، وهو تزوج امرأةِ الذي يُدعى ابنًا، ووقوع ذلك من إمَامِ المسلمين؛ ليكون أدْعَى لقَبُولهم. (¬5) سورة الأحزاب آية (37). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوحيد - باب "وكان عرشه علي الماء" - رقم الحديث (7420).

* زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من زينب رضي الله عنها

هَذِهِ الآيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (¬1). * زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّةُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِزَيْدٍ: "اذْهَبْ فَاذْكُرْهَا عَلَيَّ" (¬2)، قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهَا، وَهِيَ تُخَمِّرُ عَجِينَهَا (¬3)، فَلَمَّا رَأَيْتُهَا عَظُمَتْ في صَدْرِي حَتَّى مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْظُرَ إِلَيْهَا أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرَهَا، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي (¬4)، وَنَكَصْتُ (¬5) عَلَى عَقِبِي، فَقُلْتُ: يَا زَيْنَبُ! أَبْشِرِي، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَذْكُرُكِ، قَالَتْ: مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدِهَا (¬6)، وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب معنى قول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} - رقم الحديث (177) (288) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الأحزاب - رقم الحديث (3208). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 194): أي فاخطبها لي من نفسها. (¬3) تخمِيرُ العَجِين: هو ما يُجعل في العَجِين من الخميرة. انظر لسان العرب (4/ 212). أي أنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كانت تُعَالِجُ وتصنَعُ عَجِينَها. (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 194): معناه أنه هَابَهَا واستَجَلَّهَا من أجل إرادة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها، فعامَلَهَا معامَلَةَ من تَزَوَّجها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الإعظَامِ، والإجْلَالِ، والمَهَابَةِ. (¬5) النُّكُوص: الرجوع إلى وَرَاء، وهو القَهْقَرَى. انظر النهاية (5/ 101). (¬6) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 195): أي موضع صلاتها من بيتها، وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هَمَّ بأمرٍ سَواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا.

* روايات واهية

وَطَرًا (¬1) زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (¬2). وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ (¬3). فَكَانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ (¬4). * رِوَايَاتٌ وَاهِيَةٌ: قُلْتُ: وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} مِنْ أَقَاوِيلَ مُعْتَمِدِينَ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (¬5) مِنْ طَرِيقِ بِشْرٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قتَادَةَ. . .، وَمِنْ طَرِيقِ: يُونُسَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ يَزِيدَ. . .، وَابْنِ سَعْيدٍ في طَبَقَاتِهِ (¬6)، وَالحَاكِمُ في ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسير (6/ 425): الوَطَرُ: هو الحاجَةُ والأربُ، أي: لما فَرَغ منها، وفارقها، زوَّجناكها، وكان الذي وَلِيَ تزويجها منه هو اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، بمعنى: أنه أوحي إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يدخل عليها بلا وَلِيٍّ ولا مهرٍ ولا عقدٍ ولا شُهُودٍ من البشر. (¬2) سورة الأحزاب آية (37). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب زواج زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (1428) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13025). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوحيد - باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} - رقم الحديث (7420) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13361). (¬5) انظر تفسير الطبري (10/ 302). (¬6) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 295).

* الوليمة

المُسْتَدْرَكِ (¬1)، كِلَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ الوَاقِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَامِرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ يَحْيى بنِ حِبَّانَ. . . فَقَالُوا: إِنَّ مَا أَخْفَاهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبْدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ وُقُوعُ زَيْنَبَ في قَلْبِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَحَبَّتِهِ لَهَا، وَهِيَ تَحْتَ زَيْدٍ، وَأَنَّهَا سَمِعَتْهُ يَقُولُ: "سُبْحَانَ اللَّهِ مُصَرِّفِ القُلُوبِ"، وَهِيَ أَسَانيدٌ مُنْقَطِعَة، وَالثَّالِثُ مِنْهَا ضَعِيف جِدًّا، فَالوَاقِدِيُّ مَتْرُوكٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ عَامِرٍ الأَسْلَمِيُّ ضَعِيفٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ضَعْفِهَا جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ مِنْ أَئِمَّةِ الحَدِيثِ وَالفِقْهِ، كَالحَافِظِ ابْنِ حَجَرَ في فَتْحِ البَارِي (¬2)، وَابْنُ العَرَبِيِّ في أَحْكَامِ القُرْآنِ، وَابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ (¬3)، وَالآلُوسِيُّ في تَفْسِيرِهِ (¬4). * الوَلِيِمَةُ (¬5): وَأَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ بَنَى (¬6) بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ¬

_ (¬1) انظر مستدرك الحاكم - كتاب معرفة الصحابة - باب نكاح الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بزينب بنت جحش - رقم الحديث (6845). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 479): وردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطبري ونقلها كثير من المفسرين لا ينبغي التشاغل بها. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (6/ 424): ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم هاهنا آثارًا عن بعض السلف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أحبَبْنَا أن نضْرِبَ عنها صَفْحًا لعدم صحتها، فلا نُورِدُها. وقال في البداية والنهاية (4/ 532): وقد تكلم كثيرٌ من السلف هاهنا بآثار غَرِيبة، وبعضها فيه نظر تركناها. (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 224) - حاشية رقم (1) - والسلسلة الضعيفة - رقم الحديث (6848). (¬5) الوَليمَة: هي الطعام الذي يُصنَعُ عند العُرْسِ. انظر النهاية (5/ 196). (¬6) البِنَاء: الدخول بالزوجة. انظر النهاية (1/ 156).

بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: مَا أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَكْثَرَ أَوْ أَفْضَلَ مِمَّا أَوْلَمَ عَلَى زَيْنَبَ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: أَوْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ بَنَى بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، فَأَشْبَعَ النَّاسَ خُبْزًا وَلَحْمًا (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: بُنِي عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، فَأُرْسِلْتُ عَلَى الطَّعَامِ دَاعِيًا، فَيَجِيءُ قَوْمٌ، فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ، فَدَعَوْتُ حَتَّى مَا أَجِدُ أَحَدًا أَدْعُو (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، قَالَ: فَصَنَعَتْ أُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا (¬4) فَجَعَلَتْهُ في تَوْرٍ (¬5)، فَقَالَتْ: يَا أَنَسُ! اذْهَبْ بِهَذَا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهَذَا إِلَيْكَ أُمِّي، وَهِيَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب زواج زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (1428) (91) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12759). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب - رقم الحديث (4794). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب - رقم الحديث (4793). (¬4) الحيس: هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن. انظر النهاية (1/ 449). (¬5) التَّوْرُ: هو إناءٌ معروف. انظر النهاية (1/ 194).

* نزول الحجاب

تُقْرئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيل يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي تُقْرِئُكَ السَّلَامَ، وَتَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَكَ مِنَّا قَلِيل يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيتَ"، وَسَمَّى رِجَالًا، قَالَ: فَدَعَوْتُ مَنْ سَمَّى وَمَنْ لَقِيتُ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانُوا زُهَاءَ (¬1) ثَلَاثمائَة، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَنسُ! هَات التَّوْرَ"، قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتِ الصُّفَّةُ وَالحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لِيَتَحَلَّقْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ"، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ، فَقَالَ لِي: "يَا أَنَسُ! ارْفَعْ"، قَالَ: فَرَفَعْتُ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْتُ كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْتُ (¬2). * نُزُولُ الحِجَابِ: فَلَمَّا طَعِمَ النَّاسُ جَلَسَ طَوَائِفُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُونَ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ، وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إِلَى الحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْرُجُ، ثُمَّ يَرْجعُ، وَهُمْ قُعُودٌ يَتَحَدَّثُونَ (¬3). ¬

_ (¬1) زُهَاء: أي قَدر. انظر النهاية (2/ 291). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب زواج زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّه عَنْهَا - رقم الحديث (1428) (94) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12669). (¬3) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب زواج زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (1428) (94) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12669).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: . . . فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، وَإِذَا هُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ، فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ، قَامَ مَنْ قَامَ وَقَعَدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: . . . فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَانْطَلَقَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ"، فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، كَيْفَ وَجَدْتَ أَهْلَكَ، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، فَتَقَرَّى (¬2) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُجَرَ نِسَائِهِ كُلَّهُنَّ، يَقُولُ لَهُنَّ كَمَا قَالَ لِعَائِشَةَ، وَيَقُلْنَ لَهُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَيْتِهِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ جَرَى بِهِمَا الحَدِيثُ، فَلَمَّا رَآهُمَا رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ، -وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَدِيدَ الحَيَاءِ-، فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَعَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا مُسْرِعَيْنِ، فَمَا أَدْرِي أَنَا أَخْبَرتُهُ بِخُرُوجِهِمَا أَمْ أُخْبِرَ، فَرَجَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى دَخَلَ البَيْتَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ مَعَهُ (¬3) ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب - رقم الحديث (4791). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 487): فتقَرّى: بفتح القاف وتشديد الراء: أي تتبَّع الحجرات واحدةً واحدةً. وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1428) (89) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13025) قال أنس: فجعل رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتتبَّع حُجَرَ نِسَائه، يسَلِّم عليهن. (¬3) كان عُمْرُ أنس -رضي اللَّه عنه- أربعَ عشرَةَ سَنَة؛ لأن نزول الحجاب في ذي القعدة من السنة الرابعة للهجرة كما قَالَ الحَافِظ في الفَتْحِ (8/ 196). وأخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5166) عن ابن شهاب قال: أخبرني أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنه كان ابن عشر سنين مقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المدينة.

* تمني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نزول الحجاب

فَأَلْقَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الحِجَابِ، وَهِيَ قَوْلُه تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ (¬1) إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (¬2). * تَمَنِّي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- نُزُولَ الحِجَابِ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- بِحَسَاسِيَّتِهِ المُرْهَفَةِ كَانَ يَقْتَرِحُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحِجَابَ، وَكَانَ يَتَمَنَّاهُ عَلَى رَبِّهِ، حَتَّى نَزَلَ القُرْآنُ الكَرِيمُ مُصَدِّقًا لِاقْتِرَاحِهِ مُجِيبًا لِحَسَاسِيَّتِهِ (¬3). فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْهُ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ وَالفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِالحِجَابِ؟ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (6/ 454): حَظَرَ علي المؤمنين أن يدخلوا منازل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بغير إذْنٍ، كما كانوا قبل ذلك يصنَعُونَ في بُيُوتِهم في الجاهلية وابتداءِ الإسلام، حتى غارَ اللَّه تَعَالَى لهذ الأمَّة، فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تَعَالَى هذه الأمة، ولهذا قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إيَّاكم والدخول على النساء". أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5232) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2172). (¬2) سورة الأحزاب آية (53). وأخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب - رقم الحديث (4793) (4794) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13025). (¬3) انظر في ظلال القرآن (5/ 2877) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الحِجَابِ (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى المَنَاصِعِ (¬2) -وَهُوَ صَعِيدٌ (¬3) أفيحُ (¬4) - فَكَانَ عُمرُ -رضي اللَّه عنه- يقُولُ للنَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: احْجِبْ (¬5) نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَفْعَلُ. فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ -رضي اللَّه عنها- زَوْجُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، عِشَاءً (¬6)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب - رقم الحديث (4790) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (157). (¬2) المَنَاصِعُ: هي المواضع التي يُتخَلَّى فيها لقضاء الحاجة. انظر النهاية (5/ 56). (¬3) الصَّعِيدُ: وجهُ الأرض. انظر جامع الأصول (2/ 323). (¬4) أفْيَحُ: كل موضعٍ وَاسع. انظر النهاية (3/ 436). (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 335): أي امنعهُنَّ من الخروج من بيوتهن، بدليل أن عمر -رضي اللَّه عنه- بعد نزول آية الحجاب قال لسودة: ألا قد عَرَفْنَاكِ يا سَوْدَة. ويحتمل أن يكون أراد أوَّلًا الأمر بسَتْرِ وجوهِهِنَّ، فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضًا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التَّسَتُّرِ فلم يجب لأجل الضرورة، وهذا أظهَرُ الاحتمالين. (¬6) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4795) - ومسلم - رقم الحديث (2170) (17): قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: خرَجَتْ سودَةُ بعدَمَا ضُرِبَ الحِجَاب لحاجتها. قال الكرماني فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (9/ 488): وقع هنا أنه كان بعدما ضُرِبَ الحجاب، وتقدم في الوُضُوء - من صحيح البخاري - أنه كان قبل الحجاب، فالجواب: لعله وقع مرَّتين. وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 488): بل المراد بالحِجَاب الأول غير الحجاب الثاني، والحاصل أن عمر -رضي اللَّه عنه- وقع في قلبه نَفْرَة من اطلاع الأجانب علي الحَرِيمِ النبوي، حتى =

وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فنَادَاهَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَلَا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الحِجَابِ (¬1). وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى، وَالبُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُنْتُ آكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيْسًا (¬2) في قَعْبٍ (¬3)، فَمَرَّ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَدَعَاهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَكَلَ، فَأَصَابَتْ إِصْبَعُهُ إِصْبَعِي، فَقَالَ: حَسِّ (¬4)، لَوْ أُطَاعَ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ، فنَزَلَ الحِجَابُ (¬5). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَيُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْلَ قِصَّةِ زَيْنَبَ، فَلِقُرْبِهِ مِنْهَا أُطْلِقَتْ نُزُولُ الحِجَابِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَعَدُّدِ الأَسْبَابِ (¬6). ¬

_ = صَرّح بقوله له -صلى اللَّه عليه وسلم-: -احجب نساءك-، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قَصَدَ بعد ذلك أن لا يُبدِينَ أشخاصهن أصلًا، ولو كنّ مُسْتَتِرَاث، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن دفعًا للمشقَّة ورفعًا للحرج. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب خروج النساء إلى البراز - رقم الحديث (146) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان - رقم الحديث (2170) (18). (¬2) الحَيْسُ: هو الطعام المُتَّخَذُ من التمر والأقِطِ والسَّمْن. انظر النهاية (1/ 449). (¬3) القَعْبُ: هو القَدَح الضخم، الغليظ. انظر لسان العرب (11/ 235). (¬4) حَسِّ: بكسر السين والتشديد: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابَهُ ما مَضَّهُ وأحرَقَهُ غَفْلَةً، كالجَمْرَةِ والضَّرْبَةِ، ونحوهما. انظر النهاية (1/ 370). (¬5) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة الأحزاب - رقم الحديث (11355) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (808). (¬6) انظر فتح الباري (9/ 488).

* فضائل زينب بنت جحش رضي الله عنها

* فَضَائِلُ زَينْبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: زَيْنَبُ أُمُّ المُؤْمِنِينَ بِنْتُ جَحْشٍ ابْنَةُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، وَكَانَتْ مِنْ سَادَةِ النِّسَاءِ، دِينًا وَوَرَعًا وَجُودًا وَمَعْرُوفًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي، أَطْوَلُكُنَّ يَدًا". قَالَتْ: فكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ أَيَّتُهُنَّ أَطْوَلُ يَدًا. قَالَتْ: فَكَانَ أَطْوَلَنَا يَدًا زَيْنَبُ (¬2)؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِيَدِهَا وَتَصَدَّقُ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الحَاكِمِ، وَالطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: . . . فَكُنَّا إِذَا اجْتَمَعْنَا فِي بَيْتِ إِحْدَانَا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَمُدُّ أَيْدِيَنَا فِي الجِدَارِ نَتَطَاوَلُ، فَلَمْ نَزَلْ نَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَكَانَتْ امْرَأَةً قَصِيرَةً، يَرْحَمُهَا اللَّهُ، وَلَمْ تَكُنْ أَطْوَلَنَا ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 212). (¬2) قلتُ: وقع في صحيح البخاري رقم الحديث (1420): بلفظ سودة بنت زمعة، وهو وَهْمٌ من بعض الرواة، كما قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 36)، والصحيح أنها زينبُ بنتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب من فضائل زينب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2452) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع - رقم الحديث (3314).

يَدًا، فَعَرَفْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَّمَا أَرَادَ بِطُولِ اليَدِ الصَّدَقَةَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةً صَنَّاعَةَ اليَدِ، تَدْبَغُ وَتَخْرِزُ (¬1)، وَتَصَدَّقُ بِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ (¬2). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: . . . أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهِيَ التِي كَانَتْ تُسَامِينِي (¬3) مِنْهُنَّ في المَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا في الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ، وَأَتْقَى للَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا (¬4) لِنَفْسِهَا في العَمَلِ الذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مَا عَدَا سَوْرَةٍ (¬5) مِنْ حَدٍّ (¬6) كَانَتْ فِيهَا، تُسْرِعُ مِنْهَا الفَيْئَةُ (¬7). ¬

_ (¬1) الحَرْزَةُ: هي خِيَار المال. انظر النهاية (1/ 353). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب كانت زينب أول لحوقًا بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6850) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (210). (¬3) قال النووي في شرح مسلم (15/ 167): أي تُعَادِلُنِي وتُضَاهِينِي في الحُظْوَة والمنزِلَةِ الرَّفيعة، مأخوذة من السُّمُوِّ وهو الارتِفَاع. (¬4) التَّبَذُّل: ترك التزين والتَّهَيُّء بالهيئَةِ الحَسَنَةِ الجَمِيلَة علي جهة التواضع. انظر النهاية (1/ 111). (¬5) قال النووي في شرح مسلم (15/ 167): السَّوْرة بفتح السين: الثَّوَرَانُ وعجَلَة الغضب. (¬6) قال النووي في شرح مسلم (15/ 167): الحَدَّة: بفتح الحاء، وفي رواية حِدَّة بكسر الحاء: هي شدة الخلق وثَوَرَانِه، ومعنى الكلام أنها كاملة الأوصاف، إلا أن فيها شدة خلق وسُرعَةُ غَضَبٍ تسرع منها. (¬7) قال النووي في شرح مسلم (15/ 167): الفَيْئَة: بفتح الحاء وهي الرجوع أي إذا وقع ذلك منها رجَعَتْ عنه سَرِيعًا ولا تُصِرُّ عليه. =

* وفاة زينب رضي الله عنها

* وَفَاةُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: وَتُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةَ عِشْرِينَ لِلْهِجْرَةِ، في خِلَافَةِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَهِيَ ابْنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أَوَّلَ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَوْتًا بَعْدَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، وَدُفِنَتْ بِالبَقِيعِ. أَخْرَجَ الإِمَامُ مَالِكٌ في المُوَطَّأِ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ رَبِيعَةَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الهُدَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَقْدُمُ النَّاسَ أَمَامَ الجَنَازَةِ في جَنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬1). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبْزَى (¬2) قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِالمَدِينَةِ، فَكَبَّرَ عَلَيْهَا أَرْبعًا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ مَنْ تَأْمُرْنَ أَنْ يُدْخِلَهَا القَبْرَ؟ ¬

_ = والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب فضل عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2442) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24575). (¬1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ - كتاب الجنائز - باب المشي أمام الجنازة - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8608). (¬2) عبد الرحمن بن أبْزَى: صحابي صغيرٌ، وكان في عهد عُمر -رضي اللَّه عنه- رجلًا، روى مسلم في صحيحه - رقم الحديث (817) عن نافع بن الحارث أنه لقي عمر -رضي اللَّه عنه- بِعُسْفان، وكان عمر -رضي اللَّه عنه- يستعمله علي مكة، فقال: من استعملت علي أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ ! . قال: إنه قارئٌ لكتاب اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وإنه عالمٌ بالفرائضِ، قال عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أما إن نبيكم -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قال: "إِنَّ اللَّه يرفَعُ بهذا الكِتَاب أقْوَامًا ويضَعُ به آخَرِين".

قَالَ: وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الذِي يَلِي ذَلِكَ، قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: انْظُرْ مَنْ كَانَ يَرَاهَا في حَيَاتِهَا، فَلْيَكُنْ هُوَ الذِي يُدْخِلُهَا القَبْرَ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: صَدَقْتُنَّ (¬1). وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَ عُمَرُ مُنَادِيًا: أَلَّا لَا يَخْرُجْ عَلَى زَيْنَبَ إِلَّا ذُو رَحِمٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! أَلَا أُرِيَكَ شَيْئًا رَأَيْتُ الحَبَشَةَ تَصْنَعُهُ بِنِسَائِهِمْ؟ فَجَعَلَتْ نَعْشًا (¬2) وَغَشِيَتْهُ ثَوْبًا. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَحْسَنَ هَذَا! وَأَسْتَرَهُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا، فنَادَى: أَنِ اخْرُجُوا عَلَى أُمِّكُمْ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (6/ 329). (¬2) النَّعْشُ: هو سَرِيرُ المَوْتى. انظر لسان العرب (14/ 202). (¬3) أخرجه ابن سعد في طبقاته (8/ 301) - وانظر سير أعلام النبلاء (2/ 213).

غزوة بني المصطلق أو المريسيع

غَزْوَةُ بَنِي المُصْطَلِقِ (¬1) أَوِ المُرَيْسِيعِ (¬2) وَكَانَتْ في شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الخَامِسَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 195): أما المُصْطَلِقُ: فهو بِضَمِّ الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المهملة وكسر اللام، وهو لقبٌ، واسمه جَذِيْمَةُ بن سعدِ بن عُمَر بن رَبِيعَة بن حَارِثَةَ، بطنٌ من بَنِي خُزَاعة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 915): وأما المُرَيْسِيعُ فبِضَمِّ الميم وفتح الراء: هو ماء لِبَنِي خُزَاعَةَ بينه وبين الفُرْع مَسِيرَة يوم، وقد روى الطبراني من حديث سفيان بن وبرة قال: كُنَّا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ غزوةِ بَنِي المصطلق. (¬3) اختُلِفَ في زمَنِ هده الغَزْوَةِ، فعند ابن إسحاق في السيرة (3/ 317): أنها سنة ست من الهجرة، وعلقه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة بني المصطلق. وعند ابن سعد في طبقاته (2/ 281) - وموسى ابن عقبة في مغازيه: أنها في شعبان من السنة الخامسة للهجرة. ووقع في صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة بني المصطلق: وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 195): كذا ذكره البخاري، وكأنَّه سبقُ قَلَمٍ، أراد أن يكتُبَ سنةَ خمسٍ فكتب سنة أربع، والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في الدلائل (4/ 45) وغيرهم: سنة خمس. ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب: ثم قاتل رَسُول اللَّهِ بني المصطلق، وبني لِحْيَان في شعبان سنة خمس. ورجح الحافظ في الفتح (8/ 196): أنها في شعبان سنة خمس؛ لأنه ثبت في حَدِيثِ الإفكِ عند البخاري: أن سعدَ بنَ مُعَاذ -رضي اللَّه عنه- تنَازَعَ هو، وسعد بن عُبَادة -رضي اللَّه عنه- في شأن =

* سببها

* سَبَبُهَا: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ الحَارِثَ بنَ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدَ بَنِي المُصْطَلِقِ، وَرَئِيسَهُمْ جَمَعَ قَوْمَهُ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَنْ قَدِرَ عَلَيْهِ مِنَ العَرَبِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُرَيْدةَ بنَ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه-؛ لِيَعْلَمَ عِلْمَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُمْ وَلَقِيَ الحَارِثَ بنَ ضِرَارٍ، وَكَلَّمَهُ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ جَمَعُوا الجُمُوعَ، قَالُوا: مَنِ الرَّجُلُ؟ قَالَ: مِنْكُمْ، قَدِمْتُ لَمَّا بَلَغَنِي مِنْ جَمْعِكُمْ لِهَذَا الرَّجُلِ فَأَسِيرُ فِي قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي فنَكُونُ يَدًا وَاحِدًا حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ. فَقَالَ الحَارِثُ: فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ فَعَجِّلْ عَلَيْنَا، فَقَالَ بُرَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه-: أَرْكَبُ الآنَ وَآتيكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِي، فَسُرُّوا بِذَلِكَ مِنْهُ، وَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ (¬1). * خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ إِلَيْهِمْ، فَأَسْرَعُوا الخُرُوجَ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ ¬

_ = أصحابِ الإفك، فلو كان المُرَيْسِيعُ في شعبان سنة ست مع كون الإفْكِ كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- غَلَطًا؛ لأن سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- مات أيام قُرَيْظَة، وكانت سنة خمس علي الصحيح، وإن كانت كما قيل: سنة أربع فهي أشَدُّ، فيظهر أن المُرَيْسِيع كانت سنة خمس في شعبان؛ لتكون قد وقَعَتْ قبل الخنْدَقِ؛ لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضًا، فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- موجودًا في المُرَيْسِيع، ورُمِيَ بعد ذلك بسهْمٍ في الخندق، وماتَ من جِرَاحَتِهِ في قُرَيْظَة. (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 317) - الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 281).

* وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المريسيع

مُقَاتِلٍ، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ فِي شَعْبَانَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ سَنَةَ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ. وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ (¬1)، وَقِيلَ: أَبَا ذَرٍّ الغِفَارِيَّ (¬2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَكَانَ الحَارِثُ بنُ ضِرَارٍ سَيِّدُ بَنِي المُصْطَلِقِ قَدْ وَجَّهَ عَيْنًا لَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَصَابَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في طَرِيقِهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ شَأْنِهِمْ شَيْئًا، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلَامَ فَأَبَى، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الحَارِثَ مَسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنَّهُ قَتَلَ عَيْنَهُ سِيءَ بِذَلِكَ، وَمَنْ مَعَهُ، وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَفَرَّقَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ العَرَبِ مِنْ غَيْرِ قَوْمِهِ. * وُصُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المُرَيْسِيعِ: وَانْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المُرَيْسِيعِ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ (¬3)، ¬

_ (¬1) هذه رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 281). (¬2) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 317) -وفيه نظر لأن أبا ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- ما وفدَ على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بعد الخندق. (¬3) غَارُّون: بفتح الغين وتشديد الراء: أي غافِلُون. انظر النهاية (3/ 319).

* رواية ضعيفة

وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى عَلَى المَاءِ، فَقتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ، وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ جُوَيْرِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬1). * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فنَادَى في النَّاسِ: قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَمْنَعُوا بِهَا أَنْفُسَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، فَأَبَوْا، فترَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَانْهَزَمَ المُشْرِكُونَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، مِنْهُمْ حَامِلُ لِوَائِهِمْ (¬2). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: هَكَذَا قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيِّ فِي سِيرَتِهِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا أَغَارَ عَلَيْهِمْ عَلَى الْمَاءَ، فَسَبَى ذَرَارِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ (¬3). * وَهْمُ ابنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: قُلْتُ: ذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬4) رِوَايَةَ أَهْلِ المَغَازِي، وَرِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري - كتاب العتق - باب من ملك من العرب رقيقًا - رقم الحديث (2541) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز الإغارة على الكفار - رقم الحديث (1730). (¬2) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (4/ 78) - وأخرجه بنحوه ابن إسحاق في السيرة (3/ 318). (¬3) انظر زاد المعاد (2/ 230). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 281).

* جمع الغنائم وتوثيق الأسرى

التِي أَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا، ثُمَّ قَالَ: وَالأَوَّلُ -أَيْ رِوَايَةُ أَهْلِ المَغَازِي- أَثْبَتُ. وَتَعَقَّبَهُ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (¬1) بِقَوْلهِ: وَالحُكْمُ بِكَوْنِ الذِي فِي السِّيَرِ أَثْبَتُ مِمَّا فِي الصَّحِيحِ مَرْدُودٌ، وَلَاسِيَّمَا مَعَ إِمْكَانِ الجَمْعِ، وَاللَّه أَعْلَمُ. * جَمْعُ الغَنَائِمِ وَتَوْثِيقُ الأَسْرَى: ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالأُسَارَى فَكُتِفُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ بُرَيْدَةَ بنَ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه-، وَأَمَرَ بِالغَنَائِمِ فَجُمِعَتْ مِنْ مَتَاعٍ وَسِلَاحٍ وَنَعَمٍ (¬2) وَشَاءٍ (¬3)، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا شُقْرَانَ مَوْلَاهُ، وَجَمَعَ الذُّرِّيَةَ في نَاحِيَةٍ، فكَانَتِ الإِبِلُ أَلْفَيْ بَعِيرٍ، وَالشَّاءُ خَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ، وَكَانَ السَّبْيُ مِائتَيْ أَهْلِ بَيْتٍ. ثُمَّ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ كُلَّهُ في المَوْضِعِ الذِي غَنِمَهَا فِيهِ، فَأَخْرَجَ الخُمُسَ، ثُمَّ قَسَمَ البَاقِي بَيْنَ النَّاسِ، فَأَعْطَى الفَرَسَ سَهْمَيْنِ، وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًّا، وفَرَّقَ السَّبْيَ فَصَارَ فِي أَيْدِي الرِّجَالِ، وَقَسَمَ النَّعَمَ وَالشَّاءَ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 197). (¬2) النَّعَمْ: واحدة الأنعَامِ: وهي الإبل. انظر لسان العرب (14/ 212). (¬3) الشَّاء: جمع شاة، وتجمع أيضًا: شياه. انظر النهاية (2/ 466). (¬4) انظر تفاصيل ذلك في: سيرة ابن هشام (3/ 317) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 46) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 281).

* زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من جويرية بنت الحارث رضي الله عنها

* زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَ فِيمَنْ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ مِنَ السَّبَايَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحَارِثِ بنِ أَبِي ضِرَارٍ رَئِيسِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَلَمَّا قَسَمَ السَّبْيَ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بنِ قَيْسٍ -رضي اللَّه عنه-، أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ، فَكَاتَبَتْ (¬1) عَلَى نَفْسِهَا، عَلَى تِسْعِ أَوَاقِي (¬2) ذَهَبٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلَّاحَةً (¬3)، لَا يَكَادُ يَرَاهَا أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا عَلَى بَابِ الحُجْرَةِ فَكَرِهْتُهَا، وَعَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ جُوَيْرِيَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الحَارِثِ بنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ البَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَنْكَ، فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ -أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ- فكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلى كِتَابَتِي. فَقَال لَهَا -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟ ". قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ¬

_ (¬1) المُكَاتَبَةُ: هو أن يكاتِبَ الرجل عبدَهُ على مالٍ يؤَدِّيه إليه مُفَرَّقًا، فإذا أدَّاه صار حُرًّا. انظر النهاية (4/ 129). (¬2) الأُوقية: بضم الهمزة أربعون درهما. انظر النهاية (1/ 80). (¬3) مُلَّاحة: أي شديدَةُ الحُسْنِ والجَمَال. انظر النهاية (4/ 303) - لسان العرب (13/ 170).

* نبذة عن جويرية رضي الله عنها

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ". قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ فَعَلْتُ". قَالَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَخَرَجَ الخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْي، فَأَعْتَقُوهُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِيَّاهَا مِئَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي المُصطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا (¬1). * نُبْذَةٌ عَنْ جُوَيْرِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ جُوَيْرِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنْتَ عِشْرِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ الذَّاكِرَاتِ اللَّهَ كَثِيرًا، وَالْقَانِتَاتِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهَا رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ¬

_ (¬1) أخرج قِصَّة زواج الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من جويرية بنت الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26365) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4369) - وابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب الإباحة للإمام أن يتزوج بالمكاتبة - رقم الحديث (4054) - وأبو داود في سننه - كتاب العتق - باب في بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة - رقم الحديث (3931) وإسناده حسن.

بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا (¬1)، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ التِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ" (¬2). وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ مِنَ الهِجْرَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وخَمْسِينَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، وَصَلَّى عَلَيْهَا مَرْوَانُ بنُ الحَكَمِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي المَدِينَةِ، وَكَانَ عُمُرُهَا حِينَ تُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً (¬3). وَبِسَبَبِ زَوَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منْ جُوَيْرِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، هَدَى اللَّهُ أَكْثَرَ بَنِي المُصْطَلِقِ إِلَى الإِسْلَامِ، فَقَدْ أَسْلَمَ أَبُوهَا الحَارِثُ، فَخَرَجَ دَاعِيًا لِقَوْمِهِ إِلَى الإِسْلَامِ، فَأَسْلَمُوا (¬4). ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 36): أي موضع صلاتها. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الذكر والدعاء والتوبة - باب التسبيح أول النهار وعند النوم - رقم الحديث (2726). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 305) - الإصابة (8/ 74) - سير أعلام النبلاء (2/ 263). (¬4) انظر شرح المواهب (3/ 3) - زاد المعاد (3/ 230) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 281) - سيرة ابن هشام (3/ 317) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 44) - وفتح الباري (5/ 478).

* سؤال الصحابة عن العزل

* سُؤَالُ الصَّحَابَةِ عَنِ العَزْلِ (¬1): وَفِي هَذِهِ الغَزْوةِ سَأَلَ الصَّحَابَةُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ العَزْلِ، فكَأَنَّهُ كَرِهَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْي العَرَبِ فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا العُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا العَزْلَ (¬2)، فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ، وَقُلْنَا نَعْزِلُ ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: "مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا (¬3)، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنةٌ" (¬4). * سَبَبُ كَرَاهِيَةِ الْعَزْلِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَسَبَبُ كَرَاهِيَةِ العَزْلِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: كَرَاهَةُ مَجِيءِ الوَلَدِ مِنَ الْأَمَةِ، وَهُوَ إِمَّا أَنَفَةً مِنْ ذَلِكَ، وَإِمَّا لِئَلَّا ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 10): العزل: هو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج. (¬2) في رواية مسلم قال: فأرَدْنَا أن نستَمْتِعَ ونَعْزِلَ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 385): أي لا حرج عليكم أن لا تفعلوا. (¬4) أخرج البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة بني المصطلق - رقم الحديث (4138) - ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب حكم العزل - رقم الحديث (1438) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11647).

* شهداء المسلمين في غزوة بني المصطلق

يَتَعَذَّرَ بَيْعُ الْأَمَةِ إِذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ، وَإمَّا لإِدْخَال ضَرَرٍ عَلَى المَرْأَة لمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ لَذَّتِهَا. وَالثَّانِي: كَرَاهِيَةُ أَنْ تَحْمِلَ المَوْطُوءَةُ، وَهِيَ تُرْضِعُ فَيُضِرُّ ذَلِكَ بِالوَلَدِ المُرْضَعِ (¬1). * شُهَدَاءُ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ: وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، هُوَ هِشَامُ بنُ صُبَابَةَ مِنْ بَنِي كَلْبِ بنِ عَوْفٍ، أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقتَلَهُ خَطَأً. ثُمَّ قَدِمَ أَخُوهُ مِقْيسُ بنُ صُبَابَةَ مِنْ مَكَّةَ مُسْلِمًا، فِيمَا يَظْهَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! جِئْتُ مُسْلِمًا، وَجِئْتُكَ أَطْلُبُ دِيَةَ أَخِي، قُتِلَ خَطَأً، فأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِدِيَةِ أَخِيهِ، فَأَخَذَ الدِّيَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، مُرْتَدًّا، فَأَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَمَهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فَقُتِلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬2). * دَوْرُ المُنَافِقِينَ القَذِرُ فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ: ذَكَرْنَا أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ المُنَافِقِينَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 384). (¬2) انظر الإصابة (6/ 422) - سيرة ابن هشام (3/ 321) - البداية والنهاية (4/ 544).

* الحادث الأول: إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار

لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزْوَةٍ قَطُّ مِثْلِهَا، فِيهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ رَأْسُ المُنَافِقِينَ، وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُهُمْ رَغْبَةً فِي الجِهَادِ، وَإِنَّمَا خَرَجُوا لِإِثَارَةِ الفِتْنَةِ وَالِارْتِبَاكِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ. وَقَدْ حَدَثَ حَادِثَانِ عَظِيمَانِ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ بِسَبَبِ المُنَافِقِينَ: * الحَادِثُ الأَوَّلُ: إِثَارَةُ الفِتْنَةِ بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ المَاءَ، إِذِ ازْدَحَمَ رَجُلَانِ عَلَى المَاءَ، الأَوَّلُ مِنَ المُهَاجِرِينَ (¬1)، وَالثَّاني مِنَ الأَنْصَارِ (¬2)، فَكَسَعَ (¬3) المُهَاجِرِيُّ الأَنْصَارِيَّ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَالَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ؟ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ (¬4)، لِيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ ¬

_ (¬1) سمى ابن إسحاق في السيرة (3/ 318) الرجل المهاجري: وهو جَهْجَاهُ بن سعيد، وقيل مسعود الغفاري، وكان أجيرًا لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يقود له فرسه. وهو ممن شهد بيعة الرضوان -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (1/ 621). (¬2) سمى ابن إسحاق في السيرة (3/ 318) الرجل الأنصاري: وهو سنان بن وبرة الجهني. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 644): الكَسْعُ: ضرب الدُّبُرِ باليَدِ أو بالرِّجْل. (¬4) النَّتْنُ: الرائحة الكريهة، ومعنى الحديث أن الدعوى بدعوى الجاهلية مذمومة في الشرع مجتَنَبَةٌ مكروهة، كما يُجْتَنَبُ الشيء النَّتِن. انظر لسان العرب (14/ 36) - النهاية (5/ 12). قلت: جاء التَّحذِيرُ من الدعوةِ بدعوى الجاهلية في أحاديثَ كثيرةٍ منها: ما أخرجه =

* ردة فعل عبد الله بن أبي بن سلول المنافق

مَظْلُومًّا، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نُصْرَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ" (¬1). * رَدَّةُ فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ المُنَافِقُ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ رَأْسَ المُنَافِقِينَ فَغَضِبَ، وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ، فِيهِمْ زَيْدُ بنُ أَرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟ قَدْ نَافَرُونَا (¬2) وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا، وَاللَّهِ مَا أَعَدَّنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ (¬3). ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا ¬

_ = البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1294) (1297) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (103) عن عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليسَ مِنَّا من ضرَبَ الخُدُودَ، وشَقَّ الجُيُوبَ، ودعا بدَعْوى الجاهِلِيَّة". (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - دون قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لينصُرَنَّ الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا" - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} - رقم الحديث (4905) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب البر والصلة - باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا - رقم الحديث (2584) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14467) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3210). (¬2) نافرَه: غلَبَه. انظر النهاية (5/ 80). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} - رقم الحديث (4903) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2772) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15223) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 318).

* إخبار زيد بن أرقم -رضي الله عنه- بما قال ابن أبي بن سلول

بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ دَارِكُمْ، فَلَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ (¬1). * إِخْبَارُ زَيْدِ بنِ أَرْقَمٍ (¬2) -رضي اللَّه عنه- بِمَا قَالَ ابنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ: فَسَمعَ ذَلِكَ زَيْدُ بنُ أَرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ زَيْدٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي (¬3)، فَذَكَرَهُ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} - رقم الحديث (4903) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2772) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة المنافقين - رقم الحديث (3599) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19334) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 319). (¬2) زيدُ بن أرقَمٍ -رضي اللَّه عنه- من صِغَارِ الصحابة، استُصْغِرَ يوم أُحُدٍ، وكان يتيمًا في حجر عبد اللَّه بن رواحة -رضي اللَّه عنه-، وشهد مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سبع عشرة غزوة، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3949) عن زيد بن أرقم -رضي اللَّه عنه- سُئِلَ: كم غَزَا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غزوَةٍ؟ قال: تِسْع عشرة، قيل كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة. وانظر الإصابة (2/ 488). (¬3) وقع في روايةِ الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5885): أن عمّه سعد بن عبادة -رضي اللَّه عنه-. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 639): وليس سعدُ بن عبادة -رضي اللَّه عنه- عمُّه حقيقةً، وإنما هو سيِّد قومه الخزرج، وعم زيدِ بن أرقم -رضي اللَّه عنه- الحقيقي ثابت بن قيسٍ -رضي اللَّه عنه- له صحبه، وعمُّه زوجُ أمِّه عبد اللَّه بن رَوَاحة -رضي اللَّه عنه- خزرجي أيضًا.

أَصْحَابَهُ" (¬1)، ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ وَأَصْحَابِهِ يَسْأَلُهُمْ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، وَكَذَّبَنِي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ زَيْدٌ: فَاجْتَهَدَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ، وَقَالَ أَصْحَاُبهُ: كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬3). فنَظَرَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُول اللَّهِ! إِنَّمَا أَخْبَرَنِيهِ الغُلَامُ، لِزَيْدِ بنِ أَرْقَمٍ (¬4). ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (16/ 114): وفي هذا الحديث: ترك بعض الأمور المُخْتَارة، والصبر على بعض المفاسد خَوْفًا من أن تترتَّب على ذلك مفسدةٌ أعظم منه، وكان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يتألف النَّاس ويصبر على جفاءِ الأعراب والمنافقين وغيرهم؛ لتقْوَى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإِسلام، ويتمكن الإيمان في قلوب المؤلَّفَةِ ويَرْغَبَ غيرهم في الإِسلام، وكان يُعْطِيهِم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المُنَافقين لهذا المعنى، ولإظهار الإِسلام، وقد أمر بالحكم بالظاهر، واللَّه يتولى السَّرائر؛ ولأنهم كانوا معدودين في أصحابه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويجاهدون معه إما حمِيَّة، وإما لطلَبِ دُنيا أو عَصَبِيَّة لمن معه من عَشَائِرِهم. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ. . .} - رقم الحديث (4900) - وباب {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} - رقم الحديث (4901) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19333) - والترمذي في جامعة - كتاب التفسير - باب ومن سورة المنافقين - رقم الحديث (3602) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 319). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُم. . .} - رقم الحديث (4903) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19334). (¬4) أخرج ذلك الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5885) وإسناده حسن.

* تصرف الرسول -صلى الله عليه وسلم-

قَالَ زَيْدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَجَاءَ سَعْدٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي، فَقَالَ: هَذَا حَدَّثَنِي، فَانْتَهَرَنِي (¬1) عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلولٍ، فَأَجْهَشْتُ (¬2) إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَكَيْتُ، فَقُلْتُ: وَالذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ النُّبُوَّةَ، لَقَدْ قَالَ. قَالَ زَيْدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَامَنِي قَوْمِي، وَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطٌّ، وَجَلَسْتُ في بَيْتِي (¬3)، وَقَالَ عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إلى أَنْ كَذَّبَكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَقَتَكَ (¬4). * تَصَرُّفُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثُمَّ تَصَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هَذَا الحَادِثِ تَصَرُّفَ القَائِدِ المُلْهَمِ الحَكِيمِ. . وَأَمَرَ بِالسَّيْرِ في غَيْرِ أَوَانٍ، وَمُتَابَعَةَ السَّيْرِ حَتَّى الإِعْيَاءِ، لِيَصْرِفَ ¬

_ (¬1) نهَرَهُ: زَجَرَهُ. انظر لسان العرب (14/ 304). (¬2) الجَهْشُ: أن يفزَع الإنسان إلى الإنسان ويلجَأَ إليه، وهو مع ذلك يُريد البكاء، كما يَفْزَعُ الصبي إلى أمه وأبيه. انظر النهاية (1/ 310). (¬3) قلتُ: ربما يفهم من قول زيد: "وجلستُ في بيتي" بيته في المدينة، والصحيح أن المقصود بها مكان رحل الرجل. وفي رواية النسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (11530) - قال زيد: وجلسْتُ في البيت مخَافَةَ إذا رآني النَّاس أن يقولوا: كَذَبْتَ. (¬4) المَقْتُ: أشدُّ البُغْضِ. انظر النهاية (4/ 295). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب اتخذوا أيمانهم جنة - رقم الحديث (4901) (4904) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2772) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19285) - (19333) - (19334) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5885).

النَّاسَ عَنِ العَصَبِيَّةِ المُنْتِنَةِ التِي أَثَارَهَا صِيَاحُ الرَّجُلَيْنِ المُتَقَاتِلَيْنِ: يِالَلْأَنْصَارِ! يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! وَليَصْرِفَهُمْ كَذَلِكَ عَنِ الفِتْنَةِ التِي أَطْلَقَهَا المُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، وَأَرَادَهَا أَنْ تَحْرِقَ مَا بَيْنَ الأَنْصَارِ والمُهَاجِرِينَ مِنْ مَوَدَّةٍ وَإِخَاءٍ فَرِيدٍ فِي تَارِيخِ العَقَائِدِ، وَفِي تَارِيخِ الإِنْسَانِيَّةِ (¬1). فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالرَّحِيلِ فَوْرًا، وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَرْتَحِلُ فِيهَا، فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلَامِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟ ". قَالَ: وَأَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ". قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ إلى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ". قَالَ أُسَيْدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إِنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ، وَأَنْتَ العَزِيزُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ارْفُقْ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظُمُونَ لَهُ الخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مُلْكًا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فِي ظلال القرآن لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (6/ 3578). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 319) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 53).

* نزول سورة المنافقون

ثُمَّ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ (¬1) يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الأَرْضِ، فَوَقَعُوا نِيَامًا. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الحَدِيثِ الذِي كَانَ بِالأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ (¬2). وَبِهَذَا التَّصَرُّفِ البَالِغِ الغَايَةَ فِي السِّيَاسَةِ الرَّشيدَةِ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الفِتْنَةِ قَضَاءً مُبْرَمًا، وَلَمْ يَدَعْ مَجَالًا لِلْحَدِيثِ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ (¬3). * نُزُولُ سُورَةِ المُنَافِقُونَ: قَالَ زَيْدُ بنُ أَرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه-: فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ خَفَقْتُ (¬4) بِرَأْسِي مِنَ الهَمِّ، إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَرَكَ (¬5) أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِيَ بِهَا الخُلْدَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- لَحِقَنِي، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قُلْتُ: مَا قَالَ لِيَ شَيْئًا، إِلَّا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي، وَضَحِكَ فِي وَجْهِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَبْشِرْ، ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلي لِأَبِي ¬

_ (¬1) صَدْرَ كل شيء: أوَّلُه. انظر لسان العرب (7/ 299). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 319 - 320) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 53). (¬3) انظر كتاب السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 255) للدكتور محمَّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬4) يُقالُ: خفَقَ فلانًا خَفْقَة: إذا نامَ نومَةً خَفِيفة. انظر لسان العرب (4/ 157). (¬5) عَرَكَ: دَلك. انظر لسان العرب (9/ 168).

بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا، قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُورَةَ المُنَافِقِينَ (¬1). يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. . .}، {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). قَالَ زَيْدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَرَأَهَا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ صَدَّقَكَ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا الذِي أَوْفَى اللَّهُ لَهُ بِأُذُنِهِ" (¬4). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: أَيْ أَظْهَرَ صِدْقَهُ فِيمَا أَعْلَمَ بِهِ، وَالمَعْنَى أَوْفَى صِدْقَهُ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الترمذي في جامعة - كتاب التفسير - باب ومن سورة المنافقين - رقم الحديث (3600) - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬2) سورة المنافقون آية (1 - 8). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب اتخذوا أيمانهم جنة - رقم الحديث (4901) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19285) - (19333). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب وللَّه خزائن السموات والأرض - رقم الحديث (4906). (¬5) انظر فتح الباري (9/ 647).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: وَفِي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - تَرْكُ مُؤَاخَذَةِ كُبَرَاءِ القَوْمِ بِالهَفَوَاتِ لِئَلَّا يَنْفِرَ أَتْبَاعُهُمْ. 2 - وَفِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى مُعَاتَبَاتِهِمْ، وَقَبُولِ أَعْذَارِهِمْ، وَتَصْدِيقِ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَتِ القَرَائِنُ تُرْشِدُ إلى خِلَافِ ذَلِكَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْنِيسِ وَالتَّأْلِيفِ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ تَبْلِيغِ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمَقُولِ فِيهِ، وَلَا يُعَدُّ نَمِيمَةً مَذْمُومَةً إِلَّا إِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ الإِفْسَادَ المُطْلَقَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تُرَجَّحُ عَلَى المَفْسَدَةِ فَلَا (¬1). * مَوْتُ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ المُنَافِقِينَ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إلى المَدِينَةِ، وَسَلَكَ طَرِيقَ الحِجَازِ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالحِجَازِ يُقَالُ لَهُ: بُقْعَاءُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَبَّتْ عَلَى النَّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ حَتَّى وَقَعَتِ الرِّحَالُ، وَتَخَوَّفُوهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَخَافُوهَا، هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ". قَالَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَإِذَا رِفَاعَةُ بنُ زَيْدِ بنِ التَّابُوتِ، أَحَدُ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ، وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ، مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 640). (¬2) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2782) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب المعجزات - رقم =

* عبد الله يستأذن في قتل أبيه المنافق

* عَبْدُ اللَّهِ يَسْتَأْذِنُ فِي قَتْلِ أَبِيهِ المُنَافِقِ: وَعِنْدَمَا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ -رضي اللَّه عنه- مَا قَالَهُ وَالِدُهُ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ أَبِي فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَابُدَّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ، فَأَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلَ رَجُلًا مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ نتَرَفَّقُ بِهِ، وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا" (¬1). فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ تَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى وَقَفَ لِأَبِيهِ عَلَى بَابِ المَدِينَةِ، فَلَمَّا رَآهُ أَنَاخَ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَا تَجُوزُ مِنْ هَهُنَا حَتَّى يَأْذَنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّهُ العَزِيزُ وَأَنْتَ الذَّلِيلُ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: "دَعْهُ، فَلَعَمْرِي لَنُحْسِنَنَّ صُحْبَتَهُ مَا دَامَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا"، فَخَلَّى سَبِيلَهُ (¬2). ¬

_ = الحديث (6500) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14378) - وأبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 515) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 320). (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 320). (¬2) أخرج ذلك الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة المنافقين - رقم =

* الحادث الثاني: حادث الإفك

وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَدَخَلَ المَدِينَةَ لِهِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ (¬1). * الحَادِثُ الثَّانِي: حَادِثُ الإِفْكِ: وَفِي هَذِهِ الغَزْوَةِ وَقَعَ حَادِثُ الإِفْكِ الذِي كَانَ أَعْظَمَ فِتْنَةٍ حَاكَهَا المُنَافِقُونَ، وَاسْتَبَاحَ ابْنُ سَلُولٍ لِنَفْسِهِ أَنْ يَرْمِيَ بِالفَحْشَاءَ سَيِّدَةً مِنْ خِيرَةِ النِّسَاءِ، وَهِيَ أُمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬2). وَلنَتْرُكِ الصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَرْوِي لَنَا حَدِيثَ الإِفْكِ كَامِلًا، كَمَا رَوَاهُ أَئِمَّةُ الحَدِيثِ وَأَصْحَابُ السِّيَرِ وَالمَغَازِي، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهُ. فَلَمَّا كَانَ غَزْوَةُ بَنِي المُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنَّ مَعَهُ، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَمَا نَزَلَ الحِجَابُ (¬3)، فَكُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي (¬4) وَأَنْزِلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَتِهِ ¬

_ = الحديث (3602) - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح - وابن سعد فِي الطبقات الكبرى (2/ 282). (¬1) قاله ابن سعد في طبقاته (2/ 282). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 288. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 392): أي بعد ما نزل الأمر بالحجاب، والمراد حجاب النساء عن رؤية الرجال لهن. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 392): الهودج: بفتح الهاء والدال بينهما واو ساكنة: هو =

تِلْكَ، وَقَفَلَ (¬1) رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ (¬2) نَزَلَ فِي بَعْضِ المَنَازِلِ فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ أَذِنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ (¬3) حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدٌ (¬4) لِي مِنْ جَزْعِ (¬5) ظفَارٍ (¬6) قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ أَلْتَمِسُ عِقْدِي وَحبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ (¬7) لِي، فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ (¬8) عَلَى بَعِيرِي الذِي كُنْتُ أَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا تَأْكُلُ العُلْقَةَ (¬9) مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ خِفَّةَ الهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ (¬10) ¬

_ = محمل له قبة تستر بالثياب ونحوه، يوضع على ظهر البعير يركب عليه النساء ليكون أستر لهن. (¬1) قفل: رجع. انظر النهاية (4/ 82). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 393): أي أن قصَّتَها وقعَتْ حالَ رُجوعهم من الغزوة قُرب دخولهم المدينة. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 393): أي لتقضِيَ حاجَتَها منفردة. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 393): العِقْد: بكسر العين قِلادَة تعلَّق فِي العُنُق للتزيين بها. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 393): الجَزْع: بفتح الجيم وسكون الزاي، خرَزٌ معروف في سواده بياض كالعُرُوق. (¬6) قَالَ الحَافِظ فِي الفَتْحِ (9/ 393): فأما ظفَار: بفتح الظاء ثم فاء بعدها راء مبنية على الكسر: هي مدينة باليمن، وقيل: جبل. (¬7) قَالَ الحَافِظ فِي الفَتْحِ (9/ 394): يرحلون: بفتح أوله والتخفيف، رحلت البعير إذا شددت عليه الرحل. (¬8) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 394): رحلوه: أي وضعوه. (¬9) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 395): العُلْقة: بضم العين: أي القليل. (¬10) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 395): أي أنها مع نحافَتِهَا صغيرةُ السن، فذلك أبلغ في =

فَبَعَثُوا (¬1) الجَمَلَ وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ (¬2)، فَأَمَّمْتُ (¬3) مَنْزِلِي الذِي كُنْتُ بِهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي، وَقَدْ تَلَفَّفْتُ بِجِلْبَابِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ (¬4) ¬

_ = خِفَّتِها، ويستفاد من ذلك: أن الذين كانوا يرحلون بعيرها كانوا فِي غايَةِ الأدب معها، والمبالغة فِي ترك التنقيب عما فِي الهَوْدَج بحيث أنها لم تكن فيه، وهم يظنُّون أنها فيه، وكأنهم جَوَّزُوا أنها نائمة. ويحتمل أن تكون أشارت بذلك إِلَى بيان عُذْرِها فيما فعلته من الحرص على العقد الذي انقطع، ومن استقلالها بالتَّفْتِيشِ عليه فِي تلك الحال وترك إعلام أهلها بذلك، وذلك لِصِغَرِ سنها، وعدم تجاربها للأمور بخلاف ما لو كانت ليست صغيرة لكانت تتفطن لعاقبة ذلك، وقد وقع لها بعد ذلك فِي ضياع العقد أَيضًا أنها أعلمت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمرِهِ، فأقام بالنَّاس على غير ماءٍ حَتَّى وجدته، ونزلت آية التيمم بسبب ذلك، فظهر تفاوت حال من جرب الشيء، ومن لم يجرِّبه. قلت: كان عُمْرُ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي هذه الغزوة خمس عشرة سنة. (¬1) فبعثوا الجَمَل: أي أثاروه. انظر النهاية (1/ 137). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 396): فإن قيل: لِمَ لَمْ تستصحب عائشة معها غيرها؛ ليكون أدعى لأمنها مما يَقَعُ للمنفرد، ولكانت لما تأخرت للبحث عن العقد تُرسل من رافقها لينتظروها إن أرادوا الرحيل؟ والجواب: أن هذا من جملة ما يستفاد من قولها: "حديثة السن"؛ لأنها لم تقع لها تَجْرِبة مثل ذلك، وقد صارت بعد ذلك إذا خرجت لحاجتها تستصحِبُ، كما سيأتي فِي قصتها مع أم مسطح. (¬3) أَمَّه: أي قصده. انظر النهاية (1/ 70). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 397): يحتمل أن يكون سببُ النَّوم شِدَّةُ الغَمِّ الذي حصل لها فِي تلك الحالة، ومن شأن الغم -وهو وقوع ما يكره- غلبة النوم، أو أن اللَّه سبحانه وتَعَالَى لطف بها، فألقى عليها النوم لتَسْتَرِيح من وحشة الانفراد فِي البرية بالليل.

وَكَانَ صَفْوَانُ بنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ (¬1) مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ، فَأَدْلَجَ (¬2) فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي (¬3)، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ (¬4) حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ (¬5) وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ (¬6) فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ قَالُوا مَا قَالُوا، وَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى الإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 397): صفوانُ بن المعطَّل بفتح الطاء المهملة المشددة، وكان صحابيًا فاضلًا، أول مشاهده عند الواقدي الخندق، وعند ابن الكلبي المريسيع. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 397): أدْلَجَ: بسكون الدال في روايتنا، وهو كادّلج بتشديدها، وقيل: بالسكون سار فِي أوله، وبالتشديد سارَ من آخِرِه، وعلى هذا فيكون الذي هنا بالتشديد؛ لأنه كان فِي آخر الليل، وكأنه تأخر فِي مكانه حَتَّى قرب الصبح فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش مما يُخْفِيه الليل. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 398): هذا يشعر بأن وجْهَهَا انكشف لما نَامَتْ؛ لأنه تقدم أنها تلفَّفت بجلبابها ونامَتْ، فلما انتبهت باسترجاع صفوان بادرت إِلَى تغطية وجهها. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 399): أي بقوله: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، وكأنه شَقَّ عليه ما جَرَى لعائشة، أو أنَّه اكتفى بالاسترجاع رافعًا به صوته عن مُخَاطَبَتِهَا بكلامٍ آخر صيانة لها عن المخاطبة فِي الجملة، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يَستعمِلُ التكبير عند إرادة الإيقاظ، وفيه دلالة على فِطْنَةِ صفوان وحُسْنِ أدبه -رضي اللَّه عنه-. (¬5) خمَّرْتُ: أي غَطَّيْتُ. انظر النهاية (2/ 73). (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 400): مُوغِرِين: بضم الميم وكسر الغين: أي نازِلِين فِي وقتِ الوَغْرَة بفتح الواو وسكون الغين، وهي شِدَّةُ الحَرِّ لما تكون الشَّمس فِي كَبِدِ السماء.

ثُمَّ قَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ (¬1) فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي قَدْ أَنْكَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللُّطْفَ (¬2) الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي (¬3)، إِنَّمَا يدخلُ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟ "، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَذَاكَ الذِي يُرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ (¬4)، فَخَرَجَتْ مَعِيَ أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ (¬5)، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ (¬6) قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّبَرُّزِ قِبَلَ الغَائِطِ، فَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ (¬7) بنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا بِنْتُ صَخْرِ بنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وابْنُهَا مِسْطَحُ بنُ أُثَاثَةَ (¬8)، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ بَيْتِي قَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 401): يُفِيضُون: بضم أوله: أي يخوضون. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 401): اللُّطف: بضم أوله وسكون ثانيه، والمراد الرِّفْق. (¬3) أشْتَكِي: أي أمرض. قاله الحافظ في الفتح (9/ 401). (¬4) نقِهَ المريضُ: بفتح النون وفتح القاف وقد تكسر إذا بَرِئ وأفاق. انظر النهاية (5/ 97). (¬5) المَنَاصع: هي المواضع التي يُتَخَلَّى فيه لقضاء الحاجة. انظر النهاية (5/ 56). (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 402): الكُنُف: بضمتين جمع كنيف، وهو الساتر، والمراد به هنا المكان المتخذ لقضاء الحاجة. (¬7) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 402): رُهمٍ: بضم الراء وسكون الهاء. (¬8) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 402): مِسْطَح: بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء، وهو لقب واسمه عوف وقيل عمر، والأول هو المعتمد، وقد أخرج الحاكم من حديث ابن عباس قال: قال أبو بكر يُعاتب مسطحًا فِي قصة عائشة: =

فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا (¬1)، فَقَالَتْ: تَعِسَ (¬2) مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ! ! أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ فَقَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ (¬3) أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ (¬4). قُلْتُ: وَمَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ (¬5)، . . . . ¬

_ = يا عوف ويحك هل لا قلتَ عارفة ... من الكلام ولم تبتغ به طمعًا وَكَانَ هو وأمُّه من المهاجرين الأولين، وشهد مِسْطَح بدرًا، وكان أبوه مات وهو صَغِير، فكفله أبو بكر -رضي اللَّه عنه- لِقَرَابة أمِّ مِسطح منه، وكانت وفاة مِسطح سنة أربع وثلاثين، وقيل سنة سبع وثلاثين بعد أن شهد صفين مع علي -رضي اللَّه عنه-. (¬1) المِرْط: بكسر الميم: هو كساء من صوف. انظر النهاية (4/ 273). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 403): وهذه ظاهره أنها عَثَرَتْ بعد أن قضت عائشة حاجتها ثم أخبرتها الخبر بعد ذلك، لكن وقع فِي رواية هشام بن عروة فِي صحيح البخاري: أنها عثَرَتْ قبل أن تقضي عائشة حاجتها، وأنها لما أخبرتها الخبر رجعت كأن الذي خرجت له لا تَجِدْ منه لا قَلِيلًا ولا كثيرًا، وكذا وقع فِي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 327) قالت: فواللَّه ما قدرت أن أقضي حاجتي. ويجمع بينهما بأن معنى قولها: . "وقد فَرَغْنَا من شأننا": أي من شأن المَسِيرِ، لا قضاء الحاجة. (¬2) تَعِسَ: بفتح التاء وكسر العين: إذا عَثِرَ وانْكَبَّ لوجهه، وهو دُعَاءٌ عليه بالهلاك. انظر النهاية (1/ 186). (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (17/ 90): هَنْتَاهُ: بفتح الهاء وسكون النون أي يَا هَذِهِ، وقيل: يَا امرَأَه. (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4757) قالت: إن مسطح: واللَّه ما أسُبُّه إِلَّا فيكِ. (¬5) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4757) قالت عائشة: فَبَقَرَتْ لِيَ الحديث.

فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي (¬1). قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟ ". فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قَالَتْ: فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ، مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ (¬2)، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطٌّ وَضِيئَةٌ (¬3) عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا (¬4). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 404): وعند الطبراني بإسناد صحيح قالت عائشة: لما بلغني ما تكلموا به همَمْتُ أن آتي قَلِيبًا فأطرَحَ نَفْسِي فيه. (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4757) قالت أم رومان: يَا بُنَيَّة خفِّضي عليك الشأن. (¬3) وضِيئَة: بوزن عظيمة من الوَضَاءَة أي حسنة جميلة. قاله الحافظ في الفتح (9/ 404). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4757) قالت أم رومان: فإنَّه واللَّه لَقَلَّما كانت امرأة قَطٌّ حسناء. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 404): أي القول فِي عَيْبِها. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4757) قالت أم رومان: إِلَّا حَسَدْنَها وقيل فيها. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 404): وفي هذا الكلام من فِطْنة أمها، وحُسْنِ تأتيها فِي تربيتها ما لا مَزِيد عليه، فإنَّها علمت أن ذلك يَعْظُم عليها فهوَّنت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك؛ لأن المرء يتَأَسَّى بغيره فيما يقع له، وأدمَجَتْ فِي ذلك ما تُطَيِّب به خاطرها من أنها فائِقَة فِي الجمال والحظوة.

* لا تعارض بين الروايات

قَالَتْ: فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلقدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأُمِّهَا: وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَاسْتَعْبَرْتُ وَبَكَيْتُ، فَسَمِعَ أَبُو بَكْرٍ صَوْتِي وَهُوَ فِي البَيْتِ يَقْرَأُ، فنَزَلَ فَقَالَ لِأُمِّي: مَا شَأْنُهَا؟ قَالَتْ: بَلَغَهَا الذِي ذُكِرَ مِنْ شَأْنِهَا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ أَيْ بُنَيَّةُ إِلَّا رَجَعْتِ إِلَى بَيْتِكَ فَرَجَعْتُ (¬1). * لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ: وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ الذِي أَخْبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِحَدِيثِ الإِفْكِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ رُومَانَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ، إِذْ وَلَجَتِ (¬2) امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَتْ: فَعَلَ اللَّهُ بِفُلَانٍ وَفَعَلَ بِفُلَانٍ، فَقَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: ابْنِي فِيمَنْ حَدَّثَ الحَدِيثَ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ كَذَا وَكَذَا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب رقم (12) - رقم الحديث (4757). (¬2) وَلَجَتْ: أي دَخَلَت. انظر النهاية (5/ 196).

* مشاورة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما

قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا (¬1). قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ (¬2) لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ حَتَّى أَصْبَحْتُ أَبْكِي. * مُشَاوَرَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث الإفك - رقم الحديث (4143) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 405): طرُق حديث الإفك مجتمعة على أن عائشة بلغها الخبر من أم مِسطح، لكن وقع فِي حديث أمِّ رومان ما يُخالف ذلك، وطريق الجمع بينهما: أنها سمعت ذلك أوَّلًا من أم مسطح، ثم ذهبت لبيتِ أمها لتستيقن الخبر منها فأخبرتها أمها بالأمر مجملًا كما مضى من قولها: هوني عليك وما أشبه ذلك، ثم دخلت عليها الأنصارية، فأخبرتها بمثل ذلك بحضرةِ أمها، فقَوِيَ عندها القطع بوُقوع ذلك، فسألت هل سمعه أبوها وزوجها؟ ترجيًا منها أن لا يكونا سَمِعَا ذلك ليكون أسهل عليها، فلما قالت لها أنهما سمعاه غُشِيَ عليها. (¬2) لا يَرْقَأُ: أي لا ينقَطِع: انظر النهاية (2/ 226).

وَأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬1) حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ (¬2)، يَسْتَأْمِرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. قَالَتْ: فَأَمَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالذِي يَعْلَمُ لَهُمْ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَهْلُكَ، وَمَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ (¬3)، وَإِنْ تَسْأَلِ الجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ. قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَرِيرَةَ: فَقَالَ: "أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ؟ ". ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 407): والعلَّة فِي اختصاص عليٍّ وأسامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بالمشاورة أن عَلِيًّا كان عنده كالوَلَدِ؛ لأنه ربَّاه من حال صغره ثم لم يُفارقه، بل وازداد اتصاله بتزويج فاطمة، فلذلك كان مخصوصًا بالمشاورة فيما يتعلَّق بأهله لمزيدِ اطِّلاعه على أحواله أكثر من غيره، وكان أهل مشورته فيما يتعلق بالأمور العامَّة أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وأما أُسامة فهو كعلي فِي طول الملازمة ومزيدِ الاختصاص والمحبة، ولذلك كانوا يطلقون عليه أنَّه حِبَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخصه دون أَبيه وأمه لكونه كان شَابًا كعلي، وذلك أن للشاب من صَفَاء الذهن ما ليس لغيره، ولأنه أكثر جُرأة على الجَوَاب بما يظهر له من المُسِنِّ؛ لأن المُسِنَّ غالبًا يُحسن العاقبة فربما أخفى بعض ما يَظهر له رعاية للقائل تارةً، والمسؤولِ عنه أُخرى، مع ما ورد فِي بعض الأخبار أنَّه استشار غيرهما. (¬2) استلبَثَ الوحيُ: أي أبطأ وتأخَّر. انظر النهاية (4/ 194). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 407): هذا الكلام الذي قاله عليٌّ -رضي اللَّه عنه- حمله عليه ترجيحِ جَانِبِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما رأى عنده من القلق والغَمِّ بسبب القول الذي قِيل، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- شديدَ الغَيْرَة، فرأى عليٌّ أنَّه إذا فارقها سَكَنَ ما عنده من القلق بسببها إِلَى أن يتحقق براءَتَها فيمكن رجعتها، ويُستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهابِ أشدِّهما.

قَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا وَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أُغْمِصُهُ (¬1) عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ (¬2) فَتَأْكُلُهُ (¬3). فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ (¬4)، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ، وَبَلَغَ الأَمْرُ إِلَى صَفْوَانَ بنَ المُعَطَّلِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ (¬5) أُنْثَى قَطُّ (¬6). ¬

_ (¬1) أُغمِصُهُ: أي أعيبه. انظر النهاية (3/ 347). (¬2) قال الحافظ في الفتح (9/ 409): الدَّاجِنُ: هي الشاةُ التي تألفُ البيت ولا تَخرج إِلَى المَرْعى، وقيل هي كل ما يألفُ البيوت مُطلقًا شاة أو طَيْرًا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} - رقم الحديث (4750). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 408): أي حَتَّى صرَّحوا لها بالأمر، فلهذا تعجَّبت، وقالت: سبحان اللَّه. (¬5) قال النووي في شرح مسلم (17/ 95): الكَنَفُ: بفتح الكاف والنون: أي ثَوبها الذي يستُرها، وهو كِناية عن عدم جِماع النساء. (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب رقم (12) - رقم الحديث (4757) - وفي رواية أبي سعيد بن أبي هلال عن هشام بن عروة فِي قِصَّة الإفك قال: إن الرَّجل الذي قيل فيه ما قيل لما بلغَهُ الحديث قال: واللَّه ما أَصَبْتُ امرأةً قَطُّ حلالًا ولا حَرَامًا. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 398): فالذي يظهر أن مُراده بالنفي المذكور ما قَبْلَ هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك. فهذا الجَمْعُ لا اعتراض عليه إِلَّا بما جاء عن ابن إسحاق في السيرة (3/ 334): أنَّه كان حَصُورًا -وهو الذي لا يأتي النساء- لكنه لم يثبت فلا يُعارض الحديث الصحيح. =

فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا -يَعْنِي صَفْوَانَ بنَ المُعَطَّلِ -رضي اللَّه عنه- مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي". فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضرَبْتُ عُنُقَهُ (¬1)، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ، أمَرْتَنَا ففعَلنَا أمْرَكَ. ¬

_ = قلتُ: وقع عندَ الطحاوي في شرح مُشكل الآثار - رقم الحديث (2044) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (1488) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (2459) بسند صحيح على شرط الشيخين من حديث أبي سعيد الخُدرِيّ -رضي اللَّه عنه- أنَّه قال: جاءت امرأةُ صفوانَ بن المعطَّل إِلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يَا رَسُول اللَّهِ إن صفوان بن المعطَّل يضرِبُنِي إذا صلَّيْتُ، ويُفطِّرني إذا صُمت ولا يُصلي صلاة الفجر حَتَّى تطلُعَ الشَّمس - وصفوانُ عند رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال صفوان: . . . وأما قولها يُفَطِّرني إذا صمت، فإنَّها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شابٌّ لا أصْبِرُ، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يومئذ: "لا تَصُومَنَّ امرأةٌ إِلَّا بإذن زوجها"، وأما قولها: لا أُصَلِّي حَتَّى تطلع الشَّمس، فإنا أهل بيتٍ قد عُرِف لنا ذَاك، لا نستيقظ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمس. . . الحديث. والإشكالُ هنا: قول صفوان -رضي اللَّه عنه-: وأنا رجُلٌ شابٌّ لا أصبر. قال الإِمام الذهبي في السير (2/ 550) فهذا بَعيدٌ من حال صَفوان أن يكون كذلك، وقد جعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ساقَةِ الجيش، فلعله آخرُ باسمه. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 398): المَقُول فيه ذلك غير صَفوان، وهو المعتمد إن شاء اللَّه تَعَالَى. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 411): إنما قال سعد -رضي اللَّه عنه- ذلك لأنه كان سيّدهم، فجزم بأن حكمه فيهم نافِذٌ.

قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ (¬1)، فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ ابنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الحَيَّانِ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَائِمٌ عَلَى المِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَرْقَأُ (¬2) لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، قَالَتْ: فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا (¬3) لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، يَظُنَّانِ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ ¬

_ (¬1) قال ابن التين فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (9/ 413): أي لم يتقدَّم منه ما يتعلَّق بالوقُوف مع أنفة الحَمِيَّة، ولم ترد أنَّه ناضَل عن المنافقين. (¬2) لا يَرْقأ: أي لا ينقطع. انظر النهاية (2/ 226). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 414): أي الليلة التي أخبرتها فيها أم مسطح الخَبَر، واليوم الذي خَطَب فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاس، والليلةَ التي تليه.

فِي شَأْنِي. قَالَتْ: فتَشَهَّدَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ: يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا (¬2)، فَإِنْ كنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ (¬3)، وَإنْ كنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّه وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ". قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَقَالَتَهُ قَلَصَ (¬4) دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لِأَبِي: أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا قَالَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا قَالَ. قَالَتْ أُمِّي: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآن (¬5): إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُمْ هَذَا الحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4757) قالت عائشة رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا: فحمد اللَّه وأثنى عليه. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 415): هو كناية عما رُميت به من الإفك، ولم أرَ فِي شيء من الطرق التَّصريح. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 415): أي بِوَحْي ينزله بذلك قرآنًا أو غيره. (¬4) قال الحافظ في الفتح (9/ 416): قَلَص: بفتح القاف والام: أي استمسك نُزُوله فانقطع. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 416): قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هذا توطئة لعذرها لكونها لم تستحضر إسم يعقوب عليه السلام كما سيأتي.

قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لَكُمْ مَثَلًا -وَالْتَمَسْتُ اسْمَ يَعْقُوبٍ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ- إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ حِينَ قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (¬1). قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّه يُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّه مُنْزِلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى (¬2)، وَلَشَأَنْي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ (¬4)، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ (¬5) مِنَ العَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، مِنْ ثِقَلِ القَوْلِ الذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ (¬6). ¬

_ (¬1) سورة يوسف آية (18). (¬2) في رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 329): قالت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يقرأ به فِي المساجد، ويُصلى به. (¬3) رام: أي فارق. انظر النهاية (2/ 263). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 417): البرحاء: بضم الموحدة وفتح الراء: هي شدة الحمى، وقيل شدة الكرب، وقيل شدة الحر. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 330): فسُجي بثوبه وَوُضِعَتْ تحت رأسه وسادة من أدم. (¬5) الجُمان: بضم الجيم وتخفيف الميم، هو اللؤللؤ. انظر النهاية (1/ 291). (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} - رقم الحديث (4750).

قَالَتْ: فَأَمَّا أَنَا حِينَ رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ، فَوَاللَّهِ مَا فَزِعْتُ وَلَا بَالَيْتُ، قَدْ عَرَفْتُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ ظَالِمِي، وَأَمَّا أَبَوَايَ، فَوَالذِي نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ مَا سُرِّيَ (¬1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَنَّ أَنْفُسُهُمَا، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ اللَّهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النَّاسُ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَتْ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ! أَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ بَرَّأَكِ" (¬2). فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ (¬3) عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (¬4) (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (9/ 418): سُرِّي: بضم السين وتشديد الراء المكسورة: أي كشف. (¬2) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (3/ 330). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تفسيره (6/ 25): أي بالكذب والبهت والافتراء. (¬4) هو عبد اللَّه بن أُبي بن سلول قبحه اللَّه.

* إقامة الحد على من أشاع حديث الإفك

عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). * إِقَامَةُ الحَدِّ عَلَى مَنْ أَشَاعَ حَدِيثَ الإِفْكِ: فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، خرج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَسْجِدِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ القُرْآنِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَ بِمِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ، وَحَسَّانِ بنِ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَكَانُوا مِمَّنْ أَفْصَحَ بِالفَاحِشَةِ، فَضُرِبُوا حَدَّ القَذْفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ، وَتَلَا القُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . فَأَمَرَ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، وَهُمْ: ¬

_ (¬1) الآيات من سورة النور من آية (11 - 19) (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24066) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الحدود - باب في حد القذف - رقم الحديث (4744).

* ترك عبد الله بن أبي بن سلول

حَسَّانُ، وَمِسْطَحُ، وَحَمْنَةُ (¬1). * تَرْكُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ: وَتُرِكَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ المُنَافِقُ، وَلمْ يُحَدَّ، مَعَ أَنَّهُ رَأْسُ أَهْلِ الإِفْكِ، فَقِيلَ: لِأَنَّ الحُدُودَ تَخْفِيفٌ عَنْ أَهْلِهَا وَكَفَّارَةٌ، وَالخَبِيثُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَقَدْ وَعَدَهُ اللَّهُ بِالعَذَابِ العَظِيمِ فِي الآخِرَةِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2). وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَسْتَوْشِي (¬3) الحَدِيثَ، وَيَجْمَعُهُ وَيَحْكِيهِ، وَيُخْرِجُهُ فِي قَوَالِبَ مَنْ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ (¬4). * اعْتِذَارُ حَسَّانِ بنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدِ اعْتَذَرَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، قُلْتُ -القَائِلُ مَسْرُوقٌ-: أَتَأْذَنِينَ لِهَذَا؟ ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2963)، وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الحدود - باب في حد القذف - رقم الحديث (4475) عن محمَّد بن إسحاق بهذا الحديث إِلَّا أنَّه لم يذكر عائشة. (¬2) انظر زاد المعاد (3/ 236). (¬3) يستوشي: أي يستخرج الحديث بالبحث عنه. انظر النهاية (5/ 165). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب (12) - رقم الحديث (4757) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب فِي حديث الإفك - رقم الحديث (2770) (58) من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

قَالَتْ: أَوَلَيْسَ قَدْ أَصَابَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ؟ فَقَالَ حَسَّانٌ -رضي اللَّه عنه- يَمْدَحُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: حَصَانٌ (¬1) رَزَانٌ (¬2) مَا تُزَنُّ (¬3) بَرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى (¬4) مِنْ لُحُومِ الْغَوافِلِ (¬5) عَقِيلةُ (¬6) حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيْمَهَا (¬7) ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ حَلَيْلَةُ خَيْرِ الخَلْقِ دِينًا وَمَنْصِبًا ... نَبِيِّ الهُدَى وَالمَكْرُمَاتِ الفَوَاضِلِ رَأَيْتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللَّهِ حُرَّةً ... مِنَ المُحْصَنَاتِ غَيْرَ ذَاتِ الغَوَائِلِ (¬8) ¬

_ (¬1) الحصان: بفتح الحاء المرأة العفيفة. انظر النهاية (1/ 382). ومنه قوله تَعَالَى فِي سورة النساء آية (24): {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}. (¬2) يُقال: امرأة رزان بالفتح، ورزينة، إذا كانت ذات ثبات ووقار وسكون. انظر النهاية (2/ 201). (¬3) ما تُزَن: أي ما تتهم. انظر النهاية (2/ 285). (¬4) قال الحافظ في الفتح (9/ 429): غَرثى: بفتح الغين وسكون الراء: أي خميصة البطن أي لا تغتاب أحد. (¬5) قال الحافظ في الفتح (9/ 429): الغوافل: جمع غافلة، وهي الغافلة عن الشر، والمراد تبرئتها من اغتياب النَّاس بأكل لحومهم من الغيبة. إِلى هذا القدر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} - رقم الحديث (4755). (¬6) العقيلة من النساء: الكريمة. انظر لسان العرب (9/ 330). (¬7) الخِيْم: بكسر الخاء: الأصل. انظر فتح الباري (9/ 430). (¬8) انظر سيرة ابن هشام (3/ 334).

* شدة ورع زينب بنت جحش رضي الله عنها

وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: ذَهَبْتُ أَسُبُّ حَسَّانَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: لَا تَسُبَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنَافِحُ (¬1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هِجَاءِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَيْفَ بِنَسَبِي؟ ". قَالَ حَسَّانُ -رضي اللَّه عنه-: لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجِينِ (¬2). * شِدَّةُ وَرَعِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَمَّا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَدْ عَصَمَهَا اللَّهُ (¬3) بِلِسَانِهَا، فَلَمْ تَقُلْ إِلَّا خَيْرًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ. . . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أَمْرِي فَقَالَ: "يَا زَيْنَبُ، مَاذَا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيتِ؟ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَهِيَ التِي كَانَتْ تُسَامِينِي (¬4) مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ، وَطَفِقَتْ (¬5) أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا (¬6)، فَهَلَكَتْ ¬

_ (¬1) ينافح: يدافع. انظر النهاية (5/ 77). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث الإفك - رقم الحديث (4145). (¬3) قال الحافظ في الفتح (9/ 420): عصمها اللَّه: أي حفظها ومنعها. (¬4) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (17/ 95): تساميني: أي تفاخرني وتشاهيني بجمالها ومكانها عند النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) طَفِقت: بكسر الفاء: أي جعلت. انظر لسان العرب (8/ 174). (¬6) قال الحافظ في الفتح (9/ 420): تحارب لها: أي تجادل لها وتتعصب لها.

* حفظ أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- لسانه

فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الإِفْكِ (¬1) * حِفْظُ أَبِي أَيُّوبٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- لِسَانَهُ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَمَا سَمِعَ هَذِهِ الفِرْيَةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَعَ عِنْدَ ابنِ إِسْحَاقَ (¬3) أَنَّهُ أَبُو أَيُّوبٍ الأَنْصَارِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِهِ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ فِي طُرُقِ حَدِيثِ الإِفْكِ، مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الخُرَسَانِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} - رقم الحديث (4750) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب في حديث الإفك - رقم الحديث (2770). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإعتصام - باب قوله تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} - رقم الحديث (7370). (¬3) قال ابن إسحاق في السيرة (3/ 330): أَنَّ أَبا أَيُّوب خالد بن زيد -رضي اللَّه عنه-، قالت له امرأته أم أيوب: يَا أَبا أَيُّوب، ألا تسمع ما يقول النَّاس فِي عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت يَا أم أَيُّوب فاعلة؟ قالت: لا، واللَّه ما كنت لأفعله؟ قال: فعائشة واللَّه خير منك. (¬4) انظر فتح الباري (15/ 288).

* أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يمسك النفقة عن مسطح ثم يرجعها

* أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- يُمْسِكُ النَّفَقَةَ عَنْ مِسْطَحٍ ثُمَّ يُرْجِعُهَا: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ (¬1) وَفَقْرِهِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُذْرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أَنْفَعُهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا، بَعْدَ الذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ، وَأَدْخَلَ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {وَلَا يَأْتَلِ (¬2) أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ التِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبْدًا (¬4). وَفِي هَذَا المَوْقِفِ نَطَّلِعُ عَلَى أُفُقٍ عَالٍ مِنْ آفَاقِ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ، التِي تَطَهَّرَتْ بِنُورِ اللَّهِ. . . أُفُقٌ يُشْرِقُ فِي نَفْسِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، أَبِي بَكْرٍ الذِي سَمِعَ حَدِيثَ الإِفْكِ فِي أَعْمَاقِ قَلْبِهِ، وَالذِي احْتَمَلَ مَرَارَةَ الِاتِّهَامِ لِبيْتِهِ وَعِرْضِهِ، فَمَا يَكَادُ يَسْمَعُ دَعْوَةَ رَبِّهِ إِلَى العَفْوِ، وَمَا يَكَادُ يَلْمَسُ وُجْدَانَهُ ذَلِكَ السُّؤَالُ ¬

_ (¬1) أم مسطح تكون بنت خالة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (6/ 74). (¬2) ولا يأتل: أي ولا يحلف. انظر تفسير ابن كثير (6/ 31). (¬3) سورة النور آية (22). (¬4) أخرج قصة إعادة نفقة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- على مسطح -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} - رقم الحديث (4750) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب فِي حديث الإفك - رقم الحديث (2770) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24317).

* هل نزلت آية التيمم في المريسيع؟

المُوْحِي: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ}؟ حَتَّى يَرْتَفِعَ عَلَى الْآلَامِ، وَيَرْتَفِعُ عَلَى مَشَاعِرِ الإِنْسَانِ، وَيَرْتَفِعُ عَلَى مَنْطِقِ البِيئَةِ، وَحَتَّى تَشُفَّ رُوحُهُ وَتَرُفَّ وَتُشْرِقَ بِنُورِ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ يُلَبِّي دَاعِيَ اللَّهِ فِي طُمَأْنِينَةٍ وَصِدْقٍ يَقُولُ: بَلَى وَاللَّهِ، إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، وَيُعِيدُ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ التِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَيَحْلِفُ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. ذَلِكَ مُقَابِلَ مَا حَلَفَ: وَاللَّهِ لَا أَنْفَعُهُ بِنَافِعَةٍ أَبَدًا. وَبِذَلِكَ يُزِيلُ اللَّهُ تَعَالَى الآلَامَ عَنْ ذَلِكَ القَلْبِ الكَبِيرِ، وَيَغْسِلُهُ مِنْ أَوْضَارِ (¬1) المَعْرَكَةِ، لِيَبْقَى أَبَدًا نَظِيفًا طَاهِرًا زَكِيًّا مُشْرِقًا بِالنُّورِ. . . (¬2). * هَلْ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ فِي المُرَيْسِيعِ؟ : وَقِيلَ إِنَّ فِي غَزْوَةِ المُرَيْسِيعِ نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ، فَقَدْ فَقَدَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِقْدَهَا مَرَّةً ثَانِيَةً، فَاحْتَبَسَ المُسْلِمُونَ فِي طَلَبِهِ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ (¬3) حَتَّى إِذَا كُنَّا ¬

_ (¬1) أوضار المعركة: أي شدة المعركة. انظر لسان العرب (8/ 45). (¬2) انظر في ظلال القرآن لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (4/ 2505). (¬3) قال ابن عبد البر في التمهيد فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (1/ 574): يُقال: إن ذلك =

بِالبَيْدَاءِ (¬1) -أَوْ بِذَاتِ الجَيْشِ- انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي (¬2)، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ ، أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- والنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ (¬3) وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعَنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ¬

_ = كان في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك فِي "الاستذكار"، وسبقه إِلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها وقعت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أَيضًا. قال الحافظ: فإن كان ما جزموا به ثابتًا حمل على أنَّه سقط منها العقد فِي تلك السفرة مرتين لاختلاف القصتين كما هو مبين فِي سياقها. (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 575): البيداء: موضع بين مكة والمدينة. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 575): العقد: القلادة. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (336) قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أنها إستعارت قلادة من أسماء يعني أختها، فهلكت: أي ضاعت. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 578): والجمع بينهما أن إضافة القلادة إِلَى عائشة لكونها فِي يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 576): والنكتة فِي قول عائشة: "فعاتبني أبو بكر"، ولم تقل أبي؛ لأن قضية الأبوة الحنو، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل مغاير لذلك فِي الظاهر، فلذلك أنزلته منزل الأجنبي فلم تقل أبي.

تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ (¬1) {فَتَيَمَّمُوا}. فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ (¬2)، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ (¬3). قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ العِقْدِ التِي نَزَلَ التَّيَمُّمُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ هَذِهِ الغَزْوَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَلَكِنْ فِيهَا كَانَتْ قِصَّةُ الإِفْكِ بِسَبَبِ فَقْدِ العِقْدِ وَالْتِمَاسِهِ، فَالْتَبَسَ عَلَى بَعْضِهِمْ إِحْدَى القِصَّتَيْنِ بِالأُخْرَى (¬4). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ القِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ قِصَّةِ الإِفْكِ (¬5). ¬

_ (¬1) آية التيمم هي الآية رقم (6) من سورة المائدة وهي قوله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. (¬2) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري رقم الحديث (336) قال أسيد بن حضير -رضي اللَّه عنه- لعائشة: جزاك اللَّه خيرًا، فواللَّه ما نزل بك أمر تكرهينه إِلَّا جعل اللَّه ذلك لك وللمسلمين فيه خيرًا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التيمم - رقم الحديث (334) - وأخرجه مسلم فِي صحيحه - كتاب الحيض - باب التيمم - رقم الحديث (367) - وأخرجه الإِمام أحمد فِي مسنده - رقم الحديث (25455). (¬4) انظر زاد المعاد لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (3/ 231). (¬5) انظر فتح الباري (1/ 578).

* الفوائد التي اشتملت عليها حادثة الإفك

قُلْتُ: وَالذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ أَنَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ نَزَلَتْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الغَزْوَةِ لِمُخَالَفَتِهَا قِصَّةَ الإِفْكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. * الفَوَائِدُ التِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا حَادِثَةُ الإِفْكِ: قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي قِصَّةِ الإِفْكِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ الحَدِيثِ عَنْ جَمَاعَةٍ مُلَفَّقًا مُجْمَلًا. 2 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةِ القُرْعَةِ حَتَّى بَيْنَ النِّسَاءِ وَفِي المُسَافَرَةَ بِهِنَّ، وَالسَّفَرُ بِالنِّسَاءِ حَتَّى فِي الغَزْوِ. 3 - وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ التَّوْطِئَةِ فِيمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الكَلَامِ. 4 - وَأَنَّ الهَوْدَجَ يَقُومُ مَقَامَ البَيْتِ فِي حَجْبِ المَرْأَةِ. 5 - وَفِيهِ جَوَازُ رُكُوبِ المَرْأَةِ الهَوْدَجَ عَلَى ظَهْرِ البَعِيرِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ حَيْثُ يَكُونُ مُطِيقًا لِذَلِكَ. 6 - وَفِيهِ خِدْمَةُ الأَجَانِبِ لِلْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ. 7 - وَجَوَازُ تَسَتُّرِ المَرْأَةِ بِالشَّيْءَ المُنْفَصِلِ عَنِ البَدَنِ. 8 - وَفِيهِ تَوَجُّهُ المَرْأَةِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنٍ خَاصٍّ مِنْ زَوْجِهَا، بَلِ اعْتِمَادًا عَلَى الإِذْنِ العَامِّ المُسْتَنِدِ إِلَى العُرْفِ العَامِّ. 9 - وَفِيهِ جَوَازُ تَحَلِّي المَرْأَةِ فِي السَّفَرِ بِالقِلَادَةِ وَنَحْوِهَا.

10 - وَفِيهِ صِيَانَةُ المَالِ، وَلَوْ قَلَّ؛ لِلنَّهْي عَنْ إِضَاعَةِ المَالِ (¬1)، فَإِنَّ عِقْدَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا جَوْهَرٍ. 11 - وَفِيهِ شُؤْمُ الحِرْصِ عَلَى المَالِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُطِلْ فِي التَّفْتِيشِ لَرَجَعَتْ بِسُرْعَةٍ، فَلَمَّا زَادَ عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ أَثَّرَ مَا جَرَى. 12 - وَفِيهِ تَوَقُّفُ رَحِيلِ العَسْكَرِ عَلَى إِذْنِ الأَمِيرِ. 13 - وَاسْتِعْمَالُ بَعْضِ الجَيْشِ سَاقَةً (¬2) يَكُونُ أَمِينًا؛ لِيَحْمِلَ الضَّعِيفَ، وَيَحْفَظَ مَا يَسْقُطُ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ المَصَالِحِ. 14 - وَفِيهِ الِاسْتِرْجَاعُ عِنْدَ المُصِيبَةِ. 15 - وَفِيهِ تَغْطِيَةُ المَرْأَةِ وَجْهَهَا عَنْ نَظَرِ الأَجْنَبِيِّ، وَإِطْلَاقُ الظَّنِّ عَلَى العِلْمِ، كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَظَرٌ. 16 - وَفِيهِ إِغَاثَةُ المَلْهُوفِ، وَعَوْنُ المُنْقَطِعِ، وَإِنْقَاذُ الضَّائِعِ. 17 - وَفِيهِ إِكْرَامُ ذَوِي القَدْرِ، وَإِيثَارُهُمْ بِالرُّكُوبِ وَتَجَشُّمُ (¬3) المَشَقَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) أخرج الإِمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1477) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (12/ 11) (593) عن المغيرة بن شعبة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال". (¬2) الساقة: جمع سائق، وهم الذين يسوقون جيش الغزاة، ويكونون من ورائه يحفظونه. انظر النهاية (2/ 381). (¬3) تجشم الأمر: إذا تكلفه. انظر النهاية (1/ 265).

18 - وَفِيهِ حُسْنُ الأَدَبِ مَعَ الأَجَانِبِ خُصُوصًا النِّسَاءِ، لَاسِيَّمَا فِي الخَلْوَةِ. 19 - وَفِيهِ المَشْيُ أَمَامَ المَرْأَةِ؛ لِيَسْتَقِرَّ خَاطِرُهَا، وَتَأْمَنَ مِمَّا يَتَوَهَّمُ مِنْ نَظَرِهِ لِمَا عَسَاهُ يَنْكَشِفُ مِنْهَا فِي حَرَكَةِ المَشْي. 20 - وَفِيهِ مُلَاطفَةُ الزَّوْجَةِ، وَحُسْنُ مُعَاشَرَتِهَا، وَالتَّقْصِيرُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ إِشَاعَةِ مَا يَقْتَضِي النَّقْصَ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ تَتَفَطَّنَ لِتَغْيِيرِ الحَالِ فَتَعْتَذِرَ أَوْ تَعْتَرِفَ. 21 - وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ المَرِيضِ أَنْ يُعْلِمُوهُ بِمَا يُؤْذِي بَاطِنَهُ؛ لِئَلَّا يَزِيدَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ. 22 - وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ المَرِيضِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى مَرَاتِبِ الهُجْرَانِ بِالكَلَامِ وَالمُلَاطَفَةِ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ مُحَقَّقًا فَيُتْرَكُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا فَيُخَفَّفُ، وَإِنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ، أَوْ مُحْتَمَلًا فَيَحْسُنُ التَّقْلِيلُ مِنْهُ لَا لِلْعَمَلِ بِمَا قِيلَ، بَلْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِصَاحِبِهِ عَدَمُ المُبَالَاةِ بِمَا قِيلَ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَوَارِمِ المُرُوءَةِ. 23 - وَفِيهِ أَنَّ المَرْأَةَ إِذَا خَرَجَتْ لِحَاجَةٍ تَسْتَصْحِبُ مَنْ يُؤْنِسُهَا أَوْ يَخْدِمُهَا مِمَّنْ يُؤَمَنُ عَلَيْهَا. 24 - وَفِيهِ ذَبُّ المُسْلِمِ عَنِ المُسْلِمِ خُصُوصًا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الفَضْلِ،

وَرَدْعِ مَنْ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ بِسَبِيلٍ. 25 - وَفِيهِ بَيَانُ مَزِيدِ فَضِيلَةِ أَهْلِ بَدْرٍ، وَإِطْلَاقُ السَّبِّ عَلَى لَفْظِ الدُّعَاءَ بِالسُّوءِ عَلَى الشَّخْصِ. 26 - وَفِيهِ البَحْثُ عَنِ الأَمْرِ القَبِيحِ إِذَا أُشِيعَ وَتَعَرُّفُ صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ بِالتَّنْقِيبِ عَلَى مَنْ قِيلَ فِيهِ هَلْ وَقَعَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يَقْرُبُ مِنْهُ، وَاسْتِصْحَابُ حَالِ مَنِ اتُّهِمَ بِسُوءٍ إِذَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِالخَيْرِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ بِالبَحْثِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ. 27 - وَفِيهِ فَضِيلَةٌ قَوِيَّةٌ لِأُمِّ مِسْطَحٍ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُحَابِ وَلَدَهَا فِي وُقُوعِهِ فِي حَقِّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَلْ تَعَمَّدَتْ سَبَّهُ عَلَى ذَلِكَ. 28 - وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُمْ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ" (¬1)، وَأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ المُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ تَقَعُ مِنْهُمْ لَكِنَّهَا مُقْرُونَةٌ بِالمَغْفِرَةِ تَفْضيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ المَشْهَدِ العَظِيمِ. 29 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْبِيحِ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَعْتَقِدُ السَّامِعُ أَنَّهُ كَذِبٌ، وَتَوْجِيهُهُ هُنَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُنَزَّهُ أَنْ يَحْصُلَ لِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَدْنِيسٌ، ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدرًا - رقم الحديث (3983) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2494).

فَيُشْرَعُ شُكْرُهُ بِالتَّنْزِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا. 30 - وَفِيهِ تَوَقُّفُ خُرُوجِ المَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا عَلَى إِذْنِ زَوْجِهَا، وَلَوْ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ أَبَوَيْهَا. 31 - وَفِيهِ البَحْثُ عَنِ الأَمْرِ المَقُولِ مِمَّنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَقُولُ فِيهِ، وَالتَّوَقُّفُ فِي خَبَرِ الوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ صَادِقًا، وَطَلَبُ الِارْتِقَاءِ مِنْ مَرْتَبَةِ الظَّنِّ إِلَى مَرْتَبَةِ اليَقِينِ، وَأَنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ إِذَا جَاءَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ أَفَادَ القَطْعَ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "لَأَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا"، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. 32 - وَفِيهِ اسْتِشَارَةُ الْمَرْءِ أَهْلِ بِطَانَتِهِ مِمَّنْ يَلُوذُ بِهِ بِقَرَابَةٍ وَغَيْرِهَا، وَتَخْصِيصُ مَنْ جُرِّبَتْ صِحَّةُ رَأْيِهِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ، وَالبَحْثُ عَنْ حَالِ مَنِ اتُّهِمَ بِشَيْءٍ، وَحِكَايَةُ ذَلِكَ لِلْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهِ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ غِيبَةً. 33 - وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ "لَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا" فِي التَّزْكِيَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حَقِّ مَنْ سَبَقَتْ عَدَالَتُهُ مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَى خَفِيِّ أَمْرِهِ. 34 - وَفِيهِ التَّثَبُّتُ فِي الشَّهَادَةِ، وَفِطْنَةُ الإِمَامِ عِنْدَ الحَادِثِ المُهِمِّ، وَالِاسْتِنْصَارُ بِالأَخِصَّاءِ عَلَى الأَجَانِبِ، وَتَوْطِئَةُ العُذْرِ لِمَنْ يُرَادُ إِيقَاعَ العِقَابِ بِهِ أَوِ العِتَابِ لَهُ، وَاسْتِشَارَةُ الأَعْلَى لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَاسْتِخْدَامُ مَنْ لَيْسَ فِي الرِّقِّ، وَأَنَّ مَنِ اسْتَفْسَرَ عَنْ حَالِ شَخْصٍ، فَأَرَادَ بَيَانَ مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ، فَلْيُقَدِّمْ ذِكْرَ عُذْرِهِ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ يَعْلَمُهُ، كَمَا قَالَتْ بَرِيرَةُ فِي عَائِشَةَ، حَيْثُ عَابَتْهَا بِالنَّوْمِ

عَنِ العَجِينِ، فَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ. 35 - وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-كَانَ لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الوَحْي؛ لِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَجْزِمْ فِي القِصَّةِ بِشَيْءٍ قَبْلَ نُزُولِ الوَحْي. 36 - وَفِيهِ أَنَّ الحَمِيَّةَ للَّهِ وَرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا تُذَمُّ. 37 - وَفِيهِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ لِعَائِشَةَ، وَلِأَبَوَيْهَا، وَلصَفْوَانَ، وَلعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ، وَسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، وأُسَيْدِ بنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. 38 - وَفِيهِ أَنَّ التَّعَصُّبَ لِأَهْلِ البَاطِلِ يُخْرِجُ عَنِ اسْمِ الصَّلَاحِ. 39 - وَفِيهِ جَوَازُ سَبِّ مَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْبَاطِلِ وَنِسْبَتُهُ إِلَى مَا يَسُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الحَقِيقَةِ فِيهِ، لَكِنْ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ جَازَ إِطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ تَغْلِيظًا لَهُ. 40 - وَفِيهِ إِطْلَاقُ الكَذِبِ عَلَى الخَطَأِ، وَالقَسَمِ بِلَفْظِ لَعَمْرُ اللَّهِ. 41 - وَفِيهِ النَّدْبُ إِلَى قَطْعِ الخُصُومَةِ. 42 - وَفِيهِ تَسْكِينُ ثَائِرَةِ الفِتْنَةِ، وَسَدِّ ذَرِيعَةِ ذَلِكَ، وَاحْتِمَالِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِزَوَالِ أَغْلَظِهِمَا. 43 - وَفِيهِ فَضْلُ احْتِمَالِ الأَذَى. 44 - وَفِيهِ مُبَاعَدَةُ مَنْ خَالَفَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا حَمِيمًا.

45 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّ سَعْدَ بنَ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- أَطْلَقَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 46 - وَفِيهِ مُسَاعَدَةُ مَنْ نَزَلَتْ فِيهِ بَلِيَّةٌ بِالتَّوَجُّعِ وَالبُكَاءِ وَالحُزْنِ. 47 - وَفِيهِ تَثَبُّتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- فِي الأُمُورِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي هَذِهِ القِصَّةِ مَعَ تَمَادِي الحَالِ فِيهَا شَهْرًا كَلِمَةً فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا مَا وَرَدَ عَنْهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا قِيلَ لَنَا هَذَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فكَيْفَ بَعْدَ أَنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالإِسْلَامِ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الطَّبَرانِّي. 48 - وَفِيهِ ابْتِدَاءُ الكَلَامِ فِي الأَمْرِ المُهِمِّ بِالتَّشَهُّدِ وَالحَمْدِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلِ: أَمَّا بَعْدُ. 49 - وَفِيهِ تَوْقِيفُ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ ذَنْبٌ عَلَى مَا قِيلَ فِيهِ بَعْدَ البَحْثِ عَنْهُ، وَأَنَّ قَوْلَ كَذَا وَكَذَا يُكْنَى بِهَا عَنِ الأَحْوَالِ كَمَا يُكْنَى بِهَا عَنِ الأَعْدَادِ وَلَا تَخْتَصُّ بِالأَعْدَادِ. 50 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّوْبَةِ، وَأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنَ المُعْتَرِفِ المُقْلِعِ المُخْلِصِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِرَافِ لَا يُجْزِئُ فِيهَا. 51 - وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِمَا لَمْ يَقَعْ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اعْتِرَافِهِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ الحَقَّ أَوْ يَسْكُتَ.

52 - وَفِيهِ أَنَّ الصَّبْرَ تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ وَيُغْبَطُ صَاحِبُهُ. 53 - وَفِيهِ تَقْدِيمُ الكَبِيرِ فِي الكَلَامِ، وَتَوَقُّفُ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الأَمْرُ فِي الكَلَامِ. 54 - وَفِيهِ تَبْشِيرُ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ أَوِ انْدَفَعَتْ عَنْهُ نِقْمَةٌ. 55 - وَفِيهِ الضَّحِكُ وَالفَرَحَ وَالِاسْتِبْشَارُ عِنْدَ ذَلِكَ. 56 - وَفِيهِ مَعْذِرَةُ مَنِ انْزَعَجَ عِنْدَ وُقُوعِ الشِّدَّةِ لِصِغَرِ سِنٍّ وَنَحْوِهِ. 57 - وَفِيهِ إِدْلَالُ المَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَأَبَوَيْهَا. 58 - وَفِيهِ تَدْرِيجُ مَنْ وَقَعَ فِي مُصِيبَةٍ فزَالَتْ عَنْهُ لِئَلَّا يَهْجُمَ عَلَى قَلْبِهِ الفَرَحُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَيُهْلِكَهُ، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنِ ابْتِدَاءِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ نُزُولِ الوَحْي بِبَرَاءَةِ عَائِشَةَ بِالضَّحِكِ، ثُمَّ تَبْشِيرِهَا، ثُمَّ إِعْلَامِهَا بِبَرَاءَتِهَا مُجْمَلَةً، ثُمَّ تِلَاوَتِهِ الآيَاتِ عَلَى وَجْهِهَا، وَقَدْ نَصَّ الحُكَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ لَا يُمَكَّنُ مِنَ المُبَالَغَةِ فِي الرَّيِّ فِي المَاءِ لِئَلَّا يُفْضِي بِهِ ذَلِكَ إِلَى الهَلَكَةِ، بَلْ يُجَرَّعُ قَلِيلًا قَلِيلًا. 59 - وَفِيهِ أَنَّ الشِّدَّةَ إِذَا اشْتَدَّتْ أَعْقَبَهَا الفَرَجُ. 60 - وَفِيهِ فَضْلُ مَنْ يُفَوِّضُ الأَمْرَ لِرَبِّهِ، وَأَنَّ مَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ خَفَّ عَنْهُ الهَمُّ وَالغَمُّ، كَمَا وَقَعَ فِي حَالَتَيْ عَائِشَةَ قَبْلَ اسْتِفْسَارِهَا عَنْ حَالِهَا وَبَعْدَ جَوَابِهَا بِقَوْلهَا: "وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ".

61 - وَفِيهِ الحَثُّ عَلَى الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ الخَيْرِ خُصوصًا فِي صِلَةِ الرَّحِمِ. 62 - وَفِيهِ وُقُوعُ المَغْفِرَةِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ أَوْ صَفَحَ عَنْهُ. 63 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الخَيْرِ اسْتُحِبَّ لَهُ الحَنْثُ (¬1). 64 - وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِشْهَادِ بِآيِ القُرْآنِ فِي النَّوَازِلِ. 65 - وَفِيهِ التَّأَسِّي بِمَا وَقَعَ لِلْأَكَابِرِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. 66 - وَفِيهِ التَّسْبِيحُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَاسْتِعْظَامِ الأَمْرِ. 67 - وَفِيهِ ذَمُّ الغِيبَةِ، وَذَمُّ سَمَاعِهَا، وَزَجْرُ مَنْ يَتَعَاطَاهَا لَا سِيَّمَا إِنْ تَضَمَّنَتْ تُهْمَةَ المُؤْمِنِ بِمَا لَمْ يَقَعْ مِنْهُ. 68 - وَفِيهِ ذَمُّ إِشَاعَةِ الفَاحِشَةِ. 69 - وَفِيهِ تَحْرِيمُ الشَّكِّ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ. 70 - وَفِيهِ تَأْخِيرُ الحَدِّ عَمَّنْ يُخْشَى مِنْ إِيقَاعِهِ بِهِ الفِتْنَةَ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابنُ بَطَّالٍ مُسْتَنِدًا إِلَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، كَانَ مِمَّنْ قَذَفَ عَائِشَةَ، وَلَمْ يَقَعْ فِي الحَدِيثِ أنَّهُ مِمَّنْ حُدَّ، وَتَعَقَّبَهُ عِيَاضٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَذَفَ، بَلِ الذِي ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَخْرِجُهُ، وَيَسْتَوْشِيهِ (¬2). ¬

_ (¬1) الحنث فِي اليمين: نقضها. انظر النهاية (1/ 431). (¬2) انظر هذه الفوائد في فتح الباري (9/ 421 - 424). =

* انتهاء المحنة

* انْتِهَاءُ المِحْنَةِ: وَهَكَذَا، وَبَعْدَ شَهْرٍ تَقَشَّعَتْ (¬1) سَحَابَةُ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ (¬2)، وَالقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ عَنْ جَوِّ المَدِينَةِ، وَافْتُضِحَ رَأْسُ المُنَافِقِينَ افْتِضَاحًا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ (¬3). قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ -أَي ابْنُ سَلُولٍ- إِذَا أَحْدَثَ الحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمُ الذِينَ يُعَاتِبُونَهُ، وَيَأْخُذُونَهُ، وَيُعَنِّفُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قتَلْتَهُ يَوْمَ قُلْتَ لِي: أَقْتُلُهُ، لَأُرْعِدَتْ (¬4) لَهُ أُنُفٌ، وَلَوْ أَمَرْتُهَا اليَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ". فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي (¬5). ¬

_ = وأخرج حديث الإفك: الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} - رقم الحديث (4750) - وكتاب المغازي - باب حديث الإفك - رقم الحديث (4141) - والإمام مسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب في حديث الإفك - رقم الحديث (2770) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24317) (25623) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب القسم - رقم الحديث (4212) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب حديث الإفك - رقم الحديث (8882) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 325) - والبيهقي في دلائل النبوة (4/ 63 - 77). (¬1) تَقشّع السحاب: أي تصدع وأقلع. انظر النهاية (4/ 58). (¬2) الريب: الشك. انظر النهاية (2/ 260). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص 333. (¬4) الرِّعْدَةُ: الاضطِرَاب. انظر لسان العرب (5/ 242). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (3/ 321).

من بداية غزوة الخندق إلى نهايتها

مِنْ بِدَايَةِ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ إِلَى نِهَايَتِهَا غَزْوَةُ الخَنْدَقِ (¬1) وَتُسَمَّى غَزْوَةَ الأَحْزَابِ (¬2)، وَكَانَتْ فِي شَوَّالَ مِنْ السَّنَةِ الخَامِسَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬3). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ مَعْرَكَةَ الأَحْزَابِ لَمْ تَكُنْ مَعْرَكَةَ خَسَائِرٍ، بَلْ مَعْرَكَةَ أَعْصَابٍ (¬4). * سَبَبُهَا: وَكَانَ سَبَبُ قُدُومِ الأَحْزَابِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَشْرَافِ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، الذِينَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 148): فَأمَّا تسميتُها الخندقَ فلأجلِ الخندقِ الذي حُفِرَ حولَ المدينةِ بأمرِ النَّبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ الذي أشارَ بذلكَ سلمانُ الفارسيُّ -رضي اللَّه عنه- فيما ذكرَ أصحابُ المغازِي. وَقَالَ الإِمَامُ السُّهيليُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّوْضِ الأُنُفِ (3/ 416): وحفرُ الخندقِ لم يكنْ من عادةِ العربِ، ولكنَّهُ من مَكَايِدِ الفُرْسِ وحُروبِها. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 148): وَأَمَّا تسميتُهَا الأحزابَ فلاجتماعِ طوائفٍ من المشركينَ على حربِ المسلمينَ، وهم قريشٌ وغطفانُ واليهودُ ومَنْ تبعهُم. (¬3) هذا قولُ الجُمهورِ، وهوَ الصَّحيحُ كما قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي البِدايةِ والنِّهايةِ (4/ 476). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 149): وهو المعتمدُ. (¬4) انظر فِقْهَ السِّيرةِ ص 297 للشَّيخ محمَّد الغزاليِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

كَانُوا قَدْ أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ المَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ، مِنْهُمْ سَلَّامُ بنُ مِشْكَمٍ، وَسَلَّامُ بنُ أَبِي الْحُقَيقِ، وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكِنَانَةُ بنُ الرَّبِيعِ، وَغَيْرُهُمْ، خَرَجُوا إِلَى مَكَّةَ، وَاجْتَمَعُوا بِأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَحَرَّضُوهُمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَلَّبُوهُمْ (¬1) عَلَيْهِ، وَوَعَدُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِم النَّصْرَ وَالإِعَانَةَ، فَقَالُوا: إِنَّا سَنَكُونُ مَعَكُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُ. فَأَجَابَتْهُمْ قُرَيْشٌ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَتْ لَهُمْ قُرَيْشٌ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، إِنَّكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ الأَوَّلِ وَالعِلْمِ بِمَا أَصْبَحْنَا نَخْتَلِفُ فِيهِ نَحْنُ وَمُحَمَّدٌ، أَفَدِينُنَا خَيْرٌ أَمْ دِينُهُ؟ قَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَوْلَى بِالحَقِّ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَهَذَا لَعْنٌ لَهُمْ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ لِيَسْتَمِيلُوهُمْ إِلَى نَصْرِهِمْ، وَقَدْ أَجَابُوهُمْ، وَجَاؤُوا مَعَهُمْ يَوْمَ الأَحْزَابِ، حَتَّى حَفَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ ¬

_ (¬1) أَلَّبُوهُمْ عليه: جَمَّعُوهُمْ عليهِ. انظر النهاية (1/ 61). (¬2) سورة النساء آية (52) - والخبر في سيرة ابن هشام (3/ 237).

* خروج الأحزاب وعدتهم

الخَنْدَقَ، فكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (¬1). فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ لِقُرَيْشٍ سَرَّهُمْ وَنَشَّطَهُمْ لِمَا دَعَوْهُمْ إِلَيْهِ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَتَعَاهَدُوا عَلَى قِتَالِهِ، وَوَعَدُوهُمْ لِذَلِكَ. ثُمَّ خَرَجَ أُولَئِكَ اليَهُودُ إِلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ أَيْضًا. * خُرُوجُ الْأَحْزَابِ وَعِدَّتُهُمْ: خَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي أَحَابِيشِهَا، وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ العَرَبِ مِنْ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، فَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَعَقَدُوا اللِّوَاءَ فِي دَارِ النَّدْوَةِ، وَحَمَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَادُوا مَعَهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ فَرَسٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ، وَخَرَجُوا يَقُودُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَوَافَقَهُمْ بَنُو سُلَيْمٍ بَمَرِّ الظَّهْرَانِ (¬2) وَهُمْ سَبْعُمِائَةٍ يَقُودُهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ حَلِيفُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمْ بَنُو أَسَدٍ يَقُودُهُمْ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَخَرَجَتْ قَبَائِلُ غَطفانَ: بَنُو فزَارَةَ وَهُمْ أَلْفٌ يَقُودُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَبَنُو مُرَّةَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ يَقُودُهُمْ الحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَبَنُو أَشْجَعَ وَهُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ يَقُودُهُمْ مِسْعَرُ بْنُ زُخَيْلَةٍ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَكَانَ جَمِيعُ الذِينَ وَافَوُا الخَنْدَقَ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَهُمُ الْأَحْزَابُ الذِينَ ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (25) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 335). (¬2) مَرُّ الظَّهْرَانِ: هو وادٍ بينَ مكَّةَ وعُسْفَانَ، واسم القريةِ المضافَةِ إليهِ: مَرُّ: بفتحِ الميمِ وتشديدِ الرَّاء. انظر النهاية (3/ 152).

* مشاورة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وحفر الخندق

سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنَاجُ (¬1) الْأَمْرِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَاتَّجَهُوا نَحْوَ الْمَدِينَةِ عَلَى مِيعَادٍ كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ (¬2). * مُشَاوَرَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ وَحَفْرُ الخَنْدَقِ: وَقَبْلَ خُرُوجِ الْأَحْزَابِ وَتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ خُزَاعَةَ الْمَدِينَةَ وَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمْرَ الْأَحْزَابِ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَحْزَابُ مِنَ الْأَمْرِ، دَعَا النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُمْ، وَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ -رضي اللَّه عنه- بِحَفْرِ الخَنْدَقِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ حُرٌّ (¬3)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا بِفَارِسَ إِذَا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا عَلَيْنَا، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَكَانَتْ خُطَّةً حَكِيمَةً لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَبَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَنْفِيذِ هَذِهِ الخُطَّةِ، فَأَمَرَ بِحَفْرِ الخَنْدَقِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ -وَهِيَ عَوْرَةُ الْمَدِينَةِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُهَاجِمُونَ نَفَاذًا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَّا مِنْهَا- بَيْنَ حَرَّتَيِّ (¬4) وَاقِمٍ وَالْوَبْرَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ مُشَبَّكَةً بِالْبُنْيَانِ وَمُحَاطَةً ¬

_ (¬1) عِنَاجُ الأمرِ: أي أَنَّهُ كَانَ صاحبَهُمْ ومُدَبِّرَ أمرِهم، والقائِمَ بشؤونهِمْ. انظر النهاية (3/ 278). (¬2) انظرِ التَّفاصيلَ فِي: سيرةِ ابنِ هشامٍ (3/ 238) - دلائلِ النُّبوَّةِ للبيهقي (3/ 398). الطبَّقَاتِ الكُبْرى لابنِ سعد (2/ 282) - شرحِ المواهب (3/ 21) - تفسيرِ ابن كثير (6/ 384). (¬3) انظر خبر رقه -رضي اللَّه عنه- وكيف أُعتق عند الكلام على نزول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قباء لما قدم المدينة. (¬4) الحَرَّةُ: هي أرضٌ بظاهرِ المدينةِ بها حجارةٌ سودٌ كثيرةٌ. انظر النِّهاية (1/ 351).

* حديث ضعيف

بِالْحَرَّاتِ وَبَسَاتِينِ النَّخِيلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ سِوَى الشَّمَالِ، فَاتُّخِذَ الخَنْدَقُ فِي هَذِهِ النَّاحِيَةِ. وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكُلِّ عَشَرَةِ رِجَالٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: وَلَمَّا قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكُلِّ عَشَرَةِ رِجَالٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، قَالَتِ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ" (¬1). * الْبَدْءُ فِي حَفْرِ الخَنْدَقِ: وَشَرَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي حَفْرِ الخَنْدَقِ فِي جَوٍّ بَارِدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْفِرُ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، وَيَحْمِلُ التُّرَابَ بِنَفْسِهِ تَرْغِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْأَجْرِ وَتَنْشِيطًا لَهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الخَنْدَقِ فَإِذَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ النَّصَبِ (¬2) وَالْجُوعِ، قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ". ¬

_ (¬1) أخرجهُ الحاكمُ فِي المُسْتَدْرَكِ - كتاب معرفة الصَّحابة - باب ذكر سلمان الفارسي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6600) -وإسنادُهُ ضعيفٌ- وأورده الذهبيُّ فِي السير (1/ 540) - وقال: كثير -وهو أحد الرواةِ- متروكٌ. (¬2) النَّصَبُ: التَّعَبُ. انظر النِّهاية (5/ 53).

فَقَالُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُجِيبِينَ لَهُ: نَحْنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا ... عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا (¬1) وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الْخَنْدَقِ حَتَّى وَارَى (¬2) عَنِّي التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ (¬3) وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ (¬4)، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، وَهُوَ يَنْقُلُ مِنَ التُّرَابِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَوَلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا إِنَّ الْأُلَى (¬5) قَدْ بَغَوْا عَليْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج ذلكَ البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4099) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسِّيَرِ - باب غزوة الأحزاب - رقم الحديث (1805) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12732) - وأخرجه الطحاوي في شرح مُشْكِلِ الآثارِ - رقم الحديث (3324). (¬2) وَريْتُ الشَّيْءَ: أَخْفَيْتُهُ. انظر لِسَانَ العربِ (15/ 283). (¬3) في رواية الإِمام مسلم قال البراء -رضي اللَّه عنه-: ولقد وارى التُّرابُ بياضَ بطنِهِ. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 159): ظاهرُ هذا أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ كثيرَ شعرِ الصَّدرِ، وليسَ كذلكَ فإنَّ فِي صفتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ كان دقيقَ الْمَسْرُبَةِ أي الشَّعرِ الذي فِي الصَّدرِ إِلَى البطنِ، فيمكن أَنْ يُجمَعَ بأنَّهُ كان معَ دِقَّتِهِ كثيرًا أي لم يكنْ مُنْتَشِرًا، بل كَانَ مُستَطيلًا واللَّه أعلمُ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 159): الأُلى بمعنى: الذين (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث =

* وهم في الرواية

وَلَا تَسَلْ عَمَّا كَانَتْ تَصْنَعُهُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمُؤْمِنَةُ العِذَابُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ مُضَاعَفَةِ الجُهْدِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ (¬1). وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا نَسِيتُ قَوْلَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يُعَاطِيهِمُ اللَّبِنَ (¬2)، وَقَدِ اغْبَرَّ شَعْرُ صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الْآخْرَةِ ... فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ" قَالَتْ: فَرَأَى عَمَّارًا، فَقَالَ لَهُ: "وَيْحَهُ ابْنُ سُمَيَّةَ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ" (¬3). * وَهْمٌ فِي الرِّوَايَةِ: قُلْتُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِعَمَّارٍ -رضي اللَّه عنه-: "تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ" عِنْدَمَا بَنَى الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الدَّلَائِلِ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْخَنْدَقِ وَهْمًا، أَوْ ¬

_ = (4105) - وأخرجه مسلمٌ في صحيحِهِ - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (1803) - وأخرجه الطحاوي في شرح مُشْكِلِ الآثار - رقم الحديث (3326) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18486). (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة فِي ضَوْءِ القرآنِ والسُّنَّة للدكتور محمد أبو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2/ 278). (¬2) اللَّبِنُ: بفتح اللّام وكسرِ الباءِ: هي التي يُبْني بِهَا الجدارُ. انظر النهاية (4/ 198). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفِتَنِ وأشراطِ السَّاعة - باب لا تقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجلُ بقَبْرِ الرَّجل - رقم الحديث (2915) (2916) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26482).

كَانَ قَدْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: حَمْلُ اللَّبِنِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاقِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ، وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ ... فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ" (¬3) قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْخَنْدَقِ وَقَذْفَ أَتْرِبَتِهِ مِنْ قَبِيلِ التَّمْثِيلِ الذِي يُحْسِنُهُ بَعْضُ الزُّعَمَاءَ، كَلَّا، كَلَّا. إِنَّ الرُّجُولَةَ الْكَادِحَةَ الْجَادَّةَ فِي أَنْبَلِ صُوَرِهَا كَانَتْ تُقْتَبَسُ فِي مَسْلَكِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، يَقُولُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه-: لَقَدْ وَارَى عَنِّي التُّرَابُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ. أَجَلْ إِنَّهُ اسْتَغْرَقَ فِي الْعَمَلِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَالرُّجُولَةُ الصَّادِقَةُ لَا تَعْرِفُ التَّمْثِيلَ. . . (¬4). ¬

_ (¬1) انظر دلائلَ النُّبوَّة للبيهقي (2/ 549). (¬2) انظر البِدايةَ والنِّهايةَ (3/ 231). (¬3) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - بابُ غزوةِ الخندقِ - رقم الحديث (4098) - وأخرجه مسلم - كتابُ الجِهادِ والسِّيَرِ - باب غزوة الأحزاب - رقم الحديث (1804). (¬4) انظر فِقْهَ السِّيرةِ ص 295 للشَّيخ محمَّد الغزاليِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* شدة الجوع الذي أصابهم

* شِدَّةُ الْجُوعِ الذِي أَصَابَهُمْ: وَاصَلَ الْمُسْلِمُونَ عَمَلَهُمْ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ مُسْتَعْجِلِينَ يُبادِرُونَ قُدُومَ الْعَدُوِّ، فَكَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ طَوَالَ النَّهَارِ وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ فِي الْمَسَاءَ، وَقَدْ كَانُوا يُقَاسُونَ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَأَصَابَهُمْ جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى رَبَطُوا عَلَى بُطُونِهِمُ الْحِجَارَةَ مِنَ الْجُوعِ. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: إِنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ فعرَضتْ كُدْيَةٌ (¬1) شدِيدةٌ فجَاءُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: "أَنَا نَازِلٌ"، ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ (¬2)، وَلبِثْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمِعْوَل، فَضَرَبَ فِي الْكُدْيَةِ، فَعَادَ كَثِيبًا (¬3) أَهْيَلَ (¬4) أَوْ أَهْيَمَ (¬5). ¬

_ (¬1) كُدْيَةٌ بِضَمِّ الكافِ، وهي قِطعةٌ غليظةٌ صَلْبَةٌ لا تعملُ فيها الفَأْسُ. انظر النِّهاية (4/ 136). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 724) (13/ 70): وفائدةُ شَدِّ الحجرِ: أنه يُقيم الصُّلْبَ؛ لأنَّ البطنَ إذا خلا رُبَّما ضعَّفَ صاحبَهُ عن القيامِ لانثناءِ بطنِهِ عليهِ، فإذا ربطَ عليه الحجرَ اسْتدَّ وقَوِيَ صاحبُهُ على القيام، أو المنعُ من كثرةِ التَّحَلُّلِ من الغذاءِ الذي في البَطْنِ؛ لكونِ الحجرِ بقدْرِ البطنِ فيكون الضعفُ أقلَّ، أو لتقليلِ حرارةِ الجوعِ بِبَرْدِ الحجرِ، أو لأنَّ فيهِ الإشارةَ إلى كَسْرِ النَّفْسِ. (¬3) الكثِيبُ: الرَّمْلُ. انظر النِّهاية (4/ 132). (¬4) أَهْيَلُ: أيْ يسيلُ، والمعنى صارَ رَمْلًا يسيلُ ولا يتماسَكُ. انظر النِّهاية (5/ 249) - فتح الباري (8/ 153). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوةِ الخندقِ - رقم الحديث (4101).

* تخاذل المنافقين

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ حَوْلَ المَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: . . . يُؤْتَوْنَ بِمِلْءِ كَفَّيْ مِنَ الشَّعِيرِ فيصْنَعُ (¬1) لَهُمْ بِإِهَالَةٍ (¬2) سَنِخَةٍ (¬3) تُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقوْمِ، وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ، وَهِيَ بَشِعَةٌ (¬4) فِي الْخَلْقِ، وَلَهَا رِيحٌ مُنْتِنٌ (¬5). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الرُّغْمِ مِنَ الْهَوْلِ الْمُرْعِبِ وَالضِّيقِ الْمُجْهِدِ، مَثَابَةَ الْأَمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَصْدَرَ الثِّقَةِ وَالرَّجَاءِ وَالِاطْمِئْنَانِ، وَإِنَّ دِرَاسَةَ مَوْقِفِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَذَا الْحَادِثِ الضَّخْمِ لَمِمَّا يَرْسَمُ لِقَادَةِ الْجَمَاعَاتِ وَالْحَرَكَاتِ طَرِيقَهُمْ، وَفِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَتَطْلُبُ نَفْسُهُ الْقُدْوَةَ الطَّيِّبَةَ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ وَلَا يَنْسَاهُ (¬6). * تَخَاذُلُ الْمُنَافِقِينَ: أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ كَانُوا يَتَأَخَّرُونَ فِي الْعَمَلِ، وَيُثَبِّطُونَ عَزَائِمَ الْمُسْلِمِينَ ¬

_ (¬1) فَيُصْنَعُ: أَيْ يُطْبَخُ. انظر فتح الباري (8/ 151). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 151): الإِهَالَةُ: بكسرِ الهمزةِ وتخفيفِ الهاءِ: الدُّهْنُ الذِي يُؤْتَدَمُ به سواءٌ كَانَ زَيْتًا أو سَمْنًا أو شَحْمًا. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 151): سَنِخَةٌ: أَيْ تغيَّرَ طَعْمُهَا ولونُها من قِدَمِهَا، ولهذا وصفَهَا بكونِها بَشِعَةً. (¬4) بَشِعَةٌ: أي خَشِنَةٌ كَرِيهَةُ الطَّعْمِ. انظر النِّهاية (1/ 129). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4100) - وأخرجه الطحاوي في شرح مُشْكِلِ الآثارِ (10/ 196). (¬6) في ظِلالِ القرآنِ لسيِّد قُطْب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (5/ 2841).

* ظهور المعجزات

وَيَتَخَاذَلُونَ، وَيَتَسَلَّلُونَ مِنَ الْعَمَلِ وَيَذْهَبُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا إِذْنٍ (¬1). * ظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ: وَقَدْ ظَهَرَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْعَظِيمَةِ مُعْجِزَاتٌ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مِنْهَا: * تَكْثِيرُ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمَصًا (¬2) شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ (¬3) إِلَى امْرَأَتِي (¬4) فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا (¬5) فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ (¬6) فَذَبَحْتُهَا ¬

_ (¬1) انظر سيرةَ ابنِ هِشام (3/ 238) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 420 - 435). (¬2) الخَمَصُ: الجوعُ. انظر النهاية (2/ 76). (¬3) فَانْكَفَأْتُ: أي رَجَعْتُ، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4101) قال جابر -رضي اللَّه عنه- عندما رأى الجوعَ الذي أصابَ الرَّسولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: قلتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ائذن لي إلى البيتِ. (¬4) قَالَ الحَافِظ فِي الفَتْحِ (8/ 154): اسمُها سُهَيْلَةُ بنتُ مُسعودٍ الأنصاريةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬5) الجِرَابُ: بكسر الجيم: وهو الوِعَاءُ. انظر لِسانَ العربِ (2/ 228). (¬6) الدَّاجِنُ: هي الشَّاةُ التي يَعْلِفُهَا النَّاسُ في منارلهم، ولا تُفْلَتُ للمرعى، ومِن شأنِها أَنْ تَسْمَنَ. انظر فتحَ الباري (8/ 154) - النِّهاية (2/ 96). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4101) قالت زوجةُ جابرٍ: عندي شَعيرٌ وعَناقٌ. -والعَنَاقُ: بفتح العينِ وتخفيفِ النُّونِ هي الأنثى من الْمَعْزِ-. انظر فتح الباري (8/ 154). وفي رواية الإمام أحمد في مسنده قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وكانت عندي شُوَيْهَةٌ.

وَطَحَنْتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ (¬1) إِلَى فَرَاغِي (¬2)، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا (¬3) بُهَيْمَةً (¬4) لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فتَعَالَ أَنْتَ، وَنَفَرٌ مَعَكَ (¬5) فَصَاحَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُؤْرًا (¬6) فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ". زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لجَابِرٍ: "لَا تُنْزِلَنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزَنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ". قَالَ جَابِرٌ: فَجِئْتُ (¬7) وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ (¬8) فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الذِي قُلْتِ، فَأَخْرَجَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) فَرَغَت: عَمَدْتُ وَقَصَدْتُ. انظر لسان العرب (10/ 242). (¬2) الفَراغُ: الإناءُ. انظر لسان العرب (10/ 242). أي أَفْرَغْتُ الشَّعيرَ في إِنَاءِ جابرٍ -رضي اللَّه عنه-. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 154): فالذي ذبح جابر، وامرأته هي التي طبخت. (¬4) في روايةِ الإمام أحمد في مسنده قال جابر -رضي اللَّه عنه-: صَنَعْتُ لك شُوَيْهَةً كَانَتْ عندَنا. (¬5) في روايةٍ أُخْرى في صحيحِ البخاري - رقم الحديث (4101) قال جابر: فقلْتُ: فَقُمْ أنتَ يا رَسُولَ اللَّهِ، ورَجُلٌ أو رَجُلانِ. (¬6) قال النَّوَوِيُّ في شرحِ مسلم (13/ 184): السُّؤْرُ: بضم السِّين وإِسْكَانِ الواوِ، وهو الطَّعامُ الذي يُدْعَى إليهِ، وقيل: الطَّعام مُطْلَقًا، وهي لَفْظَةٌ فَارِسِيَّةٌ. (¬7) زاد البخاري في روايةٍ أخرى - رقم الحديث (4101): وقلت لامرأتي: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمهاجرين والأنصارِ، ومَنْ معهم. (¬8) قال النَّوويُّ في شرح مسلم (13/ 185): أي ذَمَّتْهُ ودَعَتْ عليهِ، وقيل: معناه بِكَ تُلْحَقُ الفَضيحَةُ، وبِكَ يَتَعَلَّقُ الذَّمُّ.

* معجزة أخرى

عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا، فَبَصَقَ وَبَارَكَ ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ معِي (¬1) وَاقدحِي (¬2) مِنْ برْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلوهَا"، وَهُمْ ألْفٌ. قَالَ جَابِرٌ: فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ، وَانْحَرَفُوا (¬3)، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ (¬4) كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ (¬5). * مُعْجِزَةٌ أُخْرَى: وَمِنَ الْمُعْجِزَاتِ التِي ظَهَرَتْ فِي الْخَنْدَقِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَكَثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَاُبهُ وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ ثَلَاثًا، لَمْ يَذُوقُوا طَعَامًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَاهُنَا كُدْيَةً مِنَ الْجَبَلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رُشُّوهَا بِالْمَاءَ، فَرَشُّوهَا، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ (¬6) أَوِ الْمِسْحَاةَ (¬7)، ثُمَّ قَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ" فَضَرَبَ ثَلَاثًا، فَصَارَتْ كَثِيبًا يُهَالُ (¬8)، قَالَ جَابِرٌ: فَكَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ، فَإِذَا ¬

_ (¬1) هذه رواية الإمام البخاري في صحيحه - وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه: "مَعَكِ". (¬2) اقْدَحِي: أي اغْرُفِي. انظر النِّهاية (4/ 19). (¬3) انْحَرُفوا: أي مَالُوا عن الطَّعامِ. انظر فتحَ الباري (8/ 157). (¬4) لَتَغِطُّ: بكسرِ الغَيْنِ وتشديد الطَّاءِ: أي تَغْلِي وتَفُورُ. انظر فتحَ الباري (8/ 157). (¬5) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - باب غزوةِ الخندق - رقم الحديث (4102) - وأخرجه مسلم - كتاب الأَشْرِبَةِ - باب جوازِ استتباعِهِ غيرَهُ إلى دارِ مَنْ يَثِقُ برضاه بذلكَ - رقم الحديث (2039) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15028). (¬6) المِعْوَلُ: بكسر الميمِ: الفَأْسُ. انظر لسان العرب (9/ 482). (¬7) المِسْحَاةُ: الْمَجْرَفَةُ من الحديدِ. انظر النِّهاية (4/ 280). (¬8) كثيبًا يُهَالُ: أي صَارَ رملًا يسيلُ ولا يتماسكُ. انظر فتح الباري (8/ 153).

* معجزة أخرى

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ شَدَّ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا (¬1). * مُعْجِزَةٌ أُخْرَى: وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ نَحْفِرَ الْخَنْدَقَ، عَرَضَ لَنَا فِيهِ حَجَرٌ لَا يَأْخُذُ فِيهِ الْمِعْوَلَ (¬2)، فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَلْقى ثَوْبَهُ، وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ" فَضَرَبَ ضَرْبَةً فكَسَرَ ثُلُثَ الصَّخْرَةِ، قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ الْآنَ مِنْ مَكَانِي هَذَا"، ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى، وَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ" وَكَسَرَ ثُلُثًا آخَرَ، وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ الْآنَ"، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: "بِسْمِ اللَّهِ" فَقَطَعَ الْحَجَرَ، وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ بَابَ صَنْعَاءَ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي السُّنَنِ الكُبْرَى لِلنَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4101) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14211). (¬2) قوله -رضي اللَّه عنه-: لا يأخذُ فيه المعول: أي لا تُؤَثِّرُ فيه. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18694) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب حفر الخندق - رقم الحديث (8807) - وحَسَّنَ إسنادَهُ الحافظُ في الفتح (8/ 154).

حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الحَفْرِ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ، وَضَرَبَ وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1) فنَدَرَ (¬2) ثُلُثُ الْحَجَرِ، وَسَلْمَانُ الفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَرْقَةٌ (¬3)، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، فَبرَقَتْ بَرْقَةٌ يَرَاهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، فنَدَرَ الثُّلُثُ البَاقِي، وَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ، لَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا سَلْمَانُ، رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ " قَالَ: إِي وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى، رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرةٌ، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنِي"، فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا، وَيُغَنِّمَنَا ذَرَارِيَهُمْ، وَيُخَربَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ، فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (115). (¬2) نَدَرَ: سَقَطَ ووقعَ. انظر النِّهاية (5/ 30). (¬3) بَرَقَ: لَمَعَ. انظر النهاية (1/ 120).

* تحقق المعجزات

حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنِي"، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا، وَيُغَنِّمَنَا ذَرَارِيَهُمْ، وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ، فرفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنِي" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ، وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ" (¬1). * تَحَقُّقُ الْمُعْجِزَاتِ: وَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا قَالَ، وَلَمْ يَمْضِ عَلَى هَذهِ الْحَادِثَةِ إِلَّا نَحْوُ رُبْعِ قَرْنٍ حَتَّى فُتِحَتْ هَذِهِ الْبِلَادُ كُلُّهَا، فَفِي السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَادِثِ بِتِسْعِ سِنِينٍ وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ الْيَرْمُوكِ الْعَظِيمَةُ وَالتِي قَادَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ -رضي اللَّه عنه- وَهُزِمَ فِيهَا الرُّومُ، وَفُتِحَتْ الشَّامُ. وَفِي السَّنَةِ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَادِثِ بِعَشْرِ سِنِينٍ، وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ القادِسِيَّةِ الْعَظِيمَةُ بِقِيَادَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، وَهُزِمَ فِيهَا الْفُرْسُ هَزِيمَةً نَكْرَاءَ، وَفُتِحَتْ فِيهَا بِلَادُ الْعِرَاقِ. * مَوْقِفُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ بِشَارةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَإِنَّهُ لَمَّا بَشَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِالْفتْحِ، قَالُوا: أَلَا ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب غزوة الترك والحبشة - رقم الحديث (4370) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 417) - وأورده ابن الأَثِيرِ في جامعِ الأُصولِ - رقم الحديث (8932).

* الانتهاء من حفر الخندق

تَعْجَبُونَ يُحَدِّثُكُمْ وَيُمَنِّيكُمْ وَيَعِدُكُمْ بِالبَاطِلِ، يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ بَصُرَ مِنْ يَثْرِبَ قُصُورَ الْحِيرَةِ، وَمَدَائِنَ كِسْرَى، وَأَنَّهَا تُفْتَحُ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَحْفِرُونَ الْخَنْدَقِ، وَلَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَبْرُزُوا (¬1). * الانْتِهَاءُ مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ: وَاصَلَ الْمُسْلِمُونَ عَمَلَهُمْ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، حَتَّى تَكَامَلَ الْخَنْدَقُ حَسَبَ الْخُطَّةِ الْمَنْشُودَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ جَيْشُ الْكُفَّارِ الْعَرَمْرَمُ إِلَى أَسْوَارِ الْمَدِينَةِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ التِي اسْتُغْرِقَ فِيهَا حَفْرُ الْخَنْدَقِ: فَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: أَنَّهُمْ فَرَغُوا مِنْ حَفْرِهِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (¬2). وَعِنْدَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ: أَنَّهُمْ أَقَامُوا فِي عَمَلِهِ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً. وَعِنْدَ الْوَاقِدِي: أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ. وَفِي الرَّوْضَةِ لِلنَّوَوِيِّ: خَمْسَةَ عَشَرَةَ يَوْمًا (¬3). وَعِنْدَ ابْنِ القيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ قَالَ: أَقَامُوا شَهْرًا. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنْ تَكُونَ أَوَّلُ مَجْمُوعَةٍ مِنَ ¬

_ (¬1) انظر دلائلَ النُّبوةِ للبيهقي (3/ 420). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 282). (¬3) انظر فتحَ الباري (8/ 150).

* لا هجرة للأنصار رضي الله عنهم

الْمَجْمُوعَاتِ التِي وَزَّعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَرَغَتْ مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ اسْتَغْرَقَ مَعَهُمْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، وَآخِرُ مَجْمُوعَةٍ فَرَغَتْ مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ أَخَذَ مَعَهَا شَهْرًا كَامِلًا، وَبِذَلِكَ تُجْمَعُ الْأَقْوَالُ. * لَا هِجْرَةَ لِلْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فِي هَذِهِ الْفتْرَةِ جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ زِيَادٍ السَّاعِدِيُّ الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- بِابْنِ عَمٍّ لَهُ لِيُبَايعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْهِجْرَةِ، فَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ بَيْعَتِهِ، لأنَّهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ يُبَايعُ النَّاسَ عَلَى الْهِجَرَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ هَذَا. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَمَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: ابْنُ عمِّي حَوْطُ بْنُ يَزِيدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا أُبايِعُكَ، إِنَّ النَّاسَ يُهَاجِرُونَ إِلَيْكُمْ، وَلَا تُهَاجِرُونَ إِلَيْهِمْ، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يُحِبُّ رَجُلٌ الْأَنْصَارَ حَتَّى يَلقى اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ يُحِبُّهُ، وَلَا يُبْغِضُ رَجُلٌ الْأَنْصَارَ حَتَّى يَلقى اللَّهَ، إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ يُبْغِضُهُ" (¬1). * وُصُولُ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ: وَمَا إِنْ فَرَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ حَتَّى أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فنَزَلَتْ أَعَالِي أَرْضِ الْمَدِينَةِ بِمُجْتَمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رُومَةٍ بَيْنَ الْجَرْفِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15540) - والطحاوي في شرح مشكلِ الآثار - رقم الحديث (2636).

* خروج المسلمين وعددهم

وَزَغَابَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطفانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ حَتَّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى إِلَى جَانِبِ جَبَلِ أُحُدٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} (¬1). * خُرُوجُ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَدُهُمْ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إِلَى جَبَلِ سَلْعٍ، وَوَجُوهَهُمْ إِلَى نَحْوِ الْعَدُوِّ، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ، وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَجُلٍ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالذَّرَارِي وَالنِّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الْآطَامِ (¬2). وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ (¬3)، وَأَعْطَى لِوَاءَ الْمُهَاجِرِينَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلِوَاءَ الْأَنْصَارِ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَوْصَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ (¬4) أَنْ يَكُونَ شِعَارُهُمْ: "حَم لَا يُنْصَرُونَ" (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (10) - انظر سيرة ابن هشام (3/ 242) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 400). (¬2) الآطَامُ: جمع الأُطُمِ بضم الهمزةِ: هو بِنَاءٌ مرتفعٌ. انظر النهاية (1/ 57). (¬3) كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كثيرًا ما يُخلِفُ ابنَ أمِّ مكتومٍ على المدينة للصَّلاة بالنّاس، وكان -رضي اللَّه عنه- أعمى، فقد أخرج أبو داود في سننه - رقم الحديث (595) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (5/ 582) بسند حسن عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استخلف ابنَ أمِّ مكتوم يَؤُمُّ الناسَ وهو أعمى. (¬4) تَبْيِيتُ العدوِّ: هو أَنْ يُقصَدَ في الليلِ من غيرِ أَنْ يَعْلَمَ فَيُؤْخَذُ بَغْتَةً، وهو البَيَاتُ. انظر النهاية (1/ 167). (¬5) أخرج ذلك الترمذي في جامعه - كتاب الجهاد - باب ما جاء في الشِّعارِ - رقم الحديث =

* منزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقدوم الأحزاب

* مَنْزِلُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقُدُومُ الأَحْزَابِ: وَضُرِبَتْ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ (¬1)، وَجُعِلَ عَلَى حِرَاسَتِهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ: عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَكَانُوا يَحْرُسُونَهُ كُلَّ لَيْلَيةٍ، وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ قَدِمَ الْأَحْزَابُ بِجَيْشٍ ضَخْمٍ جِدًّا قِوَامُهُ كَمَا ذَكَرْنَا عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ هَذهِ الْآيَةِ: أَيْ: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الابْتِلَاءَ وَالاخْتِبَارِ وَالامْتِحَانِ الذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ، وَلهَذَا قَالَ: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * دَهْشَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْخَنْدَقِ وَمُنَاوَشَاتُهُمْ: وَلَمَّا أَرَادَ الْمُشْرِكُونَ مُهَاجَمَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاقْتِحَامَ الْمَدِينَةِ، وَجَدُوا خَنْدَقًا عَرِيضًا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، فَدُهِشُوا وَعَجِبُوا فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَكِيدَةٌ، مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَكِيدُهَا فَلَجَؤُوا إِلَى فَرْضِ الْحِصَارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. ¬

_ = (1777) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16615) - وإسناده صحيح. قال الإمام البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح السنة (11/ 52): وإذا وقع البيات واختلط المسلمون بالعدو، فيجعل الإمام للمسلمين شعارًا يقولونه يتميّزُون به عن العدوِّ. (¬1) الْأَدَمُ: الجِلْدُ. انظر لسان العرب (1/ 96). (¬2) سورة الأحزاب آية (22). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (6/ 392).

* نقض بني قريظة العهد

وَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ يَدُورُونَ حَوْلَ الْخَنْدَقِ، يَتَحَسَّسُونَ نُقْطَةً ضَعِيفَةً، لِيَنْحَدِرُوا مِنْهَا، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا، فَأَخَذُوا يُنَاوِشُونَ (¬1) الْمُسْلِمِينَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ وِجَاهَهُمْ يَحْرُسُونَ خَنْدَقَهُمْ وَيَتَطَلَّعُونَ إِلَى جَوْلَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَرْشُقُونَهُمْ (¬2) بِالنَّبْلِ، حَتَّى لَا يَجْتَرِئُوا عَلَى الاقْتِرَابِ مِنْهُ. وَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ حَرْب إِلَّا الرَّمْيُ بِالنَّبْلِ، وَالحِصَارُ (¬3). * نَقْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْب كَلَّمَ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ يَسْأَلُهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ الذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَكُوُنوا مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى أَتَى كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ الْقُرَظِيَّ -سَيِّدَ بَنِي قُرَيْظَةَ- فَأَغْلَقَ كَعْبٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ حِصْنِهِ، وَأَبَى أَنْ يُقَابِلَ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، لَكِنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ أَلَحَّ عَلى كَعْبِ بْنِ أَسَد وَأَخَذَ يَضْربُ عَلَى بَابِه وَيُنَاديه: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! افتحْ لِي، فَقَالَ كَعْبٌ: وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ إِنَّكَ امْرُؤٌ مَشْؤُومٌ، وَإِنِّي قَدْ عَاهَدْتُ مُحَمَّدًا فَلَسْتُ بِنَاقِضٍ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ إِلَّا وَفَاءً وَصِدْقًا. فَقَالَ حُيَيٌّ: وَيْحَكَ يَا كَعْبُ! افتحْ لِي أُكَلِّمْكَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) الْمُنَاوَشَةُ في القتالِ: تَدانِي الفَريقينِ. انظر النهاية (5/ 112). (¬2) الرَّشْقُ: الرَّمْيُ. انظر النهاية (2/ 206). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 283).

حُيَيٌّ: وَاللَّهِ مَا أَغْلَقْتَ الْحِصْنَ دُونِي إِلَّا تَخَوُّفَكَ مِنْ أَنْ آكُلَ مِنْ جَشِيشَتِكَ (¬1)، فَفَتَحَ لَهُ البَابَ، وَدَخَلَ حُيَيٌّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كُعْبُ! جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ وَبِبَحْرٍ طَامٍ (¬2)، جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَبِغَطَفَانَ عَلَى قَادَتِهَا وَسَادَتِهَا، وَقَدْ عَاهَدُونِي عَلَى أَنْ لَا يَبْرَحُوا (¬3) حَتَّى نَسْتَأْصِلَ مُحَمَّدًا وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ: جِئتُنِي وَاللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ وَبِجَهَامٍ (¬4) قَدْ هَرَاقَ مَاءَهُ فَهُوْ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَيْحَكَ يَا حُيَيُّ فَدَعْنِي وَمَا أَنَا عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا صِدْقًا وَوَفَاءً، وَاللَّهِ مَا أَكْرَهَنَا عَلَى دِينٍ، وَلَا غَصَبَنَا مَالًا، وَلَا نَنْقِمُ (¬5) مِنْ مُحَمَّدٍ وَعَمَلِهِ شَيْئًا، وَأَنْتَ تَدْعُو إِلَى الْهَلَكَةِ، فَنُذَكِّرُكَ اللَّهَ إِلَّا مَا أَعْفَيْتَنَا مِنْ نَفْسِكَ. وَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ سَعْدِي الْقُرَظِيُّ فَذَكَرَ وَفَاءَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمُعَاهَدَتَهُمْ إِيَّاهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ! إِنَّكُمْ قَدْ حَالفتُمْ مُحَمَّدًا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتُمْ أَنْ لَا تَخُونُوهُ وَلَا تَنْصُرُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَأَنْ تَنْصُرُوهُ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، فَأَوْفُوا عَلَى مَا عَاهَدْتُمُوهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ وَاعْتَزِلُوهُمْ. وَلَكِنَّ حُيَيًّا مَا زَالَ بِكَعْبٍ يَفْتِلُهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالغَارِبِ (¬6)، حَتَّى سَمَحَ لَهُ ¬

_ (¬1) الجَشِيشَةُ: هي نوعٌ من أنواع الطعام: وهي أَنْ تُطْحَنَ الحِنْطَةُ طَحْنًا جَلِيلًا، ثم تُجْعَلَ في القُدورِ ويُلقى عليها لَحْمٌ أو تَمر وتُطْبَخُ. انظر النهاية (1/ 264). (¬2) طَمَا البحرُ: ارتفعَ بأمواجِهِ. انظر النهاية (3/ 126). (¬3) بَرِحَ مكانَهُ: أي زَالَ عنهُ. انظر لسان العرب (1/ 361). (¬4) الجَهَامُ: بفتح الجيم السَّحابُ الذي لا ماءَ فيهِ. انظر النهاية (1/ 311). (¬5) نَقِمَ الشَّيْءَ: أنكرَهُ. انظر لسان العرب (14/ 272). (¬6) الغَارِبُ: مُقَدَّمُ السِّنانِ وهو الرُّمْحُ، والذُّرْوَةُ: أعلاهُ، أراد أَنَّهُ ما زالَ يُخادِعُهُ ويتلطَّفُ =

* الزبير بن العوام -رضي الله عنه- يتأكد من خبر نقض بني قريظة

عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ عَهْدًا وَمِيثَاقًا، لَئِنْ رَجَعَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَلَمْ يُصِيبُوا مُحَمَّدًا أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي حِصنِهِ يُصِيبُهُ مَا يُصِيبُ بَنِي قُرَيْظَةَ، فنَقَضَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ عَهْدَهُ وَبَرِئَ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثُمَّ قَامَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَمَزَّقَتِ الصَّحِيفَةَ التِي كَانَ فِيهَا العَقْدُ، وَدَخَلَتْ بَنُو قُريْظَةَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ (¬1). وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حِرْصَ بَنِي قُرِيْظَةَ الْأَوَّلَ عَلَى الْتِزَامِ الْعَهْدِ كَانَ خَوْفًا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَقَطْ، فَلَمَّا ظَنَّتْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُحِيطَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِب وَأَنَّهَا لَنْ تُؤَاخَذَ عَلَى خِيَانَةٍ، أَسْفَرَتْ عَلَى خِيَانَتِهَا وَانْضَمَّتْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُهَاجِمِينَ (¬2). * الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- يَتَأَكَّدُ مِنْ خَبَرِ نَقْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ: فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُ نَقْضِ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- لِيَتَأَكَّدَ مِنْ صِحَةِ هَذَا الْخَبَرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ جُعِلْتُ أنَّا وَعَمْرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي النِّسَاءِ، فنَظَرْتُ (¬3) فَإِذَا أَنَا بِالزُّبَيْرِ عَلَى فَرَسِهِ ¬

_ = حتى أجابَهُ. انظر النهاية (3/ 315). (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 243) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 283) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 429). (¬2) انظر فِقْه السِّيرةِ للشَّيخِ محمَّدٍ الغزاليِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 300. (¬3) في روايةِ الإمام مسلم في صحيحه، والطحاوي في شرح مُشْكِلِ الآثارِ قال عبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فكان عمر بن أبي سلمة يُطَأْطِئُ -أي يَخْفِضُ ظَهْرَهُ- لي مَرَّةً فأنظرُ، وأُطَأْطِئُ له مرةً فينظرُ إلى القتال.

* فوائد الحديث

تَخْتَلِفُ (¬1) إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا رَجَعْتُ، قُلْتُ: يَا أَبَتِ رَأَيْتُكَ تَخْتَلِفُ، قَالَ: وَهَلْ رَأَيْتَنِي يَا بُنَيَّ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ يَأْتِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَيَأْتِنِي بِخَبَرِهِمْ؟ ". فَانْطَلَقْتُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَوَيْهِ، فَقَالَ: "فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أنَا، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ "، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيَّ (¬3) وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ" (¬4). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: 1 - وَفِي الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِلزُّبَيْرِ وَقُوَّةُ قَلْبِهِ وَصِحَّةُ يَقِينِهِ. ¬

_ (¬1) يَخْتَلِفُ: أي يَذهبُ ويجيءُ. انظر فتح الباري (7/ 447). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفضائل - باب مناقب الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3720) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل طلحةَ والزبيرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رقم الحديث (2416) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5620). (¬3) الحَوَارِيُّ: أي خَاصَّتِي مِنْ أصحابِي وناصرِي. انظر النهاية (1/ 440). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4113) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل طلحة والزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رقم الحديث (2415).

* السعدان رضي الله عنهما يتأكدان أكثر من خبر بني قريظة

2 - وَفِيهِ جَوَازُ سَفَرِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ السَّفَرِ وَحْدَهُ إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ (¬1). * السَّعْدَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَتَأَكَّدَانِ أَكثَرَ مِنْ خَبَرِ بَنِي قُرَيْظَةَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّعْدَانِ: سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، سَيِّدَ الْأَوْسِ، وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ، سَيِّدَ الْخَزْرَجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَعَهُمَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَالَ لَهُمْ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا أَحَقّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحِنُوا لِي لَحْنًا (¬2) أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا (¬3) فِي أَعْضَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ". فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْهُمْ، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى أَخْبَثِ مَا بَلَغَهُمْ عَنْهُمْ، وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالُوا: لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَا عَقْدَ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَتَجْدِيدِ الْحِلْفِ، فَقَالُوا: الْآنَ وَقَدْ كُسِرَ جَنَاحُنَا -يُرِيدُونَ بِجَنَاحِهِمْ الْمَكْسُورَةِ بَنِي النَّضِيرِ- فَشَاتَمَهُمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: دَعْ عَنْكَ مُشَاتَمَتَهُمْ فَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَرْبَى (¬4) مِنَ الْمُشَاتَمَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (6/ 140). (¬2) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَالْحَنَا لِي لَحَنًا": يعني أشِيرا إليَّ ولا تُفْصِحَا، وعَرِّضا بما رأيتُما، أمرَهما بذلك؛ لأنَّهما ربما أخبَرَا عن العدو بِبَأْسٍ وقُوة، فأحب ألا يقف عليه المسلمون. انظر النهاية (4/ 208). (¬3) يُقال: كَلَّمَهُ بشيء فَفَتَّ في سَاعِدِهِ: أي أضعفَهُ وأَوْهَنَهُ. انظر لسان العرب (10/ 170). (¬4) أَرْبَى: أي أَكْبَرُ وأَزْيَدُ. انظر لسان العرب (5/ 126).

* اشتداد الخوف وظهور النفاق

السَّعْدَانِ وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا: عَضْلٌ وَالْقَارَةُ -أَيْ كَغَدْرِ قَبِيلَةِ عَضْلٍ، وَقَبِيلَةِ القارَةِ بِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ أَكبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ"، ثُمَّ تَقَنَّعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِثَوْبِهِ فَاضْطَجَعَ وَمَكَثَ طَوِيلًا، فَاشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ وَالْخَوْفُ حِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اضْطَجَعَ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَمْ يَأتِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ خَيْرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "أَبْشِرُوا بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ" (¬1). * اشْتِدَادُ الْخَوْفِ وَظُهُورُ النِّفاقِ: وَعَظُمَ عِنْدَ ذَلِكَ الْبَلَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَضَاقَ الْأَمْرُ وَخِيفَ عَلَى الذَّرَارِي وَالنِّسَاءِ، وَأَتَاهُمْ الْأَحْزَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ، وَكَانُوا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬2). وَهَذَا الْمَقْطُعُ مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ يَتَوَلَّى تَشْرِيحَ حَدَثٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الضَّخْمَةِ فِي تَارِيخِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَفِي تَارِيخِ الْجَمَاعَةِ الْمسْلِمَةِ، وَيَصِفُ مَوْقِفًا مِنْ مَوَاقِفِ الامْتِحَانِ الْعَسِيرَةِ، وَهُوَ غَزْوَةُ الْأَحْزَابِ. . . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا النَّصَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 244) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 429). (¬2) سورة الأحزاب آية (10 - 11).

الْقُرْآنِيَّ، وَطَرِيقَةَ عَرْضِهِ لِلْحَادِثِ، وَأُسْلُوبَهُ فِي الْوَصْفِ وَالتَّعْقِيبِ وَوُقُوفَهُ أَمَامَ بَعْضِ الْمَشَاهِدِ وَالْحَوَادِثِ، وَالْحَرَكَاتِ وَالْخَوَالِجِ، وَإِبْرَازَهُ لِلْقِيَمِ وَالسُّنَنِ. . . مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ نُدْرِكُ كَيْفَ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُرَبِّي هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْأَحْدَاثِ وَالْقُرْآنِ فِي آنٍ وَاحِدٍ (¬1). أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رضي اللَّه عنه-: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: فكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ -رضي اللَّه عنه-: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْخَنْدَقِ. . .، فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجعُ -يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرَّجْعَةَ- أَسْأل اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"، فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ القوْمِ، مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَشِدَّةِ الْجُوعِ، وَشِدَّةِ الْبَرْدِ (¬2). وَنَجَمَ (¬3) النِّفَاقُ، وتَكَلَّمَ الذِينَ فِي قلوبِهِمْ مَرضٌ بِمَا فِي نُفُوسِهِم حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا الْيَوْمَ لَا ¬

_ (¬1) في ظِلالِ القرآن (5/ 2832). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23334) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 255). (¬3) نَجَمَ: ظَهَرَ. انظر النهاية (5/ 20).

* مقولة أوس بن قيظي

يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى قَضَاءَ حَاجَتِهِ. * مَقُوَلةُ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ: وَقَالَ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ، فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ فنَرْجعُ إِلَى دَارِنَا فَإِنَّهَا خَارجَ الْمَدِينَةِ، نَخْشَى عَلَيْهَا السَّرِقَةَ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَسْتَأْذِنُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَذِنَ لَهُ، وَفِي هَؤُلَاءِ نزلَ قَوْلُه تَعَالَى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (¬1). وَجَدَ هَؤُلَاءَ الْمُنَافِقُونَ فِي الْكَرْبِ الْمُزَلْزِلِ، وَالشِّدَّةِ الْآخِذَةِ بِالْخِنَاقِ فُرْصَةً لِلْكَشْفِ عَنْ خَبِيئَةِ نُفُوسِهِمْ وَهُمْ آمِنُونَ مِنْ أَنْ يَلُومَهُمْ أَحَدٌ، وَفُرْصَةً لِلتَّوْهِينِ وَالتَّخْذِيلِ وَبَثِّ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ فِي وَعْدِ اللَّهِ وَوَعْدِ رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُمْ مُطْمَئِنُّونَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ أَحَدٌ بِمَا يَقُولُونَ. فَالْوَاقِعُ بِظَاهِرِهِ يُصَدِّقُهُمْ فِي التَّوْهِينِ وَالتَّشْكِيكِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا مَنْطِقِيُّونَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، فَالْهَوْلُ قَدْ أَزَاحَ عَنْهُمْ ذَلِكَ السِّتَارَ الرَّقِيقَ مِنَ التَّجَمُّلِ، وَرَوَّعَ نُفُوسَهُمْ تَرْوِيعًا لَا يَثْبُتُ لَهُ إِيمَانُهُمْ الْمُهَلْهَلُ! فَجَهَرُوا بِحَقِيقَةِ مَا يَشْعُرُونَ غَيْرَ مُبْقِينَ وَلَا مُتَجَمِّلِينَ! وَمِثْلُ هَؤُلَاءَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُرْجِفِينَ قَائِمُونَ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ، وَمَوْقِفُهُمْ فِي ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (12 - 13).

* حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الصادقين

الشِّدَّةِ هُوَ مَوْقِفُ إِخْوَانِهِمْ هَؤُلَاءِ، فَهُمْ نَمُوذَجٌ مُكَرَّرٌ فِي الْأَجْيَالِ وَالْجَمَاعَاتِ عَلَى مَدَارِ الزَّمَانِ (¬1). * حَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ الصَّادِقِينَ: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَإِنَّهُ لَمَّا رَأَى مَا فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْكَرْبِ جَعَلَ يُبَشِّرُهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيُفَرَّجَنَّ عَنْكُمْ مَا تَرَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ، وِإنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ آمِنًا، وَأَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيَّ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ، وَلَيُهْلِكَنَّ اللَّهُ كسْرَى وَقَيْصَرُ، وَلَتُنْفَقَنَّ كنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ" (¬2). * حِرَاسةُ الْمَدِينَةِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبْعَثُ سَلَمَةَ بْنَ أَسْلَمَ -رضي اللَّه عنه- فِي مِائتَيْ رَجُلٍ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ يَحْرُسُونَ الْمَدِينَةَ، وَيُظْهِرُونَ التَّكْبِيرَ، تَخَوُّفًا عَلَى الذَّرَارِي وَالنِّسَاءِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ أَهْلُ الْآطَامِ (¬3) مَا كَانُوا يَنَامُونَ إِلَّا عُقَبًا (¬4) خَوْفًا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (5/ 2838). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 402). (¬3) الأُطُمُ بالضمِّ: بِناءٌ مرتفعٌ. انظر النهاية (1/ 57). (¬4) ينامُون عُقَبًا: أي نُوبًا، تنامُ طائفةٌ بعد طائفةٍ يتناوبون في ذلك. انظر لسان العرب (9/ 304). (¬5) انظر الطبَّقَاتِ الكُبْرى لابن سعد (2/ 283).

* بطولة صفية عمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

* بُطُولَةُ صَفِيَّةَ عَمَّةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَفِعْلًا قَامَتْ يَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ بِمُهَاجَمَةِ أُطُمٍ مِنْ تِلْكَ الْآطَامِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لِانْقِطَاعِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْخَنْدَقِ جَعَلَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي أُطُمٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-، فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَقَدْ حَارَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَقَطَعَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَيْسَ بَيْنَنَا أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنَّا، ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ فِي نُحُورِ عَدُوِّهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ إِلَيْنَا إِنْ أتَانَا آتٍ، فَقُلْتُ: يَا حَسَّانُ! إِنَّ هَذَا الْيَهُودِيَّ كَمَا تَرَى يَطِيفُ بِالْحِصْنِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى عَوْرَتِنَا مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ يَهُودَ، وَقَدْ شُغِلَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، فَانْزِلْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، قَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ يَا ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتِ مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا (¬1). ¬

_ (¬1) قال الإِمَامُ السُّهَيْلِيِّ في الرَّوْضِ الأُنُف (3/ 433): حمل بعض الناس هذا الموقف من حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- على أَنَّهُ كَانَ جَبَانًا شديدَ الجُبْنِ، وهذا غيرُ صحيح، لأن هذا الخبر منقطع الإسناد، ولو صحَّ هذا لَهُجِيَ به حسان، فإنه كان يهاجي الشعراء كضرار وابن الزِّبعرى وغيرِهما، وكانوا يُناقِضونَهُ ويَرُدُّونَ عليه، فما عَيَّرهُ أحدٌ منهم بِجُبْنٍ، ولا وَسَمَهُ به. =

* اشتداد الحصار وسعي النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مصالحة غطفان

قَالَتْ: فَلَمَّا لَمْ أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا احْتَجَزْتُ (¬1)، ثُمَّ أَخَذْتُ عَمُودًا، ثُمَّ نَزَلْتُ مِنَ الْحِصْنِ إِلَيْهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالْعَمُودِ حَتَّى قتَلْتُهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْحِصْنِ، فَقُلْتُ: يَا حسَّانُ انْزِلْ إِلَيْهِ فَاسْلُبْهُ (¬2) فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعُنِي مِنْ سَلْبِهِ إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ، قَالَ: مَا لِي بِسَلْبِهِ مِنْ حَاجَةٍ (¬3). * اشْتِدَادُ الْحِصَارِ وَسَعْيُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مُصَالَحَةِ غَطفانَ: وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ الْبَلَاءُ وَالْحِصَارُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عُيَيْنَةَ بْنِ ¬

_ = وقال ابنُ عبد البرِّ في الاستيعاب (1/ 405): وقال أكثرُ أهل الأَخبارِ والسِّيَرِ: إِنَّ حسانًا كان من أجبنِ النَّاس، وذكروا من جُبْنِهِ أشياءً مُسْتَشْنَعَةً، كَرِهْتُ ذِكْرَهَا لِنَكَارَتِها، ولَوْ كان حقًّا ما قَالُوا من أنَّه كَانَ جَبَانًا لهُجِيَ به. قلتُ: وَأَمَّا مَوْقِفُهُ -رضي اللَّه عنه- هذا معَ صفيَّةَ وعَدَمُ قتلِهِ لليهودي، فإنَّ ذلك كان بسببِ عجزِهِ لِكِبَرِ سِنِّهِ -رضي اللَّه عنه-. قال ابن إسحاق: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قدمَ المدينةَ ولِحَسَّانٍ سِتونَ سنةً، فيكون عمره خمسة وستون سنة يوم الخندق. وقال الحافظ في الإصابة (2/ 56): والجمهور على أنه عاش مائة وعشرين سنة. (¬1) احْتَجَزَ الرجلُ بالإِزَارِ: إذا شَدَّهُ على وَسَطِهِ. انظر النهاية (1/ 332). (¬2) السَّلْبُ: هو ما يأخذُهُ أحدُ القَرينَيْنِ في الحربِ من قَرينِهِ ممَّا يكون عليه ومعه مِنْ سِلاح وثياب ودابة وغيرِها، انظر النهاية (2/ 348). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر شجاعة صفية يوم الخندق - رقم الحديث (6952) - وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: عُرْوَةُ لم يُدْرِكْ صَفِيَّةَ - وأورده الحافظ في الفتح (6/ 378) - وقوى إسناده، وعزَاهُ إلى الإمام أحمد في المسند، ولم أجده في المسند المطبوع - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (3/ 252) - وابن سعد في طبقاته (8/ 263) - والبيهقي في دلائل النبوة (3/ 442).

حِصْنٍ الفزَارِيِّ وَإِلَى الْحَارِثِ بْنِ عَوْفٍ الْمُرِيِّ -وَهُمَا قَائِدَا غَطفانَ- لِيُصَالِحَهُمَا عَلَى إِعْطَائِهِمَا ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَا بِمَنْ مَعَهُمَا عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَقَبِلَا وَجَرَتِ الْمُرَاوَضَةُ (¬1) عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بَعَثَ إِلَى السَّعْدَيْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمَا وَاسْتَشَارَهُمَا فِيهِ، فَقَالَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمْرًا تُحِبُّهُ فنَصْنَعُهُ؟ أَمْ شَيْئًا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ لابُدَّ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ؟ أَمْ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ، وَاللَّهِ مَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِأنَّنِي رَأَيْتُ الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَالَبُوكُمْ (¬2) مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْسِرَ عَنْكُمْ مِنْ شَوْكَتِهِمْ (¬3) إِلَى أَمْرٍ مَا". فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلَاءَ الْقوْمِ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ لَا نَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا نَعْرِفُهُ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأَكُلُوا مِنْهَا ثمَرَةَ إِلَّا قِرًى (¬4) أَوْ بَيْعًا، أَفَحِينَ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزَّنَا بِكَ وَبِهِ ¬

_ (¬1) المُرَاوَضَةُ: هو أَنْ تواصِفَ الرَّجُلَ بالسِّلْعَةِ ليسَتْ عِندَكَ. انظر النهاية (2/ 251). (¬2) يُقالُ: هم يَتَكَالَبُونَ على كذا: أي يَتَوَاثَبُونَ عليه. انظر لسان العرب (12/ 136). (¬3) الشَّوْكَةُ: شِدَّةُ البَأْسِ. انظر لسان العرب (7/ 240). (¬4) قَرَى الضَّيْفَ: أَضَافَهُ. انظر لسان العرب (11/ 149).

* اقتحام نفر من المشركين الخندق

نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا بِهَذَا مِنْ حَاجَةٍ، وَاللَّهِ لَا نُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَنْتَ وَذَاكَ" (¬1). * اقتِحَامُ نَفَرٍ مِنَ الْمُشرِكِينَ الْخَنْدَقَ: لَا يَزَالُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى الْخَنْدَقِ، وَعَدُوُّهُمْ يُحَاصِرُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ إِلَّا الرَّمْيُ بِالنِّبَالِ، حَتَّى خَرَجَتْ فَوَارِسٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى خَيْلهِمْ بَعْدَ أَنْ تَلَبَّسُوا لِلْقِتَالِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ، وَعِكْرَمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا تَعْنِقُ (¬2) بِهِمْ خَيْلُهُمْ، حَتَّى وَقَفُوا عَلَى الْخَنْدَقِ، ثُمَّ تيَمَّمُوا (¬3) مَكَانًا ضَيِّقًا فَاقْتَحَمُوا مِنْهُ، وَجَالَتْ (¬4) بِهِمْ خَيْلُهُمْ فِي أَرْضٍ سَبْخَةٍ (¬5) بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ (¬6)، فَأَسْرَعَ إِلَيْهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثَّغْرَةَ التِي اقْتَحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البَزَّار والطبراني بإسنادَينِ كِلاهُما حسن، وانظر مَجْمَعَ الزوائدِ (6/ 132). وانظر سيرة ابن هشام (3/ 246) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 286) - زاد المعاد (3/ 244) - الرَّوْض الأُنُف (3/ 417). (¬2) تَعْنِقُ: تُسْرعُ. انظر النهاية (3/ 280). (¬3) يُقال: يَمَّمْتُهُ وتَيَّمَّمْتُهُ: إذا قَصَدْتُهُ. انظر النهاية (5/ 259). (¬4) يُقال: جَالَ واجْتَالَ: إذا ذَهَبَ وجَاءَ، ومنه الجَوَلَانُ في الحربِ. انظر النهاية (1/ 360). (¬5) الأرض السَّبْخَةُ: هي الأرضُ التي تعلُوها المُلُوحَةُ، ولا تكاد تُنبِتُ إلا بعضَ الشَّجرِ. انظر النهاية (2/ 300). (¬6) سَلْعٌ: بفتح السِّين وسُكُونِ اللامِ: جَبَلٌ معروفٌ بالمدينة. انظر فتح الباري (3/ 194).

* قتل عمرو بن ود

* قَتْلُ عَمْرِو بْنِ وُدٍّ: وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ يَدْعُو إِلَى البِرَازِ (¬1)، وَهُوَ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَشْجَعِ فُرْسَانِ الْعَرَبِ. وَكَانَ قَدْ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَلَمْ يَشْهَدْ أُحُدًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ خَرَجَ مُعْلَمًا (¬2) لِيُرَى مَكَاُنهُ، فَلَمَّا نَادَى مَنْ يُبَارِزُ؟ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِب -رضي اللَّه عنه-: أنَا لَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجْلِسْ، فَإِنَّهُ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ"، فنَادَى مَرَّةً ثَانِيَةً عَمْرُو بْنُ وُدٍّ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجْلِسْ فَإِنَّهُ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ"، فنَادَى عَمْرُو بْنُ وُدٍّ ثَالِثَة: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ وَعَمَّمَهُ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ" فَمَشَى إِلَيْهِ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَعْجَلَنَّ فَقَدْ أَتَا ... كَ مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزْ دُو نُبْهَةٍ (¬3) وَبَصِيرَةٍ ... وَالصِّدْقُ مَنْجَا كُلِّ فَائِزْ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. ¬

_ (¬1) البِرَازُ: بكسرِ الباء: الْمُبَارَزَةُ في الحربِ. انظر النهاية (1/ 118). (¬2) خرجَ مُعْلَمًا: أي جعلَ لنفسِهِ علامةً ليُعرَفَ بِهَا. انظر النهاية (3/ 264). (¬3) ذو نُبْهَةٍ: أي ذُو فِطْنَةٍ. انظر لسان العرب (14/ 29).

فَقَالَ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ: عِنْدَكَ مِنْ أَعْمَامِكَ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ، وَإِنَّ أَبَاكَ كَانَ نَدِيمًا (¬1) لِي، فَلَا أُحِبُّ قِتَالَكَ فَانْصَرِفْ. فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَمْرُو! إِنَّكَ قَدْ كُنْتَ عَاهَدْتَ اللَّهَ أَلَّا يَدْعُوكَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى إِحْدَى خُلَّتَيْنِ إِلَّا أَخَذْتَهَا مِنْهُ، قَالَ لَهُ: أَجَل. قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولهِ، وَإلى الْإِسْلَامِ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النِّزالِ (¬2)، فَقَالَ لَهُ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: وَلَكِنْ وَاللَّهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَحَمِيَ عَمْرُو بْنُ وُدٍّ عِنْدَ ذَلِكَ فَاقْتَحَمَ (¬3) عَنْ فَرَسِهِ وَسَلَّ سَيْفَهُ، فَعَقَرَ (¬4) فَرَسَهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- مُغْضَبًا، وَاسْتَقْبَلَهُ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- بِدُرْقَتِهِ (¬5) فَضَرَبَهُ عَمْرٌو فِي الدُّرْقَةِ فَقَدَّهَا (¬6) وَأَثْبَتَ فِيهَا السَّيْفَ، وَأَصَابَ رَأْسَهُ فَشَجَّهُ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ (¬7) فَسَقَطَ وَثَارَ العَجَاجُ (¬8) وَكَبَّرَ، فَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ قَدْ قتَلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ ¬

_ (¬1) النَّديمُ: الذي يُرافِقُكَ ويُشَارِبُكَ. انظر لسان العرب (14/ 95). (¬2) النِّزالُ: بكسر النُّونِ: هو تَقَابُلُ القَرِينَيْنِ للقتالِ. انظر النهاية (5/ 37). (¬3) اقْتَحَمَ: أي رمى بنفسه عن الفرسِ ونزلَ منه. انظر لسان العرب (11/ 47). (¬4) عَقَرَ: قتَلَ. انظر النهاية (3/ 246). (¬5) الدُّرْقَةُ: التِّرْسُ من الجُلُودِ. انظر لسان العرب (4/ 333). (¬6) القَدُّ: القَطْعُ والشَّقُّ. انظر النهاية (4/ 19). (¬7) العَاتِقُ: ما بين المَنْكِبِ والعُنُقِ. انظر لسان العرب (9/ 38). (¬8) العَجَاجُ: الغُبَارُ. انظر لسان العرب (9/ 54).

* مقتل نوفل بن عبد الله

عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَوَجْهُهُ يَتَهَلَّلُ. وَوَلَّى الْبَاقُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُنْهَزِمِينَ فَاقْتَحَمُوا بِخَيْلِهِمْ الْخَنْدَقِ هَارِبِينَ، وَقَدْ بَلَغَ بِهِمُ الرُّعْبُ إِلَى أَنْ أَلْقَى عِكْرَمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ رُمْحَهُ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ (¬1). قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ الْعَطَارِدِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ آدَمَ يَقُولُ: مَا شَبَّهْتُ قتلَ عَلِيٍّ عَمْرًا إِلَّا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} (¬2). * مَقْتَلُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: وَأَقْبَلَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ يُرِيدُ أَنْ يَجْتَازَ الْخَنْدَقَ، فَوَقَعَ فِيهِ فَصُرعَ، وَقِيلَ حَمَلَ عَلَيْهِ (¬3) الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ، وَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا بِجَسَدِهِ -أَيْ بِجَسَدِ عَمْرِو بْنِ وُدٍّ قبَّحَهُ اللَّهُ- وَنُعْطِيكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ"، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "ادْفَعُوا إِلَيْهِمْ جِيفَتَهُمْ، فَإِنَّهُ خَبِيثُ الْجِيفَةِ، خَبِيثُ الدِّيَةِ، وَلَا نَأْكُلُ ¬

_ (¬1) أخرج قصة قتل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- عمرو بن ود: الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4385) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (3/ 248) - بدون سند. قال الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 577): قصة مبارزة علي -رضي اللَّه عنه- لعمرو بن وُدّ وقتله إيَّاه لا أعرف لها طريقًا مسندًا صحيحًا، وإنما هي من المراسيل والمعاضيل. (¬2) سورة البقرة آية (251) - والخبر في المستدرك (3/ 576). (¬3) حَمَلَ عليه: شَدَّ عليه شَدَّةً منكرة. انظر لسان العرب (3/ 336).

* الصحابي الذي قتلته حية

ثَمَنَ الْمَوْتَى" فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ (¬1). * الصَّحَابِيُّ الذِي قَتَلَتْهُ حَيَّةٌ: لَا تَزَالُ الْمُنَاوَشَاتُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ قَائِمَةً، وَكَانَ بعَضْ الصَّحَابَةِ يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الذَّهَابِ إِلَى بَيْتِهِ لِيَرَى أَحْوَالَ أَهْلِهِ وَيَرْجعُ، فَاسْتَأْذَنَ فَتى مِنْ فِتْيَانِ الْأَنْصَارِ إِلَى بَيْتِهِ فَوَجَدَ حَيَّةً فِي بَيْتِهِ فَرَمَاهَا بِالرُّمْحِ، فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ فَقتَلَتْهُ وَمَاتَتْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِم فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ: كَانَ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَتى شَابٌّ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْخَنْدَقِ، فَكَانَ ذَلَكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنهُ يَوْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ"، فَأَخَذَ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةٌ، فَأَهْوَى (¬2) إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ لِيَطْعَنَهَا بِهِ، وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: اُكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ (¬3)، وَادْخُلْ ¬

_ (¬1) أخرج قصة قتل الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه- لنوفل بن عبد اللَّه بن المغيرة: البيهقي في دلائله (3/ 437) - وابن سعد في طبقاته (2/ 283). وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند ضعيف - رقم الحديث (2230) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلًا من المشركين، فأعطوا بجيفته مالًا، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادفعوا إليهم جيفتهم، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية"، فلم يقبل منهم شيئًا. (¬2) هَوَتْ يَدِي للشَّيْءِ: امتَدَّتْ وارْتفعَتْ. انظر لسان العرب (15/ 167). (¬3) اكْفُفْ عليكَ رُمْحَكَ: أي اجْمَعْهُ. انظر لسان العرب (12/ 124).

* إصابة سعد بن معاذ -رضي الله عنه-

الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مُنْطَوَيةٌ عَلَى الْفِرَاشِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ، فَانتظَمَهَا بِهِ (¬1)، ثُمَّ خَرَجَ، فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَوِ الْفَتَى، فَجِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، وَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْيِيهِ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينهِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ" (¬2). * إِصَابَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: اسْتَمَرَّتِ الْمُنَاوَشَاتُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَرَمَى حِبَّانُ بْنُ العَرِقَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- بِسَهْمٍ، فَأَصَابَهُ بِأَكْحَلِهِ (¬3). فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو (¬4) آثَارَ النَّاسَ، فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-، وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، يَحْمِلُ مِجَنَّةً (¬5)، فَجَلَسْتُ ¬

_ (¬1) انْتَظَمَ الصَّيْدَ: إذا طَعَنَهُ أو رماهُ حتى يُنْفِذَهُ. انظر لسان العرب (14/ 197). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب قتل الحيات وغيرها - باب قتل الحيات - رقم الحديث (2236) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2938). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 174): الأَكْحَل: بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة وهو عِرْقٌ في وَسَطِ الذِّرَاعِ. (¬4) أَقْفُوا: أَتْبَعُ. انظر لسان العرب (11/ 263). (¬5) المِجَنُّ: التِّرْسُ. انظر النهاية (4/ 256).

فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَرَّ سَعْدٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ حَدِيدٍ، قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ، فَأنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، قَالَتْ: وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلهِمْ، فَمَرَّ وَهُوَ يَرْتَجِزُ يَقُولُ: لَبِّثْ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا (¬1) حَمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . وَرَمَى سَعْدًا رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ، فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ، فَقَطَعَهَا (¬2). وَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ، وَالطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: . . . فَحَسَمَهُ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فتَرَكَهُ، فنَزَفَهُ الدَّمُ، فَحَسَمَهُ أُخْرَى، فَانْتفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ ذَلِكَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُخْرِجْ نَفْسِي (¬4) حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي (¬5) مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، ¬

_ (¬1) الْهَيْجَا: الحُرُوبُ. انظر النهاية (5/ 247). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب مناقب الصحابة - باب ذكر وصف دعاء سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7028). (¬3) قال النووي رَحِمَهُ اللَّهُ في شرح صحيح مسلم (14/ 164): حَسَمَهُ: أي كَوَاهُ ليقطعَ دَمَهُ، وأَصْلُ الحَسْمِ القَطْعُ. (¬4) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7028) قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قال سعد: اللهم لا تمتني. (¬5) تُقِرَّ عَيْنِي: أي تُسِرَّها بذلك وتُفْرِحَهَا، وقيل معنى أَقَرَّ اللَّهُ عينَكَ: بَلَّغَكَ أُمْنِيَتَكَ حتى ترضى نفسُك وتسكن عينُك. انظر النهاية (4/ 35).

وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ وَمَوَالِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَاسْتَمْسَكَ عِرْقُهُ (¬1)، فَمَا قَطَرَ قَطْرَةً حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَةَ وَليِّهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَقرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، فَحَكَمَ فِيهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَتَيْسِيرِهِ، وَجَعَلَهُمْ هُمُ الذِينَ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَحَكَمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ حَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ فَوْقَ سَبْعِ أَرْقِعَةٍ" (¬3). ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَنْ يُحْمَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْمَسْجِدِ لِيُطَبَّبَ فِيهِ، وَليَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ: رَمَاهُ فِي الْأَكْحَلِ فَضَرَبَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7028) قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَرِأَ كَلْمُهُ. والكَلْمُ: الجُرْحُ. انظر النهاية (4/ 173). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب لكل داء دواء - رقم الحديث (2208) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3579). (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 492) - وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرْقِعَةٍ" يعني سبعَ سمواتٍ، وكل سَماءٍ يُقال لها رَقِيعٌ، والجمع: أَرْقِعَةُ. انظر النهاية (2/ 228). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4122) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتال من نقض العهد - رقم الحديث (1769).

* رفيدة الأسلمية رضي الله عنها تداوي الجرحى

وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لِتَقْرُبَ عَلَيْهِ عِيَادَتُهُ (¬1). * رُفَيْدَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تُدَاوِي الْجَرْحَى: وَكَانَتِ التِي تُدَاوِي الْجَرْحَى رُفَيْدَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ أَكْحَل سَعْدٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَثقُلَ، حَوَّلُوهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ، يُقَالُ لَهَا: رُفَيْدَةُ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى (¬2). * اسْتِمْرَارُ الْقِتَالِ وَفَوَاتُ الصَّلَاةِ: وَلَمَّا طَالَ الْمُقَامُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اتَّعَدُوا (¬3) أَنْ يَغْدُوا (¬4) جَمِيعًا وَلَا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَبَاتُوا يُعَبِّؤُونَ (¬5) أَصْحَابَهُمْ، ثُمَّ وَافَوا (¬6) الْخَنْدَقَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَخَذُوا يُفَرِّقُونَ كَتَائِبَهُمْ حَوْلَهُ، فَعَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَوَعَدَهُمُ النَّصْرَ إِنْ صَبَرُوا، فَأَحْدَقَ (¬7) الْمُشْرِكُونَ بِكُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْخَنْدَقِ، ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5007). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (863) - وأخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 227). (¬3) اتَّعَدُوا: أي تَوَاعَدُوا. انظر لسان العرب (15/ 342). (¬4) الْغُدْوَةُ: هو السَّيْرُ أولَ النَّهار. انظر النهاية (3/ 311). (¬5) عَبَّأْتُ الجَيْشَ: أي رَتَّبْتُهُم في مواضِعِهم وهَيَّأتُّهم للحربِ. انظر لسان العرب (9/ 6). (¬6) يُقال: وَفِيَ الشَّيْءُ، ووفَّى: إذا تَمَّ وكَمُلَ. انظر النهاية (5/ 183). (¬7) كلُّ شيء استدارَ بشيء وأحاط به، فقد أَحْدَقَ به. انظر لسان العرب (3/ 87).

وَوَجَّهُوا عَلَى قُبَّةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتِيبَةً غَلِيظَةً فِيهَا خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَاتَلُوهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ إِلَى قَرِيبٍ مِنَ اللَّيْلِ، مَا يَقْدِرُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَزُولُوا مَوَاضِعَهُمْ، وَلَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا أَصْحَابُهُ الْعَصْرَ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُشْرِكُونَ مُتَفَرِّقِينَ إِلَى مَنَازِلهِمْ وَعَسْكَرِهِمْ، وَانْصَرَفَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قُبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْخَنْدَقِ فِي مِائتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَكَرَّ (¬1) خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ -رضي اللَّه عنه- فِي خَيْلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَطْلُبُونَ غِرَّةَ (¬2) الْمُسْلِمِينَ، فَنَاوَشُوهُمْ (¬3) سَاعَةً، فزَرَقَ (¬4) وَحْشِيُ بْنُ حَرْبٍ الطُّفيْلَ بْنَ النُّعْمَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بِمِزْرَاقَةٍ (¬5) فَقتَلَهُ، وَانْكَشَفُوا، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ قِتَالٌ حَتَّى انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ، لَكِنَّهُمْ لَا يَدَعُونَ الطَّلَائِعَ (¬6) بِاللَّيْلِ يَطْمَعُونَ فِي الْغَارَةِ (¬7). فَلَمَّا صَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قُبَّتِهِ جَمَعَ أَصْحَابَهُ فَصَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ، ثُمَّ الْمَغْرِبَ (¬8). ¬

_ (¬1) كَرَّ: رَجَعَ. انظر لسان العرب (12/ 64). (¬2) الغِرَّةُ: الغَفْلَةُ. انظر النهاية (3/ 319). (¬3) الْمُنَاوَشَةُ في القتال: تَداني الفَريقَيْنِ، وأَخْذُ بعضِهِمْ بَعْضًا. انظر النهاية (5/ 112). (¬4) زَرَقهُ: طَعَنَهُ أو رَمَاهُ. انظر لسان العرب (6/ 39). (¬5) الْمِزْرَاقُ: الرُّمْحُ القصيرُ. انظر لسان العرب (6/ 39). (¬6) الطَّلائعُ: هم القومُ الذين يُبعَثُونَ لِيَطَّلِعُوا على العدو كَالجَواسيسِ. انظر لسان العرب (8/ 185). (¬7) الإِغَارُة: النَّهْبُ. انظر لسان العرب (10/ 142). (¬8) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 283) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 402).

رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا"، فَقُمْنَا إِلَى بُطْحَانَ (¬1) فتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأنَا لَهَا، فَصَلَّى الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى بَعْدَهَا الْمَغْرِبَ (¬2). وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: حَبَسَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى احْمَرَّتِ الشَّمْسُ، أَوْ اصْفَرَّتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى (¬3) صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا"، أَوْ قَالَ: "حَشَا اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا" (¬4). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 267): بُطْحَانُ: بضمِّ أولِّهِ وسُكُونُ ثانيه: وَادٍ بالمدينةِ. (¬2) أخرجه البخاري - كتاب الصلاة - باب من صلى بالناس جماعةً بعد ذهاب الوقت - رقم الحديث (596) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر - رقم الحديث (631) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف - رقم الحديث (2889) - والبغوي في شرح السنة - رقم الحديث (396). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 55): وكونُ الصلاة الوسطى هي صلاة العصر هو المُعْتَمَدُ، وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه. وقال الترمذي في جامعه (1/ 229): هو قول أكثر علماء الصحابة. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر - رقم الحديث (628).

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ صَلَّاهَا -أَيْ صَلَاةَ الْعَصْرِ- بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءَ (¬1). وَجَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّ الذِي فَاتَهُمْ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ، وَأَنَّهُمْ صَلُّوهَا بَعْدَ هَوِيٍّ (¬2) مِنَ اللَّيْلِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (¬3)، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بِلَالًا، فَأَقَامَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَصَلَّاهَا، وَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ، فَصَلَّاهَا، وَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا، كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، قَالَ: وَذَلِكُمْ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ: {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬4). وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدْ ضَعِيفٍ لِانْقِطَاعِهِ لَكِنَّهُ يَرْتَقِي إِلَى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر - رقم الحديث (627) (205). (¬2) الْهَوِيُّ من اللَّيْلِ: الحينُ الطَّويل من الزَّمان، وقيل: هو مُخْتَصٌّ بالليل. انظر النهاية (5/ 245). (¬3) سورة الأحزاب آية (25). (¬4) سورة البقرة آية (239) - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11465) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف - رقم الحديث (2890).

* إسلام نعيم بن مسعود وخداعه المشركين

دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ لِشَوَاهِدِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوْمَ الْخَنْدَقِ عِنْ أَرْبَعِ (¬1) صَلَوَاتٍ، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ طَافَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا عَلَى الْأَرْضِ عِصَابَةٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُكُمْ" (¬2). * إِسْلَامُ نُعَيمِ بْنِ مَسْعُودٍ وَخِدَاعُهُ الْمُشْرِكِينَ: وَبَيْنَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ، وَهَذَا الْخَوْفِ الذِي وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 267): وفي قوله -رضي اللَّه عنه-: "أربع" تَجَوُّزٌ؛ لأنَّ العشاء لم تكن فاتت. قال اليعمري: من الناس من رجّح ما في الصحيحين، وصرح بذلك ابن العربي، فقال: إن الصحيح أن الصلاة التي شُغِل عنها واحدة، وهي العصر. قلت (القائل الحافظ): ويؤيده حديث علي -رضي اللَّه عنه- في صحيح مسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"، قال: ومنهم من جمع بأن الخندق كانت وقعته أيامًا، فكان ذلك في أوقات مختلفة في تلك الأيام، قال: وهذا أولى. قلت (القائل الحافظ): ويقربه أن روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرض لقصة عمر -رضي اللَّه عنه-، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3555) - وأخرجه الترمذي في جامعه- كتاب الصلاة - باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ؟ - رقم الحديث (177) - وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (331) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب أبواب قضاء الفوائت - باب كيف يقضي الفائت من الصلاة - رقم الحديث (1602) - قال الترمذي: حديث عبد اللَّه ليس بإسناده بأس، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد اللَّه. قلت: لكنه يتقوى بكثرة شواهده، منها حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- الذي مرَّ قبل قليل.

كِتَابِهِ، مِنْ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَرَمْيِهِمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ يُحْدِثُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْرًا وَهُوَ: إِسْلَامُ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ -رضي اللَّه عنه-. وَدَعُونَا نَتْرُكُ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُنَا بِنَفْسِهِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا سَارَتِ الْأَحْزَابُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، سِرْتُ مَعَ قَوْمِي وَأَنَا عَلَى دِينِي ذَلِكَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِي عَارِفًا، فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ فكَتَمْتُ ذَلِكَ قَوْمِي، وَخَرَجْتُ حَتَّى أتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَآنِي جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: "مَا جَاءَ بِكَ يَا نُعَيْمُ؟ ". قُلْتُ: إِنِّي جِئْتُ أُصَدِّقُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِي فِي الدَّلَائِلِ: قَالَ نُعَيْمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِي أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي فَمُرْنِي أَمْرَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ (¬1) عَنَّا مَا اسْتَطَعْتَ: فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ" (¬2). ¬

_ (¬1) تَخَاذَلَ القومُ: تَدَابَرُوا. انظر لسان العرب (4/ 45). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (6/ 269): أَصْلُ الخَدْعِ: إِظْهَارُ أمرِ وإِضْمَارُ خلافِهِ، وفي هذا الحديث: التحريض على أخذ الحَذَرِ في الحرب، والندب إلى خِدَاعِ الكفار، وأن من لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه، وفيه الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب. وقال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (12/ 40): واتفقوا على جواز خِدَاعِ الكفار في الحرب كيفما أمكن، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحرب خدعة" أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3030) - =

قَالَ نُعَيْمٌ: وَلَكِنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ائْذَنْ لِي فَأَقُولُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُلْ مَا بَدَا لَكَ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ"، فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيمًا (¬1) فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ! قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي إِيَّاكُمْ، وَخَاصَّةً مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، قَالُوا: صَدَقْتَ، لَسْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ لَيْسُوا كَأَنْتُمْ، الْبَلَدُ بَلَدُكُمْ، فِيهِ أَمْوَالُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ، لَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تُحَوِّلُوا مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وِإِنَّ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ قَدْ جَاؤُوا لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ ظَاهَرتُمُوهُمْ (¬2) عَلَيْهِ، وَبَلَدُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ بِغَيْرِهِ، فَلَيْسُوا كَأَنْتُمْ، فَإِنْ رَأَوْا نُهْزَةً (¬3) أَصَابُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ لَحِقُوا ببلَادِهِمْ وَخَلُّوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ بِبَلَدِكُمْ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِ إِنْ خَلَا بِكُمْ، فَلَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا (¬4) مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ (¬5)، فقالوا له: لقد أَشَرْتَ بِالرَّأي. ثُمَّ خَرَجَ نُعَيْمٌ -رضي اللَّه عنه-، حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، فَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَنْ ¬

_ = وأخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1739). (¬1) النَّدِيمُ: هو الذي يُرافقُك ويُشاربُك. انظر لسان العرب (14/ 95). (¬2) تَظَاهَرُوا عليه: تَعَاونوا. انظر لسان العرب (8/ 277). (¬3) النّهْزَةُ: الفُرْصَةُ، وانتهَزْتُهَا: اغْتَنَمْتُهَا. انظر النهاية (5/ 119). (¬4) الرَّهْنُ: ما وُضِعَ عند الإنسان مما ينوب منابَ مَا أُخِذَ منه. انظر لسان العرب (5/ 348). (¬5) الْمُنَاجَزَةُ في الحرب: الْمُبارَزَةُ. انظر النهاية (5/ 18).

* وقوع الخلاف والفرقة بين الأحزاب

مَعَهُ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أَبِلِّغَكُمُوهُ، نُصْحًا لَكُمْ، فَاكْتُمُوا عَنِّي، فَقَالُوا: نَفْعَلُ، قَالَ: تَعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ: إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطفانَ، رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فنعْطِيكَهُمْ، فتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونُ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ: أَنْ نَعَمْ. فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا. ثُمَّ خَرَجَ نُعَيْمٌ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ غَطَفَانَ، إِنَّكُمْ أَهْلِي وَعَشِيرَتِي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَا أَرَاكُمْ تَتَّهِمُونِي، قَالُوا: صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ، قَالَ: فَاكْتُمُوا عَنِّي، قَالُوا: نَفْعَلُ فَمَا أَمْرُكَ؟ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ. * وُقُوعُ الْخِلَافِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْأَحْزَابِ: وَفِي لَيْلَةٍ مِنَ اللَّيَالِي أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُؤُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: عِكْرَمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، فِي نَفَرَيْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا لَسْنَا

بِدَارِ مُقَامٍ، قَدْ هَلَكَ الْخُفُّ (¬1) وَالْحَافِرُ (¬2)، فَاغْدُوا (¬3) لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، وَنَفْرَغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ وَهُوَ يَوْمٌ لَا نَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا، وَقَدْ كَانَ أَحْدَثَ فِيهِ بَعْضُنَا حَدَثًا، فَأَصَابَهُ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكُمْ (¬4)، وَلَسْنَا مَعَ ذَلِكَ بِالذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُوُنونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إِنْ ضَرَّسَتْكُم (¬5) الحَرْبُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تَنْشَمِرُوا (¬6) إِلَى بِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا وَالرَّجُلُ فِي بَلَدِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطفانُ: وَاللَّهِ إِنَّ الذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ، فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا، فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، حِينَ انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا: إِنَّ الذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ، مَا يُرِيدُ القوْمُ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوا فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتهَزُوهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بَلَدِكُمْ، ¬

_ (¬1) أراد بالْخُفِّ: الْإِبِلَ. انظر النهاية (2/ 53). (¬2) الحَافِرُ: الخَيْلَ؛ لأنَّ الفرسَ بشدَّةِ دَوْسِهَا تَحْفُرُ الأرضَ. انظر النهاية (1/ 390). (¬3) الغَدْوَةُ: سَيْرُ أولِ النَّهارِ. انظر النهاية (3/ 311). (¬4) الذي أصابهم هو أن حولهم اللَّه سبحانه وتَعَالَى إلى قردة وخنازير، كما ذكر سبحانه وتَعَالَى ذلك في سورة البقرة آية (65 - 66)، وسورة الأعراف آية (163 - 166). (¬5) ضَرَّسَتْهُ الحُرُوبُ تُضَرِّسُهُ ضَرَسًا: عضته. انظر لسان العرب (8/ 51). (¬6) الانْشِمَارُ والاشْتِمَارُ: الْمُضِيُّ والنُّفُوذُ. انظر لسان العرب (7/ 191).

* دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب

فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَيَئِسَ هَؤُلَاءِ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءَ، وَهَؤُلَاءَ مِنْ نَصْرِ هَؤُلَاءِ، وَاخْتَلَفَ أَمْرُهُمْ وَتَفَرَّقُوا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَيْ: لَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى مُنَازَلَتِهِمْ وَمُبَارَزَتِهِمْ حَتَّى يُجْلُوهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ، بَلْ كَفَى اللَّهُ وَحْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَلهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ" (¬2). * دُعَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الأَحْزَابِ: وَفِي هَذِهِ الْغَمْرَةِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْمَخَاوِفِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ لَا يَنْفَكُّونَ عَنِ الدُّعَاءِ للَّهِ رَبِّ الَعَالَمِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَعَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (25) - وانظر تفاصيل قصة تخذيل نعيم بن مسعود -رضي اللَّه عنه- بين المشركين واليهود في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 458) - دلائل النبوة للبيهقي (3/ 445 - 447) - سيرة ابن هشام (3/ 253) - زاد المعاد (3/ 244). (¬2) أخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق وهى الأحزاب - رقم الحديث (4114) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الذكر والدعاء - باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل - رقم الحديث (2724) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (6/ 396).

الْأَحْزَابِ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ" (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ لَكِنْ لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ يَتَقَوَّى بِهَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُهُ، فَقَدْ بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ (¬2)؛ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا". قَالَ: فَضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالرِّيحِ (¬3). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّد سَعِيدُ رَمَضانَ الْبُوطِيُّ: كَيْفَ وَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ؟ لَقَدْ رَأَيْنَا أَنَّ الْوَسِيلَةَ التِي الْتَجَأَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَاُبهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، هِيَ نَفْسُهَا التِي الْتَجَأَ إِلَيْهَا فِي الْخَنْدَقِ. . إِنَّهَا وَسِيلَةُ التَّضَرُّعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِكْثَارِ مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4115) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو- رقم الحديث (1742) (21). (¬2) قال السِّندي في شرح المسند (6/ 334): أي كادتْ تخرُجُ من البَدَن، وتنشقُّ من شدة الخوف. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10996) - وانظر السلسلة الصحيحة للألباني رحمه اللَّه - رقم الحديث (2018).

* هزيمة الأحزاب

وَالِاسْتِغَاثَةِ، بَلْ لَقَدْ كَانَ هُوَ الْعَمَلُ المْتُكَرِّرُ الدَّائِمُ الذِي ظَلَّ يَفْزَعُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كُلَّمَا لَقِيَ عَدُوًّا أَوْ سَارَ إِلَى جِهَادٍ، وِهَي الْوَسِيلَةُ التِي تَعْلُو فِي تَأْثِيرِهَا عَلَى كُلِّ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِلِ الْمَادِّيَّةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْوَسِيلَةُ التِي لَا تَصْلُحُ حَالُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا إِذَا قَامَتْ عَلَى أَسَاسِهَا بِعِنَايَةٍ كَامِلَةٍ (¬1). * هَزِيمَةُ الْأَحْزَابِ: وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دُعَاءَ رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالْمُؤْمِنِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَحْزَابِ رِيحًا شَدِيدَةً فِي لَيْلَةٍ شَاتيَةٍ بَارِدَةٍ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتُطْفِئُ نِيرَانَهُمْ، وَتَهْدِمُ خِيَامَهُمْ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَمْ يَكَدْ يَهْتَدِي إِلَى رَحْلِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا (¬2)، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ" (¬3). وَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ مَعَ الرِّيحِ جُنْدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ تزلْزِلُهُمْ، وَتُلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَامْتَلَأَتْ قُلُوبُ الْأَحْزَابِ رُعْبًا وَخَوْفًا وَهَلَعًا، وَفِي ذَلِكَ ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ص 222. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 216): الصَّبَا: بِفَتْحِ الصَّادِ: هي الرِّيحُ الشَّرْقِيَّةُ، ويُقَالُ لها القَبُولُ؛ لأنَّها تُقَابِلُ بابَ الكعبةَ إِذْ مَهَبُّهَا من مَشْرِقِ الشَّمْسِ، وضِدُّهَا الدَّبُورُ، وهي التي أُهْلِكَتْ بها قومُ عادٍ، ومن لطيف المناسبة كون القَبُولِ نَصَرَتْ أهلَ القَبولِ، وكون الدبور أهلكَتْ أهلَ الأدبار. (¬3) أخرجه البخاري - كتاب الاستسقاء - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نصرت بالصبا" - رقم الحديث (1035) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة الاستسقاء - باب في ريح الصبا والدبور - رقم الحديث (900).

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا (¬1) وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬2). قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَلَوْلَا أَنْ جَعَلَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، لَكَانَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ مِنَ الرِّيحِ الْعَقِيمِ عَلَى عَادٍ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (¬3) فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ هَوَاءً فَرَّقَ شَمْلَهُمْ، كَمَا كَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِمْ مِنَ الْهَوَى، وَهُمْ أَخْلَاطٌ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، أَحْزَابٌ وَآرَاءٌ، فنَاسَبَ أَنْ يُرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْهَوَاءُ الذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ خَاسِرِينَ بِغَيْظِهِمْ وَخَنَقَهُمْ (¬4)، لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا لَا فِي الدُّنْيَا، مِمَّا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الظَّفَرِ (¬5) وَالْمَغْنَمِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا تَحَمَّلُوهُ مِنَ الْآثَامِ فِي مُبارَزَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بِالْعَدَاوَةِ، وَهَمِّهِمْ بِقَتْلِهِ، وَاسْتِئْصَالِ جَيْشِهِ، وَمَنْ هَمَّ بِشَيْء، وَصَدَّقَ هَمَّهُ بِفِعْلِهِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَفَاعِلِهِ (¬6). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (6/ 385): هم الملائكة، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف، فكان رئيس كل قبيلة يقول: يابني فلان إليّ، فيجتمعون إليه فيقول: النجاء النجاء، لما ألقى اللَّه تَعَالَى في قلوبهم من الرعب. (¬2) سورة الأحزاب آية (9). (¬3) سورة الأنفال آية (33). (¬4) الْخَنْقُ: الْغَيْظُ. انظر النهاية (1/ 434). (¬5) الظَّفَرُ: الفَوْزُ بالمطلوب. انظر لسان العرب (8/ 255). (¬6) انظر تفسير ابن كثير (6/ 395).

* بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- حذيفة -رضي الله عنه- ليأتيه بخبر الأحزاب

* بَعْثُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَحْزَابِ: فَلَمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَحَزاب الرِّيحَ، أَرَادَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبْعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ لَيْلًا؛ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَحْزَابِ، فَأَرْسَلَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ -رضي اللَّه عنه- فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ قَالَ: قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رضي اللَّه عنه-: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَحِبْتُمُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ، قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْخَنْدَقِ، وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ اللَّيْلِ هَويًّا (¬1)، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ -يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ يَرْجعُ- أَدْخَلهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ (¬2) "، فَمَا قَامَ رَجُلٌ، ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: "مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرُ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ ثُمَّ يَرْجعُ -يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرَّجْعَةَ- أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رِفِيقِي فِي الْجَنَّةِ"، فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَشِدَّةِ الْجُوعِ وَشِدَّةِ الْبَرْدِ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَكُنْ لِيُ بدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي، فَقَالَ: "يَا حُذَيْفَةُ! فَاذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا". ¬

_ (¬1) الْهَوِيُّ: بالفتح: الحِينُ الطويلُ من الزَّمانِ، وهو مُخْتَصٌّ بالليلِ. انظر النهاية (5/ 245). (¬2) في رواية الإمام مسلم في صحيحه: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جعله اللَّه معي يوم القيامة".

قَالَ حُذَيْفَةُ: فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ (¬1)، وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللَّهِ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ، لَا تُقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا وَلَا نَارًا وَلَا بِنَاءً، فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لِيَنْظُرِ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الذِي إِلَى جَنْبِي، فَقُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ (¬2)، وَأَخْلفتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الذِي نَكْرَهُ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ، وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ، ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ (¬3) فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلَاثٍ، فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ، وَلَوْلَا عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي"، ثُمَّ شِئْتُ لقتلْتُهُ بِسَهْمٍ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية الإمام مسلم في صحيحه: قال حذيفة -رضي اللَّه عنه-: فلما وليت من عنده جَعلتُ كأنما أمشي في حَمّام، حتى أتيتهم. قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 123): يعني أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس من تلك الريح الشديدة شيئًا، بل عافاه اللَّه تَعَالَى منه ببركة إجابته للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وذهابه فيما وجهه له، ودعائه -صلى اللَّه عليه وسلم- له. (¬2) الكُرَاعُ: اسم لجميعِ الخيلِ. انظر النهاية (4/ 143). (¬3) مَعْقُولٌ: أي مَشْدُودٌ بالعِقَالِ، والعِقَالُ: هو الحَبْلُ الذي يُرْبَطُ بِهِ البَعِيرُ. انظر النهاية (3/ 254). (¬4) في رواية الإمام مسلم في صحيحه قال حذيفة -رضي اللَّه عنه-: فرأيت أبا سفيان يَصْلِي ظهرَهُ بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس، فأردت أن أرميه، فذكرت قول رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا تذعرهم عليّ" ولو رميته لأصبته.

* الرجوع من الخندق إلى إلى المدينة

قَالَ حُذَيْفَةُ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ (¬1) لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رَحْلِهِ، وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنَّهُ لَفِيهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرتُهُ الْخَبَرَ (¬2)، وَسَمِعَتْ غَطفانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ، فَانْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ (¬3). * الرُّجُوعُ مِنَ الْخَنْدَقِ إِلَى إِلَى الْمَدِينَةِ: فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ فتَحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَأَقَرَّ أَعْيُنَهُمْ بِجَلَاءِ الْأَحْزَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ" (¬4). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبوَّةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ فَصَدَّتْهُ قُرَيْشٌ عَنِ الْبَيْتِ، وَوَقَعَتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ نَقَضُوهَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) الْمِرْطُ: بكسر الميم: كِسَاءٌ من صُوفٍ. انظر النهاية (4/ 273). (¬2) في رواية الإمام مسلم قال حذيفة -رضي اللَّه عنه-: فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قم يا نَوْمَانُ". (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23334) - وأخرجه مختصرًا الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (1788) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر حذيفة بن اليمان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7125). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الخندق - رقم الحديث (4109) (4110) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18309).

وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ جَمَعُوا لَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً: "لَا يَغْزُوَنَّكُمْ بَعْدَ هَذَا أبَدًا، وَلَكِنْ أَنْتُمْ تَغْزُونَهُمْ" (¬1). ثُمَّ أَذِنَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمُسْلِمِينَ فِي الِانْصِرَافِ إِلَى مَنَازِلهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ. وَكَانُوا قَدْ أَقَامُوا بِالْخَنْدَقِ مُحَاصَرِينَ فِي شِتَاءٍ بَارِدٍ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَرَجَعُوا مَجْهُودِينَ، وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، وَكَانَ انْصِرَافُهُمْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ لِسَبْعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أورده الحافظ في الفتح (8/ 165) وعزاه إلى البزار في مسنده -وحسن إسناده. (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 407) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 284) - سيرة ابن هشام (3/ 257).

غزوة بني قريظة

غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ ابْنُ الْقيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا قُرَيْظَةُ، فَكَانَتْ أَشَدَّ الْيَهُودِ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَغْلَظَهُمْ كُفْرًا، وَلِذَلِكَ جَرَى عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَى إِخْوَانِهِمْ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَالنَّضِيرِ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ، مَعَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَذَلِكَ لِكُفْرِهِمْ وَنَقْضِهِمُ الْعُهُودَ التِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمُمَالَأَتِهِمُ الْأَحْزَابَ عَلَيْهِ، فَمَا أَجْدَى (¬2) ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولهِ، وَالصَّفَقَةِ الْخَاسِرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (¬3). ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ يَهُودَ بَنِي قُرَيْظَةَ نَقَضُوا الْعَهْدَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَآمَرُوا مَعَ الْأَحْزَابِ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَأْدِيبِهِمْ عَلَى هَذَا الْغَدْرِ. فَفِي الْيَوْمِ الذِي رَجَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْخَنْدَقِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 117). (¬2) فَمَا أَجْدَى: أي فما أَغْنَى. انظر لسان العرب (2/ 215). (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 499).

وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِصُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ -رضي اللَّه عنه- يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْخَنْدَقِ، وَوَضَعَ السِّلَاحَ، وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِلَى أَيْنَ؟ " قَالَ: هَهُنَا وَأَشَارَ إِلَى قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَأَنَّي أَنْظُرُ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ خَلَلِ (¬2) الْبَابِ قَدْ عَصَبَ (¬3) رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ (¬4). وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ عِنْدَهَا فَسَلَّمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَنَحْنُ فِي الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَزِعًا فَقُمْتُ فِي أَثَرِهِ فَإِذَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ (¬5)، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا جِبْرِيلُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4117). (¬2) الخَلَلُ: الفُرْجَةُ بينَ الشيئَيْنِ، والخَلَّةُ: الثُّقْبَةُ الصَّغيرةُ. انظر لسان العرب (4/ 199). (¬3) عَصَبَ رأسَهُ من الغُبَارِ: أي رَكِبَهُ وعَلِقَ بِهِ. انظر النهاية (3/ 221). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24994). (¬5) هو دحية بن خليفة الكلبي -رضي اللَّه عنه- صحابي مشهور، أول مشاهده أُحد، ولم يشهد بدرًا، =

* اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-

يَأْمُرُنِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ" (¬1). ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنَادِيًا يُنَادِي فِي النَّاسِ: "أَلَا لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ". وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ "الظُّهْرَ"، بَدَلَ "الْعَصْرَ" مَعَ اتِّفَاقِ الْبَخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ بِإِسْنَادٍ وَاحِدٍ (¬2). * اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَأَخَذَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ، فَلَمْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ حَتَّى جَاؤُوا بَنِي ¬

_ = وكان يُضرب به المثل في حسن الصورة، وكان جبريل عليه السلام كثيرًا ما يأتي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بصورته -رضي اللَّه عنه-. وعاش دحية الكلبي -رضي اللَّه عنه- إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنه-. انظر الإصابة (2/ 321). (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب نزول جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4388) - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (4/ 9). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 501): ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها. (¬2) قال الإمام الذهبي في السِّيرة النَّبوِيَّة (1/ 506): كأنه وَهْم. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 169): جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان قد صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها: لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى الظهر، وقيل للطائفة التي بعدها العصر. قال الحافظ: وكلاهما جمع لا بأس به.

* أي الطائفتين أصوب؟

قُرَيْظَةَ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْإِسْرَاعَ، وَصَلُّوا الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ (¬1). * أَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَصْوَبُ؟ : قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيُّهُمَا كَانَ أَصْوَبَ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: الذِينَ أَخَّرُوهَا هُمُ الْمُصِيبُونَ وَلَوْ كُنَّا مَعَهُمْ، لَأَخَّرْنَاهَا كَمَا أَخَّرُوهَا، وَلَمَا صَلَّيْنَاهَا إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَتَرْكًا لْلتَّأْوِيلِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنَ الْفُقَهَاءِ: بَلِ الذِينَ صَلُّوهَا فِي الطَّرِيقِ فِي وَقْتِهَا حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ (¬2)، وَكَانُوا أَسْعَدَ بِالْفَضِيلَتَيْنِ، فَإِنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْخُرُوجِ، وَبَادَرُوا إِلَى مَرْضَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ بَادَرُوا إِلَى اللَّحَاقِ بِالْقَوْمِ، فَحَازُوا فَضِيلَةَ الْجِهَادِ، وَفَضِيلَةَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا، وَفَهِمُوا مَا يُرادُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا أَفْقَهَ مِنَ الْآخِرِينَ، وَلَاسِيَّمَا تِلْكَ الصَّلَاةُ، فَإِنَّهَا كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الذِي لَا مَدْفَعَ لَهُ وَلَا مَطْعَنَ فِيهِ (¬3)، وَمَجِيءُ السُّنَّةِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4119) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب المبادرة بالغزو - رقم الحديث (1770). (¬2) يُقال: حَازَ قَصَبَ السَّبْقِ: أي استولى على الأمر. انظر لسان العرب (11/ 179). (¬3) أخرج الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (627) (205) عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر".

* خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة

وَالتَّبْكِيرِ بِهَا (¬1)، وَأَنَّ مَنْ فَاتَتْهُ، فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ (¬2)، أَوْ قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ (¬3)، فَالذِي جَاءَ فِيهَا أَمْرٌ لَمْ يَجِئْ مِثْلُهُ فِي غَيْرِهَا، وَأَمَّا الْمُؤَخِّرُونَ لَهَا، فَغَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ، بَلْ مَأْجُورُونَ أَجْرًا وَاحِدًا لِتَمَسُّكِهمْ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَقَصْدِهِمْ امْتِثَالَ الْأَمْرِ، وَالذِينَ صَلُّوا فِي الطَّرِيقِ، جَمَعُوا بَيْنَ الْأَدِلِّةِ، وَحَصَّلُوا الْفَضِيلَتَيْنِ فَلَهُمْ أَجْرَانِ (¬4). * خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأَعْطَى الرَّايَةَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَجَالِسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْظَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: "هَلْ مَرَّ بِكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ "، قَالُوا: مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تَحْتَهُ قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ ذَلِكَ بِدِحْيَةَ وَلَكِنَّهُ جِبْرِيلُ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيُزَلْزِلَهُمْ، وَيَقْذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (553) عن بُرَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- قال: بكِّروا بصلاة العصر. (¬2) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (552)، والإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (626) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِر أهله وماله". (¬3) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (553) عن بريدة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله". (¬4) زاد المعاد (3/ 118 - 119). (¬5) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب نزول جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4388) - وأخرجه البيهقي في =

* وصول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قريظة

وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا (¬1) فِي زُقَاقِ (¬2) بَنِي غَنْمٍ (¬3) مَوْكِبِ جِبْرِيلَ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ (¬4). * وُصُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحِصْنِهِمْ، وَكَانُوا فِي أَعْلَاهُ نَادَى بِأعَلَى صَوْتِهِ نَفَرًا مِنْ أَشْرَفِهَا حَتَّى أَسْمَعَهُمْ: "يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ"! ، قَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ! مَا كُنْتَ جَهُولًا وَلَا فَحَّاشًا (¬5). ¬

_ = دلائل النبوة (4/ 9) - قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 501): ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها. (¬1) سَاطِعًا: أي مُرْتَفِعًا. انظر فتح الباري (8/ 168). (¬2) الزُّقَاقُ: بالضم: الطَّرِيقُ. انظر النهاية (2/ 277) - وفي رواية الإمام أحمد في مسنده قال أنس: في سِكَّةِ بني غَنْمٍ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 455): بني غَنْمٍ: بفتح الغين وسكون النون بَطْنٌ من الخزرجِ، وهم بنو غَنْمِ بنِ مالكِ بنِ النَّجَارِ، منهم أبو أيوب الأنصاري -رضي اللَّه عنه- وآخرون. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الخلق - باب ذكر الملائكة عليهم السلام - رقم الحديث (3214) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4118) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13229). (¬5) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب نزول جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي - رقم الحديث (4388) - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (4/ 9). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 501): ولهذا الحديث طرق جِيدة عن عائشة وغيرها.

فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً (¬1) حَتَّى اشْتَدَّتْ بِهِمُ الْحَالُ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَنْهُمْ حَتَّى يُنَاجِزَهُمْ (¬2)، فَقَالَ لَهُمْ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: يَا قَوْمُ! قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْأَمْرِ مَا تَرَوْنَ، وَإِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ خِلَالًا (¬3) ثَلَاثًا، فَخُذُوا أَيَّهَا شِئْتُمْ، قَالُوا: مَا هِيَ؟ قَالَ: نُتَابعُ هَذَا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ إِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّهُ لَلَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ، وَإِنَّهُ الذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى، وَإِنَّكُمْ لَتَعْرِفُونَ صِفَتَهُ، فتَأْمَنُونَ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَبْنَائِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا نُفَارِقُ حُكْمَ التَّوْرَاةِ أَبَدًا، وَلَا نَسْتَبْدِلُ بِهِ غَيْرَهُ، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا ثُمَّ نَخْرُجْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ مُسْتَمِيتِينَ فِي الْقِتَالِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنْ نَهْلِكْ لَمْ نَتْرُكْ وَرَاءَنَا شَيْئًا نَخْشَى عَلَيْهِ، وَإِنْ نَغْلِبْ فَلَنْ نُعْدَمَ النِّسَاءَ وَالْأَبْنَاءَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَقَالُوا: نَقْتُلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ؟ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ؟ . قَالَ: فَإِنْ أَبَيْتُمْ عَلَيَّ هَذِهِ، فَإِنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ السَّبْتِ وَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُون ¬

_ (¬1) هذا هو الراجح في مدة حصار بني قريظة، وقد رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7028) - وجَوَّدَ إسنادَهُ الحافظُ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 508). (¬2) الْمُنَاجَزَةُ في الحربِ: الْمُبَارَزَةُ. انظر النهاية (5/ 18). (¬3) خِلَالُ: خِصَالٌ. انظر لسان العرب (4/ 201).

* موقف عمرو بن سعدي القرظي

مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَمَّنُونَا فِيهَا فَانْزِلُوا لَعَلَّنَا نُصِيبُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غِرَّةً (¬1)، فَأَبَوْا ذَلِكَ، وَقَالُوا: نُفْسِدُ سَبْتَنَا عَلَيْنَا، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فَعَلَ اللَّهُ فِي الذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ مِنَ الْمَسْخِ (¬2)، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ: مَا بَاتَ رَجُلٌ مِنْكُمْ مُنْذُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً مِنَ الدَّهْرِ حَازِمًا (¬3). * مَوْقِفُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِي القُرَظِي: وَقَالَ لَهُمْ عَمْرُو بْنُ سَعْدِي: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ إِنَّكُمْ قَدْ حَالَفْتُمْ مُحَمَّدًا عَلَى مَا حَالَفْتُمُوهُ عَلَيْهِ، أَلَّا تَنْصُرُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ تَنْصُرُوهُ مِمَّنْ دَهَمَهُ (¬4)، فَنَقَضْتُمْ ذَلِكَ الْعَهْدَ الذِي كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَلَمْ أَدْخُلْ فِيهِ، وَلَمْ أُشْرِكْكُمْ فِي غَدْرِكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا مَعَهُ فَاثْبُتُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَأَعْطُوا الْجِزيةَ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي يَقْبَلُهَا أَمْ لَا، قَالُوا: نَحْنُ لَا نُقِرُّ لِلْعَرَبِ بِخَرَاجٍ (¬5) فِي رِقَابِنَا يَأْخُذُونَهَا بِهِ، القتْلُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ! قَالَ: فَإِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، وَخَرَجَ (¬6). ¬

_ (¬1) الغِرَّةُ: الغَفْلَةُ. انظر النهاية (3/ 319). (¬2) الْمَسْخُ: هو قَلْبُ الخِلْقَةِ مِنْ شيءٍ إلى شيء. انظر النهاية (4/ 280). (¬3) انظر التفاصيل في: البداية والنهاية (4/ 503) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 15). (¬4) دَهَمَهُمْ: غَشِيَهُمْ. انظر لسان العرب (4/ 431). (¬5) الْخَرَاجُ: هو شيءٌ يُخْرِجُهُ القومُ في السَّنَةِ من مِالهِمْ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ. انظر لسان العرب (4/ 54). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (3/ 262) - سيأتي بعد قليل خبر نجاة عمرو بن سعدي من الذبح بسبب وفاءه.

* استشارتهم أبا لبابة -رضي الله عنه-

ثُمَّ إِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ إِلَّا الْحَلْقَةَ (¬1)، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ ثَانِيَةً بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ لَا مِنَ الْحَلْقَةِ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَرَادُوا أَنْ يَتَّصِلُوا بِبَعْضِ حُلفائِهِمْ مِنَ الْأَوْسِ لَعَلَّهُمْ يَتَعَرَّفُونَ مَاذَا سَيَحِلُّ بِهِمْ إِذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * اسْتِشَارَتُهُمْ أَبَا لُبَابَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2): فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ لِنَسْتَشِيرَهُ فِي أَمْرِنَا، وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ إِلَيْهِ الرِّجَالُ، وَجَهَشَ (¬3) إِلَيْهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَبْكُونَ فِي وَجْهِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ، وَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا لُبَابَةَ! أَتَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حَلْقِهِ، يَعْنِي الذَّبْحَ، قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: فَوَاللَّهِ مَا ¬

_ (¬1) الحَلْقَةُ: بفتح الحاء وسكون اللام: السِّلَاحُ، انظر النهاية (1/ 410). (¬2) أخرج إرسال أبي لبابة -رضي اللَّه عنه- إلى بني قريظة: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7028) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 261) وإسنادها حسن - وأوردها الحافظ ابن كئير في البداية والنهاية (4/ 508) وجود إسنادها. (¬3) الْجَهْشُ: أَنْ يفزعَ الإنسانُ إلى الإنسانِ ويلجأَ إليه، وهو مع ذلك يريد البكاء، كما يفزع الصبي إلى أمه وأبيه. انظر النهاية (1/ 310).

زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أُحْدِثَ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَوْبَةً نَصُوحًا يَعْلَمُهَا اللَّهُ مِنْ نَفْسِي، ثُمَّ انْطَلَقَ أَبُو لُبَابَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، فَرَبَطَ نَفْسَهُ إِلَى سَارِيَةٍ (¬1) مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ -وَكَانَتْ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ-، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: لَا أَبْرَحُ (¬2) مَكَاني هَذَا حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ، فنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬3)، فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَبَرَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَبْطَأَهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ جَاءَني لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَأَمَّا إِذْ فَعَلَ مَا فَعَلَ فَمَا أَنَا بِالذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَأَقَامَ أَبُو لُبَابَةَ -رضي اللَّه عنه-، مَرْبُوطًا بِالْجِذْع سِتَّ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ، تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فتحِلُّهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيُرْبَطُ بِالْجِذْعِ، حَتَّى نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) هذه السارية موجودة اليوم بالمسجد النبوي، معروفة باسم اسطوانة التوبة. (¬2) لا أَبْرَحُ: لا أُفَارِقُ. انظر لسان العرب (1/ 361). (¬3) سورة الأنفال آية (27). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 40): قال عبد اللَّه بن أبي قتادة، والزهري: أنزلت في لبابة بن عبد المنذر -رضي اللَّه عنه-، حين بعثه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) سورة التوبة آية (102). =

* نزول بني قريظة على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدٌ أَبُو شَهْبَةَ: وَإِنَّ لَنَا هُنَا لَوَقْفَةً تُرِينَا مَبْلَغَ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَتَذَكُّرِ الْقَلْبَ، وَيَقْظَةَ الضَّمِيرِ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، الذِينَ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، وَسُرْعَانَ مَا يَتُوبُونَ، وَمَبْلَغَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمُجْتَمَعُ الْإِسْلَامِيُّ حِينَئِذٍ مِنْ حَيَاءٍ مِنَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَتَقْدِيرٍ لِلْقِيَمِ الْخُلُقِيَّةِ، وَالْمَعَانِي الرُّوحِيَّةِ، وَاسْتِهَانَةٍ بِالنَّفْسِ وَالْوَلَدِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ رِضَاءِ اللَّهِ وَرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَيُّ مُجْتَمَع مُتَحَضِّرٍ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا (¬1). * نُزُولُ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَلَمَّا اشْتَدَّ الْحِصَارُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَذْعَنُوا (¬2) وَرَضُوا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ ¬

_ = قال مجاهد في سبب نزول هذه الآية فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 206)، وابن جرير في تفسيره (6/ 462): إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 206) نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غزوته، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد، وحلفوا لا يحلهم إلا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما أنزل اللَّه هذه الآية: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}، أطلقهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعفا عنهم. قال الإمام ابن جرير الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (6/ 462): وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شَخَصَ -أي ذهب- إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لُبابة. (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 408) للدكتور محمد أبو شهبه رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) أَذْعَنَ: خَضَعَ وَذَلَّ. انظر لسان العرب (5/ 45).

الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بِالرُّغْمِ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو لُبَابَةَ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ الذَّبْحُ، فَقَدْ قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ، وَأَخَذَتْ مَعْنَوِيَّاتُهُمْ تَنْهَارُ، وَبَلَغَ هَذَا الْانْهِيَارُ غَايَتَهُ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، مِنْ حِصْنِهِمْ وَصَاحَ: يَا كَتِيبَةَ الْإِيمَانِ! ثُمَّ تَقَدَّمَ هُوَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَذُوقَنَّ مَا ذَاقَ حَمْزَةُ أَوْ لَأَفْتَحَنَّ حِصْنَهُمْ، فَأَذْعَنُوا حِينَئِذٍ وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَكُتِفُوا وَجُعِلُوا نَاحِيَةً، وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ، وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَقِيلَ سَبْعَمِائَةٍ، وَجُعِلَتِ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِي بِمَعْزِلٍ عَنِ الرِّجَالِ فِي نَاحِيَةٍ. فَتَوَاثَبَتِ الْأَوْسُ وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُمْ كَانُوا مَوَالِينَا وَحُلَفَاءَنَا، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، يَعْنُونَ بَنِي قَيْنقَاعَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَسَأَلَهُ إِيَّاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ فَوَهَبَهُمْ لَهُ عَلَى أَنْ يُجْلَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَظَنَّتِ الْأَوْسُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَهَبَ لَهُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا وَهَبَ بَنِي قَيْنُقَاعَ لِلْخَزْرَجِ، فَلَمَّا كَلَّمَتْهُ الْأَوْسُ أَبَى -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَفْعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ مَا فَعَلَ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟ ". قَالُوا: بَلَى، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَذَاكَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ". وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-، يَوْمَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، يُطَبَّبُ مِنْ جُرْحِهِ الذِي أُصِيبَ بِهِ فِي الْخَنْدَقِ.

* وصول سعد -رضي الله عنه- إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحكمه في بني قريظة

فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- فَأُتِيَ بِسَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ (¬1) مِنْ لِيفٍ، قَدْ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَحَفَّ (¬2) بِهِ قَوْمُهُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَمْرٍو! حُلَفَاؤُكَ وَمَوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَايَةِ (¬3) وَمَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَنْ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَنُعِيَ إِلَيْهِمْ رِجَالُ بَنِي قُرَيْظَةَ (¬4). * وُصُولُ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَحُكْمُهُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْأَنْصَارِ: "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ خَيْرِكُمْ، فَأَنْزِلُوهُ"، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَأَنْزَلُوهُ (¬5)، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ". ¬

_ (¬1) الْإِكَافُ: الحَبْلُ. انظر النهاية (4/ 167). (¬2) حَفَّ القومُ بالشيء: أَحْدَقُوا به واستدَاروا حَوْلَهُ. انظر لسان العرب (3/ 244). (¬3) نَكَّلَ بِهِ: إذا جعله عِبْرَةً لغيره، والنَّكَالُ: العُقُوبَةُ التي تُنَكِّلُ الناسَ عن فِعل ما جُعِلَتْ له جَزَاءً. انظر النهاية (5/ 102). (¬4) أخرج مجيء سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليحكم في بني قريظة: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4122) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتال من نقض العهد - رقم الحديث (1768) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7028). (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (6/ 398): فقام إليه المسلمون، فأنزلوه إعظامًا وإكرامًا واحترامًا له في محل ولايته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم.

* تنفيذ الحكم في بني قريظة

فَقَالَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ، وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُمْ. فَقَال رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ". وَفِي رِوَايَةٍ "أَرْقِعَةٍ" (¬1). * تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ: ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالْأُسَارَى فَجُمِعُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ (¬2) امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَارِ، وَقِيلَ: دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمْ جُعِلُوا فِي بَيْتَيْنِ (¬4). ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تُحْفَرَ لَهُمُ الْخَنَادِقُ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَ ¬

_ (¬1) سبع أَرْقِعَةٍ: يعني سبع سموات، وكل سماء يقال لها رَقِيعٌ، والجمع: أَرْقِعَةٌ. انظر النهاية (2/ 228). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب - رقم الحديث (4122) - مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز قتال من نقض العهد - رقم الحديث (1768) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7028) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناقب - باب سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (8166) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 264) - وابن سعد في طبقاته (2/ 287). (¬2) هذه رواية ابن اسحاق في السيرة (3/ 265). (¬3) هذه رواية أبي الأسود عن عروة. انظر فتح الباري (8/ 175). (¬4) انظر فتح الباري (8/ 175).

* مقتل حيي بن أخطب

إِلَيْهِمْ، فَجِيءَ بِهِمْ أَرْسَالًا (¬1) تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ وَيُلْقَوْنَ فِيهَا، وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى الْأَرْجَحِ (¬2)، وَفِي رِوَايِةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّمِائَةِ أَوْ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ (¬3). فَلَمَّا أُخِذُوا لِلْقَتْلِ فِرَقًا يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعَضًا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِسَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ: يَا كَعْبُ! مَا ترَاهُ يُصْنَعُ بِنَا؟ قَالَ كَعْبٌ: أَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ؟ أَلَا تَرَوْنَ الدَّاعِيَ لَا يَنْزعُ، وَأَنَّهُ مَنْ ذُهِبَ بِهِ مِنْكُمْ لَا يَرْجعُ، هُوَ وَاللَّهِ الْقَتْلُ، فَلَمْ يَزَلْ يُؤْتَى بِهِمْ جَمَاعَاتٍ حَتَّى فَرغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْهُمْ (¬4). * مَقْتَلُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ: وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ ¬

_ (¬1) أَرْسَالًا: أَفْوَاجًا، وفِرَقًا مُتَقَطِّعَةً يَتْبَعُ بعضُهُمْ بَعْضًا. انظر النهاية (2/ 202). (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7028) (4784) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب السير - باب ما جاء في النزول على الحكم - رقم الحديث (1673) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 508): إسناده جيد. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 265). (¬4) انظر التفاصيل في: سيرة ابن هشام (3/ 265) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 19 - 20) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 287) - البداية والنهاية (4/ 508) - شرح المواهب (3/ 86 - 87).

* لم يقتل من نساء بني قريظة إلا واحدة

دَخَلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي حِصْنِهِمْ حَيْثُ رَجَعَتْ عَنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَفَاءً لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ بِمَا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أُتِيَ بِهِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ؟ ". قَالَ حُيَيٌّ: لَقَدْ ظَهَرْتَ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللَّهُ يُخْذَلُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيّها النَّاسُ! إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللَّهِ، كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كتَبَهَا اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ ضُرِبَ عُنُقُهُ لَعَنَهُ اللَّهُ (¬1). * لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَّا وَاحِدَةٌ: وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَاءِ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- امْرَأَةً قَطُّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ إِلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً، وَاللَّهِ إِنَّها لَعِنْدِي تَضْحَكُ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيَقْتُلُ رِجَالَهُمْ بِالسُّيُوفِ إِذْ يَقُولُ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلَانَةٌ؟ فَقَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُكِ؟ ، قَالَتْ: أُقْتَلُ وَاللَّهِ، قُلْتُ: وَلِمَ؟ ، قَالَتْ: لِحَدَثٍ أَحْدَثْتُهُ (¬2)، فَانْطُلِقَ بِهَا فَضُرِبَ عُنُقُهَا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 266) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 23) - البداية والنهاية (4/ 509). (¬2) قال ابن هشام في السيرة (3/ 266): وهي التي طَرحَتِ الرَّحَا -الرَّحَا هي التي يُطْحَنُ بها- على خَلاّد بن سويد، فقتلته. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب قتل امرأة من بني قريظة - رقم الحديث (4390) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في قتل النساء - رقم الحديث (2671) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 266).

* نجاة عطية القرظي

* نَجَاةُ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ: وَكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلِّ مَنْ أَنْبَتَ (¬1) مِنْهُمْ، وَتَرْكِ مَنْ لَمْ يَنْبُتْ، فَكَانَ عَطِيَّةُ الْقُرَظِيُّ مِمَّنْ لَمْ يَنْبُتْ، فَخُلِّيَ سَبِيلُهُ وَأُلْحِقَ بِالسَّبْي، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالتَّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَشَكُّوا فِيَّ: أَمِنَ الذُّرِّيَّةِ أَمْ مِنَ الْمَقَاتِلَةِ؟ . فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ أَنْبَتَ الشَّعْرُ فَاقْتُلُوهُ، وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلُوهُ". فَفَتَّشُونِي، فَوَجَدُونِي لَمْ أُنْبِتْ، فَخُلِّيَ سَبِيلِي (¬2). * قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِي الْقُرَظِيِّ: وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سَعْدِي الْقُرَظِيُّ، فَمَرَّ بِحَرَسِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا عَمْرُو بْنُ سَعْدِي، وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- وَقَالَ لَهُمْ: لَا أَغْدِرُ بِمُحَمَّدٍ ¬

_ (¬1) أَنْبَتَ: أَرَادَ نَبَاتَ شَعْرِ العَانَةِ، فجعله -صلى اللَّه عليه وسلم- علامةَ البُلُوغِ. انظر النهاية (5/ 4). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر العلامة التي بها يفرق بين السبي وبين غيرهم - رقم الحديث (4781) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب السير - باب ما جاء في النزول على الحكم - رقم الحديث (1584) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

* تقسيم غنائم بني قريظة

أَبَدًا، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي إِقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ، ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ، فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَعْدِي عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى بَاتَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجَّهَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَأْنُهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ رَجُلٌ نَجَّاهُ اللَّهُ بِوَفَائِهِ" (¬1). * تَقْسِيمُ غَنَائِمِ بَنِي قُرَيْظَةَ: ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِتَوْزِيعِ غَنَائِمِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُجْمَعَ مَا وُجِدَ فِي حُصُونِهِمْ مِنَ السِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا، فَوُجْدَ فِي حُصُونِهِمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ سَيْفٍ وَثَلَاثُمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَلْفُ رُمْحٍ، وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ تُرْسٍ، وَوَجَدُوا جِمَالًا نوَاضِحَ وَمَاشِيَةً كَثِيرَةً، فَأُخْرِجَ الْخُمُسُ، ثُمَّ قُسِمَ الْبَاقِي عَلَى الْغَانِمِينَ، فَجُعْلَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ: لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ، وَلفَارِسِهِ سَهْمٌ، وَأُسْهِمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ (¬2). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَنِي النَّضيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقتَلَ رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 262) - السيرة النبوة للذهبي (1/ 513). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 269) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 287). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث بني النضير - رقم الحديث =

* اصطفاء ريحانة

وَصَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ إِذْ يَقُولُ: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ (¬1) وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ (¬2) وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا (¬3) وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (¬4) * اصْطِفَاءُ رَيْحَانَةَ: وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِنَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ عَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَبَتْ إِلَّا الْيَهُودِيَّةَ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي نَفْسِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ خَلْفَهُ، فَقَالَ: "هَذَا ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ (¬5) يُبَشِّرُني بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ"، ¬

_ = (4028) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب إجلاء اليهود من الحجاز - رقم الحديث (1766) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6367). (¬1) صَيَاصِيهِمْ: أي حُصُونُهُمْ. انظر تفسير ابن كثير (6/ 398). (¬2) يعني: مَزَارعَ ومَغَارِسَ ودِيَارَ بَنِي قريظة. انظر تفسير الطبري (10/ 287). (¬3) قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (10/ 288): والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إن اللَّه تَعَالَى ذِكْرُهُ أخبرَ أنه أورث المؤمنين من أصحاب رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم، وأرضا لم يطئوها يومئذ، ولم تكن مكة ولا خيبر ولا أرض فارس والروم ولا اليمن، مما كان وطئوه يومئذ، ثم وطئوا ذلك بعد، وأورثهموه اللَّه، وذلك كله داخل في قوله تَعَالَى: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا}؛ لأنه تَعَالَى ذكره لم يخصص من ذلك بعضًا دون بعض. (¬4) سورة الأحزاب آية (26 - 27). (¬5) قال الحافظ في الإصابة (1/ 519): ثعلبة بن سَعية، أحد من أسلم من اليهود.

* شهداء غزوة بني قريظة

فَبَشَّرَهُ وَعَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يُعْتِقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ تَتْرُكُنِي فِي مُلْكِكَ، فَهُوَ أَخَفُّ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ، فَتَرَكَهَا (¬1). وَذَكَر ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَتْ رَيْحَانَةُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ جَمِيلَةً وَسِيمَةً، فَلَمَّا قُتِلَ زَوْجُهَا وَقَعَتْ فِي السَّبْي، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَاخْتَارَتِ الْإِسْلَامَ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَغَاَرَتْ عَلَيْهِ غَيْرَةً شَدِيدَةً فَطَلَّقَهَا، فَشُقَّ عَلَيْهَا وَأَكْثَرَتِ الْبُكَاءَ، فَرَاجَعَهَا، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَتْ قَبْلَ وَفَاتِهِ (¬2). * شُهَدَاءُ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ: اسْتَشْهَدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ رَجُلَانِ، وَهُمْ: خَلَّادُ بْنُ سُوَيْدٍ الذِي طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى، فَشَدَخَتْ رَأْسَهُ شَدْخًا شَدِيدًا، فَمَاتَ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ"، وَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَتْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ التِي طَرَحَتْ عَلَى خَلَّادِ بْنِ سُوَيْدٍ الرَّحَى، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ قَبْلَ قَلِيلٍ. وَالشَّهِيدُ الْآخَرُ هُوَ: أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصنٍ أَخُو عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، مَاتَ ورَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ (¬3). * ذِلَّةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا: وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ ذَلَّتْ يَهُودُ، وَضَعُفَتْ حَرَكَةُ النِّفَاقِ فِي الْمَدِينَةِ، وَطَأْطَأَ ¬

_ (¬1) هذا ما ذكره ابن إسحاق في السيرة (3/ 269). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لأبي سعد (8/ 311). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 279) - الإصابة (7/ 163).

* وفاة السيد الكبير سعد بن معاذ -رضي الله عنه-

الْمُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَجَبُنُوا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا كَانُوا يَأْتُونَ، وَتَبعَ هَذَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَعُودُوا يُفَكِّرُونَ فِي غَزْوِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ أَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ هُمُ الذِينَ يَغْزُونَهُمْ، حَتَّى كَانَ فتحُ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ هُنَاكَ تَلَازُمٌ بَيْنَ حَرَكَاتِ الْيَهُودِ وَحَرَكَاتِ الْمُنَافِقِينَ وَحَرَكَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّ طَرْدَ الْيَهُودِ مِنَ الْمَدِينَةِ قَدْ أَنْهَى هَذَا التَّلَازُمَ، وَإِنَّهُ كَانَ فَارِقًا وَاضِحًا بَيْنَ عَهْدَيْنِ فِي نَشْأَةِ الدَّوْلَةِ الْإسَلَامِيَّةِ وَاسْتِقْرَارِهَا (¬1). وَبِالْقَضَاءِ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ تَخَلَّصَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ آخِرِ شَوْكَةٍ فِي ظُهُورِهِمْ، وَأَصْبَحَتْ كُلُّهَا -مَا عَدَا الْمُنَافِقِينَ- عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَوْئِلَ الْإِسْلَامِ، وَحِصْنَهُ الْحَصِينَ (¬2). * وَفَاةُ السَّيِّدِ الْكَبِيرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْي، وَأَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَشَفَى صَدْرَهُ مِنْهُمْ، انْفَجَرَ جُرْحُهُ -رضي اللَّه عنه- فَمَاتَ. وَكَانَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- قَدْ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُمِيتَهُ حَتَّى يُقِرَّ عَيْنَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَذَلِكَ حِينَ نَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْعُهُودِ، وَالْمَوَاثِيقِ، وَالذِّمَامِ، وَمَالُوا عَلَيْهِ مَعَ الْأَحْزَابِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . وَرَمَى ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص (5/ 2849). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 409) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* إخبار جبريل عليه السلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوفاة سعد -رضي الله عنه-

سَعْدًا رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ العَرِقَةِ، بِسَهْمٍ، فَأَصَابَهُ فِي أَكْحَلِهِ فَقَطَعَهَا، فَدَعَا سَعْدٌ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ قُرَيْظَةَ (¬1). وَفِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيح عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: رُمِيَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَطَعُوا أَبْجَلَهُ (¬2)، فَحَسَمَهُ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَتَرَكَهُ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَحَسَمَهُ أُخْرَى، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمَّا رَأَى سَعْدٌ ذَلِكَ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُخْرِجْ نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاسْتَمْسَكَ عِرْقُهُ، فَمَا قَطَرَ قَطْرَةً حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. . . فَلَمَا فَرَغَ مِنْ قتلِهِمُ انْفَتَقَ (¬4) عِرْقُهُ فَمَاتَ (¬5) * إِخْبَارُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِوَفَاةِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا مَاتَ -رضي اللَّه عنه- نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرَ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بوَفَاتِهِ، فَقَدْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام احمد في مسنده - رقم الحديث (25097) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر وصف دعاء سعد بن معاذ - رقم الحديث (7028) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 508) وقال: وهذا الحديث إسناده جيد. (¬2) الْأَبْجَل: عِرْقٌ في بَاطِنِ الذِّرَاعِ. انظر النهاية (1/ 98). (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (4/ 164): أي كَوَاهُ لِيَقْطَعَ دَمَهُ، وأَصْلُ الحَسْمِ القَطْعُ. (¬4) أَصْلُ الْفَتْقِ: الشَّقُّ والْفَتْحُ. انظر النهاية (3/ 367). (¬5) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3579).

أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الذِي مَاتَ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءَ، وَتَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ؟ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1). وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- خَرَجَ مُسْرِعًا خَشْيَةَ أَنْ تُغَسِّلَهُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ أَكْحَلُ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَثَقُلَ، حَوَّلُوهُ عِنْدَ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: رُفَيْدَةُ، وَكَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، فَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا مَرَّ بِهِ يَقُولُ: "كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ "، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ: "كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ "، فَيُخْبِرُهُ، حَتَّى كَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي نَقَلَهُ قَوْمُهُ فِيهَا فَثَقُلَ، فَاحْتَمَلُوهُ إِلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ إِلَى مَنَازِلهِمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: قَدِ انْطَلَقُوا بِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ حَتَّى تَقَطَّعَتْ شُسُوعُ (¬2) نِعَالِنَا، وَسَقَطَتْ أَرْدِيَتُنَا عَنْ أَعْنَاقِنَا، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتْعَبْتَنَا فِي الْمَشْي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَنَا الْمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ فتغَسِّلَهُ كَمَا غَسَّلَتْ حَنْظَلَة". فَانْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْبَيْتِ، وَسَعْدٌ يُغَسَّلُ وَأُمُّهُ تَبْكِي، وَهِيَ تَقُولُ: ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4173). (¬2) الشِّسْعُ: هو أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ، وهو الذي يُدْخَلُ بَيْنَ الأُصْبُعَيْنِ. انظر النهاية (2/ 423).

* اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ -رضي الله عنه-

وَيْلَ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدًا ... حَزَامَةً (¬1) وَجِدًّا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُلُّ نَائِحَةٍ تَكْذِبُ إِلَّا أُمُّ سَعْدٍ" (¬2). ثُمَّ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأْسَ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِكِ، وَصَدَّقَ رُسُلَكَ، وَقَضَى الذِي عَلَيْهِ، فَاقْبَلْ رُوحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقَبَّلْتَ بِهِ الْأَرْوَاحَ" (¬3). وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ هَبَطَ يَوْمَ مَاتَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِلَى الْأَرْضِ، لَمْ يَهْبِطُوا قَبْلَ ذَلِكَ" (¬4). * اهْتِزَازُ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى النَّسَائيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى وَابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا الذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ ألفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً (¬5)، ¬

_ (¬1) الْحَيْزُومُ: هو الصَّدْرُ، وهذا الكلام كناية عن التَّشْمِيرِ للأمرِ والاستعدادِ لَهُ. انظر لسان العرب (3/ 156). (¬2) أخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 227) - وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (1158) وصحح إسناده. (¬3) أخرج ذلك الإمام في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1499) وإسناده صحيح. (¬4) أورد الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 512) وعزاه إلى البزار، وقال: وهذا إسناد جيد. (¬5) قال الإمام الذهبي في السير (1/ 290): هذه الضَّمَّةُ ليسَتْ من عذاب القبر في شيء، =

ثُمَّ فرَجَ عَنْهُ"، يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ (¬1) وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- صَاحَتْ أُمُّهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا يَرْقَأُ (¬2) دَمْعُكِ وَيَذْهَبُ حُزْنُكِ، فَإِنَّ ابْنَكِ أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ" (¬3). ¬

_ = بل هو أمر يجده المؤمن كما يجد ألمَ فقدِ ولدِهِ وحميمِهِ في الدنيا، وكما يجد مِنْ أَلَمِ مَرَضِهِ، وألم خروج نفسه، وألم سؤاله في قبره وامتحانه، وألم تأثره ببكاء أهله عليه، وألم قيامه من قبره، وألم الموقف وهوله، وألم الورود على النار، ونحو ذلك، فهذه الأراجيف كلها قد تنال العبد، وماهي من عذاب القبر، ولا من عذاب جهنم قط، ولكن العبد التقي يرفق اللَّه به في بعض ذلك أو كله، ولا راحة للمؤمن دون لقاء ربه، قال تَعَالَى في سورة مريم آية (39): {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ}، وقال تَعَالَى في سورة غافر آية (18): {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ}، فنسأل اللَّه تَعَالَى العفو واللطف الخفى، ومع هذه الهزات، فسعد ممن نعلم أنه من أهل الجنة، وأنه من أرفع الشهداء -رضي اللَّه عنه-. (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الجنائر - باب ضَمَّةِ القبرِ - رقم الحديث (2193) - وابن سعد في طبقاته (3/ 228) - وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1497). (¬2) يُقَالُ رَقَأَ الدَّمْعُ: إذا سَكَنَ وانْقَطَعَ. انظر النهاية (2/ 226). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27581) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب أول من ضحك اللَّه إليه: سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4978) - وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4170) - وأورده الهيثمي في المجمع (9/ 309)، وقال: رجاله رجال الصحيح.

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: جَاءَ حَدِيثُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (¬1)، فَلَا مَعْنى لِإِنْكَارِهِ (¬2). وَقَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: وَالْعَرْشُ خَلْقٌ للَّهِ مُسَخَّرٌ إِذَا شَاءَ أَنْ يَهْتَزَّ اهْتَزَّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَجَعَلَ فِيهِ شُعُورًا لِحُبِّ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، كَمَا جَعَلَ تَعَالَى شُعُورًا فِي جَبَلِ أُحُدٍ، ، بِحُبِّهِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، وَقَالَ تَعَالَى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} (¬4)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ} (¬5)، ثُمَّ عَمَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَالَ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬6)، وَهَذَا حَق، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ (¬7)، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ سَبِيلُهُ الْإِيمَانُ (¬8). ¬

_ (¬1) في صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3803) - وصحيح مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2466). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 502). (¬3) أخرج الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4083) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1393) عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونُحِبُّهُ". (¬4) سورة سبأ آية (10). (¬5) سورة الإسراء آية (44). (¬6) سورة الإسراء آية (44). (¬7) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3579). (¬8) انظر كلام الإمام الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ في سِيَرِ أعلامِ النبلاء (1/ 297).

* جهاز سعد -رضي الله عنه- ودفنه

* جَهَازُ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- وَدَفْنُهُ: وَلَمَّا فُرغَ مِنْ جَهَازِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، احْتَمَلَهُ النَّاسُ، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلًا ضَخْمًا، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَتْ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُمْ" (¬1). * حُزْنٌ شَدِيدٌ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدْ حَزِنَ الْمُسْلِمُونَ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- حُزْنًا شَدِيدًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَشَدَّ فَقْدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ (¬2) أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ سَعْدٍ (¬3). وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ سَعْدٌ بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَتَّى عَرَفْتُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءَ عُمَرَ، وَبُكَاءَ عُمَرَ مِنْ بُكَاءِ أَبِي بَكْرٍ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر طعن المنافقين في جنازة سعد لخفتها - رقم الحديث (7032) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4184) - وإسناده صحيح. وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 513): إسناده جيد. (¬2) تعني رضي اللَّه عنها بصاحبيه: أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1493). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكلة الآثار - رقم الحديث (4172) - والإمام أحمد في =

* حديث في فضل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-

* حَدِيثٌ فِي فَضْلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَلْمَسُونَهَا، وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ لينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ" (¬1). وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- أَبْيَضَ، طِوَالًا، جَمِيلًا، حَسَنَ الْوَجْهِ، أَعْيَنَ (¬2) حَسَنَ اللِّحْيَةِ، عَاشَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً (¬3). أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى سَعْدٍ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَطْوَلهِمْ (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ انْصِرَافِ الْأَحْزَابِ بِنَحْوٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً (¬5). ¬

_ = مسنده - رقم الحديث (25097) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر وصف دعاء سعد بن معاذ - رقم الحديث (7028). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3802) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2468). (¬2) أَعْيَنُ: أي وَاسِعُ العَيْنِ. انظر النهاية (3/ 300). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 296). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1495). (¬5) انظر البداية والنهاية (4/ 514).

* ما نزل من القرآن في قصة الخندق وبني قريظة

* مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ: آخِرُ مَا نَتَكَلَّمُ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ، هُوَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرآنِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْعَظِيمَةِ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ سُورَةَ الْأَحْزَابِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ، وَأَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةَ الْأَحْزَابِ، ذَكَرَ فِيهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا نَزَلَ مِنَ الْبَلَاءِ وَنِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ، وَكِفَايَتَهُ إِيَّاهُمْ حِينَ فرَجَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، بَعْدَ مَقَالَةِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ النَفاقِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ

دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (¬1). * * * ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآيات من (9 - 27) - وانظر سيرة ابن هشام (3/ 270).

قدوم وفد أشجع

قُدُومُ وَفْدِ أَشْجَعَ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ الْخَامِسَةِ لِلْهِجْرَةِ: قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفْدٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَكَانُوا مِائَةً عَلَى رَأْسِهِمْ: مَسْعُودُ بْنُ رُخَيْلَةَ (¬1)، فنَزَلُوا شِعْبَ (¬2) سَلْعٍ (¬3)، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَمَرَ لَهُمْ بِأَحْمَالِ التَّمْرِ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ قَوْمِنَا أَقْرَبَ دَارًا مِنْكَ مِنَّا، وَلَا أَقَلَّ عَدَدًا، وَقَدْ ضِقْنَا بِحَرْبِكَ وَحَرْبِ قَوْمِكَ، فَجِئْنَا نُوَادِعُكَ، فَوَادَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكتَبَ لَهُمْ بِذَلِكَ كِتَابًا (¬4). ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ ". وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! . فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟ ". قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِينَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَعَلَامَ نُبَايْعُكَ؟ . ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (6/ 77): رُخَيْلة بالخاء المعجمة مُصغَّرًا. (¬2) الشِّعْبُ: بكسر الشِّينِ: ما انْفَرَجَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ. انظر لسان العرب (7/ 128). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (3/ 194): سَلْعٌ: بفتح السين وسُكُونِ اللام: جبَلٌ معروف بالمدينة. (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 148).

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطْيعُوا، وَأَسَرَّ كلِمَةً خَفِيَّةً، وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا". قَالَ عَوْفٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب كراهية المسألة للناس - رقم الحديث (1043) - وأخرجه أبو دواد في سننه - كتاب الزكاة - باب كراهية المسألة - رقم الحديث (1642).

الأحداث بين غزوة الخندق وغزوة خيبر

السَّنَةُ السَّادِسَةُ لِلْهِجْرَةِ الأَحْدَاثُ بَيْنَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ وَغَزْوَةِ خَيْبَرَ لَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْأَحْزَابِ وَقُرَيْظَةَ، وَكُسِرَتْ شَوْكَةُ قُرَيْشٍ، وَهَدَأَ وَضْعُ الْمَدِينَةِ، أَخذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُوَجِّهُ حَمَلَاتٍ تَأْدِيبِيَّةٍ إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْأَعْرَابِ الذِينَ كَانَ يَبْلُغُهُ عَنْهُمْ عَزْمُهُمْ عَلَى الِإْغَارَةِ عَلَى الْمَدِينَةِ. * * *

سرية محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- إلى القرطاء

سَريَّةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬1) إِلَى القُرَطَاءِ (¬2) فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا إِلَى الْقُرَطَاءَ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَاسْمُهُ: عُبَيْدُ بْنُ كِلَابٍ. فَخَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- وَأَصْحَابُهُ لِعَشْرِ لَيَالٍ خلَوْن مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَسَارَ اللَّيْلَ وَكَمَنَ (¬3) النَّهَارَ، فَلَمَّا أَغَارَ عَلَيْهِمْ هَرَبَ سَائِرُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ نَفَرًا ¬

_ (¬1) هو محمد بن مَسْلَمَة الأوسي الأنصاري، من نُجَباءِ الصحابة شَهِدَ بدرًا وأحدًا، وكل المشاهد إلا تَبُوك؛ لأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- استخلفه على المدينة، وهو أحَدُ الذين قَتَلُوا كَعْبَ بن الأشْرَف كما تقدم، وكان -رضي اللَّه عنه- ممن اعتزل الفِتْنَة بعد مقتل عثمان -رضي اللَّه عنه-. أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح - كتاب السنة - باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة - رقم الحديث (4663) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (7470) - عن حذيفة -رضي اللَّه عنه- أنه قال: ما أحدٌ من الناس تُدْرِكُهُ الفتنةُ إلا أنَا أخَافُهَا عليه، إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تَضُرُّكَ فِتْنةٌ". وفي رواية أخرى عند أبي داود في سننه - رقم الحديث (4664) - عن ثعلبة بن ضُبَيْعَةَ قال: دخلنا على حذيفة، فقال: إني لأعرف رَجلًا لا تَضُرُّه الفتن، قلنا: من هو؟ قال صاحب ذلك الفُسْطَاطِ -الفسطاط: أي الخَيْمَة- فدخلنا، فإذا فيه محمد بن مسلمة. (¬2) القُرطاء: بضم القاف بينها وبين المدينة سبع ليال. انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 288). (¬3) كَمَنَ: استخفى. انظر النهاية (4/ 174).

* هل أسر ثمامة بن أثال -رضي الله عنه- في هذه السرية؟

مِنْهُمْ، وَاسْتَاقَ نَعَمًا (¬1) وَشَاءً، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلظُّعُنِ (¬2)، وَانْحَدَرَ (¬3) إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَهَا لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ مُحَرَّمٍ، فَخَمَّسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا جَاءَ بِهِ، وَقَسَمَ مَا بَقِيَ عَلَى أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ، فَعَدَلُوا الْجَزُورَ (¬4) بِعَشْرٍ مِنَ الْغَنَمِ، وَكَانَتِ الْإِبِلُ مِائَةً وَخَمْسِينَ بَعِيرًا، وَالْغَنَمُ ثَلَاثَةُ آلَافِ شَاةً (¬5). * هَلْ أُسِرَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ -رضي اللَّه عنه- فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ؟ : قِيلَ: أُسِرَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ بَنِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ (¬6) عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبَرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ شَهِدَ ذَلِكَ -أَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ إِنَّمَا هَاجَرَ بَعْدَ خَيْبَرَ (¬7). قُلْتُ: سَتَأْتِي قِصَّةُ أَسْرِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ خَيْبَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. * * * ¬

_ (¬1) النَّعَمُ: الْإِبِلُ. انظر لسان العرب (14/ 212). (¬2) الظُّعُنُ: النِّسَاءُ، واحدتها: ظَعِينَةٌ. انظر النهاية (3/ 143). (¬3) انْحَدَرَ: أَسْرَعَ. انظر النهاية (1/ 341). (¬4) الْجَزُورُ: الْبَعِيرُ ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 288). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (4/ 295). (¬7) انظر البداية والنهاية (4/ 536).

غزوة بني لحيان

غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ بَنُو لِحْيَانَ هَؤُلَاءِ هُمُ الذِينَ غَدَرُوا بِخُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه- وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ الرَّجِيعِ، وَلَمَّا كَانَتْ دِيَارُهُمْ مُتَوَغِّلَةً (¬1) فِي بِلَادِ الْحِجَازِ إِلَى حُدُودِ مَكَّةَ، وَلِوُجُودِ ثَارَاتٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جِهَةٍ، وَقُرَيْشٍ وَالْأَعْرَابِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَلَّا يَتَوَغَّلَ فِي الْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْعَدُوِّ الْأَكْبَرِ وَالْرَئِيسِيِّ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا تَخَاذَلَتِ الْأَحْزَابُ، وَانْكَسَرَتْ عَزَائِمُهُمْ، رَأَى أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ حَانَ لِغَزْوِ بَنِي لِحْيَانَ وَأَخْذِ الثَّأْرِ لِأَصْحَابِ الرَّجِيعِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَالِبًا بِدِمَاءِ أَصْحَابِهِ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَعَهُمْ عِشْرُونَ فَرَسًا، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ (¬2)، أَوْ جُمَادَى الْأُولَى (¬3) سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأَظْهَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ يُرِيدُ الشَّامَ لِيُصِيبَ بَنِي لِحْيَانَ غِرَّةً (¬4)، ثُمَّ أَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى وَادِي غُرَانَ (¬5) ¬

_ (¬1) الْوُغُولُ: الدُّخُولُ في الشيء. انظر النهاية (5/ 181). (¬2) هذه رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 289). (¬3) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 306). (¬4) الغِرَّةُ: الغَفْلَةُ. انظر النهاية (3/ 319). (¬5) غُرَانُ: بضم العين وتخفيف الراء: وادٍ قريبٌ من الحديبية. انظر النهاية (3/ 327).

* ذكر صلاة الخوف في هذه الغزوة

بَيْنَ أَمَجٍ (¬1) وَعُسْفَانَ (¬2)، وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي لِحْيَانَ، وَفِيهَا كَانَ مُصَابُ أَصْحَابِهِ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ وَدَعَا لَهُمْ. وَسَمِعَتْ بِهِ بَنُو لِحْيَانَ، فَهَرَبُوا وَاحْتَمَوا فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ، فَلَمْ يَقْدِرْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَرْضِهِمْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَبَعَثَ السَّرَايَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَحَدٍ. ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ إِلَى عُسْفَانَ لِتَسْمَعَ بِهِ قُرَيْشٌ فَيُدَاخِلَهُمُ الرُّعْبُ، وَليُرِيَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ (¬3)، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا. * ذِكْرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ: قُلْتُ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِ (¬4) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَوَّلَ صَلَاةِ خَوْفٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمَشهُورُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) أَمَجُ: بفتح الهمزة والميم: مَوْضِعٌ بينَ مكةَ والمدينةِ. انظر النهاية (1/ 66). (¬2) عُسْفَانُ: بضم العين قَرْيَةٌ بين مكة والمدينة. انظر النهاية (3/ 214). (¬3) كُرَاعُ الغَمِيمِ: هو موضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (4/ 143). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (3/ 364). (¬5) انظر تفاصيل غزوة بني لحيان هذه في: سيرة ابن هشام (3/ 306) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 289) - البداية والنهاية (4/ 462) - شرح المواهب (3/ 106).

سرية عكاشة بن محصن -رضي الله عنه- إلى الغمر

سَرِيَّةُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَىَ الغَمْرِ وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُكَّاشَةَ بْنَ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيِّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْغَمْرِ -وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي أَسَدٍ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنْ فَيْدِ (¬1) - وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَخَرَجَ سَرِيعًا يُغِذُّ (¬2) السَّيْرَ، وَنَذَرَ بِهِ (¬3) الْقَوْمُ فَهَرَبُوا، فنَزَلَ عَلَى بِلَادِهِمْ فَوَجَدَهَا خُلُوفًا (¬4)، فَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسَدِيَّ طَلِيعَةً، فَرَأَى أَثَرَ النَّعَمِ، فَقَصَدَهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَصَابُوا رَبِيئَةً (¬5) لَهُمْ فَأَمَّنُوهُ فَدَلَّهُمْ عَلَى نَعَمٍ لِبَنِي عَمٍّ لَهُ، فَأَغَارُوا عَلَيْهَا، فَاسْتَاقُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ وَأَطْلَقُوا الرَّجُلَ، وَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا (¬6). * * * ¬

_ (¬1) فَيْدُ: بفتح الفاء وسكون الياء، قرية في نصف طريق مكة من الكوفة. انظر معجم البلدان (6/ 450). (¬2) غذا: أي أسرع. انظر لسان العرب (10/ 31). (¬3) نَذَرَ به: عَلِمَ وأَحَسَّ بمكانه. انظر النهاية (5/ 33). (¬4) يُقال حَيٌّ خُلُوفٌ: إذا غاب الرجال وأقام النساء. انظر النهاية (2/ 64). (¬5) الرَّبِيئَةُ: هو العَيْنُ والطَّلِيعَةُ الذي ينظر للقوم لئلا يَدْهَمَهُم عدو، ولا يكون إلا على جبل أو شرف ينظر منه. انظر النهاية (2/ 165). (¬6) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 292) - شرح المواهب (3/ 119).

سرية محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- إلى ذي القصة

سَرِيَّةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى ذِي الْقَصَّةِ (¬1) وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَمَعَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ، إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ وَبَنِي عَوَالٍ مِنْ ثَعْلَبَةَ، وَهُمْ بِذِي الْقَصَّةِ، فَوَرَدُوا عَلَيْهِمْ لَيْلًا، فَأَحْدَقَ (¬2) بِهِ الْقَوْمُ، وَهُمْ مِائَةُ رَجُلٍ، فَتَرَامَوْا سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ حَمَلَتِ الْأَعْرَابُ عَلَيْهِمْ بِالرِّمَاحِ فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا، وَوَقَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ جَرِيحًا، فَضُرِبَ كَعْبُهُ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ، وَجَرَّدُوهُمْ (¬3) مِنَ الثِّيَابِ، وَمَرَّ بِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَمَلَهُ حَتَّى رَجَعَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) ذِي الْقَصَّةِ: بفتح القاف: موضع قريب من المدينة. انظر النهاية (4/ 64). قال ابن سعد في طبقاته (2/ 292): بينها وبين المدينة أربعة وعشرون ميلًا من طريق الربذة. (¬2) كل شيء استدار بشيء وأحاط به، فقد أحدق به. انظر لسان العرب (3/ 87). (¬3) التَّجْرِيدُ: التَّعْرِيَةُ مِنَ الثِّيَابِ. انظر لسان العرب (2/ 236). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 292) - شرح المواهب (3/ 120).

سرية أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- إلى ذي القصة

سَرِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى ذِي الْقَصَّةِ وَفِي نَفْسِ الشَّهْرِ رِبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى ذِي الْقَصَّةِ عَلَى إِثْرِ مَقْتَلِ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ صَلُّوا الْمَغْرِبَ فَسَارَ إلَيْهِمْ مُشَاةً حَتَّى وَافَوا (¬1) ذِي الْقَصَّةِ مَعَ عَمَايَةِ الصُّبْحِ (¬2)، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ، فَأَعْجَزُوهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ، وَأَصَابُوا رَجُلًا فَأَسْلَمَ فَتَرَكُوهُ، وَغَنِمُوا نَعَمًا مِنْ نَعَمِهِمْ فَاسْتَاقُوهُ، وَرِثَّةً (¬3) مِنْ مَتَاعِهِمْ، وَقَدِمُوا بِذَلِكَ الْمَدِينَةَ، فَخَمَّسَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَسَمَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ (¬4). وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: أَنَّ سَبَبَ بَعْثِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى ذِي الْقَصَّةِ هُوَ مَا بَلَغَهُ مِنْ أَنَّ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ خَصْفَةَ، وَثَعْلَبَةَ وَأَنْمَارٍ -وَهُمَا مِنْ غَطَفَانَ- أَجْمَعُوا أَنْ يُغِيرُوا عَلَى سَرْحِ (¬5). . . . . ¬

_ (¬1) أَوْفَيْتُ الْمَكَانَ: أَتَيْتُهُ. انظر لسان العرب (15/ 359). (¬2) عَمَايَةُ الصُّبْحِ: أي في بَقِيَّةِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. انظر النهاية (3/ 276). (¬3) الرِّثُّ: بكسر الراء، وهو السَّقْطُ مِنْ مَتَاعِ البَيْتِ. انظر النهاية (2/ 179) - شرح المواهب (3/ 123). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 292) - شرح المواهب (3/ 122). (¬5) السَّرْحُ: الْإِبِلُ. انظر لسان العرب (6/ 231).

الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَرْعَى بِهَيْفَا (¬1). قُلْتُ: فَلَعَلَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- مَرَّتَيْنِ إِلَى ذِي الْقَصَّةِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْبَعْثُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لَهُ سَبَبَانِ: الْأَخْذُ بِثَأْرِ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- الْمَقْتُولينَ، وَدَفْعُ مَنْ أَرَادَ الْإِغَارَةَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ. * * * ¬

_ (¬1) هَيْفَا: موضعٌ على سبع أميالٍ من المدينة. انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 292) - شرح المواهب (3/ 122).

سرية زيد بن حارثة -رضي الله عنه- إلى بني سليم بالجموم

سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ بالْجَمُومِ (¬1) وَفِي الشَّهْرِ نَفْسِهِ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، فَسَارَ حَتَّى وَرَدَ الْجَمُومَ نَاحِيَةَ بَطْنِ نَخْلٍ (¬2) عَنْ يَسَارِهَا، فَأَصَابُوا عَلَيْهِ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ يُقَالُ لَهَا: حَلِيمَةُ، فَدَلَّتْهُمْ عَلَى مَحَلَّةٍ (¬3) مِنْ مَحَالِّ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأَصَابُوا فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ نَعَمًا وَشَاءً وَأَسْرَى، فَكَانَ فِيهِمْ زَوْجُ حَلِيمَةَ الْمُزَنِيَّةِ، فَلَمَّا قَفَلَ (¬4) زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْمَدِينَةَ بِمَا أَصَابَ، وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمُزَنِيَّةِ نَفْسَهَا وَزَوَجَهَا (¬5). * * * ¬

_ (¬1) الْجَمُومُ: ماءٌ على طريق مكة. انظر معجم البلدان (3/ 76). (¬2) بَطْنُ نَخْلٍ: موضع يبعد عن المدينة أربعة بُرُد، والْبُرُدُ جمع بَرِيدٍ، والبريد: فرسخان، والفرسخ: ثلاثة أميال أو ستة. انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 293) - لسان العرب (1/ 367) (10/ 223). (¬3) الْمَحَلَّةُ: مَنْزِلُ القَوْمِ. (¬4) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 82). (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 293) - شرح المواهب (3/ 123).

سرية زيد بن حارثة -رضي الله عنه- إلى العيص

سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْعِيصِ وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، فِي سَبْعِينَ وَمِائَةِ رَاكِبٍ، وَالْهَدَفُ اعْتِرَاضُ عِيرٍ لِقُرَيْشٍ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ بِقِيَادَةِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَأَدْرَكُوهَا، فَأَخَذُوهَا وَمَا فِيهَا، وَأَخَذُوا يَوْمَئِذٍ فِضَّةً كَثِيرَةً لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَسَرُوا نَاسًا مِمَّنْ كَانَ فِي الْعِيرِ، مِنْهُمْ: أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ، وَقَدِمُوا بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ مِنْ رِجَالِ مَكَّةَ الْمَعْدُودِينَ تِجَارَةً وَمَالًا وَأَمَانَةً، وَهُوَ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَأَتَى أَبُو الْعَاصِ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي اللَّيْلِ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ هَاجَرَتْ قَبْلَهُ وَتَرَكَتْهُ عَلَى شِرْكِهِ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- فَاسْتَجَارَ بِهَا (¬1)، فَأَجَارَتْهُ، وَسَأَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَدَّ أَمْوَالِ الْعِيرِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ صَرَخَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ صُفَّةِ (¬2) النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَلَمَّا سَلَّمَ ¬

_ (¬1) أَجَارَهُ: أي مَنَعَهُ وحَمَاهُ. انظر لسان العرب (2/ 415). (¬2) الصُّفَّةُ: هو موضع مُظَلَّلٌ من المسجد. انظر النهاية (3/ 35).

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الصَّلَاةِ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ؟ "أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ سَمِعْتُمْ مَا سَمِعْتُ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "أَمَا وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعْتُ مَا سَمِعْتُمْ، إِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ". ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ إِنْ قَرُبَ فَابْنُ عَمٍّ، وَإِنْ بَعُدَ فَأَبُو وَلَدٍ، وإِنِّي قَدْ أَجَرتُهُ، فَأَجَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جِوَارَهَا، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مَا أُخِذَ مِنْهُ، فَقَبِلَ. ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى السَّرِيَّةِ الذِينَ أَصَابُوا مَالَ أَبِي الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوا عَلَيْهِ الذِي لَهُ فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ فَأَنْتُمْ أَحَقُ بِهِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَلْ نَرُدُّهُ عَلَيْهِ. فَرَدُّوهُ عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِي بِالدَّلْوِ وَيَأْتِي بِالشَّنَّةِ (¬1) وَالْإِدَاوَةِ (¬2)، حَتَّى الْعِقَالِ (¬3)، حَتَّى رَدُّوا عَلَيْهِ مَالَهُ كُلَّهُ لَا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيْئًا. * * * ¬

_ (¬1) الشَّنَّةُ: القِرْبَةُ. انظر النهاية (2/ 453). (¬2) الْإِدَاوَةُ: بكسر الهمزة، إِناءٌ صغيرٌ من جِلْدٍ يُتَّخَذُ للماءِ. انظر النهاية (1/ 36). (¬3) الْعِقَالُ: هو الْحَبْلُ الذي يُرْبَطُ به البَعِيرُ. انظر النهاية (3/ 253).

عودة أبي العاص -رضي الله عنه- إلى مكة وإسلامه

عَوْدَةُ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى مَكَّةَ وَإِسْلامُهُ ثُمَّ رَجَعَ أَبُو الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى مَكَّةَ فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَالَهُ، وَمَنْ كَانَ أَبْضَعَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخُذْهُ؟ . قَالُوا: لَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ -أَيْ عِنْدَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكُمْ، فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَفَرَغْتُ مِنْهَا أَسْلَمْتُ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُهَاجِرًا فِي الْمُحَّرِم سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (¬1). * رَدُّ زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ: وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلَا صَدَاقًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ؛ ¬

_ (¬1) أخرج قصة أبي العاص بين الربيع -رضي اللَّه عنه-: الطَّحاوي في شرح مُشكل الآثار - رقم الحديث (1244) - وأخرجها الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب قصة إسلام أبي العاص ورد زينب إليه بنكاحها الأول - رقم الحديث (5088) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 269) - وإسنادها حسن.

لِأَنَّ آيَةَ تَحْرِيمِ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْكُفَّارِ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ إِذْ ذَاكَ. فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وِالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ إِسْلَامُهَا قَبْلَ إِسْلَامِهِ بِسِتِّ (¬1) سِنِينَ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلَا صَدَاقًا (¬2). وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَدَّ ابْنَتَهُ إِلَى أَبِي الْعَاصِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ، وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ. فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ (¬3). ¬

_ (¬1) وفي رواية أخرى عند أبي داود: بعد سنتين. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 530): ويمكن الجمع على أن المراد بالسِّتِّ ما بين هجرة زينب وإسلام أبي العاص، وهو بَيِّن في المغازي فإنه أُسر ببدر فأرسَلَتْ زينبُ من مكة في فِدَائِهِ فأُطلق لها بغير فِدَاءٍ، وشَرَط النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه أن يرسل له زَيْنَبَ فَوَفَى له بذلك -كما ذكرنا ذلك فيما تقدم- والمراد بالسنتين ما بين نزول قوله تَعَالَى في سورة الممتحنة آية (10): {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، وقُدُومِه مُسْلِمًا، فإن بينهما سنتين وأشهرًا. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2366) - (1876) - والترمذي في جامعه - كتاب النكاح - باب ما جاء في الزوجين المشركين يُسلم أحدهما - رقم الحديث (1175) - وأبو داود في سننه - كتاب الطلاق - باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها - رقم الحديث (2240). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6938) - والترمذي في جامعه - كتاب النكاح - باب ما جاء في الزوجين المشركين يُسلم أحدهما - رقم الحديث (1174) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9084).

* حديث ضعيف

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِهِ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، أَوْ قَالَ: وَاهٍ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْحَجَّاجُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِي، وَالْعَرْزَمِي: لَا يُسَاوِي حَدِيثُهُ شَيْئًا، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الذِي رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ -وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ- (¬1). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ رَوَى حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ: هَذَا حَدِيثٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالْمُعْتَمَدُ تَرْجِيحُ إِسْنَادِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (¬3). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: أَسْلَمَتْ زَيْنَبُ بْنَتُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بِسَنَةٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو الْعَاصِ، فَرَدَّهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ (¬4). قَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: هَذَا بَاطِلٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَاجَرَتْ قَبْلَهُ بِسَنَةٍ، وَإِلَّا فَهِيَ أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِمُدَّةٍ. ¬

_ (¬1) انظر كلام الإمام أحمد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في المسند عقب الحديث رقم (6938). (¬2) انظر كلام الترمذي في جامعه عقب الحديث رقم (1142). (¬3) انظر فتح الباري (10/ 531). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أبي العاص بن الربيع -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6751).

* شيء من فضائل أبي العاص بن الربيع -رضي الله عنه-

* شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-: ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُثْنِي عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه- فِي مُصَاهَرَتِهِ (¬1) خَيْرًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: "أَمَّا بَعْدُ، أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ -رضي اللَّه عنه-: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ، فَقَالَ: "حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَّى لِي" (¬2). قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْوَعْدِ وَالْوَفَاءِ: هُوَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَانَ أُسِرَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَأَرْسَلَتْ زَيْنَبُ فِدَاءَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهِيَ قِلَادَةُ أُمِّهَا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَرَقَّ لَهَا رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رِقَّةً شَدِيدَةً، وَاسْتَطْلَقَ أَسِيرَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَبِي الْعَاصِ أَنْ يُنْفِذَ زَيْنَبَ إِلَيْهِ إِذَا وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَفَعَلَ (¬3). ¬

_ (¬1) الصِّهْرُ: القَرَابَةُ. يقال: صَاهَرْت القومَ: إذا تزوجْت فيهم. انظر لسان العرب (7/ 428). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب ذكر أصهار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3729) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة بنت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2449). (¬3) انظر جامع الأصول (1/ 504).

* أولاد أبي العاص -رضي الله عنه- من زينب رضي الله عنها

* أَوْلَادُ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ أَنَّ زَيْنَبَ لَمْ تَلِدْ لِأَبِي الْعَاصِ إِلَّا: عَلِيًّا، وَأُمَامَةَ فَقَط (¬1). فَأَمَّا عَلِيٌّ فَقَدْ مَاتَ عِنْدَمَا نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْدَفَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَأَمَّا أُمَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَهِيَ التِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْمِلُهَا أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّهَا حُبًّا شّدِيدًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلِأَبِي الْعَاصِ بنِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي الْحَدِيثِ: 1 - تَوَاضُعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 2 - شَفَقَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْأَطْفَالِ. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (3/ 502). (¬2) انظر فتح الباري (3/ 502) - الإصابة (8/ 152). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب إذا حَمْلِ جارية صغيرة على عُنُقه في الصلاة - رقم الحديث (516) - وأخرجه مسلم - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب جواز حمل الصِّبْيَان في الصلاة - رقم الحديث (543) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22524).

* كادت أمامة رضي الله عنها أن تموت

3 - إِكْرَامُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَهُمْ جَبْرًا لَهُمْ وَلِوَالِدِيهِمْ (¬1). وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِلْيَةٌ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، أَهْدَاهَا لَهُ، فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعُودٍ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، مُعْرِضًا عَنْهُ، ثُمَّ دَعَا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ ابْنَةَ ابْنَتِهِ، فَقَالَ: "تَحَلَّيْ بِهَذَا يَا بُنَيَّةُ" (¬2). * كَادَتْ أُمَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَمُوتَ: وَعَاشَتْ أُمَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَمُوتَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَافَاهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَرْسَلَتْ ابْنَةُ (¬3) النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ: إِنَّ ابْنًا (¬4) لِي قُبِضَ (¬5)، فَأْتِنَا، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 178). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24880) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخاتم - باب ما جاء في الذهب للنساء - رقم الحديث (4235). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 502): هي زينبُ كما وَقَعَ في رواية أبي معاوية عن عَاصِمٍ المذكور في مصنف ابن أبي شيبة - ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (21799). (¬4) قال الحافظ في الفتح (3/ 502): قيل هو عليّ بن أبي العاص بن الربيع، وهو من زينب كذا كتب الدمياطي بخطه في الحاشية، وفيه نظر لأنه لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث. . . والصواب في حديث الباب أن المرسلة زينب، وأن الولدَ صَبية كما ثبت في مسند الإمام أحمد بسند صحيح - رقم الحديث (21799): قال أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أُتي رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمَيْمَةَ بنت زينب ونفسها تَقَعْقَعُ كأنها في شَنٍّ -أي قربة-. (¬5) قال الحافظ في الفتح (3/ 503): أي قارب أن يقبض، ويدل على ذلك أن رواية حماد =

فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا يُقْرِئُ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: "إِنَّ للَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمَّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ". فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ (¬1)، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" (¬2). وفي رواية أخرى في الصحيح قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ" (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَاشَتْ ¬

_ = في صحيح مسلم - رقم الحديث (923): أرسلت تدعوه إلى ابنٍ لها في الموت. (¬1) تَقَعْقَعُ: أي تَضْطَرِبُ وتَتَحَرَّكُ. انظر النهاية (4/ 78). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُعذَّب الميت ببعض بُكَاءَ أهله عليه" - رقم الحديث (1284) - وأخرجه في كتاب المرض - باب عيادة الصبيان - رقم الحديث (5655) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب البكاء على الميت - رقم الحديث (923) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21775). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأيمان والنذور - باب قول اللَّه تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} - رقم الحديث (6655).

* وفي هذا الحديث من الفوائد

بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ عَاشَتْ عِنْدَ عَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَنْهَا. وَالذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمَ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا سَلَّمَ لِأَمْرِ رَبِّهِ وَصَبَّرَ ابْنَتَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ مَعَ ذَلِكَ عَيْنَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ بِأَنْ عَافَى اللَّهُ ابْنَةَ ابْنَتِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَخَلُصَتْ مِنْ تِلْكَ الشِّدَّةِ، وَعَاشَتْ تِلْكَ الْمُدَّةَ، وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (¬1). * وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ اسْتِحْضَارِ ذَوِي الفضْلِ لِلْمُحْتَضرِ لِرَجَاءِ دُعَائِهِمْ، وَجَوَازُ الْقَسَمِ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ. 2 - وَفِيهِ جَوَازُ الْمَشْيِ إِلَى التَّعْزِيةِ وَالْعِيَادَةِ بِغَيْرِ إِذْنٍ بِخِلَافِ الْوَليمَةِ. 3 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ إِبْرَارِ الْقَسَمِ وَأَمْرُ صَاحِبِ الْمُصِيبَةِ بِالصَّبْرِ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَوْتِ لِيَقَعَ وَهُوَ مُسْتَشْعِرٌ بِالرِّضَا مُقَاوِمٌ لِلْحُزْنِ بِالصَّبْرِ. 4 - وَفِيهِ إِخْبَارُ مَنْ يُسْتَدْعَى بِالْأَمْرِ الذِي يُسْتَدْعَى مِنْ أَجْلِهِ. 5 - وَفِيهِ تَقْدِيمُ السَّلَامِ عَلَى الْكَلَامِ. 6 - وَفِيهِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَلَوْ كَانَ مَفْضُولًا أَوْ صَبِيًّا صَغِيرًا. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (3/ 502 - 503).

7 - وَفِيهِ أَنَّ أَهْلَ الفضْلِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعُوا النَّاسَ عَنْ فَضْلِهِمْ وَلَوْ رَدُّوا أَوَلَ مَرَّةٍ. 8 - وَفِيهِ اسْتِفْهَامُ التَّابِعِ مِنْ إِمَامِهِ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَعَارَضُ ظَاهِرُهُ. 9 - وَفِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي السُّؤَالِ لِتَقْدِيمِهِ قَوْلَهُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ" عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. 10 - وَفِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالتَّرْهِيبُ مِنْ قَسَاوَةِ القلْبِ وَجُمُودِ الْعَيْنِ. 11 - وَفِيهِ جَوَازُ الْبُكَاءَ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ وَنَحْوِهِ (¬1). وَأَمَّا زَيْنَبُ بِنْتُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَتُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَائِلَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (3/ 505).

سرية زيد بن حارثة -رضي الله عنه- إلى الطرف

سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الطَّرْفِ (¬1) وَفِي جُمَادَي الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الطَّرْفِ، فَخَرَجَ إِلَى بَنِي ثَعْلَبَةَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَةَ رَجُلًا، فَهَرَبَتِ الْأَعْرَابُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَارَ إِلَيْهِمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءَ مُقَدِّمَةٌ، فَأَصَابَ مِنْ نَعَمِهِمْ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَغَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الطَّرْف: هو ماء على ستة وثلاثين ميلًا من المدينة. انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 293). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 293) - شرح المواهب (3/ 128).

سرية عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- إلى دومة الجندل

سَرِيَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنْ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى دُوْمَةِ الْجَنْدَلِ (¬1) وَفِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لَهُ: "تَجَهَّزْ فَإِنِّي بَاعِثُكَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ يَوْمِكَ هَذَا، أَوْ مِنَ الْغَدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى"، فَأَصْبَحَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَغَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَقْعَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ عَقَدَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللِّوَاءَ بِيَدِهِ، أَوْ أَمَرَ بِلَالًا يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "خُذْهُ بِسْمِ اللَّهِ وَبَرَكَتِهِ"، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغْزُ بِسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ! وَلَا تَغُلَّ (¬2)، وَلَا تَغْدِرْ، وَلَا تَقْتُلْ وَلِيدًا" (¬3)، ثُمَّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى بَنِي كَلْبٍ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ لَهُ: "إِنِ اسْتَجَابُوا لَكَ فتَزَوَّجِ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ". فَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -رضي اللَّه عنه- بِأَصْحَابِهِ وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ، حَتَّى قَدِمَ دُومَةَ الْجَنْدَلِ، فَمَكَثَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَسْلَم ¬

_ (¬1) دُومَةُ: بضم الدال وتفتح، ودُومَةُ الْجَنْدَلِ: موضع على أطراف الشام بينها وبين الشام خمس ليال. انظر النهاية (2/ 132) - شرح المواهب (3/ 134). (¬2) الْغُلُولُ: هو الْخِيَانَةُ في الْمَغْنَمِ والسَّرِقَةُ من الغنيمة قبل القِسْمَةِ. انظر النهاية (3/ 341). (¬3) أصلُ وصيَّة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه لعبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه-: في صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث - رقم الحديث (1731).

رَأْسُهُمْ وَمَلِكُهُمْ الْأَصْبَغُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ، وكَانَ نَصْرَانِيًا، وَأَسْلَمَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ بَشِيرًا إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْبِرُهُ بِمَا فتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكتَبَ لَهُ بِذَلِكَ، وَتَزَوَّجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تُمَاضِرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ وَقَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرج قصة هذه السرية: الحاكم في المستدرك - كتاب الفتن والملاحم - رقم الحديث (8667) - وإسناده حسن - وابن إسحاق في السيرة (4/ 288) بدون سند.

سرية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى فدك

سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى فَدَكَ (¬1) وَفِي شَعْبَانَ أَيْضًا سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فِي مِائَةِ رَجُلٍ إِلَى بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، أَوْ حَيٍّ مَنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا بَلَغَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ لَهُمْ جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ يُمِدُّوا يَهُودَ خَيبرَ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَسَارَ اللَّيْلَ وَكَمَنَ النَّهَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْهَمْجِ (¬2)، فَأَصَابُوا عَيْنًا لَهُمْ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِمَا وَرَاءَكَ مِنْ جَمْعِ بَنِي سَعْدٍ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ، فَشَدُّوا عَلَيْهِ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ عَيْنٌ لَهُمْ بَعَثُوهُ إِلَى خَيْبَرَ يَعْرِضُ عَلَى يَهُودِهَا نَصْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا لَهُمْ مِنْ تَمْرِهِمْ كَمَا جَعَلُوا لِغَيْرِهِمْ وَيَقْدُمُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: فَأَيْنَ الْقَوْمُ؟ قَالَ: ترَكْتُهُمْ وَقَدْ تَجَمَّعَ مِنْهُمْ مِائَتَا رَجُلٍ وَرَأْسُهُمْ وَبْرُ بْنُ عُلَيْمٍ، قَالُوا: فَسِرْ بِنَا حَتَّى تَدُلَّنَا، قَالَ: عَلَى أَنْ تُؤَمِّنُونِي، فَأَمَّنُوهُ، فَدَلَّهُمْ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ، ¬

_ (¬1) فَدَك: بفتح الفاء والدال قريةٌ بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة، وأهلها من اليهود. انظر معجم البلدان (6/ 417). (¬2) الْهَمْجُ: هو ماء وعيون عليه نَخْلٌ من المدينة من جهة وادي القُرَى. انظر معجم البلدان (8/ 481).

فَأَخَذُوا خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ وَأَلفيْ شَاةٍ، وَهَرَبَتْ بَنُو سَعْدٍ بِالظُّعُنِ (¬1)، فَعَزَلَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، صَفِيَّ (¬2) النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لُقُوحًا (¬3)، ثُمَّ عَزَل الخُمُسَ، وَقسَمَ سَائِرَ الغَنَائِمِ عَلي أَصْحَابِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) الظُّعُنُ: النِّسَاءُ، واحدتها: ظعينة. انظر النهاية (3/ 143). (¬2) الصَّفِيُّ: ما كان يَأْخُذُهُ رئيسُ الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. انظر النهاية (3/ 37). (¬3) النَّاقَةُ اللُّقُوحُ: هي الناقةُ الغزيرةُ اللَّبَنِ. انظر النهاية (4/ 225). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 294) - زاد المعاد (3/ 253) - شرح المواهب (3/ 136).

سرية عبد الله بن عتيك -رضي الله عنه- لقتل سلام بن أبي الحقيق

سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ -رضي اللَّه عنه- لِقَتْلِ سَلَّامِ (¬1) بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ (¬2) وَكَانَتَ هَذِهِ السَّرِيَّةُ التِي بَعَثَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِقَتْلِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬3). وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ سَلَّامَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ كَانَ مِمَّنْ أَلَّبَ (¬4) الْأَحْزَابَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. * تَفَاصِيلُ الْحَادِثَةِ: كَانَ أَبُو رَافِعٍ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ مِمَّنْ أَلَّبَ الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَعَانَهُمْ بِالْمُؤْنَةِ وَالْمَالِ الْكَثِيرِ، وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا انْقَضَى شَأْنُ الْأَحْزَابِ وَأَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ، اسْتَأْذَنتِ الْخَزْرَجُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قَتْلِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ. وَكَانَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ قَبَّحَهُ اللَّهُ قُتِلَ عَلَى أَيْدِي رِجَالٍ مِنَ الْأَوْسِ -كَمَا ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (8/ 83): سَلَّام: بفتح السين وتشديد اللام. (¬2) قال الحافظ في الفتح (8/ 83): الحُقَيْقُ: بضم الحاء مصغرًا. (¬3) هذا قول ابن سعد في طبقاته (2/ 295)، وهو الذي نَمِيلُ إليه، وجعلها ابن إسحاق في السيرة (3/ 300) بعد الخندق لكن لم يحدد لها تاريخًا. (¬4) أَلَّبَ: جَمَعَ. انظر النهاية (1/ 61).

ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- فَأَرَادَتِ الْخَزْرَجُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَوْسِ فَضْلٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْرَعُوا إِلَى هَذَا الِاسْتِئْذَانِ، فَأَذِنَ لَهُمْ. رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ هَذَيْنِ الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَا يَتَصَاوَلانِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَصَاوُل الْفَحْليْنِ (¬1)، لا يَضَعُ الْأَوْسُ شيْئًا فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَنَاءً (¬2) إِلَّا قَالَتِ الْخَزْرَجُ: وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُونَ بِهَذِهِ فَضْلًا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَا يَنتهُونَ حَتَّى يُوقِعُوا مِثْلَهَا، وَإِذَا فَعَلَتِ الْخَزْرَجُ شَيْئًا قَالَتِ الْأَوْسُ مِثْلَ ذَلِكَ (¬3). فَخَرَجَ سِتَّةُ رِجَالٍ مِنَ الْخَزْرَجِ لِقَتْلِ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) أي لا يفعل أحدهما معه شيئًا إلا فعل الآخر معه شيئًا مثله. انظر النهاية (3/ 57). (¬2) الغَنَاءُ: النَّفْعُ والكِفَايَةُ. انظر لسان العرب (10/ 137). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 300). قلت: بلغَ التفاخرُ والتنافُسُ بين الأوس والخزرج رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلى مرضاة اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- مبلغًا عَظِيمًا فقد أخرج الطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/ 374) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (7060) - بسند صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنه قال: افتَخَرَ الحيَّان: الأوس والخزرج، فقالت الأوس: منَّا من اهْتَزَّ لموتهِ عرشُ الرحمن سعدُ بن معاذ، ومنَّا من حَمَتْهُ الدَّبر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا من غَسَّلَتْهُ الملائكة حَنْظَلةُ بن أبي عامِرٍ الرَّاهب، ومنا من أُجِيزَتْ شهادته بشهادة رجلين خُزَيْمَة بن ثابت. فقال الخزرجيون: منَّا أربعة جَمَعُوا القرآن لم يجمعه غيرهم: أُبَيّ بن كعب، ومُعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.

بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قتَادَةَ، وَخُزَاعِيُّ بْنُ أَسْوَدَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَتِيكٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا وَلِيدًا أَوِ امْرَأَةً، فَخَرَجُوا حَتَّى إِذَا قَدِمُوا خَيْبَرَ أَتَوْا حِصْنَ أَبِي رَافِعٍ، فَلَمَّا دَنَوْا (¬1) مِنْهُ، وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ (¬2)، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ -رضي اللَّه عنه- لِأَصحَابِهِ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي مُنْطَلِق وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَنْ أَدْخُلَ (¬3)، فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَعِّ (¬4) بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلِ فِإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ فكَمَنْتُ (¬5)، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ، ثُمَّ عَلَّقَ الْأَغَالِيقَ (¬6) عَلَى وَتَدٍ، قَالَ: فَقُصْتُ إِلَى الْأَقَالِيدِ (¬7) فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ (¬8) عِنْدَهُ. ¬

_ (¬1) دَنَا: أي اقْتَرَبَ. انظر النهاية (2/ 128). (¬2) السَّرْحُ: الْإِبِلُ. انظر النهاية (2/ 322). (¬3) في رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 295) قال: وقَدّموا عبد اللَّه بن عَتِيك؛ لأنه كان يَرْطن باليهودية. (¬4) تَقَنَّع: تَغَطَّي. انظر النهاية (4/ 100). (¬5) كَمَنَ: اسْتَخْفَى واسْتَتَرَ. انظر النهاية (4/ 174). (¬6) الْأَغَالِيقُ: الْمَفَاتِيحُ. انظر النهاية (3/ 341). (¬7) الْأَقَالِيدُ: جمع إِقْلِيدٍ وهو الْمِفْتاحُ. انظر فتح الباري (8/ 85). (¬8) يُسْمَرُ عنده: أي يَتحدثُونَ لَيْلًا. انظر النهاية (2/ 359).

وَكَانَ فِي عَلَالِيَ (¬1) لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ، فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ، فَقُلْتُ: إِنِ الْقَوْمُ نَذِرُوا (¬2) بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَانَتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ قَدْ طُفِئَ سِرَاجُهُ وَسَطَ عِيَالِهِ لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ! قَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ (¬3) نَحْوَ الصَّوْتِ (¬4) فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ (¬5)، فَمَا أَغْنَتْ شَيْئًا، وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ فَمَكَثْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ (¬6)؟ فَقَالَ: لِأُمِّكَ الْوَيْلُ، إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ (¬7) ولمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ ضَبِيبَ السَّيْفِ (¬8) فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفتحُ الْأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى ¬

_ (¬1) عَلَالِي: جَمْعُ عُلِيَّةٍ، وهي بضم العين وكسرها وبتشديد الياء وهي الغُرْفَةُ. انظر النهاية (3/ 267). (¬2) نَذِرُوا بكسر الذال: أي عَلِمُوا. انظر النهاية (5/ 33). (¬3) هَوَيْتُ: قَصَدْتُ. انظر لسان العرب (15/ 167). (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري رقم الحديث (4040) قال -رضي اللَّه عنه-: فعمدت نحو الصوت. (¬5) دَهِشَ: بكسر الهاء ذهل. انظر لسان العرب (4/ 427). (¬6) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4040): قال عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-: ثم جئت كأني أغيثة، فقلت مالك؟ وغيرت صوتي. (¬7) الْإِثْخَانُ في الشيء: الْمبَالَغَةُ فيه، يُقال: أَثْخَنَهُ المرضُ: إذا أَثْقَلَهُ ووَهَنَهُ. انظر النهاية (1/ 203). (¬8) ضَبِيبُ السَّيْفِ: طَرَفُ السيفِ. انظر فتح الباري (8/ 86).

* فوائد الحديث

انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أُرَى (¬1) أَنِّي قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْكَسَرَتْ سَاقِي (¬2)، فَعَصَبْتُهَا بِعَمَامَةٍ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: لَا أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقتَلْتُهُ؟ فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ، فَقَالَ: أَنْعِي أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ، فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: النَجَاءَ (¬3)، فَقَدْ قتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: "ابْسُطْ رِجْلَكَ"، فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا، فكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ (¬4). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ أَبِي رَافِعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ: ¬

_ (¬1) أُرَى: بضم الهمزة أي: أَظُنُّ. انظر فتح الباري (8/ 86). (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4040): قال عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-: حتى أتيت السُّلَمَ أريد أن أنزل فسقطت منه فانخلعت رجلي فعصبتها. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 86): ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت الساق. (¬3) النَّجَاءَ: أي أَسْرِعُوا. انظر النهاية (5/ 21). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4040) قال عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-: ثم أتيت أصحابي أحجل. والْحَجَلُ: هو أَنْ يَرفعَ رِجْلًا ويَقِفَ على أُخرى من العَرَجِ. انظر النهاية (1/ 333). (¬4) أخرج خبر مقتل أبي رافع اليهودي: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قتل أبي رافع عبد اللَّه بن أبي الحقيق - رقم الحديث (4038) (4039) (4040) - وابن سعد في طبقاته (2/ 295) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 300).

1 - جَوَازُ اغْتِيَالِ الْمُشْرِكِ الذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَأَصَرَّ. 2 - وَفِيهِ جَوَازُ قتلِ مَنْ أَعَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِسَانِهِ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ التَّجَسُّسِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَطَلُّبِ غِرَّتِهِمْ. 4 - الْأَخْذُ بِالشِّدَّةِ فِي مُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ. 5 - جَوَازُ إِبْهَامِ الْقَوْلِ لِلْمَصْلَحَةِ. 6 - تَعَرُّضُ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. 7 - الْحُكْمُ بِالدَّلِيلِ وَالْعَلَامَةِ لِاسْتِدْلَالِ ابْنِ عَتِيكٍ عَلَى أَبِي رَافِعٍ بِصَوْتِهِ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى صَوْتِ النَّاعِي بِمَوْتِهِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 87).

سرية عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- لقتل اليسير بن رزام اليهودي

سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- لِقَتْلِ الْيُسَيْرِ بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ سَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَمَّرَتْ يَهُودُ عَلَيْهِمْ يُسَيْرًا، وَيُقَالُ: أُسَيْرًا، فَسَارَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى غَطفَانَ وَغَيْرِهِمْ يَجْمَعُهُمْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَوَجَّهَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ لسِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، سِرًّا، فَسَأَلَ عَنْ خَبَرِهِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فنَدَبَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ، فَانتدَبَ له ثَلَاثُونَ رَجُلًا فِيهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-. فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ سَنَةَ لسِتٍّ لِلْهِجْرَةِ، فَقَدِمُوا عَلَى يُسَيْرِ بْنِ رِزَامٍ فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ آمِنُونَ حَتَّى نَعْرِضَ عَلَيْكَ مَا جِئْنَا لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلي مِنْكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَنَا إِلَيْكَ لِتَخْرُجَ إِلَيْهِ فَيَسْتَعْمِلُكَ عَلَى خَيْبَرَ وَيُحْسِنَ إِلَيْكَ، فَطَمعَ فِي ذَلِكَ، فَخَرَجَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالُوا: إِنَّكَ إِنْ قَدِمْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَعْمَلَكَ وَأَكْرَمَكَ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى خَرَجَ مَعَهُمْ. ¬

_ (¬1) يُقال: نَدَبْتُهُ فَانتدَبَ: أي بَعَثْتُهُ ودَعَوْتُهُ فَأَجَابَ. انظر النهاية (5/ 29).

وَخَرَجَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ، فَحَمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ عَلَى بَعِيرِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِقَرْقَرَةِ ثِبَارٍ (¬1) نَدِمَ يُسَيْرٌ عَلَى مَسِيرِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَهْوَي (¬2) بِيَدِهِ إِلَى سَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَفَطِنَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ، فَدَفَعَ بَعِيرَهُ وَقَالَ لَهُ: غَدْرًا أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَنْدَرَتْ (¬3) عَامَّةُ فَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَسَقَطَ يُسَيْرٌ عَنْ بَعيره وَبيَده مِخْرشٌ (¬4) مِنْ شَوْحَطٍ (¬5)، فَضَربَ عَبْدَ اللَّه فَأَمَّهُ (¬6)، وَمَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ يَهُودَ فَقتَلَهُ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا أَفْلَتَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَدْ أَعْجَزَهُمْ شَدًّا (¬7)، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ، ثُمَّ أَقْبَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، وَدَعَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَتَفَلَ عَلَى شَجَّتِهِ (¬8)، فَلَمْ تُقْحِ (¬9) وَلَمْ تُؤْذِهِ (¬10). ¬

_ (¬1) قَرْقَرَةُ ثِبَارٍ: موضع علي ستة أميال من خيبر. قاله ابن إسحاق في السيرة (4/ 274). (¬2) هَوَى بيد إليهِ: أي مَدَّهَا نحوه وأَمَالَهَا إليه. انظر النهاية (5/ 246). (¬3) نَدَرَتْ: سَقَطَتْ ووَقَعَتْ. انظر النهاية (5/ 30). (¬4) الْمِخْرَاشُ: عصا مِعْوَجَّةُ الرَّأْسِ. انظر النهاية (2/ 22). (¬5) الشَّوْحَطُ: ضَرْبٌ من شجر الجبال تُتَّخَذُ منه الْقِسِيُّ. انظر النهاية (2/ 354). (¬6) أَمَّه: أي أَصابَ أُمَّ رأسِهِ، وأُمُّ الرأسِ: الدِّمَاغُ. انظر النهاية (1/ 69). (¬7) شَدًّا: أي جَرْيًا. انظر النهاية (2/ 405). (¬8) الشَّجُّ: في الرأس خاصَّةً في الأصل، وهو أَنْ يضربَهُ بثيء فيَجْرحه فيه ويَشُقّهُ، ثم استعمل في غيره من الأعضاء. انظر النهاية (2/ 399). (¬9) الْقَيْحُ: هو الصَّدِيدُ. انظر لسان العرب (11/ 368). أي أنه لم يخرج من جرحه -رضي اللَّه عنه- شيء ببركة تفله -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬10) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 295) - سيرة ابن هشام (4/ 274).

سرية الخبط

سَرِيَّةُ الْخَبَطِ (¬1) بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، لِيَرْصُدُوا (¬2) عِيرًا لِقُرَيْشٍ (¬3) مِمَّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ، وَقَدْ زَوَّدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جِرَابًا (¬4) مِنْ تَمْرٍ، لَمْ يَجِدْ لَهُمْ غَيْرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَنِي زَادُهُمْ، فَأَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- بِأَزْوَادِ الْجَيْشِ فَجُمعَ فَكَانَ مِزْوَدَيْ (¬5) تَمْرٍ، فَكَانَ يَقَوتُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى فَنِي، فَكَانَ يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تَمْرَةً وَاحِدَةً، فَكَانُوا يَمُصُّونَهَا كَمَا يَمَصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ يَشْرَبُوا عَلَيْهَا الْمَاءَ، فَكَانَتْ تَكْفِيهِمْ يَوْمَهُمْ إِلَى اللَّيْلِ. ¬

_ (¬1) الخَبَطُ: ما سقطَ من وَرَقِ الشجر بالْخَبْطِ والنَّفْضِ. انظر النهاية (2/ 8). (¬2) رَصَدَهُ: رَاكبهُ. انظر لسان العرب (5/ 223). (¬3) وقع عند ابن سعد في طبقاته (2/ 315): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثهم إلى حي من جهينة. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 408): وهذا لا يُغاير ظاهره ما في الصحيح؛ لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيرًا لقريش ويقصدون حيًا من جهينه، ويحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ويقوي هذا الجمع ما وقع عند مسلم في صحيحه عن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: بعث رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثًا إلى أرض جهينة. (¬4) الْجِرَابُ: الوِعَاءُ. انظر لسان العرب (2/ 228). (¬5) الْمِزْوَدُ: بكسر الميم وسكون الزاي: هو ما يُجَعَلُ فيه الزَّادُ. النهاية (2/ 286).

رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سُئِلَ: مَا تُغْنِي عَنْكُمْ تَمْرَةٌ؟ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: لَقَدْ وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ. فَلَمَّا فَنِيَتْ تِلْكَ التَّمَرَاتُ التِي كَانَتْ مَعَهُمْ، وَهُوَ زَادُهُمُ الْوَحِيدُ، لَجَأُوا إِلَى أَكْلِ الْخَبَطِ، فَكَانُوا يَضْرِبُونَ الْخَبَطَ بِعِصِيِّهِمْ، ثُمَّ يبْلُّونَهُ بِالْمَاءِ، فَيَأْكُلُونَهُ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُهُمْ (¬1). قَالَ جَابْرٌ -رضي اللَّه عنه-: أَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلَنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ. وَلَمَّا رَأَى قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، قَالَ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تَمْرًا بِالْمَدِينَةِ بِجَزُورٍ (¬2) هُنَا؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ. فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: مَا أَعْرَفَنِي بِنَسَبِكَ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ خُلَّةً (¬3)، فَابْتَاعَ (¬4) مِنه تِسعَ جَزَائِرَ، كل جَزُورٍ بِوسْقٍ (¬5) مِنْ تَمْرٍ، وأَشْهَدَ لَهُ نَفَرًا مِنَ الصَّحَابَةِ, ¬

_ (¬1) الأشداق: جوانب الفم. انظر النهاية (2/ 406). (¬2) الْجَزُورُ: البَعِيرُ ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬3) الْخُلَّةُ: بضم الخاء: الصَّدَاقَةُ. انظر النهاية (2/ 68). (¬4) ابْتَاعَ الشيءَ: اشترَاه. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬5) الْوَسْقُ: بفتح الواو وسكون السين: سِتُّونَ صَاعًا. انظر النهاية (5/ 161).

وَامْتَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: مَا أَشْهَدُ، هَذَا يَدِينُ وَلَا مَالَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَالُ لِأَبِيهِ. فَقَالَ الْجُهَنِيُّ: وَاللَّهِ مَا كَانَ سَعْدٌ لِيُخْنِيَ (¬1) بِابْنِهِ، وَأَرَى وَجْهًا حَسَنًا وَفِعْلًا شَرِيفًا. فَكَانَ بَيْنَ قَيْسٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَلَامٌ حَتَّى أَغْلَظَ لَهُ قَيْسٌ الْكَلَامَ، وَأَخَذَ قَيْسٌ الْجُزُرَ، فنَحَرَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي ثَلَاثَ جَزَائِرَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه-. وَعِنْدَمَا وَصَلُوا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، أَلَقْي اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي لَهُمْ حُوتًا مَيْتًا مِنَ الْبَحْرِ، مِثْلَ الظَّرِبِ (¬2)، يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هِيَ دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه-: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا، فَأَقَامُوا عَلَيْهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ حَتَّى سَمِنُوا وَصَحَّتْ أَجْسَامُهُمْ. ¬

_ (¬1) يُخْنِي: بضم الياء وسكون الخاء: أي يُسْلِمُهُ ويَخْفِرُ ذِمَّتَهُ. انظر النهاية (2/ 81). (¬2) الظَّرِبُ: بكسر الراء: واحد الظِّراب وهي الجَبَلُ الصغيرُ. انظر فتح الباري (8/ 410) - جامع الأصول (7/ 46).

قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْتَرفُ مِنْ وَقْبِ (¬1) عَيْنَيْه الدُّهْنَ بالْقِلَال (¬2)، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ (¬3) كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلقدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه- ثَلَاثَةَ عَشَرَ (¬4) رَجُلًا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقْبِ عَيْيهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فنَصَبَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَطْوَلِ بَعِيرٍ فَجَعَلَ عَلَيْهِ أَطْوَلَ رَجُلٍ (¬5) فِي الْجَيْشِ فَمَرَّ مِنْ تَحْتِهِ وَمَا مَسَّتْ رَأْسَهُ، وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ (¬6). ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَوا كَيْدًا، فَلَمَّا أَتَوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونَا؟ "، قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُ فَأَكَلَهُ (¬7). ¬

_ (¬1) وَقْبُ العينِ: النَّقْرَةُ التي فيها العين. انظر جامع الأصول (7/ 45). (¬2) القِلَالُ: جمع قُلَّةٍ، وهي الْحُبُّ العظيم. انظر النهاية (91/ 4). (¬3) الفِدَرُ: بكسر الفاء وفتح الدال جَمْعُ فِدْرةٍ، وهي القِطعةُ من اللَّحمِ. انظر جامع الصول (7/ 45). (¬4) في رواية الإمام أحمد في مسنده: قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه. (¬5) هو قيس بن سعد بن عباده رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قاله الحافظ في الفتح (8/ 411). (¬6) الْوَشَائِقُ: جمع وَشِيقَةٍ، وهىِ لَحْمٌ يُغلَي قليلًا ثم يُقَذَدُ -أي يُمَلَّحُ- ويُحْمَلُ في الأسفار. انظر جامع الأصول (7/ 45). (¬7) أخرج قصة هذه السرية: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة سيف البحر- رقم الحديث (4360) (4361) (4362) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصيد والذبائح - باب إباحة ميتات البحر - رقم الحديث (1935) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14336) (14337) (14338) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5007).

* متى حدثت هذه السرية؟

* مَتَى حَدَثَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ؟ : الصَّحِيحُ أَنَّ سَرِيَّةَ الْخَبَطِ هَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَيْسَ فِي رَجَبَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ (¬1)، وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يَبْعَثْ سَرِيَّةً فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. السَّبَبُ الثَّانِي: أَنَّ رَجَبَ سَنَةَ ثَمَانٍ هُوَ ضِمْنَ فترَةِ سَرَيَانِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. السَّبَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ الْقِلَّةِ وَالْجَهْدِ فِي جَيْشِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ كَانَ حَالُهُمْ اتَّسَعَ بِفَتْحِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَالْجَهْدُ الْمَذْكُورُ فِي الْقِصَّةِ يُنَاسِبُ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 315). وعدَّ الإمام الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في السيرة (2/ 152) ما ذكره ابن سعد زَعْمًا، فقال: زَعَم بعض الناس أن هذه السرية كانت في رجب سنة ثمان من الهجرة. (¬2) وممَّن ذهب إلى أن هذه السرية كانت قبل الحديبية: الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 408) (11/ 45) وابن القيم في زاد المعاد (3/ 344) - والإمام الذهبي في السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 152) - وابن كثير في البداية والنهاية (4/ 669).

سرية كرز بن جابر الفهري -رضي الله عنه- إلى العرنيين

سَرِيَّةُ كُرْزِ بْنِ جَابرٍ الْفِهْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْعُرَنِيِّينَ وَفِي شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ السَّادِسَةِ لِلْهِجْرَةِ، قَدِمَ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ عُكْلٍ (¬1) وَعُرَيْنَةَ (¬2) الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ، وَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاجْتَوَوْا (¬3) الْمَدِينَةَ، وَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَعَظُمَتْ بُطُوُنهُمْ، وَانْتُهِشَتْ (¬4) أَعْضَاؤُهُمْ. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا سِقَامًا، فَلَمَّا صَحُّوا مِنَ السَّقَمِ كَرِهُوا الْإِقَامَةَ بِالْمَدِينَةِ لَوَخَمِهَا، فَأَمَّا السَّقَمُ الذِي كَانَ بِهِمْ فَهُوَ الْهُزَالُ الشَّدِيدُ، وَالْجَهْدُ مِنَ الْجُوعِ، فَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِهِمْ هُزَالٌ شَدِيدٌ، مُصْفَرَّةٌ أَلْوَانُهُمْ (¬5). فَشَكَوا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 449): عُكْلٌ بضم العين وإسكان الكاف قبيلة من ثَيْمِ الرَّبَابِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 449): عُرَيْنَةُ بضم العين مصغرًا حي من قبيلة بَجِيلَةَ. (¬3) اجْتَوَوْا المدينةَ: أي أَصابَهُمُ الْجَوى، وهو المرض وداءُ الجوفِ إذا تَطَاوَلَ، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤُهَا. انظر النهاية (1/ 307). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4192) قال أنس -رضي اللَّه عنه-: وَاسْتَوْخَمُوا المدينةَ. اسْتَوْخَمُوهَا: أي اسْتَثْقَلُوهَا، ولم يُوافِقْ هواؤُها أبدانَهُم. انظر النهاية (5/ 144). (¬4) انْتُهِشَتْ: أي هُزِلَتْ. انظر النهاية (5/ 120). (¬5) انظر فتح الباري (1/ 450).

نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبون مِنْ أبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا؟ " (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبَخَارِيِّ: فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ (¬2). قَالُوا: بَلَي، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَمَّا صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَرَجَعَتْ إِلَيْهِمْ أَلْوَانُهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَثَّلُوا بِهِ وَسَمَّرُوا عَيْنَيْهِ، وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ (¬4) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ عِشْرِينَ فَارِسًا، بِقِيَادَةِ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ قَائِفًا (¬5)، ثُمَّ. دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْعُرَنِيِّينَ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَعْمِ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ، وَاجْعَلْهُ عَلَيْهِمْ أَضْيَقَ مِنْ مَسْكِ (¬6) جَمَلٍ". ¬

_ (¬1) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب القسامة والمحاربين. . . - باب حكم المحاربين والمرتدين - رقم الحديث (1671) (10). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لابن السبيل - رقم الحديث (1501). (¬3) اسم رَاعِي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسَارُ. انظر فتح الباري (1/ 452). (¬4) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3018) قال أنس -رضي اللَّه عنه-: فجاء الصريخ. أي صرخ بالإعلام بما وقع منهم، وهذا الصارخ أحد الراعيين كما ثبت ذلك في صحيح أبي عوانة، ولفظه: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. انظر فتح الباري (1/ 452). (¬5) الْقَائِفُ: الذي يتتبع الآثار ويعرفُهَا. انظر النهاية (4/ 106) - جامع الأصول (3/ 491). (¬6) الْمَسْكُ: بفتح الميم وسكون السين: الْجِلْدُ. انظر النهاية (4/ 283).

فَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّبِيلَ، فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى أَدْرَكُوهُمْ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، وَأَسَرُوهُمْ، وَرَبَطُوهُمْ، وَأَرْدَفُوهُمْ عَلَى الْخَيْلِ حَتَّى قَدِمُوا بِهِمُ الْمَدِينَةَ. فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ، وَسُمِّرَتْ (¬1) أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ (¬2) يَسْتَسْقونَ فَلَا يُسْقَوْنَ حَتَّى مَاتُوا. رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ (¬3). قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَؤُلَاءِ الْعُرَنِيِّينَ قَوْلَه تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ ¬

_ (¬1) سُمِّرَتْ أعينُهُمْ: بتشديد الميم، وفي رواية: سَمَر: بتخفيف الميم: أي أحمى لهم مَسَامِيرَ الحديدِ ثم كَحَلَهُمْ بِهَا. انظر النهاية (2/ 359). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 453): قد وقع التصريح بالمراد عند البخاري - رقم الحديث (3018) قال أنس -رضي اللَّه عنه-: ثم أمر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمسامير فأحميت فكحلهم بها. وفي رواية مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1671) (9): قال أنس -رضي اللَّه عنه-: وسَمَل أعينهم. والسَّمْلُ: فَقْءُ العينِ بأي شيء كان. انظر النهاية (2/ 363). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 453): الْحَرَّةُ: هي أرضٌ ذاتُ حجارةٍ سودٍ معروفة بالمدينة، وإنما ألقوا فيها لأنها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب القسامة والمحاربين - باب حكم المحاربين والمرتدين - رقم الحديث (1671) (14).

* فوائد الحديث

يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ ارْتَكَبَ هَذِهِ الصِّفَاتِ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - قُدُومُ الْوُفُودِ عَلَى الْإِمَامِ، وَنَظَرُهُ فِي مَصَالِحِهِمْ. 2 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الطِّبِّ وَالتَّدَاوِي بِأَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبُوَالِهَا. 3 - وَفِيهِ أَنَّ كُلَّ جَسَدٍ يُطَبُّ بِمَا اعْتَادَهُ. 4 - وَفِيهِ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ سَوَاءً قَتَلُوهُ غِيلَةً -أَيْ فِي خُفْيَةٍ- أَوْ حِرَابَةً إِنْ قُلْنَا إِنَّ قتلَهُمْ كَانِ قِصَاصًا. ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (33). وأخرج قصة العرنيين: البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب أبوال الإبل والدواب والنعم ومرابضها - رقم الحديث (233) - وأخرجها في كتاب الزكاة - باب إستعمال إبل الصدقة - رقم الحديث (1501) - وأخرجها في كتاب المغازي - باب قصة عكل وعرينة - رقم الحديث (4192) - وأخرجها مسلم في صحيحه - كتاب القسامة والمحاربين - باب حكم المحاربين والمرتدين - رقم الحديث (1671) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14086) والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الطهارة - باب الحيض - رقم الحديث (290) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الطهارة - باب النجاسة وتطهيرها - رقم الحديث (1386) (1388) - وأوردها ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1805). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (3/ 95).

* تنبيه هام

5 - وَفِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِصَاصِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْمُثْلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. 6 - وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فِي الشُّرْبِ وَفِي غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ. 7 - وَفِيهِ الْعَمَلُ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَللْعَرَبِ فَي ذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ التَّامَّةُ (¬1). * تَنْبِيهٌ هَامٌّ: قُلْتُ: ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ -وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالْوَبَاءَ- دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهَا الْحُمَّى، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَرَفَعَهَا، وَفِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ هَذِهِ نَرَى أَنَّهُمْ أُصِيبُوا بِالْحُمَّى، وَكَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ -كَمَا سَيَأْتِي- قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ الْحُمَّى، فَمَا سَبِيلُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ رَفْعِ الْحُمَّى فِي بِدَايَةِ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ؟ . قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: 1 - إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ دُعَائِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنَقْلِ الْوَبَاءِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ -أَيْ مِنْ قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ-. 2 - أَوْ أَنَّهُ رُفِعَ، وَبَقِيَ آثَارٌ مِنْهُ قَلِيلٌ. 3 - أَوْ أَنَّهُمْ بَقُوا فِي خِمَارٍ، وَمَا كَانَ أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إلى تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (1/ 454). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 237).

* هذه أهم السرايا

* هَذِهِ أَهَمُّ السَّرَايَا: هَذِهِ هِيَ السَّرَايَا وَالْغَزَوَاتُ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ، لمَ يَجْرِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا قِتَالٌ مَرِير، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِيمَا وَقَعَتْ مُصَادَمَةٌ خَفِيفَةٌ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبُعُوثُ إِلَّا دَوْرِيَّاتٍ اسْتِطْلَاعِيَّةٍ، أَوْ تَحَرُّكَاتٍ تَأْدِيبِيَّةٍ، لِإِرْهَابِ الْأَعْرَابِ وَالْأَعْدَاءَ الذِينَ لَمْ يَسْتَكِينُوا بَعْدُ. وَيَظْهَرُ بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي الظُّرُوفِ أَنَّ مَجْرَى الْأَيَّامِ كَانَ قَدْ أَخَذَ فِي التَّطَوُّرِ بَعْدَ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ، وَأَنَّ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ مَعْنَوِيَّاتُهُمْ فِي انْهِيَارٍ مُتَوَاصِلٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهُمْ أَمَلٌ فِي نَجَاحِ كَسْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَخَضْدِ (¬1) شَوْكَتِهَا، إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّطَوُّرَ ظَهَرَ جَلِيًّا (¬2) بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمْ تَكُنْ الْهُدْنَةُ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّسْجِيلَ عَلَى بَقَائِهَا فِي رُبُوعِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) الْخَضْدُ: الكَسْرُ أو القَطْعُ. انظر النهاية (2/ 38). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الواقعة آية (28): {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}، أي الذي قُطْعَ شَوْكُهُ. (¬2) الْجَلِيُّ: الوَاضِحُ. انظر لسان العرب (2/ 343). (¬3) انظر الرحيق المختوم ص (335).

صلح الحديبية

صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ (¬1) وَفِي شَهْرِ ذِي القعْدَةِ (¬2) مِنَ الْعَامِ السَّادِسِ الْهِجْرِيِّ أَخْبَرَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ، وَأَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَهُمْ وَمُقَصِّرِينَ (¬3)، فَمَا إِن سَمِعَ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمْ ¬

_ (¬1) الْحُدَيْبِيَةُ: هي بِئْرٌ، ثم عرف المكان كله بذلك. انظر النهاية (1/ 337) - روى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4150) عن البراء بن عازب -رضي اللَّه عنه- أنه قال: . . . والحديبية بئر. (¬2) هذا قول ابن إسحاق في السيرة (3/ 336) - وابن سعد في طبقاته (2/ 297)، وموسى بن عقبة، والزهري، وقتادة، والبيهقي في الدلائل (4/ 91)، وبه جزم ابن القيم في زاد المعاد (3/ 255) - والحافظ في الفتح (8/ 207) - وهو الصحيح. والدليل على أن عمرة الحديبية كانت في ذي القعدة ما رواه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4148) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1253): عن أنس -رضي اللَّه عنه- أنه قال: اعممر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أربع عُمر كلهن في ذى القعدة إلا التي كانت مع حجته، عُمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته. (¬3) ذكر اللَّه سبحانه وتَعَالَى هذه الرؤيا في القرآن الكريم في سورة الفتح آية (27) فقال سبحانه وتَعَالَى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}. قلت: ولم يحدِّد اللَّه سبحانه وتَعَالَى في هذه الآية مَتَى سيدخل المسلمون المسجد الحرام لأداءِ العُمْرَة، وحدَثَ ذلك في عُمْرَةِ القَضَاءَ، والتي كانت في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة كما سيأتي إن شاء اللَّه.

* استنفار المسلمين والأعراب

بِذَلِكَ حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَهَيَّؤُوا لِلْخُرُوجِ مَعَهُ، وَفَرِحُوا وَحَسِبُوا أَنّهُمْ دَاخِلُوا مَكَّةَ عَامَهُمْ ذَلِكَ (¬1). * اسْتِنْفَارُ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَعْرَابِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ مِنَ الْبَوَادِي، وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ مِمَّن أَسْلَمَ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ خَشْيَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِحَرْبٍ أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ حَقِيقَةَ هَذَا التَّوَجُّسِ (¬2) وَالْخَوْفِ الذِي كَانَ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} (¬3). وَالْقُرْآنُ لَا يَكْتَفِي بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُخَلَّفِينَ وَالرَّدِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُ مِنْ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ فُرْصَةً لِعِلَاجِ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ، وَهَوَاجِسِ الْقُلُوبِ، وَالتَّسَلُّلِ إِلَى ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 297). (¬2) الوَجَسُ: هو الفزَعُ يَقَعُ في القَلْبِ. انظر لسان العرب (15/ 221). (¬3) بُورًا: أي هَلْكَي، والْبَوَارُ: الْهَلَاكُ. انظر النهاية (1/ 158). والآيات في سورة الفتح آية (11 - 12).

* الإحرام والمسير إلى مكة

مَوَاطِنِ الضَّعَفِ، وَالِانْحِرَافِ لِكَشْفِهَا تَمْهِيدًا لِعِلَاجِهَا وَالطَّلَبِ لَهَا، ثُمَّ لِإِقْرَارِ الْحَقَائِقِ الْبَاقِيَةِ وَالْقِيَمِ الثَّابِتَةِ، وَقَوَاعِدِ الشُّعُورِ وَالتَّصَوُّرِ وَالسُّلُوكِ (¬1). * الْإِحْرَامُ وَالْمَسِيرُ إِلَى مَكَّةَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ هِلَالَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ لِلْهِجْرَةِ، وَمَعَهُ زَوْجُهُ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَخَرَجَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ (¬2) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ نُمَيْلَةَ (¬3) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَلَمْ يُخْرِجْ مَعَهُ سِلَاحًا، إِلَّا سِلَاحَ الْمُسَافِرِ، وَهِيَ السُّيُوفُ فِي الْقُرُبِ (¬4)، وَسَاقَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْهَدْيَ (¬5) ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن لسيد قطب (6/ 3321). (¬2) ذكر ابن القيم في زاد المعاد (3/ 256) الاختلاف في أهل الحديبية، ثم مال رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلى أنهم كانوا: ألف وأربعمائة. فقال رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والقلب إلى هذا أميل، وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين، وقول المسيب بن حَزْن. وجزم الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 339): أنهم كانوا ألف وأربعمائة. وغلط ابن إسحاق في السيرة (3/ 337) غلطًا بينًا عندما قال: إنهم كانوا سبعمائة، ولم يوافقه أحد علي ذلك. (¬3) هذا قولُ ابن إسحاق في السيرة (3/ 336)، وعند ابن سعد في طبقاته (2/ 297): أنه استعمل على المدينة عبد اللَّه بن أم مكتوم. قلت: ويمكن الجمع بأنه استعمل عبد اللَّه بن أم مكتوم علي الصلاة، ونميلة بن عبد اللَّه على المدينة. (¬4) القُرُب: بضم القاف جمع قِرَابٍ بكسر القاف: وهو غِمْدُ السَّيْفِ. انظر لسان العرب (11/ 86). (¬5) الْهَدْيُ: هو ما يُهَدَى إلى البيتِ الحرام من النَّعَمِ لِتُنْحَرَ. انظر النهاية (5/ 220).

سَبْعِينَ بَدَنَةً (¬1) فِيهَا جَمَلٌ لِأَبى جَهْل لَعَنَهُ اللَّهُ فِى أَنْفِهِ بُرَّةٌ (¬2) مِنْ فِضَّةٍ لِيَغِيظَ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ (¬3)، وَبَعَثَهَا مَعَ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْخُزَاعِيِّ الْأَسْلَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬4). فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ ذَا الْحُلَيْفَةِ (¬5) صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالْهَدْيِ فَقَلَّدَهُ (¬6)، ثُمَّ أَشْعَرَهُ (¬7)، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَبَّي لِيَأْمَنَ النَّاسُ مِنْ ¬

_ (¬1) الْبَدَنَةُ: تقع على الجمل والنَّاقة والبقرة، وهي بالإبلِ أشبه، وسُمِّيَتْ بدنةً لِعِظَمِهَا وسِمَنِهَا. انظر النهاية (1/ 108). (¬2) الْبُرَّةُ: حَلْقَةٌ تُجْعَلُ في لَحْمِ الأنفِ، وربما كانت من شعر. انظر النهاية (1/ 122). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2362) - وإسناده حسن. (¬4) هذا هو الصحيح أن الذي كان على هدى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هو: ناجية بن جندب الأسلمي -رضي اللَّه عنه-، وقد روى ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18943) بسند صحيح - وابن إسحاق في السيرة (3/ 339). (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 161): ذا الحُلَيْفَة: بضم الحاء مُصَغَّرًا، وهو ميقاتُ أهل المدينة، ومن سلك طريقهم. (¬6) تقلِيدُ الهَدْيِ: أن يُجْعَلَ في عُنُقِها شِعار يُعلم به أنها هدي. انظر لسان العرب (11/ 276). (¬7) قال الإمام النووي في شرح مسلم (8/ 185): الْإِشْعَارُ في الهَدي: هو أَنْ يَجْرَحَهَا في صَفْحَةِ سِنَامِهَا اليُمْنَي بِحَرْبَةٍ أو سِكِّينٍ أو حَدِيدَة، أو نَحْوِهَا، ثم يَسْلُتُ -أي يَمْسَحُ- الدَّمُ عنها، ويجعل ذلك لها علامة تُعرف بها أنها هديٌ. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 363): وفي هذا الحديث مشروعية الإشعار، وفائدته: الإعلام بأنها صارت هديًا؛ ليتبعها من يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميزت، أو ضَلت عُرِفت، أو عطبت -أي ماتت- عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها، مع ما في ذلك من تعظيم شعار الشرع، وحث الغير عليه.

* قصة أبي قتادة -رضي الله عنه-

حَرْبِهِ، وَليَعْلَمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ وَمُعَظِّمًا لَهُ (¬1). وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ يَدَيْهِ بُسْرَ (¬2) بْنَ سُفْيَانَ الْخُزَاعِيَّ الْكَعْبِيَّ -رضي اللَّه عنه- عَيْنًا (¬3) لَهُ إِلَى قُرَيْشٍ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ (¬4). * قِصَّةُ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الرَّوْحَاءِ (¬5) جَاءَهُ خَبَرٌ أَنَّ عَدُوًّا يُرِيدُ أَنْ يَغْزُوَ الْمَدِينَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَحْرَمَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ أُحْرِمْ (¬6)، فَأُنْبِئْنَا بِعَدُوٍّ بِغَيْقَةٍ (¬7)، فَتَوَجَّهْنَا نَحْوَهُمْ، فَبَصُرَ أَصْحَابِي بِحِمَارٍ وَحْشٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أشعر وقَلّد بذى الحليفة ثم أحرم - رقم الحديث (1694) - (1695) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) (18928). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 680): بُسْر: بضم الباء وسكون السين على الصحيح، وأخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4178) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - وفي رواية الإمام أحمد التصريح باسم العين. (¬3) الْعَيْنُ: الْجَاسُوسُ. انظر النهاية (3/ 299). (¬4) انظر التفاصيل في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 297) - سيرة ابن هشام (3/ 337) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 99) - زاد المعاد (3/ 257). (¬5) الرَّوْحَاءُ: موضع بينه وبين المدينة ستة وثلاثين ميلًا. انظر جامع الأصول (9/ 379). (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 492): والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخَّر الإحرام، لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فسَاغَ له التأخير. (¬7) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 492): بِغَيْقَةٍ: أي في غَيْقَةٍ وهو بفتح الغين بعدها ياء ساكنة، وهو ماءٌ لبني غِفَارٍ بين مكة والمدينة.

يَضْحَكُ إِلَى بَعْضٍ، فَنَظَرْتُ فَرَأَيْتُهُ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ الفرَسَ (¬1)، فَطَعَنْتُهُ فَأَثْبَتُّهُ (¬2)، فَاسْتَعَنْتُهُمْ فَأَبُوا أَنْ يُعِينُونِي، فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ لَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَخَشِينَا أَنْ نُقتَطَعَ (¬3)، فَطَلَبْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْفَعُ فَرَسِي شَأْوًا (¬4)، وَأَسِيرُ عَلَيْهِ شَأْوًا. . .، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا إِصَّدْنَا حِمَارَ وَحْشٍ، وَإِنَّ عِنْدَنَا مِنْهُ فَاضِلَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "كُلُوا"، وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: قَالَ أَبُو قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبَي بَعْضُهُمْ، فَأَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ" (¬5). ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (1196) (56) - قال أبو قتادة -رضي اللَّه عنه-: فأسرَجْتُ فَرَسِي وأخذت رمحي. (¬2) في رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (1196) (56) - قال أبو قتادة -رضي اللَّه عنه-: فطعَنْتُهُ برُمْحِي فعَقَرْتُهُ. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 494): نُقْتَطَعُ: أي نَصيرُ مقطوعين عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنْفَصِلِينَ عنه لكونه سبقهم. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال أبو قتادة -رضي اللَّه عنه-: وخشينا أن يقتطعنا العدو. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 494): أَرْفَعُ: أي أُكَلِّفُهُ السَّيْرَ، وشَأْوًا: أي تَارَةً، والمراد أنه يُرْكِضُهُ تَارَةً ويَسِيرُ بِسُهُولَةٍ أخرى. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب جزاء الصيد - باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله - رقم الحديث (1821) (1822) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم - رقم الحديث (1196) (57) (59) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22569) وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (3976).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ تَمَنِّي الْمُحْرِمِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْحَلَالِ بِالصَّيْدِ لِيَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ لَا يَقْدَحُ فِي إِحْرَامِهِ. 2 - وَأَنَّ الْحَلَالَ إِذَا صَادَ لِنَفْسِهِ جَازَ لِلْمُحْرِمِ الْأَكْلُ مِنْ صَيْدِهِ. 3 - وَفِيهِ إِمْسَاكُ نَصِيبِ الرَّفِيقِ الْغَائِبِ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ، أَوْ يَتَوَقَّعُ مِنْهُ ظُهُورَ حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلةِ بِخُصُوصِهَا. 4 - وَفِيهِ تَفْرِيقُ الْإِمَامِ أَصْحَابَهُ لِلْمَصْلَحَةِ. 5 - وَاسْتِعْمَالُ الطَّلِيعَةِ (¬1) فِي الْغَزْوِ. 6 - وَفِيهِ أَنَّ عَقْرَ الصَّيْدِ ذَكَاتُهُ. 7 - وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِي: هُوَ اجْتِهَادٌ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا فِي حَضْرَتِهِ. 8 - وَفِيهِ الْعَمَلُ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَلَوْ تَضَادَّ الْمُجْتَهِدَانِ، وَلَا يُعَابُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الْآكِلَ تَمَسَّكَ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ، وَالْمُمْتَنِعَ نَظَرَ إِلَى الْأَمْرِ الطَّارِئِ. 9 - وَفِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى النَّصِّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ. ¬

_ (¬1) الطَّلَائِعُ: هُمُ الْقَوْمُ الذينَ يُبعثُونَ لِيَطَّلِعُوا طِلْعَ العَدُوِّ، كالجَوَاسيسِ، واحدهُمْ طَلِيعَةٌ. انظر النهاية (3/ 121).

* إكمال الطريق إلى مكة

10 - وَرَكْضُ (¬1) الْفَرَسِ فِي الِاصْطِيَادِ. 11 - وَفِيهِ التَّصَيُّدُ فِي الْأَمَاكِنِ الْوَعِرَةِ. 12 - وَفِيهِ الِاسْتِعَانَةُ بِالْفَارِسِ. 13 - وَفِيهِ حَمْلُ الزَّادِ فِي السَّفَرِ. 14 - وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْأَصْحَابِ وَالرُّفَقَاءِ فِي السَّيْرِ. 15 - وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَوْلِ لأِنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الضَّحِكَ فِي مَوْضِعِ الْإِشَارَةِ لِمَا اعْتَقَدُوهُ مِنَ أَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَحِلُّ. 16 - وَفِيهِ جَوَازُ سَوْقِ الْفرَسِ لِلْحَاجَةِ وَالرِّفْقُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ لِقَوْلهِ: وَأَسِيرُ شَأْوًا. 17 - وَفِيهِ نُزُولُ الْمُسَافِرِ وَقْتَ الْقَائِلَةِ. 18 - وَفِيهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ مَعَ الْحِكْمَةِ فِي قَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ" (¬2). * إِكْمَالُ الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّةَ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طرِيقَهُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ، أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ ¬

_ (¬1) أَصْلُ الرَّكْضِ: الضَّرْبُ بالرِّجْل الإِصابةُ بها، كما تُضْرَبُ الدَّابَّةُ وتُصَابُ بالرِّجْلِ، أرادَ الإِضْرَارَ بها والأذى. انظر النهاية (2/ 235). (¬2) انظر فتح الباري (4/ 501).

الْأَحَابِيشَ (¬1)، وَهُمْ مُقُاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ وَمَانِعُوكَ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، قَالَ الْعَيْنُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِكَ، فَخَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ (¬3)، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً (¬4) أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدَّمُوهَا إِلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ (¬5). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ أَكَلَتْهُمُ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلَّوا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ، فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الذِي أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَيْهِمْ، دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ وَافِرُونَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّةٌ، فَمَاذَا تَظُنُّ قُرَيْشٌ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَزَالُ أُجَاهِدُهُمْ عَلَى الذِي بَعَثَنِي اللَّهُ لَهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ لَهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السَّالِفَةُ" (¬6). ¬

_ (¬1) الْأَحَابِيشُ: هم أحياءٌ انضمُّوا إلى بعضٍ، فَسُمُّوا بذلكَ، والتَّحَبُّشُ: التَّجَمُّعُ. انظر النهاية (1/ 319). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (4178) (4179). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 686) العُوذُ: بضم العينِ وسكونِ الواو: جَمْعُ عَائِذٍ وهي النَّاقة ذاتُ اللَّبَنِ، والْمَطَافِيلُ: الأمَّهات اللَّاتي معها أطفالُها، يُريدُ أنَّهم خرجوا معهمْ بذواتِ الألبانِ من الإِبِلِ ليتزوَّدوا بألبانِها ولا يرجعوا حتى يمنعوهُ. (¬4) عَنْوَة: أي قَهْرًا. انظر النهاية (3/ 284). (¬5) كُرَاعُ الغَمِيمِ: بضم الكاف: هو وادٍ بينَ مكَّة والمدينةِ. انظر النِّهاية (4/ 143). (¬6) السَّالِفَةُ: صَفْحَةُ العُنُقِ، وكنَّي بانْفرادِهَا عن الموتِ؛ لأنَّها لا تنفردُ عمَّا يليها إلا بالموت. انظر النِّهايةَ (2/ 351). =

* استشارة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه

* اسْتِشَارَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ: فَهُنَا اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: "أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَى عِيَالهِمْ وَذَرَارِي هَؤُلَاءِ الذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَإلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدٍ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الذِينَ أَعَانُوهُمْ -أَي الْأَحَابِيْشِ- فَنُصِيبُهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا، قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ، وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ، أَوْ ترَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟ " (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ هَلْ يُخَالِفُ الذِينَ نَصَرُوا قُرَيْشًا إِلَى مَوَاضِعِهِمْ فَيَسْبِيَ أَهْلَهُمْ، فَإِنْ جَاؤُوا إِلَى نَصْرِهِمُ اشْتَغَلُوا بِهِمْ، وَانْفَرَدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِقُرَيْشٍ، وَذَلِكَ الْمُرَادُ بِقَوْلهِ: "تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ" (¬3). ¬

_ = والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910). (¬1) مَحْرُوبِينَ: أيْ مَسْلُوبينَ مَنْهُوبينَ. انظر النهاية (1/ 345). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (4178) - (4179). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18928). (¬3) انظر فتح الباري (5/ 681).

* محاولة خالد بن الوليد الإغارة على المسلمين وأول صلاة خوف

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قتلَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبَ أَحَدٍ، فتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدْ صَحِيحٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: . . . يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَلَمْ نَجِئْ نُقَاتِلُ أَحَدًا، وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ (¬2). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ" (¬3). * مُحَاوَلَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْإِغَارَةَ عَلَى المُسْلِمِينَ وَأَوَّل صَلَاةِ خَوْفٍ: فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عُسْفَانَ اقْتَرَبَ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ فِيهِمْ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفَّ خَيْلَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَهُنَا نَزَلَ الْوَحْيُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرْقِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعُسْفَانَ، فَاسْتَقْبَلَنَا الْمُشْرِكُونَ، عَلَيْهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ، وَهُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (4178) (4179). (¬2) أخرجه الإِمَامُ أحمدُ في مسنده - رقم الحديث (18928). (¬3) أخرجَ ذلك البخاري في صحيحِهِ - كتاب المَغازي - باب صُلْحِ الحديبية - رقم الحديث (4178) (4179). وفي رواية الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (18928) قال رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَرُوحُوا إذًا".

* نزول الوحي بأول صلاة خوف في الإسلام

الْقِبْلَةِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ الظُّهْرَ، فَقَالُوا -أَيْ خَالِدُ بْنُ الْوَليدِ وَالذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ-: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ (¬1) لَوْ أَصَبْنَا غِرَّتَهُمْ (¬2). * نُزُولُ الْوَحْي بِأَوَّلِ صَلِاةِ خَوْفٍ فِي الْإِسْلَامِ: ثُمَّ قَالُوا: تَأْتِي عَلَيْهِمُ الْآنَ صَلَاةٌ (¬3) هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذ الْآيَاتِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (¬4). قَالَ: فَحَضرَتْ صلَاةُ الْعَصرِ, فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخَذُوا السِّلَاحَ, قَالَ: فَصَفَفَنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ، فَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالصَّفِّ الذِي يَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَ، فَلَمَّا سَجَدُوا ¬

_ (¬1) الحالةُ التي عَنَاهَا المشركون هي صلاةُ المسلمين الظهرَ. (¬2) الغِرَّةُ: بكسر الغين الغفلةُ. انظر النهاية (3/ 318). أي لو هَجَمْنَا على المسلمين وهم يصلُّون. (¬3) هي صلاةُ العصرِ. (¬4) سورة النساء آية (102).

* صفات متعددة لصلاة الخوف

وَقَامُوا، جَلَسَ الْآخَرُونَ، فَسَجَدُوا فِي مَكَانِهِمْ، ثُمَّ تَقَدَّمَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وَجَاءَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَرَكَعُوا جَمِيعَّاَ، ثُمَ رَفَعَ، فَرَفَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ النَّبِىُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالصَّفُّ الذِي يَلِيهِ، وَالْآخَرُونَ قِيَامٌ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ، جَلَسَ الْآخَرُونَ فَسَجَدُوا، ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ (¬1). فَهَذِهِ أَوَّلُ صَلَاةِ خَوْفٍ صَلَّاهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ الذِي جَزَمَ بِهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: بِأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةِ خَوْفٍ صَلَّاهَا الْمُسْلِمُونَ كَانَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ (¬2). * صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ لِصَلَاةِ الْخَوْفِ: وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَيْفِيَّاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضِحًا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: لَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رُوِيَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَّا حَدِيثٌ ثَابِتٌ، هِيَ كُلُّهَا صِحَاحٌ ثَابِتَةٌ، فعَلَى أَيِّ حَدِيثٍ صَلَّى مِنْهَا الْمُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ أَجْزَأَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ (¬3). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ¬

_ (¬1) أَخرجَهُ الإِمَامُ أحمدُ في مسندِهِ - رقم الحديث (16580) - وأبو داودَ في سُننِهِ - كتاب الصلاة - بابُ صلاةِ الخوفِ - رقم الحديث (1236) - وجود إسناده الحافظ في الإصابة (7/ 245). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 188). (¬3) انظر تفسير القرطبي (7/ 97).

* انحراف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن طريق المشركين ونزوله بالحديبية

كَيْفِيَّاتٌ حَمَلَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَحَمَلَهَا آخَرُونَ عَلَى التَّوَسُّعِ وَالتَّخْيِيرِ (¬1). وَبِذَلِكَ شُرِعَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ التِي تَدُلُّ عَلَى يُسْرِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاحَتِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ (¬2). * انْحِرَافُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ طَرِيقِ المُشْرِكِينَ وَنُزُوُلهُ بِالحُدَيْبِيَةِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَفَادَى الِاصْطِدَامَ وَالِاشْتِبَاكَ مَعَ خَيْلِ المُشْرِكِينَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "مَنْ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ التِي هُمْ بِهَا؟ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعِرًا أَجْرَلَ (¬3) بَيْنَ شِعَابٍ (¬4)، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ، وَقَدْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَأَفْضَوْا (¬5) إِلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الوَادِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلنَّاسِ: "قُولُوا نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ"، فَقَالُوا ذَلِكَ! فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ إِنَّهَا لَلْحِطَّةُ التِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يَقُولُوهَا" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 188). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 323) للدكتور محمّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬3) الجَرَلُ: الخَشِنُ من الأرض الكثير الحجارة. انظر لسان العرب (2/ 256). (¬4) الشِّعب: بكسر الشين: ما انفَرَجَ بين جبلين. انظر لسان العرب (7/ 128). (¬5) أفْضَى: بلغ بهم. انظر لسان العرب (10/ 283). (¬6) قال اللَّه تَعَالَى في سورة البقرة آية (58): {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}. =

ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُسْلِمِينَ فَقَالَ: "اسْلُكُوا ذَاتَ اليَمِينِ"، بَيْنَ ظَهْرَيْ الحَمْضِ فِي طَرِيقٍ تُخْرِجُهُمْ عَلَى ثَنِيَّةِ (¬1) المِرَارِ (¬2) مَهْبَطِ الحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَسَلَكَ الجَيْشُ ذَلِكَ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا رَأَتْ خَيْلَ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ (¬3) الجَيْشِ قَدْ خَالفوا عَنْ طَرِيقِهِمْ، نَكَصُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ (¬4). وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى ثَنِيَّةِ المِرَارِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "مَنْ يَصْعَدُ (¬5) الثَّنِيَّةَ، ثَنِيَّةَ المِرَارِ، فَإِنَّهُ يَحُطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ" (¬6). ¬

_ = قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسير هذه الآية (1/ 275): وحاصِلُ الأمر: أنهم أُمِرُوا أن يخضَعُوا للَّه تَعَالَى عند الفتح بالفعل والقولِ، وأن يعتَرِفُوا بذنوبهم ويستغفروا منها. . . وإذا فعلتم ما أمَرْنَاكم من الاستغفار والشكر غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات. لكنهم لم يفعلوا ما أُمِروا به فذهب عليهم الأجر من اللَّه تَعَالَى. (¬1) الثنِيَّة: هو الطريق العالي في الجبل. انظر النهاية (1/ 220). (¬2) المِرارُ: بكسر الميم، وبضمها: موضعٌ بين مكة والمدينة من طريق الحديبية. انظر النهاية (1/ 220). (¬3) القَتَرَة: بفتح القاف: الغُبَارُ. انظر النهاية (4/ 11). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 338) وإسناده حسن. (¬5) قال ابن الأثير في النهاية (1/ 220): وإنما حثَّهُم رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- علي صُعُودها لأنها عَقَبَة شاقّة وصَلُوا إليها ليلًا، فرغبهم في صعودها. (¬6) الذي حُط عن بني إسرائيل هو ذنوبهم، قال تَعَالَى في سورة البقرة آية (58): {وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}. وانظر النهاية (1/ 220).

* بروك ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعَدَهَا خَيْلُنَا، خَيْلُ بَنِي الخَزْرَجِ (¬1). * بُرُوكُ نَاقَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَفِي هَذَا المَكَانِ فِي ثَنِيَّةِ المِرَارِ التِي يُهْبَطُ مِنْهَا عَلَى قُرَيْشٍ، بَرَكَتِ القَصْوَاءُ نَاقَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ النَّاسُ: حَلْ (¬2) حَلْ، فَأَلَحَّتْ (¬3)، فَقَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: خَلَأَتِ (¬4) القَصْوَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا خَلَأَتِ القَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ (¬5)، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الفِيلِ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب صفات المناففين وأحكامهم - رقم الحديث (2880). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 682): حَلّ حَلّ: بفتح الحاء وسكون اللام: كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 682): فألحَّت: بتشديد الحاء: أي تمادَتْ على عدم القيام وهو من الإلحاح. (¬4) خَلَأَ: إذا بَرَكَ فلم يَقم. انظر لسان العرب (4/ 164). (¬5) قال الحافظ في الفتح (5/ 683): بخُلُقٍ: أي بِعَادة. (¬6) زاد ابن إسحاق في السيرة (3/ 339): عن مكة. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 683): ومناسبةُ ذِكْرِها -أي ذكر قصَّة الفيل- أن الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لو دخَلُوا مكَّة على تلك الصورة وصدَّهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قِتَالٌ قد يُفْضِي إلى سفْكِ الدماء ونَهْبِ الأموال كما لو قُدِّرَ دخولُ الفيل وأصحابه مكة، لكن سَبَقَ في عِلْمِ اللَّه تَعَالَى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلقٌ منهم، ويستخرجُ من أصلابِهِمْ ناسٌ يُسْلِمُونَ ويُجَاهِدُون، وكان بمكة في الحديبية جمعٌ كثير مؤمنون من المُسْتضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طَرَقَ الصحابة مكة لَمَا أمِنَ أن يُصَاب =

* حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- ناقته على النهوض

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونَنِي خُطَّةً (¬1) يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ (¬2) إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَسْألونِي فِيهَا صِلةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا" (¬4). * حَثُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاقَتَهُ عَلَى النُّهُوضِ: ثُمَّ زَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاقَتَهُ فَوَثَبَتْ (¬5)، ثُمَّ عَدَلَ (¬6) عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ (¬7) قَلِيلِ المَاءِ يَتَبَرَّضُهُ (¬8) النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ حَتَّى نَزَحُوهُ (¬9)، وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَطَشُ ¬

_ = ناسٌ منهم بغير عَمْدٍ كما أشار إليه تَعَالَى في قوله في سورة الفتح آية (25): {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ}. (¬1) خُطَّة: بضم الخاء أي: خَصْلة. انظر فتح الباري (5/ 684). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 684): أي من تَرْكِ القتال في الحرم، وفي رواية قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يسألوني فيها صِلة الرحم"، وهي من جملة حرمات اللَّه. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. (¬5) قال الحافظ في الفتح (5/ 684): وثبَتَ: أي قامت. (¬6) عَدَلَ عن الطريق: مالَ عنه. انظر لسان العرب (9/ 86). (¬7) قال الحافظ في الفتح (5/ 684): الثَّمَدُ: بفتح الثاء والميم: حُفَيْرة فيها ماء مَثْمُودٌ أي قليل. (¬8) يتبَرَّضه الناس: أي يأخذونه قليلًا قليلًا. انظر النهاية (1/ 119). (¬9) النَّزَح: بالتحريك البئر التي أُخذ ماؤها، والمراد: أنهم لم يُبقوا من الماء شيئًا. انظر النهاية (5/ 34).

-وَكَانَ الحَرُّ شَدِيدًا- فَانتزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ (¬1) ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ (¬2)، فَمَا زَالَ يَجِيشُ (¬3) لَهُمْ بِالرِّيِّ (¬4) حَتَّى صَدَرُوا (¬5) عَنْهُ (¬6). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- قال: . . . فَنَزَحْنَاهَا فَلَمْ نَتْرُكْ فِيهَا قَطْرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ البِئْرِ، فَدَعَا بِمَاءً فَمَضْمَضَ وَمَجَّ فِي البِئْرِ، فَمَكَثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ اسْتَقَيْنَا حَتَّى رَوِينَا، وَرَوَتْ رَكَائِبُنَا (¬7). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: ويُمْكِنُ الجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ الأَمْرَانِ مَعًا وَقَعَا (¬8). قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ جَمْعَ الحَافِظِ مِنْ أَنَّ الأَمْرَانِ وَقَعَا مَعًا مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ ¬

_ (¬1) الكِنَانَة: هي جَعْبَة السهام تُتَّخذ من جلود. انظر لسان العرب (12/ 173). (¬2) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) -بسند حسن-: فقالوا يا رَسُول اللَّهِ، ما بالوادي من ماءٍ ينزل عليه الناس، فأخرج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهمًا من كنانته، فأعطاه رجلًا من أصحابه، فنزل في قَلِيبٍ من تلك القُلُب، فغرزه فيه، فجاش -أي فار- الماء. (¬3) يَجِيش: بفتح الياء وكسر الجيم، أي يفور. انظر النهاية (1/ 312). (¬4) الرِّي: بكسر الراء. انظر فتح الباري (5/ 685). (¬5) قال الحافظ في الفتح (5/ 685): صَدَرُوا عنه: أي رَجَعُوا رواءَ بعد وردهم. زاد ابن سعد في طبقاته (2/ 297): حتى اغْترَفُوا بآنيتهم جُلُوسًا على شَفِير البئر. (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910). (¬7) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3577) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزة الحديبية - رقم الحديث (4150). (¬8) انظر فتح الباري (5/ 685).

* معجزة أخرى للرسول -صلى الله عليه وسلم-

البَيْهَقِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قال: . . . وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فتَوَضَّأَ فِي الدَّلْوِ، وَمَضْمَضَ فَاهُ، ثُمَّ مَجَّ بِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُصَبَّ فِي البِئْرِ، وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فَأَلْقَاهُ فِي البِئْرِ، وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَفَارَتْ بِالمَاءِ، حَتَّى رَجَعُوا يَغْتَرِفُونَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا (¬1). * مُعْجِزَةٌ أُخْرَى لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ (¬2) فتَوَضَّأَ مِنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَالَكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا فِي رَكْوَتِكَ، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَهُ فِي الرَّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ العُيُونِ. قَالَ جَابِرٌ: فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ حَضَرَتِ العَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرُ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ، ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 112). (¬2) الرَّكوة: بفتح الراء، إناء صغير من جِلْدٍ يُشْرَب فيه الماء. انظر النهاية (2/ 237). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4152) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14522).

* فوائد الحديث

فَأَتَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: "حَيَّ عَلَى الوَضُوءِ البَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ". قَالَ جَابِرٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتوَضَّأَ النَّاسُ وشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لَا آلُو (¬1) مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. فَقِيلَ لِجَابِرٍ -رضي اللَّه عنه-: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهَذِهِ القِصَّةُ غَيْرُ القِصَّةِ التِي رَوَاهَا البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي نَبْعِ المَاءِ كَانَ حِينَ حَضَرَتْ صَلَاةُ العَصْرِ عِنْدَ إِرَادَةِ الوُضُوءِ، وَحَدِيثُ البَرَاءِ كَانَ لِإِرَادَةِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: وَفِي هَذَا الفَصْلِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - مُعْجِزَاتٌ ظَاهِرَةٌ. 2 - وَفِيهِ بَرَكَةُ سِلَاحِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 238): لا آلو: أي لا أقَصِّر، والمراد أَنَّهُ جعل يَسْتَكْثِرُ من شربه من ذلك الماء لأجل البَرَكَةِ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأشربة - باب شرب البركة والماء المبارك - رقم الحديث (5639). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 210).

* نزول المطر والصلاة في الرحال

3 - وَقَدْ وَقَعَ نَبْعُ المَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الشَّرِيفَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عِدَّةِ مَوَاطِنَ غَيْرِ هَذِهِ (¬1). * نُزُولُ المَطَرِ وَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ (¬2): وَفِي الحُدَيْبِيَةِ أَصَابَ المُسْلِمِينَ مَطَرٌ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُصلُّوا فِي رِحَالهِمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ الحُدَيْبِيَةِ فَأَصَابَنَا مَطَرٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصُّبْحَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ ". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: "قَالَ اللَّهُ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَبِرِزْقِ اللَّهِ وَبِفَضْلِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا فَهُوَ مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ كَافِرٌ بِي" (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي المَلِيْحِ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 685). (¬2) يُقال لِمَنْزِل الإنسان ومسكَنِهِ: رحْلُه، وانتهينا إلى رحالنا: أي منازلنا. انظر النهاية (2/ 191). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4147) - وأخرجه في كتاب الاستسقاء - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} - رقم الحديث (1038).

* وساطة بديل بن ورقاء بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقريش

-رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَمَنَ الحُدَيْبِيَةِ (¬1) وَأَصَابَتْنَا سَمَاءٌ (¬2) , لَمْ تَبُلَّ أَسَافِلَ نِعَالِنَا، فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ" (¬3). * وَسَاطَةُ بُدَيْلَ بنِ وَرْقَاءَ بَيْنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقُرَيْشٍ: وَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَنْزِلهِ أتَاهُ بدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ الخُزَاعِيُّ (¬4) فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ -وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ (¬5) نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُسْلِمَهَا وَمُشْرِكَهَا لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّةَ- فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أعْدَادَ (¬6) مِيَاهِ الحُدَيْبِيَةِ، وَمَعَهُمُ العُوْذُ المَطَافِيلُ (¬7)، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ ¬

_ (¬1) وفي رواية ابن ماجه: يوم الحديبية. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 219): أي مطر، وأطلق عليه سَمَاء لكونه ينزل من جهة السماء، وكل جهة علو تسمى سماء. في رواية الحاكم: وأصابهم مطر. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20707) - وابن ماجه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب الجماعة في الليلة المطيرة - رقم الحديث (936) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الجمعة - باب الصلاة في الرحال - رقم الحديث (1124). (¬4) أسلَمَ بُدَيلُ بن وَرْقَاء -رضي اللَّه عنه- قبل الفتح، وقيل يوم الفتح، وكان من كِبَارِ مَسْلَمَةِ الفتح عمرًا وشهد مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُنَين والطائف وتَبُوك. انظر الإصابة (1/ 409). (¬5) العَيْبَة: موضعُ السِّرِّ والأمانة، أي صُدُورهم نقية من الغل والخِداع لرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر النهاية (3/ 295). (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 686): الأَعْدَادُ: بالفتح جمعُ عِدٍّ بكسر العين وتشديد الدال، وهو الماء الذي لا انقطاع له، وقول بُديل هذا يشعر بأنه كان بالحديبية مِياه كثيرة، وأن قريشًا سبقوا إلى النزول عليها، فلهذا عَطِشَ المسلمون حيث نزلوا علي الثَّمد المذكور. (¬7) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 686) العُوْذُ: بضم العين وسكون الواو: جمع عَائِذٍ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافِيلُ: الأمهات اللاتي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات =

وَصَادُّوكَ عَنِ البَيْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ (¬1) الحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ، فَإِنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرُ فَإِنْ شَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا (¬2)، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أمْرَهُ". فَقَالَ بدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ. فَانْطَلَقَ بدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ خُزَاعَةَ حَتَّى أَتَوْا قُرَيْشًا فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا جِئْنَاكُمْ مِنَ هَذَا الرَّجُلِ، وسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا، فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرُونَا عَنْهُ بِشَيْءٍ. وَقَالَ ذَوُو الرَّأْي مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ لَهُمْ بدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، إِنَّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا البَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحَقِّهِ. ¬

_ = الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه. (¬1) نَهَكَتْهُم: أي أضْعَفَتْهم. انظر فتح الباري (5/ 686). (¬2) جَمُّوا: بفتح الجيم وتشديد الميم: أي استراحوا وكثروا. انظر النهاية (1/ 290). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732).

* رسل قريش إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-

فَاتَّهَمُوهُمْ (¬1)، وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا جَاءَ لِذَلِكَ، فَلَا وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهَا أَبَدًا عَلَيْنَا عَنْوَةً (¬2)، وَلَا تَتَحَدَّثُ بِذَلِكَ العَرَبُ (¬3). * رُسُلُ قُرَيْشٍ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: * أَوَّلُهُمْ مِكْرَزُ (¬4) بنُ حَفْصٍ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِكْرَزَ بنَ حَفْصٍ أَخَا عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُقْبِلًا قَالَ: "هَذَا رَجُلٌ فَاجِرٌ" (¬5)، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَلَّمَهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِبُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * ثَانِيهِمْ الحِلْسُ (¬6) بنُ عَلْقَمَةَ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الحِلْسَ بنَ عَلْقَمَةَ الكِنَانِيَّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، فَلَمَّا رَآهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "هَذَا مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 687): أي اتهموا بديلًا والذين معه، لأنهم -أي قريش- كانوا يعرفون ميل خزاعة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) عَنْوَة: أي قهرًا وغلبة. انظر النهاية (3/ 284). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 692): مِكْرَز: بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء، وهذا هو المعتمد. (¬5) هذه رواية البخاري في صحيحه. وفي رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 341) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غادر". (¬6) الحِلْس: بكسر الحاء وسكون اللام، وقيل الحُليس: مصغرًا. انظر فتح الباري (5/ 692).

* ثالثهم عروة بن مسعود الثقفي

البُدْنَ (¬1)، فَابْعَثُوهَا لَهُ" (¬2)، فَبَعَثُوا الهَدْيَ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءَ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِعْظامًا لِمَا رَأَى، فَقَالَ لَهُمْ: رَأَيْتُ البُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ البَيْتِ (¬3). فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيٌّ لَا عِلْمَ لَكَ (¬4). فَغَضِبَ الحِلْسُ بنُ عَلْقَمَةَ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ، أَيُصَدُّ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ، وَالذِي نَفْسُ الحِلْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلُّنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ أَوْ لَأَنْفِرَنَّ (¬5) بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا لَهُ: مَهْ! كُفَّ عَنَّا يَا حِلْسُ حَتَّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ (¬6). * ثَالِثُهُمْ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ: فَقَامَ عِنْدَ ذَلِكَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ عَلَى الكُفْرِ في ذَلِكَ ¬

_ (¬1) البُدْن: هي الإبل، سميت بَدَنَةً لعِظمها وسِمَنِها. انظر النهاية (1/ 108). (¬2) هذه رواية البخاري في صحيحه. وفي رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا من قومٍ يتأَلَّهُون، فابعَثُوا الهديَ في وَجْهِهِ". التألُّه: التنسُّك والتعبد. انظر لسان العرب (1/ 190). (¬3) هذه رواية البخاري في صحيحه. وفي رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (18910) قال: يا معشر قريش! قد رأيت ما لا يحل صده، الهدي في قلائده قد أُكل أوباره من طول الحبس عن مَحِلِّه. (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - وإسناده حسن. (¬5) الاستنفار: الاستنجاد والاستنصار. انظر النهاية (5/ 79). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (3/ 341) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 289).

الوَقْتِ- فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَا يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ تَبْعَثُونَ إِلَى مُحَمَّدٍ إِذَا جَاءَكُمْ مِنَ التَّعْنِيفِ وَسُوءِ اللَّفْظِ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ وَالِدٌ وَأَنِّي وَلَدٌ (¬1)، وَقَدْ سَمِعْتُ بِالذِي نَابَكُمْ (¬2)، فَجَمَعْتُ مَنْ أطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي، ثُمَّ جِئْتُ حَتَّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي، قَالُوا: صَدَقْتَ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتَّهَمٍ (¬3). ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ: فَإِنَّ هَذَا (¬4) قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ اقْبَلُوهَا، ودَعُونِي آتِيهِ، قَالُوا: ائْتِهِ، فَخَرَجَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عُرْوَةُ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا مُحَمَّدُ! أَجَمَعْتَ أَوْبَاشَ (¬5) النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِهِمْ لِبَيْضَتِكَ (¬6) لِتَفُضَّهَا (¬7)؟ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ عُرْوَةُ: أَيْ مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 688): أي أنكم حيٌّ قد ولدوني في الجملة لكون أمي منكم، وأمه هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف. (¬2) النائبة: المصيبة. انظر لسان العرب (14/ 318). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن - وأصله في صحيح البخاري - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732). (¬4) أي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن - وفي رواية الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2731) (2732): أشواب قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 689): الأوباشُ: الأخلاط من السَّفَلة. والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، فالأوباش أخصُّ من الأشواب. (¬6) بيضَةُ الرجل: أهلُهُ وعشِيرَته. انظر النهاية (1/ 169). (¬7) لتَفُضَّهَا: أي لتَكْسِرَها. انظر النهاية (3/ 406). وأخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن.

قَوْمِكَ، هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجْتَاحَ (¬1) أهْلَهُ قَبْلَكَ (¬2)؟ إِنَّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا العُوْذُ المَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النُّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللَّهَ أَنْ لَا تَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا، وَأَيْمُ اللَّهِ، لَكَأَنِّي بِهَؤُلَاءَ (¬3) قَدِ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ عُرْوَةُ: فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرَى وُجُوهًا، وَإِنِّي لَأَرَى أَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا (¬5) أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ (¬6). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ جَالِسًا خَلْفَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ (¬7)، أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟ (¬8). ¬

_ (¬1) اجتاحَ: استأصله. انظر لسان العرب (2/ 409). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732). (¬3) أي الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الذين مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. (¬5) خَليقًا: أي حريًا. انظر لسان العرب (4/ 197). (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732). (¬7) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 689): البَظْرُ: بفتح الباء وسكون الظاء: قطعَةٌ تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللَّات: اسم أحَدِ الأصنام التي كانت قُرَيش وثقيف يعبُدُونَها، وكانت عادةُ العرب الشَّتم بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر -رضي اللَّه عنه- المبالغة في سَبِّ عروة بإقامة مَنْ كان يعبد مقام أُمِّه، وحمله علي ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفِرَار، وفيه جواز النُّطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زَجْرِ من بَدَا منه ما يستحق به ذلك. (¬8) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم =

فَقَالَ عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ"، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا يَدٌ (¬1) كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ (¬2) بِهَا لَأَجَبْتُكَ (¬3). ثُمَّ جَعَلَ عُرْوَةُ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يُكَلِّمُهُ، وَالمُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه- وَاقِف عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ المِغْفَرُ (¬4)، فَقَرَعَ يَدَ عُرْوَةَ بِنَعْلِ (¬5) السَّيْفِ، ثُمَّ قَالَ: أَمْسِكْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكَ. فَقَالَ عُرْوَةُ لِلْمُغِيرَةِ: وَيْحَكَ، مَا أَفَظَّكَ وَأَغْلَظَكً! فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَاَل لَهُ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا ابْنُ أَخِيكَ المُغِيرَةُ بنُ شُعْبَةَ". قَالَ عُرْوَةُ: أَيْ غُدَرُ (¬6)، وَهَلْ غَسَلْتَ سَوْأَتَكَ إِلَّا بِالْأَمْسِ (¬7). ¬

_ = الحديث (2731) - (2732). (¬1) اليد أي نعمة. انظر فتح الباري (5/ 691). (¬2) لم أجْزِكَ بها: أي لم أكَافِئْكَ بها. انظر فتح الباري (5/ 691). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910). (¬4) المِغْفَر: ما يلبسُه الدارع على رأسه. انظر النهاية (3/ 336). (¬5) نَعْلُ السيف: هي الحَدِيدَة التي تكون في أسفَلِ القِراب. انظر النهاية (5/ 70). (¬6) غُدَر: بضم الغين بوزن عُمَر، وهي كلمة تستخدم في المبالغة في وصفه بالغدر. انظر فتح الباري (5/ 691). (¬7) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن.

* حب لا مثيل له

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ عُرْوَةُ: أَلسْتُ أَسْعَى في غَدْرَتِكَ (¬1). وَكَانَ المُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا في الجَاهِلِيَّةِ فَقتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ. فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا الإِسْلَامُ فَأَقْبِلُ، وَأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شَيْءٍ" (¬2). ثُمَّ كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُرْوَةَ بِمِثْلِ مَا كَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا (¬3). * حُبٌّ لَا مَثِيلَ لَهُ: ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ (¬4) أصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَيْنَيْهِ، فَمَا تَنَخَّمَ رَسُولُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2731) - (2732). (¬2) ذكر ابن سعد في طبقاته (4/ 461): أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قَتَل ثلاثة عشر رجلًا من بني مالك من ثَقيف، كان وَفِدَ هو وإياهُمْ مِصْرَ علي المُقَوْقِسِ، فأحسَنَ إليهم وأعطاهم وقَصَّر بالمغيرة، فحصلت له الغيرة منهم، فلما كانوا بالطريق شَرِبُوا الخمر، فلما سَكِرُوا وناموا، وثَبَ عليهم المغيرة فقتلهم وأخَذَ أموالهم، ثم قدم المدينة وأسْلَمَ، فقال له الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: أما الإسلام فأقْبَل، وأما المال فلستَ منه في شيء، وبلغ ذلك ثقيفًا فتهايَجَ الحَيَّان من ثقيف: بنو مالكٍ رهط المقتولين، والأحلاف رهْطُ المغيرة، فودى عُرْوَةُ المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر. فهذا معنى قول عروة بن مسعود: ألست أسعى في غدرتك. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732) والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910). (¬4) يَرْمُق: بضم الميم أي ينظر. انظر لسان العرب (5/ 318).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا (¬1) أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ (¬2) إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ (¬3) عَلَى المُلُوكِ، وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ (¬4)، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ يَتَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءٍ أَبَدًا، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا، فَرَوْا رَأْيَكُمْ (¬5). ¬

_ (¬1) يُقال: ابتَدَر القوم أمرًا: أي سابق بعضهم بعضًا إليه. انظر لسان العرب (1/ 340). (¬2) قال الحافظ في الفتح (5/ 691): يُحِدُّون: بضم الياء وكسر الحاء: أي يُديمون. (¬3) وفد عليه: إذا قَدِم عليه. انظر لسان العرب (15/ 353). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 691): ذكر الثلاثة لكونهم أعظم ملوك ذلك الزمان. وفي قِصَّة عروة بن مسعود من الفوائد: أ- ما يدُلُّ علي جودة عقله ويقظته. ب- وفيه ما كان عليه الصحابه من المبالغة في تعْظِيم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وتوقِيرِه، ومراعاةِ أموره وردعِ من جَفَا عليه بقول أو فعل. ج - وفيه التبرُّك بآثاره -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) - (2732) وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910).

* إرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- حراش بن أمية -رضي الله عنه- لقريش

فَقَالُوا: نَرُدُّهُ عَنِ البَيْتِ في عَامِنَا هَذَا، ويَرْجعُ مِنْ قَابِلٍ، فَيَدْخُلُ مَكَّةَ وَيَطُوفُ بِالبَيْتِ (¬1). * إِرْسَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِرَاشَ بنَ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- لِقُرَيْشٍ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرَادَ أَنْ يُؤَكِّدَ لِقُرَيْشٍ هَدَفَهُ لِهَذِهِ الزِّيَارَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ القِتَالَ، فَبَعَثَ خِرَاشَ بنَ أُمَيَّةَ الخُزَاعِيَّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ: "الثَّعْلَبُ"، فَلَمَّا دَخَلَ خِرَاشٌ -رضي اللَّه عنه- مَكَّةَ لِيُبَلِّغَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقَرَتْ (¬2) بِهِ قُرَيْشٌ، وَأَرَادُوا قَتَلَهُ، فَمَنَعَهُمُ الأَحَابِيشُ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، وَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ (¬3). * إِرْسَالُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- لِيَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَيُبَلِّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إِيَّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنْ أَدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ هُوَ أَعَزُّ مِنِّي، عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، فَبَعَثَهُ إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 297). (¬2) عَقَرت به: إذا قتلت مركوبه وجعلته رَاجلًا. انظر النهاية (3/ 246). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن.

* إشاعة مقتل عثمان -رضي الله عنه- وبيعة الرضوان

لَمْ يَأْتِ لِحَرْبٍ، وَأَنَّهُ جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، مُعَظِّمًا لِحُرْمَتِهِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أتَى مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ (¬1) بنُ سَعِيدِ بنِ العَاصِ، فنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَدِفَ خَلْفَهُ، وَأَجَارَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلَّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما أَرْسَلَهُ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالُوا لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَطُوفَ بِالبَيْتِ، فَطُفْ بِهِ، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * إِشَاعَةُ مَقْتَلِ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- وَبَيْعَةُ الرِّضْوَانِ: وَاحْتَبَسَتْ قُرَيْشٌ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَهَا -وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَتَشَاوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ في الوَضْعِ الرَّاهِنِ، وَيَرَوْا أَمْرَهُمْ، ثُمَّ يَرُدُّوا عُثْمَانَ بِجَوَابٍ إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَطَالَ الِاحْتِبَاسُ، فَشَاعَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ في لَمَّا بَلَغَتْهُ الإِشَاعَةُ: "لَا نَبْرَحُ (¬4) حَتَّى نُنَاجِزَ (¬5) القَوْمَ"، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أسلم أبانُ بن سعيدٍ -رضي اللَّه عنه- بعد الحديبية. (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5771) - وإسناده حسن. (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - وإسناده حسن - وابن إسحاق في السيرة (3/ 344). (¬4) لا نَبْرَحُ: أي لا نُفَارِق. انظر لسان العرب (1/ 361). (¬5) المُنَاجَزَة: المبارزة والمقاتلة. انظر لسان العرب (14/ 53).

* أول من بايع

النَّاسَ إِلَى البَيْعَةِ، فَثَارَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَايَعُوهُ (¬1). * أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسًا تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَكَانَ يَقَعُ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ عَلَى ظَهْرِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، فَكَانَ مَعْقِلُ بنُ يَسَارٍ -رضي اللَّه عنه- رَافِعًا غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو سِنَانٍ عَبْدُ اللَّهِ بنُ وَهْبٍ الأَسَدِيُّ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ تَتَابَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (¬4). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ أَبُو سِنَانٍ الأَسَدِيُّ (¬5). * عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَايَعَ قَبْلَ أَبِيهِ: وَكَانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَسْتَعِدُّ لِلْقِتَالِ بِلُبْسِ لَأْمَتِهِ (¬6)، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ رَأَى النَّاسَ مُحْدِقُونَ (¬7) بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَرْسَلَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 344) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 298) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 134). (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16800) وإسناده صحيح. (¬3) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام الجيش - رقم الحديث (1858). (¬4) انظر الإصابة (7/ 162) - سيرة ابن هشام (3/ 345). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1689). (¬6) اللَّأَمة: الدرع، وقيل: السلاح. انظر النهاية (4/ 191). (¬7) كل شيء استدار بشيءٍ وأحاط به، فقد أحدق به. انظر لسان العرب (3/ 87).

* سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- بايع ثلاث مرات

لِيَنْظُرَ مَا شَأْنُ النَّاسِ، فَذَهَبَ ابنُ عُمَرَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَايِعُ النَّاسَ، فَبَايَعَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ رَجَعَ وَأَخْبَرَ أَبَاهُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، فَذَهَبَ يُبَايِعُ. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يتَحَدَّثُونَ أَنَّ ابنَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى فَرَسٍ لَهُ عِنْدَ رَجُل مِنَ الأَنْصَارِ يَأْتِي بِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَايِعُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ، وَعُمَرُ -رضي اللَّه عنه- لَا يَدْرِي بِذَلِكَ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الفَرَسِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى عُمَرَ، وَعُمَرُ يَسْتَلْئِمُ (¬1) لِلْقِتَالِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَايِعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- بَايَعَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: وَبَايَعَ سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، في أَوَّلِ النَّاسِ، وَوَسَطِهِمْ وَآخِرِهِمْ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الحَدِيثَ وَفِيهِ: . . . ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ في أَصْلِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ، ثُمَّ بَايَعَ وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ في وَسَطٍ مِنَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 228) في يستَلْئِم: أي يلبس اللأمة وهي السلاح. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4186) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6604).

النَّاسِ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَايِعْ يَا سَلَمَةُ"! قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! في أَوَّلِ النَّاسِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- "وَأَيْضًا"، قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَزْلًا -يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ- قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَجَفَةً (¬1) أَوْ دَرَقَةً (¬2)، ثُمَّ بَايَعَ حَتَّى إِذَا كَانَ في آخِرِ النَّاسِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ! "، قُلْتُ قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ في أَوَّلِ النَّاسِ، وَفِي أَوْسَطِ النَّاسِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَيْضًا"، قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا سَلَمَةُ! أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقتُكَ التِي أَعْطَيْتُكَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرًا عَزِلًا، فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "إِنَّكَ كَالذِي قَالَ الأَوَّلُ: اللَّهُمَّ! أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" (¬3). قَالَ ابنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الحَافِظُ في الفَتْحِ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُؤَكِّدَ بَيْعَةَ سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- لِعِلْمِهِ بِشَجَاعَتِهِ وَعَنَائِهِ في الإِسْلَامِ، وشُهْرَتِهِ بِالثَّبَاتِ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُ بِتَكْرِيرِ المُبَايَعَةِ لِيَكُونَ لَهُ في ذَلِكَ فَضِيلَةً (¬4). ¬

_ (¬1) الحَجَفة: بفتح الحاء الترس من الجلود خاصة. انظر النهاية (1/ 333)، لسان العرب (3/ 63). (¬2) الدرقة: هي الجحفة، وهي ترس من جلود. انظر لسان العرب (4/ 333). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذي قرد وغيرها - رقم الحديث (1807). (¬4) انظر فتح الباري (15/ 111).

* بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عثمان -رضي الله عنه-

وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا بَادَرَ إِلَى المُبايَعَةِ ثُمَّ قَعَدَ قَرِيبًا، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ يُبَايِعُونَ إِلَى أَنْ خَفُّوا، أَرَادَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُ أَنْ يُبَايِعُ لِتَتَوَالَى المُبايَعَةُ مَعَهُ وَلَا يَقَعَ فِيهَا تَخَلُّلٌ؛ لِأَنَّ العَادَةَ في مَبْدَأ كُلِّ أَمْرٍ أَنْ يَكْثُرَ مَنْ يُبَاشِرُهُ فَيَتَوَالَى، فَإِذَا تَنَاهَى قَدْ يَقَعُ بَيْنَ مَنْ يَجِيءُ آخِرًا تَخَلُّلٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اخْتِصَاصُ سَلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- بِمَا ذُكِرَ، وَالوَاقِعُ أَنَّ الذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابنُ بَطَّالٍ مِنْ حَالِ سَلَمَةَ في الشَّجَاعَةِ وَغَيْرِهَا لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ بَعْدُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ في "غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ" (¬1)، حَيْثُ اسْتَعَادَ السَّرْحَ (¬2) الذِي كَانَ المُشْرِكُونَ أغَارُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ آخِرَ أَمْرِهِ أَنْ أَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَهْمَ الفَارِسِ وَالرَّاجِلِ، فَالأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: تَفَرَّسَ فِيهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ فَبَايَعَهُ مَرَّتَيْنِ (¬3). * بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أخَذَ بِيَدِهِ اليُمْنَى وَقَالَ: "هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ"، فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ اليُسْرَى، وَقَالَ: "هَذِهِ لِعُثْمَانَ" (¬4). فَنَالَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- بِذَلِكَ فَضْلَ البَيْعَةِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: ¬

_ (¬1) ستأتي غزوة ذي قرد إن شاء اللَّه. (¬2) السَّرح: الماشية. انظر النهاية (2/ 322). (¬3) انظر فتح الباري (15/ 111). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب مناقب عثمان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3699).

* علام كانت البيعة

لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، كَانَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ عُثْمَانَ في حَاجَةِ اللَّهِ وَحَاجَةِ رَسُولهِ"، فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى، فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ (¬1). * عَلَامَ كَانَتِ البَيْعَةُ: اخْتُلِفَ في عَلَامَ كَانَتِ البَيْعَةُ، فَقِيلَ: عَلَى المَوْتِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى المَوْتِ (¬2). وَقِيلَ كَانَتْ عَلَى عَدَمِ الفِرَارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمْ نُبَايِعُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَوْتِ، إِنَّمَا بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ في صَحِيحِهِ عَنْ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب مناقب عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4035) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6477) - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4169) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1860). (¬3) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1856) (68).

* الكل بايع إلا الجد بن قيس

لَمْ نُبَايِعْهُ -أَي الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَحَاصِلُ الجَمْعِ أَنَّ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّ البَيْعَةَ كَانَتْ عَلَى المَوْتِ أَرَادَ لَازِمَهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَايَعَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرَّ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ، وَالذِي يَثْبُتُ إِمَّا أَنْ يَغْلِبَ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْسَرَ، وَالذِي يُؤْسَرُ إِمَّا أَنْ يَنْجُوَ وَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ، وَلَمَّا كَانَ المَوْتُ لَا يُؤْمَنُ في مِثْلِ ذَلِكَ أَطْلَقَهُ الرَّاوِي، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَحَدَهُمَا حَكَى صُورَةَ البَيْعَةِ، وَالآخَرُ حَكَى مَا تَؤُولُ إِلَيْهِ (¬2). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَعْنَى كِلَا الحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ، قَدْ بَايَعَهُ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى المَوْتِ، وَبَايَعَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا (¬3). * الكُلُّ بَايَعَ إِلَّا الجَدَّ (¬4) بنَ قَيْسٍ: وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ هَذِهِ البَيْعَةِ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ حَضَرَهَا، إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ هُوَ الجَدُّ بنُ قَيْسٍ وَكَانَ مُنَافِقًا، وَكَانَ لَهُ جَمَلٌ أَحْمَرُ، فَكَانَ يَخْتَبِئُ خَلْفَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُدْعَى لِلْبَيْعَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . وَكُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ، إِلَّا صَاحِبَ الجَمَلِ الأَحْمَرِ"، فَأَتَيْنَاهُ فَقُلْنَا لَهُ: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: وَاللَّهِ! ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1858). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 220). (¬3) انظر جامع الترمذي (3/ 416). (¬4) قَالَ الحَافِظ في الفَتْحِ (5/ 486): الجَدّ بفتح الجيم وتشديد الدال.

* نبذة عن الجد بن قيس

لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً لَهُ (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فَبَايَعْنَاهُ -أَيْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرَ جَدِّ بنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ اخْتَبَأَ تَحْتَ بَطْنِ بَعِيرِهِ (¬2). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيَدْخُلَنَّ الجَنَّةَ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إِلَّا صَاحِبَ الجَمَلِ الأَحْمَرِ" (¬3). * نُبْذَةٌ عَنِ الجَدِّ بنِ قَيْسٍ: وَالجَدُّ بنُ قَيْسٍ هَذَا مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ (¬4) قَدْ سَادَ في الجَاهِلِيَّةِ جَمِيعَ بَنِي سَلِمَةَ، فَانتزَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُ السِّيَادَةَ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ عَمْرَو بنَ الجَمُوحِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟ ". قُلْنَا: جَدُّ بنُ قَيْسٍ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2880). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1856) (69). (¬3) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب فيمن يسُبُّ أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4201) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6740). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (2/ 356): سَلِمة بكسر اللام، وهم بطن كبير من الأنصار، ثم من الخزرج.

بَلْ سَيِّدُكُمْ عَمْرُو بنُ الجَمُوحِ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ؟ ". قَالُوا: سَيِّدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ جَدُّ بنُ قَيْسٍ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِمَ سَوَّدْتُمُوهُ؟ ". قَالُوا: بِأَنَّهُ أَكْثَرُنَا مَالًا، وَإِنَّا عَلَى ذَلِكَ لَنَزُنُّهُ (¬2) بِالبُخْلِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخْلِ؟ ، لَيْسَ ذَاكَ سَيِّدُكُمْ". قَالُوا: فَمَنْ سَيِّدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَيِّدُكُمْ بِشْرُ بنُ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ" (¬3). قُلْتُ: وَقَدْ جَمَعَ الحَافِظُ في الفَتْحِ بَيْنَ هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ، فَحَمَلَ قِصَّةَ بِشْرِ بنِ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ اسْتِشْهَادِ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ -رضي اللَّه عنه- في غَزْوَةِ أُحُدٍ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (296) - وانظر حاشية شرح مشكل الآثار (14/ 152). (¬2) لَنَزُنُّهُ: أي نتهمه. انظر النهاية (2/ 285). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5538) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب بِشْرِ بن البراء بن معرور -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5018). (¬4) انظر فتح الباري (5/ 487).

* فضل من شهد بيعة الرضوان

* فَضْلُ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ: جَاءَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ في فَضْلِ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَالتِي عُرِفَتْ بِاسْمِ "بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ"؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ رَضِيَ عَنْ أَصْحَابِهَا فَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ" (¬1). وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ: "أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ" (¬2). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: هَذَا صَرِيحٌ في فَضْلِ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، فَقَدْ كَانَ مِنَ المُسْلِمِينَ إِذْ ذَاكَ جَمَاعَةٌ بِمَكَّةَ، وَبِالمَدِينَةِ، وَبِغَيْرِهِمَا (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ عَبْدًا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14778) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر البيان بأن شهود الحديبية إنما كان البيعة تحت الشجرة - رقم الحديث (4802). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4154) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1856) (71). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 211).

لِحَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالحُدَيْبِيَةَ" (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أُمِّ مُبشِّرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ الذِين بَايَعُوا تَحْتَهَا". فَقَالَتْ حَفْصَةُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَانتهَرَهَا، فَقَالَتْ حَفْصَةُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (¬2)، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} " (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . وَكُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ، إِلَّا صَاحِبَ الجَمَلِ الأَحْمَرِ" (¬4). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2495) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14484). (¬2) سورة مريم آية (71). (¬3) سورة مريم آية (72) - والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أصحاب الشجرة - رقم الحديث (2496) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27362). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2880).

الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الحُدَيْبِيَةِ قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُوقِدُوا نَارًا بِلَيْلٍ"، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: "أَوْقِدُوا، وَاصْطَنِعُوا (¬1)، فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ قَوْمٌ بَعْدَكُمْ صَاعَكُمْ وَلَا مُدَّكُمْ" (¬2). فَهَذِهِ مَكَانَةُ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْتَهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬3). وَإِنَّنِي لَأُحَاوِلُ اليَوْمَ مِنْ وَرَاءَ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ عَامٍ أَنْ أَسْتَشْرِفَ تِلْكَ اللَّحْظَةَ القُدْسِيَّةَ التِي شَهِدَ فِيهَا الوُجُودُ كُلُّهُ ذَلِكَ التَّبْلِيغَ العُلْوِيَّ الكَرِيمَ مِنَ اللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ إِلَى رَسُولهِ الأَمِينِ عَنْ جَمَاعَةِ المُؤْمِنِينَ. . . أُحَاوِلُ أَنْ أَسْتَشْرِفَ صَفْحَةَ الوُجُودِ في تِلْكَ اللَّحْظَةِ وَضَمِيرَهُ المَكْنُونَ، وَهُوَ يَتَجَاوَبُ جَمِيعُهُ بِالقَوْلِ الإِلَهِيِّ الكَرِيمِ، عَنْ أُولَئِكَ الرِّجَالِ القَائِمِينَ إِذْ ذَاكَ في بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا الوُجُودِ. . . وَأُحَاوِلُ أَنْ أَسْتَشْعِرَ بِالذَّاتِ شَيْئًا مِنْ حَالِ أُولَئِكَ السُّعَدَاءَ الذِينَ يَسْمَعُونَ بِآذَانِهِمْ، أَنَّهُمْ هُمْ، بِأَشْخَاصِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، يَقُولُ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَقَدْ رَضِيَ ¬

_ (¬1) واصطَنِعُوا: أي اتَّخِذُوا صَنِيعًا، يعني طعامًا تنفقونه في سبيل اللَّه. انظر النهاية (3/ 52). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11208) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب ذكر غزوة خيبر - رقم الحديث (4392) - وأورده الحافظ في الفتح (8/ 211) وحسن إسناده. (¬3) سورة الفتح آية (18).

* مصير الشجرة

عَنْهُمْ، وَيُحَدِّدُ المَكَانَ الذِي كَانُوا فِيهِ، وَالهَيْئَةَ التِي كَانُوا عَلَيْهَا حِينَ اسْتَحَقُّوا هَذَا الرِّضَى: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. . . يَسْمَعُونَ هَذَا مِنْ نَبِيِّهِمُ الصَّادِقِ المَصْدُوقِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى لِسَانِ رَبِّهِ العَظِيمِ الجَلِيلِ. يَاللَّهِ! كَيْفَ تَلَقَّوْا -أُولَئِكَ السُّعَدَاءُ- تِلْكَ اللَّحْظَةَ القُدْسِيَّةَ وَذَلِكَ التَّبْلِيغَ الإِلَهِيَّ؟ التَّبْلِيغَ الذِي يُشِيرُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ، في ذَاتِ نَفْسِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ. أَنْتَ بِذَاتِكَ. يُبَلِّغُكَ اللَّهُ. لَقَدْ رَضِيَ عَنْكَ. وَأَنْتَ تُبَايِعُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ! وَعَلِمَ مَا في نَفْسِكَ. فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْكَ (¬1). * مَصِيرُ الشَّجَرَةِ: أَمَّا الشَّجَرَةُ التِي تَمَّتِ الْبَيْعَةُ تَحْتَهَا فَقَدْ أَخْفَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ النَّاسِ، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا -وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ- عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْتَ الشَّجَرَةِ (¬2)، فَقَالَ: انْطَلَقْنَا في قَابِلٍ (¬3) حَاجِّينَ، فَخَفِيَ (¬4) عَلَيْنَا مَكَانُهَا، فَإِنْ كَانَتْ بُيَّنَتْ لَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (6/ 3326) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) زاد الإمام أحمد في مسنده: بيعة الرضوان. (¬3) أي في العام القادم. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري، قال المسيب: فلما خرجنا من العام المقبل. (¬4) وفي رواية أخرى في صحيح البخاري، قال المسيب: نَسِينَاها. وفي رواية ثالثة عند الإمام أحمد في مسنده، قال: فَعَمي. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث =

* رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ التِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، فَكَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَالحِكْمَةُ في إِخْفَائِهَا أَنْ لَا يَحْصُلَ بِهَا افْتِنَانٌ لِمَا وَقَعَ تَحْتَهَا مِنَ الخَيْرِ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَمَا أُمِنَ تَعْظِيمُ بَعْضِ الجُهَّالِ لَهَا حَتَّى رُبَّمَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّ لَهَا قُوَّةَ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ كَمَا نراهُ الآنَ مُشَاهَدًا فِيمَا هُوَ دُونَهَا (¬2). * رِوَايَةُ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَجَاءَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا يُخَالِفُ مَا ثَبَتَ عَنِ المُسَيَّبِ بنِ حَزْنٍ وَالِدِ سَعِيدٍ، فَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيهِمَا عَنْهُ -رضي اللَّه عنه- أَّنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ اليَوْمَ (¬3) لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ (¬4). ¬

_ = (4163) - (4164) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1859) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23675). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب البيعة في الحرب - رقم الحديث (2958). (¬2) انظر فتح الباري (6/ 220). (¬3) يعني أنَّه عَمِّي في آخر عمره -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4154) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب استحباب مبايعة الإمام - رقم الحديث (1856) (71).

* رجوع عثمان -رضي الله عنه-

قُلْتُ: لَعَلَّ جَابِرًا -رضي اللَّه عنه- إِنَّمَا قَالَ مَا قَالَ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ يَظُنُّهُ مِنْ مَوْضِعِ الشَّجَرَةِ، وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ التِي تَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهَا هِيَ التِي تَمَّتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَهَا قَدْ أَمَرَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- في خِلَافَتِهِ بِقَطْعِهَا، فَقَدْ رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صحِيحٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ التِي يُقَالُ لَهَا: شَجَرَةَ الرِّضْوَانِ التِي بُويِعَ تَحْتَهَا فيصَلُّونَ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فَأَوْعَدَهُمْ فِيهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ (¬1). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الغَزَالِي: وَقَدْ قُطِعَتِ الشَّجَرَةُ وَنُسِيَ مَكَانُهَا، وَذَلِكَ خَيْرٌ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَضُرِبَتْ عَلَيْهَا قُبَةٌ، وَشُدَّتْ إِلَيْهَا الرِّحَالُ، فَإِنَّ الرِّعَاعَ (¬2) سِرَاعُ التَّعَلُّقِ بِالمَوَادِّ وَالآثَارِ التِي تَقْطَعُهُمْ عَنِ اللَّهِ (¬3). * رُجُوعُ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمَّا تَمَّتِ البَيْعَةُ رَجَعَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى المُسْلِمِينَ. * مَاذَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ لَمَّا عَلِمَتْ بِهَذِهِ البَيْعَةِ؟ : وَلَمَّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِهَذ البَيْعَةِ خَافُوا، وَرَغِبَ أَهْلُ الرَّأْي فِيهِمْ بِالصُّلْحِ، بَيْنَمَا رَأَى بَعْضُهُمُ اللُّجُوءَ إِلَى الحَرْبِ فَقَرَّرُوا أَنْ يَتَسَلَّلُوا لَيْلًا إِلَى مُعَسْكَرِ المُسْلِمِينَ، ويُحْدِثُوا أَحْدَاثًا تُشْعِلُ نَارَ الحَرْبِ، فَخَرَجَ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 299) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح (8/ 218). (¬2) الرِّعَاعُ من الناس: بكسر الراء هم غَوْغَاءهم وسُقّاطهم. انظر النهاية (2/ 214). (¬3) انظر فقه السيرة ص 330 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* كتابة الصلح وبنوده

مُتَسَلِّحِينَ، فَهَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، وَحَاوَلُوا التَّسَلُّلَ إِلَى مُعَسْكَرِ المُسْلِمِينَ لِيُصِيبُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، أَوْ يَجِدُوا مِنْهُمْ غِرَّةً (¬1)، غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَائِدَ حَرَسِ المُسْلِمِينَ كَانَ مُتيَقِّظًا، فَأَسَرُوا الثَّمَانِينَ رَجُلًا جَمِيعًا (¬2)، فَأَتَى بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ جِئْتُمْ في عَهْدِ أَحَدٍ، أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ ". قَالُوا: لَا، فَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبِيلَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ جَمِيعًا، رَغْبَةً مِنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصُّلْحِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬3). * كِتَابَةُ الصُّلْحِ وَبُنُودُهُ: وَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ بَعَثَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُهَيْلَ بنَ عَمْرٍو، وَمَعَهُ حُوَيْطِبُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، وَمِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، وَقَالُوا لَهُ: ائْتِ مُحَمَّدًا فَصَالِحْهُ، وَلَا يَكُونُ في صُلْحِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجعَ عَنَّا عَامَهُ هَذَا، فَوَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ عَنَّا، ¬

_ (¬1) غِرَّة: بكسر الغين أي غفلة. انظر النهاية (3/ 318). (¬2) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16800). قال عبدُ اللَّه بن مغفل المُزَني -رضي اللَّه عنه-: فثاروا في وجوهنا -أي هؤلاء الثمانون رجلًا من الكفار- فَدَعَا عليهم رَسُول اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، فأخذ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بأبصارهم، فقدمنا إليهم، فأخذناهم. (¬3) سورة الفتح آية (24) - والخبر أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذي قرد وغيرها - حيث رقم (1808) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12227) (16800) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (60).

أَنَّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً (¬1) أَبَدًا. فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "قَدْ سَهُلَ لَكُمْ أَمْرَكمْ، أَرَادَ القَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ"، فَلَمَّا انْتَهَى سُهَيْلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَكَلَّمَا، وَأَطَالَا الكَلَامَ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَرَاجَعَا بِهِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ البَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ". فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً (¬2)، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ العَامِ المُقْبِلِ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى شُرُوطِ الصُّلْحِ. ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، لِيَكْتُبَ الكِتَابَ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فَقَالَ سُهَيْل: أَمَّا "الرَّحْمَنُ"، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هِيَ، وَلَكِنْ اكْتُبْ "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ"، فَقَالَ المُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا مَا قَاضَى (¬3) عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ سُهَيْلَ بنَ عَمْرٍو"، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ البَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ (¬4)، وَلَكِنْ اكْتُبِ اسْمَكَ وَاسْمَ. . . . . ¬

_ (¬1) عَنْوَة: أي قهرًا. انظر النهاية (3/ 284). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 694): ضُغْطة: بضم الضاد وسكون الغين: أي قهرًا. (¬3) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (18910) قال: ما صالح. (¬4) في رواية الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1784) قال سهيل: لو علمنا أنك رَسُول اللَّهِ لاتَّبَعْنَاك.

أَبِيكَ (¬1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُوني"، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ: "امْحُهُ"، فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: لَا وَاللَّهِ! لَا أَمْحَاهَا (¬2). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرِنِي مَكَانَهَا"، فَمَحَاهَا بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "أَمَا إِنَّ لَكَ مِثْلَهَا، سَتَأْتِيهَا وَأَنْتَ مُضْطَرٌّ" (¬4). وَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مِنْ كِتَابَةِ الشُّرُوطِ، أَشْهَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الكِتَابِ رِجَالًا مِنَ المُسْلِمِينَ وَهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ، ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (2731) (2732) قال سهيل: ولكن اكتب محمد بن عبد اللَّه. (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (2699) قال علي -رضي اللَّه عنه-: لا واللَّه لا أمحوك أبدًا. وفي رواية أخرى في سنن النسائي الكبرى - رقم الحديث (8523) قال علي -رضي اللَّه عنه-: هو واللَّه رَسُول اللَّهِ، وإن رغم أنفك، ولا واللَّه لا أمْحُهَا. (¬3) أخرج الحديث: البخاري في صحيحه - كتاب الصلح - باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان ابن فلان - رقم الحديث (2698) (2699) - وأخرجه في كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1783) (1784) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) (18928). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 289): يشير -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ما وقع لعلي -رضي اللَّه عنه- يوم الحَكَمَيْنِ مع معاوية -رضي اللَّه عنه-، فكان كذلك. وأخرج ما وقع لعلي -رضي اللَّه عنه- يوم الحكمين مع معاوية -رضي اللَّه عنه- في مسنده الإمام أحمد - رقم الحديث (656) وإسناده حسن. وأخرج هذه الرواية النسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (8523).

* بنود صلح الحديبية

وَمُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَشَهِدَ مِنَ المُشْرِكِينَ: حُوَيْطِبُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، وَمِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، وَكُتِبَتْ هَذِهِ الشُّرُوطَ عَلَى نُسْخَتَيْنِ، نُسْخَةٍ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونُسْخَةٍ لِقُرَيْشٍ (¬1). * بُنُودُ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ: 1 - يَرْجعُ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَهُ هَذَا، فَلَا يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَإِذَا كَانَ العَامُ القَابِلُ دَخَلَهَا المُسْلِمُونَ، فَأَقَامُوا بِهَا ثَلَاثًا، مَعَهُمْ سِلَاحُ الرَّاكِبِ، وَهِيَ السُّيُوفُ في القُرُبِ (¬2)، وَلَا تَتَعَرَّضُ قُرَيْشٌ لَهُمْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الأَذَى (¬3). 2 - وَضْعُ الحَرْبِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهِنَّ النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ (¬4). 3 - مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، ومَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، وَتُعْتَبَرُ القَبِيلَةُ التِي تَنْضَمُّ إِلَى أَيِّ الفَرِيقَيْنِ جُزْءًا مِنْ ذَلِكَ الفَرِيقِ، فَأَيُّ عُدْوَانٍ تَتَعَرَّضُ لَهُ أَيٌّ مِنْ هَذِهِ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 298) - سيرة ابن هشام (3/ 348). (¬2) القُرُب: بضم القاف جمع قِرَابٍ بكسر القاف: وهو غِمْدُ السَّيْفِ. انظر لسان العرب (11/ 86). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلح - باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلانًا بن فلان - رقم الحديث (2699) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1783) (92) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن.

القَبَائِلِ يُعْتَبَرُ عُدْوَانًا عَلَى ذَلِكَ الفَرِيقِ. فتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ، فَقَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ في عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ (¬1). 4 - مَنْ أتَى مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا أَشَدَّ شَرْطٍ عَلَى المُسْلِمِينَ (¬2). 5 - أَنَّ بَيْنَنَا -أَيْ بَيْنَ الفَرِيقَيْنِ- عَيْبَةٌ مَكْفُوفَةٌ (¬3)، وأَنَّهُ لَا إِسْلَالَ (¬4)، وَلَا إِغْلَالَ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. وفي رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (1784): من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- قال: فاشترطوا علي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من جاء منكم -أي من المسلمين- لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا -أي من الكفار- رددتموه علينا. (¬3) أي بينهم صدرٌ نَقِيٌّ من الغِلِّ والخِداع، مطويٌّ علي الوفاء بالصُّلح، والمكفوفة: المُشرجة المشدودة. وقيل: أراد أن بينهم موادعة ومكافّة عن الحرب، تجريان مجرى المودة التي تكون بين المتصافين الذين يثق بعضهم إلى بعض. انظر النهاية (3/ 295). (¬4) الإسلال: السرقة. انظر النهاية (2/ 352). (¬5) الإغلال: الخِيَانَة. انظر النهاية (3/ 341). وأخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (2766) وإسناده حسن.

* رد أبي جندل -رضي الله عنه-

* رَدُّ أَبِي جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه-: وَبَيْنَمَا الكِتَابُ يُكْتَبُ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بنِ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ (¬1) في قُيُودِهِ مُتَوَشِّحًا (¬2) سَيْفَهُ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أسْفلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ المُسْلِمِينَ، فَلَمَّا رَأَى سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو ابْنَهُ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إِلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (¬3)، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ. فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّا لَمْ نَقْضِ الكِتَابَ بَعْدُ"، فَقَالَ سُهَيْل: فَوَاللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لم -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَجِزْهُ لِي" (¬4)، قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلَى فَافْعَلْ"، قَالَ سُهَيْلٌ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَقَالَ مِكْرَزٌ: بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ (¬5). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ قَالَ سُهَيْل لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ يَرْسُفُ في قيُودِهِ-: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ لَجَّتِ (¬6) القَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيكَ هَذَا. ¬

_ (¬1) الرسْفُ والرَّسيف: مَشْيُ المقّيد إذا جاء يتحامل برجله مع القيد. انظر النهاية (2/ 202). (¬2) تَوَشَّح بسيفه: أي لبسه. انظر لسان العرب (15/ 306). (¬3) يقال: أخذت بتلبيب فلانٍ: إذا جمعتُ عليه ثوبه الَّذي هو لابسه عند صدره ثم جَرَرْتُه. انظر النهاية (1/ 189). (¬4) أجِزْهُ لي: أعْطِهِ لي. انظر النهاية (1/ 303). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732). (¬6) لَجّت: بفتح اللام وتشديد الجيم: أي وجبت. انظر النهاية (4/ 201).

* موقف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من أبي جندل -رضي الله عنه-

فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقْتَ"، فَقَامَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو إِلَى ابْنِهِ أَبِي جَنْدَلٍ، فَأَخَذَهُ بِتَلْبِيبِهِ، وَيَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى قُرَيْشٍ (¬1). وَأَخَذَ أَبُو جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه- يَصْرَخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ؟ وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا في اللَّهِ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا مَعَاشِرَ المُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، فَيَفْتِنُونِي في دِينِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ" (¬3). * مَوْقِفُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَبِي جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه-: فَهُنَا وَثَبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه- وَجَعَلَ يَمْشِي إِلَى ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 695): وفي هذا الموقف أن الاعتبار في العقود بالقولِ ولو تأخَّرت الكتابة والإشهاد، ولأجل ذلك أمضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لسُهَيْل الأمر في رَدِّ ابنه إليه، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تلطّف معه بقوله: "لم نقض الكتاب بعد"، رجاء أن يُجيبه لذلك ولا يُنكره بقيّة قريش لكونه ولده، فلما أصَرَّ سهيل على الامتناع تركه له. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن.

* حزن المسلمين من شروط الصلح وموقف عمر -رضي الله عنه-

جَنْبِهِ وَيَقُولُ لَهُ: اصْبِرْ يَا أبَا جَنْدَلٍ، فَإِنَّمَا هُمُ المُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ، وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ (¬1) مِنْهُ، يَقُولُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ، فَضَنَّ (¬2) الرَّجُلُ بِأَبِيهِ، وَنَفَدَتِ القَضِيَّةُ (¬3). أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ (¬4)، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-صلى اللَّه عليه وسلم- لَرَدَدْتُهُ (¬5). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: ذَكَرَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ -رضي اللَّه عنه- مَا وَقَعَ لَهُمْ بِالحُدَيْبِيَةِ، وَأَنَّهُمْ رَأَوْا يَوْمَئِذٍ أَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى القِتَالِ وَيُخَالِفُوا مَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الصُّلْحِ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الأَصْلَحَ هُوَ الذِي كَانَ شَرَعَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ (¬6). * حُزْنُ المُسْلِمِينَ مِنْ شرُوطِ الصُّلْحِ وَمَوْقِفُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمْ يَكُنْ أَحَد مِنَ المُسْلِمِينَ رَاضِيًا عَلَى هَذَا الصُّلْحِ، إِلَّا أَبُو بَكْرٍ ¬

_ (¬1) قائِمُ السيف: مِقْبَضُه. انظر لسان العرب (11/ 358). (¬2) فَضَنَّ: أي بَخِلَ. انظر لسان العرب (8/ 94). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 420): أراد يومَ الحديبية، وإنما نسَبَهُ لأبي جندل، لأنه لم يكن فيه على المسلمين أشَدّ من قصته. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب (18) - رقم الحديث (3181) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4189) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1785) (95). (¬6) انظر فتح الباري (9/ 564).

الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، وَغَلَبَ عَلَيْهِمُ الحُزْنُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا مِنَ المَدِينَةِ وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ في دُخُولهِمْ مَكَّةَ، وَطَوَافِهِمْ بِالبَيْتِ لِلرُّؤْيَا التِي رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا رَأَوْا مِنَ الصُّلْحِ وَالرُّجُوعِ، وَعَدَمِ العُمْرَةِ هَذَا العَامِ، دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلَكُونَ، وَخُصُوصًا الشَّرْطُ الذِي يَقُولُ: مَنْ جَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ مُسْلِمًا يُرَدُّ إِلَى المُشْرِكِينَ. وَكَانَ أَشَدَّ المُسْلِمِينَ اسْتِيَاءً وَحُزْنًا مِنْ هَذَا الصُّلْحِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ لَمَّا الْتَأَمَ الأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الكِتَابُ، ذَهَبَ عُمَر -رضي اللَّه عنه- إِلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالَ لَهُ: أَلسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: "بَلَى". قَالَ عُمَرُ: أَلسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ (¬1)؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلَى" فَقَالَ عُمَرُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ (¬2) في دِينِنَا إِذًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي" (¬3) فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَّنا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ ¬

_ (¬1) زاد البخاري - رقم الحديث (3182) - ومسلم - رقم الحديث (1785) (95) - في صحيحيهما: قال عُمَرُ: أليس قتلَانا في الجنَّة وقَتْلَاهم في النار؟ . (¬2) الدَّنِيَّة: بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء أي الخصلة المذمومة. انظر النهاية (2/ 128). (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3182) قال رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمر: "يا ابن الخطاب إني رَسُول اللَّهِ، ولن يُضَيِّعَنِي اللَّه أبدًا".

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلَى، فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ العَامَ"؟ قَالَ عُمَرُ: لَا. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ". قَالَ عُمَرُ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَوَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. فَقَالَ عُمَرُ: أَلسْنَا عَلَى الحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى البَاطِلِ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى. فَقَالَ عُمَرُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا إِذًا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ (¬1) فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الحَقِّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَليْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ العَامَ؟ قَالَ عُمَرُ: لَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: فَإِنَّكَ آتِيهَ وَمُطَوِّفٌ بِهِ (¬2). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 697): الغَرْزُ: بفتح الغين وسكون الراء، والمراد به التمسُّك بأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك المخالفة له. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم =

قُلْتُ: هَكَذَا وَقَعَ في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلًا ثُمَّ أَتَى بَعْدَهُ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَوَقَعَ في مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (¬1) بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أتَى أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- أَوَّلًا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الأَوْلَى، ويُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ المَحْفُوظَ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِعُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَقُولَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْلًا فَلَا يَرْضَى بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ أبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَتْحٌ هُوَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَطَابَتْ نَفْسُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- (¬2). ¬

_ = الحديث (2731) (2732) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1785) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) (18928). فَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 697): لم يذكر عمر -رضي اللَّه عنه- أنَّه راجَعَ أحدًا في ذلك بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غير أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وذلك لجلالةِ قدره وسعةِ علمه عنده، وفي جواب أبي بكر -رضي اللَّه عنه- لِعُمَرَ بنظيرِ ما أجابه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سواء دلالة على أنَّه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأعلمهم بأمور الدين وأشدَّهم موافقة لأمر اللَّه تَعَالَى، وقد وَقَعَ التصريح في هذا الحديث بأن المسلمين استنَكُروا الصُّلْحَ المذكور، وكانوا على رأي عمر -رضي اللَّه عنه- في ذلك، وظهر من هذا الفَصْلُ أن الصديق -رضي اللَّه عنه- لم يكن في ذلك موافقًا لهم، بل كان قلبه علي قلب رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سواء. (¬1) رقم الحديث (18910). (¬2) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب (18) - رقم الحديث (3182) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1785).

* تحلل الرسول من الإحرام وأمره المسلمين بذلك

فَكَانَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ: مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ وَأُصَلِّي وَأُعْتِقُ مِنَ الذِي صَنَعْتُ، مَخَافَةَ كَلَامِي الذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ حَتَّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا (¬1). * تَحَلُّلُ الرَّسُولِ مِنَ الإِحْرَامِ وَأَمْرُهُ المُسْلِمِينَ بِذَلِكَ: وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قَضِيَّةِ الكِتَابِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا، فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا"، فَمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ. قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ، فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ خِرَاشَ بنَ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2) فَحَلَقَ رَأْسَهُ الشَّريفَةَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلكَ قَامُوا فنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهْمُ يَحْلقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي هَذَا المَوْقِفِ مِنَ الفَوَائِدِ: ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18910) وإسناده حسن. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 368): والصحيح أن خِراش بن أمية كان الحَالِق لرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحديبية. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18928).

* الدعاء للمحلقين ثلاثا والمقصرين مرة

1 - فَضْلُ المَشُورَةِ. 2 - وَأَنَّ الفِعْلَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى القَوْلِ كَانَ أَبْلَغَ مِنَ القَوْلِ المُجَرَّدِ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الفِعْلَ مُطْلَقًا أَبْلَغُ مِنَ القَوْلِ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ مُشَاوَرَةِ المَرْأَةِ الفَاضِلَةِ. 4 - وَفِيهِ فَضْلُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَوُفُورُ عَقْلِهَا، حَتَّى قَالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ: لَا نَعْلَمُ امْرَأَةً أَشَارَتْ بِرَأْيٍ فَأَصَابَتْ إِلَّا أُمَّ سَلَمَةَ، كَذَا قَالَ، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ بِنْتَ شُعَيْبٍ -عَلَيْهِ السَّلامُ- في أَمْرِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- (¬1). * الدُّعَاءُ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَالمُقَصِّرِينَ مَرَّةً: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَللْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وَقَصَّرَ آخَرُوَن، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَرْحَمُ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالمُقَصِّرِينَ، قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالمُقَصِّرِينَ، قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ"، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَالمُقَصِّرِينَ؟ ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالمُقَصِّرِينَ"، قَالُوا: فَمَا بَالُ المُحَلِّقِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ظَاهَرْتَ لَهُمُ التَّرَحُّمَ؟ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 699).

* نحر الهدي

قَالَ: "لَمْ يَشُكُّوا" (¬1). قَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَكَانَ في هَذَا الحَدِيثِ تَفْضِيلُ المُحَلِّقِينَ عَلَى المُقَصِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا، فَكَانَ في ذَلِكَ إِثْبَاتُ الشَّكِّ عَلَى المُقَصِّرِينَ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمَا كَانَ شَكُّ المُقَصِّرِينَ في ذَلِكَ؟ لِأَنَهُ كَانَ في قُلُوبِهِمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَلَقَ في غَيْرِ مَوْضِعِ الحَلْقِ الذِي كَانُوا يَعْلَمُونَ الحَلْقَ فِيهِ، وَيَقِفُونَ عَلَيْهِ مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونَ اقْتِدَاؤُهُمْ وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا رَأَوْهُ يَفْعَلُهُ أَوْثَقَ فِي قُلُوبِهِمْ مِمَّا تَقَدَّمَ عِلْمُهُمْ لَهُ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانُوا بِذَلِكَ مُقَصِّرِينَ في الوَاجِبِ لَهُ عَلَيْهِمْ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذَلِكَ، وَكَانَ الحَالِقُونَ فَاعِلِينَ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ امْتِثَالِ فِعْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَتَرْكِ التَّخَلُّفِ عَنِ القُدْوَةِ بِهِ، فَفَضَلُوا بِذَلِكَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ مِثْلِهِ، لَا لِفَضْلٍ في الحَلْقِ عَلَى التَّقْصِيرِ (¬2). * نَحْرُ الهَدْيِ: ثُمَّ نَحَرَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الهَدْيَ، فكَانَتِ البَدَنَةُ (¬3) عَنْ سَبْعَةٍ، وَالبَقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ الحُدَيْبِيَةِ البَدَنَةَ عَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3311) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1364). (¬2) انظر شرح مشكل الآثار (3/ 393). (¬3) البَدَنَة: الناقة سميت بدنه لعظمها وسمنها. انظر النهاية (1/ 108).

* نزول آية الفدية

سَبْعَةٍ، وَالبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ (¬1). * نُزُولُ آيَةِ الفِدْيَةِ: وَفِي عُمْرَةِ الحُدَيْبِيَةِ أنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الفِدْيَةِ في شَأْنِ كَعْبِ بنِ عُجُرَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَذَلِكَ بِسَبَبِ هَوَامِّ رَأْسِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ -وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ- عَنْ كَعْبِ بنِ عُجُرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالحُدَيْبِيَةِ ونَحْنُ مُحْرِمُونَ، وَقَدْ حَصَرَنَا المُشْرِكُونَ، وَكَانَتْ لِي وَفْرَةٌ (¬2)، فَجَعَلَتِ الهَوَامُّ تَسَّاقَطُ عَلَى وَجْهِي (¬3)، فَمَرَّ بِيَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ" (¬4)؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ، قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬5) فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صُمْ ثَلَاثَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ (¬6) بَيْنَ سِتَّةٍ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ (¬7) مَا تيَسَّرَ" (¬8). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الاشتراك في الهدى - رقم الحديث (1318). (¬2) الوَفْرَة: شعر الرأس إذا وصل إلى شَحْمَةِ الأذن. انظر النهاية (5/ 182). (¬3) في رواية أخرى قال -رضي اللَّه عنه-: والقمْلُ يتَنَاثَرُ علي وجهي. (¬4) في رواية أخرى قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكعب: "ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى". (¬5) سورة البقرة - آية (196). (¬6) الفَرَقَ: بالتحريك: مكيال معروف، يسع ثلاثة آصع عند أهل الحجاز. انظر النهاية (3/ 391). (¬7) النَّسِيكَة: الذبيحة، وجمعها: نُسُك. انظر النهاية (5/ 41). (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المحصر - باب الإطعام في الفدية نصف صاع =

* رجوع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ونزول سورة الفتح

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِضَرَرٍ مِنْ قَمْلٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلَهُ حَلْقُهُ في الإِحْرَامِ وَعَلَيْهِ الفِدْيَةُ. . . وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ ثَلَاثَ أَيَّامٍ، أَوِ الصَّدَقَةِ ثَلَاثَ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، أَوِ النُّسُكُ وَهِيَ شَاهٌ تُجْزِئُ في الأُضْحِيَةِ (¬1). * رُجُوعُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الَمَدِينَةِ وَنُزُولُ سُورَةِ الفَتحِ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، بَعْدَ أَنْ أَقَامَ بِالحُدَيْبِيَةِ نَحْوَ عِشْرِينَ يَوْمًا (¬2)، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى كُرَاعِ الغَمِيمِ (¬3) بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ، وَقِيلَ: بِضَجْنَانَ (¬4)، نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الفَتْحِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ¬

_ = رقم الحديث (1816) - وباب النسك شاة - رقم الحديث (1817) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى - رقم الحديث (1201) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18101). (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 98). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 298). (¬3) كُرَاع الغميم: بضم الكاف، وهو موضع بين مكة والمدنية. انظر النهاية (4/ 143). (¬4) ضَجْنَان: بفتح الضاد وسكون الجيم هو موضع، وقيل: اسم جبل بين مكة والمدنية. انظر النهاية (3/ 69) - فتح الباري (9/ 557).

وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1). أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الحُدَيْبِيَةِ. . . وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَعَرَفْنَا ذَاكَ فِيهِ، قَالَ: فتَنَحَّى مُنْتَبِذًا (¬2) خَلْفَنَا، فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ، وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَتَانَا، فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرْجِعَهُ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬4)، وَأَصْحَابُهُ يُخَالِطُونَ الحُزْنَ وَالكَآبَةَ، قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نُسُكِهِمْ (¬5)، وَنَحَرُوا الهَدْيَ بِالحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا" (¬6)، فَقَرَأَهَا نَبِيُّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمْ، ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية (1 - 5). (¬2) يقال: انْتَبَذَ فلان: أي ذهب ناحية. انظر لسان العرب (14/ 17). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4421). (¬4) سورة الفتح آية (1). (¬5) النُّسُك: الطاعة والعبادة، وكل ما تُقُرب به إلى اللَّه تَعَالَى، والمقصود بها في هذا الحديث العمرة. انظر النهاية (5/ 41). (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 557): لما فيها من الإشارة بالمغفرة والفتح. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4833) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَهِيَ أحب إليّ مما طَلَعَت عليه الشمس".

* قراءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سورة الفتح على عمر -رضي الله عنه-

فَقَالَ رَجُل مِنَ القَوْمِ: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَنَا مَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1). فَبَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا يَفْعَلُ بِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَاذَا يَفْعَلُ بِهِمْ (¬2). * قِرَاءَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُورَةَ الفَتْحِ عَلَى عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . فنَزَلَ القُرْآنُ (¬3) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَفَتْحٌ هُوَ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَطَابَتْ نَفْسُهُ -رضي اللَّه عنه- وَرَجَعَ (¬4). ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية (5). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1786) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12374) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4055). (¬3) في رواية الإمام البخاري في صحيحه قال -رضي اللَّه عنه-: فنزلت سورة الفتح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب رقم (18) - رقم الحديث (3182) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب صلح الحديبية - رقم الحديث (1785).

* الحديبية أعظم فتح في الإسلام

* الحُدَيْبِيَةُ أَعْظَمُ فَتْحٍ في الإِسْلَامِ: قَالَ ابنُ القَيِّمِ: فَصْلٌ في الإِشَارَةِ إِلَى بَعْضَ الحِكَمِ التِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الهُدْنَةُ، وَهِيَ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى الذِي أَحْكَمَ أَسْبَابَهَا، فَوَقَعَتْ الغَايَةُ عَلَى الوَجْهِ الذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وحَمْدُهُ (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، قَالَ: الحُدَيْبِيَةُ (¬2). وَقَالَ الإِمَامُ الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ: أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّ الفَتْحَ المَذْكُورَ في الآيَةِ التِي تَلَوْنَاهَا (¬3) هُوَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الحُدَيْبِيَةِ مِنَ الصُّلْحِ الذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ مَا كَانَ سَبَبًا لِفَتْحِهَا (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمْ الفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 275). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4172) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (10/ 233). (¬3) هي قوله تَعَالَى في سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}. (¬4) انظر شرح مشكل الآثار (14/ 477). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4150) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 472) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8904).

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَالمُرَادُ بِالفَتْحِ في هَذِهِ الآيَةِ هُوَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ، فَإِنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِهِ خَيْرٌ جَزِيلٌ، وَآمَنَ النَّاسُ وَاجْتَمَعَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَكَلَّمَ المُؤْمِنُ مَعَ الكَافِرِ، وَانْتَشَرَ العِلْمُ النَّافِعُ وَالإِيمَانُ (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: المُرَادُ بِالفَتْحِ هُنَا الحُدَيْبِيَةُ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَبْدَأَ الفَتْحِ المُبِينِ عَلَى المُسْلِمِينَ، لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الصُّلْحِ الذِي وَقَعَ مِنْهُ الأَمْنُ، وَرَفْعُ الحَرْبِ، وَتَمَكُّنُ مَنْ يَخْشَى الدُّخُولَ في الإِسْلَامِ، وَالوُصُولَ إِلَى المَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِخَالِدِ بنِ الوَليدِ وَعَمْرِو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ تَبِعَتِ الأَسْبَابُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِلَى أَنْ كَمُلَ الفَتْحُ، وَقَدْ ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ (¬2) في المَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلَهُ: لَمْ يَكُنْ في الإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَ فَتْحِ الحُدَيْبِيَةِ أَعْظَمَ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلَهُ تَعَالَى في سُورَةِ الفَتْحِ: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬3)، فَالمُرَادُ بِهَا فتحُ خَيْبَرَ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ التِي وَقَعَتْ فِيهَا المَغَانِمُ الكَثِيرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، قَالَ: صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ، وَغُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، وتَبَايَعُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَأُطْعِمُوا نَخِيلَ خَيْبَرَ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى الفُرْسِ (¬4)، وَفَرِحَ المُسْلِمُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (7/ 328). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 351). (¬3) سورة الفتح آية (18). (¬4) أخرج قِصَّة انتِصَارِ الروم على الفُرس: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2495) وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

* أحداث جرت في الطريق إلى المدينة

وَأَمَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬1)، فَالمُرَادُ الحُدَيْبِيَةُ، وَأَمَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬2)، وَقَوْلُه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا هِجَرْةَ بَعْدَ الفَتْحِ" (¬3)، فَالمُرَادُ بِهِ فتحُ مَكَّةَ بِاتِّفَاقٍ، فَبِهَذَا يَرْتَفِعُ الإِشْكَالُ، وَتُجْمَعُ الأَقْوَالُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى (¬4). قُلْتُ: وَتُعَدُّ الحُدَيْبِيَةُ فَتْحًا لِلْآتِي: 1 - قَالَ ابنُ هِشَامٍ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الحُدَيْبِيَةِ في أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، ثُمَّ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ خَرَجَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشَرَةُ آلَافٍ (¬5). 2 - الأَمْرُ الآخَرُ أَنَّ بِصُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ اسْتَطَاعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَتَفَرَّغَ لِعَدُوِّهِ اللَّدُودِ يَهُودِ خَيْبَرَ، وَلَوْلَا الحُدَيْبِيَةُ لَسَاعَدَتْ قُرَيْشٌ يَهُودَ خَيْبَرَ بِالسِّلَاحِ وَالمَالِ، فَحَيَّدَ هَذَا الصُّلْحُ قُرَيْشًا عَنْ مُسَاعَدَتِهَا يَهُودَ خَيْبَرَ. * أَحْداثٌ جَرَتْ في الطَّرِيقِ إِلَى المَدِينَةِ: أَكْمَلَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ رَاجِعًا إِلَى المَدِينَةِ، وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْضُ الأَحْدَاثِ مِنْهَا: ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية (27). (¬2) سورة النصر آية (1). (¬3) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب فضل الجهاد والسير - رقم الحديث (2783) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها - رقم الحديث (1353). (¬4) انظر كلام الحافظ في الفتح (8/ 209). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (3/ 351).

* فوات صلاة الفجر

* فَوَاتُ صَلَاةِ الفَجْرِ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الحُدَيْبِيَةِ لَيْلًا، فنَزَلْنَا دَهَاسًا (¬1) مِنَ الأَرْضِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-. "مَنْ يَكْلَؤُنَا؟ " (¬2)، فَقَالَ بِلَالٌ (¬3): أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "إِذًا تَنَامُ"، قَالَ بِلَالٌ: لَا، فنَامَ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَاسْتَيْقَظَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فِيهِمْ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: أَهْضِبُوا (¬4)، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقَالَ: "افْعَلُوا كَمَا كنْتُمْ تَفْعَلُونَ"، فَلَمَّا فَعَلُوا، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَكَذَا فَافْعَلُوا، لِمَنْ نَامَ مِنْكُمْ، أَوْ نَسِيَ" (¬5). * فُقْدَانُ نَاقَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَفِي طَرِيقِ عَوْدَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الحُدَيْبِيَةِ إِلَى المَدِينَةِ ضَلَّتْ نَاقَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدَيْهِمَا بِسَنَدٍ ¬

_ (¬1) الدَّهَاسُ والدّهس: ما سَهُلَ ولَان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رَمْلًا. انظر النهاية (2/ 134). (¬2) الكَلَاءَةُ: الحفظ والحراسة. انظر النهاية (4/ 169). (¬3) جاء في رواية أخرى في المسند - رقم الحديث (3710) أن الذي حرسهم عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، وهي رواية ضعيفة، والصواب أن الذي حرسهم هو بلال بن رباح -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أهْضِبُوا: أي تكَلَّموا وامضوا، يقال: هَضَبَ في الحديث وأهْضَبَ: إذا انْدَفَعَ فيه، كرِهُوا أن يوقظوه، فأرادوا أن يستيقظ بكلامهم. انظر النهاية (5/ 229). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3657) (4421) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب من نام عن الصلاة أو نسيها - رقم الحديث (447) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (3251).

* أمر المهاجرات بعد الصلح

حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الحُدَيْبِيَةِ. . . وَضَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَطَلَبْتُهَا، فَوَجَدْتُ حَبْلَهَا (¬1) قَدْ تَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرَكِبَ مَسْرُورًا -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * أَمْرُ المُهَاجِرَاتِ بَعْدَ الصُّلْحِ: وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ وَاسْتَقَرَّ بِهَا، جَاءَ إِلَيْهِ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ مُهَاجِرَاتٌ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومَ بِنْتُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ في تِلْكَ المُدَّةِ، وَكَانَتْ عَاتِقًا (¬3)، فَخَرَجَ في إِثْرِهَا أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالوَلِيدُ ابْنَا عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَقَالَا: يَا مُحَمَّدُ! أَوْفِ لَنَا بِمَا عَاهَدْتَنَا عَلَيْهِ (¬4). فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ، وَلَمْ يُدْخِلِ النِّسَاءَ في ذَلِكَ الشَّرْطِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى في ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ (¬5) لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ ¬

_ (¬1) في رواية الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (375) قال ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: خِطامها. وخِطام البعير: هو أن يُؤخذ حبلٌ من لِيفٍ أو شَعْرٍ فيُجعل في أحد طَرَفَيْهِ حلقةً ثم يُشَدُّ فيه الطرف الآخر حَتَّى يصير كالحلقة، ثم يُقاد البعير. انظر النهاية (2/ 48). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4421) - وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (375) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب السير - باب نزول الدهاس من الأرض - رقم الحديث (8802). (¬3) العَاتِقُ: هي الشابة أوَّل ما تدرك. انظر النهاية (3/ 162). (¬4) يُشيرون إلى البند الذي في عقد الصلح، والذي يقول: وعلى أنه لا يأتيك -أي يا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- منا رجل، وإن كان على دينك إلا رَدَدْتَه علينا. (¬5) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (8/ 92): وهذه الآية مُخَصَّصة للسنة، وهذا من أحسن =

يَحِلُّونَ لَهُنَّ (¬1) وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ (¬2) الْكَوَافِرِ (¬3) وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4). وَقَدْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا طَرِيقَةَ امْتِحَانِ النِّسَاءِ المُؤْمِنَاتِ المُهَاجِرَاتِ، فَقَدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ. . .} إلى قوله تَعَالَى: {. . . غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5) قَالَتْ عَائشَةُ رَضىَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْط منْهُنَّ قَالَ لَهَا ¬

_ = أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسِخَة، فإن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، أمر عِبَاده المؤمنين إذا جاءهم النساء مُهَاجِرَات أن يمتحنوهن، فإن عَلِمُوهُنَّ مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هُنّ حِلٌّ لهم ولاهم يحلون لهن. (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (8/ 93): هذه الآية هي التي حَرَّمت المسلمات علي المشركين. (¬2) قال الإمام القرطبي في تفسيره (20/ 416): العِصَم: جمع العِصْمَة: وهو ما اعتصم به، والمراد بالعصمة هنا النكاح يقول: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يَعْتَدّ بها، فليست له امرأةً، فقد انقطعت عصمتها، لاختلاف الدارين، ولذلك طلق عمر -رضي اللَّه عنه- حينئذ امرأتين كما سيأتي. (¬3) قال الإمام القرطبي في تفسيره (20/ 418): المراد بالكَوَافِر هنا: عبَدَة الأوثان، من لا يجوزُ ابتداءً نِكَاحها، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب. (¬4) سورة الممتحنة آية (10) - والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب ما يجوز من الشروط في الإسلام - رقم الحديث (2711) (2712). (¬5) سورة الممتحنة الآيات (10 - 12).

* نبذة عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ بَايَعْتُكِ"، كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ في المُبايَعَةِ، وَمَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلهِ (¬1). فَهَذِهِ الآيَةُ اسْتَثْنَتِ المُهَاجِرَاتِ المُسْلِمَاتِ مِنْ شَرْطِ الرَّدِّ إِلَى الكُفَّارِ، فَرَجَعَ عُمَارَةُ وَالوَليدُ ابْنَا عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى مَكَّةَ وَأَخْبَرَا قُرَيْشًا بِذَلِكَ. * نُبْذَةٌ عَنْ أُمِّ كُلْثُومَ بِنْتِ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَبَايَعَتْ. قَالَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ هِيَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ (¬2) مِنَ النِّسَاءَ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَلَمْ نَعْلَمُ قُرَشِيَّةً خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ أَبَوَيْهَا مُسْلِمَةً مُهَاجِرَةً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ، خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ وَحْدَهَا، حَتَّى قَدِمَتِ المَدِينَةَ في الهُدْنَةِ هُدْنَةِ الحُدَيْبِيَةِ (¬3). * تَطْلِيقُ الصَّحَابَةِ زَوْجَاتِهِمُ الكَافِرَاتِ: وَطَلَّقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ زَوْجَاتِهِمُ الكَافِرَاتِ بِهَذَا الحُكْمِ، وَهُوَ قَوْلُه تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (¬4)، فَطَلَّقَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَئِدٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب ما يجوز من الشروط في الإسلام - رقم الحديث (2713). (¬2) المقصود بأوَّليتها في الهجرة هِجْرَتها وحْدَها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 365). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (8/ 94): هذا تحريم من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ علي عباده المؤمنين نِكَاح المشركات والاستِمْرَارَ معهن.

امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ في الشِّرْكِ، فتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، وَهِيَ: قُرَيْبَةُ (¬1) بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالأُخْرَى تَزَوَّجَهَا صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ (¬2) وَهِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ (¬3). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: . . . كَانَتْ أُمُّ الحَكَمِ (¬4) بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ تَحْتَ عِيَاضِ بنِ غَنْمٍ (¬5) الفِهْرِيِّ فَطَلَّقَهَا، فتَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُثْمَانَ الثَّقَفِيُّ (¬6). وَرَوَى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَرْوَى بِنْتَ رَبِيعَةَ بِنِ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ (¬7). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (10/ 524): بالقاف مصغرًا في أكثر النسخ، وضبطها الدمياطي بفتح القاف، وتبعه الذهبي، وكذلك هو في نسخة معتمدة من طبقات ابن سعد، وكذا للكشميهني في حديث عائشة الماضي في الشروط، والأكثر بالتصغير كالذي هنا. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب نكاح من أسلم من المشركات - رقم الحديث (5287) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18928). (¬3) قال الحافظ في الفتح (10/ 525): جَرْوَل: بفتح الجيم. (¬4) هي أخْتُ أم حَبِيبة رَمْلة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) قال الحافظ في الإصابة (4/ 629): غَنْم: بفتح العين وسكون النون. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب نكاح من أسلم من المشركات - رقم الحديث (5287). (¬7) أورده الحافظ في الفتح (10/ 525) وحسن إسناده.

* قصة أبي بصير -رضي الله عنه-

* قِصَّةُ أَبِي بَصِيرٍ (¬1) -رضي اللَّه عنه-: اسْتَطَاعَ أَبُو بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه- وَاسْمُهُ عُتْبَةُ بنُ أَسِيدٍ الثَّقَفِيُّ (¬2) أَنْ يُفْلِتَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَقْدُمَ مُهَاجِرًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَدِينَةِ، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ، وَعُذِّبَ عَلَى إِسْلَامِهِ، فكَتَبَ الأَخْنَسُ بنُ شُرَيْقٍ كِتَابًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفِيهِ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَبَا بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، وبَعَثَ بِالكِتَابِ مَعَ رَجُلٍ كَافِرٍ مِنْ بَنِي عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وَمَوْلًى مَعَهُ (¬3). فَلَمَّا وَصَلَ الرَّجُلَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في المَدِينَةِ، قَالَا لَهُ: العَهْدُ الذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الرَّجُلَانِ، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا بِهِ ذَا الحُلَيْفَةِ (¬4)، فنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِلْعَامِرِيِّ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ (¬5) الآخَرُ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ، لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ، ثُمَّ جَرَّبْتُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَأَمْكَنَهُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 700): بَصِير، بفتح الباء وكسر الصاد. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 700): عتبة: بضم العين، وأسيد: بفتح الهمزة على الصحيح، الثقفي حليف بني زهرة، ونسبه ابن إسحاق في السيرة (3/ 352) إليهم -أي إلى بني زهرة-، ووقع في صحيح البخاري رقم الحديث (2731) (2732) قوله: "رَجُلٌ من قُرَيش"، أي بالحلف؛ لأن بني زهرة من قريش. (¬3) سمَّى ابن سعد في طبقاته الرجلان وهما: خُنَيْسُ بن جابر، والمولى اسمه كَوْثَر. (¬4) قال الحافظ في الفتح (4/ 16): ذا الحُلَيْفة: بضَمِّ الحاء مُصَغرًا، وهو ميقات أهل المدينة. (¬5) قال الحافظ في الفتح (5/ 701): استَلَّهُ: بتشديد اللام أي أخْرَجَهُ من غمده.

مِنْهُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ (¬1)، وَفَرَّ الآخَرُ -وَهُوَ المَوْلَى (¬2) - حَتَّى أتَى المَدِينَةَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ يَعْدُو يَطِنُّ (¬3) الحَصَا مِنْ شِدَّةِ سَعْيِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ رَآهُ: "لَقَدْ رَأى هَذَا ذُعْرًا" (¬4)، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ (¬5). فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ (¬6) قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَنْجَانِيَ اللَّهُ مِنْهُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَيْلَ أُمِّهِ (¬7) مِسْعَرَ (¬8) حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ" (¬9)، فَلَمَّا ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (5/ 702): حَتَّى بَرَدَ: أي حَتَّى خَمَدَتْ حواسُّه، وهي كناية عن الموت، لأنَّ الميت تسكُنُ حرَكْتُهُ. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 352): فعلاه بالسيف حَتَّى قتله. (¬2) في رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 352). وخرج المولى سَرِيعًا حَتَّى أتى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) الطَّنِينُ: صوتُ الشيء الصلب. انظر النهاية (3/ 127). (¬4) ذُعرًا: أي خَوْفًا. انظر النهاية (2/ 149). وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 352): قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فزعًا". (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 702): أي: إن لم تَرُدُّوهُ عَنِّي. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 702): أي فليسَ عليكَ مِنْهُمْ عِقَابٌ فيما صَنَعْتُ أنا. (¬7) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 702): وَيلُ أُمِّه: بضم اللام، وكسر الميم المشددة، وهي كلمة ذَمٍّ تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها مِنَ الذم. (¬8) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 702): مِسْعَر: بكسر الميم وسكون السين وفتح العين: أي يُسَعِّرها. (¬9) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 703): أي ينصره ويُعَاضِدُه ويناصره، وفيه إشارة إليه بالفِرار لِئلَّا يرده إلى المشركين.

* إفلات أبي جندل -رضي الله عنه-

سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ البَحْرِ (¬1). * إِفلَاتُ أَبي جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ إِنَّ أَبَا جَنْدَلِ بنِ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْلِتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُريشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ (¬2)، فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إلى الشَّامِ إِلَّا اعْترَضُوا لَهَا، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُنَاشِدُهُ بِاللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَقَالُوا: إِنَّا أَسْقَطْنَا هَذَا الشَّرْطَ مِنَ الشُّرُوطِ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَّا إِلَيْكَ فَأَمْسِكْهُ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: . . . فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَكِبَ نَفَرٌ مِنْهُمْ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: إِنَّهَا لَا تُغْنِي ¬

_ (¬1) سِيفُ البَحْرِ: بكسر السين: ساحله. انظر النهاية (2/ 390). وفي رواية ابن إسحاق (3/ 353): حتى نَزَلَ العِيص: وهو بكسر العين وهو مكان يحاذي المدينة إلى جِهَةِ ساحِلِ البحر. انظر النهاية (3/ 297). (¬2) العِصَابَةُ: هم الجَمَاعَةُ من الناس من العشرة إلى الأربعين. انظر النهاية (3/ 220). وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 353): أنهم بَلَغُوا سبعين رجلًا -وعند البيهقي في دلائله (4/ 173): أنهم بلغوا ثلاثمائة رجلًا. قلتُ: ويمكن الجَمْعُ بأن يكون في بداية أمرهم سبعين رجلًا، ثم زاد إنفلات المهاجرين من قريش فبلغوا ثلاثمائة رجل، واللَّه أعلم. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد. . . - رقم الحديث (2731) (2732) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 353).

مُدَّتُكَ شَيْئًا وَنَحْنُ نُقْتَلُ وَتُنْهَبُ أَمْوَالُنَا، وَإِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُدْخِلَ هَؤُلَاءَ الذِينَ أَسْلَمُوا مِنَّا فِي صُلْحِكَ، وَتَمْنَعَهُمْ وتَحْجُزَ عَنَّا قِتَالَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). فكتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أَبِي بَصِيرٍ وَأَبِي جَنْدَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَأْمُرُهُمَا أَنْ يَقْدُمَا عَلَيْهِ، وَبِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ المُسْلِمِينَ المُهَاجِرِينَ، فَقَدِمَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمَا، وَأَبُو بَصِيرٍ -رضي اللَّه عنه- يَحْتَضِرُ، فَمَاتَ -رضي اللَّه عنه- وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي يَدِهِ يَقْرَؤُهُ، فَدَفنَهُ أَصْحَابُهُ مَكَانَهُ، وَقَدِمَ أَبُو جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه- بِمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَدِينَةِ. وَتَحَقَّقَ قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ لِأَبِي جَنْدَلٍ -رضي اللَّه عنه-: "اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّه جَاعِلٌ لَكَ، وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18929). (¬2) أخرج قصة أبي بصير -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد - رقم الحديث (2731) (2732) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18928) (18929) - والبيهقي في دلائل النبوة (4/ 172) - وابن إسحاق في السيرة (352/ 3) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (61).

السنة السابعة للهجرة

السَّنَةُ السَّابعَةُ لِلْهِجْرَةِ كُتُبُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ (¬1) لَمَّا اسْتَقَرَّ الأَمْرُ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وَجَدَ الفُرْصَةَ مُوَاتِيَةً لِلدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ تَعَالَى خَارجَ نِطَاقِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ إلى مُلُوكِ ¬

_ (¬1) اختلف في زَمَنِ إرسالِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكُتُبِ إلى الملوك والأمراء، فعند ابن سعد في طبقاته (1/ 125): أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتَبَ إليهم في المحرم سنة سبع من الهجرة، ولم يُحَدِّد ابن إسحاق في السيرة (4/ 262) تاريخًا مُحَدّدًا لإرسال الكتب، بل جعل ذلك ما بينَ الحُدَيْبِيَةِ ووفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، واستَدْرَكَ عليه ابن هِشَام في تهذيبه على سيرة ابن إسحاق (4/ 262) فقال: بأن إرْسَالَه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكتب للملوك كان بعد عُمْرَته التي صُدَّ عنها يوم الحديبية. بينما جعل الإِمام البخاري في صحيحه (8/ 469) رسالةَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كِسْرَى في أعقاب غزوة تبوك في العام التاسع الهجري. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 473): وفي إيراد هذا الحديث -أي حديث إرسال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الكتاب لِكِسْرى- آخر هذا الباب إشارة إلى أن إرسال الكتب إلى المُلُوكِ كان في سنة غزوة تبوك، ولكن لا يدفع ذلك قول من قال: إنه كاتبَ المُلُوكَ في سنةِ الهُدْنَةِ كقَيْصَر، والجمعُ بين القولين أنه كَاتَبَ قَيْصَرَ مرتين، وهذه المرة الثانية قد وقع التصريح بها في مسند الإِمام أحمد - رقم الحديث (15655)، وكاتب النجاشي الذي أسلم وصَلَّى عليه لمَّا مات، ثم كاتب النجاشي الذي وَليَ بعده وكان كافرًا، وقد روى مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1774) - من حديث أنس -رضي اللَّه عنه- أنه قال: كتَبَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كل جبَّار يدعوهم إلى اللَّه، وسمَّى منهم: كسرى، وقيصر، والنجاشي، قال: وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.

العَرَبِ وَالعَجَمِ وَكَتَبَ مَعَهُمْ إِلَيْهِمْ كُتُبًا يَدْعُوهُمْ فِيهَا إِلَى الإِسْلَامِ. رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَبَ إِلَى كِسْرَى، وَإِلَى قَيْصَرَ، وَإِلَى النَّجَاشِيِّ (¬1)، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إلى اللَّهِ تَعَالَى (¬2). فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَكْتُبَ إِلَى المُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ، قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسَ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلى رَهْطٍ أَوْ أُنَاسٍ مِنَ الأَعَاجِمِ (¬3)، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا عَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّد رَسُولُ اللَّهِ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية ابن حبان: أكَيْدِرُ دُومَة بدل النجاشي. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 552): أُكَيْدِرُ تصغير أَكْدَر، ودُومَة بضم الدال، وسكون الواو، بلدٌ بين الحجاز والشام، وهي دُومة الجندل، مدينة بقرب تَبُوك بها نخلٌ وزَرْعٌ وحصن، على عشرة مراحل من المدينة، وكان أكيدر ملكها، وكان نَصْرَانيًا. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ملوك الكفار - رقم الحديث (1774) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب كتب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6553). (¬3) في رواية أخرى في صحيح مسلم: قال أنس -رضي اللَّه عنه-: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرَادَ أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب اللباس - باب نقش الخاتم - رقم الحديث (5872) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب اللباس والزينة - باب في اتخاذِ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم - رقم الحديث (2092) (56) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3314).

فَكَانَ الخَاتَمُ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَهُ، ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- سَتَّ سِنِينَ، فَلَمَّا كَانَ فِي السِّتِّ البَاقِي (¬1) كَانَ مَعَهُ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ (¬2)، فَحَرَّكَ خَاتَمَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي يَدِهِ فَوَقَعَ فِي البِئْرِ، فَطَلَبَهُ (¬3) عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ (¬4). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إِنَّمَا بَالَغَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- فِي التَّفْتِيشِ عَلَى الخَاتَمِ لِكَونِهِ أَثَرُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ لَبِسَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ وَخَتَمَ بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُسَاوِي فِي العَادَةِ قَدْرًا عَظِيمًا مِنَ المَالِ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ غَيْرُ خَاتَمِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَاكْتَفَى بِطَلَبِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وَبِالضَّرُورَةِ يُعْلَمُ أَنَّ قَدْرَ المُؤْنَةِ التِي حَصَلَتْ فِي الأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ تَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ الخَاتَمِ لَكِنِ اقْتَضَتْ صِفَتُهُ عَظِيمَ قَدْرِهِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا ضَاعَ مِنْ يَسِيرِ المَالِ (¬5). وَعِنْدَمَا عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى إِرْسَالِ الكُتُبِ اخْتَارَ الرُّسُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ ¬

_ (¬1) من خِلَافَتِهِ -رضي اللَّه عنه-. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 505): أَرِيس: بفتح الهمزة وكسر الراء، على وزن عظيم. (¬3) في رواية البخاري قال أنس -رضي اللَّه عنه-: فَاخْتَلفا. قال الحافظ: أي في الذهاب، والرجوع والنزول إلى البئر والطلوع منها. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب اللباس - باب خاتم الفضة - رقم الحديث (5866) - وباب هل يجعل نقش الخاتم ثلاثة أسطر؟ - رقم الحديث (5879) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب اللباس والزينة - باب لبس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتمًا من ورق - رقم الحديث (2091) (54). (¬5) انظر فتح الباري (11/ 517).

1 - كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي ملك الحبشة

رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مِنَ الذِينَ سَبَقَ وَأَنْ رَحَلُوا إلى تِلْكَ البِلَادِ، وَفِيمَا يَلِي ذِكْرُ الكُتُبِ التِي أَرْسَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المُلُوكِ وَالأُمَرَاءِ، وَذَلِكَ فِي المُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ: 1 - كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الحَبَشَةِ وَهَذَا النَّجَاشِيُّ اسْمُهُ أَصْحَمَةُ (¬1)، وَأَمَّا النَّجَاشِيُّ فَهُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الحَبَشَةَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمْرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى النَّجَاشِى، وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ، وَكتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِ كِتَابَيْنِ يَأْمُرُهُ فِي أَحَدِهِمَا: أَنْ يُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ (¬2)، وَأَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَفِي الكِتَابِ الآخَرِ: يَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتَ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَانَ رَحَلَ إلى النَّجَاشِيِّ، فَمَاتَ (¬3)، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ، وَإِنَّهَا لَبِأَرْضِ الحَبَشَةِ (¬4)، زَوَّجَهَا إِيَّاهُ النَّجَاشِيُّ، وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ عِنْدِهِ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (3/ 563) (7/ 588): أَصْحَمَه بفتح الألف بوزن أفعله وأربعة. (¬2) سيأتي خبَرُ زواجِ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من أُمِّ حبيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بعد غزوة خيبر إن شاء اللَّه. (¬3) قلتُ: سيأتي بعد غزوة خيبر تحقيقُ خبر ردة عُبَيد اللَّه بن جحش، وأنه ماتَ مُسْلِمًا، لا كما يزعم أهل المغازي في أنه ارتَدَّ عن الإِسلام، ثم مات نصرانيًا. (¬4) في رواية النسائي: وهي بأرض الحبشة.

* نص كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي

وَبَعَثَ بِهَا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ شُرَحْبِيلَ بنِ حَسَنَةٍ -رضي اللَّه عنه-، وَجِهَازُهَا كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَيْءٍ (¬1). * نَصُّ كِتَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى النَّجَاشِيِّ: أَمَّا نَصُّ كِتَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَدْ رَوَاهُ الحَاكِمُ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَهَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الأَصْحَمِ عَظِيمِ الحَبَشَةِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2) فَإِنْ أَبَيْتَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27408) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5061) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب النكاح - باب التزويج على أربع مئة درهم - رقم الحديث (5486) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول- رقم الحديث (8949). (¬2) سورة آل عمران آية (64). قلتُ: ذكر ابن إسحاق في السيرة (2/ 195): أن صَدر سورة آل عمران إلى بِضْعٌ وثمانين آية منها نزلت في وَفْد نَجْرَان الذي وَفَدَ على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في عامِ =

فَعَلَيْكَ إِثْمُ النَّصَارَى مِنْ قَوْمِكَ" (¬1). فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى النَّجَاشِيِّ وَقُرِئَ عَلَيْهِ، أَخَذَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ تَوَاضُعًا، ثُمَّ أَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الحَقِّ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ المُلْكِ، وَمَا تَحَمَّلْتُ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَحْمِلَ نَعْلَيْهِ (¬2). ¬

_ = الوُفُودِ في السنة التاسعة للهجرة, فما الجَمْعُ بين كِتَابَةِ هذه الآية إلى هِرَقل وغيره في جملة الكُتُبِ التي أرسلها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في العام السابع للهجرة، وبين ما ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره؟ . والجَوَابُ: قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (2/ 56): أَحَدُهُمَا: يحتمل أن هذه الآية نزلت مرَّتَيْنِ، مرَّةً قبل الحديبية، ومرَّة بعد الفتح. الثاني: يحتمل أن صَدْرَ سُورة آل عمران نزل في وَفْدِ نَجْرَان إلى عند هذه الآية، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك، ويكون قول ابن إسحاق: "إلى بِضْعٍ وثَمَانيِنَ آية"، ليس بمحفوظ، لدلالة حديث أبي سفيان -سيأتي حديث أبي سفيان بعد قليل-. الثالثُ: ويحتمل أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أمَرَ بكَتْبِ هذا الكلام في كِتَابه إلى هِرَقْل وغيره لم يكن أنزل بعد، ثم نَزَلَ القرآن موافقةً له كانزل بِمُوَافقة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في الحِجَابِ، وفي الأسارى، وفي عدم الصلاة على المنافقين. (¬1) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب مراسلة الرسول هو النجاشي - رقم الحديث (4303) - والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 308) - وأورد ابن القيم في زاد المعاد (3/ 601) كتابه هو إلى النجاشي مع اختلاف في بعض الألفاظ عن رواية البيهقي. (¬2) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في الصلاة على المسلم يَمُوتُ في بلاد الشرك - رقم الحديث (3205) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب =

ثُمَّ كتَبَ النَّجَاشِيُّ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِجَابَتِهِ وتَصْدِيقِهِ وَإِسْلَامِهِ. وَأَهْدَى النَّجَاشِيُّ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ، وَنَعْلَيْنِ سَبْتِيَّتَيْنِ، وَثَلَاثَ عَنَزَاتٍ (¬1)، فَأَمْسَكَ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاحِدَةً لِنَفْسِهِ، وَأَعْطَى عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- وَاحِدَةً، وَأَعْطَى عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَاحِدَةً، فَكَانَ بِلَالٌ -رضي اللَّه عنه- يَمْشِي بِتِلْكَ العَنَزَةِ التِي أَمْسَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي العِيدَيْنِ يَوْمَ الفِطْرِ، وَيَوْمَ الأَضْحَى حَتَّى يَأْتِيَ المُصَلَّى، فَيَرْكُزُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا (¬2)، وَأَهْدَاهُ كَذَلِكَ حَلَقَةً فِيهَا خَاتَمُ ذَهَبٍ، فِيهِ فَصٌّ (¬3) حَبَشِيٌّ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ بريْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ¬

_ = قصة إسلام النجاشي - رقم الحديث (3261) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8840) وإسناده حسن. (¬1) العَنَزَاتُ: جمعُ عَنَزَة: وهي عَصا على قدْرِ نِصْفِ الرمح أو أكبر شيئًا قليلًا. انظر النهاية (3/ 278). (¬2) أورد إهداء العنزات من النجاشي إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الحافظ في الفتح (2/ 153) وعزاه إلى عمر بن شبَّه في "أخبار المدنية"، من حديث سَعْدِ القَرَظ، ولفظُهُ: أن النجاشي أهدى إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرْبَةً فأمسكها لنفسه فهي التي يمشي بها مع الإِمَامِ يوم العيد. وأما صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى العَنَزَةِ يوم العيد، فقد رواها البخاري في صحيحه - رقم الحديث (973) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تُحمل وتُنصب بالمصلى بين يديه، فيصلى إليها. (¬3) فَصُّ الخَاتَمِ: المُرَكَّبُ فيه. انظر لسان العرب (10/ 371).

* وفاة النجاشي -رضي الله عنه-

قَالَ: أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ (¬1) فَلَبِسَهُمَا (¬2). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَتْ إلى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِلْيَةٌ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، أَهْدَاهَا لَهُ، فِيهَا خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهِ فَصٌّ حبَشِيٌّ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعُودٍ بِبَعْضِ أَصَابِعِهِ، مُعْرِضًا عَنْهُ، ثُمَّ دَعَا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ ابْنَةَ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَحَلِّي بِهَذِهِ يَا بُنَيَّةُ" (¬3). * وَفَاةُ النَّجَاشِيِّ -رضي اللَّه عنه-: وَتُوُفِّيَ النَّجَاشِيُّ أَصْحَمَةُ -رضي اللَّه عنه- فِي رَجَبَ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَنَعَاهُ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أَصْحَابِهِ يَوْمَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: "مَاتَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ وَاسْتَغْفِرُوا لَهُ" (¬4) وَصَلَّى -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ صَلَاةَ الغَائِبِ. وَرَوَى النَّسَائيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ ¬

_ (¬1) سَاذَجَيْن: بفتح الجيم: أي غير مَنْقُوشَيْن. انظر تحفة الأحوذي (8/ 112). (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الآداب - باب ما جاء في الخف الأسود - رقم الحديث (3030) - وابن ماجه - كتاب الطهارة وسننها - باب ما جاء في المسح على الخفين - رقم الحديث (549) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4347). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخاتم - باب في الذهب للنساء - رقم الحديث (4235) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24880) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2831). (¬4) أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب موت النجاشي - رقم الحديث (3877) (3880).

قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ النَّجَاشِيُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَلُّوا عَلَيْهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُصَلِّي عَلَى عَبْدٍ حبَشِيٍّ؟ ، فنَزَلَتْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ (¬2). وَلَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ أَصْحَمَةُ -رضي اللَّه عنه-، خَلَفَهُ عَلَى الحَبَشَةِ نَجَاشِيٌّ آخَرُ، وَهُوَ غَيْرُ النَّجَاشِيِّ الذِي آمَنَ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ كتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى هَذَا النَّجَاشِيِّ كِتَابًا يَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتَبَ إلى كِسْرَى، وإِلَى قَيْصَرَ، وإِلَى النَّجَاشِيِّ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، يَدْعُوهُم إلى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الذِي صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (199) - والحديث أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة آل عمران - رقم الحديث (11022). قال جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما، وأنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، وابن عباس -رضي اللَّه عنه-، وقتادة، والحسن في هذه الآية: نزلت في النجاشي. انظر تفسير القرطبي (5/ 484). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في النور يُرى عند قبر الشهيد - رقم الحديث (2523) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6827). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ملوك الكفار - رقم الحديث (1774).

2 - كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم

2 - كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى هِرَقْلَ (¬1) مَلِكِ الرُّومِ وَبَعَثَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- دِحْيَةَ بنَ خَلِيفَةَ الكَلْبِيَّ -رضي اللَّه عنه-، إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى قَيْصَرَ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيِم بُصْرَى (¬2) وَهُوَ الحَارِثُ بنُ أَبِي شِمْرٍ (¬3) مَلِكُ غَسَّانَ لِيَدْفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ. * سَفَرُ هِرَقْلَ مِنَ القُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ: وَكَانَ هِرَقْلُ قَدْ نَذَرَ إِنْ ظَهَرَتِ (¬4) الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ أَنْ يَمْشِيَ حَافِيًا مِنَ القُسْطَنْطينِيَّةِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَمَّا انْتَصَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسٍ (¬5)، خَرَجَ هِرَقْلُ مِنْ بِلَادِهِ يَمْشِي عَلَى قَدَمَيْهِ شُكْرًا للَّهِ عَلَى انْتِصَارِهِمْ عَلَى فَارِسٍ لِيُصَلِّيَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَمَّا انْتَهَى إلى إِيلْيَاءَ (¬6)، وَقَضَى فِيهَا صَلَاتَهُ وَمَعَهُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 49): هِرَقْل هو ملك الروم، وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف، ولقبه قيصر، وهو لقب كل من تملك الروم. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 55): بُصرى: بضم الباء، وهي مدينة بالشام. (¬3) شِمْر: بكسر الشين وسكون الميم. (¬4) ظَهَرَتْ: أي غَلَبَتْ وانتصرت. انظر النهاية (3/ 152). (¬5) أخرج تفاصيل هذه الوقعة: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2495) (2769) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الروم - رقم الحديث (3469) (3471) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (753) - وإسناده صحيح. (¬6) قال الحافظ في الفتح (1/ 49): إيلْيَاء: بهمزة مكسورة اسم مدينة بيت المقدس.

بَطَارِقَتُهُ (¬1) وَأَشْرَافُ الرُّوم، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْس (¬2) مَهْمُومًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ -وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً (¬3) يَنْظُرُ في النُّجُومِ- فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مُلْكَ (¬4) الخَتَانِ قَدْ ظَهَرَ (¬5)، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ (¬6)؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا اليَهُودُ فَلَا يَهُمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ اليَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتِ المُلُوكُ تُهَادِي الأَخْبَارَ بَيْنَهَا، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلهُ عَنِ العَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ؟ فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا وَاللَّهِ الذِي أُرِيتُ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إلى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَّةَ، ¬

_ (¬1) البَطَارِقَة: جمع بِطْرِيقٍ بكسر الباء وسكون الطاء وكسر الراء، وهو الحَاذِقُ بالحَرْبِ وأُمُورِها بلُغَة الروم. انظر النهاية (1/ 134). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 60): خبيثُ النفس: أي رَدِيءُ النَّفْسِ غير طيبها، أي مهمومًا. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 60): حزَّاء: بفتح الحاء وبتشديد الزاي: أي كاهنًا. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 61): مُلْك: بضم الميم وإسكان اللام، وللكشميهني بفتح الميم وكسر اللام. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 61): أي غلب، يعني دَلَّه نَظَرُهُ في حُكْمِ النجوم على أن ملك الخان قد غلب، وهو كما قال؛ لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذْ صالَحَ كُفَّار مكة بالحديبية، وأنزل اللَّه تَعَالَى عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 61): أي من أهل هذا العصر.

وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي العِلْمِ، يَسْأَلُهُ عَمَّا عِنْدَهُ بِشَأْنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَلَمْ يَلْبَثْ هِرَقْلُ أَنْ أَتَاهُ رَسُولُ عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَ إِلَيْهِ كِتَابَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ هِرَقْلُ لِصَاحِبِ شُرْطَتِهِ: انْظُرْ لَنَا مِنْ قَوْمِهِ -أَيْ مِنْ قَوْمِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَدًا نَسْأَلُهُ عَنْهُ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ بِالشَّامِ مَعَ رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ (¬1) مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي المُدَّةِ (¬2) التِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلْيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، عَلَيْهِ التَّاجُ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ لَهُ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا، قَالَ: مَا قَرَابَتُكَ مِنْهُ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ ابْنُ عَمِّي، قَالَ: وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ (¬3) غَيْرِي. ¬

_ (¬1) الرَّكْبُ: اسم من أسماءِ الجمع، وهو من العشرة فما فوقها. انظر النهاية (2/ 233) - فتح الباري (1/ 49). (¬2) يعني مُدَّة الصلح بالحديبية، وكانت مدَّتها عشر سنين، كما تقدم. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 50): وعبدُ مَنَافٍ الأبُ الرابع للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وكذا لأبي سفيان، وأطلَقَ عليه ابن عَمٍّ؛ لأنه نزل كلا منهما منزلة جدّه، . . . وإنما خَصّ هرقل الأقرب لأنَّه أحْرَى بالإطلاع على أُمُورِه ظاهرًا وباطنًا أكثر من غيره؛ ولأن الأبْعَدَ لا يُؤْمَنُ أن يَقْدَحَ في نسبه بخلاف الأقرب.

فَقَالَ هِرَقْلُ: أَدْنُوهُ مِنِّي، ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لِأَصْحَابِهِ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَنِي، فكَذِّبُوهُ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ لَوْلَا الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّيَ الكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الكَذِبَ عَنِّي، فَصَدَقْتُهُ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَال هِرَقْلُ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: لَا. قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ هِرَقْلُ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ هِرَقْلُ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً (¬1) لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 89): سَخْطَة: بفتح السين، والسخط: كراهية الشيء وعدم الرضى به.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ يَغْدِرُ (¬1)؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا، وَنَحْنُ الآنَ مِنْهُ فِي مدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ غَيْرَ هَذِهِ الكَلِمَةِ. قَالَ هِرَقْلُ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ هِرَقْلُ: فكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ (¬2)، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ هِرَقْلُ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قُلْتُ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، ويَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ (¬3)، وَالعَفَافِ، وَالصِّلَةِ. ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 89): يَغْدِرُ: بكسر الدال، وهو ترك الوفاء بالعهد. (¬2) سِجَالٌ: بكسر السين: أي مرة لنا ومرة علينا. انظر النهاية (2/ 310). (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (2940): قال الصَّدقة، بدل الصدق.

فَقَالَ هِرَقْلُ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ (¬1) قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ لقلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتْبَعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ: أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ (¬2) حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 90): يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 53): أي أمر الإيمان؛ لأنه يظهر نُورًا، ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها, ولهذا نزلت في آخر سِنِيِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} سورة المائدة آية (3).

وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ: أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ، وَأَنَّ الحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ. فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ (¬1) لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ. ثُمَّ دَعَا هِرَقْلُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إلى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إلى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ (¬2) و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ ¬

_ (¬1) تجشَّمت: تكلَّفت. انظر النهاية (1/ 265). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 57): الأرِيسِيِّين: جمع أَرِيسي: أي الفلاحين والزراعين. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة قال: الأكَّارِين: يعني الفَلَّاحين والزراعين.

شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1). فَلَمَّا قُرِئَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى هِرَقْلَ اهْتَزَّ وَتَأَثَّرَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ (¬2)، وَارْتَفَعَتِ الأَصوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أمِرَ (¬3) أمْرُ ابنُ أَبِي كَبْشَةَ (¬4)، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفرِ، فَمَا زِلتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلَامَ. وَسَارَ هِرَقْلُ إلى حِمْصَ (¬5)، فَلَمْ يَرِمْ (¬6) حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِ رُومِيَّه، الذِي كَانَ قَدْ كتَبَ إِلَيْهِ بِشَأْنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُوَافِقُ رَأْيَهُ عَلَى ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (64). (¬2) الصَّخَبُ: الضَّجَّة، واضطراب الأصوات للخصام. انظر النهاية (3/ 14). وفي رواية الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1773): اللَّغَطُ: وهو بفتح الغين، وهي الأصوات المختلفة. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 58): أَمِرَ: بفتح الهمزة وكسر الميم: أي عَظُم. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 58): المقصود بأبي كبشة: هو والد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الرضاعة وهو الحارث بن عبد العزى السَّعْدِيُّ زوج حليمة السعدية. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 63): كانت حِمْصُ دار مُلْكِهِ، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق، وكان فتحها على يَدِ أبي عبيدة بن الجرَّاح -رضي اللَّه عنه- سنة ست عشرة للهجرة بعد هذه القصة بعشر سنين. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 62): يَرِم: بفتح الياء وكسر الراء: أي لم يَصِلْ إلى حمص.

خُرُوجِ الرَّسُول -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ (¬1) هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ في دَسْكَرَهٍ (¬2) لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا (¬3) حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ إِسْلَامِهِمْ، وَخَافَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَمُلْكِهِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمُ الذِي أُحِبُّ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ (¬4). ثُمَّ إِنَّ هِرَقْلَ أَكْرَمَ دِحْيَةَ الكَلْبِيَّ -رضي اللَّه عنه- وَقَال لَهُ قُلْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنِّي ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 63): فأذِنَ: أي أعلم. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 63): الدَّسْكَرة: بفتح الدال وبسكون السين: القَصْرُ الذي حَوْلَه بُيُوت، وكأنه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله وأَذِنَ للروم في دخولها، ثم أغْلَقَهَا ثم طلع عليهم فخاطبهم، وإنما فعل ذلك خشْيَةَ أن يَثِبُوا عليه فيقتلوه. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 63): حاصُوا: أي نفروا، وشبَّههم بالوحوش؛ لأن نفْرَتَهَا أشَدُّ من نفرة البهائم الإنسِيَّة، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمُنَاسَبَةِ الجهل وعدم الفِطْنَةِ، بل هم أضَلّ. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - رقم الحديث (7) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الناس إلى الإِسلام. . . - رقم الحديث (2940) (2941) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل - رقم الحديث (1773) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2370) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر وصف كتب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6555).

3 - كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى ملك الفرس

مُسْلِمٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . ثُمَّ قَالَ هِرَقْلُ لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَدْ تَرَى أَنِّي خَائِفٌ عَلَى مَمْلَكَتِي، وَكتَبَ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنِّي مُسْلِمٌ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِدَنَانِيرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ قَرَأَ الكِتَابَ: "كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، لَيْسَ بِمُسْلِمٍ، وَهُوَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ"، ثُمَّ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الدَّنَانِيرَ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ هِرَقْلَ آثَرَ مُلْكَهُ عَلَى الإِيمَانِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الضَّلَالِ أَنَّهُ حَارَبَ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ بَعْدَ هَذِهِ القِصَّةِ (¬2). 3 - كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى كِسْرَى (¬3) مَلِكِ الفُرْسِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ (¬4) -رضي اللَّه عنه-، إِلَى كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ مَلِكِ الفُرْسِ يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ المُنْذِرِ بنِ سَاوَى (¬5)، لِيَدْفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، وَهَذا نَصُّ الكِتَابِ: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب ذكر الإباحة للإمام قبول الهدايا من المشركين - رقم الحديث (4504). (¬2) انظر فتح الباري (1/ 55). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 470): كسرى: بفتح الكاف وبكسرها لَقَبُ كل من تملَّك الفرس، وكسرى هذا هو ابن بروِيز بن هُرْمُز بن أنُوشَرْوَان، وهو كسرى الكبير المشهور. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 470): هذا هو المعتمد، وقد أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر - رقم الحديث (4424). (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (210/ 1): ساوى بفتح السين وفتح الواو.

"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسولِ اللَّهِ إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي رَسولُ اللَّهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، فَإِنْ أَبَيْتَ، فَإِنَّ إِثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ" (¬1). فَلَمَّا قُرِئَ الكِتَابُ عَلَى كِسْرَى أَخَذَهُ فَمَزَّقَهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ هَذَا وَهُوَ عَبْدِي! فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعَا عَلَيْهِمْ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ (¬2). ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَانَ عَامِلِهِ بِاليَمَنِ أَنِ ابْعَثْ مِنْ عِنْدِكَ رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ (¬3) إلى هَذَا الرَّجُلِ الذِي بِالحِجَازِ، فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ، فَبَعَثَ بَاذَانُ قَهْرَمَانَهُ (¬4)، وَرَجُلًا آخَرَ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا، فَقَدِمَا المَدِينَةَ، فَدَفَعَا كِتَابِ بَاذَانَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَعَاهُمَا إلى الإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) أورد نصَّ كتاب رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كسرى: ابن جرير الطبري في تاريخه (2/ 133) - وحسنه الألباني في تعليقه على فقه السيرة للغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 358. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر - رقم الحديث (4424) والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2184). (¬3) الجَلَدُ: القَوِيُّ في نفسه وجسْمِهِ. انظر النهاية (1/ 275). (¬4) القَهْرَمَانُ: بفتح القاف هو كالخازن والوكيل والحافظ لما تحْتَ يده، والقائمُ بأمورِ الرَّجل، بلغة الفرس. انظر النهاية (4/ 113). روى الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الوكالة - باب وكالة الشاهد والغائب جائزة - قال: وكتب عبد اللَّه بن عمرو إلى قهرمانه وهو غائب عنه أن يزكي عن أهله -أي زكاة الفطر- الصغير والكبير.

* فوائد الحديث

"ارْجِعَا عَنِّي يَوْمَكُمَا هَذَا حَتَّى تَأْتِيَانِي الغَدَ فَأُخْبِرُكُمَا بِمَا أُرِيدُ". فَجَاءَاهُ مِنَ الغَدِ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبْلِغَا صَاحِبَكُمَا أَنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّهُ كسْرَى في هَذِهِ اللَّيْلَةِ" (¬1)، لِسَبْعِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا، وَهِيَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ، وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ، فَقَتَلَهُ، فَرَجَعَا إلى بَاذَانَ بِذَلِكَ، فَأَسْلَمَ بَاذَانُ، وَأَسْلَمَ الأَبْنَاءُ (¬2) مَعَهُ مِنْ فَارِسٍ الذِينَ كَانُوا بَاليَمَنِ (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - الدُّعَاءُ إِلَى الإِسْلَامِ بِالكَلَامِ وَالكِتَابَةِ وَأَنَّ الكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ. 2 - وَفِيهِ إِرْشَادُ المُسْلِمِ إلى الكَافِرِ. 3 - وَفِيهِ أَنَّ العَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ المُلُوكِ بِتَرْكِ قَتْلِ الرُّسُلِ، وَلهَذَا مَزَّقَ كِسْرَى كِتَابَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّسُولِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20438) وإسناده صحيح. (¬2) يُقال لأولادِ فارِس: الأبناء، وهم الذين أرسَلَهُمْ كسرى مع سَيْفِ بنِ ذِي يَزَن لما جاء يستَنْجِدُهُ على الحبَشَةِ، فنَصَرُوهُ ومَلَكُوا اليمن، وتدَيَّروها وتزوَّجُوا في العرب، فقيل لأولادهم الأبناء، وغلب عليهم هذا الاسم؛ لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم. انظر النهاية (1/ 21). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 125). (¬4) انظر فتح الباري (6/ 209).

* تبشير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتح فارس والروم

* تَبْشِيرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِفَتْحِ فَارِسٍ وَالرُّومِ: وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى دَعْوَةَ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ مَزَّقَ اللَّهُ تَعَالَى مُلْكَ فَارِسٍ، وَسَقَطَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي خِلَافَةِ الفَارُوقِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَمَلَكَهَا المُسْلِمُونَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَفْتَحُنَّ كنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَقَدِ اسْتُشْكِلَ هَذَا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الفُرْسِ؛ لِأَنَّ آخِرَهُمْ قُتِلَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه-، وَاسْتُشْكِلَ أَيْضًا مَعَ بَقَاءِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ المُرَادَ لَا يَبَقَى كِسْرَى بِالعِرَاقِ وَلَا قَيْصَرُ بِالشَّامِ، فَإِنَّ مُلْكَهُمَا زَالَ عَنِ الإِقْلِيمَيْنِ المَذْكُورَيْنِ، وَقِيلَ: الحِكْمَةُ فِي أَنَّ قَيْصَرَ بَقِيَ مُلْكُهُ وَإِنَّمَا ارْتَفَعَ مِنَ الشَّامِ وَمَا وَالَاهَا، وَكِسْرَى ذَهَبَ مُلْكُهُ أَصْلًا وَرَأْسًا أَنَّ قَيْصَرَ لَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبِلَهُ وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ، وَكِسْرَى لَمَّا أَتَاهُ كِتَابُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَزَّقه فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُمَزِّقَ مُلْكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَكَانَ كَذَلِكَ (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإِسلام - رقم الحديث (3618) - وأخرجه مسلم - كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب لا تقوم الساعة حتى يمُرَّ الرجل بقبر الرجل - رقم الحديث (2918). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 334).

4 - كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك الإسكندرية

رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ المُؤْمِنِينَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى الذِي فِي الأَبْيَضِ" (¬1). 4 - كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المُقَوْقِسِ مَلِكِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَاطِبَ بنَ أَبِي بَلْتَعَةَ -رضي اللَّه عنه-، إلى المُقَوْقِسِ عَظِيمِ القِبْطِ صَاحِبِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَاسْمُهُ جُرَيْجُ بنُ مِينَاءَ، يَدْعُوهُ إِلَى الإِسْلَامِ، وَكتَبَ مَعَهُ كِتَابًا هَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولهِ، إلى المُقَوْقِسِ عَظِيِم القِبْطِ، سَلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِك اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمُ القِبْطِ، {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ". فَلَمَّا انْتَهَى الكِتَابُ إلى المُقَوْقِسِ، أخَذَهُ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ قَرَأَهُ، وَأَكْرَمَ حَاطِبًا وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ وَقَدْ جَمَعَ بَطَارِقَتَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأُكَلِّمُكَ بِكَلَامٍ وَأُحِبُّ أَنْ تَفْهَمَهُ مِنِّي. ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (18/ 34): قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأبْيَضُ" أىِ الذي في قَصْرِهِ الأبيض. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل - رقم الحديث (2919) (78).

قَالَ حَاطِبٌ: هَلُمَّ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِكَ أَلَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ؟ قَالَ حَاطِبٌ: بَلَى، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ المُقَوْقِسُ: فَمَالَهُ حَيْثُ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَيْثُ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِ إلى غَيْرِهَا؟ فَقَالَ لَهُ حَاطِبٌ: أَلَسْتَ تَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ، فَمَالَهُ حِينَ أَخَذَهُ قَوْمُهُ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ أَلَّا يَكُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ في السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ المُقَوْقِسُ: أَنْتَ حَكِيمٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ. ثُمَّ كَتَبَ المُقَوْقِسُ كِتَابًا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَعْطَاهُ حَاطِبًا قَالَ فِيهِ: قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ، وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ نَبِيًّا بَقِيَ، وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالشَّامِ، وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَكَ، وَبَعَثْتُ إِلَيْكَ بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي القِبْطِ عَظِيمٌ، وَقَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ كِسْوَةً، وَبَغْلَةً تَرْكَبُهَا، وَاسْمُ هَذِهِ الْبَغْلَةِ "دُلْدُلٌ". وَلَمْ يَزِدِ المُقَوْقِسُ عَلَى هَذَا، وَلَمْ يُسْلِمْ، وَرَجَعَ حَاطِبٌ -رضي اللَّه عنه- إِلَى المَدِينَةِ، وَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْلَ المُقَوْقِسِ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضَنَّ (¬1) الخَبِيثُ ¬

_ (¬1) ضَنَّ: بفتح الضاد وتشديد النون: يعني بَخِلَ. انظر النهاية (3/ 95).

بِمُلْكِهِ، وَلَا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ"، وَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَدِيَّتَهُ، وَأَخَذَ الجَارِيَتَيْنِ وَهُمَا مَارِيَةُ وَأُخْتُهُا سِيرِينُ (¬1). رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ القَارِي قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ حَاطِبَ بنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى المُقَوْقِسِ صَاحِبِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ -يَعْنِي بِكِتَابِهِ مَعَهُ إِلَيْهِ- فَقَبَّلَ كِتَابَهُ، وَأَكْرَمَ حَاطِبًا، وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ، ثُمَّ سَرَّحَهُ (¬2) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَهْدَى لَهُ مَعَ حَاطِبٍ كِسْوَةً وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ بِسَرْجِهَا، وَجَارِيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أُمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الأُخْرَى، فَوَهَبَهَا لِجَهْمِ بنِ قَيْسٍ العَبْدَرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَهِيَ أُمُّ زَكَرِيَّا بن جَهْمٍ الذِي كَانَ خَلِيفَةَ عَمْرِو بنِ العَاصِ عَلَى مِصْرَ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ بُرَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَأَمَّا البَغْلَةُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْكَبُهَا، وَأَمَّا إِحْدَى الجَارِيَتَيْنِ فتَسَرَّاهَا (¬4)، فَوَلَدَتْ لَهُ إبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الأُخْرَى، فَأَعْطَاهَا حَسَّانَ بنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 126) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 395 - 396). (¬2) سَرّح عنه: فَرّج عنه. انظر لسان العرب (6/ 230). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2570) (4349). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (10/ 158): السُرية: بضم السين وكسر الراء الثقيلة، سميت بذلك لأنها مشتقهَ من التسرر، وأصله من السر، وهو من أسماء الجماع. (¬5) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4350).

* تبشير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بفتح مصر

* تَبْشِيرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِفَتْحِ مِصْرَ: وَقَدْ بَشَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِفَتْحِ مِصْرَ وَأَوْصَى بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا القِيرَاطُ (¬1)، فَإِذَا فتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا"، أَوْ قَالَ: "ذِمَّةً وَصِهْرًا" (¬2). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَمَّا الذِّمَّةُ فَهِيَ الحُرْمَةُ وَالحَقُّ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الذِّمَامِ، وَأَمَّا الرَّحِمُ فَلِكَوْنِ هَاجَرَ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الصِّهْرُ فَلِكَوْنِ مَارِيَةَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ مِنْهُمْ (¬3). وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الكَبِيرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ فَقَالَ: "اللَّهَ اللَّهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عُدَّةً وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (¬4). ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في النهاية (4/ 37): القِيرَاطُ: جزءٌ من أجزاء الدينار، . . . وأرادَ بالأرض المستفتحة مصر، وخصَّها بالذكر، وإن كان القيراط مذكورًا في غيرها؛ لأنه كان يغلب على أهلها أن يقولوا: أعْطَيْتُ فلانًا قَرَارِيط، إذا أسمعه ما يكرهه، واذْهَبْ لا أعطيك قَرَارِيط: أي سَبَّك وإسماعك المكروه، ولا يوجد ذلك في كلام غيرهم. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب وصية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأهل مصر - رقم الحديث (2543) (227) - وأخرجه الإِمام أحمد في المسند - رقم الحديث (21520). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 79). (¬4) أورده الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (3113) - وعزاه إلى الطبراني في الكبير - وصحح إسناده.

5 - كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث بن أبي شمر صاحب دمشق

5 - كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الحَارِثِ بنِ أَبِي شِمْرٍ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شُجَاعَ بنَ وَهْبٍ الأَسْدِيَّ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى الحَارِثِ بنِ أَبِي شِمْر الغَسَّانِيِّ صَاحِبِ دِمَشْقَ يَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا هَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلى الحَارِثِ بنِ أَبِي شِمْرٍ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ، إِنِّي أَدْعُوكَ إلى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَبْقَى لَكَ مُلْكُكَ". فَلَمَّا قَرَأَ الحَارِثُ بنُ أَبِي شِمْرٍ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَمَى بِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَنْتَزعُ مِنِّي مُلْكِي، وَبَدَأَ هَذَا الرَّجُلُ يَحْشُدُ جَيْشَهُ لِلْهُجُومِ عَلَى المَدِينَةِ، وَلَكِنَّ هِرَقْلَ تَدَخَّلَ وَدَعَاهُ إِلَى إِيلْيَاءَ -بَيْتِ المَقْدِسِ-، وَرَجَعَ شُجَاعُ بنُ وَهْبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى المَدِينَةِ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَادَ مُلْكُهُ"، وَمَاتَ الحَارِثُ بنُ أَبِي شِمْرٍ الغَسَّانِيُّ عَامَ الفَتْحِ (¬1). وَكَانَ هَذَا التَّوَتُّرُ مَعَ الحَارِثِ بنِ أَبِي شِمْرٍ بِدَايَةَ أَمْرِ مَعْرَكَةِ مُؤْتَةَ، كَمَا سَيَأْتِي. * * * ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكبْرى لابن سعد (1/ 126) - زاد المعاد (3/ 608).

6 - كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هوذة بن علي ملك اليمامة

6 - كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى هَوْذَةَ بنِ عَلِيٍّ مَلِكِ اليَمَامَةِ وَبَعَثَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلِيطَ بنَ عَمْرٍو العَامِرِيَّ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى هَوْذَةَ بنِ عَلِيٍّ الحَنَفِيِّ صَاحِبِ اليَمَامَةِ يَدْعُوهُ إلى الإِسْلَامِ، وَكتَبَ مَعَهُ كِتَابًا هَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلى هَوْذَةَ بنِ عَلِيٍّ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَاعْلَمْ أَنَّ دِينِي سَيَظْهَرُ إلى مُنْتَهَى الخُفِّ (¬1) وَالحَافِرِ (¬2)، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلُ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ". فَلَمَّا قَدِمَ سَلِيطٌ -رضي اللَّه عنه- عَلَى هَوْذَةَ بنِ عَلِيٍّ بِكِتَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنْزَلَهُ وَحَيَّاهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَلَمْ يَرُدَّ هَوْذَةُ بنُ عَلِيٍّ كِتَابَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِتَابًا قَالَ فِيهِ: مَا أَحْسَنَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ وَأَجْمَلَهُ، وَأَنَا شَاعِرُ قَوْمِي، وَخَطِيبُهُمْ، وَالعَرَبُ تَهَابُ مَكَانِي، فَاجْعَلْ لِي بَعْضَ الأَمْرِ أَتْبَعْكَ. ثُمَّ إِنَّهُ أَجَازَ سَلِيطًا -رضي اللَّه عنه- بِجَائِزَةٍ، وَكَسَاهُ أَثْوَابًا مِنْ نَسْجِ هَجَرٍ (¬3)، فَقَدِمَ سَلِيطٌ -رضي اللَّه عنه- بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا قُرِئَ كِتَابُ هَوْذَةَ بنِ عَلِيٍّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ سَأَلَنِي سَيَابَةً (¬4) مِنَ الأَرْضِ مَا فَعَلْتُ، ¬

_ (¬1) أراد بالخُف الإبل. انظر النهاية (2/ 53). (¬2) الحاَفرِ من الدواب: يكون للفرس, لأن الفرس بشدة دوسها تحفر الأرض. انظر النهاية (1/ 390) - لسان العرب (3/ 237). ومعنى كلامه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن دينه الإِسلام سيبلغ ما بلغَ الفرس والإبل. (¬3) هَجَر: هي اليوم منطقة الإحساء. (¬4) السَّيابة: بفتح السين: البَلَحَة. انظر النهاية (2/ 387).

بَادَ وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ". وَمَاتَ هَوْذَةُ بنُ عَلِيٍّ الحَنَفِيُّ عِنْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ (¬1). هَذِهِ هِيَ الكُتُبُ السِّتَّةُ التِي بَعَثَ بِهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- رُسُلَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ فِي المُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وَقَدْ كتَبَ رَسُولُ اللَّهِ كتبًا أُخْرَى بَعَثَ بِهَا إِلَى مُلُوكِ عُمَانَ، وَالبَحْرَيْنِ، وَاليَمَنِ، سَنَذْكُرُهَا فِي حِينِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُلَاحَظُ عَلَى هَذِهِ الكُتُبِ الخِبْرَةُ الدَّقِيقَةُ بِنُفُوسِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَحُسْنُ تَخَيُّرِ الأَلْفَاظِ المُنَاسِبَةِ لِلْكُلِّ، وَالمُثِيرَةِ لِلْعَوَاطِفِ وَالمَشَاعِرِ، كَمَا يُلَاحَظُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ كَانَ رَدُّهُ رَدًّا جَمِيلًا رَقِيقًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الإِسْلَامِ وَسَطْوَتِهِ، وَسَمَاحَةِ دَعْوَتِهِ، فَلَا تَعْقِيدَ فِيهَا وَلَا غُمُوضَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ الذِينَ حَمَلُوا الكِتَابَ كَانُوا عِنْدَ حُسْنِ ظَنِّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِمْ، وَوَفَّوْا بِمَا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الإِقْدَامِ، كَمَا كَانَ عَجِيبًا أَنْ لَمْ يُقْتَلْ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ العَالَمَ حِينَئِذٍ كَانَ يَسْتَشْرِفُ إِلَى دِينٍ جَدِيدٍ سَمْحٍ، يُنْقِذُهُ مِنَ الحَضِيضِ الذِي هَوَى إِلَيْهِ، فَكَانَ هَذَا الدِّينُ هُوَ الإِسْلَامُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 126) - زاد المعاد (3/ 607). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 36) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

إصابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من سحر يهود

إِصَابَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ سِحْرِ يَهُودٍ (¬1) لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الحِجَّةِ وَدَخلَ شَهْرُ المُحَرَّمِ جَاءَتْ رُؤَسَاءُ مِنَ اليَهُودِ مِنَ الذِينَ بَقُوا بِالمَدِينَةِ مِمَّنْ يُظْهِرُ الإِسْلَامَ وَهُوَ مُنَافِقٌ إِلَى لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ (¬2) مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ (¬3) , وَكَانَ مُنَافِقًا (¬4)، وَكَانَ سَاحِرًا قَدْ عَلِمَتْ ذَلِكَ يَهُودٌ أَنَّهُ أَعْلَمُهُمْ بِالسِّحْرِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الأَعْصَمِ! أَنْتَ أَسْحَرُ مِنَّا، وَقَدْ سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ فَسَحَرَ مِنَّا الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فَلَمْ نَصْنَعْ شَيْئًا، وَأَنْتَ تَرَى أَثَرَهُ فِينَا وَخِلَافَهُ دِينَنَا، وَمَنْ قَتَلَ مِنَّا وَأَجْلَى، وَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ عَلَى ذَلِكَ ¬

_ (¬1) قال القاضي عياض في كتابه الشفا (2/ 186 - 187): السِّحْرُ مرضٌ من الأمراض وعارضٌ من العلل يجوزُ عليهم -أي على الأنبياء- كأنواع الأمراض ممَّا لا ينكر ولا يقدح في نبوتهم، وسيتبيَّن لنا من مضمون الروايات التي سنوردها فيما أصابه -صلى اللَّه عليه وسلم- من السحر، أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثَّر في بصره وحَبْسِهِ عن نسائه وطعامه، وأضعَفَ جِسْمَهُ وأمرضه، فليسَ في إصابة السِّحْرِ له -صلى اللَّه عليه وسلم- وتأثِيرِهِ فيه ما يُدخل لبسًا في أمره أو شرعه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 389): لَبيد: بفتح اللام وكسر الباء، والأعصم: بوزن أحمر. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 389): زُريق: بضم الزاي وفتح الراء مصغرًا، بطن من الأنصار مشهور من الخزرج، وكان بين كثير من الأنصار وبين كثير من اليهود قبل الإِسلام حِلْفٌ وإخَاءٌ وَوُدٌّ، فلما جاء الإِسلام ودخل الأنصار فيه تبرءوا منهم. (¬4) قلتُ: وقع في بعض الروايات أنه يهودي، والصحيح أنه من الأنصار من بني زريق، وكان منافقًا. قال القاضي عياض فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (11/ 389): يحتمل أن يكون قيل له يهودي، لكون من حلفائهم، لا أنه كان على دينهم.

* تأثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بسحر لبيد

جُعْلًا (¬1) عَلَى أَنْ تَسْحَرَهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ (¬2). * تَأَثُّرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسِحْرِ لَبِيدٍ: فَعَمَدَ لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ إِلَى مُشْطٍ (¬3) وَمُشَاطَةٍ (¬4)، فَعَقَدَ فِيهِ عَقْدًا، وَتَفَلَ فِيهِ تَفْلًا، وَجَعَلَهُ فِي جُبِّ (¬5) طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، ثُمَّ انْتَهَى بِهِ حَتَّى جَعَلَهُ تَحْتَ رَعُوفَةِ (¬6) البِئْرِ، فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمْرًا أَنْكَرَهُ حَتَّى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ، وَحَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ. وَمَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَضًا شَدِيدًا، وَأُخِذَ عَنِ النِّسَاءِ، وَعَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّةَ أَشْهُرٍ (¬7)، حَتَّى دَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، قَالَتْ ¬

_ (¬1) الجُعْلُ: كل ما يُجعل على العمل من أجْرٍ أو غيره. انظر لسان العرب (2/ 301). (¬2) نَكَأْتُ العَدُوَّ: أكثَرْتُ فيه الجِرَاحَ والقتل. انظر النهاية (5/ 103) - لسان العرب (14/ 275). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 393): المُشْط: بضم الميم، وهو الآلة المعروفة التي يُسَرَّح بها شعر الرأس واللحية. (¬4) المشاطة ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سُرح بالمشط. انظر فتح الباري (11/ 396). (¬5) وفي رواية أخرى: جُفّ: بالفاء. قال الإِمام النووي في شرح مسلم (14/ 149): وهما بمعنى واحد، وهو وِعَاءُ طلع النخل، وهو الغشاء الذي يكون عليه، ويطلق على الذكر والأنثى. (¬6) الرَعُوفَة: هي صَخْرَةٌ تُتْرَكُ في أسفل البِئْرِ إذا حُفِرَت تكون ناتِئَةً هناك، فإذا أرادوا تَنْقِيَةَ البئر جلسَ المُنتقِي عليها. انظر النهاية (4/ 212) - فتح الباري (11/ 399). (¬7) هذه رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24347)، ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي "فأقام أربعين ليلة". =

عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدِي دَعَا اللَّهَ، ثُمَّ دَعَا، ثُمَّ دَعَا (¬1)، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَائِشَةُ! أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ (¬2) -هُمَا جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ-، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ (¬3)؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ (¬4). قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ، وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْع نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذَرْوَانَ" (¬5) , فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ (¬6) ¬

_ = قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 390): ويُمْكِنُ الجمعُ بأنْ تكُونَ السِّتَّةُ أشهر من ابتداءً تغير مزاجه -صلى اللَّه عليه وسلم- والأربعين يومًا من استِحْكَامِهِ. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 391): هذا هو المَعْهُودِ منه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يُكَرِّرُ الدعاء ثلاثًا. (¬2) في رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24347) عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: فأتَاهُ مَلَكَانِ. (¬3) في رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24347) قال: مَا بَالُهُ. (¬4) مطبُوبٌ: أي مسحور. انظر النهاية (3/ 101). (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 394): الأصل: بئر ذي أرْوَان، ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة، فصارت ذَرْوَان، وهي بفتح الذال وسكون الراء. (¬6) وقعَ في حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عند ابن سعد في طبقاته (2/ 349): فبعث =

* نزول المعوذتين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

فَشَاهَدَهَا، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَاءَ عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ! هَذِهِ البِئْرُ التِي أُورِيتُهَا، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ (¬1) الحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: "قَدْ عَافَانِيَ اللَّهُ فكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا" (¬2)، ثُمَّ أَمَرَ بِالبِئْرِ فَدُفِنَتْ (¬3). * نُزُوُل المُعَوِّذَتَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَنَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُعَوِّذَتَانِ، سُورَةُ الفَلَقِ وَسُورَةُ النَّاسِ، وَشُفِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سِحْرِ لَبِيدِ بنِ الأَعْصَمِ. ¬

_ = رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عليٍّ وعمار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فأمرهما أن يأتيا البئر. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 394): ويمكنُ الجمع بأن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وجَّهَ أصحابه أوَّلًا، ثم توجّه فشاهده بنفسه. (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 394): نُقَاعَة: بضم النون وتخفيف القاف، وهو الماء الذي يُنْقَعُ فيه الحِنَّاء، والحِنَّاءُ معروفٌ: أي أن لون ماء البئر لون الماء الذي ينقع فيه الحناء، يعني أحمر. (¬2) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (14/ 149): خَشِيَ -صلى اللَّه عليه وسلم- من إخراجه وإشاعته ضررًا وشَرًّا على المسلمين من تذكر السحر أو تعلمه وشُيُوعه والحديث فيه، وهو من باب ترك المصلحة لخوف مفسدة أعظم منها. (¬3) أخرج خبر إصابة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسحر: البخاري في صحيحه - كتاب الطب - باب السحر - رقم الحديث (5763) - وباب هل يستخرج السحر؟ - رقم الحديث (5765) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب السحر - رقم الحديث (2189) (43) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24347) (24348) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5934) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر وصف ما طب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6583) (6584).

* ترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبيد بن الأعصم

رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سَحَرَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ (¬1)، فَاشْتَكَى، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. "أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَتَانِ، فتَعَوَّذُوا بِهِنَّ، فَإِنَّهُ لَمْ يُتَعَوَّذْ بِمِثْلِهِنَّ". يَعْنِي المُعَوِّذَتَيْنِ (¬3). * تَرْكُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَبِيدَ بنَ الأَعْصَمِ: وَترَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَبِيدَ بنَ الأَعْصَمِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ سُئِلَ: أَعَلَى مَنْ سَحَرَ مِنْ أَهْلِ العَهْدِ قَتْلٌ؟ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ صُنِعَ لَهُ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ صَنَعَهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ (¬4). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَبِيدَ بنَ الأَعْصَمِ: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ؛ وَلِأَنَّهُ خَشِيَ إِذَا قتَلَهُ أَنْ تَثُورَ بِذَلِكَ ¬

_ (¬1) أي من حلفاء يهود، لا أنه يهودي؛ لأنه من الأنصار من بني زُريق، وكان منافقًا، كما ذكرنا ذلك قبل قليل. (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5935). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17299). (¬4) عَلّقه البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب هل يُعفى عن الذمي إذا سحر؟ . قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (6/ 414): وصله ابن وهب في جامعه.

* أنفع علاج للسحر

فِتْنَةٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَبَيْنَ حُلَفَائِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ مِنْ نَمَطِ مَا رَاعَاهُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِ المُنَافِقِينَ (¬1). * أَنْفَعُ عِلَاجِ لِلسِّحْرِ: قَالَ ابنُ القَيِّمِ: وَمِنْ أَنْفَعِ عِلَاجَاتِ السِّحْرِ الأَدْوِيَةُ الإِلهِيَّةُ مِنَ الأَذْكَارِ، وَالآيَاتِ، وَالدَّعَوَاتِ، فَالقَلْبُ إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنَ اللَّهِ مَغْمُورًا بِذِكْرِهِ، وَلَهُ مِنَ التَّوَجُّهَاتِ وَالدَّعَوَاتِ وَالأَذْكَارِ وَالتَّعَوُّذَاتِ وِرْدٌ لَا يُخِلُّ بِهِ يُطَابِقُ قَلْبَهُ وَلسَانَهُ، كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ التِي تَمْنَعُ إِصَابَةَ السِّحْرِ لَهُ، قَالَ: وَسُلْطَانُ تَأْثِيرِ السِّحْرِ هُوَ فِي القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ، وَلهَذَا غَالِبُ مَا يُؤَثّر فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالجُهَّالِ؛ لِأَنَّ الأَرْوَاحَ الخَبِيثَةَ إِنَّمَا تَنْشَطُ عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدَّةً لِمَا يُنَاسِبُهَا (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ -أَيْ عَلَى كَلَامِ ابْنِ القَيِّمِ -رضي اللَّه عنه- حَدِيثُ البَابِ، وَجَوَازُ السِّحْرِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ عَظِيمِ مَقَامِهِ وَصِدْقِ تَوَجُّهِهِ، وَمُلَازَمَةِ وِرْدِهِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ الِانْفِصَالُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الغَالِبِ، وَأَنَّ مَا وَقَعَ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِبَيَانِ تَجْوِيزِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (11/ 402). (¬2) انظر زاد المعاد (4/ 116). (¬3) انظر فتح الباري (11/ 401).

قدوم قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء رضي الله عنها

قُدُومُ قُتَيْلَةَ (¬1) بِنْتِ عَبْدِ العُزَّى عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ الأَحْدَاثِ التِي حَدَثَتْ فِي فَتْرَةِ هُدْنَةِ الحُدَيْبِيَةِ: أَنْ قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ العُزَّى عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمُدَّتِهِمْ (¬2)، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُلْتُ: إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ (¬3)، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ ¬

_ (¬1) قُتيلة بالتصغير بنت عبد العُزَّى، زوجة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- وكان طلَّقَها في الجاهلية، ورُزِقَ منها أسماءَ، وعبدَ اللَّه وهو الذي كان يأتي بالأخبار إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يومَ الهجرة، وتقدم ذكر ذلك. واختُلِفَ في إسلام قُتَيلة هذه، قال الإِمام النووي في شرح مسلم (7/ 78): اختلف العلماء في إسلام قتيلة هل أسلمت أم ماتت على كفرها، والأكثرون على موتها مشركة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 555): أرادت بذلك ما بين الحديبية والفتح. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 555): قولها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وهي راغبة: أي في شيء تأخذه وهي على شركها, ولهذا استأذنت أسماء في أن تَصِلَهَا, ولو كانت راغبة في الإِسلام لم تحتج إلى إذن.

* فوائد الحديث

الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ: 1 - وُجُوبُ نَفَقَةِ الأَبِ الكَافِرِ وَالأُمِّ الكَافِرَةِ، وَإِنْ كَانَ الوَلَدُ مُسْلِمًا. 2 - وَفِيهِ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الحَرْبِ وَمُعَامَلَتُهُمْ فِي زَمَنِ الهُدْنَةِ. 3 - وَفِيهِ السَّفَرُ فِي زِيَارَةِ القَرِيبِ. 4 - وَفِيهِ تَحَرِّي أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا، وَكَيْفَ لَا، وَهِيَ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، وَزَوْجُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (8 - 9) - والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الهبة وفضلها - باب الهدية للمشركين - رقم الحديث (2620) - وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة - باب (18) - رقم الحديث (3183) - وأخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين - رقم الحديث (1003) - وأخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (19). (¬2) انظر فتح الباري (5/ 556).

غزوة ذي قرد أو الغابة

غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ (¬1) أَوِ الغَابَةُ وَكَانَتْ هَذِهِ الغَزْوَةُ قَبْلَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ (¬2)، وَأَجْمَعَ أَهْلُ المَغَازِي وَالسِّيَرِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الحُدَيْبِيَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) ذي قَرَد: بفتح القاف والراء: ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر. انظر النهاية (4/ 33). وتسمى كذلك هذه الغزوة باسم: غزوة الغَابَة وهي موضع على بريد -البريد مسافة معلومة قدرت بفرسخين، والفرسخ: ثلاثة أميال- من المدينة في طريق الشام، أضيفت إليها الغزوة؛ لأن اللّقَاح -وهي الإبل- التي أُغير عليها كانت بها. انظر شرح المواهب (3/ 109) - لسان العرب (1/ 367) (10/ 223) - معجم البلدان (6/ 373). (¬2) قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 249): وهذه الغزوةُ كانت بعد الحديبية، وقد وَهِمَ فيها جماعة من أهل المغازي والسير، فذكروا أنها كانت قبل الحديبية، والدليل على صِحَّة ما قلنا ما رواه الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1807) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16513) (16539) -واللفظ لأحمد- عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: قدِمْنَا المدينة زَمَنَ الحديبية مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فخرجنا أنا ورَبَاح غلام رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِظَهْرِ -أي إبل- رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. . .، فلما كان بِغَلَس -أي آخر الليل- أغار عبد الرحمن بن عيَيْنة بن حصن الفزاري على إِبِل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقتل راعيها. وساق القصة. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 234): بعد أن ساق حديث سلمة بن الأكوع -رضي اللَّه عنه- قال: فعلى هذا ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قَرَد أصح مما ذكره أهل السير. قلت: ممن ذهب إلى أنها بعد الحديبية: الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 541). (¬3) عند ابن سعد في طبقاته (2/ 289): أنها كانت في ربيع الأول سنة ست قبل =

* سببها

وَهَذِهِ الغَزْوَةُ هِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ بَطَلُ هَذِهِ الغَزْوَةِ سَلَمَةَ بنَ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه-. * سَبَبُهَا: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِشْرُونَ لَقْحَةً (¬1) تَرْعَى بِالغَابَةِ، وَكَانَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ غِفَارٍ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ، فَقَتَلُوا الرَّجُلَ وَأَسَرُوا امْرَأتَهُ، وَاسْتَاقُوا اللِّقَاحَ. * تَحَرُّكُ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَمِعَ بِهِمْ سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ خَرَجَ هُوَ وَرَبَاحٌ غُلَامُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ نَحْوَ الغَابَةِ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ وَنَبْلَهُ، ومَعَهُ فَرَسٌ لِطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- يَقُودُهُ، فَلَقِيَهُ غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لَهُ: أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانٌ. فَقَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه- لِرَبَاحٍ غُلَامِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الفَرَسَ فَأَلْحِقْهُ بِطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَدْ أُغِيرَ عَلَى سَرْحِهِ (¬2)، ثُمَّ ¬

_ = الحديبية، وأما ابن إسحاق في السيرة (3/ 308): فإنه لم يحدد لها تاريخًا بالضبط، وإنما جعلها في أحداث السنة السادسة للهجرة قبل الحديبية. (¬1) اللِّقْحة: بكسر اللام وفتحها: هي الناقة الغزيرة اللبن. انظر النهاية (4/ 225). (¬2) السَّرْحُ: هي الماشية. انظر النهاية (2/ 322).

وَقَفَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى تَلٍّ، وَجَعَلَ وَجْهَهُ قِبَلَ المَدِينَةِ، ثُمَّ نَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: يَا صَبَاحَاهُ. فَأَسْمَعَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ المَدِينَةِ (¬1)، قَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ اتَّبَعْتُ القَوْمَ مَعِيَ سَيْفِي ونَبْلِي، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَعْقِرُ (¬2) بِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَكْثُرُ الشَّجَرُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ جَلَسْتُ لَهُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَمَيْتُ، فَلَا يُقْبِلُ عَلَيَّ فَارِسٌ إِلَّا عَقَرْتُ بِهِ، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ، وَأَنَا أَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ (¬3) فَأَلْحَقُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ، فَأَرْمِيهِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَيَقَعُ سَهْمِي فِي الرَّجُلِ حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ السَّهْمِ إِلَى كَتِفِهِ، فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَإِذَا كُنْتُ فِي الشَّجَرِ أَحْرَقْتُهُمْ بِالنَّبْلِ، حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الجَبَلُ، فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِهِ، عَلَوْتُ الجَبَلَ، فَجَعَلْتُ أُرْدِيهِمْ (¬4) بِالحِجَارَةِ، فَمَا زَالَ ذَاكَ شَأْنِي ¬

_ (¬1) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (9/ 115): لا بَتَي المدينة: هما الحَرَّتَان واحدتهما لابة، وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء، وللمدنية لابتانِ شرقِيَّة وغربية، وهي بينهما. وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 235): فيه إشعار بأنه كان واسع الصوت جِدًا، ويحتمل أن يكون ذلك من خَوَارِقِ العادات. (¬2) أعقر بهم: أي أقتل مَرْكُوبَهُم. انظر النهاية (3/ 246). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 235): الرُّضَّع: بضم الراء وتشديد الضاد، جمع راضع وهو اللئيم، فمعناه اليوم يوم هلاك اللئام. (¬4) أرديهم: أي أرمِيهِم. انظر النهاية (2/ 198).

شَأْنِي وَشَأْنْهُمْ أَتْبَعُهُمْ فَأَرْتَجِزُ (¬1)، حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ ظَهْرِ (¬2) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي، فَاسْتَنْقَذْتُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلقوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ رُمْحًا، وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً (¬3) يَسْتَخِفُّونَ مِنْهَا، وَلَا يُلْقُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ أَرَامًا (¬4) مِنْ حِجَارَةٍ، يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَاُبهُ، حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ (¬5) فَجَلَسُوا يَتَغَدَّوْنَ، وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ (¬6)، فَأَتَاهُمْ عُيَيْنَةُ بنُ بَدْرٍ الفَزَارِيُّ مَدَدًا لَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذَا الذِي أَرَى؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هَذَا البَرْحَ (¬7)، مَا فَارَقَنَا بِسَحَرٍ (¬8) حَتَّى الآنَ، وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا، وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَوْلَا أَنَّ هَذَا يَرَى أَنَّ وَرَاءَهُ طَلَبًا لَقَدْ تَرَكَكُمْ، لِيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَصَعَدُوا فِي الجَبَلِ، فَلَمَّا أَسْمَعْتُهُمُ الصَّوْتَ، قُلْتُ: أَتَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا ¬

_ (¬1) الرجز: بحرٌ من بحور الشعر معروف، ونوع من أنواعه. انظر النهاية (2/ 182). (¬2) الظهر: الإبل. انظر النهاية (3/ 151). (¬3) البُردة: نوع من الثياب معروف. انظر النهاية (1/ 116). (¬4) الَارَامُ: الأعلام وهي حجارة تُجمع وتُنصب في المَفَازَة -أي الصحراء- يُهتدى بها. انظر النهاية (1/ 44). (¬5) الثَّنِيَّة في الجبل: هو الطريق العالي فيه. انظر النهاية (1/ 220). (¬6) قَرْن الجبل: بفتح القاف وسكون الراء أعلاه. انظر لسان العرب (11/ 135). وفي رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16539) قال سلمة -رضي اللَّه عنه-: ثم علوت الجبل. (¬7) البَرْحُ: الشدة. انظر النهاية (1/ 113). (¬8) في رواية الإِمام مسلم في صحيحه قالوا: ما فارقنا منذ غَلَس. والغَلَس: ظلمة آخر الليل، وهو وقت السحر. انظر النهاية (3/ 339).

* خروج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طلب القوم

ابْنُ الأَكْوَعِ، وَالذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ، وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي، فَرَجَعُوا عَنْهُ. * خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي طَلَبِ القَوْمِ: وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صِيَاحُ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه-، صَرَخَ بِالمَدِينَةِ: "الفَزَعَ الفَزَعَ"، فتَرَامَتِ (¬1) الخُيُولُ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ الفُرْسَانِ: المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، ثُمَّ عَبَّادُ بنُ بِشْرٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَسَعْدُ بنُ زَيْدٍ أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بنِ عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأُسَيْدُ بنُ ظَهِيرٍ، وَعُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ، وَمُحْرِزُ بنُ نَضْلَةَ ويُعْرَفُ بِالأَخْرَمِ الأَسَدِيِّ، وَأَبُو قَتَادَةَ الحَارِثُ بنُ رِبْعِيٍّ فَارِسُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبُو عَيَّاشٍ عُبَيْدُ بنُ زَيْدِ بنِ الصَّامِتِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَّرَ عَلَيْهِمْ سَعْدَ بنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِيَّ، وَقِيلَ: المِقْدَادَ بنَ عَمْرٍو (¬2)، ثُمَّ قَالَ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اخْرُجْ فِي طَلَبِ القَوْمِ حَتَّى أَلْحَقَكَ فِي النَّاسِ". قَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا بَرِحْتُ (¬3) مَقْعَدِي ذَلِكَ حَتَّى نَظَرْتُ إلى فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، وَإِذَا أَوَّلُهُمُ الأَخْرَمُ الأَسَدِيُّ، وَهُوَ مُحْرِزُ بنُ نَضْلَةَ ¬

_ (¬1) ترامت: تتابعت وازدادت. انظر لسان العرب (5/ 329). (¬2) قال ابن سعد في طبقاته (2/ 290): والثبتُ عندنا أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمّر على هذه السرية سعد بن زيد الأشهلي، ولكن الناس نسبوها إلى المقداد لقول حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه-: غداة فوارس المقداد. (¬3) فما بَرِح: أي فما زال. انظر لسان العرب (1/ 361).

-رضي اللَّه عنه-، وَعَلَى أَثَرِهِ أَبُو قتَادَةَ فَارِسُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَلَى أَثَرِ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- المِقْدَادُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: فَوَلَّى المُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ، وَنَزَلْتُ مِنَ الجَبَلِ، فَأَخَذْتُ بِعَنَانِ (¬1) فَرَسِ الأَخْرَمِ، وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَخْرَمُ! احْذَرِ القَوْمَ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَاُبهُ، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتَعْلَمُ أَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ وَالنَّارَ حَقٌّ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنَانَ فَرَسِهِ، وَلَحِقَ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عُيَيْنَةَ، فَأَدْرَكَهُ فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَعَقَرَ الأَخْرَمُ فَرَسَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ (¬2)، فتَحَوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الأَخْرَمِ. فَلَحِقَ أَبُو قتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، وَغَشَّاهُ (¬3) بُرْدَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ أَبُو قتَادَةَ عَلَى فَرَسِ الأَخْرَمِ، ثُمَّ لَحِقَ القَوْمَ. فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ القَتِيلَ مُسَجًّى (¬4) بِبُرْدَةِ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- اسْتَرْجَعُوا، وَقَالُوا: قُتِلَ أَبُو قتَادَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ: "لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ، وَلَكِنَّهُ قَتِيلٌ لِأَبِي قَتَادَةَ وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَهُ، لِتَعْرِفُوا أَنَّهُ صَاحِبَهُ". ¬

_ (¬1) العَنَان: سَيْر اللجام. انظر النهاية (3/ 283). (¬2) روى ابن سعد في طبقاته (3/ 52) عن محرز بن نضلة -رضي اللَّه عنه- أنه قال: رأيت في منامي أن سماءَ الدنيا أُفرِجت لي حتى دخلتُها حتى انتهجت إلى السماء السابعة ثم انتهيتُ إلى سدرة المنتهى فقيل في: هذا منزلك، فعرضتها على أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وكان مِنْ أعْبَرِ الناس، فقال: أبْشِرْ بالشهادة، فُقتل بعد ذلك بيومٍ في غزوة الغابة، وهي غزوة ذي قَرَد. (¬3) غشَّاه: بفتح الغين وتشديد الشين أي غطاه. انظر النهاية (3/ 331). (¬4) مُسَجّى: أي مغطى. انظر النهاية (2/ 310).

وَأَدْرَكَ عُكَّاشَةُ بنُ مُحْصِنٍ -رضي اللَّه عنه- أَوْبَارًا (¬1) أَوِ ابْنَهُ عَمْرَو بنَ أَوْبَارٍ، وَهُمَا عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، فَانْتَظَمَهُمَا بِالرُّمْحِ فَقَتَلَهُمَا جَمِيعًا. قَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ إِنِّي خَرَجْتُ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ فِي أَثَرِ القَوْمِ حَتَّى مَا أَرَى مِنْ غُبَارِ صَحَابَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْئًا، حَتَّى يَعْدِلُوا (¬2) قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ: ذُو قَرَدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهُ، وَهُمْ عِطَاشٌ، فَأَبْصَرُونِي أَعْدُو وَرَاءَهُمْ، فَعَطَفُوا (¬3) عَنْهُ، فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً، وَاشْتَدُّوا فِي الثَّنِيَّةِ -ثَنِيَّةِ ذِي نَثْرٍ- وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَرْمِيهِ، فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمَ يَوْمُ الرُّضَّعِ فَأَصَابَهُ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ كَتِفَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ثُكَلَ أُمِّ (¬4)، أَكْوَعُ بُكْرَةَ (¬5)، فَقَالَ سَلَمَةُ: نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ سَهْمًا آخَرًا، فَعَلِقَ بِهِ سَهْمَانِ، ويُخَلِّفُونَ فَرَسَيْنِ، فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطْحِيَّةٍ (¬6) فِيهَا مَذْقَةٌ (¬7) مِنْ لَبَنٍ، وَسَطْحِيَّةٌ فِيهَا ¬

_ (¬1) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 312) - وفي رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 290): أثار، فاللَّه أعلم. (¬2) عدل: رجع. انظر لسان العرب (9/ 86). (¬3) عطف: انصرف. انصرف. لسان العرب (9/ 268). (¬4) ثكِلَتْكَ أُمُّك: أي فقدتك. انظر النهاية (1/ 212). (¬5) أكوع بكرة: أي أنت الأكوع الذي كان قد تبعنا بُكرة هذا النهار. انظر النهاية (4/ 182). (¬6) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 151): السَّطْحِيّة: إناء من جلود سطح بعضها على بعض. (¬7) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 151): المَذْقَة: بفتح الميم وإسكان الذال: قليل من لبن ممزوج بماء.

مَاءٌ، فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى المَاءِ الذِي حَلّأتُهُمْ (¬1) عَنْهُ بِذِي قَرَدٍ، فإِذا بِنَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي خَمْسِ مِئةٍ، وَإِذا بِلَالٌ قدْ نَحَرَ جَزُورًا مِمَّا خَلَّفْتُ، فَهُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! خَلِّنِي فَأَنْتَخِبُ (¬2) مِنْ أَصْحَابِكَ مِئَةَ رَجُلٍ، فَأَتْبَعَ القَوْمَ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَكُنْتَ فَاعِلًا ذَلِكَ يَا سَلَمَةُ". قَالَ -رضي اللَّه عنه-: نَعَمْ، وَالذِي أَكْرَمَكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ (¬3) فِي ضَوْءَ النَّارِ، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأسْجِحْ (¬4)، إِنَّهُمْ الآنَ لَيُقْرَونَ (¬5) فِي أَرْضِ غَطَفَانَ". قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ، فَقَالَ: مَرُّوا عَلَى فُلَانٍ الغَطَفَانِيِّ فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُورًا، فَلَمَّا أَخَذُوا يَكْشِطُونَ (¬6) جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا، فَقَالُوا: أَتَاكُمُ القَوْمُ، فتَرَكُوهَا وَخَرَجُوا هَارِبِينَ. ¬

_ (¬1) حلأتهم: أي صدَدْتُهم ونَفَيْتُهم عنه، يقصد الذين كان يلحقهم. انظر النهاية (1/ 404). (¬2) الانتِخَابُ: الاختيار والانتقاء. انظر النهاية (5/ 26). (¬3) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (12/ 152): النواجذ من الأضراس: أي الأنياب. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 237): بهمزة قطع وجيم مكسورة: أي سَهّل، والمعنى قدرتَ فاعْفُ، والسَّجَاحَة: السهولة. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 237): يُقْرَون: بضم الياء وسكون القاف وفتح الراء وسكون الواو من القِرى وهي الضيافة. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (3/ 312): قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنهم الآن ليغبقون". وهو بضم الغين، من الغُبُوقِ وهو شرب أول الليل، والمراد أنهم فاتوا وأنهم وصلوا إلى بلاد قومهم، ونزلوا عليهم، فهم الآن يذبحون لهم ويطعمونهم. (¬6) كَشَطَ: رفع وقلع وكشف. انظر النهاية (4/ 152).

* صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذي قرد صلاة الخوف

* صَلَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذِي قَرَدٍ صَلَاةَ الخَوْفَ: وَفِي هَذِهِ الغَزْوَةِ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةَ الخَوْفِ بِذِي قَرَدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةَ الخَوْفِ بِذِي قَرَدٍ، فَصَفَّ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ: صَفٌّ مُوَازِي العَدُوِّ، وَصَفٌّ خَلْفَهُ، فَصَلَّى بِالصَّفِّ الذِي يَلِيهِ رَكْعَةً، ثُمَّ نَكَصَ (¬1) هَؤُلَاءِ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءَ إِلَى مَصَافِّ هَؤُلَاءِ، فَصلَّى بِهِمْ رَكْعَةً أُخْرَى (¬2). وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذِي قَرَدٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً يَتَحَسَّسُ (¬3) الخَبَرَ، قَالَ سَلَمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُ فُرْسَانِنَا اليَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ". ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ" سَهْمَيْنِ: سَهْمَ الفَارِسِ، وَسَهْمَ الرَّاجِلِ جَمِيعًا (¬4) ¬

_ (¬1) النُّكوص: الرجوع إلى وراء. انظر النهاية (5/ 101). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف - رقم الحديث (2871) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2063). (¬3) تَحَسَّسَ الخبرَ: طلبَهُ وبحث عنه. انظر لسان العرب (3/ 170). ومنه قوله تَعَالَى في سورة يوسف آية (87): {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. . .}. (¬4) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذي قرد وغيرها - رقم الحديث (1807) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16539).

* رجوع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة

* رُجُوعُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَقَدْ أَرْدَفَ خَلْفَهُ سَلَمَةَ بنَ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى العَضبَاءِ (¬1). قَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمَا -أَي المَدِينَةِ- قَرِيبًا مِنْ ضَحْوَةٍ (¬2)، وَفِي القَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَا يُسْبَقُ جَعَلَ يُنَادِي: هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ أَلَا رَجُلٌ يُسَابِقُ إِلَى المَدِينَةِ؟ فَأَعَادَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَأَنَا وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرْدِفِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ذَرْنِي (¬3) فَلَأُسَابِقُ الرَّجُلَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ شِئْتَ". قَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ (¬4) شَرَفًا (¬5) أَوْ شَرَفَيْنِ، ثُمَّ عَدَوْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ، وَسَبَقْتُهُ إِلَى المَدِينَةِ (¬6). ¬

_ (¬1) سيأتي بعد قليل أن العضباء قد أصِيبَتْ مع المرأة المسلمة التي أُسِرَتْ، فاللَّه أعلم. (¬2) الضَّحْوَة: هو ارتفاع أول النهار. انظر النهاية (3/ 71). (¬3) في رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16539): خَلِّني. (¬4) ربطت عليه: أي تأخرت عنه. انظر النهاية (2/ 171). (¬5) الشَّرَف: ما ارتفع من الأرض. انظر لسان العرب (7/ 90). (¬6) أخرج تفاصيل غزوة ذي قرد: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب من رأى العدو فنادى - رقم الحديث (3041) - وأخرجها في كتاب المغازي - باب غزوة ذي قرد - رقم الحديث (4194) - وأخرجها مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذي قرد - رقم الحديث (1806) (1807) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16539) (16513) - وانظر زاد المعاد لابن القيم (3/ 248) - وسيرة ابن هشام (3/ 308) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 289).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ العَدْوِ الشَّدِيدِ فِي الغَزْوِ. 2 - وَفِيهِ الإِنْذَارُ بِالصِّيَاحِ العَالِي. 3 - وَفِيهِ تَعْرِيفُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ شُجَاعًا لِيُرْعِبَ خَصْمَهُ. 4 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الثَّنَاءَ عَلَى الشُّجَاعِ، وَمَنْ فِيهِ فَضِيلَةٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الصُّنْعِ الجَمِيلِ لِيَسْتَزِيدَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَحَلُّهُ حَيْثُ يُؤْمَنُ الِافْتِتَانُ. 5 - وَفِيهِ المُسَابَقَةُ عَلَى الأَقْدَامِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَأَمَّا بِالعِوَضِ فَالصَّحِيحُ لَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). * قِصَّةُ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ: أَمَّا المَرْأَةُ المُسْلِمَةُ التِي أُسِرَتْ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ، فَقَدِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُفْلِتَ مِنْ وَثَاقِهَا، فَأَتَتِ الإِبِلَ، فَجَعَلَتْ كُلَّمَا دَنَتْ إِلَى بَعِيرٍ رَغَا (¬2) فتَتْرُكُهُ، حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى العَضْبَاءِ نَاقَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ تَرْغِ، ثُمَّ رَكِبَتْهَا وَوَجَّهَتْهَا قِبَلَ المَدِينَةِ، وَنَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ المَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: العَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ، إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 237). (¬2) الرُّغاء: بضم الراء: صوت الإبل. انظر النهاية (2/ 218).

لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأتوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَذَكَرُوا ذَلِكَ له، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سُبْحَانَ اللَّهِ! بِئْسَمَا جَزَتْهَا"، أَوْ قَالَ: "بِئْسَمَا جَزَيْتِيهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدمَ" (¬1). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّد أَبُو شَهْبَة: وَإِنَّ هَذِهِ القِصَّةَ لترِينَا حُسْنَ العَهْدِ، وَغَايَةَ الوَفَاءِ اللَّذَيْنِ كَانَ يَتَخَلَّقُ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، هَذَا الوَفَاءُ الذِي شَمِلَ بَنِي الإِنْسَانِ وَالحَيَوَانَ، وَقَدْ كَانَ هَذَا دَرْسًا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَذه المَرْأَةَ لِيَكُونَ عِبْرَةً لِلْأَجْيَالِ، إِنَّ صَاحِبَ الخُلُقِ العَظِيمِ يُعَلِّمُنَا أَنْ نُقَابِلَ الإِحْسَانَ بِالإِحْسَانِ، وَالجَمِيلَ بِالجَمِيلِ، وَالنِّعَمَ بِالشُّكْرِ، لَا بِالجُحُودِ وَالكُفْرَانِ، وَأَنَّ الوَفَاءَ لَازِمٌ حَتَّى لِلْحَيَوَانِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ خُلُقًا وَمُرُوءَةً، فَهُوَ لَا يَجُوزُ شَرْعًا، إِذْ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ الإِنْسَانُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب النذر - باب لا وفاء لنذر في معصية اللَّه - رقم الحديث (1641) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19863) - وابن حبان في صحيحه - كتاب النذور - باب ذكر الإخبار عن نفي جواز وفاء نذر الناذر إذا نذر فيما لا يملك - رقم الحديث (4392). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 369) للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

غزوة خيبر من بدايتها إلى نهايتها

غَزْوَةُ خَيبَرَ مِنْ بدَايَتِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا غَزْوَةُ خَيْبَرَ لَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ قَدِمَ مِنْ غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ خَرَجَ فِي بَقِيَّةِ المُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ السَّابِعَةِ (¬1) لِلْهِجْرَةِ إِلَى خَيْبَرَ. * سَبَبُ الغَزْوَةِ: أَمَّا سَبَبُ هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ، هُوَ أَنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ هُمُ الذِينَ حَزَّبُوا الأَحْزَابَ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، وَهُمُ الذِينَ أَثَارُوا بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى الغَدْرِ وَالخِيَانَةِ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، فَكَانَتْ خَيبرُ هِيَ مَوْطِنُ الدَّسَائِسِ وَالتآمرِ، وَمَرْكَزُ إِثَارَةِ الفِتَنِ وَالحُرُوبِ ضِدَّ المُسْلِمِينَ، فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَمْرِ قُرَيْشٍ بِهُدْنَةِ الحُدَيْبِيَةِ، تَفَرَّغَ الآنَ لِخَيبرَ. * طَبِيعَةُ خَيْبَرَ: وَخَيْبَرُ مَدِينَةٌ كَبِيرَة ذَاتُ حُصُونٍ، وَمَزَارعَ وَنَخْل كَثِيرٍ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ المَدِينَةِ ¬

_ (¬1) هذا تاريخها عند ابن إسحاق في السيرة (3/ 357)، وبه قال الجمهور، ورجحه الحافظ في الفتح (8/ 239)، وابن القيم في زاد المعاد (3/ 281)، وابن كثير في البداية والنهاية (4/ 570). وأما أنَّها كانت بعد غزوة ذي قَرد بثلاث ليال، فهذا ثابت في صحيح مسلم - رقم الحديث (1807) من حديثِ سلمة بن الأكوع -رضي اللَّه عنه-، عندما ساقَ حديثه الطويل في غزوة ذي قَرَد، ثم قال -رضي اللَّه عنه-: فواللَّه! ما لبثا إلا ثلاثَ ليالٍ حتى خرَجْنَا إلى خَيْبَرَ مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-.

* تجهيز المسلمين للغزو وخروجهم

ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ (¬1)، وَإِلَيْهَا لَجَأَ يَهُودُ بَنِي قَيْنقاعَ وَالنَّضِيرِ بَعْدَ إِجْلَائِهِمْ مِنَ المَدِينَةِ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- فَكَانَ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا يَهُودٌ. * تَجْهِيزُ المُسْلِمِينَ لِلْغَزْوِ وَخُرُوجُهُمْ: تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِغَزْوِ خَيْبَرَ وَفتحِهَا، وَكَانَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَدْ وَعَدَ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ بِفَتْحِهَا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} (¬2)، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّجَهُّزِ لِغَزْوِ وَفَتْحِ خَيْبَرَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عَادَتِهِ إِذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى (¬3) بِغَيْرِهِ، إِلَّا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَغَزَوَةِ تَبُوكَ، أَمَّا غَزْوَةُ خَيْبَرَ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَهُ بِفَتْحِهَا، وَأَمَّا غَزْوَةُ تبوك، فَلأَنَّ المَسَافَةَ بعيدَةٌ جدًّا، وَلأنَّهَا كَانَتْ مَعَ أَعْظَم دَوْلَةٍ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ وَهِيَ الرُّومُ، فَلَابدَّ مِنْ أَخْذِ الِاسْتِعْدَادِ الكَامِلِ لَهَا. * رَدُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُخَلَّفِينَ: وَلَمَّا تَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ الحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُونَ ¬

_ (¬1) البُرد: بضم الباء والراء، وهي ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال. انظر النهاية (1/ 116). (¬2) سورة الفتح آية (20) - قال المفسرون في الوعد الذي في هذه الآية: هي خيبر. انظر تفسير ابن كثير (7/ 341) - تفسير القرطبي (19/ 320). (¬3) ورَّى: بتشديد الراء أي سَتَرَهُ وكَنَّى عنه، وأوهم أنه يريده غيره. انظر النهاية (5/ 155). روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2769) (54) عن كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنه قال: كان رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- قَلَّمَا يريد غزْوَةً إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة -أي غزوة تبوك-.

* التماس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلاما يخدمه

الخُرُوجَ مَعَهُ رَجَاءَ الغَنِيمَةِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1). ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منَادِيًا نَادِي: أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَنَا إِلَّا رَاغِبٌ فِي الجِهَادِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ إِلَّا أَصْحَابُ الشَّجَرَةِ، وَهُمْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ (¬2). * الْتِمَاسُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غُلامًا يَخْدِمُهُ: وَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخُرُوجَ لِخَيبرَ، أَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَلْتَمِسَ له غُلَامًا يَخْدِمُهُ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِأَبِي طَلْحَةَ: "الْتَمِسْ لِي غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدِمُنِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيبر"، فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِي، وَأَنا غُلَامٌ رَاهَقْتُ (¬3) الحُلُمَ، فكُنْتُ أَخْدُمُ (¬4) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا نَزَلَ، فكنْتُ أَسْمَعُهُ ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية (15). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 303). (¬3) راهَقْتُ: قَارَبْتُ. انظر النهاية (2/ 257). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 182): وقد استشكل من حيث أَنَّ ظاهره أن ابتداء خدمة أنس للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أول ما قدم المدينة؛ لأنه صَحَّ عنه أنه قال: خدمت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تِسْعَ سنين، أخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2309) (53) - وفي رواية: عشر سنين، أخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2309) (51)، وخيبر كانت سنة سبع فيلزم أن يكون إنما خدمه أربع سنين، وأجيب بأن معنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي طلحة: =

كَثِيرًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلع الدَّيْنِ (¬1)، وغَلبةِ الرِّجَالِ" (¬2)، ثُمَّ قَدِمْنَا خَيْبَرَ (¬3). وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ سِبَاعَ (¬4) بنَ عُرْفُطَةَ الغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (¬5). فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده، وَالحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عِرَاكَ بنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ المَدِينَةَ فِي رَهْطٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْبَرَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ سِبَاعَ بنَ عُرْفُطَةَ الغِفَارِيَّ عَلَى المَدِينَةِ (¬6). ¬

_ = "التَمِسْ لي غلاما من غلمانكم"، تعْيِين من يخرج معه في تلك السفرة، فعين له أبو طلحة أنسًا، فينحَطُّ الالتماس على الاستئذان في المسافرة به، لا في أصل الخِدْمَة فإنها كانت متقدمة فيجمع بين الحديثين بذلك. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (12/ 465): الضَّلْعُ: بفتح الضاد، المراد به ثِقَلُ الدَّيْن وشِدَّتُه، وذلك حيث لا يجد من عليه الدَّين وفاءً، ولاسيما مع المطالبة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (12/ 466): أي شدة تسلُّطهم كاستيلاء الرعاء هَرَجًا ومرجًا. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب من غزا بصبي للخدمة - رقم الحديث (2893) وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المدينة، ودعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بالبركة - رقم الحديث (1365) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12616). (¬4) سِباع: بكسر السين. (¬5) وعند ابن إسحاق في السيرة (3/ 357): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- استعمل علي المدينة نُميلة -بالتصغير- بن عبد اللَّه الليثي، والصحيح ما رواه الإمام أحمد والحاكم. (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - حديث رقم (8552) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (4393) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7156).

* قدوم أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه-

* قُدُومُ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬1): وَقَدِمَ المَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ خَيْبَرَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ -رضي اللَّه عنه- وَخَرَجَ مَعَهُ فَشَهِدَ خَيْبَرَ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَسْلَمُوا وَنَزَلُوا عَلَيْهِ (¬2). * طَرِيقُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى خَيْبَرَ وَأَحْدَاثٌ جَرَتْ فِي الطَّرِيقِ: خَرَجَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَسَلَكَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى خَيْبَرَ عَلَى جَبَلِ عَصَرٍ (¬3)، ثُمَّ سَلَكَ عَلَى الصَّهْبَاءَ (¬4)، وَكَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي فِي مَسِيرِهِ إِلَى خَيْبَرَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارِهِ (¬5). أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحيْهِمَا عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 28) الخُشَنِي: بضم الخَاءِ وفتح الشَين، وأبو ثعلبة هذا صحابي مشهور، صروف بكنيته واختلف في اسمه اختلافا كثيرًا، فقيل: جُرْثُوم بضم الجيم، وهو قول الأكثر، وكان إسلامه فبل خيبر، وشهد بيعة الرضوان، وتوجه إلى قومه فأسلموا. (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 159) - الإصابة (7/ 50). (¬3) عَصَر: بفتح العين والصاد، هو جبل بين المدينة ووادي الفُرْع. انظر النهاية (3/ 224). (¬4) الصَّهْبَاء: بفتح الصاد المشدده، هو موضع على رَوْحَة من خيبر. انظر النهاية (3/ 58). (¬5) أخرج صلاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على حماره وهو متوجه إلى خيبر: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر - رقم الحديث (700) (35). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 288): وروى السراج من طريق يحيى بن سعيد عن أنس -رضي اللَّه عنه- أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلي على حمار وهو ذاهب إلى خيبر. وإسناده حسن. قلت: وأخرج الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16041) عن شقران مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: رأيته- يعني النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متوجها إلى خيبر على حمار يصلي عليه، يُومئ إيماءً. -والحديث صحيح لغيره-.

خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلًا، فَقَالَ رَجُلٌ (¬1) مِنَ القَوْمِ لِعَمِّي (¬2) عَامِرِ بنِ الأَكْوَعِ: يَا عَامِرُ أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيَّاتِكَ (¬3)؟ وَكَانَ عَامِر رَجُلًا شَاعِرًا فنَزَلَ يَحْدُو (¬4) بِأَصْحَابِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفِيهِمُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسُوقُ الرِّكَابَ (¬5)، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَاغْفِرْ فِدَاءً (¬6) لَكَ مَا اتَّقَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (12/ 423): هو عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. ووقع في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15556) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 358) بسند ضعيف من حديث أبي الهيثم بن نَصْر بن دَهْر الأسلمي أن أباه حدثه: أنه سمع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع: "انزل يا ابن الأكوع فاحْدُ لنا من هنياتك". وفي هذا نظر؛ لأنه سيأتي بعد قليل أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سأل من هذا السَّائِقُ، فلو كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الذي أمره، ما سأل من هذا السائق. (¬2) في رواية أخرى في صحيح مسلم (1802) (124) قال سلمة: أخي عامر. قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 153): فلعله كان أخاه من الرضاعة، وعمه من النسب. (¬3) هُنَيَّاتك: بضم الهاء، وتشديد الياء، وهي الأراجيز القِصَار. انظر النهاية (5/ 241) - فتح الباري (14/ 206) (12/ 423). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري: هُنَيْهَاتك. (¬4) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16538) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6935) - قال: فجعل يَرْتَجِزُ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 241): وهذه كانت عادتهم إذا أرادُوا تنشيط الإبل في السَّير ينزل بعضهم فيَسُوقُهَا ويَحْدُو في تلك الحال. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 240): فِداء: بكسر الفاء، وقد استشكل هذا الكلام؛ لأنه لا يُقال في حق اللَّه، إذ معنى فِداء لك نفديك بأنفسنا، وحذف متعلق الفداء للشُّهرة، وإنما =

وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... إِنَّا إِذَا صِيحَ بِنَا أَبَيْنَا (¬1) وَبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا (¬2) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟ " (¬3). قَالُوا: عَامِرُ بنُ الأَكْوَعِ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَرْحَمُهُ اللَّهُ". فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول اللَّه! لولا أمتعتنا به (¬4). وَفِي رِوَايَةِ ابنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ إِيَاسَ بنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ"، قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ، فنَادَى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ¬

_ = يتصوّر الفداء لمن يجوز عليه الفناء، وأجيب عن ذلك بأنها كلمة لا يُرَادُ بها ظاهرها، بل المراد بها المحبة والتعظيم مع قَطع النظر عن ظاهر اللفظ، وقيل: المخاطب بهذا الشعر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمعني لا تُؤَاخِذْنَا بتقصيرنا في حَقِّك ونصرك، لكن يُعكِّر عليه قوله بعد ذلك: فأنزلنْ سكينةً علينا ... وثبِّتِ القدام إن لاقينا فإنه دعا اللَّه تَعَالَى، ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت، واللَّه أعلم. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 240): أي جِئْنَا إذا دُعِينَا إلى القتال أو إلى الحق. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 240): أي قصدُونا بالدّعاء بالصوت العالي واستَغَاثُوا علينا. (¬3) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16511) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هذا الحَادِي؟ ". (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4196) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (1802) (123) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16511).

* وصول المسلمين إلى خيبر وإغارتهم عليها

لَوْلَا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ (¬1). وَقَدِ اسْتُشْهِدَ عَامِرٌ -رضي اللَّه عنه- فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ كَمَا سَيَأْتِي. * وُصُولُ المُسْلِمِينَ إِلَى خَيْبَرَ وَإِغَارَتُهُمْ عَلَيْهَا: اقْترَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَيْبَرَ لَيْلًا، فبَاتَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ قَرِيبًا مِنْهَا، وَكَانَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا أَتَى قَوْما بِلَيْل لَمْ يُغِرْ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ صَلَّي الفَجْرَ بِغَلَسٍ (¬2)، وَرَكِبَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَأتَى خَيْبَرَ (¬3). وَلَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَمَا أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ وَمَا أَقْلَلْنَ، وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا أَذْرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ القَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، أَقْدِمُوا بِسْمِ اللَّهِ"، وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ هَذَا الدُّعَاءَ لِكُلِّ قَرْيَةٍ دَخَلَهَا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 305). (¬2) الغَلَسُ: ظُلْمَةُ آخرِ الليل إذا اختلطت بضوءِ الصَّبَاح. انظر النهاية (3/ 339). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4197) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11992) (12086). (¬4) أخرج هذا الدعاء ابن إسحاق في السيرة (3/ 358) بإسناد ضعيف، لكن يشهد له ما رواه ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (2709) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (1676) بسند حسن، عن صهيب -رضي اللَّه عنه- أنه قال: إن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يرى قرية يُريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللَّهُمَّ رَبّ السَّمَاوَاتِ السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقْلَلْنَ. . . " إلى آخر الدعاء نفسه.

* جغرافية خيبر

قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فَأتَيْنَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ (¬1) الشَّمْسُ، وَقَدْ خَرَجَ يَهُودُ خَيْبَرَ إِلَى زُرُوعِهِم بِمَسَاحِيهِمْ (¬2) وَمَكَاتِلِهِمْ (¬3)، وَأخرَجُوا مَوَاشِيَهُمْ، وَلَا يَشْعُرُون فَلمَّا رَأَوْا جَيْشَ المُسْلِمِينَ فَزِعُوا وَقَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّد وَالخَمِيسُ (¬4)، ثُمَّ رَجَعُوا هَارِبِينَ إِلَى حُصُونِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ" (¬5). * جُغْرَافِيَةُ خَيْبَرَ: قَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ (¬6) فِي تَفَاصِيلِ هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ، نَتَكَلَّمُ أَوَّلًا عَنْ جُغْرَافِيَتهَا: خَيْبَرُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى شَطْرَيْنِ: شَطْرٌ فِيهِ خَمْسَةُ حُصُون وَهِيَ: 1 - حِصْنُ نَاعِمٍ. ¬

_ (¬1) البُزُوغُ: الطلوع، يُقال بَزَغَت الشمس: إذا طلعت. انظر النهاية (1/ 124). (¬2) المِسْحَاة: المجرفة من الحديد. انظر النهاية (4/ 280). (¬3) المِكْتَل: بكسر الميم: هو الزبيل الكبير، قيل إنه يسع خمسة عشر صاعًا. انظر النهاية (4/ 131). (¬4) الخَمِيس: الجيش، سُمي به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة، والساقة، والميمنة، والميسرة، والقلب، وقيل: لأنه تُخمس فيه الغنائم. انظر النهاية (2/ 75). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4197) (4198) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (1365) (120) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11992) (12086) (12671). (¬6) شَرع: دخل. انظر لسان العرب (7/ 86).

* بدء المعركة وفتح حصن ناعم

2 - حِصْنُ الصَّعْبِ بنِ مُعَاذٍ. 3 - وَحِصْنُ قَلْعَةِ الزُّبَيْرِ. 4 - وَحِصْنُ أُبَيٍّ. 5 - وَحِصْنُ النَّزَارِ. وَتَقَعُ الحُصُونُ الثَّلَاثَةُ الأُولَى فِي مَنْطِقَةٍ يُقَالُ لَهَا: النَّطَاةُ، وَأَمَّا الحِصْنَانِ الآخرانِ فَيَقَعَانِ فِي مَنْطِقَة تُسَمَّى: الشِّقَّ. أَمَّا الشَّطْرُ الثَّانِي: فَيُعْرَفُ بِالكُتَيْبَةِ، وَفِيهِ ثَلَاثُ حُصُونٍ وَهِيَ: 1 - حِصْنُ القَمُوصِ. 2 - وَحِصْنُ الوَطِيحِ. 3 - وَحِصْنُ السُّلَالِمِ. وَهُنَاكَ حُصُونٌ أُخْرَى غَيْرُ هَذه الثَّمَانِيَةِ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تَبْلُغُ إِلَى درجة هَذه الْحُصُونِ فِي مَنَاعَتِهَا وَقُوَّتِهَا. * بَدْءُ المَعْرَكَةِ وَفَتْحُ حِصْنِ نَاعِمٍ: أَوَّلُ حِصْنٍ هَاجَمَهُ المُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الحُصُونِ الثَّمَانِيَةِ هُوَ: حِصْنُ نَاعِمٍ، فَخَرَجَ مَرْحَبٌ اليَهُودِيُّ ينَادِي بِالبِرَازِ، قَالَ سَلَمَةُ بنُ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَمب يَخْطُرُ بِسَيْفِهِ (¬1) وَيَقُولُ: ¬

_ (¬1) يخطُرُ بسيفه: أي يَهُزُّهُ مُعْجَبًا بنفسه مُتعرِّضًا للمُبَارَزَةِ، أو أنه كان يخطر في مِشْيَتِهِ: أي يتمايل ويمشي مِشْيَةَ المُعْجَبِ وسيفه في يده. انظر النهاية (2/ 44).

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ (¬1) بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الحُرُوبُ أَقبَلَتْ تَلَهَّبُ فَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ فَاخْتَلفا ضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ، وَذَهَبَ عَامرٌ يَسْفُلُ (¬2) لَهُ، وَكَانَ سَيْفُهُ قَصِيرًا، فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ اليَهُودِيِّ لِيَضْرِبَهُ، فَرَجَعَ ذُبَابُ (¬3) سَيْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَتِهِ (¬4)، فَمَاتَ مِنْهُ. قَالَ سَلَمَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَقَالَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، قَتَلَ نَفْسَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟ ". قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبَ (¬5) مَنْ قَالَ ذَلِكَ، إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ -وَجَمَعَ بَيْنَ ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 153): شاكي السلاح: أي تام السلاح. (¬2) قال النووي في شرح مسلم (12/ 153): يَسفُل: بفتح الياء وضم الفاء: أي يضربه من أسفل. (¬3) ذُباب سيفه: طَرَفه الأعلي الذي يضرب به. انظر النهاية (2/ 141). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 241): أي طرف ركبته الأعلى. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 242): أي أخطأ.

* مقتل محمود بن مسلمة -رضي الله عنه- على يد مرحب

إِصْبَعَيْهِ- إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ" (¬1). * مَقْتَلُ مَحْمُودِ بنِ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- عَلَى يَدِ مَرْحَبٍ: وَقَدْ وَاجَهَ المُسْلِمُونَ مُقَاوَمَةً شَدِيدَةً، وَصُعُوبَةً كَبِيرَةً عِنْدَ فَتْحِ بَعْضِ هَذِهِ الحُصُونِ، مِنْهَا حِصْنُ نَاعِمٍ هَذَا، وَهُوَ أَوَّلُ الحُصُونِ، وَقَدِ اسْتُشْهِدَ عِنْدَهُ مَحْمُودُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، حَيْثُ كَانَ تَحْتَ الحِصْنِ، فَأَلقى عَلَيْهِ مَرْحَب اليَهُودِيُّ مِنْ أَعْلَي الحِصْنِ رَحًا (¬2) فَقتَلَهُ بِهَا (¬3). وَظَلَّ حِصْنُ نَاعِمٍ أَوَّلَ حُصُونِ خَيْبَرَ مَنِيعًا أَمَامَ المُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرَّايَةَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، فنَهَضَ بِهَا، وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَعْطَي الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في اليَوْمِ الثَّانِي الرَّايَةَ لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَظَلَّ المُسْلِمُونَ تِسْعَةَ أَيَّامٍ يُحَاوِلُونَ فتحَ حِصْنِ نَاعِمٍ لَكِنْ مَا اسْتَطَاعُوا (¬4). ¬

_ (¬1) قال ابن التين فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (8/ 242): الجاهِدُ: من يرتكب المَشَقَّة، ومجاهد: أي لأعداء اللَّه تَعَالَى. والقصة أخرجها البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4196) - وأخرجها مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذي قرد - رقم الحديث (1807) - وأخرجها الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16538). (¬2) الرحا: هي التي يُطحن بها. انظر النهاية (2/ 193). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 360). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22993) - والحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب ذكر غزوة خيبر - رقم الحديث (4396) وإسناده قوي.

* علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يأخذ الراية

* عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- يَأْخُذُ الرَّايَةَ: وَفِي لَيْلَةِ اليَوْمِ العَاشِرِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا (¬1) رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّه وَرَسُولُهُ، لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ". قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: مَا أَحْبَبْتُ الإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، فتَسَاوَرْتُ لَهَا (¬2) رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا (¬3) وَقَالَ بريْدَةُ بنُ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه-: وَأنا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا (¬4). فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ (¬5) لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيْنَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ؟ ". فَقِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ، فَجَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 231) فيه إشعار بأن الراية تكن خاصة بشخص معين، بل كان يعطيها في كل غزوة لمن يريد. (¬2) تَسَاوَرَتُ لها: أي تطاوَلْتُ لها، ورفعتُ لها شَخْصِي. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 143) - النهاية (2/ 377). (¬3) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد بسند صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (8990) قال عمر -رضي اللَّه عنه-: فتطاولت لها واستَشْرَفْتُ، رجاء أن يدفعها إليّ. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22993) وإسناده قوي. (¬5) يَدُوكُونَ: أي يَخُوضُونَ ويَمُوجُونَ فيمن يدفعها إليه. انظر النهاية (2/ 131).

بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه- يَقُودُهُ، وَبِهِ رَمَدٌ (¬1)، فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فبرَأَ (¬2) حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَع (¬3)، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا (¬4)؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْفُذْ (¬5) عَلَى رِسْلِكَ (¬6) حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْر لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ" (¬7). ¬

_ (¬1) الرَّمَدُ: وجعُ العين وانتفاخُهَا. انظر لسان العرب (5/ 311). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 255): فبَرَأَ: بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم. (¬3) روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن - رقم الحديث (579) عن علي -رضي اللَّه عنه- أنه قال: ما رَمِدت منذ تفل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عيني. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 256): أي حتى يُسلموا. وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2405) قال علي -رضي اللَّه عنه-: يا رَسُول اللَّهِ! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رَسُول اللَّهِ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على اللَّه". (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 256): انفذ: بضم الفاء: امضِ. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 256): رسلك: بكسر الراء: أي على مهلك. (¬7) قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 145): هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وأنه ليس هناك أعظم منه. وأخرج خبر إعطاء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي -رضي اللَّه عنه- الراية يوم خيبر: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما قيل في لواء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2975) - وأخرجه في =

* مقتل مرحب على يد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-

* مَقْتَلُ مَرْحَبٍ عَلَى يَدِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: خَرَجَ مَرْحَبٌ يَطْلُبُ البِرَازَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَمَا قتلَ عَامِرَ بنَ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ (¬1) بَطَلٌ مُجَرَّبُ إِذَا الحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ فَبَرَزَ له عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- وَهُوَ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ: أَنَا الذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَه (¬2) ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَهْ أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَه (¬3) فَضَرَبَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مَرْحَبًا، فَفَلَقَ (¬4) رَأْسَهُ، فَقتَلَهُ، وَكَانَ الفَتْحُ عَلَى يَدِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ = كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4209) (4210) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2405) (2406) (2407) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16538) (22993) (23031). (¬1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 153): شاكي السلاح: أي تام السلاح. (¬2) الحيدرة: اسم للأسد. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 154). (¬3) السندرة: مِكْيَالٌ واسع: أي أقتلكم قتلًا واسعًا ذَرِيعًا. انظر النهاية (2/ 367). (¬4) الفَلْق: الشقُّ. انظر النهاية (3/ 423). (¬5) أخرج قصة قتل مرحب اليهودي علي يد علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-: =

* رواية فيها نظر

* رِوَايَةٌ فِيهَا نَظَرٌ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ (¬1)، وَابْنِ إِسْحَاقَ (¬2) فِي السِّيرَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-: هُوَ الذِي قتَلَ مَرْحَبًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- هُوَ الذِي قَتَلَهُ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ (¬3)، وَابْنُ الأَثِيرِ (¬4)، وَابْنُ عَبْدِ البَرِّ (¬5). قَالَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ: إِنَّ الأَخْبَارَ مُتَوَاتِرَةٌ بِأَسَانِيدَ كَثِيرَةٍ أَنَّ قَاتِلَ مَرْحَبٍ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬6). وَقَالَ الإِمَامُ الصَّالِحِيُّ: وَالذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- قَتَلَ مَرْحَبًا اليَهُودِيَّ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: ¬

= الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذي قرد - رقم الحديث (1807) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16538) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر إثبات محبة اللَّه جل وعلا ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6935). (¬1) رقم الحديث (15134). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 363). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 155). (¬4) انظر الكامل في التاريخ (2/ 98). (¬5) انظر الدرر في مختصر السير لابن عبد البر. (¬6) انظر كلام الحاكم في المستدرك بعد أن أورد حديث قتل علي -رضي اللَّه عنه- مرحب - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر قتل مرحب بيد علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5899).

* رواية ضعيفة وواهية

- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَصَحُّ إِسْنَادًا. - وَالثَّاني: أَنَّ جَابِرًا لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَالوَاقِدِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ شَهِدَ سَلَمَةُ، وبُرَيْدَةُ، وَأَبُو رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَيْبَرَ، وَهُمْ أَعْلَمُ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْهَا (¬1). * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ وَوَاهِيَةٌ: وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا مُسَلْسَلٍ بِالضُّعَفَاءِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَتَلْتُ مَرْحَبًا جِئْتُ بِرَأْسِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * مَقْتَلُ يَاسِرٍ أَخُو مَرْحَبٍ عَلَى يَدِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَرْحَبٍ أَخُوهُ يَاسِرٌ -وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ حِصْنِ نَاعِمٍ، أَوَّلِ الحُصُونِ- وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ له الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَتْ أُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ المُطَّلِبِ عَمَّةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يُقْتَلُ ابْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلِ ابْنُكِ يَقْتُله إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * بَطَلٌ إِلَى النَّارِ: ثُمَّ خَرَجَ رَجُل مِنَ المُسْلِمِينَ وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأُعْجِبَ بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فَقَدْ رَوَى ¬

_ (¬1) انظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (5/ 128) لمحمد بن يوسف الصالحي. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (888). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 364).

* شدة القتال عند حصن ناعم وفتحه

الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ (¬1)، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِرَجُلٍ ممَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإِسْلَامَ: "هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فَلَمَّا حَضَرَ القِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ أَشَدَّ القِتَالِ، حَتَّى كَثُرَتْ بِهِ الجِرَاحَةُ، فَأَثْبَتَتْهُ (¬2)، فكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الجِرَاحِ فَأَهْوَى (¬3) بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ (¬4)، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَهْمًا فَنَحَرَ بِهَا نَفْسَهُ، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَّقَ اللَّهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلَان فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ (¬5)، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ" (¬6). * شِدَّةُ القِتَالِ عِنْدَ حِصْنِ نَاعِمٍ وَفَتْحِهِ: وَقَدْ لَاقَى المُسْلِمُونَ حَوْلَ حِصْنِ نَاعِمٍ مُقَاوَمَةً شَدِيدَةً، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ ¬

_ (¬1) وقع في صحيح مسلم بلفظ: حنين. قال القاضي عياض في شرح مسلم (2/ 104): كذا وقع في الأصول، وصوابه خيبر. (¬2) أثبتته: أي حبسته وجعلته ثَابِتًا في مكانَهُ لا يُفَارِقُهُ بسبب الجراح. انظر النهاية (1/ 200). (¬3) فهَوِي: بفتح الهاء وكسر الواو: مَدَّ بيده نحوها. انظر النهاية (5/ 246). (¬4) الكِنَانَةُ: جُعْبَةُ السهام تُتَّخَذُ من جُلُوبٍ. انظر لسان العرب (12/ 173). (¬5) الأذَانُ: الإعلام بالشيء. انظر النهاية (1/ 37). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4204) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه - رقم الحديث (111) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8090).

* فتح حصن الصعب بن معاذ

سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ ضَرْبَة أَصَابَتْهَا يَوْمَ خَيْبَرٍ، فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ، فَأُتِيَ بِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةَ (¬1). وَاشْتَدَّ الصَّحَابَةُ حَتَّى انْهَارَتْ مُقَاوَمَةُ اليَهُودِ بَعْدَ مَقْتَلِ مَرْحَبٍ وإخْوَتِهِ، وَيَئِسُوا مِنْ مُقَاوَمَةِ المُسْلِمِينَ، فَتَسَلَّلُوا مِنْ هَذَا الحِصْنِ إِلَى حِصْنِ الصَّعْبِ، وَاقْتَحَمَ المُسْلِمُونَ حِصْنَ نَاعِمٍ فَفَتَحُوهُ (¬2). * فَتْحُ حِصْنِ الصَّعْبِ بنِ مُعَاذٍ: وَكَانَ حِصنُ الصَّعْبِ الحِصْنَ الثَّانِي مِنْ حَيْثُ القُوَّةِ وَالمَنَاعَةِ بَعْدَ حِصْنِ نَاعِمٍ، وَقَدْ تَسَلَّلَ إِلَيْهِ مَنْ فَرَّ مِنَ اليَهُودِ مِنْ حِصْنِ نَاعِمٍ، فبدَأَ الحِصَارُ عَلَيْهِ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللِّوَاءَ إِلَى الحبابِ بنِ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه-، فَأَقَامَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. * تَحْرِيمُ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ: وَقَدْ أَصَابَ المُسْلِمِينَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، فَذَبَحُوا حُمُرا مِنْ حُمُرِ الإِنْسِ، وَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ، وَطَبَخُوا لُحُومَهَا فِي القُدُورِ، فَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4206) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16514). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 364).

حَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَكْفِؤُوا (¬1) القُدُورَ، وَلَا يَأْكُلُوهَا، وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لُحُومَ البِغَالِ، وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ، وَحَرَّمَ أَيْضًا المُجَثَّمَةَ (¬2)، والخُلْسَةَ (¬3)، والنُّهْبَةَ (¬4)، وحَرَّمَ عَلَيْهِمُ المُتْعَةَ (¬5). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ أَصَبنَا لِلْقَوْمِ حُمُرًا خَارِجَةً مِنَ المَدِينَةِ، فنَحَرْنَاهَا، فَإِنَّ قُدُورَنَا لَتَغْلِي، إِذْ نَادَى مُنَادِي الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنِ اكْفَؤُوا القُدُورَ، وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الحُمُرِ شَيْئًا" (¬6). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ: أمَرَنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنْ نُلْقِيَ الحُمُرَ الأَهْلِيَّةَ نَيْئَةً ¬

_ (¬1) يُكْفِؤُوا: أي يميلوا القُدُور لِيُرَاقَ ما فيها. انظر فتح الباري (8/ 263). (¬2) المُجَثَّمَة: بضم الميم وتشديد الثاء: هي كل حيوان يُنصب ويُرمى للقتل. انظر النهاية (1/ 232). (¬3) الخُلسة: بضم الخاء: هي ما يُستخلص من السَّبُعِ فيمُوت قبل أن يُذَكَّى، من خلست الشيء واختلسته إذا سلبته. انظر النهاية (2/ 58). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 76): النُّهْبَة: بضم النون وسكون الهاء: أخذ مال المسلم قهرًا جهرًا، ومنه أخذ مال الغنيمة قبل القسمة اخْتِطَافًا بغير تَسْوِيَةٍ. (¬5) أي زواج المتعة. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4220) وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيد والذبائح - باب تحريم أكل الحمر الأنسية - رقم الحديث (1937) (26).

وَنَضِيجَةً، ثُمَّ لَمْ يَأْمُرْنَا بِأَكْلِهِ بَعْدُ (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ جَاءَ جَاءٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُكِلَتْ الحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُفْنِيَتِ الحُمُرُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أبَا طَلْحَةَ (¬2) فنَادَى: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ (¬3)، فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ، قَالَ: فَأكفِئَتِ القُدُورُ بِمَا فِيهَا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4226) وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيد والذبائح - باب تحريم أكل لحم الحمر الأنسية - رقم الحديث (1938) (31). (¬2) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17741) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الصيد - باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية - رقم الحديث (4834) أن المنادي عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه- ولفظه: فأمر عبدَ الرحمن بن عوف، فأذّن في الناس: "ألا إن لحوم الحُمُرِ الإنس لا تحل لمن شهد أني رَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 89): لعل عبد الرحمن نادى أولًا بالنهي مطلقًا، ثم نادى أبو طلحة بزيادة علي ذلك، وهو قوله: "فإنها رجس"، فأكفئت القدور باللحم. (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (13/ 78): والصواب تحريم لحوم الحمر الإنسية، وقد قال بذلك الجماهير للأحاديث الصريحة. وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في البداية والنهاية (4/ 581): وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها -أي عن لحوم الحمر الإنسية- من طرق جيِّدة وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفًا وخلفًا، وهو مذهب الأئمة الأربعة. (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيد والذبائح - باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية - رقم الحديث (1940) (35).

وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَة، فَأَخَذُوا الحُمُرَ الإِنْسِيَّةَ (¬1)، فَذَبَحُوهَا وَمَلَؤُوا مِنْهَا القُدُورَ، فبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ جَابِرٌ: فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَكَفَأْنَا القُدُورَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ سَيَأْتِيكُمْ بِرِزْقٍ هُوَ أَحَلُّ مِنْ ذَا، وَأَطْيَبُ مِنْ ذَا"، قَالَ: فكفَأنا يَوْمَئِذٍ القُدُورَ وَهِيَ تَغْلِي، فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ الحُمُرَ الإِنْسِيَّةَ وَلُحُومَ البِغَالِ، وَكُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَكُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطُّيُورِ، وَحَرَّمَ المُجَثَّمَةَ، والخُلْسَةَ، وَالنُّهْبَةَ (¬2). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ (¬3)، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 87): الإنسِيَّة: بكسر الهمزة وسكون النون منسُوبَةً إلى الإنس. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14463) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الأطعمة - باب ما جاء في كراهية أكل المصبورة - رقم الحديث (1474) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الأطعمة - باب ذكر الزجر عن أكل لحوم البغال - رقم الحديث (5272). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في البداية والنهاية (4/ 582): وعلى هذا الحديث يقتضي تقييد تحريم نكاح المتعة بيوم خيبر، وهو مشكل من وجهين: أحدهما: أن يومَ خيبَرَ لم يكن ثَمَّ نساء يتمتَّعون بهِنَّ إذ قد حصل لهم الاستغناء بالسَّبَايَا عن نكاح المُتْعَةِ، الثاني: أنه قد ثبت في صحيح مسلم - رقم الحديث (1406) (21) من حديث الربيع بن سبرة، عن معبد، عن أبيه أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أذن لهم في المتعة زمن الفَتْحِ، ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها، وقال: "إن اللَّه قد حَرَّمَهَا إلى يوم القيامة"، فعلى هذا يكون قد نهى عنها، ثم أَذِنَ فيها، ثم حُرِّمَتْ فيلزم النسخ مرتين وهو بعيد. =

* النهي عن أكل البصل والكراث

وَفِي رِوَايَةٍ: الحُمُرُ الأَهْلِيَّةُ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِأَمِيرِ الجَيْشِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، وَمَنْ رَآه فَعَلَ مَا لَا يُسَوَّغُ فِي الشَّرْعِ أَشَاعَ مَنْعَهُ، إِمَّا بِنَفْسِهِ كَأَنْ يُخَاطِبَهُمْ، وَإِمَّا بِغَيْرِهِ بِأَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيًا فينَادِي لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ رَآه فَيَظُنَّهُ جَائِزًا (¬2). * النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ البَصَلِ وَالكُرَّاثِ (¬3): وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي خَيْبَرَ أَصْحَابَهُ عَنْ أَكْلِ البَصَلِ وَالكُرَّاثِ إِذَا ¬

_ = والصحيح في هذه المسألة ما قاله ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (5/ 101) (3/ 305) قال: والصحيح أن النهي عن نكاح المتعة إنما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحُمُرِ الأهلية، وإنما قال علي -رضي اللَّه عنه- لابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى يومَ خيبَرَ عن متعةِ النساء، ونهى عن الحمر الأهلية مُحْتَجًّا عليه بالمسألتينِ، فظَنَّ بعض الرواة أن التقييد بيوم خيبر راجع إلى الفصلين، فرواه بالمعنى، ثم أفرد بعضهم أحد الفصلين، وقيده بيوم خيبر. وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتَّعُونَ باليهوديَّات، ولا استأذنوا في ذلك رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا نقله أحدٌ قَط في هذه الغزوة، ولا كان للمتعة فيها ذكرٌ البَتَّة، لا فعلًا ولا تحريمًا، بخلاف غزاة الفتح، فإن قصة المتعة كانت فيها فعلًا وتحريمها مشهورة. قلتُ: وإلي هذا الرأي ذهب الإمام الحافظ المِزي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كما ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 583). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4216) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ - رقم الحديث (1407). (¬2) انظر فتح الباري (11/ 91). (¬3) الكُرَّاث: بضم الكاف، وتشديد الراء المفتوحة: هي بَقْلَة. انظر لسان العرب (12/ 61).

* شأن أبي اليسر -رضي الله عنه-

أَرَادُوا الذَّهَابَ إِلَى المَسْجِدِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى زَمَنَ خَيْبَرَ (¬1) عَنِ البَصَلِ وَالكُرَّاثِ، فَأَكَلَهُمَا القَوْمُ، ثُمَّ جَاؤُوا إِلَى المَسْجِدِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَمْ أَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ المُنْتِنَتَيْنِ؟ ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَجْهَدَنَا الجُوعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَكلَهُمَا فَلَا يَحْضُرْ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ المَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدمَ" (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يَعْنِي الثُّومَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا" (¬3). * شَأْنُ أَبِي اليَسَرِ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي اليَسَرِ كَعْبِ بنِ ¬

_ (¬1) في رواية الإمام مسلم عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: في غزوة خيبر. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15159) - وأصله في صحيح مسلم - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا - رقم الحديث (561). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 611): المراد به المكان الذي أُعدّ ليصلي فيه مدّة إقامته هناك -أي في خيبر-. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب ما جاء في الثُّومِ النَّيْءِ والبصَلِ والكُرّاث - رقم الحديث (853).

* شأن عبد الله بن مغفل -رضي الله عنه-

عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّا لَمَعَ رَسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بخَيبرَ عَشِيَّةً إِذْ أَقْبَلَتْ غَنَمٌ لِرَجُلٍ مِنْ يَهُودٍ تُرِيدُ حِصْنَهُمْ، وَنَحْنُ مُحَاصِرُوهُمْ، إِذْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَجُلٌ يُطْعِمُنَا مِنْ هَذِهِ الغَنَمِ؟ ". قَالَ أَبُو اليَسَرِ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "فَافْعَلْ". قَالَ: فَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ مِثْلَ الظَّلِيمِ (¬1)، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُوَلِّيًا، قَالَ: "اللَّهُمَّ أَمْتِعْنَا بِهِ"، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ الغَنَمَ، وَقَدْ دَخَلَتْ أَوَائِلُهَا الحِصْنَ، فَأَخَذْتُ شَاتَيْنِ مِنْ أُخْرَاهَا، فَاحْتَضَنْتُهُمَا تَحْتَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ بِهِمَا أَشْتَدُّ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعِيَ شَيْءٌ، حَتَّى أَلْقَيْتُهُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَذَبَحُوهُمَا، فَأَكَلُوهُمَا (¬2). * شَأْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَي إِنْسَان بِجِرَابٍ (¬3) فِيهِ شَحْم، فنَزَوْتُ (¬4) لِآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاسْتَحْيَيْتُ (¬5) مِنْهُ. ¬

_ (¬1) الظَّلِيم: بفتح الظاء المشدَّدة: وهو ذكر النعام. انظر النهاية (3/ 147). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15525) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 365). (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 87): الجِرَاب: بكسر الجيم وهو وعاء من جلد. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 388): فنزَوْتُ: أي وثَبْتُ مُسْرِعًا. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (6/ 389): فيه إشارةٌ إلى ما كان عليه الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ من توقير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعاناة التَّنَزُّه عن خوارم المروءة.

* فتح حصن قلعة الزبير

وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ قَالَ: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُبْتَسِمًا (¬1). ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِفَتْحِ هَذَا الحِصْنِ، فَقَدْ رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ بَنِي سَهْمٍ مِنْ أَسْلَمَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ جَهِدْنَا وَمَا بِأَيْدِينَا مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ حَالَهُمْ، وَأَنْ لَيْسَتْ بِهِمْ قُوَّةٌ، وَأَنْ لَيْسَ بِيَدِي شَيءٌ أُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُصُونهَا عَنْهُمْ غِنَاءً، وَأَكْثَرَهَا طَعَامًا وَوَدَكًا" (¬2). فَفَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ حِصْنَ الصَّعْبِ بنِ مُعَاذٍ، وَمَا بِخَيْبَرَ حِصْنٌ أَكْثَرُ طَعَامًا مِنْهُ، وَوَجَدُوا بَعْضَ الآلَاتِ الحَرْبِيَّةِ كَالمِنْجَنِيقِ (¬3) وغَيْرِهَا فَأَخَذَهَا المُسْلِمُونَ (¬4). * فَتْحُ حِصْنِ قَلْعَةِ الزُّبَيْرِ: وَلَمَّا فتَحَ المُسْلِمُونَ حِصْنَ الصَّعْبِ بنِ مُعَاذٍ تَحَوَّلَ اليَهُودُ الذِينَ سَلِمُوا مِنَ القَتْلِ إِلَى حِصْنِ قَلْعَةِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ حِصْنٌ مَنِيعٌ، فِي رَأْسِ جَبَلٍ، فَأَقَامَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب - رقم الحديث (3153) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب - رقم الحديث (1772) (73) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20555). (¬2) الوَدَكُ: هو اسمُ اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. انظر النهاية (5/ 148). (¬3) المِنْجَنِيق: بكسر الميم: آلة ترمى بها الحجارة. انظر القاموس المحيط ص (872). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (3/ 362).

* فتح حصن أبي (أحد حصني الشق)

المُسْلِمُونَ عَلَى مُحَاصَرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ يُقَالُ لَهُ: غَزَّالٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ! تُؤَمِّنُنِّي عَلَى أَنْ أَدُلَّكَ عَلَى مَا تَسْتَرِيحُ مِنْ أَهْلِ النَّطَاةِ، وَتَخْرُجُ إِلَى أَهْلِ الشِّقِّ؟ فَأَمَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَقَالَ اليَهُودِيُّ غَزَّالٌ: إِنَّكَ لَوْ أَقَمْتَ شَهْرًا مَا بَالَوْا، لَهُمْ دُبُولٌ (¬1) تَحْتَ الأَرْضِ، يَخْرُجُونَ بِاللَّيْلِ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى قَلْعَتِهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْكَ، فَإِنْ قَطَعْتَ مَشْرَبَهُمْ عَلَيْهِمْ أَصْحَرُوا (¬2) لَكَ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى دُبُولهِمْ فَقَطَعَهَا، فَلَمَّا قَطَعَ عَلَيْهِمْ مَشَارِبَهُمْ خَرَجُوا فَقَاتَلُوا أَشَدَّ القِتَالِ، وَقُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ نَفَرٌ، وَأُصِيبَ مِنَ يَهُودِ ذَلِكَ اليَوْمِ نَفَرٌ، وَافْتَتَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ هَذَا آخِرَ حُصُونِ النَّطَاةِ (¬3). * فَتْحُ حِصْنِ أُبَيٍّ (أَحَدِ حِصْنَي الشِّقِّ): فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ النَّطَاةِ تَحَوَّلَ إِلَى مِنْطَقَةِ الشِّقِّ، فَكَانَ أَوَّلُ حِصْنٍ بَدَأَ بِهِ حِصْنَ أُبَي، فَقَاتَلَ أَهْلُهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يَدْعُو إِلَى البِرَازِ، فَخَرَجَ لَهُ الحُبَابُ بنُ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ رَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَصَاحَ مَنْ يبارِزُ؟ فَخَرَجَ لَهُ أَبو دُجَانَةَ سِمَاكُ بنُ خَرَشَةَ -رضي اللَّه عنه- البَطَلُ ¬

_ (¬1) دُبُول: أي جداول ماء، واحدها دَبْلٌ، سُميت به لأنها تُدبل: أي تُصْلَح وتُعمر. انظر النهاية (2/ 94). (¬2) أصْحَرَ القوم: برَزُوا في الصحراء، وقيل: أصْحَرَ القوم: إذا برَزُوا إلى فَضَاءٍ لا يواريهم شيء. انظر لسان العرب (7/ 289). (¬3) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 224).

* فتح حصن النزار

المَشْهُوُر صَاحِبُ العِصَابَةِ الحَمْرَاءِ، فَقَتَلَهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ أَحْجَمَتِ اليَهُودُ عَنِ البِرَازِ، وَقَدْ أَسْرَعَ أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ قَتْلِهِ لِلرَّجُلِ اليَهُودِيِّ إِلَى اقْتِحَامِ القَلْعَةِ، وَاقْتَحَمَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ، وَجَرَى قِتَالٌ مَرِيرٌ دَاخِلَ الحِصْنِ، ثُمَّ تَسَلَّلَ اليَهُودُ مِنَ القَلْعَةِ، وَتَحَوَّلُوا إِلَى الحِصْنِ الثَّانِي وَالأَخِيرِ مِنْ حُصُونِ الشِّقِّ (¬1). * فَتْحُ حِصْنِ النَّزَارِ: وَكَانَ هَذَا الحِصْنُ أَمْنَعَ حُصُونِ هَذَا الشَّطْرِ، وَكَانَ اليَهُودُ عَلَى شِبْهِ اليَقِينِ بِأَنَّ المُسْلِمِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ اقْتِحَامَ هَذَا الحِصْنِ، فَبَدَأَ يَهُودُ يَرْمُونَ المُسْلِمِينَ بِالنِّبَالِ وَالحِجَارَةِ، حَتَّى أَصَابَ النَّبْلُ ثِيَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَلِقَتْ بِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنَصْبِ المِنْجَنِيقِ -الذِي وَجَدُوهُ فِي حِصْنِ الصَّعْبِ- فَأَوْقَعُوا الخَلَلَ فِي جُدْرَانِ الحِصْنِ، وَاقْتَحَمُوهُ، وَانْهَزَمَ اليَهُودُ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يتمَكَّنُوا مِنَ التَّسَلُّلِ مِنْ هَذَا الحِصْنِ كَمَا تَسَلَّلُوا مِنَ الحُصُونِ الأُخْرَى، بَلْ فَرُّوا، مِنْ هَذَا الحِصْنِ وَتَرَكُوا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَأَخَذَهَا المُسْلِمُونَ (¬2). وَبَعْدَ فَتْحِ هَذَا الحِصْنِ المَنِيعِ، تَمَّ فتحُ الشَّطْرِ الأَوَّلِ مِنْ خَيْبَرَ، وَهِيَ النَّطَاةُ وَالشِّقُّ. ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 225). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 225).

* فتح الشطر الثاني من خيبر (حصون الكتيبة)

* فَتْحُ الشَّطرِ الثَّانِي مِنْ خَيْبَرَ (حُصُونِ الكُتَيْبَةِ): ثُمَّ تَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الشَّطْرِ الثَّانِي وَهِيَ حُصونُ الكُتَيْبَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَة: القَمُوصُ، وَالوَطِيحُ، وَالسُّلَالِمُ، فتَحَصَّنَ اليَهُودُ أَشَدَّ التَّحَصُّنِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ المَغَازِي هَلْ جَرَى هُنَاكَ قِتَالٌ فِي أَيِّ حِصْنٍ مِنْ حُصُونِ الكُتَيْبَةِ الثَّلَاثَةِ أَمْ لَا؟ فَسِيَاقُ ابنِ إِسْحَاقَ (¬1) صَرِيح فِي جَرَيَانِ القِتَالِ لِفَتْحِ حِصْنِ القَمُوصِ، بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ هَذَا الحِصْنَ تَمَّ فَتْحُهُ بِالقِتَالِ فَقَطْ، وَمِنْهُ سُبِيَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بنِ أَخْطَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرِيَ هُنَاكَ مُفَاوَضَات لِلِاسْتِسْلَامِ. أَمَّا الوَاقِدِيُّ (¬2)، فَيُصَرِّحُ تَمَامَ التَّصْرِبحِ أَنَّ قِلَاع هَذَا الشَّطْرِ الثَّلَاثَةِ إِنَّمَا أُخِذَتْ بَعْدَ المُفَاوَضَاتِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ المُفَاوَضَةُ قَدْ جَرَتْ لِاسْتِلَامِ حِصْنِ القَمُوصِ بَعْدَ إِدَارَةِ القِتَالِ، وَأَمَّا الحِصْنَانِ الآخَرَانِ فَقَدْ سُلِّمَا إِلَى المُسْلِمِينَ دُونَمَا قِتَالٍ. وَمَهْمَا كَانَ فَإِنَّهُ لَمَّا أتى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى حُصُونِ الكُتَيْبَةِ، فَرَضَ عَلَى أَهْلِهَا أَشَدَّ الحِصَارِ، وَدَامَ الحِصَارُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاليَهُودُ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 365 - 366). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 225).

* مفاوضات أهل خيبر ومصالحتهم

حُصُونِهِمْ، حَتَّى هَمَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَنْصُبَ عَلَيْهِمُ المِنْجَنِيقَ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا بِالهَلَكَةِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصُّلْحَ (¬1). * مُفَاوَضَاتُ أَهْلِ خَيْبَرَ وَمُصَالَحَتُهُمْ: رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: . . . فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَتَلَ المُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذَّرَارِيَّ (¬2). فَأَرْسَلَ كِنَانَةُ بنُ أَبِي الحُقَيْقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: انْزِلْ فَأُكَلِّمُكَ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فنَزَلَ ابْنُ أَبِي الحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ-صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى التَّالِي: 1 - حَقْنُ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنَ المُقَاتِلَةِ. 2 - تَرْكُ الذُّرِّيَّةِ لَهُمْ. 3 - يَخْرُجُ اليَهُودُ مِنْ خَيْبَرَ بِذَرَارِيهِمْ. 4 - يُخَلُّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ، وَعَلَى الصَّفْرَاءَ والبَيْضَاءِ -أَي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ- وَالكُرَاعِ (¬3) وَالحَلْقَةِ (¬4)، وَعَلَى البَزِّ (¬5) إِلَّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إِنْسَانٍ. ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 373 للشيخ صفي الرحمن المباركفوري رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الخوف - باب التبكير والغلس بالصبح - رقم الحديث (947) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12940). (¬3) الكُراع: بضم الكاف: اسم لجميع الخيل. انظر النهاية (4/ 143). (¬4) الحَلْقة: بفتح الحاء وسكون اللام: السلاح. انظر النهاية (1/ 410). (¬5) البَزّ: بفتح الباء متاع البيت من الثياب خاصّة. انظر لسان العرب (1/ 398).

* سؤال اليهود البقاء بخيبر

5 - أَنْ لَا يَكْتُمُوا، وَلَا يُغَيِّبُوا شَيْئًا (¬1). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولهِ إِنْ كتَمْتُمُوني شَيْئًا"، فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَمَّ تَسْلِيمُ الحُصُونِ إِلَى المُسْلِمِينَ (¬2). * سُؤَالُ الْيَهُودِ الْبَقَاءَ بِخَيْبَرَ: فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُخْرِجَ أَهْلَ خَيْبَرَ مِنْ أَرْضِهِمْ كَمَا صَالَحُوهُ، سَأَلُوهُ أَنْ يُقِرَّهُمْ فِيهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى نِصْفِ مَا خَرَجَ مِنْهَا مِنَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! دَعْنَا نَكُنْ فِي هَذِهِ الأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا، فنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا. وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا، فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكْفُوا المُسْلِمِينَ العَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ (¬3). رَوَى الطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا -أَيْ عَلَى مَزَارعِ خَيْبَرَ- وَكَانُوا لَا يَفْرُغُونَ لِلْقِيَامِ عَلَيْهَا، فَأَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب ما جاء في حكم أرض خيبر - رقم الحديث (3006) - وإسناده حسن - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2765) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (5199) - وإسناده صحيح. (¬2) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب المزارعة - باب الزجر عن المخابرة - رقم الحديث (5199) - وإسناده صحيح. (¬3) أخرج ذلك ابن ماجه في سننه - كتاب الزكاة - باب فرض النخل والعنب - رقم الحديث (1820) - وإسناده صحيح.

* قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد

خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخْلٍ (¬1). ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَتْرُكُكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا"، فَأَقَرُّوهُ، فَأَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ" وَأَرِيحَا (¬2) -كَمَا سَيَأْتِي-. وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بنِ أَخْطَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَتْ تَحْتَ كِنَانَةَ بنِ أَبِي الحُقَيْقِ، وَسَيَأْتِي زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَا. * قَتْلُ ابْنَيْ أَبِي الحُقَيْقِ لِنَقْضِ العَهْدِ: وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ هَذِهِ المُعَاهَدَةِ فَقَدْ غَيَّبَ ابْنَا أَبِي الحُقَيْقِ مَسْكًا (¬3) فِيهِ مَالٌ وَحُلِيٌّ لِحُيَيِّ بنِ أَخْطَبٍ -وَكَانَ قَدْ قُتِلَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا تَقَدَّمَ- وَكَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ حِينَ أُجْلِيَتْ بَنُو النَّضِيرِ. أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: . . . فَغَيبوا مَسْكًا لِحُيَيِّ بنِ أَخْطَبٍ، وَكَانَ قَدْ قُتِلَ قَبْلَ خَيْبَرَ، وَكَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ يَوْمَ بَنِي النَّضِيرِ حِينَ أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، فِيهِ حُلِيُّهُمْ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2765). (¬2) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (3152) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4248) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمار والزرع - رقم الحديث (1551) (1) (6) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6368) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (5199). (¬3) المَسْك: بفتح الميم وسكون السين: هو الجِلْد. انظر النهاية (4/ 283).

* قسمة الغنائم

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمِّ حُيَيٍّ: "مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الذِي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِيرِ؟ ". قَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالحُرُوبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العَهْدُ قَرِيب، وَالمَالُ أَكثَرُ مِنْ ذَلِكَ"، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَاهُنَا، فَذَهَبُوا فَطَافُوا فَوَجَدُوا المَسْكَ فِي خَرِبَةٍ، فَقتَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَيْ أَبِي الحُقَيْقِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ: كِنَانَةُ بنُ الرَّبِيعِ بنِ أَبِي الحُقَيْقِ زَوْجُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا (¬1). * قِسْمَةُ الغَنَائِمِ: ثُمَّ قَسَمَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَنَائِمَ خَيْبَرَ بَيْنَ أَهْلِ الحُدَيْبِيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ وَعَدَهُم إِيَّاهَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا إِلَّا جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، فَقَسَمَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَسَهْمِ مَنْ حَضَرَهَا (¬2). رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَهْلِ بنِ أَبِي حَثْمَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنصْفًا بَيْنَ المُسْلِمِينَ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب المزارعة - باب الزجر عن المخابرة والمزارعة - رقم الحديث (5199) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب ما جاء في حكم أرض خيبر - رقم الحديث (3006) - وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (4/ 230) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 366) - قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 258): إسناد رجاله ثقات. (¬2) ثبتَ في صحيح البخاري - كتاب فرض الخمس - باب (15) أن جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لم يشهد خيبر، وأعطاه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الغنائم. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب ما جاء في حكم أرض خيبر - رقم الحديث (3010)، وأورده الحافظ في الفتح (6/ 323) وحسن إسناده.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا. . . فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَللْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَلَ النِّصْفَ البَاقِي لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الوُفُودِ، وَالأُمُورِ، ونَوَائِبِ النَّاسِ (¬1). قَالَ البَيْهَقيُّ فِي دَلَائِلِهِ: وَهَذَا لِأَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً، وَشَطْرُهَا صُلْحًا، فَقَسَمَ مَا فُتِحَ عَنْوَةً بَيْنَ أَهْلِ الخُمُسِ وَالغَانِمِينَ، وَعَزَلَ مَا فُتِحَ صُلْحًا لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ (¬2). فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِكُلِّ فَرَسٍ سَهْمَينِ، وَلفَارِسِهِ سَهْمًا، وَلكُلِّ رَاجِلٍ سَهْمًا، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسَ سَهْمَيْنِ، وَللرَّاجِلِ سَهْمًا. فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَسٌ فلَهُ سَهْمٌ (¬3). وَأَخْرَجَ النَّسَائيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ أَرْبَعَةَ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب ما جاء في حكم أرض خيبر - رقم الحديث (3012). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 236). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4228) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4448).

* رضخ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعبيد والنساء

أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلزُّبَيْرِ، وسَهْمٌ لِذِي القُرْبَى لِصَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ أُمِّ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وسَهْمَانِ لِلْفَرَسِ (¬1). * رَضْخُ (¬2) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ: وأَمَّا مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنَ العَبِيدِ وَالنِّسَاءِ، فَرَضَخَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الغَنِيمَةِ، وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَي آبِي اللَّحْمِ قَالَ: شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي فكلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَرَ بِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أناَ أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَتْ: أَتَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي نِسْوَة مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَقُلْنَا له: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ أَرَدْنَا أَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الخيل - باب سهمان الخيل - رقم الحديث (4418) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1163). (¬2) الرَّضخ: العطِيَّة القليلة. انظر النهاية (2/ 208). قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 160): وفي هذا أن المرأة تستَحِقُّ الرضخ ولا تستحق السَّهم، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء، وفيه أن العبد يُرْضَخُ له ولا يسهم له، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء. (¬3) قال السندي في شرح المسند (13/ 58): خُرْثِيِّ المتاع: بضم الخاء وسكون الراء: هو أثاث البيت. والخبر أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب السير - باب هل يسهم للعبد - رقم الحديث (1641) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21940).

* رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم

نَخْرُجَ مَعَكَ إِلَى وَجْهِكَ هَذَا -وَهُوَ يَسِيرُ إِلَى خَيْبَرَ- فندَاوِي الجَرْحَى، وَنُعِينَ المُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا مَعَهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةً. . . فَلَمَّا فتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ، رَضَخَ لَنَا مِنَ الفَيْءِ، وَأَخَذَ هَذِهِ القِلَادَةَ التِي تَرَيْنَ فِي عُنُقِي، فَأَعْطَانِيهَا، فَوَاللَّهِ لَا تُفَارِقُنِي أَبَدًا (¬1). * رَدُّ المُهَاجِرِينَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ (¬2): وَلَمَّا رَجَعَ المُسْلِمُونَ إِلَى المَدِينَةِ رَدَّ المُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ التِي مَنَحُوهُمْ إِيَّاهَا لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمُ المَدِينَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ المَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ ولَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ يَعْنِي شَيْئًا، وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَى أَنْ يُعْطُوهُمْ ثِمَارَ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُوهُمُ العَمَلَ وَالمَؤُونَةَ. . .، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ فَانْصَرَفَ إِلَى المَدِينَةِ رَدَّ المُهَاجِرُونَ إِلَى الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ -مِنْ ثِمَارِهَا- (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27136) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الطهارة - باب الاغتسال من الحيض - رقم الحديث (313). قلت: ثبَتَ في صحيح مسلم - رقم الحديث (1812) (137) - أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَرْضَخُ لمن خرج معه من النساء من الغنيمة، ولم يقيده بغزوة خيبر. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 568): المنيحة: بفتح الميم وكسر النون بوزن عظيمة، وهي في الأصل العطية. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الهبة وفضلها - باب فضل المنيحة - رقم الحديث (2630) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب رد المهاجرين إلى =

* استغناء المسلمين

* اسْتِغْنَاءُ المُسْلِمِينَ: وَلَقَدِ اسْتَغْنَى المُسْلِمُونَ بِفَتْحِ خَيْبَرَ، فَقَدْ رَوَي الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: مَا شَبِعْنَا حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: أَيْ لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ النَّخِيلِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ فتحِهَا فِي قِلَّةٍ مِنَ العَيْشِ (¬3). * الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ فُضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ بِخَيْبَرَ بِقِلَادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَب وَهِيَ مِنَ المَغَانِمِ تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالذَّهَبِ الذِي فِي القِلَادَةِ فنزعَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللَّه عليه وسلم-: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ" (¬4). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَفِي هذا الحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ مَعَ غَيْرِهِ ¬

_ = الأنصار منائحهم - رقم الحديث (1771). (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4243). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4242). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 280). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب بيع القلادة فيها خرز وذهب - رقم الحديث (1591) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3215).

* أما الطعام

بِذَهَبٍ حَتَّى يُفْصَلَ فيباعَ الذَّهَبُ بِوَزْيهِ ذَهَبًا، وَيُبَاعَ الآخَرُ بِمَا أَرَادَ، وَكَذَا لَا تُبَاعُ فِضَّة مَعَ غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ (¬1). * أَمَّا الطَّعَامُ: أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلطَّعَامِ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ حَاجَتَهُمْ مِنْ دُونِ أَنْ يُقْسَمَ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ كُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطَّعَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ (¬2). قَالَ القَاضِي عِيَاض: أَجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ طَعَامِ الحَرْبِيِّينَ مَا دَامَ المُسْلِمُونَ فِي دَارِ الحَرْبِ، فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِ الإِمَامِ أَوْ بِغيرِ إِذنِهِ (¬3). * قِصَّةُ الأَعْرَابِيِّ الذِي صدَقَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى: وَاسْتُشْهِدَ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ أَعْرَابِيٌّ، وَقِصَّتُهُ فِي ذَلِكَ عَجِيبَةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الحَاكِمُ وَالنَّسَائيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ شَدَّادِ بنِ الهَادِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ آمَنَ ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (11/ 15). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في النهي عن النهي إذا كان في الطعام قِلّة في أرض العدو - رقم الحديث (2704) وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1188). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 87).

* قصة الأشجعي

بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالَ: أُهَاجِرُ مَعَكَ؟ فَأَوْصَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إصْحَابَهُ بِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ غَزْوَةُ خَيْبَرَ غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْئًا فَقَسَمَ، وَقَسَمَ لَهُ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ (¬1)، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قَسَمَهُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخَذَهُ فَجَاه، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعْتُكَ، وَلَكِنِّي اتَّبَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُرْمَى هَاهُنَا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ، وَأَدْخُلَ الجَنَّةَ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ"، فَلَبِثُوا قَلِيلًا ثُمَّ نَهَضُوا فِي قِتَالِ العَدُوِّ، فَأتِيَ بِهِ يُحْمَلُ وَقَدْ أَصَابَهُ سَهْمٌ حَيْثُ أَشَارَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَهُوَ هُو؟ " قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ اللَّهَ فَصَدَقة"، فكَفَّنَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَانَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ: "اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا فَأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ" (¬2). * قِصَّةُ الأَشْجَعِيِّ: وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَشْجَعَ مَاتَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- وذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُ غَلَّ (¬3) مِنَ الغَنِيمَةِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ ¬

_ (¬1) الظَّهر: الإبل التي يحمل عليها تركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر شداد بن الهاد -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6586) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الجنائز باب الصلاة على الشهداء - رقم الحديث (2091). (¬3) الغُلُولُ: بضم الغين واللام: هو السَّرِقَةُ من الغنيمة قبل القِسْمَة. انظر النهاية (3/ 341).

* قدوم مهاجري الحبشة مع جعفر -رضي الله عنه-

عَنْ زَيْدِ بنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَال: أَنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنْ أَشْجَعَ تُوُفِّيَ بِخَيْبَرَ، وَأَنَّهُ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَال: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ"، قَالَ: فتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ القَوْمِ لِذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى الذِي بِهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ صاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا فِيهِ خَرَزًا مِنْ خَرَزِ اليَهُودِ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي الحَدِيثِ تَحْرِيمُ قَلِيلِ الغُلُولِ وَكَثِيرِهِ (¬2). * قُدُومُ مُهَاجِرِي الحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرَ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا فتَحَهَا ابْنُ عَمِّهِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَاُبهُ، وَكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ بَعَثَ إِلَى النَّجَاشِيِّ بَعْدَ الحُدَيْبِيَةِ عَمْرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَكتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِ أَنْ يرْسِلَ مَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- فَفَعَلَ النَّجَاشِيُّ وَحَمَلَهُمْ فِي سَفِينَتَيْنِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعْفَرَ وَأَصْحَابَهُ فَرِحَ فَرَحًا عَظِيمًا، وَقبَّلَ جَعْفَرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ قَوْلَتَهُ المَشْهُورَةَ: "مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرَ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17031) - والحاكم في المستدرك - كتاب الجنائز - باب إذا استَهَلَّ الصبي وَرِثَ وصُلِّيَ عليه - رقم الحديث (1386) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (78). (¬2) انظر فتح الباري (6/ 305). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الهجرة - باب هجرة عثمان مع رقية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا =

* قدوم الأشعريين

* قُدُومُ الأَشْعَرِيِّينَ: وَقَدِمَ مَعَ مُهَاجِرِي الحَبَشَةِ الأَشْعَرِيُّونَ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ -رضي اللَّه عنه-. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَنَحْنُ بِاليَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ (¬1) -أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ: أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ (¬2)، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ (¬3) -، إِمَّا قَالَ: فِي بِضْعٍ، وَإِمَّا قَالَ: فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، ¬

_ = لي الحبشة - رقم الحديث (4308) (1236) وصححه الحاكم، وقال الذهبي: مرسل - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب في القبلة ما بين العينين - رقم الحديث (5220) - وهو مرسل، وذكر الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طرق هذا الحديث وشواهده وحسنه في تعليقه علي فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 350 - وصححه في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (2657). (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 266): وإنما تأخَّرُوا هذه المدة إما لعَدَمِ بلُوغِ الخبر إليهم بذلك -أي خبر هجرته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المدينة-، وإما لِعِلْمِهِمْ بما كان المسلمون فيه من المُحَارَبَةِ مع الكفار، فلما بلغتهم المُهَادَنَةُ آمنوا وطلبوا الوصول إليه، وقد روى ابن حبان في صحيحه بسند صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (7194) - عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: خرجنا إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في البحر حتى جِئْنَا مكَّةَ وإخوَتِي معي في خمسين من الأشعريين وستة من عك، ثم خرجنا في البحر حتى أتينا المدينة. ويُجمع بينه وبين ما في الصحيح أنهم مَرُّوا بمكة في حال مجيئهم إلى المدينة، ويجوز أن يكُونُوا دخلوا مكة لأن ذلك كان في الهُدْنَةِ -هدنة الحديبية-. (¬2) قال الحافط في الفتح (8/ 266): أبو بُرْدَة: بضم الباء، واسمه عامر. (¬3) قال الحافط في الفتح (8/ 266): أبو رُهْم: بضم الراء وسكون الهاء واسمه مجدي بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الدال.

* حديث ضعيف

فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالحَبَشَةِ (¬1)، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ جَعْفَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَنَا هَاهُنَا، وَأَمَرَنَا بِالإِقَامَةِ، فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ افتتَحَ خَيْبَرَ (¬2)، فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ: فَأَعْطَانَا مِنْهَا، وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ، إِلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرَ وَأَصْحَابِهِ (¬3)، قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ (¬4). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- الذِي رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ، وَلفظُهُ: مَا شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَغْنَمًا ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 587): كأنَّ الريح هاجت عليهم فما ملَكُوا أمرهم حتى أوصلتهم بلاد الحبشة. (¬2) وقع في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار بسند صحيح على شرط البخاري - رقم الحديث (2912): أنهم قَدِمُوا بعد فتح خيبر بثلاث أيام. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 271): ويُعَكِّر علي هذا الحَصْرِ حديثُ أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- في البخاري - رقم الحديث (4234) ولفظه: افتَتَحْنَا خيبرَ ولم نَغْنَمْ ذهبًا ولا فِضَّةً، إنما غَنِمْنَا البقر والإبل والمتاع والحوائط -أي البساتين-. ويجمع بين هذا وبين الحَصْرِ الذي في حديث أبي موسى أن أبا موسى أرادَ أنه لم يُسْهِمَ لِأَحَدٍ لم يشهد الوقعة من غير اسْتِرْضَا: أحَدٍ من الغَانِمِينَ إِلَّا لأصحاب السفينة، وأما أبو هريرة وأصحابه فلم يُعْطِهِمْ إلا عن طِيبِ خَوَاطِرِ المسلمين، واللَّه أعلم. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب إذا بعث الإمام رسولًا في حاجة، أو أمره بالمقام هل يسهم له؟ - رقم الحديث (3136) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4230) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل جعفر بن أبي طالب، وأسماء بنت عميس - رقم الحديث (2502).

* فضائل الأشعريين رضي الله عنهم

قَطُّ إِلَّا قَسَمَ لِي، إِلَّا خَيْبَرَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ الحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً (¬1). فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ، وَمَعَ ضَعْفِ إِسْنَادِهِ، مُنْكَرُ المَتْنِ لِمُخَالفَتِهِ لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ المُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَسَمَ لَهُمْ، وَهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا خَيْبَرَ. * فَضَائِلُ الأَشْعَرِيِّينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ غَدًا أَقْوَام (¬2)، هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا لِلْإِسْلَامِ مِنْكُمْ" (¬3)، فَقَدِمَ الأَشْعَرِيُّونَ، وَفِيهِمْ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ المَدِينَةِ، جَعَلُوا يَرْتَجِزُونَ يَقُولُونَ: غَدًا نَلْقَى الأَحِبَّهْ ... مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ فَلَمَّا أَنْ قَدِمُوا تَصَافَحُوا، فَكَانُوا هُمْ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ المُصافَحَةَ (¬4). زَادَ ابنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأَشْعَرِيُّونَ فِي النَّاسِ ¬

_ (¬1) أخرجه الأمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10912) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2911). (¬2) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده - وفي رواية ابن حبان: "قوم". (¬3) قال السندي في شرح المسند (7/ 106): أي قلوبهم أسرع إلى قبول الحق، ولذلك آمنوا، وهاجروا إليه بلا سبق محاربة. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12026) - (12582) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي موسى الأشعري -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (7193).

* فوائد الحديث

كَصُرَّةٍ فِيهَا مِسْكٌ" (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا (¬2) فِي الغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالهمْ بِالمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ" (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْأَشْعَرِيِّينَ قَبِيلَةِ أَبِي مُوسَى -رضي اللَّه عنه-. 2 - وَفِيهِ تَحْدِيثُ الرَّجُلِ بِمَنَاقِبِهِ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ هِبَةِ المَجْهُولِ. 4 - وَفيهِ فَضِيلَةُ الإِيثَارِ وَالمُوَاسَاةِ. 5 - وَفيهِ اسْتِحْبَابُ خَلْطِ الزَّادِ فِي السَّفَرِ وَفِي الإِقَامَةِ أَيْضًا، وَاللَّه أَعْلَمُ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج هذه الزيادة ابن سعد في طبقاته (1/ 168) وإسناده ضعيف. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 427): أرْمَلُوا: أي فَنِيَ زادُهم، وأصله من الرَّمَلِ كأنهم لَصِقُوا بالرمل من الفِلَّةِ. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الشركة - باب الشركة في الطعام والنهد والعروض - رقم الحديث (2486) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأشعريين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2500). (¬4) انظر فتح الباري (5/ 427).

* فضل أصحاب السفينة

وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُمْ قَوْمُكَ يَا أبا مُوسَى"، وَأَوْمَأَ (¬2) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬3). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالقُرْآنِ، حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالقُرْآنِ بِاللَّيْلِ (¬4)، وَإِنْ كنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ" (¬5). * فَضْلُ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . وَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ لنَا -يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ- سَبَقْنَاكُمْ بِالهِجْرَةِ، ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (54). (¬2) الإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس واليد والعين والحاجب. انظر النهاية (1/ 82). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - رقم الحديث (3273). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 268): فيهِ أن رَفْعَ الصوت بالقرآن بالليل مستَحْسَن لكن محَلُّه إذا لم يُؤْذِ أحَدا وأمِنَ مِنَ الرياء. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4232) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأشعريين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2499).

وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ (¬1)، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى حَفْصَةَ، وَأَسْمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: الحَبَشِيَّةُ هَذِهِ، البَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ، فَقَالَ عُمَرُ: سَبَقْنَاكُمْ بِالهِجْرَةِ، فنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْكُمْ، فَغَضِبَتْ، وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارٍ -أَوْ فِي أَرْضٍ- البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ بِالحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَيْمُ اللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا، وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنَخَافُ، وسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَسْأَله وَاللَّهِ لَا أَكْذِبُ، وَلَا أَزِيغُ، وَلَا أَزِيدُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَا قُلْتِ لَهُ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ" (¬2). وَفي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ رِجَالًا يَفْخَرُونَ عَلَيْنَا وَيَزْعُمُونَ أَنّا لَسْنَا مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) عُمَيْسٍ: بضم العين، وأسماء هذه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زوجة جَعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- فلما قُتل عنها في مؤتة تزوجها أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4230) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل جعفر بن أبي طالب، وأسماء بنت عميس. . . - رقم الحديث (2502) (2503).

* مشاهد رآها مهاجرة الحبشة في الحبشة

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ لَكُمْ هِجْرَتَانِ، هَاجَرْتُمْ إِلَى أَرْضِ الحَبَشَةِ، ثُمَّ هَاجَرْتُمْ بَعْدَ ذَلِكَ" (¬1). قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأتُونَنِي أَرْسَالًا (¬2) يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، مَا فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ، مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * مَشَاهِدُ رَآهَا مُهَاجِرَةُ الحَبَشَةِ فِي الحَبَشَةِ: رَوى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُهَاجِرَةُ البَحْرِ، قَالَ: "أَلَا تُحَدِّثُوني بِأعَاجِيبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ". قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهَابِينِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً (¬4) مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا، فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَتهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ، إِذَا وَضَعَ اللَّهُ الكُرْسِيَّ، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في طبقاته (8/ 389) - وأورده الحافظ في الفتح (8/ 267) وصحح إسناده. (¬2) أَرْسَالًا: بفتح الهمزة: أي أفْوَاجًا وفِرقًا متقطعة، يتبع بعضهم بعضًا، واحدهم رَسَل بفتح الراء والسين. انظر النهاية (2/ 202). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4230) (4231) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل جعفر بن أبي طالب، وأسماء بنت عُمَيس - رقم الحديث (2502) (2503). (¬4) القُلَّة: بضم القاف الحبُّ العظيم، سُمِّيت قُلَّة لأنها تُقَلُّ: أي ترفع وتحمل. انظر النهاية (4/ 91).

* قدوم وفد دوس

وَجَمَعَ الأَوَّلينَ وَالآخِرِينَ وتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَتْ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لَا يُؤخَذُ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ شَدِيدِهِمْ" (¬1). * قُدُوم وَفْدِ دَوْسٍ: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي خَيْبَرَ الدَّوْسِيُّونَ، فِيهِمُ: الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرٍو الدَّوْسيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ- أَنَّ الطُّفَيْلَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي مَكَّةَ وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ يَدْعُو دَوْسًا، فَلَمْ يَزَلِ الطُّفَيْلُ بِأَرْضِ دَوْسٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَنْ أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى نَزَلَ المَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فِيهِمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أُزَيْهِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عِرَاكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنَّ أبَا هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَدِمَ المَدِينَةَ فِي رَهْطٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْبَرَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ سِبَاعَ بنَ عُرْفُطَةَ عَلَى المَدِينَةِ، قَالَ: فَانتهَيْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى: {كهيعص}، وَفِي الثَّانِيَةِ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، قَالَ: فَقُلْتُ لِنَفْسِي: وَيْلٌ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه - كتاب الفتن - باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - رقم الحديث (4010) - وابن حبان في صحيحه - كتاب القضاء - باب الإخبار عما يجب على المرء من معونة الضعفاء - رقم الحديث (5058).

* قصة الذي قطع براجمه

لِفُلَانٍ، إِذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالوَافِي، وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنَّاقِصِ، قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى زَوَّدَنَا شَيْئًا حَتَّى أَتَيْنَا خَيْبَرَ، وَقَدِ افْتَتَحَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ، قَالَ: فكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُسْلِمِينَ، فَأَشْرَكُونَا فِي سِهَامِهِمْ (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ: يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا (¬2) ... عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ قَالَ: وَأَبَقَ (¬3) مِنِّي غُلَام لِي فِي الطَّرِيقِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَايَعْتُهُ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الغُلَامُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أبا هُرَيْرَةَ، هَذَا غُلَامُكَ". فَقُلْتُ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَأَعْتَقْتُهُ (¬4). * قِصَّةُ الذِي قَطَعَ بَرَاجِمَهُ (¬5): رَوَى الإِمَامُ مُسْلِم فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرٍو -رضي اللَّه عنه-، وَهَاجَرَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8552) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - رقم الحديث (7156). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 467): عنائها: بفتح العين أي تعبها. (¬3) أبَقَ: بفتح الهمزة: هرب. انظر النهاية (1/ 19). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العتق - باب إذا قال لعبده هو للَّه ونوى العتق - رقم الحديث (2530) (2531) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7845). (¬5) قال النووي في شرح مسلم (2/ 113): البراجم بفتح الباء: هي مفاصل الأصابع.

مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوْا (¬1) المَدِينَةَ، فَمَرِضَ، فَجَزعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ (¬2) لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ (¬3) يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآه الطُّفَيْلُ بنُ عَمْرٍو في مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئتهُ حَسَنَةٌ، وَرَآه مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي لِهِجْرَتِي إلى نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ الطُّفَيْلُ: مَالِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ! وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ" (¬4). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: في هَذَا الحَدِيثِ حُجَّةٌ لِقَاعِدَةٍ عَظِيمَةٍ لِأَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً غَيْرَهَا، وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ، وَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِالنَّارِ، بَلْ هُوَ في حُكْمِ المَشِيئَةِ، وَهَذا الحَدِيثُ شَرْحٌ لِلْأَحَادِيثِ المُوهِمُ ظَاهِرُهَا تَخْلِيدَ قَاتِلِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الكَبَائِرِ في النَّارِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ عُقُوبَةِ بَعْضِ أَصْحَابِ المَعَاصِي، فَإِنَّ هَذَا عُوقِبَ في يَدَيْهِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى ¬

_ (¬1) اجْتَوَوا المدينة: أي أصابهم الجَوَى، وهو المَرَضُ وداءُ الجوف إذا تطاول. انظر النهاية (1/ 307). (¬2) المَشَاقِصُ: بفتح الميم والشين، وهي جمع مِشْقَصٍ: بكسر الميم، وفتح القاف: هي نَصْلُ السهم. انظر النهاية (2/ 438). (¬3) الشَّخَبُ: السَّيَلان، أي سال دمه. انظر النهاية (2/ 403). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر - رقم الحديث (116) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14981).

* ما الفرق بين هذا والمنتحر؟

المُرْجِئَةِ القَائِلِينَ بِأَنَّ المَعَاصِي لَا تَضُرُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). * مَا الفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَالمُنْتَحِرِ؟ : فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الحَدِيثِ وَبَيْنَ مَا ثبتَ في الصحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الحَسَنِ بنِ جُنْدُب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَان فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ (¬2) بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ (¬3) الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: بَادَرَني عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ" (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِير: فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَاكَ مُشْرِكًا، وَهَذا مُؤْمِنٌ. الثَّانِي: قَدْ يَكُونُ ذَاكَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَهَذا غَيْرُ عَالِمٍ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالإِسْلَامِ. الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ ذَاكَ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا بَلْ مُخْطِئًا. الرَّابِعُ: قَدْ يَكُونُ أَرَادَ ذَاكَ بِصَنِيعِهِ المَذْكُورِ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، بِخِلَافِ هَذَا ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 113). (¬2) الحَزُّ القطع. انظر النهاية (1/ 363). (¬3) فما رقَأ الدم: أي فما سكن وما انقطع. انظر النهاية (2/ 226). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب ما ذُكر عن بني إسرائيل - رقم الحديث (3463) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه - رقم الحديث (113).

* زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صفية بنت حيي رضي الله عنها

فَإِنَّهُ يَجُوزُ أنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ. الخَامِسُ: قَدْ يَكُونُ ذَاكَ قَلِيلُ الحَسَنَاتِ، فَلَمْ تُقَاوِمْ كِبرَ ذَنْبِهِ المَذْكُورِ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ الحَسَنَاتِ، فَقَاوَمَتِ الذَّنْبَ، فَلَمْ يَلجِ النَّارَ بَلْ غُفِرَ له بِالهِجْرَةِ إلى نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَكِنْ يبقَى الشَّيْنُ في يَدِهِ فَقَطْ، وَحَسُنَتْ هَيْئَةُ سَائِرِهِ، فَدَعَا لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ" أَيْ فَأَصْلحْ مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدًا. وَالمُحَقَّقُ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى اسْتَجَابَ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي صَاحِبِ الطُّفَيْلِ بنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ذَكَرْنَا أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بنِ أَخْطَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُبِيَتْ مِنْ حِصْنِ القَمُوصِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ يَهُودُ عَلَى الصُّلْحِ، وَكَانَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَةَ كِنَانَةَ بنِ الرَّبِيعِ بنِ أَبِي الحُقَيْقِ، وَقَدْ قَتَلَهُ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِغَدْرهِ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِجَمْعِ السَّبَايَا، جَاءَ دِحْيَةُ بنُ خَلِيفَةٍ الكَلْبِيُّ -رضي اللَّه عنه-, إلى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ له: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةٍ مِنَ السَّبْي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً"، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّه أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ. ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (3/ 110).

* رؤيا صفية رضي الله عنها

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُدْعُوهُ بِهَا"، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِدِحْيَةَ: "خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْي غَيْرَهَا". وَعَرَضَ عَلَيْهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتَاقَهَا صَدَاقَهَا (¬1). فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَيْبَرَ خَرَجَ بِصَفِيَّةَ مَعَهُ، قَالَ أَنسٌ -رضي اللَّه عنه-: حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءَ (¬2) حَلَّتْ (¬3)، فَدَفَعَهَا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أُمِّ سُلَيْمٍ تُصَنِّعُهَا (¬4) وَتُهَيِّئُهَا لَهُ، وَأَهْدَتْهَا (¬5) لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ عَرُوسًا بِهَا (¬6). * رُؤْيَا صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى في وَجْهِ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خُضْرَةً، فَقَالَ: "يَا صَفِيَّةُ مَا هَذِهِ الخُضْرَةُ؟ " قَالَتْ: كَانَ رَأْسِي في حِجْرِ (¬7) ابْنِ أَبِي الحُقَيْقِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب ما يذكر من الفخذ - رقم الحديث (371) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها - رقم الحديث (1365) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11992). (¬2) الصَّهْبَاءُ: موضع قريب من خيبر. انظر النهاية (3/ 58). (¬3) قال الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 259): حَلت: بفتح الحاء وتشديد اللام: أي طَهُرَت من الحيض. (¬4) قال النووي في شرح مسلم (9/ 12): تُصنّعها: أي لِتُحْسِنَ القيام بها وتُزَيِّنَهَا له عليه الصلاة والسلام. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (2/ 34): أهدتها: أي زَفَّتها. (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4211) - ومسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها - رقم الحديث (1365). (¬7) الحجر: الحِضْن. انظر النهاية (1/ 330).

* وليمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على صفية رضي الله عنها

وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَمَرًا وَقَعَ في حِجْرِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَلَطَمَنِي، وَقَالَ: تَمَنِّينَ مَلِكَ يَثْرِبَ؟ قَالَتْ صَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ قتَلَ زَوْجِي وَأَبِي وَأَخِي، فَمَا زَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتَذِرُ إِلَيَّ، وَيَقُولُ: "إِنَّ آباكِ أَلَّبَ (¬1) عَلَيَّ العَرَبَ وَفَعَلَ وَفَعَلَ" حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي (¬2). * وَلِيمَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَرُوسًا قَالَ: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ"، وَبَسَطَ نِطْعًا (¬3)، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالأَقِطِ (¬4) فَحَاسُوا حَيْسًا (¬5)، فَكَانَتْ وَليمَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ (¬6). ¬

_ (¬1) ألّب: بفتح الهمزة، وتشديد اللام: أي جَمّع. انظر النهاية (1/ 61). (¬2) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب المزارعة - باب الزجر عن المخابرة والمزارعة - رقم الحديث (5199) وإسناده صحيح. (¬3) النِّطْعُ: بكسر النون، هو بساط من جلد. انظر لسان العرب (14/ 186). (¬4) الأقِطُ: بفتح الهمزة هو لَبَن مُجَفَّف يابِسٌ. انظر النهاية (1/ 59). (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (2/ 34): الحَيْسُ: بفتح الحاء خَلِيطُ السَّمْنِ والتَّمر والأقِط. (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب ما يذكر في الفخذ - رقم =

قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَلَا مُخَالفَةَ بَيْنَ قَوْلِ أَنَسٍ: أَوْلَمَ عَلَيْهَا حَيْسًا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَوْلَمَ عَلَيْهَا التَّمْرَ وَالسَّمْنَ وَالأَقِطَ؛ لِأَنَّ هَذه الأَجْزَاءَ -أَي التَّمْرَ وَالسَّمْنَ وَالأَقِطَ- مِنْ أَجْزَاءِ الحَيْسِ (¬1). قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فَقَالَ المُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ؟ فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجِبْهَا فَهِيَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ (¬2) لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الحِجَابَ، فَعَرَفُوا أنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَرْكَبَ، أَدْنَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فخِذَهُ مِنْهَا لِتَرْكَبَ عَلَيْهَا (¬3)، فَأَجَلَّتْ (¬4) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تَضَعَ رِجْلَهَا عَلَى فَخِذِهِ، فَوَضَعَتْ رُكْبَتَهَا عَلَى فَخِذِهِ وَرَكبَتْ (¬5). وَفِي رِوَايةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ البُخَارِيِّ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فكُنْتُ أُرَاهُ ¬

_ = الحديث (371) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب الوليمة ولو بشاة - رقم الحديث (5169) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب فضيلة إعتاقة أمته ثم يتزوجها - رقم الحديث (1365) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11992). (¬1) انظر فتح الباري (10/ 296). (¬2) وطَّأ: بتشديد الطاء: أي مَهّد وذلّل. انظر النهاية (5/ 175). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4211) (4212) (4213) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها - رقم الحديث (1365) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11992). (¬4) أجلت: أي عَظَّمت. انظر النهاية (1/ 278). (¬5) هذ الرواية وقعت في مغازي أبو الأسود عن عروة فيما نفله عنه الحافظ في الفتح (8/ 259).

* غيرة نساء الرسول -صلى الله عليه وسلم- من صفية

يُحَوِّي (¬1) ورَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ أَوْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِصَفِيَّةَ، بَاتَ أَبُو أَيُّوبٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى بَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أَصْبَحَ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَبَّرَ، وَمَعَ أَبِي أَيُّوبٍ السَّيْفُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَتْ جَارِيَةً حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، وَكُنْتَ قَتَلْتَ أَبَاهَا وَأَخَاهَا وَزَوْجَهَا، فَلَمْ آمَنْهَا عَلَيْكَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا (¬3). قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: غَرِيبٌ جِدًّا، وَله شُوَيْهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بنِ المُخْتَارِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاس، فَذَكَرَ قَرِيبًا مِنْهُ (¬4). * غَيْرَةُ (¬5) نِسَاءِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من صَفِيَّةَ: وَلَمَّا قَدِمَتْ صَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا المَدِينَةَ كَانَ فِي أُذُنَيْهَا ¬

_ (¬1) التحوية: أن يُدير كِسَاءً حول سِنَام البعير ثم يركبه، لِيَحْفَظَ راكبها من السُّقُوط ويستريح بالاستناد إليه. انظر النهاية (1/ 447) - فتح الباري (10/ 69). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4211) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12616). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر أم المؤمنين صفية بنت حيي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6865) - وابن سعد في طبقاته (8/ 308). (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 408). شاهده الذي ذكره الإِمام الذهبي أخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 308). (¬5) قال القاضي عياض فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (10/ 401): الغَيْرَة: بفتح الغين وسكون الياء، مشتقة من تَغَيُّرِ القلب وهَيَجَان الغضب بسبب المشاركة فيمَا به الاختصاص.

* شيء من فضائل صفية رضي الله عنها، ووفاتها

خُرْصَةً (¬1) مِنْ ذَهَبٍ، فوَهَبَتْ لِفَاطِمَةَ مِنْهُ، وَلنِسَاءٍ مَعَهَا (¬2). * شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ صَفِيَّةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَوَفَاتُهَا: وَكَانَتْ صَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا شَرِيفَةً عَاقِلَةً، ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَدِينٍ وَحِلْمٍ، وَوَقَارٍ، حَتَّى أَنَّ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَتْهُنَّ الغَيْرَةُ مِنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ صَانِعَةَ طَعَامٍ مِثْلَ صَفِيَّةَ، أَهْدَتْ إلى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنَاءً فِيهِ طَعَامٌ، فَمَا مَلَكْتُ نَفْسِي أَنْ كَسَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَفَّارَتُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَاءٌ كَإِنَاءِ، وَطَعَامٌ كَطَعَامٍ" (¬3) وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَلَغَ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ابْنَةُ يَهُودِيٍّ، فَبَكَتْ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهِيَ تَبْكِي، ¬

_ (¬1) الخُرْصُ: بضم الخاء وكسرها: الحَلَقة الصغيرة من الحلي، وهو من حلي الأذن. انظر النهاية (2/ 22). (¬2) أخرج ذلك ابن سعد في طبقاته (8/ 309) ورجاله ثقات. (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25155) - وأبو داود في سننه - كتاب البيوع والإجارات - باب فيمن أفسد شيئًا يغرم مثله - رقم الحديث (3568) - وأورده الحافظ في الفتح (5/ 421) - وحسن إسناده.

* أمر الشاة المسمومة

فَقَالَ: "مَا شَأْنُكِ" (¬1)؟ قَالَتْ: قَالَتْ لِي حَفْصَةُ: إِنِّي ابْنَةُ يَهُودِيٍّ! . فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكَ ابْنَةُ نَبِيٍّ، وَإنَّ عَمَّكِ نَبِيٌّ، وَإِنَّكِ لَتَحْتَ نَبِيٍّ، فَفِيمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟ " ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحَفْصَةَ: "اتَّقِ اللَّهِ يَا حَفْصَةُ" (¬2). وَكَانَ عُمْرُ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَتُوُفِّيَتْ صَفِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةَ خَمْسِينَ مِنَ الهِجْرَةِ في خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه-، وَدُفِنَتْ بِالبَقِيعِ (¬3). * أَمْرُ الشَّاةِ المَسْمُومَةِ: وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَيْبَرَ أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الحَارِثِ -امْرَأَةُ سَلَّامِ بنِ مِشْكَمٍ، وَأُخْتُ مَرْحَبٍ- شَاةً مَصْلِيَّةً (¬4)، وَقَدْ سَألَتْ: أَيَّ عُضْوٍ مِنَ الشَّاةِ أَحَبُّ إلى مُحَمَّدٍ؟ فَقِيلَ لَهَا: الذِّرَاعُ، فَأَكْثَرَتْ فِيهَا السُّمَّ، ثُمَّ سَمَّتْ سَائِرَ الشَّاةِ، ثُمَّ جَاءَتْ ¬

_ (¬1) هذه رواية الإِمام أحمد في مسنده, وفي رواية ابن حبان قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما يُبْكِيك"؟ (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12392) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر تعظيم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صفية - رقم الحديث (7211). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 235 - 237) - وفتح الباري (4/ 814). (¬4) مصلية: مَشْوِيَّة. انظر النهاية (3/ 47).

بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَنَاوَلَ مِنْهَا الذِّرَاعَ فَلَاكَ مِنْهَا مُضْغَةً، فَلَمْ يُسِغْهَا، وَبَسَطَ أَصْحَاُبهُ أَيْدِيَهُمْ، فِيهِمْ: بِشْرُ بنُ البَرَاءِ بنِ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا (¬1)، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَفَظَهَا، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "إِنَّ هَذَا العَظْمَ لَيُخْبِرُنِي أنَّهُ مَسْمُومٌ" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَنَاوَلَ الذِّرَاعَ فَانْتَهَشَ (¬3) مِنْهَا، وَتَنَاوَلَ بِشْرُ بنُ البَرَاءَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَظْمًا فَانْتَهَشَ مِنْهُ، فَلَمَّا اسْتَرَطَ (¬4) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لُقْمَتَهُ اسْتَرَطَ بِشْرٌ مَا في فَمِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ فَإِنَّ هَذِهِ الذِّرَاعَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ"، فَقَالَ بِشْرُ بنُ البَرَاءِ: وَالذِي أَكْرَمَكَ لَقَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ في أَكْلَتِي التِي أَكَلْتُ فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَلْفِظَهَا إِلَّا أَنِّي أَعْظَمْتُ أَنْ أُنَغِّصَكَ (¬5) طَعَامَكَ، فَلَمَّا أَكَلْتَ مَا فِي فِيكَ، لَمْ أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِكَ، وَرَجَوْتُ أَنْ لَا تَكُونَ اسْتَرَطْتَهَا، وَفِيهَا بَغْيٌ (¬6) ¬

_ (¬1) سَاغَ الطعام: نزَلَ في الحلق. انظر لسان العرب (6/ 432). (¬2) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (3/ 367) بدون سند. (¬3) نهَشَ ينْهَشُ: تنَاوَلَ الشَّيءَ بفمه. انظر لسان العرب (14/ 306). (¬4) استَرَط: ابْتَلَعَ. انظر لسان العرب (6/ 240). (¬5) نَغَصَ: لم تَتِمَّ له هَنَاءَته، والنغص: كَدَرُ العَيْشِ. انظر لسان العرب (14/ 219). (¬6) أخرج ذلك ابن سعد في طبقاته (2/ 351).

ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إلى تِلْكَ المَرْأَةِ اليَهُودِيَّةِ، فَجِيءَ بِهَا، فَسَأَلهَا عَنْ ذلِك (¬1)؟ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ (¬2). وَعِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهُ سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا أُرِيحُ النَّاسَ مِنْكَ (¬3). فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكَ"، أَوْ قَالَ: "عَلَيَّ" (¬4)، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا نَقْتُلُهَا؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا" (¬5). وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ يَهُودٍ"، فَجَمَعُوا له، . . . فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ أَنْتُمْ صادِقِي عَنْ شَيءٍ إِنْ سَألتُكُمْ عَنْهُ"؟ فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أبَا القَاسِمِ. ¬

_ (¬1) هذه رواية مسلم في صحيحه - وفي رواية الحاكم في المستدرك قال لها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ويلَكِ لأي شيءٍ سَمَمْتِنِي". (¬2) هذه رواية الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب السم - رقم الحديث (2190). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2784). (¬4) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب السحر - رقم الحديث (2190). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الهبة - باب قبول الهدية من المشركين - رقم الحديث (2617) - ومسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب السحر - رقم الحديث (2190).

* أثر السم الذى أصاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ جَعَلْتُمْ في هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالُوا: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ (¬1). وَترَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَذِهِ المَرْأَةَ، وَعَفَا عَنْهَا، فَلَمَّا مَاتَ بِشْرُ بنُ البَرَاءَ بنِ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ أَكْلَتِهِ التِي أَكَلَ أَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُتِلَتْ قِصَاصًا، بِقَتْلِهَا بشْرِ بنِ البَرَاءَ بنِ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬2). * أَثَرُ السُّمِّ الذِى أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْتِيهِ الألَمُ مِنْ هَذَا السُّمِّ بَيْنَ فترَةٍ وَأُخْرَى، فَكَانَ يَحْتَجِمُ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا -أَيْ مِنْ أَلمِ السُّمِّ- احْتَجَمَ، قَالَ: فَسَافَرَ مَرَّةً، فَلَمَّا أَحْرَمَ، وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا -أَيْ مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الطب - باب ما يذكر في سم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (5777) - وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة - باب إذا غدر المشركون هل يُعفى عنهم؟ رقم الحديث (3169). (¬2) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب حكاية يهودية سمت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه - رقم الحديث (5020) - وصححه الحاكم -وهو حسن بمجموع طرقه. قال السُّهيلي في الرَّوْض الأُنُف (4/ 83): وإنما لم يقتلها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه كان لا يَنتقِمُ لنفسه، فلما ماتَ بِشْرُ بن البراء -رضي اللَّه عنه- من تلك الأكْلَةِ قتلها ببشْرٍ قِصَاصًا.

* فوائد الحديث

أَلمِ ذَلِكَ السُّمِّ- فَأَحْتَجَمَ (¬1). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى في مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، مِنْ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا مِنْ شَاةٍ مَسْمُومَةٍ، سَمَّتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - إِخْبَارُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عنِ الغَيْبِ. 2 - تَكْلِيمُ الجَمَادِ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - وَفِيهِ مُعَانَدَةُ اليَهُودِ لِاعْتِرَافِهِمْ بِصِدْقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ دَسِيسَةِ السُّمِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَعَانَدُوهُ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ. 4 - وَفِيهِ قتل مَن قَتَلَ بِالسُّمِّ قِصَاصًا. 5 - وَفِيهِ أَنَّ الأَشْيَاءَ -كَالسُّمُومِ وَغَيْرِهَا- لَا تُؤَثّر بِذَوَاتِهَا، بَلْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى (¬3). * انْقِطَاعُ أَبْهَرِ (¬4) الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَقَدْ بَلَغَ أَثَرُ هَذَا السّمِّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى انْقِطَاعِ الأَبْهَرِ مِنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2784). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3547). (¬3) انظر فتح الباري (11/ 414). (¬4) الأبْهَرُ: هو عِرْق في الظَّهْرِ موصولٌ بالقلب فإذا انقطع لم تَبْقَ معهُ حياة. انظر النهاية (1/ 22).

* استشهاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من هذا السم

رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ في مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلمَ الطَّعَامِ الذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" (¬1). وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ: أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في وَجَعِهِ الذِي قُبِضَ فِيهِ، فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَتَّهِمُ بِنَفْسِكَ؟ فَإِنِّي لَا أتَّهِمُ إِلَّا الطَّعَامَ الذِي أَكَلَ مَعَكَ بِخَيْبَرَ، وَكَانَ ابْنُهَا بِشْرُ بنُ البَرَاءِ بنُ مَعْرُورٍ مَاتَ قَبْلَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَنا لَا أَتَّهِمُ غَيْرَهُ، هَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي" (¬2). * اسْتِشْهَادُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ هَذَا السُّمِّ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ تِسْعًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قُتِلَ قتلًا (¬3)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4428). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23933) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (4513) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب بشر بن البراء بن معرور مات قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (5019). (¬3) قال الإِمام السندي في شرح المسند (3/ 247): ولا ينافي ذلك قوله تَعَالَى في سورة المائدة آية (67) {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} إذ يكفي فيه العِصْمَة عن القتل على الوجه المعتاد فيه، وقد عُصم منه -صلى اللَّه عليه وسلم- بلا ريب.

* قتلى الفريقين في غزوة خيبر

أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا، وَجَعَلَهُ شَهِيدًا (¬1). وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ: وَكَانَ بَقِيَ أَثَرُهَا -أَيْ أَثَرُ السُّمِّ- مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الفَضْلِ كُلِّهَا له -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَهُ بِالشَّهَادَةِ، ظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الأثرِ الكَامِنِ مِنَ السُّمِّ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (¬2). * قَتْلَى الفَرِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ: بَلَغَ عَدَدُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِضْعَةَ (¬3) عَشَرَ رَجُلًا، أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَوَاحِدٌ مِنْ أَشْجَعَ، وَوَاحِدٌ مِنْ أَسْلَمَ، وَوَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ وَهُوَ الأَسْوَدُ الرَّاعِي، وَأَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ. وَبَلَغَ عَدَدُ قتلَى اليَهُودِ في غَزْوَةِ خَيْبَرَ ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ نَفَرٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ كَابْنَيْ أَبِي الحُقَيْقِ، وَمَرْحَبٌ (¬4). * قُدُومُ أَبَان بنِ سَعِيدٍ -رضي اللَّه عنه- مِنْ نَجْدٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا تَوَجَّهَ إلى خَيْبَرَ بَعَثَ مِنَ المَدِينَةِ أَبَانَ بنَ سَعِيدِ بنِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3617) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب اتخاذه اللَّه نبيًا واتخاذه شهيدًا - رقم الحديث (4450). (¬2) انظر زاد المعاد (4/ 113). (¬3) البِضْعُ في العدد: بكسر الباء: ما بين الثلاثة إلى التسع. انظر النهاية (1/ 133). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (3/ 373) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 303).

* أمر يهود فدك

العَاصِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى سَرِيَّةٍ قبلَ نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، فَسَأَلَ أبانُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ، فَلَمْ يَفْعَلْ (¬1). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: لَمْ أَعْرِفْ حَالَ هَذِهِ السَّرِيَّةِ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ هَذِهِ السَّرِيَّةَ إلى نَجْدٍ لِإِرْهَابِ الأَعْرَابِ هُنَاكَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ غِرَّةَ (¬2) المُسْلِمِينَ لِلْإِغَارَةِ عَلَى المَدِينَةِ، وَالقِيَامِ بِالنَّهْبِ وَالسَّلْبَ (¬3). * أَمْرُ يَهُودِ فَدَكَ (¬4): لَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى خَيْبَرَ، بَعَثَ مُحَيِّصَةَ (¬5) بنَ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، في رِجَالٍ مَعَهُ إلى يَهُودِ فَدَكَ يَدْعُوهُمْ إلى الإِسْلَامِ، فَأَبْطَأُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خَيْبَرَ قَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ، فبَعَثُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَالِحُونَهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ فَدَكَ بِمِثْلِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ خَيْبَرَ، فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ مِنْهُمْ. فَكَانَتْ فَدَكٌ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفِ (¬6) المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4238). (¬2) غِرة: بكسر الغين: الغَفْلَة. انظر النهاية (3/ 318). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 275). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (6/ 323): فَدَك: بفتح الفاء والدال: بلدٌ بينها وبين المدينة ثلاثُ مراحل. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 223): مُحَيِّصَةَ: بضم الميم وتشديد الياء المكسورة. (¬6) الإيجَافُ: سُرْعَةُ السَّيْرِ. انظر النهاية (5/ 137).

* حصار وادي القرى وقصة مدعم

بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنْفِقُ مِنْهَا، وَيَعُودُ مِنْهَا عَلَى صَغِيرِ بَنِي هَاشِمٍ، وَيُزَوِّجُ مِنْهَا أَيِّمَهُمْ (¬1). رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ المُغِيرَةِ بنِ مِقْسَمٍ قَالَ: جَمَعَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بَنِي مَرْوَانَ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ لَهُ فَدَكٌ، فَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهَا، وَيَعُودُ مِنْهَا عَلَى صَغِير بَنِي هَاشِمٍ، وَيُزَوِّجُ مِنْهَا أيِّمَهُمْ. . . (¬2). * حِصَارُ وَادِي القُرَى (¬3) وَقِصَّةُ مِدْعَمٍ (¬4): ثُمَّ تَحَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى انْتَهَى إلى وَادِي القُرَى، وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنَ اليَهُودِ، فنَزَلَ بِهَا، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غُلَامٌ يدْعَى: مِدْعَمًا أَهْدَاهُ لَهُ رِفَاعَةُ بنُ زَيْدٍ الجُذَامِيُّ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَضَعُ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذْ جَاءهُ سَهْمٌ غَائِرٌ (¬5)، فَأَصَابَهُ فَقتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةَ (¬6) يَا رَسُولَ اللَّهِ! ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) الأيم: التي لا زَوْجَ لها، بكرًا كانت أو ثيبًا، مطلقة كانت أو متوفى عنها. انظر النهاية (1/ 86). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب في صفايا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأموال - رقم الحديث (2972). (¬3) وادي القُرى: هو واد بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى. انظر معجم البلدان (8/ 433). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 271): مِدْعَم: بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 272): غائِرٌ: بوزن فاعل: أي لا يُدرى من رمى به. (¬6) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (6707): قالوا: هنيئًا له الجنة.

* تعبئة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه للقتال

رَسُولُ اللَّهِ: "كَلَّا وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلةَ التِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ (¬1) عَلَيْهِ نَارًا"، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشِرَاكٍ (¬2)، أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ" (¬3). قُلْتُ: وَقَدْ شَدَّدَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَمْرِ الغُلُولِ فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الغُلُولُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ (¬4) عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬5). * تَعْبِئَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ: ثُمَّ عَبَّأَ (¬6) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَصَفَّهُمْ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَرَايَةً إلى الحبابِ بنِ المُنْذِرِ -رضي اللَّه عنه-، وَرَايَةً إلى سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (115): لتلتهب. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 272): الشراك: بكسر الشين وتخفيف الراء: هو سَيْرُ النعل على ظَهْرِ القدم. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4234) - وأخرجه في كتاب الإيمان والنذور - باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والمغنم والزرع - رقم الحديث (6707) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون - رقم الحديث (115). (¬4) الشنار: بفتح الشين: العيب والعار. انظر النهاية (2/ 450). (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6729). (¬6) عبَّأت الجيش: أي رتبتهم في مواضعهم وهيَّأتهم للحرب. انظر النهاية (3/ 153).

* أمر يهود تيماء

-رضي اللَّه عنه-، وَرَايَةً إلى عَبَّادِ بنِ بِشْرٍ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ دَعَاهُمْ إلى الإِسْلَامِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا (¬1) أَمْوَالَهُمْ، وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. فَرَفَضُوا ذَلِكَ وَأَبَوْا إِلَّا القِتَالَ، فبرَزَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ له الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- فَقتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ، فبرَزَ له عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فَقتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ مِنْهُمْ رَجُل ثَالِث، فَخَرَجَ له أَبُو دُجَانَةَ -رضي اللَّه عنه- فَقتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ دعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ بَقِيَ إلى الإِسْلَامِ، وَلقَدْ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْضُرُ يَوْمَئِذٍ فيصَلِّي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَدْعُوَهُمْ إلى اللَّهِ وَرَسُولهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوا ذَلِكَ، فَلَمْ تَرْتَفِعِ الشَّمْسُ لِمَغِيبِهَا حَتَّى أَعْطَوْا مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَفتَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْوَةً، وَغَنَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْوَالَهُمْ، وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعا كَثِيرًا. وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِوَادِي القُرَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَقَسَمَ مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ هُنَاكَ، وَتَرَكَ الأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِأَيْدِي اليَهُودِ، وَعَامَلَهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا عَامَلَ عَلَيْهِ أَهْلَ خَيْبَرَ، وَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمْ عَمْرَو بنَ سَعِيدِ بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- (¬2). * أَمْرُ يَهُودِ تَيْمَاءَ: وَلَمَّا بَلَغَ يَهُودَ تَيْمَاءَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَهْلِ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَوَادِي ¬

_ (¬1) يُقال: أحرزت الشيء: إذا حفظته وضممته إليك. انظر النهاية (1/ 352). (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّةَ للذهبي (2/ 90) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 270) - شرح المواهب (3/ 301) - البداية والنهاية (4/ 608).

* أمر يهود خيبر في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

القُرَى صَالَحُوهُ عَلَى الجِزْيَةِ، وَأَقَامُوا بِبِلَادِهِمْ، وَأَرْضُهُمْ في أَيْدِيهِمْ (¬1). * أَمْرُ يَهُودِ خَيْبَرَ في حَيَاةِ الْرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَظَلَّ يَهُودُ خَيْبَرَ يَعْمَلُونَ في مَزَارِعِهَا عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا في حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا كَانَ حِينَ يُصْرَمُ (¬2) النَّخْلُ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ: عَبْدَ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ الأَنْصَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- لِيَخْرِصَ (¬3) لَهُمْ، فَطَافَ في نَخْلِهِمْ، فَخَرَصَهَا جَمِيعًا، ثُمَّ ضَمَّنَهُمُ الشَّطْرَ، فَشَكَوْا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شِدَّةَ خَرْصِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ أَتُطْعِمُونِي السُّحْتَ (¬4)، وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عِدَتِكُمْ مِنَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ، وَلَا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في: دلائل النبوة للبيهقي (4/ 270) - شرح المواهب (3/ 303) - البداية والنهاية (4/ 608). (¬2) الصَّرم: بفتح الراء: قطعُ الثمر واجتِنَاؤُهَا من النَّخْلَة. انظر النهاية (3/ 25). (¬3) خَرْصُ النخلة: إذا خَرَزَ ما عليها من الرطب تمرًا، فهو من الخَرْصِ: الظن؛ لأن الخَرْزُ إنما هو تقدير بِظَن. انظر النهاية (2/ 22). (¬4) السُّحْتُ: الحرام، سمى الرشوة في الحكم سُحتًا. انظر النهاية (2/ 311). (¬5) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب المزارعة - باب الزجر عن المخابرة والمزارعة - رقم الحديث (5199) - وابن ماجه في سننه - كتاب الزكاة - باب خرص النحل والعنب - رقم الحديث (1820) - وأبو داود في سننه - كتاب البيوع - باب المساقاة - رقم الحديث (3410). وإسناده صحيح.

* غدر يهود خيبر

وَقَدْ خَرَصَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ عَامًا وَاحِدًا، ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ في يَوْمِ مُؤْتَةَ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَانَهُ جَبَّارَ بنَ صَخْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1)، وَكَانَ خَارِصَ أَهْلِ المَدِينَةِ وَحَاسِبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ (¬2). * غَدْرُ يَهُودِ خَيْبَرَ: وَظَلَّ يَهُودُ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَضُرُّ المُسْلِمِينَ حَتَّى عَدَوْا عَلَى ابْنِ مُحَيِّصَةَ (¬3) بنِ مَسْعُودٍ الأَوْسِيِّ الأَنْصَارِيِّ، فَقتَلُوهُ، وَذَلِكَ في حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: إِنَّ ابْنَ مُحَيِّصَةَ الأَصْغَرَ أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَقِمْ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَنْ قتَلَهُ، أَدْفَعْهُ إِلَيْكَ بِرُمتِهِ" (¬4)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ أَيْنَ أُصِيبُ شَاهِدَيْنِ، وَإِنَّمَا أَصْبَحَ قَتِيلًا عَلَى أَبْوَابِهِمْ؟ ! قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فتَحْلِفُ خَمْسِينَ قَسَامَةً؟ " (¬5). ¬

_ (¬1) هو جَبَّار بن صخر الأنصاري -رضي اللَّه عنه- شهد العقبة وبدرًا وأحدًا، والمشاهد كلها مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، توفي -رضي اللَّه عنه- سنة ثلاثين من الهجرة في خلافة عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-، وهو ابن ثنتين وستين سنة. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (3/ 385). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 223): مُحيِّصة: بضم الميم وتشديد الياء المكسورة. (¬4) الرُّمَةُ: بضم الراء: قِطْعَة حبل يُشد بها الأسير أو القاتل إذا قيد إلى القصاص: أي يُسلم إليهم بالحبل الذي شد به تمكينًا لهم منه لئلا يهرب. انظر النهاية (2/ 243). (¬5) القَسَامَة: بفتح القاف: اليمين، يُقْسِمُ من أولياء الدم خمسون نظرًا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم ولم يُعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقْسَمَ =

قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَيْفَ أَحْلِفُ عَلَى مَا لَا أَعْلَمُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَتَسْتَحْلِفُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ قَسَامَةً". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ نَسْتَحْلِفُهُمْ وَهُمُ اليَهُودُ. فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دِيتَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَعَانَهُمْ بِنِصْفِهَا (¬1). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَهْلِ بنِ أَبِي حَثْمَةَ أنَّهُ قَالَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إلى خَيْبَرَ (¬2) مِنْ جَهْدٍ (¬3) أَصَابَهُمْ، فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ (¬4) وَطُرِحَ في فَقِيرٍ (¬5) أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قتلْتُمُوهُ. قَالُوا: مَا قتَلْنَاهُ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ¬

_ = الموجودون خَمْسِينَ يمينًا, ولا يكون فيهم صَبِي، ولا امرأة، ولا مجنونٌ، ولا عَبْدٌ، أو يُقْسِمُ بها المتهمون نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استَحَقُّوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. انظر النهاية (4/ 55). قلت: وقد فَصّل ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (5/ 9) أمر القسامة تفصيلًا جيدًا، فراجعه. (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (6896) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4586) - وأورده الحافظ في الفتح (14/ 225) وصحح إسناده. (¬2) زاد البخاري ومسلم في صحيحيهما في رواية أخرى: وهي يومئذ صُلْحٌ. (¬3) الجَهْدُ: بفتح الجيم: المشقة. انظر النهاية (1/ 308). (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3173): فأتى مُحيّصة إلى عبد اللَّه بن سهل وهو يتشحَّطُ في دمه قتيلًا. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 224): يتشَحَّطُ: أي يضْطَرِبُ فيَتَمَرَّغ في دمه. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 224): الفَقِير: بفتح الفاء ثم قاف مكسورة: أي حُفيرة.

* إجلاء يهود خيبر والجزيرة في خلافة عمر -رضي الله عنه-

فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ (¬1)، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهْلٍ -أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بنِ سَهْلٍ المَقْتُولِ-، فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُحَيِّصَةَ: "كبِّرْ كبِّرْ"، يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ"، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ بِهِ، فَكَتَبَ يَهُودُ: مَا قتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: "أتحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ"، قَالُوا: لَا، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ"، قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ (¬2) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتِ الدَّارَ، قَالَ سَهْلٌ: فَرَكَضَتْنِي (¬3) مِنْهَا نَاقَةٌ (¬4). * إِجْلَاءُ يَهُودِ خَيْبَرَ وَالجَزِيرَةِ في خِلَافَةِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمْ يَزَلْ يَهُودُ خَيْبَرَ يَعْمَلُونَ في أَرْضِهَا عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمُدَّةَ خِلَافةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ أَقَرَّهُمْ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ إلى أَنْ خَرَجَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ، وَالمِقْدَادُ بنُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 223): حُويِّصة: بضم الحاء وتشديد الياء المكسورة. (¬2) ودَاهُ: أي أعطى ديته. انظر النهاية (5/ 148). (¬3) أصلُ الرَّكْضِ: الضرب بالرجل والإصابة بها. انظر النهاية (2/ 235). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب الموادعة والمصالحة مع المشركين المال - رقم الحديث (3173) - وأخرجه في كتاب الديات - باب القسامة - رقم الحديث (6898) - وأخرجه في كتاب الأحكام - باب كتاب الحاكم إلى مسألة والقاضي إلى أُمنائه - رقم الحديث (7192) - وأخرجه مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص - باب القسامة - رقم الحديث (1669) (1).

الأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إلى أَمْوَالٍ لَهُمْ بِخَيْبَرَ يَتَعَاهَدُونَهَا، فَلَمَّا قَدِمُوهَا تَفَرَّقُوا في أَمْوَالِهِمْ، فَعُدِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، تَحْتَ اللَّيْلِ، وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَفُدِعَتْ (¬1) يَدَاهُ مِنْ مِرْفَقِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اسْتُصْرِخَ عَلَيْهِ صَاحِبَاهُ، فَأتَيَاهُ، فَسَأَلَاهُ عَمَّنْ صَنَعَ بِهِ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: فَأَصْلِحَا مِنْ يَدَيَّ، ثُمَّ قَدِمُوا بِهِ عَلَى عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- , فَقَالَ: هَذَا عَمَلُ يَهُودِ (¬2). وَفي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: . . . فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، غَالَوْا (¬3) في المُسْلِمِينَ، وَغَشُّوهُمْ، وَرَمَوْا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ، فَفَدَعُوا يَدَيْهِ (¬4). فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- ذَلِكَ قَامَ في النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أنَا نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، وَقَدْ عَدَوْا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ، فَفَدَعُوا يَدَيْهِ كَمَا بَلَغَكُمْ، مَعَ عَدْوَتهِمْ عَلَى الأَنْصَارِيِّ قَبْلَهُ (¬5)، لَا نَشُكُّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهُمْ، لَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، ¬

_ (¬1) الفَدَعُ: بالتحريك: هو زَيْغٌ بين القَدَمِ وبين عظم الساق، وكذلك في اليد وهو أن تزول المفاصل عن أماكنها. انظر النهاية (3/ 376). (¬2) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (90) وإسناده حسن. (¬3) الغَوْل: الخيانة. انظر لسان العرب (10/ 148). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2765). (¬5) بقتلهم ابن محيّصة بن مسعود الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وعبد اللَّه بن سهل الأنصاري -رضي اللَّه عنه-، كما تقدم ذلك قبل قليل.

فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ (¬1) فَلَمَّا أَجْمَعَ (¬2) عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى إِجْلَائِهِمْ (¬3) أتاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الحُقَيْقِ (¬4) فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أتخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّد -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَامَلَنَا عَلَى الأَمْوَالِ وَشَرَطَ ذَلِكَ لَنَا (¬5)؟ فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَكَ: "كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بِكَ قَلُوصُكَ (¬6) لَيْلة بَعْدَ لَيْلَةٍ" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (90) وإسناده صحيح - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2765) وإسناده صحيح - وأصله في صحيح البخاري - رقم الحديث (2730). (¬2) أجمع: أي عَزم. لسان العرب (2/ 358). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 674): الإجلاء: الإخراج عن المال والوطن على وَجْهِ الإزعاج والكراهة. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 674): الحُقَيْقِ مُصَغّرًا، وهو رأسُ يهودِ خيبر، وفي رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار بسند صحيح - رقم الحديث (2765): قال عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه-: أتاه رئيسهم. (¬5) في رواية ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (5199) فقال رئيسهم لعمر -رضي اللَّه عنه-: لا تُخْرِجنا دعنا نكون فيها كما أقَرَّنا رَسُول اللَّهِ وأبو بكر. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 674): قلوصك: بفتح القاف وضم اللام والصاد: هي الناقة الصَّابرة على السير، وقيل الشَّابَّة. (¬7) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 674): فيه إشارةٌ منه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى إخراجهم من خيبر، وكان ذلك من أخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمغيبات قبل وقوعها. وفي رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار بسند صحيح - رقم الحديث (2765) فقال عمر لرئيسهم: أتراه سَقَطَ عني قول رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لك: "كيف بك إذا رَقَصَتْ بك -أي أسْرَعَتْ في السير- راحلتك نحوَ الشام يومًا ثم يومًا ثم يومًا".

* تخيير عمر -رضي الله عنه- أزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم-

فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ هُزَيْلَةً (¬1) مِنْ أَبِي القَاسِمِ. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالهَزْلِ (¬2) فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، إلى تَيْمَاءَ وَأَرِبحَاءَ (¬3)، وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ التَّمْرِ مَالًا وَإِبِلًا وَعَرُوضًا (¬4) مِنْ أَقْتَابٍ (¬5) وَحِبَالٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ (¬6). * تَخْيِيرُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- أَزْوَاجَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَخَيَّرَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- حِينَئِذٍ أَزْوَاجَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَقْطَعَ لَهُنَّ منَ المَاءَ وَالأَرْضِ، أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ مَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْطِيهِنَّ؟ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 674) هُزَيْلَة: بضم الهاء تصغير الهزل، وهو ضد الجد. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب إذا إشترط في المزارعة "إذا شئت أخرجتك" - رقم الحديث (2730) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2765) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1129). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 290): تَيْمَاء: بفتح التاء وسكون الياء، وأريحا: بفتح الهمزة وكسر الراء، هما موضعان مشهوران بقرب بلاد طيء على البحر في أول طريق الشام من المدينة. (¬4) العَرُوضُ جمْعُ عَرَضٍ، بفتح العين وسكون الراء: هو المتاع وكل شيء سوى الدراهم والدنانير. انظر لسان العرب (9/ 140). (¬5) الأقتاب: جمع قَتَبٍ: وهو الرَّحْلُ الصغير على قَدْرِ سنَام البعير. انظر لسان العرب (11/ 28). (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحرث والمزارعة - باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك اللَّه - رقم الحديث (2338) - وأخرجه في كتاب الشروط - باب إذا اشترط في المزارعة "إذا شئت أخرجتك" - رقم الحديث (2730) - وأخرجه مسلم - في صحيحه - كتاب المساقاة - باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع - رقم الحديث (1551) (6).

* إجلاء يهود فدك ونصارى نجران

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْطِيهِنَّ: مِائَةَ وَسْقٍ (¬1)، وَثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ، وَعِشْرُونَ وَسْقَ شعِيرٍ، فَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنِ اخْتَارَ الوَسْقَ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِمَّنِ اخْتَارَتَا الأَرْضَ وَالمَاءَ (¬2). * إِجْلَاءُ يَهُودِ فَدَكَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ: وَأَجْلَى كَذَلِكَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، يَهُودَ فَدَكَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ أَيْضًا مِنَ الحِجَازِ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلَ تَيْمَاءَ وَوَادِي القُرَى؛ لأنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ لَا مِنَ الحِجَازِ (¬3). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: الذِي يُمْنَعُ المُشْرِكُونَ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْهَا -أَيْ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ- الحِجَازُ خَاصَّةً، وَهُوَ مَكَّةُ وَالمَدِينَةُ وَاليَمَامَةُ وَمَا وَالَاهَا، لَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَزِيرَةِ العَرَبِ، لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلَى أَنَّ اليَمَنَ لَا ¬

_ (¬1) الوَسْقُ: بفتح الواو وسكون السين سِتُّون صاعًا. انظر النهاية (5/ 161). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحرث والمزارعة - باب المزارعة بالشطر ونحوه - رقم الحديث (2328) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع - رقم الحديث (1551) (2) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6983) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4732). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحرث والمزارعة - باب إذا قال رب الأرض أقرك ما أقرك اللَّه - رقم الحديث (2338) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع - رقم الحديث (1551) (6) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6368).

* العودة إلى المدينة وأحداث حدثت في الطريق

يُمْنَعُونَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَزِيرَةِ العَرَبِ، هَذَا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ، وَعَنِ الحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا المَسْجِدَ، وَعَنْ مَالِكٍ: يَجُوزُ دُخُولُهُمْ لِلتِّجَارَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَدْخُلُونَ الحَرَمَ أَصْلًا إِلَّا بِإِذْنِ الإِمَامِ لِمَصْلَحَةِ المُسْلِمِينَ خَاصَّةً (¬1). وَقَالَ الدُّكْتُور مُحَمَّد أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَنِعِمَّا فَعَلَ المُلْهَمُ المُحَدَّثُ (¬2)، فَإِنَّ الحِجَازَ قُطْبُ الإِسْلَامِ، وَقَلْبُهُ النَّابِضُ، فَكَانَ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ تَبقَى القُطْبُ قَوِيًّا مُتَمَاسِكًا، وَالقَلْبُ سَلِيمًا مِنْ عَوَامِلِ الضَّعْفِ وَالفَسَادِ، كَيْ تَبْقَى الأَطْرَافُ سَلِيمَةً قَوِيَّةً تُؤَدِّي وَظَائِفَهَا المَطْلُوبَةَ مَعَهَا، فَهَلْ يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَبْطَالِ المُسْلِمِينَ وَالعَرَبِ مَنْ يُجْلِيهِمْ مِنَ الأَرْضِ المبارَكَةِ (فِلِسْطِينَ) كَمَا أُجْلُوا عَنِ البَلَدِ الطَّيِّبِ (المَدِينَةِ) وَالأَرْضِ الطَّاهِرَةِ (الحِجَازِ) (¬3)؟ * العَوْدَةُ إِلَى المَدِينَةِ وَأَحْدَاثٌ حَدَثَتْ في الطَّرِيقِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المَدِينَةِ مَنْصُورًا مُؤَيَّدًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (6/ 284). (¬2) المُحَدَّث: مفرد مُحَدَّثُون، بفتح الدال وتشديدها، ومعناها: المُلْهَم، والملهم هو الذي يُلقَى في نفسه الشيء فيخبر به فِراسة، وهو نوعٌ يختص به اللَّه عَزَّ وَجَلَّ من يشاء من عباده الذين اصطفى، مثل عمر -رضي اللَّه عنه-، كأنهم حُدِّثوا بشيء فقالوه. انظر النهاية (1/ 338). روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3689) - عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس مُحَدَّثُون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر". وأخرجه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2398) عن عائشة رضي اللَّه عنها. (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (2/ 422) للدكتور محمَّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* الحادث الأول: ذكر الله عز وجل

وَتَعَالَى، وَكَانَتْ مدَّةُ غَيْبَتِهِ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، وَفِي طَرِيقِ عَوْدَتِهِ حَدَثَتْ أَحْدَاث مِنْهَا: * الحَادِثُ الأَوَّلُ: ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: كُلَّمَا أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ؛ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرْبِعُوا (¬1) عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا (¬2)، وَهُوَ مَعَكُمْ"، قَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ -رضي اللَّه عنه-: وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَسَمِعَنِي، وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ لِي: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بنَ قَيْسٍ" (¬3)، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "ألا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ"؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (¬4). * الحَادِثُ الثَّانِي: فَوَاتُ صَلَاةِ الفَجْرِ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (12/ 482): أربعوا: أرفقُوا ولا تُجْهِدُوا أنفسكم. (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري: "سَمِيعًا بصيرًا". (¬3) هو اسم أَبِي مُوسَى الأشعري -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4202) - وأخرجه في كتاب الدعوات - باب الدعاء إذا علا عقبة - رقم الحديث (6384) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الذكر والدعاء والتوبة - باب استحباب خفض الصوت بالذكر- رقم الحديث (2704).

حِينَ قَفَلَ (¬1) مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، سَارَ لَيْلَهُ، حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الكَرَى (¬2) عَرَّسَ (¬3)، وَقَالَ لبلَالٍ: "اكْلَأ (¬4) لَنَا اللَّيْلَ"، فَصَلَّى بِلَالٌ مَا قُدِّرَ له، وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، فَلَمَّا تَقَارَبَ الفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالٌ إلى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الفَجْرِ (¬5)، فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا بِلَالٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوَّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا، فَفَزعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "أَيْ بِلَالُ"! فَقَالَ بِلَالٌ: أَخَذَ بِنَفْسِي الذِي أَخَذَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقْتَادُوا" (¬6)، فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ نَسِيَ الصَّلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكرَهَا، فَإِنَّ اللَّه قَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " (¬7). قُلْتُ: قِصَّةُ فَوَاتِ صَلَاةِ الفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ حَدَثَتْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ غَيْرَ ¬

_ (¬1) قَفَلَ: رجع. انظر النهاية (4/ 82). (¬2) الكرَى: بفتح الكاف والراء: هو النوم. انظر النهاية (4/ 147). (¬3) التَّعْرِيس: نزول المسافر آخِرَ الليل نَزْلَةً للنَّوْمِ والاستراحة. انظر النهاية (3/ 186). (¬4) الكلاءة: الحِفْظ والحِرَاسة. انظر النهاية (4/ 169). ومنه قوله تعالى في سورة الأنبياء آية (42): {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} (¬5) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (5/ 155): أي مستقبله بوجهه. (¬6) اقْتَادَ البعير: جَرَّهُ خَلْفَهُ. انظر النهاية (4/ 104). (¬7) سورة طه آية (14) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مواقيت الصلاة - باب الآذان بعد ذهاب الوقت - رقم الحديث (595) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواقيت الصلاة - باب قضاء الصلاة الفائتة - رقم الحديث (680).

* الحادث الثالث: سقوط الرسول -صلى الله عليه وسلم-

هَذِهِ المَرَّةِ، فَمِنْهَا: في غَزْوَةِ الحُدَيْبِيَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِي غَزْوَةِ تبوكَ كَمَا سَيَأْتِي. * الحَادِثُ الثَّالِثُ: سُقُوطُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثُمَّ أَكْمَلُوا طَرِيقَهُمْ إلى المَدِينَةِ، قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: أَقبلنا مِنْ خَيْبَرَ أَنَا وَأَبُو طَلْحَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ وَصَفِيَّةُ رَدِيفَتُهُ، قَالَ: فَعَثرتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصُرعَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصُرِعَتْ صَفِيَّةُ، فَاقْتَحَمَ (¬2) أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ أَضُرِرْتَ (¬3)؟ قَالَ: "لَا، عَلَيْكَ المَرْأة"، فَأَلقى أَبُو طَلْحَةَ عَلَى وَجْهِهِ الثَّوْبَ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهَا فَمَدَّ ثَوْبَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَصْلَحَ لَهَا رَحْلَهَا، فَرَكِبْنَا، ثُمَّ اكْتَنَفْنَاهُ (¬4)، أَحَدُنَا عَنْ يَمِينهِ وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ (¬5). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي الحَدِيثِ: أنَّهُ لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يتدَارَكَ المَرْأَةَ الأَجْنَبِيَّةَ إِذَا سَقَطَتْ، أَوْ كَادَتْ تَسْقُطُ فيعِينُهَا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا يُخْشَى عَلَيْهَا (¬6). ¬

_ (¬1) صُرعَ: أي سقط عن ظهر الدابة. انظر النهاية (3/ 23). (¬2) اقتحَمَ: رمى بِنَفْسِهِ من غير رويّة وتثبت. انظر النهاية (4/ 17). (¬3) أَضُرِرْتَ: أي هل ضَرّكَ شَيءٌ. (¬4) اكتنفنَاهُ: أي أحَطْنَا به من جانبيه. انظر النهاية (4/ 178). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب اللباس - باب إرداف المرأة خلف الرجل ذا محرم - رقم الحديث (5968) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب ما يقول إذا رجع من الغزوة - رقم الحديث (3085) (3086) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12947) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره - رقم الحديث (1345) مختصرًا دون قصة سقوطه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬6) انظر فتح الباري (11/ 601).

* وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة

* وُصُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ: ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ حَتَّى إِذَا بَدَا (¬1) لَهُ جَبَلُ أُحُدٍ قَالَ: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى المَدِينَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ! بَارِكْ لَهُمْ في مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ"، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "آيِبُونَ (¬2)، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ" فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُهُنَّ حَتَّى دَخَلَ المَدِينَةَ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) بَدَا: ظهر. انظر النهاية (1/ 108). (¬2) الأوْبُ: الرُّجُوع. انظر النهاية (1/ 79). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الأطعمة - باب الحيس - رقم الحديث (5425) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب ما يقول إذا رجع من الغزو - رقم الحديث (3085) (3086) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره - رقم الحديث (1345) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12947).

قصة الحجاج بن علاط السلمي -رضي الله عنه- وقريش

قِصَّةُ الحَجَّاجِ بنِ عِلاطٍ (¬1) السُلَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- وَقُرَيْشٍ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا افتتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْبَرَ، قَالَ الحَجَّاجُ بنُ عِلَاطٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا عِنْدَ صَاحِبتِي (¬2)، وَمَالٌ مُتَفَرِّقٌ في تُجَّارِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ آتِيَ مَكَّةَ لِآخُذَ مَالِي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي فَلَا أَقْدِرَ عَلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ الحَجَّاجُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهُ لَاُبدَّ لِي أَنْ أَقُولَ (¬3)، فَأَنَا في حِلٍّ إِنْ نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا؟ فَأَذِنَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ (¬4). قَالَ الحَجَّاجُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ وَجَدْتُ -بِثَنِيَّةِ البَيْضَاءِ- رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَسْتَمِعُونَ الأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (2/ 29): عِلَاط: بكسر العين وتخفيف اللام. (¬2) صَاحِبَتِي: أي زوجته. (¬3) أي أن أَكْذِبَ. (¬4) قال الإِمام ابن مفلح الحنبلي في كتابه الآداب الشرعية (1/ 45): قال بعض أصحابنا المتأخرين: إنه يجوزُ كَذِبُ الإنسان على نفسه وغيره إذا لم يتضمَّن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقِّه، كما كذب الحَجَّاج بن عِلاط على المشركين حتى أخَذَ ماله من مَكَّةَ من المشركين من غير مَضَرَّةٍ لَحِقَتْ بالمسلمين من ذلك الكذب.

بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ إلى خَيْبَرَ، فَهُمْ يَتَحَسَّسُونَ (¬1) الأَخْبَارَ، وَيَسْألُونَ الرُّكْبَانَ (¬2)، فَلَمَّا رَأَوْني قَالُوا: الحَجَّاجُ عِنْدَهُ وَاللَّهِ الخَبَرُ -وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِإِسْلَامِي- أَخْبِرْنَا فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ سَارَ إلى خَيْبرَ. فَقَالَ الحَجَّاجُ: قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ، وَعِنْدِي مِنَ الأَخْبَارِ مَا يَسُرُّكُمْ، فَأَطَافُوا بِهِ وَأَمْسَكُوا نَاقتهُ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِيهِ (¬3) يَا حَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُمْ: هُزِمَ مُحَمَّدٌ هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقُتِلَ أَصْحَابهُ قتلًا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ، وَقَالَ يَهُودُ خَيْبَرَ: لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إلى أَهْلِ مَكَّةَ، فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ. فَقَامُوا وَصَاحُوا بِمَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمُ الخَبَرُ، وَهَذَا مُحَمَّدٌ إِنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فيقْتَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، فَقَالَ الحَجَّاجُ لَهُمْ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ، وَعَلَى غُرَمَائِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدُمَ خَيْبرَ، فَأَشْتَرِيَ مِنْ فَلِّ (¬4) مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إلى مَا هَنَالِكَ. قَالَ الحَجَّاجُ: فَجَمَعُوا لِي مَالِي كَأَحَثِّ جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ، وَجِئْتُ امْرَأَتِي ¬

_ (¬1) تحسَّس الخبر: تطلَّبه وتبخَثه. انظر لسان العرب (3/ 170). ومنه قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السلام في سورة يوسف آية (78): {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ. . .} (¬2) الرُّكبان: بضم الراء المشدده: أصحاب الإبل. انظر لسان العرب (5/ 29). (¬3) إِيهِ: هذه كلمة يُراد بها الاستزادة. انظر النهاية (1/ 87). (¬4) الفَلُّ: القوم المنهزمون. انظر النهاية (3/ 425).

* موقف العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-

فَقُلْتُ لَهَا: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا، وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ. وَفَشَا (¬1) ذَلِكَ في مَكَّةَ، وَأَظْهَرَ المُشْرِكُونَ الفَرَحَ وَالسُّرُورَ، وَانْقَمَعَ (¬2) مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنَ المُسْلِمِينَ. * مَوْقِفُ العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-: وَبَلَغَ الخَبَرُ العَبَّاسَ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَعَقِرَ (¬3) في مَجْلِسِهِ، وجَعَلَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ، فَأَخَذَ ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: قُثَمٌ، وَكَانَ يُشْبِهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاسْتَلْقَى، فَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرهِ وَهُوَ يَقُولُ: حِبِّي قُثَمْ حِبِّي قُثَمْ ... شَبِيهَ ذِي الأَنْفِ الأَشَمّ نَبِيَّ رَبٍّ ذِي النِّعَمْ ... بِرَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغَمْ (¬4) ثُمَّ أَرْسَلَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- غُلَامًا له إلى الحَجَّاجِ بنِ عِلَاطٍ، فَقَالَ: وَيْلَكَ، مَا جِئْتَ بِهِ، وَمَاذَا تَقُولُ؟ فَمَا وَعَدَ اللَّهُ خَيْرًا مِمَّا جِئْتَ بِهِ. فَقَالَ الحَجَّاجُ بنُ عِلَاطٍ لِغُلَامِهِ: اقْرَأْ عَلَى أَبِي الفَضْلِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: ¬

_ (¬1) فَشَا: أي انتَشَرَ. انظر النهاية (3/ 403). (¬2) انقَمَعَ: أي تغَيَّبَ ودخل في بيته. انظر النهاية (4/ 95). (¬3) العَقر: أن تُسْلِمَ الرجلَ قوائِمُه من الخوف، وقيل: هو أن يفجَأه الروع فيُدهش ولا يستطيع أن يتقدَّم أو يتأخر. انظر النهاية (3/ 247). (¬4) قال الإِمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 96): ولم يَزَل العباس مشفقًا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، مُحِبًّا له، صابرًا على الأذى، ولم يُسْلِمْ بعدُ، بحيث إنه ليلة العَقَبَةِ عرف، وقام مع ابن أخيه في الليل، وتوثق له من السبعين.

فَلْيُخْلِ لِي في بَعْضِ بُيُوتِهِ لآتِيَهُ، فَإِنَّ الخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ، فَجَاءَ الغُلَامُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ، قَالَ: أَبْشِرْ يَا أبَا الفَضْلِ، فَوَثَبَ العَبَّاسُ فَرِحًا، حَتَّى قبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الحَجَّاجُ، فَأَعْتَقَهُ. ثُمَّ جَاءَ الحَجَّاجُ إلى العَبَّاسِ فَأَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدِ افتتَحَ خَيْبَرَ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّهِ في أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَفِيَّةَ بِنْت حُيَيٍّ فاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ، أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ، وَلَكِنِّي جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ لِي هَاهُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْتُ، فَاخْفِ عَنِّي ثَلَاثًا، ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ. فَجَمَعَتِ امْرَأتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُلِيٍّ وَمَتَاعٍ، فَجَمَعَتْهُ فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْشَمَرَ (¬1) بِهِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ آتى العَبَّاسُ امْرَأَةَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ لهَا: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لَا يَحْزُنُكَ اللَّهُ يَا أَبَا الفَضْلِ، لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الذِي بَلَغَكَ. فَقَالَ لَهَا: أَجَلْ، لَا يَحْزُنِّي اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَحْبَبْنَا، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الحَجَّاجُ أَنَّ اللَّه قَدْ فتَحَ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ ¬

_ (¬1) الشَّمَّرِيُّ: الذي يَمْضِي لوجهه. انظر لسان العرب (7/ 190).

اللَّهِ، وَاصْطفى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَفِيَّةَ بِنْتَ حُييٍّ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ في زَوْجِكِ، فَالْحَقِي بِهِ، قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا، قَالَ: فَإِنِّي صَادِقٌ، وَالأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرْتُكِ. ثُمَّ ذَهَبَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَتَى البَيْتَ، وَقَدْ لَبِسَ حُلَّةً له وَتَطَيَّبَ، وَأَخَذَ عَصَاهُ، فَطَافَ بِالكَعْبَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا يُصِيبُكَ إِلَّا خَيْر أَبَا الفَضْلِ هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ (¬1) لِحَرِّ المُصِيبَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: كَلَّا وَاللَّهِ لَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي الحَجَّاجُ بنُ عِلَاطٍ أَنَّ خَيْبَرَ قَدْ فتَحَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولهِ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطفى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيْءَ هَاهُنَا، ثُمَّ يَذْهَبَ. فَرَدَّ اللَّهُ الكَآبَةَ التِي كَانَتْ بِالمُسْلِمِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ المُسْلِمُونَ وَمَنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا حَتَّى آتوا العَبَّاسَ، فَأَخْبَرَهُمُ الخَبَرَ، فَسُرَّ المُسْلِمُونَ، وَرَدَّ اللَّهُ مَا كَانَ مِنْ كَآبَةٍ أَوْ غَيْظٍ أَوْ خِزْيٍ عَلَى المُشْرِكِينَ. وَلَمْ يَلْبَثْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ أَنْ جَاءَهُمْ خَبَرُ انْتِصَارِ المُسْلِمِينَ عَلَى اليَهُودِ في خَيْبَرَ (¬2). ¬

_ (¬1) تَجَلَّد: بتشديد اللام، أي أظهر الجلد، والجلد: القوة والشدة. انظر لسان العرب (2/ 323). (¬2) أخرج قصة الحجاج بن عِلاط: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12409) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخلافة والإمارة - رقم الحديث (4530) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3213) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 375).

دخول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما

دُخُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأُمِّ حَبِيبَةَ رَمْلَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المَدِينَةِ وَجَدَ زَوْجَتَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ رَمْلَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في انْتِظَاره بَعْدَ أَنْ رَجَعَتْ مِنَ الحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرَ -رضي اللَّه عنه- وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ تَذْهَبْ مَعَهُمْ إلى خَيْبَرَ بَلْ جَلَسَتْ في المَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قدْ بَعَثَ إلى النَّجَاشِيِّ عَمْرِو بنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، لِيُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا، وَيَبعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مَعَ جَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ. وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ بَنَاتِ عَمِّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- , لَيْسَ في أَزْوَاجِهِ مَنْ هِيَ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلَا فِي نِسَائِهِ مَنْ هِيَ أَكْثَرُ صَدَاقًا (¬1) مِنْهَا، وَلَا مَنْ تَزَوَّجَ بِهَا وَهِيَ نَائِيَةُ (¬2) الدَّارِ أَبْعَدَ مِنْهَا. وَقَدْ هَاجَرَتْ إلى الحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، فَمَاتَ عَنْهَا وَهُمْ بِالحَبَشَةِ (¬3). رَوَى ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى: ¬

_ (¬1) ذكرنا فيما تقدم كم كان صداقها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬2) نَائِي: بعيد. انظر لسان العرب (7/ 14). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 219).

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} (¬1)، قَالَ: حِينَ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ (¬2). وَلَمَّا بَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ نِكَاحُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَتَهُ قَالَ: ذَلِكَ الفَحْلُ لَا يُقْرَعُ أَنْفُهُ (¬3). وَكَانَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ مِنَ الهِجْرَةِ في خِلَافَةِ أَخِيهَا مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬4). * * * ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (7). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 294). (¬3) قال ابن الأثير في النهاية (4/ 39): أي أنه كفْءٌ كَرِيم لا يُرد. والخبر أخرجه ابن سعد في طبقاته (8/ 294). (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 222).

تحقيق دعوى ردة عبيد الله بن جحش

تَحْقِيقُ دَعْوَى رِدَّةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ ذَكَرَ أَهْلُ المَغَازِي أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ هَاجَرَ إلى الحَبَشَةِ مَعَ زَوْجَتِهِ رَمْلَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ إِنَّهُ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلَامِ، وَاعْتَنَقَ النَّصْرَانِيَّةَ، وَمَاتَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ الأَدِلةَ الصَّحِيحَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ مُسْلِمًا، وَقَدْ حَقَّقَ الشَّيْخُ مُحَمَّد بنُ عَبْدِ اللَّهِ العَوْشَن هَذِهِ المَسْأَلَةَ، وَنُشِرَتْ في مَجَلَّةِ البَيَانِ، وَسَأَعْرِضُ كَلَامَ الشَّيْخِ كَامِلًا. * تَحْقِيقُ الخَبَرِ: اشْتَهَرَ في كتبِ السِّيرَةِ أَنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ قَدْ تَنَصَّرَ في أَرْضِ الحَبَشَةِ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ إِلَيْهَا مَعَ زَوْجِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ فَهَلْ ثَبَتَتْ رِدَّتهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ؟ قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ في ذِكْرِ بَعْضِ مَنِ اعْتَزَلَ عِبَادَةَ قُرَيْشٍ لِلْأَصْنَامِ، وَهُمْ: وَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ، وَعُثْمَانُ بنُ الحُوَيْرِثِ، وَزَيْدُ بنُ عَمْرِو بنِ نُفَيْلٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ! مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، لَقَدْ أَخْطَؤُوا دِينَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، مَا حَجَرٌ نَطِيفُ بِهِ؛ لَا يَسْمَعُ وَلَا يبصرُ، وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟ ! الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ وَاللَّهِ! مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ.

فَتَفَرَّقُوا في البُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الحَنِيفِيَّةَ، دِينَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ، فَأَمَّا وَرَقَةُ بنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ في النَّصْرَانِيَّةِ. . . وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الِالْتِبَاسِ حَتَّى أَسْلَمَ، ثُمَّ هَاجَرَ مَعَ المُسْلِمِينَ إلى الحَبَشَةِ، وَمَعَهُ امْرَأتهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةً، فَلَمَّا قَدِمَهَا تَنَصَّرَ، وَفَارَقَ الإِسْلَامَ، حَتَّى هَلَكَ هُنَاكَ نَصْرَانِيًّا (¬1). ثُمَّ قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ -حِينَ تَنَصَّرَ- يَمُرُّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُمْ هُنَالِكَ مِنْ أَرْضِ الحَبَشَةِ، فَيَقُولُ: فَقَّحْنَا (¬2) وَصَأْصَأْتُمْ (¬3)؛ أَيْ أَبْصَرْنَا، وَأَنْتُمْ تَلْتَمِسُونَ البَصَرَ، وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ (¬4). وَشَيْخُ ابنُ إِسْحَاقَ هُنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، وَهُوَ ثِقَةٌ (¬5)، مَاتَ سَنَهَ بِضْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، مِنَ الطَّبَقَةِ السَّادِسَةِ، وَهِيَ طَبَقَهٌ لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدٍ مِنْهَا لِقَاءَ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَالخَبَرُ مُرْسَلٌ. ثُمَّ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ في قُدُومِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الحَبَشَةِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ مَعَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (1/ 259 - 260). (¬2) فقّحنا: أي أبصَرْنا رُشدنا, ولم تُبْصِروا. انظر النهاية (3/ 414). (¬3) صَأْصَأَ: أي أبصَرْنَا أمرنا, ولم تبصروا أمركم. انظر النهاية (3/ 3). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (1/ 260). (¬5) انظر تهذيب التهذيب (3/ 530).

المُسْلِمِينَ مُسْلِمًا، فَلَمَّا قَدِمَ أَرْضَ الحَبَشَةِ تَنَصَّرَ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِالمُسْلِمِينَ. . . (¬1)، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا سَبَقَ. وَهَذَا سَنَدٌ صَحِيحٌ لكِنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ في تَنَصرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ. وَذَكَرَهُ أَيْضًا في تَزَوُّجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: ثُمَّ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ زَيْنَبَ، أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ. . . فَمَاتَ عَنْهَا بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، وَقَدْ تَنَصَّرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ (¬2). وَالخَبَرُ هُنَا بِدُونِ إِسْنَادٍ. وَرَوَى القِصَّةَ ابنُ سَعْدٍ في الطَّبَقَاتِ فَقَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرِو بنِ زُهَيْم عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَمْرِو بنِ سَعِيدِ بنِ العَاصِ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: رَأَيْتُ في النَّوْمِ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ زَوْجِي بِأَسْوَإ صُورَةٍ وَأَشْوَهِهَا، فَفَزِعْتُ، فَقُلْتُ: تَغَيَّرَتْ وَاللَّهِ حَالُهُ! فَإِذَا هُوَ يَقُولُ حَيْثُ أَصْبَحَ: يَا أُمَّ حَبِيبَةَ! إِنِّي نَظَرْتُ في الدِّينِ فَلَمْ أَرَ دِينًا خَيْرًا مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكُنْتُ قَدْ دِنْتُ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ في دينِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ قَدْ رَجَعْتُ إلى النَّصْرَانِيَّةِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! مَا خَيْرٌ لَكَ، وَأَخْبَرْتُهُ بِالرُّؤْيَا التِي رَأَيْتُ له، فَلَمْ يَحْفِلْ بِهَا (¬3)، وَأَكَبَّ عَلَى الخَمْرِ حَتَّى مَاتَ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 9). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 302). (¬3) لم يحفل بها: أي لم يبالي بها. انظر لسان العرب (3/ 248). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 293).

وَرَوَاهُ أَيْضًا في ذِكْرِ عَدَدِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ عِنْدَ ذِكْرِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَتَنَصَّرَ، فَمَاتَ هُنَاكَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ (¬1). وَشَيْخُ ابنِ سَعْدٍ في الخَبَرَيْنِ هُوَ الوَاقِدِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَلَى سَعَةِ عِلْمِهِ. وَرَوَاهُ الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، وَفِيهِ: ثُمَّ افْتُتِنَ وَتَنَصَّرَ فَمَاتَ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ، وَأَثبتَ اللَّهُ الإِسْلَامَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَبَتْ أَنْ تَتَنَصَّرَ (¬2). وَرَوَاهُ مَوْصُولًا مِنْ طَرِيقِ الوَاقِدِيِّ، وَفِيهِ رُؤْيَا أُمِّ حَبِيبَةَ (¬3)، كَرِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ. وَمَرَاسِيلُ الزُّهْرِيِّ ضَعِيفَةٌ (¬4). قَالَ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَّانُ: مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ شَرٌّ مِنْ مُرْسَلِ غَيْرِهِ؛ لأنهُ حَافِظٌ، وَكُلُّ مَا قَدِرَ أَنْ يُسَمِّيَ سَمَّى، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ مَنْ لَا يُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَهُ (¬5). قُلْتُ (الذَّهَبِيُّ): مَرَاسِيلُ الزُّهْرِيِّ كَالمُعْضَلِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ سَقَطَ مِنْهُ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 293). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أم حبيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6834). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أم حبيبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6837). (¬4) قاله الحافظ في التلخيص الحبير (4/ 111). (¬5) انظر سير أعلام النبلاء (5/ 338).

اثْنَانِ، وَلَا يُسَوَّغُ أَنْ نَظُنَّ بِهِ أَنَّهُ أَسْقَطَ الصَّحَابِيَّ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ لَأَوْضَحَهُ، وَلَمَا عَجَزَ عَنْ وَصْلِهِ، وَمَنْ عَدَّ مُرْسَلَ الزُّهْرِيِّ كَمُرْسَلِ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وَعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، نَعَمْ كَمُرْسَلِ قتَادَةَ وَنَحْوِه (¬1). وَرَوَى الخَبَرَ الطَّبَرِيُّ في تَارِيخِهِ، في ذِكْرِ الخَبَرِ عَنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ هِشَامِ بنِ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا، وَفِيهِ عِنْدَ ذِكْرِ أُمِّ حَبِيبَةَ: فتَنَصَّرَ زَوْجُهَا، وَحَاوَلَهَا أَنْ تتابِعهُ فأبت، وصبَرَتْ عَلى دِينهَا، وَمَاتَ زَوْجُهَا عَلى النَّصْرَانِيَّةِ (¬2). وَالخَبَرُ فَضْلًا عَنْ إِرْسَالِهِ؛ فَإِنَّهُ عَنْ هِشَامِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ السَّائِبِ الكَلْبِيِّ، وَهُوَ رَافِضِيٌّ مَتْرُوكٌ. قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا كَانَ صَاحِبَ سَمَرٍ وَنَسَبٍ، مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يُحَدِّثُ عَنْهُ (¬3). وَنَقَلَهُ ابنُ الأَثِيرِ في تَارِيخِهِ (¬4) عَنِ ابْنِ الكَلْبِيِّ أَيْضًا. وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ في الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ ابنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بنِ خُزَيْمَةَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ، مَاتَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (5/ 339). (¬2) انظر تاريخ الطبري (2/ 213). (¬3) انظر لسان الميزان (7/ 270). (¬4) انظر الكامل في التاريخ (2/ 171).

نَصْرَانِيًّا، وَمَعَهُ امْرَأتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْمُهَا رَمْلَةُ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَنْكَحَهُ إِيَّاهَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ بِأرْضِ الحَبَشَةِ (¬1). وَالخَبَرُ فِيهِ عِلَّتَانِ: الإِرْسَالُ، وَضَعْفُ ابنُ لَهِيعَةَ، وَالمَتْنُ هُنَا فِيهِ غَرَابَةٌ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَمَّا قَوْلُ عُرْوَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ زَوَّجَهَا مِنْهُ، فَغَرِيبٌ لِأَنَّ عُثْمَانَ كَانَ قَدْ رَجَعَ إلى مَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ هَاجَرَ إلى المَدِينَةِ، وَصَحِبتْهُ زَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ (¬2). وَعُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ لَمْ يُتَرْجِمْ لَهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ في الِاسْتِيعَابِ، وَلَا ابْنُ الأَثِيرِ في أُسْدِ الغَابَةِ، وَلَا الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في الإِصَابَةِ. وَفي تَرْجَمَةِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- في الإِصَابَةِ (¬3) لَمْ يَذْكُرِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ شَيْئًا، أَمَّا ابْنُ عَبْدِ البَرِّ فَقَدْ قَالَ في الِاسْتِيعَابِ (¬4) في تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وَكَانَ هُوَ وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ بنُ جَحْشٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلينَ مِمَّنْ هَاجَرَ الهِجْرَتَيْنِ، وَأَخُوهُمَا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ تَنَصَّرَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، وَمَاتَ بِهَا نَصْرَانِيًّا، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ. وَكَذَا ذَكَرَ ابنُ الأَثِيرِ (¬5) في تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ. ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة (3/ 460). (¬2) انظر البداية والنهاية (4/ 529). (¬3) انظر الإصابة (4/ 31). (¬4) انظر الاستيعاب (3/ 14). (¬5) انظر أسد الغابة (2/ 565).

* الراجح أن خبر الردة غير صحيح

وَفِي تَرْجَمَةِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في الإِصَابَةِ (¬1) قَالَ الْحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ: وَلَمَّا تَنَصَّرَ زَوْجُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ، وَارْتَدَّ عَنِ الإِسْلَامِ فَارَقَهَا، فَأَخْرَجَ ابنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَمْرِو بنِ سعيد الأُمَوِيُّ قَالَ. . .، وَذَكَرَ القِصَّةَ التِي رَوَاهَا ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الوَاقِدِيِّ، وَسَبَقَتْ. وَفِي تَرْجَمَتِهَا في التَّهْذِيبِ (¬2)، قَالَ: هَاجَرَتْ إلى الحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ فتَنَصَّرَ هُنَاكَ، وَمَاتَ، فتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهِيَ هُنَاكَ، سَنَةَ سِتٍّ، وَقِيلَ سَنَةَ سَبْعٍ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ في السِّيَرِ في تَرْجَمَةِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ ابنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا الوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا. . .، وَذَكَرَ رُؤْيَاهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرِدَّةَ زَوْجِهَا، ثُمَّ قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَهِيَ مُنْكَرَةٌ (¬3). وَلَمْ يبيِّنْ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهَ النَّكَارَةِ. * الرَّاجِحُ أَنَّ خَبَرَ الرِّدَّةِ غَيْرُ صَحْيِحٍ: وَمِمَّا يُرَجِّحُ أَنَّ خَبَرَ رِدَّتِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ: أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ في نِكَاحِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (8/ 140). (¬2) انظر تهذيب التهذيب (4/ 673). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 221).

عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ، وَكَانَ آتى النَّجَاشِيَّ فَمَاتَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ وَهِيَ بِأَرْضِ الحَبَشَةِ، زَوَّجَهَا إِيَّاهُ النَّجَاشِيُّ، وَأَمْهَرَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ (¬1). وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: هَاجَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهِيَ امْرَأتهُ إلى أَرْضِ الحَبَشَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ الحَبَشَةَ، مَرِضَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، أَوْصَى إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّ حَبِيبَةَ، وَبَعَثَ مَعَهَا النَّجَاشِيُّ شُرَحْبِيلَ بنَ حَسَنَةٍ (¬2). فَلَوْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ جَحْشٍ ارْتَدَّ عَنِ الإِسْلَامِ، وَمَاتَ نَصْرَانِيًّا، لَمَا أَوْصَى بِزَوْجَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، خَاصَّةً وَأَنَّهُ كَانَ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَسُبُّ الإِسْلَامَ -كَمَا يَذْكُرُ أَهْلُ المَغَازِي-. مِمَّا سَبَقَ يَتَبَيَّنُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ قِصَّةَ رِدَّةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ جَحْشٍ لَمْ تَثْبُتْ، لِعِدَّةِ أَدِلَّةٍ؛ مِنْهَا: 1 - أَنَّهَا لَمْ تُرْوَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مُتَّصِلٍ، فَالمَوْصُولُ مِنْ طَرِيقِ الوَاقِدِيِّ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27408) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5061). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الوصية - باب ذكر إباحة وصية المرء وهو في بلد ناءٍ - رقم الحديث (6027).

وَالمُرْسَلُ جَاءَ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَحْتَجَّ بِالمُرْسَلِ (عِنْدَ مَنْ يَرَى الِاحْتِجَاجَ بِهِ) في مَسْأَلةٍ كَهَذِهِ؛ فِيهَا الحُكْمُ عَلَى أَحَدِ السَّابِقِينَ الأَوَّلينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالرِّدَّةِ. 2 - أَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ في زَوَاجِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأُمِّ حَبِيبَةَ لَمْ تَذْكُرْ رِدَّةَ زَوْجِهَا السَّابِقِ، كَمَا في الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ. 3 - أَنَّهُ يبْعُدُ أَنْ يَرْتَدَّ أَحَدُ السَّابِقِينَ الأَوَّلينَ لِلْإِسْلَامِ عَنْ دِينهِ، وَهُوَ مِمَّنْ هَاجَرَ فِرَارًا بِدِينهِ مَعَ زَوْجِهِ، إلى أَرْضٍ بَعِيدَةٍ غَرِيبَةٍ، وَخَاصَّةً أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ مِمَّنْ هَجَرَ مَا عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، وَالْتِمَاسِهِ مَعَ وَرَقَةَ وَغَيْرِهِ الحَنِيفِيَّةَ، كَمَا في رِوَايَةِ ابنِ إِسْحَاقَ -بِدُونِ سَنَدٍ- الوَارِدَةِ أَوَّلَ هَذَا البَحْثِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ عَنِ الوَاقِدِيِّ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَانَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ البِشَارَةَ ببعْثَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَهْلِ الكِتَابِ مِنْ يَهُودِ، وَنَصَارَى، فكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْ رَجُلٍ يَتَرَقَّبُ الدِّينَ الجَدِيدَ أَنْ يَعْتَنِقَهُ ثُمَّ يَرْتَدَّ عَنْهُ لِدِينٍ مَنْسُوخٍ؟ ! كَمَا أَنَّ زَوَاجَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ في سَنَةِ سِتٍّ، وَقِيلَ سَبْعٍ، وَرِدَّةُ عُبَيْدِ اللَّهِ المَزْعُومَةُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَهِيَ مَرْحَلَةٌ كَانَ الإِسْلَامُ قَدْ عَلَا فِيهَا وَظَهَرَ حَتَّى خَارجَ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، بَلْ أَصْبَحَ هُنَاكَ مَنْ يُظْهِرُ الإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الكُفْرَ، كَحَالِ المُنَافِقِينَ.

4 - في حِوَارِ هِرَقْلَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا أَنَّهُ سَأَلهُ -ضِمْنَ سُؤَالَاتِهِ-: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَأَجَابَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا (¬1). وَلَوْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ تَنَصَّرَ لَوَجَدَهَا أَبُو سُفْيَانَ فُرْصَةً لِلنَّيْلِ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَعْوَتِهِ، كَمَا فَعَلَ لَمَّا سُئِلَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا؟ قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الكَلِمَةَ (¬2). وَلَا يُمْكِنُ القَوْلُ بِأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِرِدَّةِ عُبَيْدِ اللَّهِ -لَوْ صَحَّتْ-، لأَنَّهُ وَالِدُ زَوْجِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ. وَبَعْدُ، فَالْمَسْأَلةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَحَدِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَلْ وَمِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلينَ، فَإِنْ صَحَّ السَّنَدُ بِخَبَرِ رِدَّتِهِ فَلَا كَلَامَ، وَإِذَا جَاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مِعْقَلٍ. أَمَا وَالسَّنَدُ لَمْ يَثْبُتْ، فَإِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ حَافِلَةٌ بِالذَّبِّ عَنْ عِرْضِ المُسْلِمِ؛ فكَيْفَ إِذَا كَانَ هَذَا المُسْلِمُ صَحَابِيًّا، بَلْ وَمِنَ السَّابِقِينَ؟ ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب رقم (6) - رقم الحديث (7) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل. . . - رقم الحديث (1773). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب بدء الوحي - باب رقم (6) - رقم الحديث (7) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل. . . - رقم الحديث (1773).

الأحداث بين غزوة خيبر وفتح مكة

الأحْدَاثُ بَيْنَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ (¬1) وَتُسَمَّى أَيْضًا غَزْوَةَ الأَعَاجِيبِ، لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ أُمُورٍ عَجِيبَةٍ (¬2). وَقَدِ اخْتُلِفَ في تَارِيخِ هَذِهِ الغَزْوَةِ، فَجَزَمَ عَامَّةُ أَهْلِ المَغَازِي وَالسِّيَرِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ خَيْبَرَ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في زَمَنِهَا: فَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّهَا في شَهْرِ رَبِيعٍ الآخِرِ سَنَةَ أَرْبَع لِلْهِجْرَةِ، بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ (¬3). وَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: أَنَّهَا في المُحَرَّمِ سَنَةَ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) الرِّقَاع: بكسر الراء، وقد سمِّيت هذه الغزوة بهذا الاسم؛ لأنهم لفُّوا على أرجلهم الخِرَق بعد أن تنقبت -أي رقّت- خِفَافهم. فقد روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4128) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1816) عن أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: خرجنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزاة، ونحن في ستة نفرٍ بيننا بعيرٌ نعتقبه، ونقبت أقدامنا ونقبت قدماي -أي تقرحت من الحفاء- وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لِمَا كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. (¬2) انظر شرح المواهب (2/ 521). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (3/ 225). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 280).

وَجَزَمَ أَبُو مَعْشَرٍ عَلَى أَنَّهَا بَعْدَ الخَنْدَقِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ (¬1). وَذَهَبَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ (¬2)، وَالحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ (¬3)، وَالحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ (¬4)، وَابْنُ القَيِّمِ (¬5): عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبرَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَالذِي يَنْبَغِي الجَزْمُ بِهِ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَا يَلِي: 1 - أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ صَلَاةَ الخَوْفِ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ، وَقَدْ ثَبَتَ وُقُوعُ صَلَاةِ الخَوْفِ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهَا بَعْدَ الخَنْدَقِ. 2 - أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيِّ (¬6)، وَأَبَا هُرَيْرَةَ (¬7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَهِدَا غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَلَزِمَ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ خَيْبرَ؛ لِأَنَّ أبَا مُوسَى قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ في خَيْبَرَ. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 180). (¬2) انظر صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع. (¬3) انظر فتح الباري (8/ 180). (¬4) انظر البداية والنهاية (4/ 464). (¬5) انظر زاد المعاد (3/ 226). (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4128) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (1816). (¬7) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8260) (10765) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (2878) - وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

3 - أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا شَهِدَ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ (¬1)، وَقَدْ ثَبتَ في الصَّحِيحِ أَنَّ أَوَّلَ مَشَاهِدِهِ كَانَتِ الخَنْدَقَ (¬2)، فتَكُونُ ذَاتُ الرِّقَاعِ بَعْدَ الخَنْدَقِ. 4 - أَنَّ الإِمَامَ البُخَارِيَّ رَوَى في صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بِأَصْحَابِهِ في الخَوْفِ في الغَزْوَةِ السَّابِعَةِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرَقَاعِ (¬3). وَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَنَّهَا سَابعُ غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَأْيِيدٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ البُخَارِيُّ مِنْ أَنَّهَا بَعْدَ خَيْبرَ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ المُرَادُ الغَزَوَاتُ التِي خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهَا بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ، فَإِنَّ السَّابِعَ مِنْهَا تَقَعُ قَبْلَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إلى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ قَبْلَ غَزْوَةِ أُحُدٍ؛ لأنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الخَوْفِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ، فتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرِّقَاعِ بَعْدَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فتَعَيَّنَ أَنَّ المُرَادَ الغَزَوَاتُ التِي وَقَعَ فِيهَا القِتَالُ، وَالأُولَى مِنْهَا: بَدْرٌ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4132) (4133). (¬2) روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4097) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1868) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: عرضني رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أُحد في القتَال، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يُجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4125).

* سبب الغزوة

وَالثَّانِيَةُ أُحُدٌ، وَالثَّالِثَةُ الخَنْدَقُ، وَالرَّابِعَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَالخَامِسَةُ المُرَيْسِيعُ، وَالسَّادِسَةُ خَيْبَرُ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ تَكُونَ ذَاتُ الرِّقَاعِ بَعْدَ خَيْبَرَ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّهَا السَّابِعَةُ (¬1). قَالَ ابنُ القَيِّمِ في زَادِ المَعَادِ: فَالصَّوَابُ تَحْوِيلُ غَزْوةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ هَذَا المَوْضِعِ -أَيْ مِنْ مَوْضِعِ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الخَنْدَقِ كَمَا ذَكَرَ أَهْلُ المَغَازِي- إلى مَا بَعْدَ الخَنْدَقِ، بَلْ بَعْدَ خَيْبَرَ (¬2). * سَبَبُ الغَزْوَةِ: وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الغَزْوَةِ هُوَ مَا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ جُمُوعًا مِنْ بَنِي مُحَارِبٍ، أَوْ مِنْ أَنْمَارٍ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطفَانَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: سَبْعِمِائَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى المَدِينَةِ: عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ، وَقِيلَ: أَبَا ذَرٍّ الغِفَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ بِنَخْلَةَ (¬3)، فَلَمْ يَجِدْ في مَحَالِّهِمْ أَحَدًا إِلَّا نِسْوَةً فَأَخَذَهُنَّ وَفِيهِنَّ جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ، وَهَرَبَتِ الأَعْرَابُ إلى رُؤُوسِ الجِبَالِ، ثُمَّ لَقِيَ جَمْعًا مِنْهُمْ، فتَقَارَبَ النَّاسُ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَقَدْ أَخَافَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 180 - 182). (¬2) انظر زاد المعاد (3/ 226). (¬3) نخلة: هو موضع بالحجاز قريب من مكة، فيه نخل وزروع. انظر معجم البلدان (8/ 381).

* رجوع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وأحداث حدثت في الطريق

بَعْضًا، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ العَصْرِ، فَخَافَ المُسْلِمُونَ أَنْ يُغِيرَ المُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الخَوْفِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلى المَدِينَةِ، وَقَدْ غَابَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَبَعَثَ جُعَالَ بنَ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه- بَشِيرًا إلى المَدِينَةِ بِسَلَامَتِهِ وَسَلَامَةِ المُسْلِمِينَ (¬1). رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بذَاتِ الرِّقَاعِ، . . . وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَع وَللْقَوْمِ رَكْعَتَانِ (¬2). * رُجُوعُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى المَدِينَةِ وَأَحْدَاثٌ حَدَثَتْ في الطَّرِيقِ: * الحَادِثُ الأَوَّلُ: قِصَةُ عَبَّادِ (¬3) بنِ بِشْرٍ -رضي اللَّه عنه-: ذَكَرْنَا أَنَّ المُسْلِمِينَ أَصَابُوا في هَذِهِ الغَزْوَةِ سَبْيًا، وَكَانَ فِيهِ جَارِيَةً ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4127) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10765) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 226) - وابن سعد في طبقاته (2/ 280). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4136) - ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة الخوف - رقم الحديث (843) (311) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4220). (¬3) عَبَّاد: بفتح العين وتشديد الباء.

وَضِيئَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَافِلًا (¬1) أَتَى زَوْجُهَا، وَكَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا أُخْبِرَ الخَبَرَ حَلَفَ أَنْ لَا يَنتهِيَ حَتَّى يُصِيبَ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَوْ يُهْرِيقَ في أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَمًا، أَوْ يُخَلِّصَ زَوْجَتَهُ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أثَرَ المُسْلِمِينَ، فنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في شِعبٍ (¬2)، فَقَال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا (¬3) لَيْلَتَنَا هَذِهِ؟ ". فَقَامَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ وَعَبَّادُ بنُ بِشْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فكُونَا في فَمِ الشِّعْبِ". فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إلى فَمِ الشِّعْبِ، قَالَ عَبَّادٌ لِعَمَّارٍ: أَيُّ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَكْفِيكَهُ: أَوَّلَهُ أَمْ آخِرَهُ؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: اكْفِنِي أَوَّلَهُ، فَاضْطَجَعَ عَمَّارٌ فنَامَ، وَقَامَ عَبَّادُ بنُ بِشْرٍ -رضي اللَّه عنه- يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ -زَوْجُ الْمَرْأَةِ-، فَلَمَّا رَأَى سَوَادَ عَبَّادٍ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ (¬4) القَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَهُ بِهِ، فَانْتَزَعَهُ عَبَّادُ، فَرَمَاهُ الرَّجُلُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَأَصَابَهُ، فَانْتَزَعَهُ عَبَّادُ، فَرَمَاهُ الرَّجُلُ بِسَهْمٍ ثَالِثٍ فَأَصَابَهُ، فَانْتَزَعَهُ عَبَّادُ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ¬

_ (¬1) قفل: رجع. انظر النهاية (4/ 82). (¬2) الشِّعب: بكسر الشين: ما انفرج بين جبلين. انظر لسان العرب (7/ 128). (¬3) الكَلاءة: الحفظ والحراسة. انظر النهاية (4/ 169). (¬4) الرَّبِيئَة: هو العينُ والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدوٌّ، ولا يكون إِلَّا على جبل أو شرف ينظر منه. انظر النهاية (2/ 160).

* الحادث الثاني: قصة غورث بن الحارث

ثُمَّ أَيْقَظَ عَمَّارًا، فَقَالَ: اجْلِسْ، فَقَدْ أُتِيتُ (¬1)، فَوَثَبَ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ -زَوْجُ الْمَرْأَةِ-، عَرَفَ أَنْ قَدْ نَذِرُوا (¬2) بِهِ، فَهَرَبَ، فَقَالَ عَمَّارٌ لِعَبَّادٍ، وَقَدْ رَأَى مَا بِهِ مِنَ الدِّمَاءَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَفَلَا أَهْبَبْتَنِي (¬3) أَوَّلَ مَا رَمَاكَ؟ فَقَالَ عَبَّاد -رضي اللَّه عنه-: كُنْتُ في سُورَةٍ (¬4) أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا، فَلَمَّا تَابَعَ عَلَيَّ الرَّمْيَ، رَكَعْتُ فَآذَنْتُكَ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْلَا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحِفْظِهِ؛ لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا أَوْ أُنْفِذَهَا (¬5). * الحَادِث الثَّانِي: قِصَّةُ غَوْرَثِ بنِ الحَارِثِ: قَالَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُنَّا مَعَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَاتِ الرِّقَاعِ، فَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ تَرَكْنَاهَا لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المَدِينَةِ أَدْرَكَتْهُ القَائِلَةُ (¬6) في وَادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ (¬7)، فنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) يُقال: أُتي فلأن: إذا أطَلَّ عليه العدو، وأشرف عليه. انظر لسان العرب (1/ 67). (¬2) نَذِروا به: أي علموا به. انظر لسان العرب (14/ 100). (¬3) أَهبّه: نَبّهه. انظر لسان العرب (1/ 252). (¬4) وقع في رواية البيهقي في دلائله (3/ 379): أنها سورة الكهف. (¬5) أخرج قصة عَبّاد -رضي اللَّه عنه-: الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب من لم يَرَ الوضوء إِلَّا من المَخْرَجَيْن القبل والدبر -معلقًا- ووصله الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14704) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (1096) - والبيهقي في دلائله (2/ 378 - 379) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 230) وهو حديث حسن. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 192): القائلة: أي وسط النهار وشدة الحرّ. (¬7) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 192): العِضَاه: بكسر العين وتخفيف الضاد: كل شجر يعظم له شوك، وقيل: هو العظيمُ من الشجر مطلقًا.

تَحْتَ شَجَرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ الشَّجَرَ. قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَنِمْنَا نَوْمَةً، فَجَاءَ رَجُل مِنَ المُشْرِكِينَ، يُقَالُ لَهُ: غَوْرَثُ بنُ الحَارِثِ (¬1)، فَاخْتَرَطَ (¬2) سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: تَخَافُنِي يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا"، قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ". قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ في يَدِهِ صَلْتًا (¬3)، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ"، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في الصَّحِيحِ قَالَ جَابِرٌ: فتَهَدَّدَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 193): غَوْرَث: بوزن جعفر، ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي: دُعْثُور بن الحارث، وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قِصَّتان في غزوتين، واللَّه أعلم. (¬2) اخترط السيف: سلَّه من غمده. انظر النهاية (2/ 23). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 192): صَلْتًا: بفتح الصاد وسكون اللام: أي مجردًا من غمده. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تفرق النَّاس عن الإِمام عند القائلة - رقم الحديث (2910) (2913) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة ذات الرقاع - رقم الحديث (4135 - 4136) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - رقم الحديث (843) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14335). (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 192): ظاهرها يُشعر بأنهم حضروا القصة -أي الصَّحَابَة-=

* فوائد الحديث

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ (¬1): فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2). قُلْتُ: ذَكَرْنَا في غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ أَنَّ هَذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ في عَمْرِو بنِ جَحَّاشٍ، عِنْدَمَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِيَ الصَّخْرَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لِيَقْتُلَهُ، وَرَجَّحَ ذَلِكَ ابنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ. * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: وَفِي الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - فَرْطُ شَجَاعَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقُوَّةُ يَقِينِهِ، وصَبْرُهُ عَلَى الأَذَى، وَحِلْمُهُ عَنِ الجُهَّالِ. 2 - وَفيهِ جَوَازُ تَفَرُّقِ العَسْكَرِ في النُّزُولِ وَنَوْمِهِمْ، وَهَذَا مَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَا يَخَافُونَ مِنْهُ (¬3). * الحَادِثُ الثَّالِثُ: قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه-: وَفي مَرْجعِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ هَذِهِ الغَزْوَةِ ابْتَاعَ (¬4) مِنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ ¬

_ = وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، بل وقع في رواية أخرى بعد قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّه"، فشامّ السيف -بتشديد الميم أي أغمده- وهذه الكلمة من الأضداد، يقال: شامّه إذا استلَّه، وشامّه إذا أغمده، وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنَّه حيل بينه وبينه، تحقق وعلم أنَّه لا يصل إليه، فألقى السلاح وأمكن من نفسه. (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 228). (¬2) سورة المائدة آية (11). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 193). (¬4) ابتاع: اشترى. انظر لسان العرب (1/ 557).

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، جَمَلَهُ وَشَرَطَ لَهُ ظَهْرَهُ (¬1) إلى المَدِينَةِ، وَسَأَلَهُ عَنْ دَيْنِ أَبِيهِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً (¬2). وَدَعُونَا نَتْرُكُ جَابِرًا -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُنَا عَنْ قِصَّةِ جَمَلِهِ، وَمَا دَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في طَرِيقِهِمْ إلى المَدِينَةِ. قَالَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: خَرَجْتُ مَعَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مُرْتَحِلًا عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ (¬3)، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، جَعَلْتُ الرِّفَاق تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "مَالَكَ يَا جَابِرُ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَنِخْهُ" (¬4)، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَعْطِنِي هَذِهِ العَصَا مِنْ يَدِكَ". ¬

_ (¬1) في رواية أخرى قال جابر: فاستثنيْتُ حملانه إلى أهلي. (¬2) أخرج استغفارَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لجابرٍ خمسةً وعشرين مرَّة ليلة الجمل: ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر عدد استغفار المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- لجابر ليلة البعير - رقم الحديث (7142) والترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب في مناقب جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3861) وإسناده صحيح. قال ابن الأثير في النهاية (1/ 139): وليلةُ الجمل: هي الليلة التي اشترى فيها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من جابر جملة، وهو في السفر، وحديث الجمل مشهور. (¬3) في رواية البخاري في صحيحه - رقم الحديث (2309) - قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فكنتُ على جمل ثَفَال. والثفال: بفتح الثاء والفاء، هو البطيء الثقيل. انظر النهاية (1/ 210). (¬4) أناخَ الإبل: أبركها فبركت. انظر لسان العرب (14/ 321).

فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَصَا فَنَخَسَ (¬1) بِهَا البَعِيرَ نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: "ارْكَبْ" فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ، وَالذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ يُوَاهِقُ (¬2) نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً (¬3)، قَالَ: وَتَحَدَّثَ مَعِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلْ أَهَبُهُ لَكَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ"، قُلْتُ: فَسُمْنِي (¬4) بِهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ"، قُلْتُ: لَا، إِذًا يَغْبِنُنِي (¬5) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَبِدِرْهَمَيْنِ"، قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَلَغَ الأُوقِيَّةَ (¬6)، فَقُلْتُ: فَقَدْ رَضِيتُ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ رَضِيتَ؟ "، ¬

_ (¬1) نخَسَ: دفعه وحركه. انظر النهاية (5/ 27). (¬2) يواهق ناقته: أي يُباريها في السير ويُماشيها، ومواهقةُ الإبل: مدُّ أعناقها في السَّيْر. انظر النهاية (5/ 202). (¬3) في رواية أخرى في مسند الإِمام أحمد - رقم الحديث (14376) قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فما زلت إنما أنا في أول النَّاس. (¬4) المُساوَمَةُ: المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة وفصْل ثمنها. انظر النهاية (2/ 382). (¬5) غَبنه: خدعه. انظر لسان العرب (10/ 15). (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 659): الأُوقِيَّة: بضم الهمزة وتشديد الياء، وكانت في عرف ذلك الزمان أربعين درهمًا، وفي عرف النَّاس بعد ذلك عشرة دراهم، وفي عرف أهل مصر اليوم اثنا عشر درهمًا. قلتُ: اختُلف في تحديد ثمنِ الجمل، قال القرطبي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (5/ 665): اختلفوا في ثمنِ الجمل اختلافًا لا يقبل التلفيق، وتكلف ذلك بعيد عن التحقيق، وهو مبنيٌّ على أمر لم يستقم ضبطه، مع أنَّه لا يتعلق بتحقيق ذلك حكم، وإنما تحصّل من مجموعِ الروايات عنه أنَّه باعَهُ البعير، بثمن معلومٍ بينهما، وزاده رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الوفاء زيادة معلومةً، ولا يضُرُّ عدم العلم بتحقيق ذلك.

قُلْتُ: نَعَمْ، عَلَى أَنَّ لِيَ فَقَارَ (¬1) ظَهْرِهِ حَتَّى أَبْلُغَ المَدِينَةَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، قُلْتُ: هُوَ لَكَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَخَذْتُهُ". قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ المَدِينَةِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَائْذَنْ لِي في أَنْ أَستعَجَّلَ إلى أَهْلِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فتَزَوَّجْتَ؟ " (¬2). قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟ " قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعًا (¬3)، فنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً تَجْمَعُ رُؤُوسَهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ (¬4)، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ". وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَبَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ" (¬5). ¬

_ (¬1) يُقال: أفقر البعير يُفقره: إذا أعاره. انظر النهاية (3/ 414). (¬2) في رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15026) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 228) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل تزوجتَ بعد؟ ". قلتُ: استدل بهذا من جعل غزوة ذات الرقاع قبل الخندق، وقال: إن جابرًا -رضي اللَّه عنه- كان متزوِّجًا في الخندق، وقصته مشهورةٌ، ذكرناها عندما صنعت زوجته طعامًا لرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس في ذلك حُجَّة؛ لأنه قد يكون تزوج -رضي اللَّه عنه- غيرها. (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4052): تسع. (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4052) قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فكرهت أن أجمعَ إليهن جاريةً خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقوم عليهن. قال الحافظ في الفتح: (10/ 145): خرقاء: بفتح الخاء وسكون الراء، هي التي لا تعمل بيدها شيئًا. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (12/ 486): والمراد شُمول البركة له في جودةِ عقله حيث قَدَّم =

قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينةَ، جِئْتُ بِالجَمَلِ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ جَلَسْتُ في المَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَرَأَى الجَمَلَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- "فَأَيْنَ جَابِرُ؟ " فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَعَالَ أَي ابْنَ أَخِي، خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ، فَهُوَ لَكَ"، ثُمَّ دَعَا بِلَالًا وَقَالَ لَهُ: "اذْهَبْ بِجَابِرٍ، فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَزِدْهُ". قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَذَهَبْتُ مَعَهُ، فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً، وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "أَتُرَانِي مَاكسْتُكَ (¬1) لِآخُذَ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ، فَهُوَ لَكَ". قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ- مَا زَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا، وَنَرى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا حَتَّى أُصِيبَ يَوْمَ الحَرَّةِ (¬2). ¬

_ = أخواته على حظ نفسه فعدل لأجلهنَّ عن تزوج البكر مع كونها أرفعُ رُتبة للمتزوج الشاب من الثيب غالبًا. (¬1) المُمَاكسة في البيع: انتقاص الثمن واستحطاطه. انظر النهاية (4/ 297). (¬2) قوله -رضي اللَّه عنه- يوم الحرة: يريد الليالي التي وقع فيها القتال بين أهل الشَّام وبين أهل المدينة، في حَرّة واقم التي تقع شرقي المدينة، وكانت سنة (63 هـ)، وهي ليزيد بن معاوية على أهل المدينة، وتعد كما قال ابن حزم في "جوامع السيرة" ص 357 - 358: من أكبر مصائبِ الإِسلام وخُرومه؛ لأن أفاضل المسلمين، وبقيَّة الصَّحَابَة، وخيار المسلمين من جلة التابعين قُتلوا جهزا ظلمًا في الحَرْب وصَبْرًا، وجالتِ الخيل في مسجد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورَاثَتْ وبالَتْ في الروضة الشريفة بين القبر والمنبر، ولم تُصَلَّ جماعة في =

* فوائد الحديث

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: لَا تُفَارِقُنِي زِيَادَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَكَانَ في كِيسٍ لِي حَتَّى جَاءَ أَهْلُ الشَّامِ يَوْمَ الحَرَّةِ، فَأَخَذُوهُ فِيمَا أَخَذُوا (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ بَيْعِ جَمَلِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ المُسَاوَمَةِ لِمَنْ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ لِلْبَيْعِ. 2 - وَفِيهِ المُمَاكَسَةُ -أَي انْتِقَاصُ الثَّمَنِ وَاسْتِحْطَاطُهُ- في المَبِيعِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ العَقْدِ. ¬

_ = مسجد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا كان فيه أحدٌ حاشا سعيدَ بن المسيّب، فإنَّه لم يفارق المسجد، ولولا شهادةُ عمرو بن عثمان بن عفان، ومروان بن الحكم عند مجرم بن عقبة المري بأنه مجنونٌ لقتله، وأُكره النَّاس على أن يُبايعوا يزيد بن معاوية على أنَّهم عبيدٌ له إن شاء باع وإن شاء أعتق. . . ونهبت المدينة ثلاثًا، واستُخِفَّ بأصحابِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومُدَّت الأيدي إليهم، وانتهبت دورهم. انظر شذرات الذهب (1/ 283) - البداية والنهاية (8/ 616). (¬1) أخرج قِصَّة جمل جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: البخاري في صحيحه - كتاب الشروط - باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة - رقم الحديث (2718) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب تزويج الثيب - رقم الحديث (5080) - وأخرجه في كتاب البيوع - باب شراء الدواب والحمير - رقم الحديث (2097) - وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب استئذان الرَّجل الإِمام - رقم الحديث (2967) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب بيع البعير واستثناء ركوبه - رقم الحديث (715) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15026) - (14376) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4911) (6517) (6518) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4410) (4411) (4414) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 228).

3 - وَفِيهِ ابْتِدَاءُ المُشْتَرِي بِذِكْرِ الثَّمَنِ. 4 - وَأَنَّ القَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا في صِحَّةِ البَيْعِ. 5 - وَفِيهِ أَنَّ إِجَابَةِ الكَبِيرِ بِقَوْلِ: "لَا" جَائِزٌ في الأَمْرِ الجَائِزِ. 6 - وَفِيهِ التَّحَدُّثُ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ لِلْإِتْيَانِ بِالقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا لَا عَلَى وَجْهِ تَزْكيَةِ النَّفْسِ وَإِرَادَةِ الفَخْرِ. 7 - وَفِيهِ تَفَقُّدُ الإِمَامِ وَالكَبِيرِ لِأَصْحَابِهِ وَسُؤَالِهِ عَمَّا يَنْزِلُ بِهِمْ، وَإِعَانتهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ مِنْ حَالٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دُعَاءٍ. 8 - وَفِيهِ تَوَاضُعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 9 - وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الدَّابَّةِ لِلسَّيْرِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُكَلَفةٍ، وَمَحَلُّهُ مَا إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْهَا مِنْ فَرْطِ تَعَبٍ وَإِعْيَاءٍ. 10 - وَفِيهِ تَوْقِيرُ التَّابِعِ لِرَئِيِسِهِ. 11 - وَفِيهِ الوَكَالةُ في وَفَاءِ الدُّيُونِ. 12 - وَفِيهِ الوَزْنُ عَلَى المُشْتَرِي. 13 - وَفِيهِ رَدُّ العَطِيَّةِ قَبْلَ القَبْضِ لِقَوْلِ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه-: هُوَ لَكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ". 14 - وَفِيهِ جَوَازُ إِدْخَالِ الدَّوَابِّ وَالأَمْتِعَةِ إلى رِحَابِ المَسْجِدِ وَحَوَالَيْهِ،

* أعاجيب حدثت في غزوة ذات الرقاع

وَاسْتُدِلَّ عَلَى طَهَارَةِ أَبْوَالِ الإِبِلِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ. 15 - وَفِيهِ المُحَافَظَةُ عَلَى مَا يُتَبَرَّكُ بِهِ لِقَوْلِ جَابِرٍ: لَا تُفَارِقُنِي الزِّيادَةُ. 16 - وَفِيهِ جَوَازُ الزِّيادَةِ في الثَّمَنِ عِنْدَ الأَدَاءَ. 17 - وَفِيهِ فَضِيلَةٌ لِجَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- حَيْثُ ترَكَ حَظَّ نَفْسِهِ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَهُ بِبَيْعِ جَمَلِهِ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ. 18 - وَفِيهِ مُعْجَزِةٌ ظَاهِرَةٌ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * أَعَاجِيبُ حَدَثَتْ في غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ: 1 - أَفْرَاخُ الحُمَّرَةِ (¬2): رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تُفَرِّشُ (¬3)، فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِليْهَا" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (5/ 666). (¬2) الحُمَّرة: بضم الحاء وتشديد الميم: طائر صغير كالعصفور. انظر النهاية (1/ 422). (¬3) تُفرّش: بضم التاء وتشديد الراء: أي تفرش جناحيها، وتقرب من الأرض وترفرف. انظر النهاية (3/ 385). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3835) - وأبو داود في سننه - كتاب =

2 - قرية النمل

2 - قَرْيَةُ النَّمْلِ (¬1): رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَرَقَ هَذِهِ؟ "، قُلْنَا: نَحْنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ" (¬2). * * * ¬

_ = الجهاد - باب في كراهية حرق العدو بالنار - رقم الحديث (2675) - وأخرجه في كتاب الجنائز - باب الأمراض المكفرة للذنوب - رقم الحديث (3089) - وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (334) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2633). (¬1) قريةُ النمل: مساكنها. انظر جامع الأصول (4/ 529). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3763) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في كراهية حرق العدو بالنار - رقم الحديث (2675) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2633).

سرية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى تربة

سَرِيَّةُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى تُرَبَةٍ (¬1) وَفِي شَعْبَانَ سَنَةً سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- في ثَلَاثِينَ رَاكِبًا إلى بَنِي نَضْرِ بنِ مُعَاوِيَةَ بنِ بَكْرِ بنِ هَوَازِنَ، وَبَنِي جُشَمِ بنِ بَكْرِ بنِ هَوَازِنَ بِتُرَبَةٍ، فَخَرَجَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، وَمَعَهُ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ، فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ، فَأَتَى الخَبَرُ هَوَازِنَ فَهَرَبُوا، وَجَاءَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- إلى مَحَالِّهِمْ، فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَانْصَرَفَ رَاجِعًا إلى المَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَ بِالجَدَدِ (¬2) قَالَ لَهُ الدَّلِيلُ: هَلْ لَكَ في جَمْعٍ آخَرَ مِنْ خَثْعَمٍ جَاؤُوا سَائِرِينَ قَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِمْ، إِنَّمَا أَمَرَنِي أَنْ أُقَاتِلَ هَوَازِنَ بِتُرَبةٍ، فَانْصَرَفَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- رَاجِعًا إلى المَدِينَةِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) تُرَبة: بضم التاء وفتح الراء: واد قرب مكة على يومين منها. انظر النهاية (1/ 182). (¬2) الجَدد: موضع في بلاد بني هذيل. انظر معجم البلدان (3/ 38). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 308) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 292).

سرية أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى بني فزارة

سَرِيَّةُ أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي فَزَارَةَ وَفِي شَعْبَانَ كَذَلِكَ مِنَ السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1) بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- إلى بَنِي فزَارَةَ في نَجْدٍ. فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي قُحَافَةَ -رضي اللَّه عنه-، أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نُرِيدُ فزَارَةَ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ المَاءَ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا (¬2)، فَلَمَّا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ، أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَشَنَّيْنَا الغَارَةَ، فَقتَلْنَا عَلَى المَاءَ مَنْ قَتَلْنَا، قَالَ سَلَمَةُ: ثُمَّ نَظَرْتُ إلى عُنُقٍ (¬3) مِنَ النَّاسِ فِيهِ الذُّرِّيَّةِ وَالنِّسَاءَ نَحْوَ الجَبَلِ، وَأَنَا أَعْدُو في آثَارِهِمْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إلى الجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الجَبَلِ، قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إلى أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَتَيْتُهُ عَلَى المَاءِ، وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ فزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ (¬4) مِنْ أَدَمٍ (¬5)، وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 309). (¬2) التعرِيسُ: نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة. انظر النهاية (3/ 186). (¬3) عنق من النَّاس: أي جماعة من النَّاس. انظر النهاية (3/ 280). (¬4) القَشع: بفتح القاف وسكون الشين وكسرها: الفَرو الخَلِق. انظر النهاية (4/ 58). (¬5) الأدِيم: الجلد. انظر لسان العرب (1/ 96).

العَرَبِ، فنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، قَالَ: فَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا (¬1) حَتَّى قَدِمْتُ المَدِينَةَ، ثُمَّ بِتُّ فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا، فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في السُّوقِ، فَقَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِيَ المَرْأَةَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَترَكَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الغَدِ لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في السُّوقِ، فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِيَ المَرْأَةَ، للَّهِ أَبُوكَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ أَعْجَبَتْنِي، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا، وَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّه. قَالَ: فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أَهْلِ مَكَّةَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ أُسَارَى مِنَ المُسْلِمِينَ فَفَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِتِلْكَ المَرْأَةِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أي كِناية عن الجماع. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 60). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى - رقم الحديث (1755) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16502) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3917).

سرية بشير بن سعد -رضي الله عنه- إلى بني مرة

سَرِيَّةُ بَشِيرِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي مُرَّةَ وَفِي شَعْبَانَ أَيْضًا سَنَةً سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بشِيرَ بنَ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، في ثَلَاثِينَ رَجُلًا إلى بَنِي مُرَّةَ، وَكَانُوا بِقُرْبِ فَدَكَ (¬1)، فَلَمَّا وَصَلَ إلى دِيَارِهِمْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا، فَاسْتَاقَ النَّعَمَ وَالشَّاءَ، وَانْحَدَرَ إلى المَدِينَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ بَنِي مُرَّةَ بِالخَبَرِ لَحِقُوهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ، فترَامَوْا بِالنَّبْلِ، حَتَّى فَنِيَتْ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ حَمَلَ بَنِي مُرَّةَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِ بَشِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَفَرَّ مَنْ فَرَّ مِنْهُمْ، وَقَاتَلَ بَشِيرٌ -رضي اللَّه عنه- قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى ارْتُثَّ (¬2) وَسَقَطَ، فَظَنُّوهُ قَدْ مَاتَ، وَرَجَعُوا بِأَنْعَامِهِمْ وَشَائِهِمْ. وَفِي المَسَاءِ تَحَامَلَ بَشِيرٌ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى انْتهَى إلى فَدَكَ، وَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودِيٍّ أَيَّامًا حَتَّى ضُمِّدَتْ جِرَاحُهُ، وَرَجَعَ إلى المَدِينَةِ. وَقَدْ نَقَلَ خَبَرَ مُصَابِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُلْبَةُ بنُ زَيْدٍ الحَارِثِيُّ (¬3). ¬

_ (¬1) فَدَك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان أفاءها اللَّه على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في سنة سبع صلحًا. انظر معجم البلدان (6/ 417). وقد ذكرنا خبر فدك في غزوة خيبر فراجعه. (¬2) الرَّثِيث: الجريح. انظر النهاية (2/ 179). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 309) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 295).

سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة

سَرِيَّةُ غَالِبِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيِّ إِلَى المِيفَعَةِ الذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَّةَ هِيَ التِي بَعَثَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الحُرَقَةِ (¬1) في حَدِيثِ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -وَهِيَ عِنْدَ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ في صَحِيحَيْهِمَا- وَكَانَتْ في رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَالِبَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثِيَّ -رضي اللَّه عنه-، في مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا إلى بَنِي عُوَالٍ وَبَنِي عَبْدِ بنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُمْ بِالمِيفَعَةِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ المَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ (¬2) بِنَاحِيَةِ نَجْدٍ، وَدَلِيلُهُمْ يَسَارٌ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَهَجَمُوا عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَوَقَعُوا وَسْطَ مَحَالِّهِمْ، فَقتَلُوا مَنْ أَشْرَفَ لَهُمْ، وَاسْتَاقُوا نَعْمًا وَشَاءً، وَرَجَعُوا إلى المَدِينَةِ، وَلَمْ يَأْسِرُوا أَحَدًا. * قَتْلُ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- مِرْدَاسَ بنَ نَهِيكٍ: وَفِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ قَتَلَ أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، الرَّجُلَ الذِي قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ مِرْدَاسُ بنُ نَهِيكٍ حَلِيفًا لِبَنِي مُرَّةَ مِنَ الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 308): الحُرَقة: بضم الحاء وفتح الراء، نسبة إلى الحرقة، واسمه جهيش بن عامر بن ثعلبة بن جهينة، تَسمى الحُرَقة؛ لأنه حرق قومًا بالقتل فبالغ في ذلك. (¬2) البُرد: بضم الباء: وهي ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال. انظر النهاية (1/ 116).

قَالَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ (¬1) رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ (¬2) قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي (¬3) حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ، بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ لِي: "يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ مُتعَوِّذًا (¬4) فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَلَّا شقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا فَرَقًا (¬5) مِنَ السِّلَاحِ؟ كيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ ، كيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ ". ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 176): لم أقف على اسم الأنصاريِّ المذكور في هذه القصة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 176): غشيناه: بفتح الغينِ والشين: أي لحقنا به حَتَّى تغطى بنا. (¬3) وقع في رواية مسلم في الصحيح - رقم الحديث (97) (160) - في حديث جندب قال: فلما رَفَع عليه السيف قال: لا إله إِلَّا اللَّه، فقتله. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 176): ويجمع بأنه رفع عليه السيف أولًا، فلما لم يتمكن من ضربه بالسيف طعنه بالرمح. (¬4) متعوِّذًا: أي إنما أقرّ بالشهادة لاجئًا إليها ومعتصمًا بها ليدفع عنه القتل، وليس بِمُخْلص في إسلامه. انظر النهاية (3/ 287). وفي رواية مسلم في الصحيح - رقم الحديث (97) (160) - قال أسامة -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْجَعَ في المسلمين، وقتل فلانًا وفلانًا، وسمى له نفرًا، وإني حملت عليهِ، فلما رأى السيف: قال: لا إله إِلَّا اللَّه. (¬5) الفَرَق: بالتحريك: الخوف والفزع. انظر النهاية (3/ 392).

قَالَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ (¬1). زَادَ ابنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: قَالَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُعَاهِدُ اللَّه أَنْ لَا أُقَاتِلَ أَحَدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (¬2). قَالَ ابنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الحَافِظُ في الفَتْحِ: كَانَتْ هَذِهِ القِصَّةُ سَبَبَ حَلِفِ أُسَامَةَ أَنْ لَا يُقَاتِلَ مُسْلِمًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَّ تَخَلَّفَ عَنْ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- في الجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَكَانَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ: لَا أُقَاتِلُ مُسْلِمًا حَتَّى يُقَاتِلَهُ أُسَامَةُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 177): أي أن إسلامي كان ذلك اليوم؛ لأن الإِسلام يَجُبُّ ما قبله. وأخرج ذلك كله البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحرقات - رقم الحديث (4269) - وأخرجه في كتاب الديات - باب قوله تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} - رقم الحديث (6872) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إِلَّا اللَّه - رقم الحديث (96) (158) - (97) (160) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21745) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3227) (3228). (¬2) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 309). (¬3) انظر فتح الباري (14/ 178) - وأخرج قول سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه-: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إِلَّا اللَّه - رقم الحديث (96) (158).

سرية بشير بن سعد -رضي الله عنه- إلى يمن وجبار

سَرِيَّةُ بَشِيرِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى يَمْنٍ وَجُبَارَ (¬1) وَفِي شَوَّالَ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ، بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ وَاعَدَهُمْ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ لِلْإِغَارَةِ عَلَى المَدِينَةِ أَوْ أَطْرَافِهَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَشِيرَ بنَ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللَّيْلَ وَيَكْمُنُوا النَّهَارَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ حُسَيْلُ بنُ نويْرَةَ الأَشْجَعِيُّ دَلِيلًا -وَهُوَ الذِي قَدِمَ بِخَبَرِ تَجَمُّعِ غَطَفَانَ- فَسَارُوا اللَّيْلَ وَكَمَنُوا النَّهَارَ، حَتَّى أَتَوْا إلى يَمْنٍ وَجُبَارَ، فنَزَلُوا بِسِلَاحٍ أَسْفَلَ خَيْبَرَ، ثُمَّ خَرَجُوا حَتَّى دَنَوْا مِنَ القَوْمِ، فَأَصَابُوا لَهُمْ نَعَمًا كَثِيرًا، وَتَفَرَّقَ الرِّعَاءُ، وَذَهَبُوا إلى القَوْمِ وَأَخْبَرُوهُمْ، فتَفَرَّقُوا وَلَحِقُوا بِعَلْيَاءِ بِلَادِهِمْ، وَخَرَجَ بَشِيرُ بنُ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- في أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، إِلَّا رَجُلَيْنِ أَسَرَهُمَا، فَرَجَعَ بِالنَّعَمِ والرَّجُلَيْنِ إلى المَدِينَةِ، فَأَسْلَمَا، فَأَرْسَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * حِوَارٌ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ وَالحَارِثِ بنِ عَوْفٍ: وَلَمَّا فَرَّ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْنٍ مُنْهَزِمًا مِنْ سَرِيَّةِ بَشِيرِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- لَقِيَهُ ¬

_ (¬1) يَمْن: بفتح الياء، ثم سكون الميم: ماء لغطفان على الطريق بين تيماء وفيد، وجُبار: بضم الجيم وفتح الباء: ماء لبني حُميس من قضاعة بين المدينة وفيد. انظر معجم البلدان (3/ 26) (8/ 510).

الحَارِثُ بنُ عَوْفٍ المُرِّيّ، وَكَانَ حَلِيفًا لَهُ، فَاسْتَوْقَفَهُ الحَارِثُ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَا، مَا أَقْدِرُ! خَلْفِيَ الطَّلَبُ، أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، -وَهُوَ يَرْكُضُ- فَقَالَ لَهُ الحَارِثُ: قَدْ آنَ لَكَ يَا عُيَيْنَةُ أَنْ تُقْصِرَ عَمَّا تَرَى، أَوْ أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تُبْصِرَ بَعْضَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ؟ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَطِئَ البِلَادَ، وَأَنْتَ مُوضِعٌ (¬1) في غَيْرِ شَيْءٍ (¬2). كَانَ هَذَا الأَمْرُ سَبَبًا في جَعْلِ عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ يُفَكِّرُ في الإِسْلَامِ. * * * ¬

_ (¬1) مُوضِع: بضم الميم وكسر الضاد: أي مسرع. انظر النهاية (5/ 171). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 302) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 310).

أسر ثمامة بن أثال الحنفي -رضي الله عنه- وإسلامه

أَسْرُ ثُمَامَةَ بنِ أُثَالٍ الحَنَفِيِّ -رضي اللَّه عنه- (¬1) وَإِسْلامُهُ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةِ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ (¬2). زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ في السِّيَرَةِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَحْسِنُوا إِسَارَهُ" (¬3). فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا مَرَّ عَلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ ". فَيَقُولُ ثُمَامَةُ: عِنْدِي خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ، إِنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ (¬4) , وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المَالَ، فَسَلْ مِنْهُ مَا شِئْتَ (¬5). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (2/ 131) ثُمامة: بضم الثاء، وأثال: بضم الهمزة وفتح الثاء. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب وقد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أُثال - رقم الحديث (4372) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ربط الأسير وحبسه - رقم الحديث (1764). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 295). (¬4) قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (12/ 75): أي إن تقتل تقتل صاحب دمٍ لدمه موقع يشتفي بقتله قاتله، ويدرك قاتله به ثأره أي لرياسته وفضيلته. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب وقد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال - رقم الحديث (4372) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ربط الأسير وحبسه - رقم الحديث (1764).

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّونَ الفِدَاءَ، وَيَقُولُونَ: مَا نَصْنَعُ بِقَتْلِ هَذَا؟ (¬1). فتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى كَانَ مِنَ الغَدِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ ". فَقَالَ ثُمَامَةُ: مَا قُلْتُ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، فترَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى كَانَ بَعْدَ الغَدِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ ". قَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ"، فَانْطَلَقَ ثُمَامَةُ إلى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ (¬2)، ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ البِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ العُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ لَبَّى، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُلَبِّيًا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ، وَقَالُوا لَهُ: صَبَوْتَ يَا ثُمَامَةُ؟ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (1238) وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) في رواية ابن حبان قال أبو هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: فبعث به رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى حائط -أي بستان- أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل، وصلى ركعتين.

قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ أَسْلَمْتُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا وَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَلُّوهُ. ثُمَّ خَرَجَ ثُمَامَةُ إلى اليَمَامَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلى مَكَّةَ شَيْئًا، حَتَّى أَضَرَّ بِقُرَيْشٍ الجُوعُ، وَأَكَلُوا العِلْهِزَ (¬1)، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ وَفْدًا بِقِيَادَةِ أَبِي سُفْيَانَ إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكُمُ اللَّه وَالرَّحِمَ، إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلَى". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ قتَلْتَ الآبَاءَ بِالسَّيْفِ، وَالأَبْنَاءَ بِالجُوعِ. فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ثُمَامَةَ بنِ أُثَالٍ -رضي اللَّه عنه-، أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الحَمْلِ إلى مَكَّةَ، فَفَعَلَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) العِلْهِزُ: بكسر العين والهاء: هو شيء يتَّخذونه في سِنِيِّ المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل، ثم يشوونه بالنار، ويأكلونه. انظر النهاية (3/ 265). (¬2) سورة المؤمنون آية (76). وأخرج قصَّة ثُمامة بن أثال: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب وقد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أُثال - رقم الحديث (4372) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ربط الأسير وحبسه - رقم الحديث (1764) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الطهارة - باب غسل الكافر إذا أسلم - رقم الحديث (967) (1238) (1239) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة المؤمنون - رقم الحديث (3540) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 295).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - رَبْطُ الكَافِرِ فِي المَسْجِدِ. 2 - المَنُّ عَلَى الأَسِيرِ الكَافِرِ، وَتَعْظِيمُ أَمْرِ العَفْوِ عَنِ المُسِيءِ؛ لِأَنَّ ثُمَامَةَ أَقْسَمَ أَنَّ بُغْضَهُ انْقَلَبَ حُبًّا في سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا أَسْدَاهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ مِنَ العَفْوِ وَالمَنِّ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ. 3 - وَفِيهِ الِاغْتِسَالُ عِنْدَ الإِسْلَامِ. 4 - وَفِيهِ أَنَّ الإِحْسَانَ يُزِيلُ البُغْضَ وَيُثْبِتُ الحُبَّ. 5 - وَفِيهِ أَنَّ الكَافِرَ إِذَا أَرَادَ عَمَلَ خَيْرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ شُرعَ لَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ في عَمَلِ ذَلِكَ الخَيْرِ. 6 - وَفِيهِ المُلَاطفَةُ بِمَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ مِنَ الأُسَارَى، إِذَا كَانَ في ذَلِكَ مَصْلَحَة لِلْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَتْبَعُهُ عَلَى إِسْلَامِهِ العَدَدُ الكَثِيرُ مِنْ قَوْمِهِ. 7 - وَفِيهِ بَعْثُ السَّرَايَا إلى بِلَادِ الكُفَّارِ، وَأَسْرُ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ، وَالتَّخْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ في قتلِهِ، أَوِ الإِبْقَاءِ عَلَيْهِ (¬1). وَظَلَّ ثُمَامَةُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى إِسْلَامِهِ، وَلَمْ يَرْتَدَّ مَعَ مَنِ ارْتَدَّ مِنْ أَهْلِ اليَمَامَةِ، حِينَ تَنبَّأَ مُسَيْلَمَةُ الكَذَّابُ. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 421).

عمرة القضاء

عُمْرَةُ القَضَاءِ (¬1) لَمَّا دَخَلَ هِلَالُ ذِي القَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِالعُمْرَةِ، كَمَا وَقَعَ في بُنُودِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، بِأَنْ يَعْتَمِرَ المُسْلِمُونَ في العَامِ المُقْبِلِ في ذِي القَعْدَةِ. * خُرُوجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى العُمْرَةِ وَعِدَّةُ أَصْحَابِهِ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَمْ يتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِمَّنْ شَهِدَ الحُدَيْبِيَةَ إِلَّا مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ في خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ مَجْمُوعُ مَنْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَلفيْنِ سِوَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. ¬

_ (¬1) اختُلِف في سبب تسميتها عُمرة القضاء، فقيل: المرادُ ما وقع من المُقَاضاة بين المسلمين والمشركين من الكتاب الذي كتب بينهم بالحديبية، فالمرادُ بالقضاءِ الفَصْل الذي وقع، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صُدّ عن البيت فيها، فإنَّها لم تكن فَسَدَتْ حَتَّى يجب قضاؤها، بل كانت عمرةً تامة، وتسمى عُمرة القَضِيَّة؛ لأن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قاضى قريش في الحديبية على أن يعتمر العام المقبل. وتُسمى كذلك عمرةَ القِصَاص؛ لأن قريشًا صدّوا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذي القعدة عام الحديبية، فاقتصَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم، فاعتمر في الشهر الذي صدّوه فيه من العام المقبل. قال السُّهيلي في الرَّوْض الأُنُف (4/ 114): وهذا الاسم أولى بها لقوله تَعَالَى في سورة البقرة آية (194): {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، وهذه الآية نزلت فيها، فهذا الاسم أولى بها. وانظر فتح الباري (8/ 285).

وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ عُوَيْفَ بنَ الأَضْبَطِ الدَّيْلِيِّ (¬1) -رضي اللَّه عنه-، وَسَاقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتِّينَ بَدَنَةً (¬2)، وَجَعَلَ عَلَيْهَا نَاجِيَةَ بنَ جُنْدُبٍ الأَسْلَمِيَّ -رضي اللَّه عنه-، يَسِيرُ بِهَا أَمَامَهُ، مَعَهُ أَرْبَعَةُ فِتْيَانٍ مِنْ أَسْلَمَ. وَحَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السِّلَاحَ وَالدُّرُوعَ وَالرِّمَاحَ خَوْفًا مِنْ غَدْرِ أَهْلِ مَكَّةَ. فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ذِي الحُلَيْفَةِ (¬3)، قَدَّمَ الخَيْلَ أَمَامَهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَابِ مَسْجِدِ الحُلَيْفَةِ وَلَبَّى، وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ يُلَبُّونَ. وَمَضَى مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، في الخَيْلِ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ (¬4)، وَجَدَ بِهَا نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ مَجِيئِهِ بِالخَيْلِ، فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَبِّحُ هَذَا المَنْزِلَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَرَأَوْا سِلَاحًا كَثِيرًا، مَعَ بَشِيرِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتَّى أَتَوْا مَكَّةَ، فَأَخْبَرُوا قُرَيْشًا، فَفَزِعُوا وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا، وَإِنَّا عَلَى كِتَابِنَا وَهُدْنَتِنَا، فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمَّد في أَصْحَابِهِ؟ وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مَرَّ الظَّهْرَانِ نَزَلَ بِهِ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 17) - وفي رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 310): أَبا رُهم الغفاري -رضي اللَّه عنه-. (¬2) البَدَنة: الإبل، سميت بدنة لعظمها وسمنها. انظر النهاية (1/ 108). (¬3) قال الحافظ في الفتح (4/ 161): ذِي الحُليفة: بضم الحاء وفتح اللام مصغرًا، وهو ميقات أهل المدينة. (¬4) مر الظهران: واد بين مكة وعُسفان. انظر النهاية (3/ 152).

وَأَصْحَابَهُ أَنَّ قُرَيْشًا تَقُولُ عَنْهُمْ: مَا يَتَبَاعَثُونَ مِنَ العَجَفِ (¬1)، فَقَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَكَلْنَا مِنْ ظَهْرِنَا (¬2)، فَأَكَلْنَا مِنْ شُحُومِهَا، وَحَسَوْنَا مِنَ المَرَقِ، فَأَصْبَحْنَا غَدًا حَتَّى نَدْخُلَ عَلَى القَوْمِ وَبِنَا جَمَامٌ (¬3)؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، وَلَكِنْ ائْتُونِي بِفَضْلِ أَزْوَادِكُمْ". فَبَسَطُوا أَنْطَاعَهُمْ (¬4)، ثُمَّ جَمَعُوا عَلَيْهَا مِنْ أَطْعِمَاتِهِمْ كُلِّهَا، فَدَعَا لَهُمْ فِيهَا بِالبَرَكَةِ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَضَلَّعُوا (¬5) شِبَعًا، فَأَكْفَتُوا (¬6) في جُرَبِهِمْ (¬7) فُضُولَ مَا فَضَلَ مِنْهَا (¬8). ثُمَّ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السِّلَاحَ إلى بَطْنِ يَأْجَجَ (¬9) حَيْثُ يَنْظُرُ إلى أَنْصَابِ الحَرَمِ (¬10). ¬

_ (¬1) العَجَف: الهزال. انظر النهاية (3/ 169). (¬2) الظَّهر: الإبل التي يحمل عليها وتركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬3) الجَمَامة: أي راحة وشبع ورِيّ. انظر النهاية (1/ 290). (¬4) النَّطع: الجلد. انظر لسان العرب (14/ 186). (¬5) تضَلَّع الرَّجل: امتلأ ما بين أضلاعه شبعًا وريًّا. انظر لسان العرب (8/ 76). (¬6) أكفتوا: أي جمعوا وضموا ما زاد من الطعام. انظر لسان العرب (12/ 117). (¬7) الجِراب: بكسر الجيم: الوعاء. انظر لسان العرب (2/ 228). (¬8) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب دخول مكة - رقم الحديث (3812) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2782) - وإسناده صحيح. (¬9) بطنُ يأجج: مكان من مكة على ثمانية أميال. انظر معجم البلدان (8/ 492). (¬10) أنصابُ الحرم: حدوده. انظر لسان العرب (14/ 155).

* بعث قريش مكرز بن حفص

* بَعْثُ قُرَيْشٍ مِكْرَزَ بنَ حَفْصٍ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ بنَ حَفْصٍ في نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى لَقُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَطْنِ يَأْجَجَ، وَهُوَ في أَصْحَابِهِ وَالهَدْيَ وَالسِّلَاحَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! مَا عُرِفْتَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا بِالغَدْرِ! تَدْخُلُ بِالسِّلَاحِ في الحَرَمِ عَلَى قَوْمِكَ، وَقَدْ شَرَطْتَ لَهُمْ أَلَّا تَدْخُلَ إِلَّا بِسِلَاحِ المُسَافِرِ، السُّيُوفُ في القُرُبِ! (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لَا أُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ". فَقَالَ مِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ: هَذَا الذِي يُعْرَفُ بِهِ البِرُّ وَالوَفَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يدخلُ بِسِلَاحٍ، وَهُوَ عَلَى الشَّرْطِ الذِي شَرَطَ لَكُمْ. * خُرُوجُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الجِبَالِ: وَقَدْ أُشِيعَتْ في مَكَّةَ إِشَاعَةٌ وَهِيَ: أَنَّ المُسْلِمِينَ القَادِمِينَ لِلْعُمْرَةِ قَدْ أَصَابَتْهُمُ الحُمَّى، فَخَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إلى الجِبَالِ المُحِيطَةِ بِهَا خَشْيَةَ العَدْوَى، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِك أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالرَّمَلِ (¬2) -كَمَا سَيَأْتِي-. * دُخُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ يَأْجَجَ بَعْدَ أَنْ وَضَعَ الأَدَاةَ كُلَّهَا الحَجَفَ (¬3) ¬

_ (¬1) القُرُب بضم القاف والراء، جمع قِراب، وهو غمد السيف. انظر لسان العرب (11/ 86). (¬2) رَمَلَ الرجُلُ: إذا أسرع في مشيته وهَزَّ منكبيه. انظر لسان العرب (5/ 320). (¬3) الحجَفة: نوع من التروس، وهي من الجلودِ خاصة. انظر لسان العرب (3/ 63).

وَالمِجَانَّ (¬1) وَالرِّمَاحَ وَالنَّبْلَ، وَخَلَّفَ عَلَيْهَا أَوْسَ بنَ خَوْليٍّ الأَنْصَارِيِّ في مِائتَيْ رَجُلٍ، وَقَدَّمَ الهَدْيَ أَمَامَهُ، فَحُبِسَ بِذِي طُوَى (¬2). وَدَخَلَ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ التِي تُطلِعُهُ عَلَى الحَجُونِ (¬4)، وَأَصْحَابُهُ مُحْدِقُونَ بِهِ قَدْ تَوَشَّحُوا السُّيُوفَ يُلَبُّونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: لَمَّا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَتَرْنَاهُ مِنْ غِلْمَانِ المُشْرِكِينَ، وَمِنْهُمْ، أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُلَبِّي حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرَامَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَقَدْ صَفَّتْ لَهُ قُرَيْشٌ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ، أَوْ مِمَّا يَلِي الحِجْرَ، فَقَدْ رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ، قَامَ أَهْلُ مَكَّةَ سِمَاطَيْنِ (¬6). ¬

_ (¬1) المِجَنُّ: الترس. انظر النهاية (1/ 297). (¬2) ذي طُوى: بضم الطاء وفتح الواو المخففة: موضع عند باب مكة. انظر النهاية (3/ 133). انظر تفاصيل ذلك كله في: الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 310) - سيرة ابن هشام (4/ 17) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 314). (¬3) دَخل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة بعد أن غَاب عنها سبع سنوات. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 457): الحَجُون: بفتح الحاء وضم الجيم: جبل معروف بمكة، وعنده مقبرة أهل مكة. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عمرة القضاء - رقم الحديث (4255). (¬6) سِمَاطين: أي صفين. انظر لسان العرب (6/ 363). =

* إنشاد ابن رواحة -رضي الله عنه-

* إِنْشَادُ ابنِ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- آخِذ بِزِمَامِ رَاحِلَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَرْتَجِزُ يَقُولُ: خَلُّوا بَنِي الكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلُّوا فكُلُّ الخَيْرِ في رَسُولِهِ نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ (¬1) ... كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ (¬2) ... وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنِ بِقِيلِهِ فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- لِابْنِ رَوَاحَةَ: يَا ابْنَ رَوَاحَةَ! بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ، فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ (¬3) النَّبْلِ" (¬4). ¬

_ = والخبرُ أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحظر والإباحة - باب الشعر والسجع - رقم الحديث (5788). (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في البداية والنهاية (4/ 617): أي هذه العمرة تأويل الرؤيا التي كان رآها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جاءت مثل فَلَقِ الصبح. (¬2) الهامَ عن مَقِيله: الهامُ جمع هامَةٍ، وهي أعلى الرأس، وفيه الناصية، ومَقِيله: موضعه. انظر النهاية (5/ 244) - جامع الأصول (5/ 171). (¬3) نضحَ: رمى. انظر النهاية (5/ 60). وفي رواية ابن حبان في صحيحه: وَقْعِ. (¬4) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب الحظر والإباحة - باب الشعر والسجع - رقم =

* وهم الإمام الترمذي

* وَهْمُ الإِمَامِ التِّرْمِذِيِّ: قُلْتُ: وَهِمَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذِهِ الأَبْيَاتِ لِابْنِ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَرُوِيَ في غَيْرِ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ مَكَّةَ في عُمْرَةِ القَضَاءَ، وَكَعْبُ بنُ مَالِكٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الحَدِيثِ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عُمْرَةُ القَضَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ (¬1). وَتَعَقَّبَهُ الحَافِظُ في الفَتْحِ فَقَالَ: وَهُوَ ذُهُولٌ شَدِيدٌ وَغَلَطٌ مَرْدُودٌ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ وَقَعَ التِّرْمِذِيُّ في ذَلِكَ مَعَ وُفُورِ مَعْرِفَتِهِ، وَمَعَ أَنَّ في قِصَّةِ عُمْرَةِ القَضَاءَ اخْتِصَامُ جَعْفَرَ وَأَخِيهِ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في بِنْتِ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬2)، وَجَعْفَرُ قُتِلَ وَزَيْدٌ وَابْنُ رَوَاحَةَ في مَوْطِنٍ وَاحِدٍ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى التِّرْمِذِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ؟ ! (¬3). ¬

_ = الحديث (5788) - والترمذي في جامعة - كتاب الأدب - باب ما جاء في إنشاد الشعر - رقم الحديث (3061) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (3228) وإسناده صحيح. (¬1) قال الإِمام الذهبي في السير (1/ 236): كلا، بل مؤتة بعدها بستة أشهر جزمًا. وانظر كلام الإِمام الترمذي في جامعة (5/ 121). (¬2) ستأتي بعد قليل اختصامهم في ابنة حمزة -رضي اللَّه عنه- في نهاية عمرة القضاء. (¬3) انظر فتح الباري (8/ 288).

* رمل المسلمين

* رَمَلُ المُسْلِمِينَ: فَاسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ (¬1) وَاضْطَبَعَ (¬2) بِثَوْبِهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الطَّوَافِ، وَكَانَ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ لَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَنْ مَعَهُ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إلى رُؤُوسِ الجِبَالِ غَيْظًا وَحَسَدًا، وَبِسَبَبِ مَا أَشَاعُوهُ مِنْ أَنَّ المُسْلِمِينَ قَدْ أَصَابَتْهُمُ الحُمَّى فَأَوْهَنَتْهُمْ (¬3)، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِالرَّمَلِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الحُمَّى (¬4)، قَالَ: فَأَطْلَعَ اللَّهُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا (¬5)، وَقَعَدَ ¬

_ (¬1) المِحْجَن: عصا معقفة الرأس. انظر النهاية (1/ 353). (¬2) الاضْطِبَاع: هو أن يأخذ الإزارُ، فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويُلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، وسُمي بذلك لإبداء الضبعين. انظر النهاية (3/ 68). والضَّبُعُ: هو العَضُد. انظر لسان العرب (8/ 16). (¬3) وهنتهم: أي أضعفتهم. انظر فتح الباري (8/ 297). (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (1602): حُمّى يثرب. قال الحافظ في الفتح (4/ 269): ويؤخذ منه: جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهابًا لهم، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم. (¬5) في روايةِ ابن إسحاق في السيرة (4/ 18) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رحِمَ اللَّه امرأً أراهم اليوم من نفسه قُوَّة". وفي رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2782) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (3812) - بسند صحيح - قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يَرى القوم فيكم غَمِيزة" والغميزة بفتح الغين: أي ضعف. انظر لسان العرب (1/ 120). قال الإِمام ابن قدامة في المغني (5/ 217 - 220): الرَّمَلُ سُنَّة في الأشواط الثلاثة =

المُشْرِكُونَ نَاحِيَةَ الحِجْرِ (¬1) يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ، فَرَمَلُوا وَمَشَوْا مَا بَيْنَ الرّكْنَيْنِ، فَقَالَ المُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الذِينَ تَزْعُمُونَ أَنَّ الحُمَّى وَهَنَتْهُمْ؟ ! هَؤُلَاءَ أَقْوَى مِنْ كَذَا وَكَذَا (¬2)، وَلَمْ يَمْنَعْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَأْمُرَهُمْ -أَيْ أَصْحَابَهُ- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا إِبْقَاءً (¬3) عَلَيْهِمْ (¬4). وَلَمَّا فَرِغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الطَّوَافِ، صَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْترهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ سَعَى -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَة عَلَى رَاحِلَتِهِ، ¬

_ = الأُول من طواف القدوم، ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافًا، وقد ثبت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رمل ثلاثًا ومشى أربعًا، رواه جابر، وابن عباس، وابن عمر، وأحاديثهم متفق عليها. فإن قيل: إنما رمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه؛ لإظهار الجَلَدِ للمشركين، ولم يَبْقَ ذلك المعنى، إذ قد نفى اللَّه المشركين. قلنا: قد رمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، واضطبع في حجَّة الوداع بعد الفتح، فثبت أنها سُنَّة ثابثة، وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عُمَرِه كلها، وفي حجه، وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده. رواه أَحْمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (1972). (¬1) في روايةِ البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4256): والمشركون من قِبَل قُعيقعان. وقعيقعان: بضم القاف الأولى: جبل بمكة. انظر النهاية (4/ 78). (¬2) في رواية ابن حبان في صحيحه: قالوا: كأنهم الغِزْلان. وفي رواية أخرى في مسند الإِمام أحمد: قالوا: إنهم لَيَنقُزُون نَقْزَ الظِّباء. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 269): الإبقاء: بكسر الهمزة: الرفق والشفقة. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب كيف كان بدء الرمل؟ رقم الحديث (1602) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب عمرة القضاء - رقم الحديث (4256) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة - رقم الحديث (1266) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2639) (2782) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب دخول مكة - رقم الحديث (3812) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب في الرمل - رقم الحديث (1885).

* ذبح الهدي

وَأَصْحَابُهُ مَعَهُ يَسْعَوْنَ، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، هَازِمَ الأَحْزَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ" (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاعْتَمَرْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَطُفْنَا مَعَهُ، وأَتَى الصَّفَا وَالمَرْوَةَ وَأَتيْنَاهَا مَعَهُ، وَكُنَّا نَسْترهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَرْمِيَهُ أَحَدٌ (¬2). * ذَبْحُ الهَدْيِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالهَدْيِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ مِنْ ذِي طُوَى، فنَحَرَ هَدْيَهُ عِنْدَ المَرْوَةِ، وَحَلَقَ هُنَاكَ، حَلَقَهُ مَعْمَرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ العَدَوِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَصْحَاُبهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَذْهَبُوا إلى يَأْجَجَ (¬3)، فيقِيمُوا عَلَى السِّلَاحِ، وَيَأْتِي الآخَرُونَ، فَيَقْضُوا نُسُكَهُمْ، فَفَعَلُوا (¬4). * لَم يَدْخُلْ رَسول اللَّهِ الكَعْبَةَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ ¬

_ (¬1) أخرج دعاءَه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الصَّفا والمروة: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19407) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (3843) - وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العمرة - باب متى يحل المعتمر؟ - رقم الحديث (1791) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب عمرة القضاء - رقم الحديث (4255). (¬3) يأجَج: مكان من مكة على ثمانية أميال. انظر معجم البلدان (8/ 492). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 311).

في صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكَعْبَةَ؛ لِوُجُودِ الأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ فِيهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَطَافَ بِالبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَهُ مَنْ يَسْترهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكَعْبَةَ؟ قَالَ: لَا (¬1). فَلَمَّا انْقَضَتِ الأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ المُقَرَّرَةُ لِلْعُمْرَةِ حَسْبَ شُرُوطِ صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ في صَبَاحِ اليَوْمِ الرَّابعِ إلى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَالُوا لَهُ: قُلْ لِصَاحِبِكَ اخْرُجْ عَنَّا فَقَدْ مَضَى الأَجَلُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَخَرَجَ (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الحَاكِمِ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . فَأَتاهُ حُوَيْطِبُ بنُ عَبْدِ العُزَّى في نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ في اليَوْمِ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من لم يدخل الكعبة - رقم الحديث (1600). قال النوويُّ فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (4/ 266): قال العلماءُ: سببُ ترك دخوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان في البيتِ من الأصنام والصُّور، ولم يكن المشركون يتركونه ليُغيّرها، فلما كان في الفتح -أي فتح مكة- أمر بإزالة الصور، ثم دخلها. وقال الحافظ: ويحتمل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط يوم الحديبية، فلو أراد دخوله لمنعوه كما منعوه من الإقامة بمكَّة زيادة على الثلاث أيام، فلم يقصد دخوله لِئَلَّا يمنعوه. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عمرة القضاء - رقم الحديث (4251) - وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة - باب المصالحة على ثلاثة أيام - رقم الحديث (3184).

* الرسول -صلى الله عليه وسلم- يسأل عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه-

الثَّالِثِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ قَدِ انْقَضَى أَجَلُكَ فَاخْرُجْ عَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ". قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا في طَعَامِكَ، فَاخْرُجْ عَنَّا، فَخَرَجَ بِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى أَعْرَسَ بِهَا بِسَرِفٍ (¬1). * الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْأَلُ عَنْ خَالِدٍ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ في عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، تَغَيَّبْتُ، وَلَمْ أَشْهَدْ دُخُولَهُ، فَكَانَ أَخِي الوَلِيدُ بنُ الوَليدِ، قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في عُمْرَةِ القَضيَّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، وَكتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقَلَكَ، وَمِثْلُ الإِسْلَامِ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؟ قَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْكَ، فَقَالَ: "أَيْنَ خَالِدٌ؟ " فَقُلْتُ يَأْتِي اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجِدَّهُ المُسْلِمِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلقدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ"، فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، وَقَدْ فَاتَتْكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ، نَشِطْتُ لِلْخُرُوجِ وَزَادَنِي رَغْبَةً في الإِسْلَامِ (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر نكاح ميمونة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6875). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 350).

* قضاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ابنة حمزة رضي الله عنها

قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا الحَدَثُ سَبَبَ إِسْلَامِ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه-. * قَضَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في ابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ، تَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَاسْمُهَا عُمَارَةُ، وتنادِيهِ: يَا عَمِّ يَا عَمِّ (¬1)! فتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، احْمِلِيهَا. فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ بنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلُمُّوا أَقْضِ بَيْنَكُمْ فِيهَا". فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا أَخَذْتُهَا، وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَعِنْدِي ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهِيَ أَحَقُّ بِهَا، وَقَالَ جَعْفَرٌ -رضي اللَّه عنه-: ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا (¬2) تَحْتِي (¬3)، وَقَالَ زَيْدٌ -رضي اللَّه عنه-: ابْنَةُ أَخِي (¬4). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 292): كأنها خاطبت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك إجلالًا لَهُ، وإلا فهو ابن عمها، أو بالنسبة إلى كون حمزة، وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة. (¬2) خالتها هي أسماءُ بنتُ عُميس الخَثْعَمِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وقد وقع التصريح باسمها في رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (770). واسم أُم عُمَارَةَ هذه: سلمى بنت عُميس. (¬3) تحتي: أي زوجتي. انظر فتح الباري (8/ 293). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 727): ذكر أصحاب المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرَّتين: الأولى: قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمُناصرة، فكان من ذلك أخُوَّة زيد بن حارثة -رضي اللَّه عنه- وحمزة بن عبد المطَّلب -رضي اللَّه عنه-. وأخوة عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-، والزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه-. كما أخرج ذلك البخاري في =

* فوائد الحديث

فَقَضى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِجَعْفَرَ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا عِنْدَهُ، وَقَالَ: "الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ" (¬1)، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ" (¬2)، وَقَالَ لِجَعْفَرَ -رضي اللَّه عنه-: "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي" (¬3)، وَقَالَ لِزَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-: "أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا" (¬4). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ، وَفِي هَذِهِ القِصَّةِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - تَعْظِيمُ صِلَةِ الرَّحِمِ، بِحَيْثُ تَقَعُ المُخَاصَمَةُ بَيْنَ الكِبَارِ في التَّوَصُّلِ إِلَيْهَا. 2 - أَنَّ الحَاكِمَ يُبَيِّنُ دَلِيلَ الحُكْمِ لِلْخَصْمِ. 3 - أَنَّ الخَصْمَ يُدْلِي بِحُجَّتِهِ. ¬

_ = الأدب المفرد - رقم الحديث (442) وإسناده صحيح. الثَّانية: ثم آخي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر، وذلك بعد قدومه المدينة. (¬1) في رواية الإِمام أحمد في مسنده قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإن الخالة والدة". قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 294): أي في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحُنُوِّ والشفقةِ والاهتداء إلى ما يصلح الولد. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 294): أي في النسب والصهر والمسابقةِ والمحبَّة وغير ذلك من المزايا, ولم يرد محض القرابة وإلا فجعفر شريكُه فيها. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 294): وهذه منقبة عظيمةٌ لجعفر -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرج قصة تخاصمهم في ابنةِ حمزةَ -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب عمرة القضاء - رقم الحديث (4251) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (770) - وأبو داود في سننه - كتاب الطلاق - باب من أحق بالولد - رقم الحديث (2278).

* شأن عمارة رضي الله عنها

4 - وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الخَالة في الحَضَانَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى العَمَّةِ؛ لِأَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ عَبْدِ المُطَّلِبِ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَئِذٍ، وَإِذَا قُدِّمَتْ عَلَى العَمَّةِ مَعَ كَوْنِهَا أَقْرَبَ العَصَبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا (¬1). * شَأْنُ عُمَارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَمْ تَزَلْ عُمَارَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَ جَعْفَرَ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، فَأَوْصَى بِهَا إلى عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، فَمَكثتْ عِنْدَهُ حَتَّى بَلَغَتْ، فَعَرَضَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هِيَ ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ"، فزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَمَةَ بنَ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "هَلْ جَزَيْتُ سَلَمَةَ؟ " (¬2). * زَوَاجُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَفِي هَذِهِ العُمْرَةِ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحَارِثِ الهِلَالِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةُ فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَيْمُونَةُ (¬3)، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ زَوْجِ العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأُخْتُ عَصْمَاءَ لُبَابَةِ الصُّغْرَى بِنْتِ الحَارِثِ أُمِّ خَالِدٍ بنِ الوَليدِ، وَهِيَ أَيْضًا أُخْتُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 294). (¬2) قال الحافظ في الإصابة (8/ 23): وذلك أَنَّ سلمة هو الذي كان زَوَّج أمه أم سلمة من رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد تقدم ذكر ذلك-. (¬3) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أم المُؤْمنين ميمونة بنت الحارث رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6873) وإسناده حسن.

أَسْمَاءَ وَسَلْمَى ابْنَتَيْ عُمَيْسٍ لِأُمِّهِمَا، وَهِيَ خَالَةُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ، وَخَالِدِ بنِ الوَليدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَزَوَّجَتْ في الجَاهِلِيَّةِ مَسْعُودَ بنَ عُرْوَةَ الثَّقَفِيَّ، فَفَارَقَهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا في الإِسْلَامِ أَبُو رُهْمِ بنُ عَبْدِ العُزَّى، فَمَاتَ عَنْهَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في وَقْتِ فَرَاغِهِ مِنْ عُمْرَةِ القَضَاءِ، وَبَنَى بِهَا بِسَرِفٍ (¬1). رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَرِفٍ، وَهُمَا حَلَالَانِ (¬2) بَعْدَمَا رَجَعَا مِنْ مَكَّةَ (¬3). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ بَيْنَهُمَا (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ يَزِيدَ بنِ الأَصَمِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الحَارِثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ: وَكَانَتْ ¬

_ (¬1) سَرِف: بفتح السين وكسر الراء: موضع من مكة على عشرة أميال منها. انظر النهاية (2/ 326). (¬2) حَلالان: أي غير محرمين. (¬3) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1411) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4138) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5803). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب الحج - باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم - رقم الحديث (857) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5800).

* وهم ابن عباس رضي الله عنهما

خَالَتِي وَخَالَةَ ابنِ عَبَّاسٍ (¬1). * وَهْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا: قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ (¬2)، فَقَدْ عُدَّ مِنْ أَوْهَامِهِ -رضي اللَّه عنه-. رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَهِمَ ابنُ عَبَّاسٍ في تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ (¬3). قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاخْتُلِفَ عَنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، هَلْ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ حَلَالًا أَمْ حَرَامًا؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَزَوَّجَهَا مُحْرِمًا، وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ -رضي اللَّه عنه-: تَزَوَّجَهَا حَلَالًا، وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُ أَبِي رَافِعٍ أَرْجَحُ لِعِدَّةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ رَجُلَا بَالِغًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مِمَّنْ بَلَغَ الحُلُمَ، بَلْ كَانَ لَهُ نَحْوَ العَشْرِ سِنِينَ، فَأَبُو رَافِعٍ إِذْ ذَاكَ كَانَ أَحْفَظَ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ الرَّسُولَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبَيْنَهَا، وَعَلَى يَدِهِ دَارَ الحَدِيثُ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ، وَقَدْ أَشَارَ بِنَفْسِهِ إلى هَذَا إِشَارَةَ مُتَحَقِّقٍ لَهُ، وَمُتيَقَنٍ وَلَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ غَيْرِهِ، بَلْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تحريم نكاح المحرم - رقم الحديث (1411) - وأخرجه والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5802). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب نكاح المحرم - رقم الحديث (5114). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب المحرم يتزوج - رقم الحديث (1845).

الثَّالِثُ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ في تِلْكَ العُمْرَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ عُمْرَةَ القَضِيَّةِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ ذَاكَ مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ في مَكَّةَ الذِينَ عَذَرَهُمُ اللَّهُ مِنَ الوِلْدَانِ (¬1)، وَإِنَّمَا سَمِعَ القِصَّةَ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ مِنْهُ لَهَا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، بَدَأَ بِالطَّوَافِ بِالبَيْتِ، ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَحَلَقَ، ثُمَّ حَلَّ. وَمِنَ المَعْلُومِ: أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَتَزَوَّجْ بِهَا في طَرِيقِهِ، وَلَا بَدَأَ بِالتَّزْوِيجِ بِهَا قَبْلَ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَلَا تَزَوَّجَ في حَالِ طَوَافِهِ، هَذَا مِنَ المَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، فَصَحَّ قَوْلُ أَبِي رَافِعٍ يَقِينًا. الخَامِسُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ غَلَّطُوا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُغَلِّطُوا أبَا رَافِعٍ. السَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَ أَبِي رَافِعٍ مُوَافِقٌ لِنَهْي النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ نِكَاحِ المُحْرِمِ (¬2)، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُخَالِفُهُ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا لِنَسْخِهِ، وَإِمَّا لِتَخْصِيصِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِجَوَازِ النكَاحِ مُحْرِمًا، وَكِلَا الأَمْرَيْنِ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَلَا يُقْبَلُ. ¬

_ (¬1) روى الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4578) - عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين. (¬2) أخرج نهيَ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نِكاح المُحرم: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب تحريم نكاح المحرم - رقم الحديث (1409) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5793) من حديث عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه-.

* فضائل ميمونة رضي الله عنها ووفاتها

السَّابِعُ: أَنَّ ابْنَ أُخْتِهَا يَزِيدَ بنَ الأَصَمِّ شَهِدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تزَوَّجَهَا حَلَالًا، قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالة ابْنِ عَبَّاسٍ (¬1). * فَضَائِلُ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَوَفَاتُهَا: وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ سَادَاتِ النِّسَاءَ، فَقَدْ رَوَى الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ذَهَبَتْ وَاللَّهِ مَيْمُونَةُ، وَكَانَتْ مِنْ أَتْقَانَا للَّهِ، وَأَوْصلِنَا لِلرَّحِمِ (¬2). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ وَابْنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأَخَوَاتُ مُؤْمنَاتٌ: مَيْمُونَةُ، وَأُمُّ الفَضْلِ (¬3)، وَأَسْمَاءُ (¬4) ". ¬

_ (¬1) انظر كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد (5/ 103). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أم المُؤْمنين ميمونة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6778) - وأورده الحافظ في الإصابة (8/ 324) وصحح إسناده. (¬3) أمُّ الفضل: هي لُبابة الكبرى بنت الحارث زوجة العباس بن عبد المطَّلب وأخت مَيمونة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. (¬4) أسماء: هي بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة لأمها، وزوجة جعفر بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فلما قُتِلَ عنها في مُؤتة تزوجها أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. والحديث أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر أم المُؤْمنين ميمونة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (6880) - وابن سعد في طبقاته (8/ 315) - وصحح إسناده الحافظ في الإصابة (8/ 323).

وَتُوُفِّيَتْ مَيْمُونَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَنَةً إِحْدَى وَخَمْسِينَ لِلْهِجْرَةِ، بِسَرِفٍ في نَفْسِ المَكَانِ الذِي تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ (¬1). فَقَدْ رَوَى ابنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ يَزِيدَ بنِ الأَصَمِّ قَالَ: مَاتَتْ مَيْمُونَةُ بَسَرِفٍ، فَدَفَنَّاهَا في الظُّلَّةِ التِي بَنَى بِهَا فِيهَا، فنَزَلْتُ في قَبْرِهَا أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا وَضَعْنَاهَا فِي اللَّحْدِ، مَالَ رَأْسُهَا، وَأَخَذْتُ رِدَائِي فَوضَعْتُهُ تَحْتَ رَأْسِهَا، فَاجْتَذَبَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) قال الحافظ في تهذيب التهذيب (4/ 689): وهو الصحيح. (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب النكاح - باب حرمة المناكحة - رقم الحديث (4134).

الأحداث من عمرة القضاء إلى فتح مكة

الأَحْدَاثُ مِنْ عُمْرَةِ القَضَاءِ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ سَرِيَّةُ الأخْرَمِ بنِ أبِي العَوْجَاءِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عُمْرَةِ القَضَاءِ بَعَثَ الْأَخْرَمَ بْنَ أَبِي العَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ -رضي اللَّه عنه-، في ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ لِلْهِجْرَةِ، في خَمْسِينَ رَجُلًا إلى بَنِي سُلَيْمٍ؛ لِيَدْعُوهُم إلى الإِسْلَامِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، وَتَقَدَّمَهُ عَيْنٌ لَهُمْ كَانَ مَعَهُ فَحَذَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِخُرُوجِهِ، فَجَمَعُوا لَهُ جَمْعًا كَثِيرًا، فَجَاءَهُمُ الْأَخْرَمُ بْنُ أَبِي العَوْجَاءِ، وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ، فَدَعَاهُمْ إلى الإِسْلَامِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إلى مَا دَعَوْتَنَا إِلَيْهِ، فترَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، وَجَعَلَتِ الأَمْدَادُ تَأْتِيهِمْ حَتَّى أَحْدَقُوا (¬1) بِابْنِ أَبِي العَوْجَاءِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَقَاتَلَ القَوْمُ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى قُتِلَ عَامَّةُ المُسْلِمِينَ، وَأُصيبَ الْأَخْرَمُ بْنُ أَبِي العَوْجَاءَ جَرِيحًا مَعَ القَتْلَى، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى بَلَغَ المَدِينَةَ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَذَلِكَ في أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) كلُّ شيءٍ استدار بشيء وأحاطَ به، فقد أحدق به. انظر لسان العرب (3/ 87). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 311) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 341).

السنة الثامنة للهجرة

السَّنَةُ الثَّامِنةُ لِلهِجْرَةِ وَفَاةُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَوَائِلِ العَامِ الثَّامِنِ الهِجْرِيِّ، تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَزْوَجُة أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-، وَهِيَ أَكْبَرُ بَنَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، وَيُثْنِي عَلَيْهَا (¬1)، عَاشَتْ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً (¬2). وَقَدْ وَلَدَتْ زَيْنَبُ مِنْ أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ: أُمَامَةَ، وَهِيَ التِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْمِلُهَا فِي الصَّلَاةِ (¬3)، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وَوَلَدَتْ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ: عَلِيًّا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْدَفَهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ الفَتْحِ، وَتُوُفِّيَ وَقَدْ نَاهَزَ الحُلُمَ ¬

_ (¬1) ذكرنا فيما تقدم أن رَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أثنى عليها لما هاجرت إلى المدينة، فراجعه. (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 334). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب إذا حمل جارية صغيرة على عُنقُه في الصلاة - رقم الحديث (516) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب جواز حمل الصبيان في الصلاة - رقم الحديث (543). (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 246).

فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغْسِلْنَهَا وِتْرًا، ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا، وَاجْعَلْنَ فِي الخَامِسَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كافُورٍ، فَإِذَا غَسَلْتُنَّهَا فَأَعْلِمْنَنِي"، قَالَتْ: فَأَعْلَمْنَاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ (¬2)، وَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا (¬3) إِيَّاهُ" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) انظر الإصابة (4/ 469) - سير أعلام النبلاء (2/ 246). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 469): حِقْوَهُ: بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد به هنا الإزار. (¬3) أي اجعلنَه شعارها، والشِّعار: الثوب الذي يلي الجَسَد؛ لأنه يلي شعره. انظر النهاية (2/ 429). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر - رقم الحديث (1253) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في غسل الميت - رقم الحديث (939) (40) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20790).

تحريم الخمر

تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ حُرِّمَتِ الخَمْرُ تَحْرِيمًا نِهَائيًّا، وَوَقَعَ عِنْدَ ابنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّهَا حُرِّمَتْ أَثْنَاءَ حِصَارِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِبَنِي النَّضِيرِ (¬1). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: ذَكَرَ ابنُ إِسْحَاقَ أَنَّ تَحْرِيمَ الخَمْرِ كَانَ فِي وَاقِعَةِ بَنِي النَّضِيرِ، وَهِيَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ السَّاقِيَ يَوْمَ حُرِّمَتْ، وَأَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ المُنَاديَ بِتَحْرِيمِهَا بَادَرَ فَأَرَاقَهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعٍ لَكَانَ أَنَسٌ يَصْغُرُ عَنْ ذَلِكَ، وَالذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَانَ عَامَ الفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ. لِمَا رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ -وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ- مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ وَعْلة قَالَ: سَأَلْتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ بَيْعِ الخَمْرِ، فَقَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدِيقٌ مِنْ ثَقِيفٍ، أَوْ مِنْ دَوْسٍ، فَلَقِيَهُ بِمَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ بِرَاوِيَةِ (¬2) خَمْرٍ يُهْدِيهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أبَا فُلَانٍ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا؟ "، فَأَقبُلَ الرَّجُلُ عَلَى غُلَامِهِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَبِعْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَبَا فُلَانٍ، بِمَاذَا أَمَرْتهُ؟ " قَالَ: أَمَرتُهُ أَنْ يَبِيعَهَا، فَقَالَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (3/ 211). (¬2) الراوية: المزادة. انظر لسان العرب (5/ 380).

* مراحل تحريم الخمر

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا"، فَأَمَرَ بِهَا فَأُفْرِغَتْ فِي البَطْحَاءِ (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يُهْدِي لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّ عَامٍ رَاوِيَةَ خَمْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ حُرِّمَتْ جَاءَ بِرَاوِيَةٍ فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ شَعَرْتَ أَنَّهَا قَدْ حُرِّمَتْ بَعْدَكَ؟ " فَقَالَ تَمِيمٌ: أَفَلَا أَبِيعُهَا وَأَنْتَفِعُ بِثَمَنِهَا؟ فنَهَاهُ (¬2). فيسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ تَمِيمٍ تَأْيِيدُ الوَقْتِ المَذْكُورِ -وَهُوَ العَامُ الثَّامِنُ الهِجْرِيُّ- فَإِنَّ إِسْلَامَ تَمِيمٍ كَانَ بَعْدَ الفَتْحِ (¬3). * مَرَاحِلُ تَحْرِيمِ الخَمْرِ: مَرَّ تَحْرِيمُ الخَمْرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ: * المَرْحَلَة الأُوَلى: مَرْحَلَةَ إِطْلَاقِ سَهْمٍ فِي الِاتِّجَاهِ حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر - رقم الحديث (1579) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2041). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17995) - وأورده الحافظ في الفتح (9/ 162) وسكت عليه. (¬3) انظر فتح الباري (9/ 161) - (11/ 150). (¬4) سورة النمل آية (67).

* المرحلة الثانية

فَكَانَتْ أَوَّلَ مَا يَطْرُقُ حِسَّ المُسْلِمِ مِنْ وَضْعِ السُّكْرِ (وَهُوَ الخَمْرُ) فِي مُقَابِلِ الرِّزْقِ الحَسَنِ. . . فَكَأَنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَالرِّزْقُ الحَسَنُ شَيْءٌ آخَرُ. * المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ تَحْرِيكُ الوُجْدَانِ الدِّينِيِّ عَنْ طَرِيقِ المَنْطِقِ التَّشْرِيعِيِّ فِي نُفُوسِ المُسْلِمِينَ حِينَ نَزَلَتْ التِي فِي سُورَةِ البَقَرَةِ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1). وَفي هَذَا إِيحَاءٌ بِأَنَّ تَرْكَهُمَا هُوَ الأَوْلَى مَا دَامَ الإِثْمُ أَكْبَرُ مِنَ النَّفْعِ. * المَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ كَسْرُ عَادَةِ الشَّرَابِ، وَإِيقَاعُ التَّنَافُرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَرِيضَةِ الصَّلَاةِ حِينَ نَزَلَتِ التِي فِي النِّسَاءِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬2). وَالصَّلَاةُ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ مُعْظَمُهَا مُتَقَارِبٌ، وَلَا يَكْفِي مَا بَيْنَهُمَا لِلسُّكْرِ، ثُمَّ الإِفَاقَةِ. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (219). (¬2) سورة النساء آية (43).

* سبب نزول آية

* سَبَبُ نُزُولِ آيَةٍ: وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ قَوْلُه تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- طَعَامًا، فَدَعَانَا فَأَكَلْنَا، وَسَقَانَا مِنَ الخَمْرِ، فَأَخَذَتْ فِينَا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَقَدَّمُونِي (¬1)، فَقَرَأْتُ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ. . .} (¬2). قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: سَمِعْتُ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنَادِي: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا يَقْرَبَنَّ الصَّلَاةَ سَكْرَانٌ" (¬3). * المَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالأَخِيرَةُ: ثُمَّ كَانَتِ المَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ: الحَاسِمَةُ وَالأَخِيرَةُ، وَقَدْ تَهَيَّاَتِ النُّفُوسُ لَهَا تَهَيُّؤًا كَامِلًا، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّهْيُ حَتَّى تَتْبَعَهُ الطَّاعَةُ الفَوْرِيَّةُ وَالإِذْعَانُ، فنَزَلَ قَوْلُهُ ¬

_ (¬1) في رواية أخرى عند الطحاوي: فقدموا عليًا في صلاة المغرب. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة النساء - رقم الحديث (3275) - وأبو داود في سننه - كتاب الأشربة - باب تحريم الخمر - رقم الحديث (3275) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4776) (4777). (¬3) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1494).

تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: حُرِّمَتِ الخَمْرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، وَيَأْكُلُونَ المَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬2). فَقَالَ النَّاسُ: مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا، إِنَّمَا قَالَ: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وَكَانُوا يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ مِنَ الأَيَّامِ، صَلَّى رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ، أَمَّ أَصْحَابَهُ فِي المَغْرِبِ، خَلَطَ فِي قِرَاءَتِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا آيَةً أَغْلَظَ مِنْهَا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬3)، فَكَانَ النَّاسُ يَشْرَبُونَ حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمُ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُفِيقٌ. ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةٌ أَغْلَظُ مِنْ ذَلِكَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (90) - وانظر في ظلال القرآن لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2/ 974). (¬2) سورة البقرة آية (219). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (1/ 579): أما إثمُهُمَا فهو في الدِّين، وأما المنافع فدُنيوية، من حيث إِنَّ فيها نفع البدن، وتهضيمُ الطعام، وإخراجُ الفَضَلات، وتشحيذ -أي تحرك- بعض الأذهان، ولذة الشدة المُطربة التي فيها، وكذا بيعها والاتفاع بثمنها، وما كان يُقمِّشه -أي يجمعه- بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالحُ لا تُوَازي مضَرَّته ومفسدته الراجحة؛ لتعلقها بالعقل والدين. (¬3) سورة النساء آية (43).

* سبب نزول آية

وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1)، فَقَالُوا: انْتَهَيْنَا رَبَّنَا (¬2). * سَبَبُ نُزُولِ آيَةٍ: جَاءَ فِي سَبَبِ نزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِ الخَمْرِ تَحْرِيمًا نِهَائِيًّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . أَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَالمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: تَعَالَ نُطْعِمْكَ وَنَسْقِيكَ خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الخَمْرُ، قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فِي حَشٍّ (¬3) فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ (¬4) مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَزِقٌّ (¬5) مِنْ خَمْرٍ، قَالَ: فَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذُكِرَتِ الأَنْصَارُ وَالمُهَاجِرُونَ عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: المَهُاجِرُونَ خَيْر مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَحَدَ لَحْيَيِ (¬6) الرَّأْسِ فَضَرَبَنِي بِهِ فَجَرَحَ بِأَنْفِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرتُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيَّ -يَعْنِي نَفْسَهُ- شَأْنَ الخَمْرِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬7). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (90). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8620). (¬3) الحَشُّ: بفتح الحاء وهو البستان. انظر النهاية (1/ 376). (¬4) الجَزُور: البعير، ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬5) الزِّقُّ: بكسر الزاي: كل وعاء اتخذ لشراب ونحوه. انظر لسان العرب (6/ 60). (¬6) اللحيان: هما العَظْمَان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم. انظر لسان العرب (12/ 259). (¬7) سورة المائدة آية (90) - والخبر أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2412) (43).

وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الأَنْصَارِ، شَرِبُوا حَتَّى إِذَا ثَمِلُوا (¬1)، عَبَثَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، فَلَمَّا صَحَوْا جَعَلَ الرَّجُلُ يَرَى الأَثَرَ بِوَجْهِهِ وَبِرَأْسِهِ وَلحْيَتِهِ، فَيَقُولُ: فَعَلَ بِي هَذَا أَخِي فُلَان، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ بِي رَؤُوفًا رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي، قَالَ: وَكَانُوا إِخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ (¬2)، فَوَقَعَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الضَّغَائِنُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . .} إِلَى قَوْلُه تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، فَدُعِيَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، فَدُعِيَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ¬

_ (¬1) الثَّمِلُ: هو الذي أخَذَ منه الشراب والسكر. انظر النهاية (1/ 216). (¬2) الضَّغَائنُ: جمع ضِغْنٍ: بكسر الضاد، وهو الحقد والعداوة والبغضاء. انظر النهاية (3/ 84). (¬3) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} - رقم الحديث (11086) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الأشربة - باب ذكر أحاديث تحريم الخمر - رقم الحديث (7301) وصحح إسناده الحافظ في الفتح (11/ 150).

اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فنَزَلَتْ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ بِالمَدِينَةِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! (¬2) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ (¬3) بِالخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْهَا فَلْيَبِعْهُ، وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ"، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّم الخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ (¬4) وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْهَا فَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَبِعْ". قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا، فِي طَرِيقِ المَدِينَةِ، فَسَفَكُوهَا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (378) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب قصة نزول تحريم الخمر - رقم الحديث (3155) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة المائدة - رقم الحديث (3301). (¬2) في رواية الحاكم قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أهل المدينة". (¬3) يُعرض لي بالشيء: لم يُبينه. انظر لسان العرب (9/ 149). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (11/ 4): هي قوله تَعَالَى في سورة المائدة آية (91): {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ. . . فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب تحريم الخمر - رقم الحديث (1578) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب قصة نزول تحريم الخمر - رقم الحديث (3156).

* سرعة استجابة الصحابة رضي الله عنهم لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* سُرْعَةُ اسْتِجَابَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ سَكَبَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الخُمُورَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ فَوْرًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ سَاقِيَ القَوْمَ يَوْمَ حُرِّمَتِ الخَمْرُ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ قَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ: فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: اخْرُجْ فَانْظُرْ، قَالَ: فَخَرَجتُ فنَظَرْتُ، فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا ينَادِي: أَلَا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَخْبَرتُهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا، قَالَ: فَجِئْتُ فَأَهْرَقْتُهَا (¬1). وَفِي رِوَايَةِ البُخَارِيِّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا قَالُوا: مَتَى؟ أَوْ حَتَّى نَنْظُرَ، قَالُوا: يَا أَنَسُ! أَهْرِقْهَا (¬2). * سُؤَالُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَن إِخوَانِهِمُ الذِينَ مَاتُوا: وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَمْرَ إِخْوَانِهِمُ الذِينَ مَاتُوا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَهَا، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ البَرَاءِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: مَاتَ نَاسٌ مِنْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المظالم - باب صب الخمر في الطريق - رقم الحديث (2464) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأشربة - باب تحريم الخمر - رقم الحديث (1980) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13376). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (946).

أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُمْ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا، قَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا، فنَزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1). * * * ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (93). والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الأشربة - باب فصل في الأشربة - رقم الحديث (5350) - وأخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة المائدة - رقم الحديث (3303) - وله شاهد من حديث أنس، أخرجه البخاري - رقم الحديث (4620) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1980).

إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم

إِسْلامُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ وَعَمْرِو بنِ العَاصِ وَعُثْمَانَ بنِ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَفِي صَفَرَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ قَدِمَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ، وَعَمْرُو بنُ العَاصِ، وَعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى المَدِينَةِ لِيُسْلِمُوا، فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "رَمَتْكُمْ مَكَّةُ بِأَفْلَاذِ (¬1) أَكبَادِهَا" (¬2). وَلْنَتْرُكْ عَمْرَو بنَ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- يَرْوِي لَنَا خَبَرَ إِسْلَامِهِ كَمَا رَوَاهَا عَنْهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، قَالَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الأَحْزَابِ عَنِ الخَنْدَق، جَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ مَكَانِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو الأُمُورَ عُلوا كَبِيرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، فَمَا ترَوْنَ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ، فَنَكُونَ عِنْدَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى ¬

_ (¬1) الأفلاذُ: جمع فِلَذ، والفِلَذ: جمع فِلْذَة، وهي القِطعة المقطوعة طولًا، وخص الكبد، لأنها من أطايب الجزور، ومعنى هذا الحديث: أراد صميم قريش ولُبَابها وأشرافها، كما يقال: فلان قلب عشيرته؛ لأن الكبد من أشرف الأعضاء. انظر النهاية (3/ 422). (¬2) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 346 - 347).

قَوْمِنَا، كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا، فَلَنْ يَأْتِينَا مِنْهُمْ إِلَّا خَيْرًا. فَقَالوا: إِنَّ هَذَا الرَّأْيُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: فَاجْمَعُوا لَهُ مَا نُهْدِي لَهُ، وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأُدُمُ (¬1)، فَجَمَعْنَا لَهُ أُدُمًا كَثِيرًا، فَخَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ جَعْفَرَ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بنُ أُمَيَّةَ، لَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلتهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ، فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي قَدْ أَجْزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَجَدْتُ له كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَيّها المَلِكُ، قَدْ أَهْدَيْتُ لَكَ أُدُمًا كَثِيرًا. قَالَ: ثُمَّ قَدَّمْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ. ¬

_ (¬1) الأُدُمُ: جمع أديم وهو: الجلد. انظر لسان العرب (1/ 97).

ثُمَّ قُلْتُ له: أَيُّهَا المَلِكُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوِّ لَنَا، فَاَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا. قَالَ عَمْرٌو: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ كَسَرَهُ، فَلَوْ انْشَقَّتْ لِيَ الأَرْضُ لَدَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا (¬1) مِنْهُ. ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا المَلِكُ، وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ. فَقَالَ: أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبرُ (¬2) الذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ؟ ! فَقَالَ عَمْرٌو: أَيُّهَا المَلِكُ، أَكَذَاكَ هُوَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَمْرُو، أَطِعْنِي وَاتْبَعْهُ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَعَلَى الحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. فَقَالَ عَمْرٌو: فَبَايِعْنِي له عَلَى الإِسْلَامِ. قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ وَبَايَعْتُهُ عَلَى الإِسْلَامِ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي، وَقَدْ حَالَ رَأْيِي عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَكتَمْتُ أَصْحَابِي إِسْلَامِي، ثُمَّ خَرَجْتُ عَامِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأُسْلِمَ، فَلَقِيتُ خَالِدَ بنَ الوَليدِ، وذَلِكَ قُبَيْلَ الفَتْحِ، وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكَّةَ، فَقُلْتُ: أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ؟ ¬

_ (¬1) الفَرَق: بالتحريك: الخوف والفزع. انظر النهاية (3/ 392). (¬2) النامُوس الأكبر: صاحب سِرِّ الخير، وأراد به جبريل عليه السلام. انظر النهاية (5/ 104).

قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَقَامَ المَنْسِمُ (¬1)، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ، أَذْهَبُ وَاللَّهِ أُسْلِمُ، فَحَتَّى مَتَى؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا جِئْتُ إِلَّا لِأُسْلِمَ. قَالَ عَمْرٌو: فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدِمَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ، فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ، ثُمَّ دَنَوْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي. (¬2) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَمْرُو، بَايع، فَإِنَّ الإِسْلَامَ يَجُبُّ (¬3) مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الهِجْرَةُ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا". قَالَ عَمْرٌو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَبَايَعْتُهُ ثُمَّ انْصَرَفْتُ (¬4) عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وَآمنَ عَمْرُو بنُ العَاصِ" (¬5). ¬

_ (¬1) المنسم: معناه تبين الطريق. انظر النهاية (5/ 42). (¬2) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد بسند صحيح - رقم الحديث (17827) قال عمرو -رضي اللَّه عنه-: لا أبايعكَ يا رَسُول اللَّهِ حتى تَغْفِرَ لي ما تقدم من ذنبي. (¬3) يَجُبُّ: أي يقطع ويمحو ما كان قبله من الكفر والمعاصي والذنوب. انظر النهاية (1/ 227). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17777) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر إسلام خالد بن الوليد - رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5345) (5966) - وابن إسحاق في السيرة (3/ 303). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرو -رضي اللَّه عنه- في نهاية الحديث: "الإسلام يجب ما قبله. . " أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب كون الإسلام يهدم ما قبله. . رقم الحديث (121). (¬5) هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17413) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب عمرو بن العاص - رقم الحديث (4179) - وإسناده حسن.

* وفاة عمرو بن العاص -رضي الله عنه-

قَالَ المبارَكْفُورِي: وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ -أَيْ مُسْلِمَةُ الفَتْحِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ- أَسْلَمُوا رَهْبَةً، وَآمَنَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- رَغْبَةً، فَإنَّ الإِسْلَامَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَشُوبَهُ كَرَاهَةٌ، وَالإِيمَانُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ رَغْبَةٍ وَطَوَاعِيَةٍ (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنِي مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأنَي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنِي مِنْهُ (¬2). وَلَمَّا أَسْلَمَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه- كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَرِّبهُ وَيُدْنِيهِ لِمَعْرِفَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ رَأْيًا، وَدَهَاءً، وَحَزْمًا، وَكَفَاءَةً، وَبَصَرًا بِالحُرُوبِ، وَمِنْ أَشْرَافِ مُلُوكِ العَرَبِ، وَمِنْ أَعْيَانِ المُهَاجِرِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ فِي الدَّهَاءَ، وَالفِطْنَةِ وَالحَزْمِ (¬3). * وَفَاةُ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-: وَتُوُفِّيَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ لِلْهِجْرَةِ، وَعُمْرُهُ بِضْعٌ وثَمَانُونَ سَنَةً، مَا بَلَغَ التِّسْعِينَ -رضي اللَّه عنه-، وَخَلَّفَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَعَبِيدًا، وَعَقَارًا (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تحفة الأحوذي (10/ 316). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب كون الإسلام يهدم ما قبله - رقم الحديث (121). (¬3) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 59). (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 77).

أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ المَهْرِيِّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بنَ العَاصِ وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ المَوْتِ، فبكَى طَوِيلًا وَحَوَّل وَجْهَهُ إِلَى الجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِكَذَا؟ ، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِكَذَا؟ . قَالَ: فَأَقْتلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ (¬1) ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنِّي، وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقتَلْتُهُ، فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلِأبايِعُكَ، فبسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَالَكَ يَا عَمْرُو؟ " قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ ". قَالَ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ". قَالَ عَمْرٌو: وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا أَجَلَّ فِي ¬

_ (¬1) أطباق: أي أحوال. انظر النهاية (3/ 105).

* قصة إسلام خالد بن الوليد -رضي الله عنه-

عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنِي مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأنَي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنِي مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ وَلينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ، فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا (¬1) عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ (¬2)، وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجعُ بِهِ رُسُلَ رَبَي (¬3). * قِصَّةُ إِسْلَامِ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-: وَأَمَّا خَالِدُ بنُ الوَليدِ للَّه، فَقَدْ أَخْرَجَ قِصَّةَ إِسْلَامِهِ البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، قَالَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- وَهُوَ يتحَدَّثُ عَنْ قِصَّةِ إِسْلَامِهِ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا أَرَادَ بِي مِنَ الخَيْرِ، قَذَفَ فِي قَلْبِي الإِسْلَامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، وَقُلْتُ: قَدْ شَهِدْتُ هَذِهِ المَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إِلَّا أَنْصَرِفُ وَأَنا أَرَى فِي نَفْسِي أني مُوضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- سَيَظْهَرُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الحُدَيْبِيَةِ، خَرَجْتُ فِي خَيْلِ المُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَصْحَابِهِ بِعُسْفَانَ، فَقُمْتُ بِإِزَائِهِ، وَتَعَرَّضْتُ له، فَصلَّى بِأَصْحَابِهِ ¬

_ (¬1) الشنُّ: الصَبُّ المتقطع. انظر النهاية (2/ 453). (¬2) الجَزُور: البَعِيرُ ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب كون الإسلام يهدم ما قبله - رقم الحديث (121).

الظُّهْرَ أَمَامَنَا، فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا، وَكَانَتْ فِيهِ خِيرَةٌ، فَأُطْلِعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الهُمُومِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ العَصْرِ صَلَاةَ الخَوْفِ، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا، وَقُلْتُ: الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ، فَافْتَرَقْنَا، وَأَخَذْتُ ذَاتَ اليَمِينِ، فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالحُدَيْبِيَةِ، قُلْتُ فِي نَفْسِي: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ المَذْهَبُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدْ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ، فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ، فَأَخْرُجُ مِنْ دِيني إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ مَعَ عَجَمٍ تَابعٍ مَعَ عَيْبِ ذَلِكَ، أَوْ أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ. فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، فتَغَيَّبْتُ، وَلَمْ أَشْهَدْ دُخُوله، فَكَانَ أَخِي الوَلِيدُ (¬1) قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي عُمْرَةِ القَضِيَّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، وَكتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ: فَإنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقَلَكَ، وَمِثْلُ الإِسْلَامِ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؟ قَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْكَ، فَقَالَ: "أَيْنَ خَالِدٌ؟ "، فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِثْله يَجْهَلُ الإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجِدَّهُ المُسْلِمِينَ عَلَى المُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلقدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ"، فَاسْتَدْرِكْ ¬

_ (¬1) أسلمَ الوليدُ -رضي اللَّه عنه- قبلَ أخِيهِ خالد -رضي اللَّه عنه-، ولما أسلم حبسه أخواله، فكان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يدعو له في القُنُوتِ، ثبت ذلك في صحيح البخاري - رقم الحديث (6200) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (675) - ثم أفلت -رضي اللَّه عنه- من أسرهم، ولحق بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في المدينة وشهد معه عمرة القضية. انظر الإصابة (6/ 484).

يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، وَقَدْ فَاتَتْكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ خَالِدٌ: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشَطْتُ لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الإِسْلَامِ وَسُّرِّيَ (¬1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي بِلَادٍ ضَيِّقَة جَدْبَةٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلَادٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ، قُلْتُ لَأَذْكُرَنَّهَا لِأَبِي بَكْرٍ (¬2) فَذَكَرْتُهَا، فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُكَ الذِي هَدَاكَ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضِّيقُ الذِي كُنْتَ فِيهِ الشِّرْكُ. فَلَمَّا أَجْمَعْتُ الخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قُلْتُ مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى مُحَمَّدٍ؟ ، فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى العَرَبِ وَالعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ فَاتَّبَعْنَاهُ، فَإِنَّ شَرَفَ مُحَمَّدٍ لَنَا شَرَفٌ، فَأَبَى أَشَدَّ الإِبَاءِ، وَقَالَ لِي: لَوْ لَمْ يبقَ غَيْرِي مَا اتَّبعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا، وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَخُوهُ وَأَبُوهُ بِبَدْرٍ، فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بنَ أَبِي جَهْلٍ، فَقُلْتُ له مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلي، فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي تُخْرَجُ، فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ، فَذَكَرْتُ له مَا صَارَ الأَمْرُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ لَوْ صُبَّ فِيهِ ذَنُوبٌ (¬3) مِنْ مَاءٍ خَرَجَ، وَقُلْتُ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قُلْتُ لِصفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ ¬

_ (¬1) سُرِّي: بضم السين وتشديد الراء المكسورة: أي كشف. انظر النهاية (2/ 328). (¬2) كان أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- من أعبر المفسرين للرؤيا. (¬3) الذَّنوب: الدلو العظيمة. انظر النهاية (2/ 157).

وَعِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، فَأَسْرَعَ الإِجَابَةَ وَقَالَ: إِنِّي غَدَوْتُ اليَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ وَهَذِهِ رَاحِلَتِي. قَالَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-: فَاتَّعَدْتُ (¬1) أنا وَهُوَ بِيَأْجَجَ (¬2) إِنْ سَبَقَنِي أَقامَ وَإِنْ سَبَقْتُهُ أَقمْتُ عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَدْلَجْنَا (¬3) سَحَرًا فَلَمْ يَطْلُعِ الفَجْرُ حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتَّى انتهَيْنَا إِلَى الهَدَأَةِ (¬4) فنَجِدُ عَمْرَو بنَ العَاصِ بِهَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، فَقُلْنَا: وَبِكَ، قَالَ: أَيْنَ مَسِيرُكُمْ؟ مَا أَخْرَجَكُمْ؟ . قُلْنَا: مَا أَخْرَجَنَا إِلَّا الدُّخُولُ فِي الإِسْلَامِ، وَاتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ عَمْرٌو: وَذَاكَ الذِي أَقْدَمَنِي. قَالَ خَالِدٌ: فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلْنَا المَدِينَةَ، فَانَخْنَا (¬5) بِظَهْرِ الحَرَّةِ رِكَابَنَا (¬6)، فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَقِيَنِي أَخِي (¬7) فَقَالَ: أَسْرعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أُخْبِرَ بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ، فَأَسْرَعْنَا المَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ فَمَا زَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتْبَسِمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ ¬

_ (¬1) اتعدت: أي تواعدت. (¬2) يَأجَج: مكان من مكة على ثمانية أميال. انظر معجم البلدان (8/ 492). (¬3) الدلجة: هو سير الليل. انظر النهاية (2/ 120). (¬4) الهَدَأة: بفتح الهاء: موضع بين عسفان ومكة. انظر معجم البلدان (8/ 470). (¬5) أَنَاخ الإبل: أبركها فبركت. انظر لسان العرب (14/ 321). (¬6) الركاب: الإبل التي تحمل القوم. انظر لسان العرب (5/ 296). (¬7) هو الوليد بن الوليد -رضي اللَّه عنه-.

* مناقب خالد بن الوليد -رضي الله عنه-

بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحَمْدُ للَّهِ الذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْر". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ رَأَيْتَ مَا كُنْتُ أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ المَوَاطِنِ عَلَيْكَ مُعَانِدًا عَنِ الحَقِّ، فَادْعُ اللَّهَ يَغْفِرَهَا لِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بنِ الوَليدِ كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِكَ". قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدَّمَ عَمْرُو بنُ العَاصِ، وَعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ فبايَعَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ قُدُومُنَا فِي صَفَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْتُ يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ (¬1). * مَنَاقِبُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-: وَمَنَاقِبُ خَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- كَثِيرَةٌ وَغَزِيرَةٌ، فَقَدْ شَهِدَ الفَتْحَ وَحُنَيْنًا، وَتَأَمَّرَ فِي أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاحْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَلَأْمَتَهُ (¬2) فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬3)، ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (4/ 349). (¬2) اللَّأَمَة: قيل: هي الدرع، وقيل: السلاح. انظر النهاية (4/ 191). (¬3) أخرج احتباس خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- أدراعه ولأمته في سبيل اللَّه: البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} - رقم =

وَحَارَبَ أَهْلَ الرِّدَّةِ، وَمُسَيْلَمَةَ الكَذَّابَ، وَغَزَا العِرَاقَ، وَشَهِدَ حُرُوبَ الشَّامِ، وَلَمْ يبقَ فِي جَسَدِهِ قِيدُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءَ، وَعَاشَ -رضي اللَّه عنه- سِتِّينَ سَنَةً، وَقتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الأَبْطَالِ، وَمَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَلَا قَرَّتْ أَعْيُنُ الجُبنَاءَ (¬1). رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أَوْفَى -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُؤْذُوا خَالِدًا، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ صَبَّهُ اللَّهُ عَلَى الكُفَّارِ" (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: مَا لَيْلَةٌ تُهْدَى إِلَيَّ فِيهَا عَرُوسٌ أَنَا لَهَا مُحِبٌّ، أَوْ أُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ، بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الجَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ أُصَبِّحُ بِهَا العَدُوَّ (¬3). وَعَنْ قَيْسِ بنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدًا يَقُولُ: لَقَدْ مَنَعَنِي كَثِيرًا مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬4). ¬

_ = الحديث (1468) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب في تقديم الزكاة ومنعها - رقم الحديث (983). (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 366). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7091). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1476). (¬4) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 350) ونسبه إلى أبي يعلى، وقال: رجاله رجال الصحيح.

* وفاة خالد بن الوليد -رضي الله عنه-

* وَفَاةُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-: وَتُوُفِّيَ -رضي اللَّه عنه- عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ المُبَارَكِ فِي كِتَابِ الجِهَادِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدًاا لوَفَاةُ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ القَتْلَ مِنْ مَظَانِّهِ (¬1)، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إِلَّا أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي (¬2)، وَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ، وَالسَّمَاءُ تُهِلُنِي (¬3) تُمْطِرُ إِلَى صُبْحٍ، حَتَّى نُغِيرَ عَلَى الكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَانْظُرُوا فِي سِلَاحِي وَفَرَسِي، فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ (¬4). * أَيْنَ كَانَتْ وَفَاةُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-؟ : أَمَّا مَكَانُ وَفَاتِهِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدِ اضْطَرَبَتِ الرِّوَايَاتُ فِي تَحْدِيدِ مَكَانِ وَفَاتِهِ -رضي اللَّه عنه-، وَالذِي تَمِيلُ إِلَيْهِ النَّفْسُ أنه تُوُفِّيَ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَيْسَ بِحِمْصَ، لِمَا يَأْتِي: 1 - قَالَ ابنُ المبارَكِ فِي كِتَابِ الجِهَادِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ حَمَّادِ بنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ المُخْتَارِ، عَنْ عَاصِمِ بنِ بَهْدَلة، عَنْ أَبِي وَائِلٍ -ثُمَّ شَكَّ حَمَّادٌ فِي أَبِي وَائِلٍ- قَالَ: . . . فَلَمَّا تُوُفِّيَ -أَيْ خَالِد -رضي اللَّه عنه- خَرَجَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فِي ¬

_ (¬1) مَظنة الشيء: موضعه. انظر لسان العرب (8/ 272). (¬2) وفي روايته قال له: وها أنَا أموتُ على فِراشي حَتْفَ أنفي كما يَمُوتُ البعير، فلا نامت أعين الجبناء. (¬3) انهلت السماء: إذا صبَّت المطر. انظر لسان العرب (15/ 120). (¬4) أورده الحافظ في الإصابة (2/ 219).

جَنَازَيهِ، فَقَالَ: مَا عَلَى نِسَاءَ آلِ الوَليدِ أَنْ يَسْفَحْنَ (¬1) عَلَى خَالِدٍ دُمُوعَهُنَّ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعًا (¬2) أَوْ لَقْلَقَةً (¬3). 2 - ذَكَرَ أَبُو حُذَيْفَةَ فِي "المُبْتَدَأ وَالفُتُوحِ" عَنْ مُحَمَّدِ بنِ إِسْحَاقَ: لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، خَرَجَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فِي جَنَازَتِهِ، فَإِذَا أُمُّهُ تَنْدُبُهُ (¬4) وَتَقُولُ: أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ مِنَ القَوْمِ ... إِذَا مَا كُنْتَ وُجُوهِ الرِّجَالِ (¬5) 3 - وَرَوَى ابنُ سَعْدٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ كَثِيرِ بنِ هِشَامٍ، عَنْ جَعْفَرَ بنِ بَرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بنِ الأَصَمِّ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- بَكَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، أَخَالِدًا أَوْ أَجْرَهُ تَرْزَئِينَ (¬6)؟ عَزَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا تَثْبُتِ، حَتَّى تَسْوَدَّ يَدُكِ مِنَ الخِضَابِ (¬7). 4 - عَلَّقَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ (¬8). ¬

_ (¬1) السَّفْحُ: الصب. انظر لسان العرب (6/ 275). (¬2) النقع: وضع التراب على الرؤوس، من النقع: وهو الغبار. انظر النهاية (5/ 95). (¬3) اللقلقة: أرادَ الصِّيَاح والجلبة عند الموت. انظر النهاية (4/ 228). والخبر أورده الحافظ في الإصابة (2/ 219) - والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 124). (¬4) الندب: أن تذكرَ النائحة الميتَ بأحسن أوصافه وأفعاله. انظر النهاية (5/ 29). (¬5) انظر الإصابة (8/ 299). (¬6) رزأ: فقد. انظر النهاية (2/ 200). (¬7) أورده الحافظ في الإصابة (8/ 299) وصحح إسناده. (¬8) علقه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب ما يكره من النياحة على الميت.

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: هَذَا الْأَثَرُ وَصَلَهُ المُصَنِّفُ -أَي البُخَارِيُّ- فِي تَارِيخِهِ الأَوْسَطِ، مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ خَالِدٌ، اجْتَمَعَ نِسْوَةُ بَنِي المُغِيرَةِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَرْسِلْ إِلَيْهِنَّ فَإِنْهَهُنَّ، فَذَكَرَهُ (¬1). 5 - رَوَى الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ نُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ خَالِدٌ يُكَنَّى أَبَا سُلَيْمَانَ، اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الرَّهَا وَحُرَّانَ وَالرَّتَّةِ وَآمِدَ (¬2)، فَمَكَثَ سَنَةً، وَاسْتَعْفَى فَأَعْفَاهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدِمَ المَدِينَةَ، فَأَقَامَ بِهَا فِي مَنْزِلهِ حَتَّى مَاتَ بِالمَدِينَةِ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الإِصَابَةِ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ (¬4). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ عِدَّةَ أَخْبَارٍ: وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَقْتَضِي مَوْتَهُ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ دُحَيْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، وَلَكِنَّ المَشْهُورَ عَنِ الجُمْهُورِ أَنَّهُ مَاتَ بِحِمْصَ (¬5). وَكَانَتْ وَفَاتُهُ -رضي اللَّه عنه- سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ الهِجْرَةِ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (3/ 509). (¬2) هذه أسماء أماكن في الشام. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر وفاة خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5339). (¬4) انظر الإصابة (2/ 219). (¬5) انظر البداية والنهاية (7/ 125). (¬6) انظر الإصابة (2/ 219) - البداية والنهاية (7/ 123) - سير أعلام النبلاء (1/ 367).

* شأن عثمان بن طلحة -رضي الله عنه-

* شَأْنُ عُثْمَانَ بنِ طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَأَمَّا عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه- فَهُوَ حَاجِبُ (¬1) الكَعْبَةِ، قُتِلَ أبُوهُ طَلْحَةُ وَعَمُّهُ عُثْمَانُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ جَمِيعًا يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرَيْنِ، وَأَقَامَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- بِالمَدِينَةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مَعْرَكَةِ أَجْنَادِينَ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) حِجَابة الكعبة: هي سدانتها، وتَوَلِّي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفتاحها. انظر النهاية (1/ 328). (¬2) انظر أسد الغابة (3/ 211) - الإصابة (4/ 373).

سرية غالب بن عبد الله إلى بني الملوح

سَرِيَّةُ غَالِبِ بنِ عَبد اللَّهِ إِلَى بَنِي المُلَوِّحِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي صَفَرَ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ غَالِبَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثيَّ -رضي اللَّه عنه- فِي بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا إِلَى بَنِي المُلَوِّحِ بِالكَدِيدِ (¬1)، وَهُمْ مِنْ بَنِي لَيْثٍ، فَخَرَجَ المُسْلِمُونَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِقُدَيْدٍ (¬2) لَقُوا الحَارِثَ بنَ مَالِكٍ، وَهُوَ ابْنُ البَرْصَاءَ اللَّيْثِيُّ، فَأَسَرُوهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ أُرِيدُ الإِسْلَامَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ تَكُ مُسْلِمًا فَلَنْ يَضُرَّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ، فَأَوْثَقُوهُ رِبَاطًا، وَخَلَّفُوا عَلَيْهِ رَجُلًا أَسْوَدَ كَانَ مَعَهُمْ، وَقَالُوا له -أَيْ لِلْعَبْدِ الأَسْوَدِ-: امْكُثْ مَعَهُ حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ، فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ. قَالَ جُنْدُبُ بنُ مَكِيثٍ (¬3) الجُهَنِيُّ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ مَضَيْنَا حَتَّى أَتيْنَا بَطْنَ الكَدِيدِ، فَنَزَلْنَا عُشَيْشِيَّةٍ (¬4) بَعْدَ العَصْر، فبعَثَنِي أَصْحَابِي رَبيئَةً (¬5) لَهُمْ، فَعَمَدْتُ إِلَى تَلٍّ ¬

_ (¬1) الكَدِيد: بفتح الكاف وكسر الدال الأولى: موضع على اثنين وأربعين ميلًا من مكة. انظر معجم البلدان (7/ 123). (¬2) قُدَيد: بضم القاف مصغرا: موضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (4/ 20). (¬3) قال الحافظ في الإصابة (2/ 370): مَكِيث: بفتح الميم بوزن عظيم، شهد بيعة الرضوان، وكان أحد من حمل ألوية جُهينة يوم الفتح. (¬4) عُشيشية: تصغير عشية. انظر النهاية (3/ 220). (¬5) الربيئة: هو العينُ والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم عدو، ولا يكون إلا على جبل، أو شرف ينظر منه. انظر النهاية (2/ 165).

يُطْلِعُنِي عَلَى الحَاضِرِ (¬1)، فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ المَغْرِبُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَنَظَرَ، فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَلِّ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى عَلَى هَذَا التَّلِّ سَوَادًا مَا رَأَيْتُهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الكِلَابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ، قَالَ: فنَظَرَتْ، فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا: فنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ كِنَانَتِي، قَالَ: فَنَاوَلتهُ، فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِي جَنْبِي، قَالَ فنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ رَمَانِي آخَرَ، فَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ مَنْكبِي، فَنَزَعْتُهُ، فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ (¬2) سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ زَائِلَةً (¬3) لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ، فَخُذِيهِمَا، لَا تَمْضَغُهُمَا عَلَيَّ الكِلَابُ. قَالَ جُنْدُبُ بنُ مَكِيثٌ الجُهَنِيُّ -رضي اللَّه عنه-: وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتَّى رَاحَتْ رَائِحَتُهُمْ (¬4)، حَتَّى إِذَا احْتَلَبُوا وَعَطَّنُوا (¬5)، أَوْ سَكَنُوا، وَذَهَبَتْ عَتَمَةٌ (¬6) مِنَ اللَّيْلِ، شَنَنَّا عَلَيْهِمُ الغَارَةَ، فَقتَلْنَا مَنْ قَتَلَنَا مِنْهُمْ، وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ، فتَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ، وَخَرَجَ صَرِيخُ القَوْمِ إِلَى قَوْمِهِمْ مُغَوِّثًا، وَخَرَجْنَا سِرَاعًا، حَتَّى نَمُرَّ بِالحَارِثِ بنِ البَرْصَاءِ وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا، وَأَدْرَكَنَا القَوْمُ حَتَّى قَرُبُوا مِنَّا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ ¬

_ (¬1) الحاضِرُ: القومُ النُّزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. انظر النهاية (1/ 384). (¬2) خالَطَهُ: أصابه. انظر لسان العرب (4/ 178). (¬3) الزائِلَةُ: كل شيء من الحيوان يزول عن مكانه ولا يستقر. انظر النهاية (2/ 288). (¬4) راحتْ رائحَتُهُمْ: أي ردت إبلهم وغنمهم إلى مأواها الذي تأوي إليه ليلًا. انظر لسان العرب (5/ 362). (¬5) يقال: إبل عُطَّان وعَطَّنت: سقاها ثم أناخها وحبسها عند الماء. انظر لسان العرب (9/ 273). (¬6) عَتَمَةُ الليل: هي ظلمته. انظر النهاية (3/ 164).

بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلَّا بَطْنُ الوَادِي، أَقْتلَ سَيْل حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ شَاءَ، مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلَا سَحَابًا، فَجَاءَ بِمَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يتقَدَّمَ، وَنَحْنُ نَسُوقُ نَعَمَهُمْ مَا يَسْتَطِيعُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يُجِيزَ إِلَيْنَا، وَنَحْنُ نَحْدُوهَا (¬1) سِرَاعًا حَتَّى فُتَنَاهُمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى طَلَبِنَا، فَقَدِمْنَا بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالمَدِينَةِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) حدَا الإبلَ: زَجَرَهَا خلفها وساقها. انظر لسان العرب (3/ 89). (¬2) أخرج قصة هذه السرية: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15844) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في الأسير يوثق - رقم الحديث (2678) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 265) - وإسنادها ضعيف.

سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك

سَرِيَّةُ غَالِبِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ إلى مُصَابِ أَصْحَابِ بَشِيرِ بنِ سَعْدٍ بفَدَكَ وَلَمَّا رَجَعَ غَالِبُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الكَدِيدِ مُؤَيَّدًا بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي صَفَرَ إِلَى حَيْثُ أُصِيبَ أَصْحَابُ بَشِيرِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَذَلِكَ فِي بَنِي مُرَّةَ نَاحِيَةَ فَدَكَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ قُدُومِ غَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، هَيَّأَ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- لِذَلِكَ، وَجَهَّزَ مَعَهُ مِائتَيْ رَجُلٍ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، فَلَمَّا قَدِمَ غَالِبٌ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلزُّبَيْرِ: "اجْلِسْ"، وَبَعَثَ غَالِبًا -رضي اللَّه عنه- فِي مِائتَيْ رَجُلٍ، سَمَّى ابْنَ سَعْدٍ مِنْهُمْ: عُلْبَةَ بنَ زَيْدٍ، وَأَبَا مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بنَ عَمْرٍو، وَكَعبَ بنَ عُجْرَةَ، وَأُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ، وَحُوَيِّصَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ مَعَ الصُّبْحِ، وَكَانَ غَالِبٌ -رضي اللَّه عنه- قَدْ أَوْصَاهُمْ بِعَدَمِ مُخَالفَتِهِمْ لَهُ، وَآخَى بَيْنَ القَوْمِ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ نَعَمًا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ قَتْلَى (¬1). وَوَقَعَ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ (¬2) أَنَّ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ قتَلَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه- مِرْدَاسَ بنَ نُهَيْكٍ الذِي قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 312). (¬2) دلائل النبوة للبيهقي (4/ 296).

وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَرِيَّةِ غَالِبِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثيِّ إِلَى المِيفَعَةِ أَوِ الحُرُقَاتِ -كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ-. * * *

سرية شجاع بن وهب -رضي الله عنه- إلى بني عامر بالسي

سَرِيَّةُ شُجَاعِ بنِ وَهْبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَني عَامِرٍ بِالسِّيِّ (¬1) وَفي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شُجَاعَ بنَ وَهْبٍ الأَسَدِيَّ -رضي اللَّه عنه-، فِي أَرْبَعَة وَعِشْرِينَ رَجُلًا إِلَى جَمْع مِنْ هَوَازِنَ، يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَامِرٍ بِالسِّيِّ، وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ -رضي اللَّه عنه-، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ (¬2) بِالنَّهَارِ حَتَّى صَبَّحَهُمْ وَهُمْ غَافِلُونَ، وَقَدْ نَهَى أَصْحَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يُمْعِنُوا (¬3) فِي الطَّلَبِ، فَأَصَابُوا نَعَما كَثِيرًا وَشَاءً، فَاسْتَاقُوا ذَلِكَ كُلَّهُ حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، وَكَانَ فِي السَّبْي جَارِيَةٌ وَضِيئَةٌ، فَأَخَذَهَا شُجَاعُ بنُ وَهْب -رضي اللَّه عنه- لِنَفْسِهِ بِثَمَنٍ، فَأَصَابَهَا، فَلَمَّا قَدِمُوا المَدِينَةَ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتِ المُقَامَ عِنْدَهُ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَكَانَتْ سِهْمَانُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، وَعَدَلُوا البَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنَ الغَنَمِ (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ (¬5): وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ السَّرِيَّةُ هِيَ المَذْكُورَةُ فِي ¬

_ (¬1) السِّيّ: بكسر السين وتشديد الياء: ماء بين ذات عِرْق ووجرة على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة. انظر معجم البلدان (5/ 108). (¬2) كمن: أي استتر واستخفى. انظر النهاية (4/ 174). (¬3) أمعَنُوا في بلدِ العدو وفي الطلب: أي جدوا وأبعدوا. انظر النهاية (4/ 293). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى (2/ 313) - ودلائل النبوة للبيهقي (4/ 353). (¬5) انظر البداية والنهاية (4/ 631).

الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَرِيَّةً إِلَى نَجْدٍ فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إِبِلًا وَغَنَمًا، فبلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَى عَشَرَ بَعِيرًا، اثْنَى عَشَرَ بَعِيرًا (¬1) * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين - رقم الحديث (3134) - وأخرجه في المغازي - باب السرية التي قِبَل نجد - رقم الحديث (4338) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الأنفال - رقم الحديث (1749) (37).

سرية كعب بن عمير -رضي الله عنه- إلى ذات أطلاح

سَرِيَّةُ كَعْبِ بن عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَعْبَ بنَ عُمَيْرٍ الغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ وَرَاءَ وَادِي القُرَى فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَسَارَ، فَكَانَ يَكْمُنُ بِالنَّهَارِ وَيَسِيرُ بِاللَّيْلِ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ رَآهُ عَيْنٌ لَهُمْ، فَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى المُسْلِمُونَ إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ وَجَدُوا جَمْعًا كَثِيرًا، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَشَقُوهُمْ (¬1) النَّبْلِ، فَلَمَّا رَأَى المُسْلِمُونَ ذَلِكَ قَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ القِتَالِ حَتَّى قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْلِتَ مِنْهُمْ، وَقِيلَ جُرِحَ، فَلَمَّا بَرَدَ (¬2) عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَحَامَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). * * * ¬

_ (¬1) رشَقَ: رمى. انظر النهاية (2/ 206). (¬2) بَرَدَ: أي سكن. انظر لسان العرب (1/ 365). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 313) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 357) - شرح المواهب (3/ 338).

غزوة مؤتة

غَزْوَةُ (¬1) مُؤْتَةَ (¬2) حَدَثَتْ هَذِهِ الغَزْوَةُ العَظِيمَةُ فِي جُمَادَى الأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ (¬3). * سَبَبُ هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ: وَسَبَبُ هَذِهِ الغَزْوَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ بَعَثَ الحَارِثَ بنَ عُمَيْرٍ الأَزْدِيَّ -رضي اللَّه عنه-، بِكِتَابِهِ إِلَى مَلِكِ بُصْرَى، فَعَرَضَ لَهُ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ شُرَحْبِيلُ بنُ عَمْرٍو الغَسَّانِيُّ -وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى البَلْقَاءِ (¬4) مِنْ أَرْضِ الشَّامِ مِنْ قِبَلِ قَيْصَرَ- فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ فَقَالَ الحَارِثُ بنُ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: الشَّامَ، قَالَ: فَلَعَلَّكَ مِنْ رُسُلِ مُحَمَّدٍ؟ ¬

_ (¬1) إنما سُمِّيت غزوة مع أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يشهدها؛ لكثرةِ جَيْشِ المسلِمِين فيها؛ ولكونها أعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي مقدمة وتمهيد لفتح بلدان النصارى. انظر شرح المواهب (3/ 339) - الرحيق المختوم ص 387. ويُسمى جيشها جيشُ الأمراء، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22551) - بسند جيد - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7048) بسند صحيح عن أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- قال: بعث رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جيش الأمراء. . . وذكر بقية الغزوة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 299): مُؤتة: بضم الميم وسكون الواو. قلتُ: وهي الآن قريَةٌ عامرة بالسكَّان شرقي الأردن. (¬3) لم يختلف في ذلك أحد. وانظر فتح الباري (8/ 299). (¬4) البَلْقاءُ: بفتح الباء وسكون اللام، وهي مدينة معروفة بالشام. انظر شرح المواهب (3/ 339).

فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ، فَأَوْثِقَ رِبَاطًا، ثُمَّ قَدَّمَهُ فَضَرَبَ عُنقهُ صَبْرًا (¬1)، وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرُهُ (¬2). وَكَانَ قَتْلُ السُّفَرَاءِ وَالرُّسُلِ مِنْ أَشْنَعِ الجَرَائِمِ، فَقَدْ جَرَتِ العَادَةُ وَالعُرْفُ بِعَدَمِ قتلِهِمْ أَوِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ (¬3)، فَكَانَتْ هَذِهِ الحَادِثَةُ بِمَثَابَةِ إِعْلَانِ حَالَةِ الحَرْبِ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ بَلَغَهُ الخَبَرُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ (¬4) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ لِقِتَالِ الغَسَاسِنَةِ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ ثُمَّ تَهَيَّأُوا لِلْخُرُوجِ، فَكَانَ قِوَامُ الجَيْشِ الذِي خَرَجَ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَهُوَ أَكْبَرُ جَيْشٍ إِسْلَاميٍّ، لَمْ يَجْتَمعْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا فِي غَزْوَةِ الأَحْزَابِ (¬5). ¬

_ (¬1) كل من قُتِل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا. انظر النهاية (3/ 8). (¬2) قال الشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه جهاد الدعوة ص 15: ماذا تفعلُ أيُّ دولة تُهان دعوتها ويُقتل رجالها على هذا النحو؟ لابد أن تُقاتل، والقتال الذي فرضته الظروف صعبٌ، فإن الرومان شدّوا أزر الأمير القاتل بعشرات الألوف من جيشهم الكثيف، وواجه الرجال الذين قاتلوا في "مؤتة" معركة قاسية، استشهد فيها القادة الثلاثة الذين التَحَمُوا مع الرومان وحلفائهم، واستطاع خالدُ بن الوليد -رضي اللَّه عنه- أن ينسحب بالجيش، وأن يجنبه خسائر لا آخر لها. (¬3) روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15989) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2863) بسند صحيح بطرقه وشواهده عن نعيم بن مسعود الأشجعي -رضي اللَّه عنه- قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب، قال للرسولين: "فما تقولان أنتما؟ " قالا: نقول كما قال، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "واللَّه لولا أَنَّ الرسل لا تقتل، لضربت أعناقكما". (¬4) يُقال: ندبتُهُ فانتدب: أي بعثته ودعوته فأجاب. انظر النهاية (5/ 29). (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 314) - سيرة ابن هشام (4/ 20) - فتح الباري (8/ 299) - شرح المواهب (3/ 339).

* أمراء الجيش ووصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمراء

* أُمُرَاءُ الجَيْشِ وَوَصِيَّةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْأُمَرَاءِ: وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى هَذَا الجَيْشِ مَوْلَاهُ زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ، فَجَعْفَر، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ"، فَقَالَ جَعْفَرٌ -رضي اللَّه عنه-: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ أَرْغَبُ (¬1) أَنْ تَسْتَعْمِلَ عَلَيَّ زَيْدًا (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "امْضِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي فِي أَيِّ ذَلِكَ خَيْرٌ" (¬3). وَعَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِوَاءً أَبْيَضَ، وَدَفَعَهُ إِلَى زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَوْصَاهُمْ أَنْ يَأتُوا مَقْتَلَ الحَارِثِ بنِ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَأَنْ يَدْعُوا مَنْ هُنَاكَ إِلَى الإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوا وَإِلَّا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَاتَلُوهُمْ، فَأَسْرَعَ النَّاسُ بِالخُرُوجِ وَعَسْكَرُوا بِالجُرْفِ (¬4). ¬

_ (¬1) هذه روايةُ ابن حبان في صحيحه. وفي رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22551): أرهب. وفي رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5170): أذهب. (¬2) قلتُ: لم يبعثْ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زيدَ بن حارثة -رضي اللَّه عنه- في سريَّة إلا أمَّره، فقد روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25898) - وابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (32973) بسند حسن عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: ما بعث رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن حارثة في جيش قطُّ إلا أمَّره عليهم. (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22551) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7048) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5170) وإسناده صحيح. (¬4) الجُرْف: بضم الجيم موضع قريب من المدينة. انظر النهاية (1/ 254). وانظر التفاصيل في: سيرة ابن هشام (4/ 21) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 314).

* توديع الناس الجيش

* تَوْدِيعُ النَّاسِ الجَيْشَ: وَلَمَّا تَهَيَّأَ الجَيْشُ الإِسْلَامِيُّ لِلْخُرُوجِ وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَهَا بَكَى عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالُوا لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ؟ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي حُبُّ الدُّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ (¬1) بِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، يَذْكُرُ فِيهَا النَّارَ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (¬2)، فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ (¬3) بَعْدَ الوُرُود (¬4). فَقَالَ المُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ، وَدَفَعَ عَنْكُمْ، وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحة -رضي اللَّه عنه-: لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا (¬5) أَوْ طَعْنَةً بِيَدِي حَرَّانَ مُجْهِزَةً (¬6) ... بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا ¬

_ (¬1) الصَبَابة: بفتح الصاد: الشوق. انظر لسان العرب (7/ 270). (¬2) سورة مريم آية (71). (¬3) الصَّدَرُ: الرجوع. انظر لسان العرب (7/ 301). (¬4) يُقال: ورد فلان: أي حضر. انظر لسان العرب (15/ 268). (¬5) ضربة ذات فرغ: أي واسعة يسيل دمها. انظر لسان العرب (10/ 241). الزبد: بفتح الزاي والباء رغوة الدم. انظر لسان العرب (6/ 9). (¬6) الحَرَّان: الفارس. انظر لسان العرب (3/ 145). مجهِزَة: أي سريعة القتل. انظر النهاية (1/ 310).

* توديع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجيش ووصيته لهم

حَتَّى يُقَالَ إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي (¬1) ... أَرْشَدَهُ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشُدَا (¬2) ثُمَّ أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَدَّعَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا أَتَاكَ مِنْ حُسْنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالذِي نُصِرُوا إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْرَ أَعْرِفُهُ ... وَاللَّه يَعْلَمُ أَنْ مَا خَانَنِي البَصَرُ أَنْتَ الرَّسُولُ وَمَنْ يُحْرَمْ شَفَاعَتَهُ ... يَوْمَ الحِسَابِ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ القَدَرُ فَلَمَّا سَمِعَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ مِنْهُ قَالَ له: "وَأَنْتَ فَثَبَّتَكَ اللَّهُ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ"، فَثَبَّتَهُ اللَّهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا -رضي اللَّه عنه- (¬3). وَكَانَ ابنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- شَاعِرًا حَادَّ العَاطِفَةِ، وَقَدْ أَحَسَّ مُنْذُ خُرُوجِهِ أَنَّ الِاسْتِشْهَادَ مُقْبِل عَلَيْهِ، فَهُوَ يَتَهَيَّأُ لَهُ بِقَلْبِهِ وَلسَانِهِ (¬4). * تَوْدِيعُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجَيْشَ وَوَصِيَّتَهُ لَهُمْ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُشَيِّعًا (¬5) لَهُمْ حَتَّى بَلَغَ ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ، فَوَقَفَ وَوَدَّعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَكُمْ مِنَ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، اغْزُوا بِاسْمِ ¬

_ (¬1) الجَدَث: القبر. انظر النهاية (1/ 236). (¬2) أخرج ذلك الطبراني في الكبير - رقم الحديث (4655) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 21) - وابن سعد في طبقاته (2/ 314). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 21) - البداية والنهاية (4/ 633) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 359). (¬4) انظر فقه السيرة ص 366 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬5) شَيَّعه: تابعه. انظر لسان العرب (7/ 259).

* تخلف عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-

اللَّهِ، فَقَاتِلُوا عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ بِالشَّامِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا رِجَالًا فِي الصَّوَامِعِ (¬1) مُعْتَزِلِينَ فَلَا تَعْرِضُوا لَهُمْ، وَسَتَجِدُونَ آخَرِينَ لِلشَّيْطَانِ فِي رُؤُوسهِمْ مَفَاحِصُ (¬2) فَافْلقوهَا بِالسُّيُوفِ، وَلَا تَقْتُلُوا امْرَأة، وَلَا صَغِيرًا ضَرْعًا (¬3)، وَلَا كبِيرًا فَانِيًا، وَلَا تَقْطَعُنَّ شَجَرَةً، وَلَا تَعْقِرَنَّ نَخْلًا، وَلَا تَهْدِمُوا بَيْتًا" (¬4). * تَخَلُّفُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا خَرَجَ الجَيْشُ تَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَتَخَلَّفُ فَأُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُمُعَةَ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ الجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ (¬5) مَعَ أَصْحَابِكَ؟ ". قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ الجُمُعَةَ، ثُمَّ أَلْحَقَهُمْ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) الصوامع: جمع صَوْمَعَة، وهي: مَعْبَد النصارى، يتعبد به رُهبانهم. انظر لسان العرب (7/ 407). (¬2) قال ابن الأثير في النهاية (3/ 373): أي إِنَّ الشيطان قد استوطن رؤوسهم فجعلها له مَفَاحِصَ، كما تَستوطن القطا -وهو طائر معروف- مَفَاحِصَها؛ وهو من الاستعارات اللفظية، لأن من كلامهم إذا وصفوا إنسانًا بشدة الغي والانهماك في الشَّرِّ قالوا: قد فرَّخ الشيطان في رأسه وعشَّ في قلبه، ومِفحص القطا: موضعُها الذي تجثم فيه وتبيض، كأنها تفحص عنه التراب: أي تكشفه. (¬3) الضارع: النحِيفُ الضَّاوي الجسم. انظر النهاية (3/ 78). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 314) - وأصل وصية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه أخرجها الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث - رقم الحديث (1731) (3). (¬5) الغَدْوَة: بفتح العين هو سيرُ أول النهار. انظر النهاية (3/ 311).

* خالد بن الوليد -رضي الله عنه- يشارك في هذه الغزوة العظيمة

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتهِمْ" (¬1). * خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- يُشَارِكُ فِي هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ: وَفِي هَذِهِ الغَزْوَةِ العَظِيمَةِ يُشَارِكُ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، وَهِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ يُشَارِكُ فِيهَا مَعَ المُسْلِمِينَ. * وُصُولُ جَيشِ المُسْلِمِينَ إِلَى مَعَانَ (¬2)، وَعدَّةُ العَدُوِّ: تَحَرَّكَ جَيْشُ المُسْلِمِينَ مِنَ المَدِينَةِ إِلَى عَدُوِّهِمْ فِي الشَّامِ، وَبَيْنَمَا هُمْ فِي الطَّرِيقِ إِذْ سَمِعَ بِمَسِيرِهِمْ عَدُوُّهُمْ، فَجَمَعُوا لَهُمْ، وَقَامَ فِيهِمْ شُرَحْبِيلُ بنُ عَمْرٍو فَجَمَعَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَقَدَّمَ الطَّلَائِعَ أَمَامَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ المُسْلِمُونَ مَعَانَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ بَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ (¬3) مِنْ أَرْضِ البَلْقَاءَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ لَخْمٍ، وَجُذَامٍ، وَالقَيْنِ، وَتَنُوخَ، وَبَلِيَّ، فَكَانَ قِوَامُ (¬4) جَيْشِ الغَسَاسِنَةِ وَالرُّومِ مِائتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1966) - والترمذي في جامعه - كتاب الصلاة - باب ما جاء في السفر يوم الجمعة - رقم الحديث (535) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2993) - وإسناده ضعيف، ولكن للحديث شواهد بمعناه يتقوى بها. (¬2) مَعَان بفتح الميم مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء. انظر معجم البلدان (8/ 285). (¬3) مآب: مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. انظر معجم البلدان (7/ 188). (¬4) قِوامُ: قدر. انظر لسان العرب (11/ 357). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (4/ 22) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 314) - البداية والنهاية (4/ 634).

* تشاور المسلمين بمعان

* تَشَاوُرُ المُسْلِمِينَ بِمَعَانَ: وَلَمْ يَكُنِ المُسْلِمُونَ أَدْخَلُوا فِي حِسَابِهِمْ لِقَاءَ مِثْلَ هَذَا الجَيْشِ العَرَمْرَمِ (¬1)، الذِي فُوجِئُوا بِهِ، فَأَقَامُوا فِي مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يُفَكِّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَيَنْظُرُونَ وَيَتَشَاوَرُونَ، هَلْ يَكْتبونَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْبِرُونَهُ بِعَدَدِ عَدُوِّهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يُمِدَّهُمْ بِالرِّجَالِ، أَوْ يَأْمُرَهُمْ بِأَمْرِهِ فَيَمْضُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رَأْيٌ بِالِانْسِحَابِ، فَانْظُرُوا الشَّجَاعَةَ وَالجُرْأَةَ (¬2). فَعِنْدَ ذَلِكَ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- وَعَارَضَ هَذَا الرَّأْيَ، وَشَجَّعَ النَّاسَ قَائِلًا: يَا قَوْمِ! وَاللَّهِ إِنَّ التِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ، الشَّهَادَةُ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الحُسْنيَيْنِ، إِمَّا ظُهُورٌ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ (¬3). ¬

_ (¬1) العرمْرَم: هو الكثير من كل شيء. انظر لسان العرب (9/ 172). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (4/ 72): وقد كان للصحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمْ في بابِ الشجاعة والائتمارِ بأمر اللَّه، وامتثالِ ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحدٍ من الأمَمِ والقرون قبلهم، ولا يكون لأحدٍ ممن بعدهم، فإنهم بِبَركة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقًا وغربًا في المدة اليسيرة، مع قلةِ عددهم بالنسبة إلى جُيُوش سائر الأقاليم، من الروم والفرس والترك والصَّقَالِبَة والبَرْبَر والحُبُوش وأصنافِ السودان والقبط، وطوائفِ بني آدم، قَهَرُوا الجميع حتى عَلت كلمة اللَّه، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارِقِ الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وأرضاهم أجمعين، وحَشَرنا في زمرتهم، إنه كريمٌ وهّاب. (¬3) قال الشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه فقه السيرة، ص 366: وكان لهذه =

* تحرك المسلمين إلى عدوهم

فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ ابْنُ رَوَاحَةَ، وَاسْتَقَرَّ الأَمْرُ عَلَى مُقَاتَلَةِ العَدُوِّ (¬1). بَعَثَتْ هَذِهِ العَقِيدَةُ وَالنَّفْسِيَّةُ طُمَأْنِينَةً فِي أَنْفُسِهِمْ، وَسَكِينَةً فِي قُلُوبِهِمْ، وَشَجَاعَةً خَارِقَةً لِلْعَادَةِ، وَاسْتِهَانَةً بِالعَدَدِ وَالعُدَّةِ، وَعَدَمَ عِبَادَةٍ لِلْمَادَّةِ، وَعَدَمَ اتِّخَاذِ الأَسْبَابِ أَرْبَابًا، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ بِقُوَّةِ الدِّينِ، وَيَظْفَرُونَ وَيَغْلِبُونَ ببَرَكَةِ الإِسْلَامِ، فَكَانُوا شَدِيدِي الِاحْتِفَاظِ، كَثِيرِي الِاعْتِدَادِ بِهَا (¬2). * تَحَرُّكُ المُسْلِمِينَ إِلَى عَدوِّهِمْ: وَبَعْدَ أَنْ قَضَى المُسْلِمُونَ لَيْلَتَيْنِ فِي مَعَانَ، تَحَرَّكُوا إِلَى أَرْضِ العَدُوِّ، فَلَمَّا وَصَلُوا تُخُومَ (¬3) البَلْقَاءَ، لَقِيَتْهُمْ جُمُوعُ هِرَقْلَ مِنَ الرُّومِ وَنَصَارَى العَرَبِ، بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا "مُشَارِفٌ"، ثُمَّ دَنَا العَدُوُّ، وَانْحَازَ المُسْلِمُونَ إِلَى قَرْيَةِ مُؤْتَةَ، فَعَسْكَرُوا هُنَاكَ، وَتَعَبَّاَ الجَيْشُ الإِسْلَامِيُّ لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- عَلَى المَيْمَنَةِ: قُطْبَةَ (¬4) بنَ قتَادَةَ العُذْرِيَّ (¬5)، وَعَلَى المَيْسَرَةِ: عَبَايَةَ بنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ (¬6). ¬

_ = الكلمة الملتهبة أثرها، فاختفت من صفوف المسلمين مشاعر الترَدُّدِ، وقرروا القتال مهما كانت النتائج. (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 22) - البداية والنهاية (4/ 634) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 360). (¬2) انظر كتاب "إلى الإسلام من جديد" ص 59، للشيخ أبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬3) التُّخُوم: الفصلُ بين الأرضَيْنِ من الحُدُود والمعالم. انظر لسان العرب (2/ 21). (¬4) قُطْبة: بضم القاف. (¬5) العُذْري: بضم العين. (¬6) انظر سيرة ابن هشام (2/ 25) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 314) - شرح المواهب (3/ 344).

* بدء القتال، وتناوب القادة

* بَدْءُ القِتَالِ، وَتَنَاوُبُ القَادَةِ: وَهُنَاكَ فِي مُؤْتَةَ الْتَقَى الفَرِيقَانِ، وَبَدَأَ القِتَالُ المَرِيرُ، ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ يُوَاجِهُونَ مِائتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. فِعْلًا مَعْرَكَة عَجِيبَةٌ تُشَاهِدُهَا الدُّنْيَا بِالدَّهْشَةِ وَالحَيْرَةِ، وَلَكِنْ إِذَا هَبَّتْ رِيحُ الإِيمَانِ جَاءَتِ بِالعَجَائِبِ (¬1). * الرَّايَةُ بِيَدِ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَعَلَ يُقَاتِلُ بِضَرَاوَةٍ بَالِغَةٍ، وَبَسَالَةٍ نَادِرَةٍ، وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ يُقَاتِلُونَ حَتَّى قُتِلَ طَعْنًا بِالرِّمَاحِ، وَخَرَّ شَهِيدًا -رضي اللَّه عنه-. * الرَّايَةُ بِيَدِ جَعْفَرَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَطَفِقَ (¬2) يُقَاتِلُ قِتَالًا لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ، حَتَّى إِذَا أَلْحَمَهُ (¬3) القِتَالُ نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ الشَّقْرَاءَ فَعَقَرَهَا (¬4)، فَكَانَ أَوَّلَ فَرَسٍ يُعْقَرُ فِي الإِسْلَامِ (¬5)، ثُمَّ أَخَذَ يُقَاتِلُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 389. (¬2) طَفِقَ: جعل. انظر لسان العرب (8/ 174). (¬3) يُقال: ألحم الرجل واستلحم: إذا نشب في الحرب فلم يجد له مخلصًا. انظر النهاية (4/ 206). (¬4) أصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. انظر النهاية (3/ 245). (¬5) أخرج عقر جعفر -رضي اللَّه عنه- فرسه: الطحاوي في شرح مشكل الآثار (12/ 107) - وأبو داود =

يَا حَبَّذَا الجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا عَلَيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا فَقُطِعَتْ يَمِينُهُ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخَذَ الرَّايَةَ بِشِمَالِهِ، فَقُطِعَتْ شِمَالُهُ -رضي اللَّه عنه-، فَاحْتَضَنَ الرَّايَةَ بِعَضُدَيْهِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ -رضي اللَّه عنه-، فَأَثَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الجَنَّةِ يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ، وَلذَلِكَ سُمِّيَ بِجَعْفَرَ الطَّيَّارِ (¬1). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . كُنْتُ فِيهِمْ فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ فِي القَتْلَى، وَوَجَدْنَا مَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرَ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ قَتِيلٌ، فَعَدَدْتُ بِهِ خَمْسِينَ بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دبرِهِ، يَعْنِي فِي ظَهْرِهِ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ فَرْطِ شَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ -رضي اللَّه عنه- (¬4). ¬

_ = في سننه - كتاب الجهاد - باب في الدابة تعقر في الحرب - رقم الحديث (2573) - وحسن إسناده الحافظ في الفتح (8/ 300). (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 25 - 26) -البداية والنهاية (4/ 635) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 314). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4261). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4260). (¬4) انظر فتح الباري (8/ 301).

* الراية بيد عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَئرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيْتُ جَعْفَرًا مَلَكًا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ فِي الجَنَّةِ" (¬1). وَرَوَى الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَرَّ بِي جَعْفَرٌ اللَّيْلةَ فِي مَلَأٍ مِنَ المَلَائِكَةِ، وَهُوَ مُخَضَّبُ (¬2) الجَنَاحَيْنِ بِالدَّمِ" (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بنِ جَعْفَرَ قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الجَنَاحَيْنِ" (¬4). * الرَّايَةُ بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَتَقَدَّمَ بِهَا، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَتَرَدَّدَ -رضي اللَّه عنه- بَعْضَ التَّرَدُّدِ مِنْ شِدَّةِ أَمْرِ المَعْرَكَةِ، ثُمَّ أَخَذَ يَقُولُ: أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلنَّهْ ... لَتَنْزِلنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّه إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرِّنَّه (¬5) ... مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّه ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب المناقب - باب ذكر جعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7047). (¬2) مُخَضَّبٍ: مبلل. انظر لسان العرب (4/ 117). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب جعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4996) - وصحح إسناده الحافظ في الفتح (7/ 441). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب مناقب جعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3709). (¬5) أجْلَبَ الناسُ: تجمَّعوا وتألَّبوا. انظر النهاية (1/ 273). الرنة: الصيحة الشديدة. انظر لسان العرب (5/ 334).

* الراية إلى سيف الله المسلول

وَقَالَ أَيضًا -رضي اللَّه عنه-: يَا نَفْسُ إِلَّا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ (¬1) المَوْتِ قَدْ صَلِيتِ وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ ... إِنْ تَفْعَلِي فَعَلَاهُمَا (¬2) هُدِيتِ ثُمَّ نَزَلَ، فَأَتَاهُ ابنُ عَمٍّ لَهُ بِعَرْقٍ (¬3) مِنْ لَحْمٍ، فَقَالَ: شُدَّ بِهَذَا صُلْبَكَ، فَإِنَّكَ قَدْ لَقِيتَ فِي أَيَّامِكَ هَذِهِ مَا لَقِيتَ، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ انْتَهَشَ (¬4) مِنْهُ نَهْشَةً، ثُمَّ سَمِعَ الحَطْمَةَ (¬5) فِي نَاحِيَةِ النَّاسَ، فَأَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- (¬6). رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يَسُرُّهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَنَا، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ" (¬7). * الرَّايَةُ إِلَى سَيفِ اللَّه المَسْلُولِ: فَلَمَّا سَقَطَتِ الرَّايَةُ بِاسْتِشْهَادِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رَوَاحَةَ -وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لمْ يُكَلِّفْ أَحَدًا بِحَمْلِهَا بَعْدَهُ- تَقَدَّمَ ثَابِتُ بنُ أَقْرَمٍ -رضي اللَّه عنه-، وَحَمَلَ الرَّايَةَ، وَقَالَ: ¬

_ (¬1) الحِمام: بكسر الحاء: أي قضاء الموت وقَدَرُه. انظر لسان العرب (3/ 339). (¬2) أي فعل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬3) العَرْق: بفتح العين وسكون الراء: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم. انظر لسان العرب (9/ 162). (¬4) النَّهش: هو أخذ اللحم بمقدم الأسنان. انظر لسان العرب (14/ 306). (¬5) حَطْمَةُ الناس: أي ازدحامهم. انظر لسان العرب (3/ 227). (¬6) أخرجه مختصرًا ابن ماجه في سننه - رقم الحديث (2793) - وإسناده حسن - وابن إسحاق في السيرة (4/ 27). (¬7) ذَرَفَتْ العين: إذا جَرى دمعها. انظر النهاية (2/ 147) - والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تمني الشهادة - رقم الحديث (2798).

يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، فَقَالُوا: أَنْتَ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَاصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى خَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ المُسْلِمِينَ لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- تَفَرَّقُوا وَانْهَزَمُوا حَتَّى لَمْ يُرَ اثْنَانِ جَمِيعًا، فتَقَدَّمَ ثَابِتُ بنُ أَقْرَمٍ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخَذَ الرَّايَةَ، ثُمَّ سَعَى بِهَا وَأَعْطَاهَا خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ له خَالِدٌ: لَا آخُذُهَا مِنْكَ، أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا، لَكَ سِنٌّ، وَقَدْ شَهِدْتَ بَدْرًا، فَقَالَ ثَابِتٌ: وَاللَّهِ يَا خَالِدُ مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا لَكَ، أَنْتَ أَعْلَمُ بِالقِتَالِ مِنِّي، فَأَخَذَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- الرَّايَةَ (¬1). فَلَمَّا أَخَذَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- الرَّايَةَ وَاجْتَمَعَ المُسْلِمُونَ إِلَيْهِ قَاتَلَ الكُفَّارَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ خَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لقدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ فَمَا بَقِيَ فِي يَدِيَ إِلَّا صَحِيفَةٌ يَمانِيَةٌ (¬2). وَفي لفظٍ: لَقَدْ دُقَّ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَصَبَرَتْ فِي يَدِي صَحِيفَةٌ لِي يَمَانِيَةٌ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهَذَا الحَدِيثُ عَنْ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه- يَقْتَضِي أَنَّ المُسْلِمِينَ ¬

_ (¬1) انظر الطثقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 446) - سيرة ابن هشام (4/ 27) - شرح المواهب (3/ 347). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4265). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4266).

* عبقرية خالد -رضي الله عنه- في القتال

قَتَلُوا مِنَ المُشْرِكِينَ كَثِيرًا (¬1). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَثْخَنُوا (¬2) فِيهِمْ قَتْلًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا قَدِرُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُمْ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * عَبْقَرِيَّةُ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه- فِي القِتَالِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ يُخْبِرُ أَصْحَابَهُ بِالمَدِينَةِ -جَاءَهُ الوَحْيُ بِذَلِكَ-: ". . . حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" (¬4). قَالَ أَبُو قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ سُمِّيَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ سَيْفُ اللَّهِ (¬5). وَقَدِ اسْتَطَاعَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَثْبُتَ أَمَامَ هَذَا الطُّوفَانِ مِنَ العَدُوِّ طُولَ النَّهَارِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَعَلَ مُقَدِّمَةَ الجَيْشِ سَاقَةً، وَسَاقَتَهُ مُقَدِّمَةً، وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَةً، وَمَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَةً، فَلَمَّا لَقُوا العَدُوَّ فِي اليَوْمِ التَّالِي أَنْكَرَ عَدُوُّهُمْ حَالَهُمْ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 306). (¬2) الإثْخَانُ في الشيء: المبالغةُ فيه والإكثارُ منه، والمراد به هاهنا: المبالغة في قتل الكفار. انظر النهاية (1/ 203). (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 641). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4262) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1750) - (22551). (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22551) - وابن حبان في صحيحه - كتاب المناقب - باب ذكر عبد اللَّه بن رواحة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7048) - وإسناده صحيح.

* قصة المددي

وَقَالُوا: جَاءَهُمْ مَدَدٌ، فَلَمَّا حَمَلَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- عَلَيْهِمْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَعْدَادًا كَبِيرَةً، ثُمَّ انْحَازَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- وَانْسَحَبَ بِجَيْشِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى المَدِينَةِ، وَلَمْ يُصَبْ فِي جَيْشِهِ أَحَدٌ خِلَالَ هَذَا الِانْسِحَابِ (¬1). وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا قَائِدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْقِذَ هَذِهِ القَبْضَةَ مِنَ الرِّجَالِ -بَقِيَّةَ الثَّلَاثَةِ آلَافٍ- مِنْ وَسَطِ هَذَا اللَّجِّ (¬2)، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأُعْجُوبَةٍ، وَقَدْ أَتَى بِهَا خَالِدٌ، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ لُجَّةِ (¬3) البَحْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْتَلَّ، وَأَنْ يَنْسَحِبَ مِنْ وَسَطِ اللَّهَبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَرِقَ، وَأَنْ يُسَجِّلَ لِلذَّكَاءَ العَرَبِيِّ الذِي هَذَّبَهُ الإِسْلَامُ، هَذِهِ المَنْقَبَةَ فِي تَارِيخِ الحُرُوبِ (¬4). * قِصَّةُ المَدَدِيِّ (¬5): وَمِمَّا يُؤَكِّدُ مُبَاشَرَةَ المُسْلِمِينَ القِتَالَ قَبْلَ الِانْسِحَابِ، مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ -وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ- عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بنِ حَارِثَةَ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (2714) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (4/ 446) - البداية والنهاية (4/ 639). (¬2) اللَّجُّ: الابتلاء. انظر لسان العرب (12/ 239). (¬3) لُجَّة البحر: معظمه. انظر النهاية (4/ 201). (¬4) انظر كتاب رجال من التاريخ للشيخ علي الطنطاوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 47. (¬5) المَدَد: هم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد. انظر النهاية (4/ 263).

فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ اليَمَنِ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ جَزُورًا (¬1)، فَسَأَلَهُ المَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقِ (¬2)، وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرُ، عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ، وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يَفْرِي (¬3) بِالمُسْلِمِينَ، فَقَعَدَ لَهُ المَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ، فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ، وَعَلَاهُ فَقتَلَهُ، وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فتَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بنُ الوَليدِ، فَأَخَذَ مِنْهُ السَّلَبَ، قَالَ عَوْفٌ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إِلَيْهِ، أَوْ لَأُعَرِّفَنَّكَهَا (¬4) عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ المَدَدِيِّ، وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا خَالِدُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ ". ¬

_ (¬1) الجَزُور: البعير ذكرًا كان أو أنثى. انظر النهاية (1/ 258). (¬2) الدَّرَقة: هي الترس تتخذ من جلود ليس فيها خشب ولا عقب. انظر لسان العرب (4/ 333). (¬3) يَفري: أي يبالغ في النكاية والقتل. انظر النهاية (3/ 396). (¬4) لأعرفنَّكها: أي لأجازِيَنَّك بها حتى تعرف سوء صَنِيعك، وهي كلمةٌ تقال عند التهديد والوعيد. انظر النهاية (3/ 197).

* ما المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "حتى فتح الله عليهم"

قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لقدِ اسْتَكْثَرْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا خَالِدُ، رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ". قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: دُونَكَ يَا خَالِدُ، أَلَمْ أَفِ لَكَ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَمَا ذَاكَ"، فَأَخْبَرتُهُ. قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا خَالِدُ، لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي أُمُرَائِي؟ لَكُمْ صِفْوَهُ أَمْرِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ كدَرُهُ" (¬1). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ الرَّعِيَّةَ يَأْخُذُونَ صَفْوَ الأُمُورِ فتَصِلُهُمْ أُعْطِيَاتُهُمْ بِغَيْرِ نَكَدٍ، وَتُبْتَلَى الوُلَاةُ بِمُقَاسَاةِ الأُمُورِ، وَجَمْعِ الأَمْوَالِ، عَلَى وُجُوهِهَا وَصَرْفِهَا فِي وُجُوهِهَا، وَحِفْظِ الرَّعِيَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ، وَإِنْصَافِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ مَتَى وَقَعَ عَلَقَة أَوْ عَتْبٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ عَلَى الأُمُرَاءِ دُونَ النَّاسِ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَنِمُوا مِنْهُمْ وَسَلَبُوا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْ أُمَرَائِهِمْ (¬3). * مَا المُرَادُ بِقَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ": قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ النَّقْلِ فِي المُرَادِ بِقَوْلهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ"، هَلْ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحقاق القاتل سلب القتيل - رقم الحديث (1753) - وأخرجه والإمام اْحمد في مسنده - رقم الحديث (23997). (¬2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 57). (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 641).

* نعي الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمراء الثلاثة

كَانَ هُنَاكَ قِتَالٌ فِيهِ هَزِيمَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوِ المُرَادُ بِالفَتْحِ انْحِيَازُ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه- بِالمُسْلِمِينَ حَتَّى رَجَعُوا إِلَى المَدِينَةِ سَالِمِينَ؟ قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ خَالِدًا لَمَّا حَازَ المُسْلِمِينَ وَبَاتَ، ثُمَّ أَصْبَحَ وَقَدْ غَيَّرَ هَيْئَةَ العَسْكَرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَوَهَّمَ العَدُوُّ أَنَّهُمْ قَدْ جَاءَ لَهُمْ مَدَدٌ، حَمَلَ عَلَيْهِمْ خَالِدٌ حِينَئِذٍ، فَوَلَّوْا، فَلَمْ يَتْبَعْهُمْ، وَرَأَى الرُّجُوعَ بِالمُسْلِمِينَ هِيَ الغَنِيمَةُ الكُبْرَى (¬1). * نَعْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الأُمَرَاءَ الثَّلَاثَةَ: وَقَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى مَا حَدَثَ فِي مُؤْتَةَ، وَهُوَ فِي المَدِينَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَعَى لِأَهْلِ المَدِينَةِ أُمَرَاءَ الجَيْشِ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيهِمْ خَبَرُهُمْ. فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: . . . ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَعِدَ المِنْبَرَ، وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا الغَازِي، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا حَتَّى لقَوُا العَدُوَّ، فَأُصِيبَ زيدٌ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ"، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ النَّاسُ، "ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ (¬2) جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ، فَشَدَّ (¬3) عَلَى القَوْمِ ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (4/ 639) - ونقله عنه الحافظ في الفتح (8/ 303). (¬2) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار قال: الراية. (¬3) الشَّدُّ: العَدْوُ. انظر النهاية (2/ 405).

حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، أَشْهَدُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ (¬1) عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى أُصِيبَ شَهِيدًا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُ، ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ (¬2) خَالِدُ بنُ الوَليدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ"، ثُمَّ مَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ هُوَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ فَانْصُرْهُ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ مِنْ بَعْدِهِ -أَيْ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رَوَاحَةَ -رضي اللَّه عنه- سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ" (¬4). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ رُفِعُوا إِلَيَّ فِي الجَنَّةِ -أي الثلاثة الأمراء-، فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا (¬5) عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ"، فَقِيلَ: عَمَّ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَضَيَا وَتَرَدَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ مَضَى" (¬6). ¬

_ (¬1) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار قال: الراية. (¬2) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار قال: الراية. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22551) - وابن حبان في صحيحه - كتاب المناقب - باب ذكر عبد اللَّه بن رواحة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7048) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5169) (5170) (5171). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5169) - وإسناده صحيح. (¬5) الزَّوَرُ: المَيْل. انظر النهاية (2/ 287). (¬6) أخرج هذا الحديث ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (19711) - وإسناده رجاله ثقات إلا أنه مرسل - وابن إسحاق في السيرة (4/ 28).

* من المنتصر في هذه المعركة العظيمة؟

قَالَ: "دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ رَوَاحَةَ مُعْتَرِضًا" (¬1)، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا اعْتِرَاضُهُ؟ قَالَ: "لَمَّا أَصَابَتْهُ الجِرَاحَةُ نَكَلَ (¬2)، فَعَاتَبَ نَفْسَهُ، فتَشَجَّعَ فَاسْتُشْهِدَ" (¬3). * مَنِ المُنْتَصِرُ فِي هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ؟ جَاءَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ أَنَّ الِانْتِصَارَ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ أَخْرَجَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" (¬4). وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ أَنَّ الرُّومَ هُمُ الذِينَ انْتَصَرُوا، فَأَخْرَجَ فِي طَبَقَاتِهِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ قَالَ: . . . ثُمَّ انْهَزَمَ المُسْلِمُونَ أَسْوَأَ هَزِيمَةٍ رَأَيْتُهَا قَطُّ حَتَّى لَمْ أَرَ اثْنَيْنِ جَمِيعًا (¬5). وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ ابنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: أَنَّ كُلَّ فِئَةٍ انْحَازَتْ عَنِ الأُخْرَى (¬6). ¬

_ (¬1) مُعْتَرِضًا: أي مائلًا. انظر النهاية (3/ 190). (¬2) نَكَلَ: امتَنَعَ، وترك الإقدام. انظر النهاية (5/ 102). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (3/ 274) - دلائل النبوة للبيهقي (4/ 369). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4262). (¬5) أخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 315). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (4/ 27).

وَهُوَ الذِي رَجَّحَهُ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (¬1). وَمَهْمَا تَكُنْ الخَاتِمَةُ التِي لَقِيَتْهَا سَرِيَّةُ مُؤْتَةَ، فَإِنَّ نَتَائِجَهَا وَآثَارَهَا كَانَتْ بَعِيدَةَ المَدَى. قَالَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الرَّحْمَنِ المُبَارَكْفُورِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ كَثِيرًا فِيمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ المَعْرَكَةِ أَخِيرًا، وَيَظْهَرُ بَعْدَ النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ خَالِدَ بنَ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- نَجَحَ فِي الصُّمُودِ أَمَامَ جَيْشِ الرُّومَانِ طُولَ النَّهارِ، فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ القِتَالِ، وَكَانَ يَشْعُرُ بِمَسِيسِ الحَاجَةِ إِلَى مَكِيدَةٍ حَرْبِيَّةٍ، تُلْقِي الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الرُّومَانِ، حَتَّى يَنْجَحَ فِي الانْحِيَازِ بِالمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ الرُّومَانُ بِحَرَكَاتِ المُطَارَدَةِ، فَقَدْ كَانَ يَعْرِفُ جَيِّدًا أَنَّ الإِفْلَاتَ مِنَ بَرَاثِنِهِمْ (¬2) صَعْبٌ جدًّا لَوْ انْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، وَقَامَ الرُّومَانُ بالمُطَارَدَةِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ اليَوْمُ الثَّانِي غَيَّرَ أَوْضَاعَ الجَيْشِ، فَلَمَّا رَآهُمْ الأَعْدَاءُ أَنْكَرُوا حَالَهُمْ، وَقَالُوا: جَاءَهُمْ مَدَدٌ، فَرُعِبُوا، وَصَارَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أَنْ تَرَاءَى الجَيْشَانِ، وَتَنَاوَشَا سَاعَةً- يَتَأَخَّرُ بِالمُسْلِمِينَ قَلِيلًا قَلِيلًا، مَعَ حِفْظِ نِظَامِ جَيْشِهِ، وَلَمْ يَتَبَعْهُمُ الرُّومَانُ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ المُسْلِمِينَ يَخْدَعُونَهُمْ، وَيُحَاوِلُونَ القِيَامَ بِمَكِيدَةٍ تَرْمِي بِهِمْ فِي الصَّحْرَاءِ. ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 338). (¬2) البَرْثَنُ: مِخْلبُ الأسد. انظر لسان العرب (1/ 358).

* مواساة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لآل جعفر -رضي الله عنه-

وَهَكَذَا انْحَازَ العَدُوُّ إِلَى بِلَادِهِ، وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي القِيَامِ بِمُطَارَدَةِ المُسْلِمِينَ، وَنَجَحَ المُسْلِمُونَ فِي الِانْحِيَازِ سَالِمِينَ، حَتَّى عَادُوا إِلَى المَدِينَةِ (¬1). * مُوَاسَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِآلِ جَعْفَرَ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَعْفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمْهَلَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعْفَرَ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: "لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ اليَوْمِ، ادْعُوا إِلَيَّ ابْنَيْ أَخِي"، قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْعُوا لِيَ الحَلَّاقَ" فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ، فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا مُحَمَّدٌ، فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ، فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جَعْفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَجَاءَتْ أُمُّنَا (¬2)، فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العَيْلةَ (¬3) تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الرحيق المختوم ص 391. (¬2) هي أسماء بنت عُميس الخثعمية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬3) العَيْلة: بفتح العين: الفقر. انظر النهاية (3/ 298). ومنه قوله تعالى في سورة التوبة آية (28): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. .}. (¬4) أخرج ذلك كله: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1750) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5169) - وإسناده صحيح على شرط مسلم.

* حديث ضعيف

وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ ابنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بنَ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ صَائِرِ البَابِ -تَعْنِي مِنْ شِقِّ البَابِ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءَ (¬1) جَعْفَرَ وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَيْضًا، فَذَهَبَ، ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا، فزَعَمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ تَفْعَلُ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنَ العَنَاءَ (¬2). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَهْلِهِ: "اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرَ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ، أَوْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ" (¬3). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 304): يحتمل أن يُريد زوجاته، ويحتمل أن يريد من ينسب إليه من النساء في الجملة، وهذا الثاني هو المعتمد؛ لأنَّا لا نعرف لِجعفر زوجة غير أسماء بنت عُميس. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 304): العَنَاء: بفتح العين: هو التعب. والحديثُ أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة مؤتة - رقم الحديث (4263) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب التشديد في النياحة - رقم الحديث (935). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1751) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت - رقم الحديث (1610) وإسناده حسن.

* تلقي أهل المدينة جيش مؤتة

عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اليَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ قَتْلِ جَعْفَرَ، فَقَالَ: "لَا تُحِدِّي (¬1) بَعْدَ يَوْمِكِ هَذَا" (¬2). فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ؛ وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَينِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدُّ عَلَى مَيْتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا" (¬3). * تَلَقِّي أَهْلِ المَدِينَةِ جَيْشَ مُؤْتَةَ: قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا دَنَا الجَيْشُ مِنَ المَدِينَةِ تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالمُسْلِمُونَ، وَلَقِيَهُمُ الصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ (¬4)، . . . فَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الجَيْشِ التُّرَابَ، وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) قَالَ ابن بطال فيما نقله عنه الحَافِظُ في الفَتْحِ (3/ 490): الإحْدَادُ: هو امتناع المرأة المُتَوَفَّى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطِيبٍ وغيرهما، وكل ما كان من دواعي الجماع. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27083). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب إحداد المرأة على غير زوجها - رقم الحديث (1280) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الطلاق - باب وجود الإحداد في عدة الوفاة - رقم الحديث (1491). (¬4) قال الشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه "فقه السيرة"، ص 369: إن أولئك الصغار الأغرار يرون انسحاب خالد -رضي اللَّه عنه- ومن معه فِرارًا يُقابَل بِحَثْوِ التراب، أيّ جيل قوي نابه هذا الجيل الذي صنعه الإيمان بالحق؟ أي نجاح بغلته رسالة الإسلام في صِيَاغة أولئك الأطفال العظام؟ من آباؤهم؟ ومن أمهاتهم؟ كيف كان الآباء يُرَبون؟ وكيف كانت الأمهات يُدللن؟ إن مسلمةَ اليوم بحاجةٍ ماسة إلى أن تعرف هذه الدروس.

* قتلى الفريقين

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسُوا بِالفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ" (¬1). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِنْدِي أَنَّ ابنَ إِسْحَاقَ قَدْ وَهِمَ في هَذَا السِّيَاقِ، فَظَنَّ أَنَّ هَذَا الجُمْهُورَ الجَيْشُ، وَإِنَّمَا كَانَ للذِينَ فَرُّوا حِينَ الْتَقَى الجَمْعَانِ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَلَمْ يَفِرُّوا، بَلْ نُصِرُوا، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ فِي قَوْلِهِ: "ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ"، فَمَا كَانَ المُسْلِمُونَ لِيُسَمُّونَهُمْ فُرَّارًا بَعْدَ ذَلِكَ، وإِنَّمَا تَلَقَّوْهُمْ إِكْرَامًا وَإِعْظَامًا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْنِيبُ وَحَثْيُ التُّرَابِ لِلذِينَ فَرُّوا وَتَركُوهُمْ هُنَالِكَ (¬2). وَفِي قَوْلِ النَّاسِ لِجَيْشِ المُسْلِمِينَ: يَا فُرَّارُ، مَا يَدُلُّ عَلَى مَبْلَغِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الخُلُقُ الإِسْلَامِيُّ آنَئِذٍ مِنْ حُبِّ البُطُولَةِ وَإِيثَارِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى الفِرَارِ، وَالِاسْتِحْيَاءِ مِنَ المَثَالِبِ (¬3) وَالمَسَاوِي، وَتَقْدِيرٍ لِلْقِيَمِ، وَالمَعَانِي الأَدَبِيَّةِ (¬4). * قَتْلَى الفَرِيقَيْنِ: وَاسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ المَعْرَكَةِ العَظِيمَةِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، أَمَّا الرُّومَانُ، فَلَمْ يُعْرَفْ عَدَدُ قتلَاهُمْ غَيْرَ أَنَّ وَصْفَ المَعْرَكَةِ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ (¬5). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 30) وإسناده مرسل حسن كما قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 640) - وأخرجه بنحوه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5384) وإسناده ضعيف. (¬2) انظر البداية والنهاية (4/ 640). (¬3) المَثْلَبُ: شدة اللوم والأخذ باللسان. انظر لسان العرب (2/ 116). (¬4) انظر كتاب السِّيرة النَّبوِيَّة للدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى (2/ 430). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (4/ 36).

* بعض الفوائد التي اشتملت عليها غزوة مؤتة

قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا أَنْ يَتَقَاتَلَ جَيْشَانِ مُتَعَادِيَانِ فِي الدِّينِ، أَحَدُهُمَا وَهُوَ الفِئَةُ التِي تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ وَعِدَّتُهَا مِائتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنَ الرُّومِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِنْ نَصَارَى العَرَبِ مِائَةُ أَلْفٍ، يَتَبَارَزُونَ وَيَتَصَاوَلُونَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقْتَلُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ المُشْرِكِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَهَذَا خَالدٌ وَحْدَهُ يَقُولُ: "لَقَدِ انْدَقَّتْ فِي يَدِي يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَمَا صَبَرَتْ فِي يَدِي إِلَّا صَحِيفَةٌ يَمَانِيَةٌ"، فَمَاذَا تَرَى قَدْ قَتَلَ بِهَذِهِ الأَسْيَافِ كُلِّهَا؟ دَعْ غَيْرَهُ مِنَ الأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ مِنْ حَمَلَةِ القُرْآنِ، وَقَدْ تَحَكَّمُوا فِي عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الرَّحْمَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَفِي كُلِّ أَوَانٍ، وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} (¬1). * بَعْضُ الفَوَائِدِ التِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا غَزْوَةُ مُؤْتَةَ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ تَعْلِيقِ الإِمَارَةِ بِشَرْطٍ، وَتَوْليَةُ عِدَّةِ أُمَرَاءَ بِالتَّرْتِيبِ. ¬

_ = وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة أسماء من استشهد في مؤتة (4/ 36). (¬1) سورة آل عمران آية (13). وانظر كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 651).

2 - وَفِيهِ جَوَازُ التَّأَمُّرِ فِي الحَرْبِ بِغَيْرِ تَأْمِيرٍ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 4 - وَفِيهِ عَلَمٌ ظَاهِرٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ. 5 - وَفِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِخَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، وَلِمَنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 302).

سرية ذات السلاسل

سَرِيَّةُ ذاتِ السَّلاسِلِ (¬1) وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَلَغَهُ أَنَّ جَمْعًا مِنْ قُضَاعَةَ، وَهُمْ بلِي (¬2)، وعُذْرَةَ (¬3)، وبَنو القيْنِ، قَدْ تَجَمَّعُوا يُرِيدُونَ الإِغارَةَ عَلى أَطْرَافِ المَدِينَةِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمْرَو بنَ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ (¬4). قَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَمْرُو، اشْدُدْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي". قَالَ عَمْرٌو: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ، ثُمَّ طَأْطَأَهُ (¬5) فَقَالَ: "يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمُكَ، وَأَزْعَبُ (¬6) لَكَ مِنَ المَالِ زَعْبَةً صَالِحَةً". فَقَالَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي المَالِ، إِنَّمَا ¬

_ (¬1) السلاسِلُ: هو ماءٌ بأرض جذام، وبه سميت الغزوة. انظر النهاية (2/ 350). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 403): بَليّ: بفتح الباء وكسر اللام الخفيفة. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 403): عُذْرة: بضم العين وسكون الذال. (¬4) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 315) - سيرة ابن هشام (4/ 280). (¬5) طأطأ رأسه: خفض رأسه. انظر لسان العرب (8/ 113). (¬6) أزْعَبُ: أي أعطيكَ دُفعة من المال، وأصل الزعب: الدفع والقَسْم. انظر النهاية (2/ 274).

أَسْلَمْتُ رَغْبَةَّ فَي الجِهَادِ، وَالكَيْنُونَةِ مَعَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَمْرُو، نِعِمَّا (¬1) بِالمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" (¬2). ثُمَّ عَقَدَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِوَاءً أَبْيَضَ، وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَمَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا، فَخَرَجَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ القَوْمِ بَلَغَهُ أَنَّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا، فَبَعَثَ رَافِعَ بنَ مَكِيثٍ الجُهَنِيَّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَمِدُّهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- فِي مِائَتَيْنِ مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِعَمْرٍو، وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلَا يَخْتَلِفَا. فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه- فَلَحِقَ بِعَمْرٍو، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا قَدِمْتَ عَلَيَّ مَدَدًا وَأَنَا الأَمِيرُ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدةَ: لَا، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْتَ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: بَلْ أَنْتَ مَدَدٌ لِي. وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ المُهَاجِرُونَ: بَلْ أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِكَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرُ المُهَاجِرِبنَ، فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّمَا أَنْتُمْ مَدَدٌ لَنَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانَ ¬

_ (¬1) في رواية البخاري في الأدب المفرد: "نِعْمَ". (¬2) أخرج ذلك كله: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17763) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (229) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الزكاة - باب ذكر الإباحة للرجل الذي يجمع المال من حله - رقم الحديث (3211) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (6056) - وإسناده صحيح على شرط مسلم.

رَجُلًا حَسَنَ الخُلُقِ لَيِّنَ العَرِيكَةَ (¬1)، سَهْلًا، هَيِّنًا عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، قَالَ: لَتَعْلَمُ يَا عَمْرُو! أَنَّ آخِرَ شَيءٍ عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ قَالَ: "إِنْ قَدِمْتَ عَلَى صَاحِبِكَ فَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا"، وَإِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَنِي لَأُطِيعَنَّكَ، فَقَالَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه-: فَإِنِّي الأَمِيرُ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مَدَدٌ لِي، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَدُونَكَ، فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلِّي بِالنَّاسِ. وَسَارَ حَتَّى وَطِئَ بِلَادَ بَلِي وَدَوَّخَهَا (¬2)، حَتَّى أَتَى إِلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ وَبِلَادِ عُذْرَةَ وَبَنِي القَيْنِ، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالكَثِيرِ، فَاقْتَتَلُوا ساعَةً وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ، ثُمَّ حَمَلَ المُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَهَرَبُوا وَتَفَرَّقُوا فِي البِلَادِ. وَأَقَامَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- أَيَّامًا، وَكَانَ يَبْعَثُ الخَيْلَ، فَيَأْتُونَ بِالشَّاءِ وَالنَّعَمِ، فَيَنْحَرُونَ وَيَأْكُلُونَ. وَفِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَمَرَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- النَّاسَ أَنْ لَا يُوقِدُوا نَارًا، فَغَضِبَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَهَمَّ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ، فنَهَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ لَهُ: دَعْهُ، فَإِنَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ عَلَيْنَا إِلَّا لِعِلْمِهِ بِالحَرْبِ، فَهَدَأَ عَنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ ابنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: فكَلَّمَ النَّاسَ أَبَا بَكْرٍ ¬

_ (¬1) العَرِيكة: الطبيعة، يقال: فلانٌ ليِّن العريكة: إذا كان سَلِسًا مُطاعًا مُنْقادًا قليلَ الخِلاف والنُّفور. انظر النهاية (3/ 200). (¬2) يقال: داخَ يدوخُ: إذا ذَلّ. انظر النهاية (2/ 129).

* الرجوع إلى المدينة

الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- فكلَّمَهُ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عَمْرٌو: لَا يُوقِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ نَارًا إِلَّا قَذَفْتُهُ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَقُوا العَدُوَّ فَهَزَمُوهُمْ، فَأَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فَمَنَعَهُمْ. * الرُّجُوعُ إِلَى المَدِينَةِ: فَلَمَّا قَفَلُوا رَاجِعِينَ إِلَى المَدِينَةِ احْتَلَمَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ كَأَشَدِّ مَا يَكُونُ مِنَ البَرْدِ، فَخَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ لَقَدِ احْتَلَمْتُ البَارِحَةَ، فَغَسَلَ مَغَابِنَهُ (¬1) وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ (¬2)، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ بَعَثَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- عَوْفَ بنَ مَالِكٍ الأَشْجَعِيَّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَشِّرُهُ بِانْتِصَارِهِ، وَأَنَّهُ عَزَّزَ نُفُوذَ المُسْلِمِينَ عَلَى تُخُومِ الشَّامِ، وَيُخْبِرُهُ بِرُجُوعِ الجَيْشِ وَسَلَامَتِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ، ¬

_ (¬1) المغابن: هي بواطن الأفخاذ. انظر النهاية (3/ 307). (¬2) وفي رواية أخرى قال: "فتيمَّمْتُ"، ولم يذكر الوضوء. قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 342): اختلفت الرواية عن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه-، فَرُوِيَ عنه فيها أنه غسل مغابِنَه وتوضأ وضوءَهُ للصلاة، ثم صلى بهم، ولم يذكر التيمم، وكأن هذه الرواية أقوى من رواية التيمم. قال عبد الحق: وقد ذكرها وذكر رواية التيمم قبلها، ثم قال: وهذا أوصل من الأول؛ لأنه عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن أبي القيس مولى عمرو، عن عمرو، والأولى التي فيها التيمم، من رواية عبد الرحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، لم يذكر بينهما أبا قيس. وقال البيهقي في السنن (1/ 226): يحتمل أن يكون قد فعل ما نُقل في الروايتين جميعًا غسل ما قدر على غسله، وتيمم للباقي.

* من أحب الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-

سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَيْفَ وَجَدْتُمْ عَمْرًا وَأَصْحَابَهُ؟ ". فَأَثْنُوا عَلَيْهِ خَيْرًا، ثُمَّ ذَكَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْعَ عَمْرٍو لَهُمْ مِنْ إِيقَادِ النِّيرَانِ، وَمِنِ اتِّبَاعِ العَدُوِّ، وَمِنْ صَلَاتِهِ بِهِمْ وَهُوَ جُنُبٌ. فَسَأَلهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَمْرٌو: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُمْ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا، فَيَرَى عَدُوُّهُمْ قِلَّتَهُمْ، وَكَرِهْتُ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ، فَيَكُوُن لَهُمْ مَدَدٌ فَيَعْطِفُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ البَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬1). فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عَمْرٍو، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا (¬2). * مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَلَمَّا عَرَفَ عَمْرُو بنُ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ رَضِيَ عَنْ كُلِّ مَا ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (29). (¬2) أخرج خبر هذه السرية بدون تفاصيل: البخاري في صحيحه - كتاب التيمم - باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت -معلقًا- وأخرجه في المغازي - باب غزوة ذات السلاسل - رقم الحديث (4358) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2384). وأخرج تفاصيلها: ابن حبان في صحيحه - كتاب الطهارة - باب التيمم - رقم الحديث (1315) - وكتاب السير - باب الخلافة والإمارة - رقم الحديث (4540) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17812) - والحاكم في المستدرك - كتاب الطهارة - باب عدم الغسل للجنابة في شدة البرد - رقم الحديث (647) (648) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2457) بأسانيد صحيحة.

فَعَلَ، ظَنَّ أَنَّهُ صَارَتْ لَهُ مَكَانَةً عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْظَمَ مِنْ مَكَانَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَائِشَةُ". قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبُوهَا". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثُمَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ". قَالَ عَمْرٌو: فَعَدَّ رِجَالًا، فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ (¬1). وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ شَقِيقٍ قَالَ: قَالَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ مَنْ؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ" (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهَذَا يُفَسِّرُ بَعْضَ الرِّجَالِ الذِينَ أُبْهِمُوا فِي الحَدِيثِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفضائل - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا" - رقم الحديث (3662) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة ذات السلاسل - رقم الحديث (4358) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2384). (¬2) أخرج رواية عبد اللَّه بن شقيق: ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6998) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) انظر فتح الباري (7/ 377).

* وفي هذا الحديث من الفوائد

* وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ تَأْمِيرِ المَفْضُولِ عَلَى الفَاضِلِ، إِذَا امْتَازَ المَفْضُولُ بِصِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الوِلَايَةِ. 2 - وَفِيهِ مَزِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الرِّجَالِ، وَبِنْتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى النِّسَاءِ. 3 - وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- لِتَأْمِيرِهِ عَلَى جَيْشٍ فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ، لَكِنْ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ فَضْلًا فِي الجُمْلَةِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 404).

سرية أبي قتادة -رضي الله عنه- إلى خضرة

سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى خَضِرَةَ (¬1) وَكَانَتْ هَذِهِ السَّرِيَّةُ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا قتادَةَ الحَارِثَ بنَ رِبْعِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا إِلَى خَضِرَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ غَطَفَانَ كَانُوا يَتَحَشَّدُونَ هُنَاكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنَّ عَلَيْهِمُ الغَارَةَ، فَسَارَ اللَّيْلَ وَكَمَنَ النَّهَارَ، فَهَجَمَ عَلَى حَاضِرٍ (¬2) مِنْهْمُ عَظِيمٍ، فَأَحَاطَ بِهِمْ، وَقَاتَلَ مِنْهُمْ رِجَالًا، فَقَتَلُوا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ (¬3)، فَكَانَتِ الإِبِلُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ، وَالغَنَمَ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَسَبُوا سَبْيًا كَثِيرًا، فنَفَلَهُمْ أَمِيرُهُمْ بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ رَجُلٍ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ غَنِيمَتَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ الخُمُسَ، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ بَعِيرًا، وَعَدَلَ البَعِيرَ بِعَشْرٍ مِنَ الغَنَمِ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَكَانَ فِي السَّبْي جَارِيَهٌ وَضِيئَةٌ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ أَبِي قَتَادَةَ، فَجَاءَ مَحْمِيَةُ (¬4) بنُ جَزْءٍ -رضي اللَّه عنه- (¬5)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا قتادَةَ قَدْ أَصَابَ فِي وَجْهِهِ هَذَا ¬

_ (¬1) خَضِرة: بفتح الخاء وكسر الضاد: هي أرض محارب بنجد. انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 316). (¬2) الحاضر: القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه. انظر النهاية (1/ 384). (¬3) النَّعم: بفتح النون، وهي الإبل والشاء. انظر لسان العرب (14/ 212). (¬4) مَحْمِية: بفتح الميم الأولى وسكون الحاء وكسر الميم الثانية. انظر الإصابة (6/ 36). (¬5) جَزْء: بفتح الجيم وسكون الزاي. انظر الإصابة (6/ 36). =

جَارِيَةً، وَقَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي جَارِيَةً مِنْ أَوَّلِ فَيْءٍ يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاسْتَوْهَبَهُ الجَارِيَةَ، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَدَفَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمَحْمِيَةَ بنِ جَزْءٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * * * ¬

_ = قال الحافظ في الإصابة (6/ 36): كان قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة. (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 316).

سرية عبد الله، بن أبي حدرد -رضي الله عنه- إلى الغابة

سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ، بنِ أَبِي حَدْرَدٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الغَابَةِ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي جُشَمٍ يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بنُ قَيْسٍ أَوْ قَيْسُ بنَ رِفَاعَةَ، قَدْ نَزَلَ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ قَوْمِهِ بِالغَابَةِ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ جُمُوعًا لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَبَرَهُ بَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ قَدْ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُعِينَهُ فِي مَهْرِ زَوْجَتِهِ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَمْ أَصْدَقْتَ؟ " (¬1). قَالَ: مِائتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ كُنْتُمْ تَغْرِفُونَ الدَّرَاهِمَ مِنْ وَادِيكُمْ (¬2) هَذَا مَا زِدْتُمْ (¬3)، مَا عِنْدِي مَا أُعْطِيكَ". ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ أَبِي حَدْرَدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَرَجُلَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ لِيَخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ -قَيْسِ بنِ رِفَاعَةَ أَوْ رِفَاعَةَ بنَ قَيْسٍ-. ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في المسند - رقم الحديث (15706): أمهرتها. (¬2) جاء في رواية أخرى في المسند - رقم الحديث (15706) - تسمية هذا الوادي: قال: بُطحان. وبُطحان: هو بضم الباء وسكون الطاء: واد في المدينة. انظر النهاية (1/ 134). (¬3) قال السندي في شرح المسند (8/ 463): أي ما كان لائقًا بكم أن تزيدوا، فكيف تزيدون، وهي لا تحصل إلا بتعب، ويحتمل أن تكون "ما" استفهامية، أي: لزدتم أيّ زيادة.

فَخَرَجُوا وَتَمَكَّنَ ابنُ حَدْرَدٍ -رضي اللَّه عنه- مِنْ قَتْلِ رِفَاعَةَ بنِ قَيْسٍ، وَهَرَبَ قَوْمُهُ، فَأَخَذُوا مَا قَدِرُوا عَلَيْهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالأَوْلَادِ، وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتَاقُوا إِبِلًا عَظِيمَةً وَغَنَمًا كَثِيرَةً، وَجَاؤُوا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بنَ أَبِي حَدْرَدٍ -رضي اللَّه عنه- ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرج قصة هذه السرية: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23882) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 285) - والبيهقي في دلائل النبوة (4/ 303) - وإسنادها ضعيف.

سرية أبي قتادة -رضي الله عنه- إلى إضم

سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى إِضَمٍ (¬1) بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا قَتَادَةَ الحَارِثَ بنَ رِبْعِيٍّ -رضي اللَّه عنه- فِي سَرِيَّةٍ إِلَى إِضَمٍ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فِيهِمْ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي حَدْرَدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَمُحَلِّمُ بنُ جَثَّامَةَ بنِ قَيْسٍ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَطْنِ إِضَمٍ مَرَّ بِهِمْ عَامِرُ بنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ (¬2) لَهُ، وَمَعَهُ مُتَيِّعٌ (¬3) لَهُ وَوَطْبٌ (¬4) مِنْ لَبَنٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِتَحِيَّةِ الإِسْلَامِ، فَأَمْسَكَ عَنْهُ القَوْمُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بنُ جَثَّامَةَ، فَقتَلَهُ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ قَعُودَهُ وَمُتَيِّعَهُ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَلَمْ يَلْقَوْا جَمْعًا، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَخْبَرُوهُ الخَبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُحَلِّمِ بنِ جَثَّامَةَ: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالِ إِنِّي مُسْلِمٌ"، قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا (¬5)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ؟ ". ¬

_ (¬1) إضَم: بكسر الهمزة وفتح الضاد: اسم موضع. انظر النهاية (1/ 55). (¬2) القَعُودُ من الإبل: ما أمكنَ أن يُركب، وأدناه أن يكون له سنتان. انظر النهاية (4/ 77). (¬3) متيِّع: تصغير متاع. (¬4) الوَطْب: بفتح الواو وسكون الطاء: هو الوعاء الذي يكون فيه السمن واللبن. انظر النهاية (5/ 176). (¬5) مُتَعوذًا: أي إنما قالها ليدفع عنه القتل. انظر النهاية (3/ 287).

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ! . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ". فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (¬1). فَلَمْ يَلْبَثْ مُحَلِّمٌ إِلَّا سَبْعًا حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا دَفَنُوهُ، لفَظَتْهُ (¬2) الأَرْضُ، ثُمَّ عَادُوا فَدَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ، ثُمَّ عَادُوا فَدَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَلَمَّا غُلِبَ قَوْمُهُ عَمَدُوا إِلَى صُدَّيْنِ (¬3) فَسَطَّحُوهُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ رَضَمُوا (¬4) عَلَيْهِ الحِجَارَةَ حَتَّى ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (94). قلتُ: وقع في رواية الإمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4591) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (3025) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل اللَّه هذه الآية. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 135): ولا مانع أن تنزل الآية في الأمرين معًا. (¬2) لفظته: أي قذفته ورمته. انظر النهاية (4/ 223). (¬3) الصَّدُّ والصُّدُّ: الجبل. انظر لسان العرب (7/ 298). (¬4) رَضْم الحجارة: جعل بعضها على بعض. انظر لسان العرب (5/ 235).

وَارُوهُ (¬1)، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "وَاللَّهِ إِنَّ الأَرْضَ لَتُطَابِقُ عَلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ فِي حُرْمِ مَا بَيْنَكُمْ بِمَا أَرَاكُمْ مِنْهُ". وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهَا -أَي الأَرْضُ- تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَوْعِظَةً لَكُمْ لِكَيْلَا يُقْدِمَ رَجُلٌ مِنْكُمْ عَلَى قَتْلِ مَنْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ يَقُولَ: إِنِّي مُسْلِمٌ" (¬2). قُلْتُ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قِصَّةٌ أُخْرَى لِرَجُلٍ لفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ، فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، وَكتَبَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَقْرَأُ مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، وَأَعَادُوا دَفْنَهُ، فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) وَرّيت الشيء واريته: أخفيته. انظر لسان العرب (15/ 283). (¬2) أخرج القصة دون ذكر لفظ الأرض لمحلّم بن جَثّامة: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23881) - وأخرجها مع ذكر لفظ الأرض لمحلّم بن جَثّامة: ابن إسحاق في السيرة (4/ 282) - والبيهقي في دلائل النبوة (4/ 309 - 310) - وإسناده حسن. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3617) - ومسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2781) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3211).

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون [4]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة للمؤلف فهرسة مكتبة الكويت الوطنية أثْنَاء النشر 239 العازمي، مُوسَى بن رَاشد. اللُّؤْلُؤ الْمكنُون فِي سِيْرَة النَّبِيّ الْمَأْمُون: دراسة مُحَققَة للسيرة النَّبَوِيَّة (الْجُزْء الرابع) تأليف مُوسَى بن رَاشد العازمي - ط 1 - الكويت: مُوسَى بن رَاشد العازمي، 2011 ج 4 (696 ص)؛ 24 سم. ردمك: 7 - 04 - 44 - 99966 - 978 1. السِّيرَة النَّبَوِيَّة ... أ. العنوان ردمك: 7 - 04 - 44 - 99966 - 978 رقم الْإِيدَاع: 243/ 2011 الطبعة الأولى 1432 هـ - 2011 م تمّ طباعة الْكتاب على نَفَقَة عبد اللَّه الْعلي المطوع - رَحمَه اللَّه - الناشر المكتبة العامرية إعلان وطباعة وَنشر وتوزيع الكويت - حَولي - شَارِع الْمثنى - مجمع البدري - مَحل رقم 13 تلِي فاكس: 0096522623880 - جوال: 0096599862197 الْبَرِيد الإلكتروني: [email protected] manaar [email protected] موقع المكتبة: www.sites.google.com/site/amriabookstore

دولة الكويت وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية السيد الفاضل/ مدير إدارة الثقافة الإسلامية المحترم السلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته,, وبعد بالإشارة إلى الكتاب رقم (315) بشأن مراجعة: مادة بحث عدد (1) الوارد بتاريخ: 3/ 3/ 2011 بعنوان: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون ج 4 إعداد: موسى بن راشد العازمي نشر: المؤلف بعد الإطلاع على النسخة المذكورة أعلاه ومراجعتها نحيطكم علمًا بأنه لم تتبين لنا ملاحظات تذكر. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام,, رئيس لجنة الكتب والمصنفات الفنية الأصل بتوقيع خليف مثيب الأذينة الوكيل المساعد للشئون الثقافية

غزوة فتح مكة من بدايتها إلى نهايتها

غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ بِدَايَتِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا الفَتْحُ الأَعْظَمُ فَتْحُ مَكَّةَ هَذَا الفَتْحُ الذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ دِينَهُ، وَرَسُولَهُ، وَجُنْدَهُ، وَحِزْبَهُ الأَمِينَ، وَاسْتَنْقَذَ بِهِ بَلَدَهُ وَبَيْتَهُ الذِي جَعَلَهُ هُدًى لِلْعَالَمِينَ مِنْ أَيْدِي الكُفَّارِ وَالمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الفَتْحُ الذِي اسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءَ، وَضُرِبَتْ أَطْنَابُ عِزِّهِ عَلَى مَنَاكِبِ الجَوْزَاءَ، ودَخَلَ النَّاسُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَأَشْرَقَ بِهِ وَجْهُ الأَرْضُ ضِيَاءً وَابْتِهَاجًا (¬1). وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الفَتْحَ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ (¬2) وَقَاتَلَ (¬3) أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (3/ 347). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (8/ 12): الجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تفسيره (8/ 12): أي: لا يستوي هذا -أي الذي أنفق وقاتل قبل الفتح- ومن لم يفعل كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، ولهذا قال سبحانه: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}. (¬4) سورة الحديد آية (10).

* سبب الفتح

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬1). * سَبَبُ الفَتْحِ: وَكَانَ سَبَبُ غَزْوَةِ الفَتْحِ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبَيْنَ قُرَيْشٍ كَانَ فِي أَحَدِ بُنُودِ الصُّلْحِ: أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ، وأَنَّ القَبِيلَةَ التِي تَنْضَمُّ إِلَى أَيِّ الفَرِيقَيْنِ تُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْ ذَلِكَ الفَرِيقِ، فَأَيُّ عُدْوَانٍ تتعَرَّضُ لَهُ أَيٌّ مِنْ تِلْكَ القَبَائِلِ يُعْتَبَرُ عُدْوَانًا عَلَى ذَلِكَ الفَرِيقِ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي صُلْحِ الحُدَيْبِيَةِ- فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَهْدِهِ، وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرِ بنِ عَبْدِ مَنَاةَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ. * الحُرُوبُ بَيْنَ القَبِيلَتَيْنِ قَدِيمَةٌ: وَكَانَ بَيْنَ القَبِيلَتَيْنِ عَدَاوَاتٌ وَحُرُوبٌ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلَامُ، وَوَقَعَتِ الهُدْنَةُ، وَأَمِنَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الآخَرِ، اغْتَنَمَ بَنُو بَكْرٍ هَذِهِ الفُرْصَةَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ خُزَاعَةَ ثَأْرَهُمُ القَدِيمَ. فَخَرَجَ نَوْفَلُ بنُ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي بَكْرٍ حَتَّى بَيَّتُوا (¬2) ¬

_ (¬1) سورة النصر بكاملها. (¬2) بَيَّته: جاءه ليلًا. انظر النهاية (1/ 167).

* ندم قريش

خُزَاعَةَ لَيْلًا وَهُمْ آمِنُونَ، عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، يُقَالُ لَهُ: "الوَتِيرُ"، وَكَانَ مِنْهُمُ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمُ النَّائِمُ، فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالًا، فَاقْتَتَلُوا إِلَى أَنْ دَخَلُوا الحَرَمَ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ لِنَوْفَلِ بنِ مُعَاوِيَةَ: يَا نَوْفَلُ! إنَّا قَدْ دَخَلْنَا الحَرَمَ، إِلَهَكَ، إِلَهَكَ. فَقَالَ نَوْفَلٌ كَلِمَةً عَظِيمَةً: لَا إِلَهَ اليَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ! أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الحَرَمِ، أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ؟ . فَانْطَلَقَتْ هَذِهِ المَجْمُوعَةُ مِنْ خُزَاعَةَ هَارِبِينَ، وَبَنُو بَكْرٍ وَرَاءَهُمْ بِالسُّيُوفِ، حَتَّى لَجَؤُوا إِلَى دَارِ بُدَيلِ بنِ وَرْقَاءَ -سَيِّدِ خُزَاعَةَ- فَوَجَدُوا البَابَ مُغْلَقًا، فَقَتَلَتْهُمْ بَنُو بَكْرٍ عِنْدَ بَابِ بُدَيلِ بنِ وَرْقَاءَ سَيِّدِ خُزَاعَةَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ رَجُلًا، وَشَارَكَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي قَتْلِ خُزَاعَةَ، مِنْهُمْ: صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَحُوَيْطِبُ بنُ عَبْدِ العُزَّى، وَمِكْرَزُ بنُ حَفْصٍ، وَعِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو. وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ. * نَدَمُ قُرَيْشٍ: ثُمَّ نَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى مَا صَنَعَتْ مِنْ مُسَاعَدَةِ بَنِي بَكْرٍ فِي قَتْلِ خُزَاعَةَ، وَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا نَقْضٌ وَاضِحٌ لِصُبْحِ الحُدَيْبِيَةِ الذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَجَاءَ الحَارِثُ بنُ هِشَامٍ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا فَعَلَ القَوْمُ، فَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَشْهَدْهُ، وَلَمْ أَغِبْ عَنْهُ، وَإِنَّهُ لَشَرٌّ، وَوَاللَّهِ لَيَغْزُونَا مُحَمَّدٌ (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: ابن حبان في صحيحه - كتاب الجنايات - باب القصاص - رقم الحديث =

* خزاعة تستنجد بالرسول -صلى الله عليه وسلم-

* خُزَاعَةُ تَسْتَنْجِدُ بِالرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَلَمَّا انْقَضَى القِتَالُ خَرَجَ عَمْرُو بنُ سَالِمٍ الخُزَاعِيُّ، حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا (¬1) قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدًا (¬2) ... ثمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا (¬3) ... وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... أَبْيَضَ مِثْلَ البَدْرِ يَسْمُو صُعُدَا فِي فَيْلَقٍ كَالبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا ... إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا ... وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ (¬4) رُصَّدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا ... وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا هُمْ بَيَّتُونَا بِالوَتِيرِ هُجَّدَا (¬5) ... وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا ¬

_ = (5996) - وإسناده حسن - وأخرجه ابن سعد في طبقاته (2/ 316) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 37 وما بعدها) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 5 وما بعدها). (¬1) الأتْلَدَا: القديم. انظر النهاية (1/ 189). (¬2) قال السُهيلي في الرَّوْض الأُنُف (4/ 146): يريد أن بني عبد مناف أمهم من خزاعة، وكذلك: قُصي بن كلاب أمه: فاطمة بنت سعد الخزاعية، والوُلد بمعنى الوَلد. (¬3) أعتدا: أي حاضرا. انظر لسان العرب (9/ 31). (¬4) كَداء: بفتح الكاف: هي الثنية العليا بمكة مما يلي المقابر: وهو المعلا. انظر النهاية (4/ 136). (¬5) المُتَهجد: هو المصلي بالليل، ومنه قوله تَعَالَى في سورة الإسراء آية (79): {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} انظر النهاية (5/ 211).

* خروج أبي سفيان إلى المدينة ليجدد الصلح

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بنَ سَالِمٍ"، فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ سَحَابَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْب". ثُمَّ خَرَجَ بدَيلُ بنُ وَرْقَاءَ -سَيِّدُ خُزَاعَةَ- فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ، فَأَخْبَرُوهُ تَفَاصِيلَ الخَبَرِ، وَأَنَّ قُرَيْشًا سَاعَدَتْ بَنِي بَكْرٍ عَلَى قتلِ رِجَالِ خُزَاعَةَ، ثُمَّ خَرَجَ هَذَا الوَفْدُ مِنْ خُزَاعَةَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ (¬1). * خُرُوجُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى المَدِينَةِ لِيُجَدِّدَ الصُّلْحَ: وَلَمَّا نَدِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى نَقْضِهِمُ العَهْدَ وَتَخَوَّفُوا سُوءَ صَنِيعِهِمْ، عَقَدَتْ مَجْلِسًا اسْتِشَارِيًّا، وَقَرَّرَتْ أَنْ تَبْعَثَ قَائِدَهَا أَبَا سُفْيَانَ مُمَثِّلًا لَهَا؛ لِيَقُومَ بِتَجْدِيدِ الصُّلْحِ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَا سَتَفْعَلُهُ قُرَيْشٌ إِزَاءَ غَدْرِهِمْ، فَقَالَ: "كَأَنَّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدَّ العَقْدَ، وَيَزِيدَ فِي المُدَّةِ"، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَ بُدَيلَ بنَ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابَهُ رَاجِعِينَ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا بُدَيلُ؟ -وَظَنَّ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السَّاحِلِ، وَفِي بَطْنِ هَذَا الوَادِي، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَوَ مَا جِئْتَ مُحَمَّدًا؟ قَالَ: لَا. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: ابن إسحاق في السيرة (4/ 43) وإسناده صحيح.

* موقف أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها

فَلَمَّا رَاحَ بُدَيلُ إِلَى مَكَّةَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَئِنْ جَاءَ بُدَيلُ المَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ (¬1) بِهَا النَّوَى (¬2)، فَأَتَى مَبْرَكَ رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا، فَفَتَّهُ، فَرَأَى فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ، لَقَدْ جَاءَ بُدَيلٌ مُحَمَّدًا. * مَوْقِفُ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ رَمْلَةَ أُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَوَتْهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّهُ! أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الفِرَاشِ، أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي؟ قَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجِسٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ يَا بُنَيَّةُ بَعْدِي شَرٌّ، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! اشْدُدِ العَقْدَ، وَزِدْنَا فِي المُدَّةِ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلِذَلِكَ قَدِمْتَ! هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ قِبَلَكُمْ؟ ". قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، نَحْنُ عَلَى عَهْدِنَا وَصُلْحِنَا يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، لَا نُغَيِّرُ وَلَا نُبَدِّلُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * طَلَبُ أَبِي سُفْيَانَ الشَّفَاعَةَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ: فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ذَهَبَ. ¬

_ (¬1) علف: هو ما تأكله الماشية. انظر النهاية (3/ 260). (¬2) النَّوَى: جمع نواة التمر. انظر لسان العرب (14/ 344).

إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فكلَّمَهُ أَنْ يَشْفَعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِتَجْدِيدِ العَقْدِ، وَزِيَادَةِ المُدَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَأَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا الذَّرَّ (¬1) لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ (¬2). وَفِي رِوَايَةِ البَيْهَقِيِّ فِي الدَّلَائِلِ: قَالَ لَهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَا كَانَ مِنْ حِلْفِنَا جَدِيدًا فَأَخْلَقَهُ (¬3) اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مُثْبَتًا فَقَطَعَهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَقْطُوعًا فَلَا وَصَلَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: جُزِيتَ مِنْ ذِي رَحِمٍ سُوءًا (¬4). ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- فكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعِنْدَهَا الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ غُلَامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ! إِنَّكَ أَمَسُّ القَوْمِ بِنَا رَحِمًا، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكَ فِي حَاجَةٍ فَلَا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا، فَاشْفَعْ لِي إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ. فَالْتَفَتَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ لَهَا: يَا ابْنَةَ مُحَمَّدٍ! هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي ¬

_ (¬1) الذَّرُّ: النمل الأحمر الصغير، واحدتها: ذَرَّة. انظر النهاية (2/ 145). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 44 - 45) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 8). (¬3) الشيء الخَلِق: البالي. انظر لسان العرب (4/ 195). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 10).

* تجمع قريش على أبي سفيان

بُنَيَّكِ هَذَا فَيُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونَ سَيِّدَ العَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ؟ . فَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَاللَّهِ مَا بَلَغَ بُنَيَّ ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَحِينَئِذٍ أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا أَمَامَ عَيْنَيْ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- فِي يَأْسٍ وَقُنُوطٍ: يَا أَبَا حَسَنٍ! إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، فَانْصَحْنِي. فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ لَكَ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا، وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بِأَرْضِكَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَوَ ترَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا؟ . قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا أَظُنُّهُ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ. فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا أَيُّها النَّاسُ! إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَنْ يُخْفِرَنِي (¬1) أَحَدٌ، وَلَا يَرُدَّ جِوَارِي أَحَدٌ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ"، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ وَانْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ. * تَجَمُّعُ قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى قُرَيْشٍ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ هَلْ جِئْتَ بِكِتَابٍ مِنْ مُحَمَّدٍ أَوْ عَهْدٍ؟ . ¬

_ (¬1) خَفَرْتُ الرجل: أجرته وحفظته. انظر النهاية (2/ 50).

* تهيؤ الرسول -صلى الله عليه وسلم- للغزو وكتمانه الأمر

قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَقَدْ أَبَى عَلَيَّ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَصْحَابَهُ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا لِمَلِكٍ عَلَيْهِمْ أَطْوَعَ مِنْهُمْ لَهُ، فَجِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْرًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ الخَطَّابِ فَوَجَدْتُهُ أَعْدَى العَدُوِّ، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيًّا فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ القَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا أَمْ لَا؟ . قَالُوا: بِمَ أَمَرَكَ؟ . قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ لِي: لِمَ تَلْتَمِسُ جِوَارَ النَّاسِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَا تُجِيرُ أَنْتَ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَأَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وَأَكْبَرُهَا، وَأَحَقُّهَا أَنْ يُخْفَرَ جِوَارُهُ، فَفَعَلْتُ. قَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لَا، وَإِنَّمَا قَالَ: "أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ؟ ". فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ! وَاللَّهِ إِنْ زَادَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، وَجِئْتَنَا بِمَا لَا يُغْنِي عَنْكَ وَلَا عَنَّا شَيْئًا. قَالَ: وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ (¬1). * تَهَيُّؤُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْغَزْوِ وَكِتْمَانُهُ الأَمْرَ: ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تُعِدَّ لَهُ جَهَازَهُ (¬2)، وَلَا ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 44) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 9 - 10). (¬2) تجهيزُ الغازي: إعدادُ ما يحتاج إليه في غزوه. انظر النهاية (1/ 310).

تُعْلِمَ أَحَدًا أَيْنَ يُرِيدُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالجَهَازِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ تُعِدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَهَازَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَيْ بُنَيَّةُ! أَأَمَرَكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ تُجَهِّزُوهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ ، فَصَمَتَتْ. فَقَالَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ بَنِي الأَصْفَرَ -وَهُمُ الرُّومُ-، فَصَمَتَتْ. فَقَالَ: فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ، فَصَمَتَتْ. فَقَالَ: فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ قُرَيْشًا، وَإِنَّ لَهُمْ مُدَّةً؟ فَصَمَتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ مَخْرَجًا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: لَعَلَّكَ تُرِيدُ بَنِي الأَصْفَرَ؟ قَالَ: "لَا". قَالَ: أَتُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ؟ قَالَ: "لَا". قَالَ: فَلَعَلَّكَ تُرِيدُ قُرَيْشًا؟ قَالَ: "نَعَمْ".

* دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الله عز وجل بأخذ العيون

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَليْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُدَّةً؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا صَنَعُوا بِبَنِي كَعْبٍ؟ ". وَلَمْ يُسَمِّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلنَّاسِ الجِهَةَ التِي يَقْصِدُهَا، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُمْ بِالجِدِّ وَالتَّهَيُّؤِ، فتَجَهَّزَ النَّاسُ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ البَادِيَةِ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ بِأَنْ يَتَجَهَّزُوا مَعَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَاهُ بِالمَدِينَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَحِقَهُ بِالطَّرِيقِ كَبَنِي سُلَيْمٍ، فَمِنَ القَبَائِلِ التِي قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَدِينَةَ: أَسْلَمُ، وَغِفَارٌ، وَمُزَيْنَةُ، وَأَشْجَعُ، وَجُهَيْنَةُ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشْرَةُ آلَافِ رَجُلٍ (¬1). * دُعَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِأَخْذِ العُيُونِ: وَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَبَّهُ أَنْ يُعْمِيَ عَنْ قُرَيْشٍ خَبَرَهُ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ! خُذِ العُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتَّى نَبْغَتَهَا (¬2) فِي بِلَادِهَا" (¬3). وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالأَنْقَابِ (¬4)، وَأَوْقَفَ عَلَى كُلِّ نَقَبٍ جَمَاعَةً، وَقَالَ ¬

_ (¬1) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 317). (¬2) البَغْتة: الفجأة. انظر النهاية (1/ 141). (¬3) أخرج هذا الحديث ابن إسحاق في السيرة (4/ 46) - وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 677). (¬4) الأنْقَاب: جمع نقب: وهو الطريق بين الجبلين. انظر النهاية (5/ 89).

* بعث سرية إضم

لَهُمْ: "لَا تَدَعُوا أَحَدًا يَمُرُّ بِكُمْ تُنْكِرُونَهُ إِلَّا رَدَدْتُمُوهُ" (¬1). * بَعْثُ سَرِيَّةِ إِضَمٍ: وَزِيَادَةً فِي الإِخْفَاءِ وَالتَّعْمِيَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَرِيَّةَ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَطْنِ إِضَمٍ، لِيَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ تَوَجَّهَ إِلَى هُنَاكَ -وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ هَذِهِ السَّرِيَّةِ فِيمَا مَضَى-. * كِتَابُ حَاطِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: وَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ -رضي اللَّه عنه- كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا (¬2) عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ وَأَبَا مِرْثَدٍ الغَنَوِيَّ (¬3) وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأَتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ (¬4) فَإِنَّ بِهَا ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 46) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 7). (¬2) الجعل: أي أجرة. انظر النهاية (1/ 267). (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4274): المقداد بدل أبي مرثد الغنوي. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 312): يحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه، فذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكره الآخر. (¬4) روضةُ خاخ: موضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (2/ 82).

امْرَأةً (¬1) مِنَ المُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ (¬2) مِنْ حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى المُشْرِكِينَ، فَأْتُونِي بِهَا". قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقُلْنَا لَهَا: أَيْنَ الكِتَابُ الذِي مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِيَ كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبَايَ: مَا نَرَى مَعَهَا الكِتَابَ، فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُمَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالذِي أَحْلِفُ بِهِ لَئِنْ لَمْ تُخْرِجِي الكِتَابَ لَأُجَرِّدَنَّكِ (¬3)، فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا (¬4)، وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ، فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَانْطَلَقْنَا ¬

_ (¬1) وقع عند ابن إسحاق في السيرة (4/ 47): أن اسمها سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب. قال الحافظ في الفتح (14/ 317): وقد اختُلِفَ هل كانت مسلمة أو على دين قومها، فالأكثر على الثاني، فقد عُدَّت فيمن أهدر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دمهم يوم الفتح -كما سيأتي- لأنها كانت تُغني بهجائه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهجاء أصحابه. (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4274): كتاب. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 316): أي أنزع ثيابك حتى تَصيري عريانة. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 309): الحُجْزة: بضم الحاء وسكون الجيم: معقد الإزار والسراويل. وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4274): فأخرجته -أي الكتاب- من عِقَاصِها. والعِقَاص: جمع عِقْصة أو عَقِيصَة، وهي الضفيرة من الشعر إذا لويت وجُعلت مثل الرمانة، أو لم تلو، والمعنى: أخرجت الكتاب من ضفائرها المعقوصة. انظر جامع الأصول (8/ 361) - النهاية (3/ 250). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 309): ويجمع بينهما بأن تكون عَقِيصتها طويلة بحيث تصل إلى حجزتها، فربطته في عقيصتها وغرزته بحجزتها.

بِهَا (¬1) إِلَى لرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحَاطِبٍ: "يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ ". قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، -أَيْ كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا-، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا، وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقكُمْ" (¬2). فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"، فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ¬

_ (¬1) أي بالصحيفة. (¬2) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3983) قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صدق ولا تقولوا له إلا خيرًا". (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 625): إنما قال ذلك عُمَر -رضي اللَّه عنه- مع تصديقِ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر -رضي اللَّه عنه- من القوة في الدين، وبغض من ينسب إلى النفاق، وظن أن من خالف ما أمره به رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- استحق القتل، لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله، وأطلق عليه منافقًا؛ لكونه أبطن خلاف ما أظهر.

تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1). وَأَوَّلُ مَا يَقِفُ الإِنْسَانُ أَمَامَهُ هُوَ فِعْلَةُ حَاطِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ المُسْلِمُ المُهَاجِرُ، وَهُوَ أَحَدُ الذِينَ أَطْلَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى سِرِّ الْحَمْلَةِ. . . وَفِيهَا مَا يَكْشِفُ عَنْ مُنْحَنيَاتِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ العَجِيبَةِ، وَتَعَرُّضِ هَذِهِ النَّفْسِ لِلَحَظَاتِ الضعْفِ البَشَرِيِّ مَهْمَا بَلَغَ مِنْ كَمَالِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَنْ لَا عَاصِمَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ، فَهُوَ الذِي يُعِينُ عَلَيْهَا. ثُمَّ يَقِفُ الإِنْسَانُ مَرَّةً أُخْرَى أَمَامَ عَظَمَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ لَا يَعْجَلُ حَتَّى يَسْأَلَ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ" فِي سَعَةِ صَدْرٍ وَعَطْفٍ عَلَى لَحْظَةِ الضَّعْفِ الطَّارِئَةِ فِي نَفْسِ صَاحِبِهِ، وَإِدْرَاكٍ مُلْهَمٍ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ صَدَقَ، وَمِنْ ثَمَّ يَكُفُّ الصَّحَابَةَ عَنْهُ: "صَدَقَ وَلَا تَقُوُلُوا إِلَّا خَيْرا. . . " لِيُعِينَهُ وَيَنْهَضَهُ مِنْ عَثْرَتِهِ، فَلَا ¬

_ (¬1) سورة الممتحنة آية (1). وقصة حاطب -رضي اللَّه عنه- أخرجها: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة - رقم الحديث (3081) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب فضل من شهد بدرًا - رقم الحديث (3983) - وباب غزوة الفتح وما بعث به حاطب بن أبي بلتعة -رضي اللَّه عنه- إلى أهل مكة - رقم الحديث (4272) - وأخرجه في كتاب استتابة المرتدين - باب ما جاء في المتأولين - رقم الحديث (6939) - وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أهل بدر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وقصة حاطب بن أبي بلتعة - رقم الحديث (2494) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (600) - (827) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4436).

* فوائد الحديث

يُطَارِدُهُ بِهَا وَلَا يَدَعَ أَحَدًا يُطَارِدُهُ. . . بَيْنَمَا نَجِدُ الإِيمَانَ الجَادَّ الحَاسِمَ الجَازِمَ، فِي شِدَّةِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، . . . فَعُمَرُ -رضي اللَّه عنه- إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى العَثْرَةِ ذَاتِهَا فَيَثُورُ لَهَا حِسُّهُ الحَاسِمُ وَإِيمَانُهُ الجَازِمُ. أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا مِنْ خِلَالِ إِدْرَاكِهِ الوَاسِعِ الشَّامِلِ لِلنَّفْسِ البَشَرِيَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَمِنْ كُلِّ جَوَانِبِهَا، مَعَ العَطْفِ الكَرِيمِ المُلْهَمِ الذِي تُنْشِئُهُ المَعْرِفَةُ الكُلِّيَّةُ. فِي مَوْقِفِ المُرَبِّي الكَرِيمِ العَطُوفِ المُتَأَنِّي النَّاظِرِ إِلَى جَمِيعِ المُلَابَسَاتِ وَالظُّرُوفِ. . . (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ حَاطِبٍ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ المُؤْمِنَ وَلَوْ بَلَغَ بِالصَّلَاحِ أَنْ يُقْطَعَ لَهُ بِالجَنَّةِ لَا يُعْصَمُ مِنَ الوُقُوعِ فِي الذَّنْبِ؛ لِأَنَّ حَاطِبًا -رضي اللَّه عنه- دَخَلَ فِيمَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُمُ الجَنَّةَ، وَوَقَعَ مِنْهُ مَا وَقَعَ. 2 - وَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ كَفَّرَ المُسْلِمَ بِارْتِكَابِ الذَّنْبِ، وَعَلَى مَنْ جَزَمَ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ، وَعَلَى مَنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُعَذَّبَ. 3 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْخَطَأُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْحَدَهُ، بَلْ يَعْتَرِفَ وَيَعْتَذِرَ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ ذَنْبَيْنِ. ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (6/ 3538).

4 - وَفِيهِ جَوَازُ التَّشْدِيدِ فِي اسْتِخْلَاصِ الحَقِّ، وَالتَّهْدِيدِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ المُهَدِّدُ تَخْوِيفًا لِمَنْ يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ الحَقَّ. 5 - وَفِيهِ هَتْكُ سِتْرِ الجَاسُوسِ. 6 - وَفِيهِ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ إِطْلَاعُ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قِصَّةِ حَاطِبٍ مَعَ المَرأَةِ. 7 - وَفِيهِ إِشَارَةُ الكَبِيرِ عَلَى الإِمَامِ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ العَائِدِ نَفْعُهُ عَلَى المُسْلِمِينَ وَيَتَخَيَّرُ الإِمَامُ فِي ذَلِكَ. 8 - وَفِيهِ جَوَازُ العَفْوِ عَنِ العَاصِي. 9 - وَفِيهِ أَنَّ العَاصِيَ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الأَجْنَبِيَّةَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا مُؤْمِنَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً، وَلَوْلَا أَنَّهَا لِعِصْيَانِهَا سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا مَا هَدَّدَهَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- بِتَجْرِيدِهَا. 10 - وَفِيهِ جَوَازُ غُفْرَانِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ الجَائِزَةِ الوُقُوعِ عَمَّنْ شَاءَ اللَّهُ خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ. 11 - وَقَدِ اسْتُشْكِلَ إِقَامَةُ الحَدِّ عَلَى مِسْطَحٍ -رضي اللَّه عنه- بِقَذْفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَادِثَةِ الإِفْكِ مَعَ أَنَّ مِسْطَحًا -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَلَمْ يُسَامَحْ بِمَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ، وَسُومِحَ حَاطِبٌ، وَعُلِّلَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَالجَوَابُ: أَنَّ مَحَلَّ العَفْوِ عَنِ البَدْرِيِّ فِي الأُمُورِ التِي لَا حَدَّ فِيهَا.

* خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة

12 - وَفيهِ جَوَازُ غُفْرَانِ مَا تَأخَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدُّعَاءُ بِهِ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ. 13 - وَفيهِ تَأَدُّبُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِقَامَةُ الحَدِّ وَالتَّأْدِيبِ بِحَضْرَةِ الإِمَامِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ. 14 - وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِعُمَرَ -رضي اللَّه عنه- وَلِأَهْلِ بَدْرٍ كُلِّهِمْ. 15 - وَفِيهِ البُكَاءُ عِنْدَ السُّرُورِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- بَكَى حِينَئِذٍ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الخُشُوعِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا قَالَه فِي حَقِّ حَاطِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَدِينَةِ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ مِنَ المَدِينَةِ، مُتَوَجِّهًا إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَمْ يتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَكَانُوا صِيَامًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي ضبْطِ اليَوْمِ الذِي خَرَجَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ المَدِينَةِ، وَالذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السِّيَرِ وَالمَغَازِي أَنَّهُ خَرَجَ فِي عَاشِرِ رَمَضَانَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْهُ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (14/ 319). (¬2) انظر فتح الباري (4/ 691) - سيرة ابن هشام (4/ 48) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317).

* مرور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قبر أمه

وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى المَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ (¬1) بنَ الحُصَيْنِ الغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه-. * مُرُورُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ: وَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالْأَبْوَاءِ أَوْ وَدَّانَ، نَزَلَ فزَارَ قَبْرَ أُمِّهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ بريْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنَزَلَ بِنَا (¬2) وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (¬3)، فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَفَدَّاهُ بِالأَبِ وَالأُمِّ يَقُولُ: مَالَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَدَمَعَتْ عَيْنَايَ رَحْمَةً لَهَا مِنَ النَّارِ" (¬4). ¬

_ (¬1) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2392) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (6576) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 48) وإسناده حسن - وفي رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 317): عبد اللَّه بن أم مكتوم. قلتُ: يمكن الجمع بأن يكون أبا رُهم -رضي اللَّه عنه- خلفه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليحكم المدينة، وعبد اللَّه بن أم مكتوم خلفه -صلى اللَّه عليه وسلم- للصلاة. (¬2) وقع في رواية الإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (23017) تحديد المكان الذي نزل فيه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعن بُريدة -رضي اللَّه عنه- قال: خرجتُ مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى إذا كُنَّا بودَّان. ووقع في رواية أخرى في المسند - رقم الحديث (23038) تحديد هذا السفر، قال بريدة -رضي اللَّه عنه-: أن رَسُول اللَّهِ غزا غزوة الفتح، وذكر الحديث. (¬3) ذَرَفَت العين: إذا جرى دمعها. انظر النهاية (2/ 147). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23003) - وأخرجه ابن حبان في =

* إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية

قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ: جَوَازُ زِيَارَةِ المُشْرِكِينَ فِي الحَيَاةِ وَقُبُورِهِمْ بَعْدَ الوَفَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ زِيَارَتُهُمْ بَعْدَ الوَفَاةِ، فَفِي الحَيَاةِ أَوْلَى، وَفيهِ النَّهْيُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ (¬1). * إِسْلَامُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ الحَارِثِ وَعَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي أُمَيَّةً: أَكَمْلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَبِيقِ العُقَابِ، فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ، لَقِيَهُ أَبُو سُفْيَانَ بنَ الحَارِثِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ابْنُ عَمِّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مِنْ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ، ابْنُ عَمَّةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَخُو أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِيهَا. أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَقَدْ كَانَ يَأْلَفُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا يُفَارِقُهُ قَبْلَ النُّبوَّةِ، فَلَمَّا بُعِثَ عَادَاهُ وَهَجَاهُ وَهَجَا أَصْحَابَهُ بِقَصَائِدَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- شَاعِرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الخَفَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ هَجَوْتُ مُحَمَّدًا بَرًّا تَقِيًّا ... رَسُولَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الوَفَاءُ (¬2) ¬

_ = صحيحه - كتاب الأشربة - باب في الأشربة - رقم الحديث (5390) - وأصل الحديث في صحيح مسلم - كتاب الجنائز - باب استئذان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربه عَزَّ وَجَلَّ في زيارة قبر أمه - رقم الحديث (976). (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 39). (¬2) أخرج هجاء حسان -رضي اللَّه عنه- بهذه الأبيات: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة -=

وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إِيذَاءً لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ النُّبُوَّةِ (¬1)، فَلَمَّا لَقِيَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْرَضَ عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمَا كَانَ يَلْقَى مِنْهُمَا مِنْ شِدَّةِ الأَذَى، فَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، فكَلَّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهِمَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا يَكُنِ ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الذِي قَالَ لِي بِمَكَّةَ مَا قَالَ". فَلَمَّا بَلَغَ الخَبَرُ إِلَيْهِمَا، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَعَهُ ابْنُهُ جَعْفَر: وَاللَّهِ لَيَأْذَننَّ لِي أَوْ لَآخُذَنَّ بِيَدِ ابْنِي هَذَا، ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا أَوْ جُوعًا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمَا، وَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- لِأَبِي سُفْيَانَ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْ لَه مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} (¬2)، فَإِنَّهُ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنَ قَوْلا مِنْهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬3). ¬

_ = باب فضائل حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2490) - وانظر ديوان حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- ص 20. (¬1) ذكرنا إيذاءهما لرَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بداية أمر البعثة، فراجعه. (¬2) سورة يوسف آية (91). (¬3) سورة يوسف آية (92). أخرج قصة إسلام أبي سفيان بن الحارث: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب مناقب أبي سفيان بن الحارث - رقم الحديث (5157) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 49) - وإسناده صحيح كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (3341).

* إفطار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزوله بمر الظهران

فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَقَبِلَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمَا إِسْلَامَهُمَا، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا، وَثَبَتَ أَبُو سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- ثَبَاتًا عَظِيمًا مَعَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ -كَمَا سَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ -. وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَدْ شَهِدَ مَعَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَةَ الْفَتْحِ، وَحُنَيْنٍ، وَاسْتُشْهِدَ فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ -رضي اللَّه عنه-. * إِفْطَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَنُزُولُهُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ: وَاصَلَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ صَائِمٌ، وَالنَّاسُ صِيَامٌ مَعَهُ، وَقَدْ صَبَّ رَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ العَطَشِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَال: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنَ المَدِينَةِ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ المَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى بَلَغَ الكَدِيدَ (¬1) -وَهُوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ (¬2) - أَفْطَرَ وَفَطِرُوا (¬3). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 690): الكديد: بفتح الكاف وكسر الدال: مكان معروف وقع تفسيره في نفس الحديث بأنه بين عُسْفان وقُديد. ووقع في رواية مسلم - رقم الحديث (1114) من حديث جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حتى بلغ كُراع الغميم، وهو بضم الكاف، والغميم بفتح الغين، وهو اسم واد أمام عسفان. قال القاضي عِياض رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اختلفت الروايات في الموضع الذي أفطر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه، والكل في قصة واحدة، وكلها متقاربة، والجميع من عمل عُسفان. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 690): قُديد: بضم القاف على التصغير. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصيام - باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر -=

وَرَوَى الإِمَامُ مَالِكٌ فِي المُوَطَأِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالعَرْجِ (¬1) يَصُبُّ المَاءَ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ العَطَشِ، أَوْ مِنَ الحَرِّ، ثُمَّ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ قَدْ صَامُوا حِينَ صُمْتَ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالكَدِيدِ، دَعَا بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ (¬2)، فَأَفْطَرَ النَّاسُ (¬3). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ الفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَشَرِبَ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ، ثُمَّ أَفْطَرُوا حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، وَافْتَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ (¬4). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ، وَنَحْنُ صِيَامٌ، فنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ = رقم الحديث (1944) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة الفتح في رمضان - رقم الحديث (4276) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر - رقم الحديث (1113). (¬1) العَرْج: بفتح العين وسكون الراء: قرية جامعة من عمل الفُرع، على أيام من المدينة. انظر النهاية (3/ 184). (¬2) في رواية الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1114) (90) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- قال: ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب. (¬3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ - كتاب الصيام - باب ما جاء في الصيام في السفر - رقم الحديث (22) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (4596) - وأصله في صحيح مسلم - رقم الحديث (1114) (90). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2994).

* جني الكباث وانكشاف ساق ابن مسعود -رضي الله عنه-

"إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ"، فَكَانَتْ رُخْصَةً، فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلًا آخَرَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوَّكُمْ، وَالفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا"، وَكَانَتْ عَزْمَةً (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ -رضي اللَّه عنه-: آذَنَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالرَّحِيلِ عَامَ الفَتْحِ فِي لَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا، حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا الكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالفِطْرِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنْهُمُ الصَّائِمُ، وَمِنْهُمُ المُفْطِرُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَدْنَى مَنْزِلٍ تِلْقَاءَ العَدُوِّ أَمَرَنَا بِالفِطْرِ، فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعِينَ (¬2). * جَنْيُ (¬3) الكَبَاثِ (¬4) وَانْكِشَاف سَاقِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ أَخَذَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -وَهُمْ فِي مَرِّ الظَّهْرَانِ- يَجْنُونَ ثَمَرَ الكَباثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَجْنِي الكَبَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ"، قَالَ: فَقُلْنَا: أَكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل - رقم الحديث (1120). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11825). (¬3) جَنَى الثمرة: تناولها من شجرتها. انظر لسان العرب (2/ 393). (¬4) الكَباث: بفتح الكاف والباء الخفيفة: هو النضيج من ثمر الأراك. انظر فتح الباري (7/ 100) - النهاية (4/ 121). (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 100): وإنما قال له الصحابةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أكنتَ ترعى =

* إشعال النيران

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا" (¬1). وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- فِيمَنْ يَجْتَنِي، فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَصَابَ حَبَّةً طَيِّبَةً قَذَفهَا فِي فِيهِ، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى دِقَّةِ سَاقَيِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ يَرْقَى فِي الشَّجَرَةِ، فَيَضحَكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ " قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ-صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي المِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ" (¬2)، وَكَانَ ابنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- مَا اجْتَنَى مِنْ شَيْءٍ جَاءَ بِهِ وَخِيَارُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * إِشْعَالُ النِّيرَانِ: وَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عِشَاءً، إِذْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإِيقَادِ النِّيرَانِ، فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ، فَكَانَ مَنْظَرًا مَهِيبًا، النِّيرَانُ مِلْءَ الأَرْضِ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الحَرَسِ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ -رضي اللَّه عنه-. ¬

_ = الغنم؟ ؛ لأن في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم: "عليكم بالأسود منه" دلالة على تمييزه بين أنواعه، والذي يميز بين أنواع ثمر الأراك غالبًا من يلازم رعي الغنم على ما ألفوه. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} - رقم الحديث (3406) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأشربة - باب فضيلة الأسود من الكباث - رقم الحديث (2050) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14497). (¬2) أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3991) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (353) - وإسناده حسن. ووقع في رواية البيهقي في دلائله (5/ 29) أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال هذا الحديث في ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- وهم في مسيرهم إلى فتح مكة.

* هجرة العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-

* هِجْرَةُ العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-: وَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الجُحْفَةَ لَقِيَهُ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- مُهَاجِرًا بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ إِلَى المَدِينَةِ، وَمَا كَانَ يَعْلَمُ عَنْ أَمْرِ جَيْشِ المُسْلِمِينَ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِ فَرَحًا عَظِيمًا (¬1). وَهُوَ آخِرُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى المَدِينَةِ؛ لِأَنَّ بَعْدَهُ تَمَّ فتحُ مَكَّةَ، وَالرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ" (¬2). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: اخْتُلِفَ فِي الوَقْتِ الذِي أَسْلَمَ فِيهِ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-، فَقِيلَ: أَسْلَمَ قَبْلَ الهِجْرَةِ، وَأَقَامَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَهُ فِي ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ المُسْلِمِينَ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ سَعْدٍ (¬3) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ الكَلْبِيُّ وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَيَرُدُّهُ أَنَّ العَبَّاسَ أُسِرَ بِبَدْرٍ، وَقَدْ فَدَى نَفْسَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي راَفِعٍ -رضي اللَّه عنه- (¬4) فِي قِصَّةِ بَدْرٍ: "كَانَ الإِسْلامُ دَخَلَ عَلَيْنَا أَهْلَ البيْتِ" (¬5)، فَلَا يَدُلُّ عَلَى إِسْلَامِ العَبَّاسِ حِينَئِذٍ، فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفَدَى نَفْسَهُ وَعَقِيلًا ابْنَ أَخِيهِ أَبِي ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 48). (¬2) هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب لا هجرة بعد الفتح - رقم الحديث (3077) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها - رقم الحديث (1353). (¬3) في طبقاته (4/ 323). (¬4) أبو رافع -رضي اللَّه عنه-: هو مولى العباس -رضي اللَّه عنه-، ثم مولى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) أخرج قول أبي رافع هذا: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23864) - وإسناده ضعيف.

* حديث ضعيف جدا

طَالِبٍ، وَالمَشْهُورُ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ فِي قِصَّةِ الحَجَّاجِ بنِ عِلَاطٍ (¬1). وَلِأَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ قَبْلَ الفَتْحِ لَمْ يُدْخِلْهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فِي أَهْلِ الشُّورَى مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِفَضْلِهِ وَاسْتِسْقَائِهِ بِهِ (¬2). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا: قُلْتُ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَدْرٍ وَمَعَهُ عَمُّهُ العَبَّاسُ، قَالَ لَه: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَذِنْتَ لِي فَخَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ فَهَاجَرْتُ مِنْهَا، أَوْ قَالَ: فَأُهَاجِرُ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَمُّ اطْمَئِنَّ فَإِنَّكَ خَاتَمُ المُهَاجِرِينَ فِي الهِجْرَةِ، كَمَا أنا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فِي النُّبوَّة" (¬3). فَهَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، فِي سَنَدِهِ أَبُو مُصْعَبٍ إِسْمَاعِيلُ بنُ قَيْسٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. ¬

_ (¬1) حديث الحجاج بن عِلاط -رضي اللَّه عنه- أخرجه: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12409) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4530) وإسناده صحيح -وقد ذكرناه في غزوة خيبر- فراجعه. (¬2) حديثُ استسقاء عُمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بالعباس -رضي اللَّه عنه- أخرجه: البخاري في صحيحه - كتاب الاستسقاء - باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا - رقم الحديث (1010). وانظر كلام الحافظ في الفتح (3/ 584) (7/ 442). (¬3) أخرجه الامام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1812).

* تحسس قريش الأخبار وإسلام أبي سفيان بن حرب

وَأَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ وَاهٍ (¬1). وَلقدْ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْعَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه- وَوَلَدِهِ بِالمَغْفِرَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَبَّاسَ فَقَالَ: "إِذَا كَانَ غَدَاةَ الِاثْنَيْنِ فَائْتِنِي أَنْتَ وَوَلَدُكَ"، قَالَ: فَغَدَا وَغَدَوا مَعَهُ، قَالَ: فَأَلْبَسَنَا كِسَاءً لَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلعَبَّاسِ وَلِوَلدِهِ مَغفِرَةً ظاهِرَةً بَاطِنةً لا تُغَادِرُ ذَنْبًا، اللَّهمَّ اخْلُفْهُ فِي وَلدِهِ" (¬2). * تَحَسُّسُ قُرَيْشٍ الأَخْبَارَ وَإِسْلَامُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ: وَكَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ العُيُونَ عَنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَأْتِهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ، فَبَعَثُوا أبَا سُفْيَانَ بنَ حَرْبٍ يتَحَسَّسُ الأَخْبَارَ، وَقَالُوا لَهُ: إِنْ لَقِيتَ مُحَمَّدًا فَخُذْ لَنَا مِنْهُ أَمَانًا. فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ، وَمَعَهُ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ، يَلْتَمِسُونَ الأَخْبَارَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * أَرْبَعَةٌ أَرْبَأُ (¬3) بِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَيْلَةَ قُرْبِهِ مِنْ مَكَّةَ: "إِنَّ بِمَكَّةَ لَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ قُرَيشٍ أَرْبَأُ بِهِمْ عَنِ الشِّرْكِ، وَأغَبُ لَهُمْ فِي الإِسْلَامِ"، فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 84). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1795). (¬3) يُقال: إني لأربَأُ بك عن ذلك الأمر: أي أرفعك عنه. انظر لسان العرب (5/ 94).

اللَّهِ؟ قَالَ: "عَتَّابُ بنُ أَسِيدٍ، وَجبيْرُ بنُ مُطْعِمٍ، وَحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وَسُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو" (¬1). فَأَقْبَلَ هَؤُلَاءِ النَّفرُ الثَّلَاثَةُ -وَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ- حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَثِيرَةٍ، فَفَزِعُوا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَانًا قَطُّ وَلَا عَسْكَرَ، فَقَالَ بُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ: هَذِهِ وَاللَّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا (¬2) الحَرْبُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانُهَا وَعَسْكَرُهَا (¬3). فِي هَذِهِ الفَتْرَةِ كَانَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- يَلْتَمِسُ أَحَدًا يُخْبِرُ قُرَيْشًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى تَسْتَسْلِمَ وَلَا تُقَاتِلَ، فَعَرَفَ العَبَّاسُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يَتَحَدَّثُ مَعَ بُدَيْلِ بنِ وَرْقَاءَ، فنَادَا، قَالَ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ! فَعَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ صَوْتَ العَبَّاسِ، فَقَالَ: أَبَا الفَضْلِ! مَا وَرَاءَكَ. فَقَالَ العَبَّاسُ: وَيْحَكَ يَا أبَا سُفْيَانَ! هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي النَّاسِ (¬4)، وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ! . ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر عتاب بن أسيد - رقم الحديث (6582) - وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (3/ 47) وإسناده ضعيف: فيه مجهول وضعيفان. (¬2) حَمَشْتُها: جمعتها. انظر لسان العرب (3/ 324). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4280) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 50). (¬4) هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 151). وفي رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 317) قال: هذا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في عشرة آلاف.

فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَمَا الحِيلَةُ؟ قَالَ العَبَّاسُ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظفَرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ (¬1) هَذِهِ البَغْلَةِ -بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْتَأْمِنُهُ لَكَ. فَرَكِبَ أَبُو سُفْيَانَ خَلْفَ العَبَّاسِ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ حَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ إِلَى مَكَّةَ. قَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-: فَجِئْتُ بِهِ، كُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ المُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهَا، قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتَّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إِلَيَّ، فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ؟ الحَمْدُ للَّهِ الذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ، ثُمَّ أَخَذَ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، وَرَكَضَتِ البَغْلَةُ، فَسَبَقَتْهُ فَاقْتَحَمْتُ (¬3) عَنِ البَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسولَ اللَّهِ! هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي قَدْ أَجَرتُهُ، ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قُلْتُ: مَهْلًا يَا عُمَرُ! فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي ¬

_ (¬1) العَجُز: هو مؤخرة الشيء. انظر النهاية (3/ 168). (¬2) كان سببُ اشتدادِ عُمر -رضي اللَّه عنه- إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليطلب منه الإذن في قتل أبي سفيان، وقد يحصل على الإذن، ففطن العباس -رضي اللَّه عنه- لذلك فاشتدَّ على البغلة إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليستأمن من رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي سفيان. (¬3) يُقال: اقتحم عن الدابة: إذا رمى بنفسه عنها. انظر النهاية (4/ 17).

عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا، وَلَكِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَهْلًا يَا عَبَّاسُ! فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ بِهِ (¬2) يَا عَبَّاسُ إِلَى رَحْلِكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ". قَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-: فَذَهَبْتُ بِأَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَحْلِي، فَباتَ عِنْدِي، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا رَآه رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "وَيْحَكَ يَا أبا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ ". فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! وَاللَّهِ لقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا بَعْدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَيْحَكَ يَا أبا سُفْيَانَ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ ". قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! أَمَّا هَذِهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا حَتَّى الآنَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ: وَيْحَكَ! أَسْلِمْ، وَاشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله أبو داود في سننه - كتاب الخراج والفيء - باب ما جاء في فتح مكة - رقم الحديث (3022) -وهو حديث صحيح لغيره- وابن إسحاق في السيرة (4/ 51) - وإسناده صحيح. (¬2) أي بأبي سفيان.

* تحرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مر الظهران إلى مكة

رَسُولُ اللَّهِ، قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ، فَشَهِدَ أَبُو سُفْيَانَ شَهَادَةَ الحَقِّ فَأَسْلَمَ. ثُمَّ قَالَ العَبَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ" (¬1). * تَحَرُّكُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَرِّ الظَّهْرَانِ إِلَى مَكَّةَ: ثُمَّ غَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَأَمَرَ العَبَّاسَ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَحْبِسَ أبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الوَادِي عِنْدَ خَطْمِ (¬2) الجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا (¬3)، فَحَبَسَهُ العَبَّاسُ حَيْثُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-مُنَادِيًا فنَادَى: لِتُصْبِحْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عِنْدَ رَايَةِ صَاحِبِهَا وَتُظْهِرْ مَا مَعَهَا مِنَ الأَدَاةِ وَالعُدَّةِ، وَبَدَأَتِ القَبَائِلُ تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، وَكُلَّمَا مَرَّتْ قَبِيلَةٌ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ: يَا عَبَّاسُ! مَنْ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: سُلَيْمٌ، فَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: مَالِي وَسُلَيْمٍ؟ ، ثُمَّ تَمُرُّ القَبِيلَةُ، فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ! مَنْ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: هَذِهِ غِفَارٌ، فَيَقُولُ: مَالِي وَلغِفَارٍ؟ ، ثُمَّ مَرَّتْ أَسْلَمُ، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك مختصرًا الإمام مسلم - رقم الحديث (1780) (86) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (3021) (3022) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 51) وإسناده صحيح. (¬2) خطم الجبل: رَعْنُ الجبل، وهو الأنفُ النادر منه. انظر النهاية (1/ 388). (¬3) لعل أمر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- للعباس أن يوقف أبا سفيان حتى يرى جُند المسلمين حتى لا يُفكّر في القتال ويُسلم مكة؛ لأن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يريد قِتالًا، بل يريد أن تستسلم مكة.

* مرور الكتيبة الخضراء

ثُمَّ مُزَيْنَةُ، ثُمَّ جُهَيْنَةُ، ثُمَّ أَشْجَعُ، حَتَّى مَرَّتْ كُلُّ القَبَائِلِ، مَا تَمُرُّ قَبِيلَةٌ إِلَّا سَأَلَ العَبَّاسَ عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرَهُ قَالَ: مَالِي وَلبَنِي فُلَانٍ (¬1)؟ * مُرُورُ الكَتِيبَةِ الخَضْرَاءِ: ثُمَّ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ فِي كَتِيبَتِهِ الخَضْرَاءِ (¬2)، فِيهَا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، وَلَا أَحَدَ مَعَهُمْ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا الحَدَقُ (¬3) مِنَ الحَدِيدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى نَاقَتِهِ القَصْوَاءِ، وَرَايَةُ المُهَاجِرِينَ مَعَ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، وَرَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا عَبَّاسُ! مَنْ هَؤُلَاءَ؟ . قَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ قبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أبَا الفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابنِ أَخِيكَ اليَوْمَ عَظِيمًا. فَقَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-: وَيْحَكَ يَا أبَا سُفْيَانُ! إِنَّهَا النُّبُوَّةُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: نَعَمْ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4280) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 52) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 35). (¬2) يُقال: كَتِيبة خضراء: إذا غلب عليها لبسُ الحديد، شُبّه سواده بالخضرة، والعرب تطلق الخضرة على السواد. انظر النهاية (2/ 40). (¬3) الحَدَق: العيون. انظر النهاية (1/ 341). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 52) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 35).

* نزع الراية من سعد بن عبادة -رضي الله عنه-

* نَزْعُ الرَّايَةِ مِنْ سَعْدِ بنِ عُبادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا مَرَّتِ الأَنْصَارُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ صَرَخَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَتْ رَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَهُ-: يَا أَبَا سُفْيَانَ اليَوْمَ يَوْمُ المَلْحَمَةِ (¬1)، اليَوْمَ تُسْتَحَلُّ الكَعْبَةُ، اليَوْمَ أَذَلَّ اللَّهُ قُرَيْشًا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِلْعَبَّاسِ: يَا عَبَّاسُ حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ (¬2)، فَلَمَّا حَاذَى (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَمَرْتَ بِقَتْلِ قَوْمِكَ؟ قَالَ: "لَا"، قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا قَالَ؟ "، قَالَ: قَالَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبَ (¬4) سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى (¬5) فِيهِ الكَعْبَةُ". ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- فنَزَعَ الرَّايَةَ مِنْ يَدِهِ وَجَعَلَهَا بِيَدِ ابْنِهِ قَيْسٍ (¬6). ¬

_ (¬1) المَلْحَمة: الحرب والقتال الذي لا مخلص منه. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 366). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 320): الذِّمار: بكسر الذال أي الهلاك. (¬3) يُقال: حاذيت موضعًا: إذا صرت بجانبه. انظر لسان العرب (3/ 98). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 321): كذب: أي أخطأ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 321): المراد باليوم الزمان، كما قال يوم الفتح، فأشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام، ووقع ذلك. (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم =

* الراية تعطى الزبير بن العوام -رضي الله عنه-

* الرَّايَةُ تُعْطَى الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-: فكَلَّمَ سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَأْخُذَ الرَّايَةَ مِنِ ابْنِهِ قَيْسٍ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ فِي خَطَأٍ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهَا الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-. فَقَدْ أَخْرَجَ البَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ البُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ قَيْسٌ فِي مُقَدِّمَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، فكَلَّمَ سَعْدٌ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَصْرِفه عَنِ المَوْضِعِ الذِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى شَيْءٍ، فَصَرَفه عَنْ ذَلِكَ (¬1). وَجَزَمَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ فِي المَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ: بِأنَّهُ دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ -رضي اللَّه عنه- (¬2). * ذَهَابُ أَبِي سُفْيَانَ لِمَكَّةَ وَأَمْرِهِمْ بِالِاسْتِسْلَامِ: ثُمَّ قَالَ العَبَّاسُ لِأَبِي سُفْيَانَ: النَّجَاءَ (¬3) إِلَى قَوْمِكَ، فَأَسْرَعَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ، وَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ زَوْجَتُهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، وَأَخَذَتْ بِلِحْيَتهِ فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الحَمِيتَ (¬4) الدَّسِمَ (¬5) ¬

_ = الفتح - رقم الحديث (4280) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 44) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6145). (¬1) أورده الحافظ في الفتح (8/ 321) وعزاه إلى البزار، وصحح إسناده. (¬2) انظر فتح الباري (8/ 320). (¬3) النجاء: السرعة. انظر النهاية (5/ 21). (¬4) الحميت: هو الوعاء الذي يكون فيه السَّمْن ونحوه، فأرادت أن تنسبه إلى الضخم والسمن. انظر النهاية (1/ 419) - الرَّوْض الأُنُف (4/ 158). (¬5) الدسم: الأسود الدنيء. انظر النهاية (2/ 110).

* نزول جيش المسلمين بذي طوى

الأَحْمَسَ (¬1)، قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ. فَقَالَ لَهَا أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكِ! جَاءَ بِالحَقِّ، فَاسْكُتِي وَادْخُلِي بَيْتَكِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنْ لَمْ تُسْلِمِي لَتُضْرَبَنَّ عُنُقُكِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: وَيْلَكُمْ! لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنَ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، قَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ! وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، فتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دُورِهِمْ وَإِلَى المَسْجِدِ (¬2). * نُزُولُ جَيْشِ المُسْلِمِينَ بِذِي طُوَى (¬3): وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي سَيْرِهِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذِي طُوَى، وَهُنَاكَ أَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ تَنْظِيمَ وَتَرْتِيبَ جَيْشِهِ، فَجَعَلَ خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى المَجْنَبَةِ (¬4) اليُمْنَى، وَمَعَهُ أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ كُدَيٍّ (¬5)، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى المَجْنَبَةِ اليُسْرَى، وَمَعَهُ المُهَاجِرُونَ، وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) الأحمس هنا: الذي لا خير فيه انظر الرَّوْض الأُنُف (4/ 158). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 53) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317). (¬3) ذي طُوى: بضم الطاء وفتح الواو المخففة: موضع عند باب مكة. انظر النهاية (3/ 133). (¬4) مجنبة الجيش: هي التي تأخذ في الميمنة والميسرة. انظر النهاية (1/ 292). (¬5) كُدَيّ: بضم الكاف وتشديد الياء: موضع بأسفل مكة. انظر النهاية (4/ 136).

وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ أَعْلَاهَا مِنْ كَدَاءَ (¬1)، وَأَنْ يُعَزِّزَ رَايَتَهُ بِالحَجُونِ (¬2)، وَلَا يَبْرَحَ (¬3) حَتَّى يَأْتِيَهُ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى مُقَدِّمَتِهِ قَيْسَ بنَ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَعَهُ الأَنْصَارُ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الرَّجَّالَةِ (¬4). وَعَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأُمَرَائِهِ: "لَا تُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ قَاتَلَكُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَأَنْ لَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَتْبَعُوا مُدْبِرًا" (¬5). ¬

_ (¬1) كَداء: بفتح الكاف: هي الثنية العليا بمكة مما يلىِ المقابر. انظر النهاية (4/ 136). (¬2) الحَجُون: بفتح الحاء وضم الجيم: هو مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة. انظر فتح الباري (8/ 321). (¬3) لا يبرح: لا يفارق. انظر لسان العرب (1/ 361). (¬4) الرجالة: بفتح الراء: وهم المشاة. انظر النهاية (2/ 188). وفي رواية الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1780): البَيَاذِقة: وهو بفتح الباء وكسر الذال وهم الرجالة، واللفظة فارسية معربة، وقيل: سُمّوا بذلك لخفة حركتهم، وأنهم ليس معهم ما يثقلهم. انظر النهاية (1/ 168). وفي رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (1780)، ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (10948) قال: الحُسر. بضم الحاء: وهو جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه ولا مغفر. انظر النهاية (1/ 369). وأخرج ذلك كله: مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب فتح مكة - رقم الحديث (1780) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10948) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 54) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 41). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (4/ 57) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317).

* عشرة لا عهد لهم ولا أمان

* عَشَرَةٌ لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمَانٌ: وَاسْتَثْنَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشَرَةً مِنَ المُشْرِكِينَ مِنَ الأَمَانِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، وَهُمْ: 1 - عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ: لِشِدَّةِ عَدَاوَتهِ لِلْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ، وَمَا أَلْحَقَهُ مِنْ أَذًى شَدِيدٍ بِالمُسْلِمِينَ. 2 - عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ: وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَتَبَ الوَحْيَ، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَارْتَدَّ، وَلَحِقَ بِالكُفَّارِ (¬1). 3 - مِقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ (¬2): وَكَانَ أَخَاهُ قُتِلَ خَطَأً عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، فَأُعْطِيَ الدِّيَةَ، ثُمَّ عَدَا مِقْيَسُ عَلَى الأَنْصَارِيِّ فَقتَلَهُ وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا (¬3). 4 - عَبْدُ اللَّهِ بنُ خَطَلٍ (¬4): وَكَانَ مُسْلِمًا، فَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ أَحَدِ الأَنْصَارِ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ مَعَهُمَا مَوْلًى لَهُ مُسْلِمٌ يَخْدُمُهُ، فَعَدا عَلَى المَوْلَى ¬

_ (¬1) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الحدود - باب الحكم فيمن ارتد - رقم الحديث (4358) وإسناده حسن. (¬2) مِقْيَس بن صُبابة: بكسر الميم وسكون القاف وفتح الياء، وصُبابة: بضم الصاد. (¬3) ذكرنا قصة قتله في غزوة بني المصطلق فراجعها. (¬4) قلتُ: وقع في بعض الروايات أن اسمه عبد العزى بن خطل. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 693): يحتمل أنه كان كذلك، ثم لما أسلم سُمي عبد اللَّه.

فَقتَلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ لَهُ طَعَامًا، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَأَخَذَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشِّعْرِ. 5 - الحُوَيْرِثُ بنُ نُقَيْذٍ (¬1): وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بشِعْرِهِ. 6 - هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ: وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدِ اعْترَضَ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا هَاجَرَتْ إِلَى المَدِينَةِ، وَكَانَتْ حَامِلًا، فَضَرَبَ بَعِيرَهَا، فَهَاجَ البَعِيرُ وَسَقَطَتْ زَيْنَبُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَسَقَطَ حَمْلُهَا (¬2). 7 - هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ: وَكَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ التِي بَقَرَتْ (¬3) بَطْنَ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَثَّلَتْ بِهِ. 8 - سَارَةُ: مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَهِيَ التِي أَخَذَتْ كِتَابَ حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ -رضي اللَّه عنه- لِتُوصِلَهُ إِلَى المُشْرِكِينَ. 9 - 10 - قَيْنَتَانِ (¬4) لِابْنِ خَطَلٍ، وَكَانتا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وَذَكَرَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَهْدَرَ كَذَلِكَ دَمَ: 11 - كَعْب بنِ زُهَيْرِ بنِ أَبِي سُلْمَى الشَّاعِرُ المَشْهُورُ صَاحِبُ قَصِيدَةِ "بَانَتْ سُعَادُ". ¬

_ (¬1) الحُوَيرث بن نُقَيْذ: بضم الحاء، ونُقَيذ: بضم النون مصغرًا. انظر فتح الباري (4/ 538). (¬2) ذكرنا قصة ذلك فيما تقدم. (¬3) البَقْر: بفتح الباء وسكون القاف: الشق. انظر النهاية (1/ 143). (¬4) القَيْنة: هي الأمة المغنية. انظر النهاية (4/ 118).

12 - وَحْشِيِّ بنِ حَرْبٍ: الذِي قتَلَ حَمْزَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬1). رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأتَيْنِ، وَقَالَ: "اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ خَطَلٍ، وَمِقْيسُ بنُ صُبَابةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ" (¬2). وأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قُتِلَ مِنَ الأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ المُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: لَئِنْ كَانَ لَنَا يَوْمٌ مِثْلُ هَذَا مِنَ المُشْرِكِينَ، لَنُرْبِيَنَّ (¬3) عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الفَتْحِ، قَالَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ اليَوْمِ، فنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمِنَ الأَسْوَدُ وَالأَبْيَضُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا، نَاسًا سَمَّاهُمْ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك في فتح الباري (4/ 538 - 539) - سيرة ابن هشام (4/ 58) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317). (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب قتل الأسير ولا يعرض على الإسلام - رقم الحديث (2683) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1506) - (4521) - والحاكم في المستدرك - كتاب البيوع - باب ذكر تأمين الناس يوم فتح مكة إلا أربعة نفر - رقم الحديث (2376) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6149). (¬3) لنُربينّ: أي لنزيدن ولنضاعفن. انظر النهاية (2/ 177). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21229) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة النحل - رقم الحديث (3395) - والنسائي في السنن الكبرى =

* أوباش قريش

قُلْتُ: وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ مَا آل إِلَيْهِ أَمْرُ هَؤُلَاءِ العَشَرَةِ. * أَوْبَاشُ قُرَيْشٍ: فِي هَذِهِ الفَتْرَةِ قَامَتْ قُرَيْشٌ وَوَبَّشَتْ أَوْبَاشًا (¬1) لَهَا، وَأَتْبَاعًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَبَنِي الحَارِثِ ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ وَهُذَيْلٍ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يَكُوُنوا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، وَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الذِي سُئِلْنَا، فَلَمَّا عَلِمَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نَادَى أبَا هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-. فَقَالَ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ، وَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاؤُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُريْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ، احْصُدُوهُمْ حَصْدًا، حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا" (¬2). * دُخُولُ المُسْلِمِينَ مَكَّةَ وَشَأْنُ أَهْلِ الخَنْدَمَةِ (¬3): وَتَحَرَّكَتْ كُلُّ كَتِيبَةٍ مِنَ الجَيْشِ الإِسْلَامِيِّ عَلَى الطَّرِيقِ التِي كُلِّفَتِ الدُّخُولَ مِنْهَا، وَلَمْ تَلْقَ أَيَّةَ مُقَاوَمَةٍ تُذْكَرُ، إِلَّا خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ مَضَى ¬

_ = - كتاب التفسير - باب سورة النحل - رقم الحديث (11215). (¬1) وبشت: أي جمعت جموعًا من قبائل شتى. انظر النهاية (5/ 127). (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب فتح مكة - رقم الحديث (1780) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10948). (¬3) الخندمة: جبل معروف بمكة. انظر النهاية (2/ 78).

* شأن حماس بن قيس

حَتَّى دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، فَلَقِيَهُ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو (¬1) بِالخَنْدَمَةِ، فِي جَمْعٍ مِنْ أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهَا، فَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ، وَشَهَرُوا السِّلَاحَ، وَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-، فَقتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَانْهَزَمُوا، وَاسْتَمَرَّ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- يَدْفَعُهُمْ حَتَّى انْتَهَى بِهِمُ القَتْلُ إِلَى بَابِ المَسْجِدِ، فَلَمَّا رَاَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، صَاحَ بِهِمْ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ وَكَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَجَعَلُوا يَقْتَحِمُونَ الدُّورَ، وَيُغْلِقُونَ أَبْوَابَهَا عَلَيْهِمْ (¬2). * شَأْنُ حِمَاسِ (¬3) بنِ قَيْسٍ: وَكَانَ مِنْ بَيْنِ الذِينَ انْهَزَمُوا حِمَاسُ بنُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ المُسْلِمِينَ يُعِدُّ سِلَاحَهُ وَيُصْلِحُهُ لِقِتَالِ المُسْلِمِينَ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ سِلَاحَكَ؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ. فَلَمَّا انْهَزَمَ حِمَاسٌ وَفرَّ، دَخَلَ بَيْتَهُ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي. قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ قَالَ: ¬

_ (¬1) كل هؤلاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أسلموا، وحسن إسلامهم. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 55) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 41) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 317). (¬3) قال الحافظ في الإصابة (2/ 102): حِماس: بكسر الحاء.

* قتلى خيل خالد -رضي الله عنه-

إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَان وَفَرَّ عِكْرِمَهْ وَأَبُو يَزِيدَ (¬1) قَائِمٌ كَالمُؤْتَمَهْ (¬2) ... وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ المُسْلِمَهْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ لَهم نَهِيتٌ (¬3) خَلْفَنا وَهَمْهَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ (¬4) * قَتلَى خَيْلِ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدْ قُتِل مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه- رَجُلَانِ شَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ، فَقُتِلَا جَمِيعًا، وَهُمَا: كُرْزُ (¬5) بنُ جَابِرٍ الفِهْرِيُّ، وَحبيْشُ بنُ الأَشْعَرِ (¬6) الخُزَاعِيُّ، وَهُوَ أَخُو أُمِّ مَعْبَدَ التِي مَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُهَاجِرًا (¬7). * فَزَعُ أَبِي سُفْيَانَ بنِ حَرْبٍ: وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُبِيحَتْ (¬8) ¬

_ (¬1) هو سُهيل بن عمرو. (¬2) يُقال: أيتمت المرأة فهي موتم وموتمة: إذا كان أولادها أيتامًا. انظر النهاية (5/ 252). (¬3) النهيت: صوت يخرج من الصدر عند المشقة. انظر النهاية (5/ 117) - لسان العرب (14/ 300). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 56) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 47). (¬5) قال الحافظ في الفتح (8/ 322): كُرْز: بضم الكاف وسكون الراء. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 322): الأشعر لقب، واسمه خالد. (¬7) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4280). (¬8) في رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (1780) (86): أُبيدت. =

* التجمع في الخيف

خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشٌ بَعْدَ اليَوْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ ألقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ" (¬1). ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه- يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ عَنِ القَتْلِ، فَلَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَامَهُ رَسُولُ اللَّه-صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ لَه: "لِمَ قَاتَلْتَ، وَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ القِتَالِ؟ ". فَقَالَ: هُمْ بَدَؤُونَا بِالقِتَالِ، وَوَضَعُوا فِينَا السِّلَاحَ، وَأَشْعَرُونَا بِالنَّبْلِ، وَقَدْ كَفَفْتُ يَدِيَ مَا اسْتَطَعْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُفُّوا عَنِ السِّلَاحِ إِلَّا خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ"، فَأُذِّنَ لَهُمْ إِلَى صَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كفُّوا السِّلَاحَ" (¬2). * التَّجَمُّعُ فِي الخَيفِ (¬3): وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يَتَجَمَّعُوا فِي الخَيْفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ ¬

_ = قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (12/ 108) وهما متقاربان أي استؤصلت قريش بالقتل، وأفنيت، وخضراؤهم بمعنى جماعتهم. (¬1) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب فتح مكة - رقم الحديث (1780) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10948). (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6681) وإسناده حسن. (¬3) الخَيف: بفتح الخاء وسكون الياء هو المُحصب، وهو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومِنى، ومعنى الخيف: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يُسمى الخيف؛ لأنه في سفح جبلها. انظر النهاية (1/ 379) (2/ 88).

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْزُلنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذَا فَتَحَ اللَّهُ، الخَيْفُ حَيْثُ تَقَاسَمُوا (¬1) عَلَى الكُفْرِ" (¬2). قَالَ العُلَمَاءُ: وَكَانَ نُزُولُه -صلى اللَّه عليه وسلم- هُنَا شُكْرًا للَّهِ تَعَالَى عَلَى الظُّهُورِ بَعْدَ الاخْتِفَاءِ، وَعَلَى إِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). وَلَمْ يَنْزِلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَارَهُ التِي كَانَتْ فِي مَكَّةَ؛ لِأَنَّ عَقِيلَ بنَ أَبِي طَالِبٍ بَاعَهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ زَمَنَ الفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ، فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَهَلْ ترَكَ عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ؟ ". وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ لِانَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ (¬4). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 328): يعني قريشًا لما تحالفوا على أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يناكحوهم ولا يؤوهم وحصروهم في الشعب. قلتُ: ذكرنا حصار قريش لبني هاشم فيما تقدم، فراجعه. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب أين ركز رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4284) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب النزول بالمحصب يوم النفر - رقم الحديث (1314) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8278). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 52). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب توريث دور مكة - رقم الحديث (1588) وكتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4248) -=

* أول من وصل الزبير -رضي الله عنه-

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ هَذَا الحُكْمِ -أَيْ عَدَمِ تَوْرِيثِ المُسْلِمِ الكَافِرَ- فِي أَوَائِلِ الإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الهِجْرَةُ لَمَّا وَقَعَتْ اسْتَوْلَى عَقِيلٌ وَطَالِبٌ عَلَى مَا خَلَّفهُ أَبُو طَالِبٍ -وَكَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ الهِجْرَةِ- وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَا خَلَفهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَقِيقَهُ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الهِجْرَةُ وَلَمْ يُسْلِمْ طَالِبٌ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ عَقِيلٍ، اسْتَوْلَيَا عَلَى مَا خَلَّفَ أَبُو طَالِبٍ، وَمَاتَ طَالِبٌ قَبْلَ بَدْرٍ، وَتَأَخَّرَ عَقِيلٌ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ حُكْمُ الإِسْلَامِ بِتَرْكِ تَوْرِيثِ المُسْلِمِ مِنَ الكَافِرِ، اسْتَمَرَّ ذَلِكَ بِيَدِ عَقِيلٍ، فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ عَقِيلٌ قَدْ بَاعَ تِلْكَ الدُّورَ كُلَّهَا. وَفِي قَوْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ؟ "، إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ بَيْعٍ لَنَزَلَ فِيهَا (¬1). * أَوَّلُ مَنْ وَصَلَ الزُّبَيْرُ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَصَلَ إِلَى الخَيْفِ هُوَ الزُّبَيْرُ بنُ العَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، وَنَصَبَ عِنْدَهَا رَايَتَهُ، وَضَرَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُبَّةً مِنْ أَدَمٍ (¬2). * دُخُولُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ: ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ مِنْ أَعْلَاهَا مِنْ كَدَاءَ فِي كَتِيبتِهِ الخَضْرَاءِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ بُكْرَةَ يَوْمِ الجُمُعَةِ لِعَشْرِ ¬

_ = وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب النزول بمكة للحاج - رقم الحديث (1351). (¬1) انظر فتح الباري (8/ 327). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 318).

* اغتسال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دار أم هانئ رضي الله عنها

لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ القَصْوَاءَ مُرْدِفًا أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَلْفَهُ، عَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ (¬1)، وَاضِعًا رَأْسَهُ الشَّرِيفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ تَوَاضُعًا للَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الفَتْحِ، حَتَّى إِنَّ لِحْيَتَهُ لَتَكَادُ تَمَسُّ وَسَطَ رَحْلِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ يُرَجِّعُ (¬2) بِهَا صَوْتَهُ (¬3). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الفَتْحَ المُبِينَ لَيُذَكِّرُهُ بِمَاضٍ طَوِيلِ الفُصُولِ، كَيْفَ خَرَجَ مُطَارَدًا؟ ، وَكَيْفَ يَعُودُ اليَوْمَ مَنْصُورًا مُؤَيَّدًا. . .؟ ! وَأَيُّ كَرَامَةٍ عُظْمَى حَفَّهُ اللَّهُ بِهَا فِي هَذَا الصَّبَاحِ المَيْمُونِ! وَكُلَّمَا اسْتَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَذه النَّعْمَاءَ ازْدَادَ للَّهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ خُشُوعًا وَانْحِنَاءً، وَيبدُو أَنَّ هُنَاكَ عَوَاطِفُ أُخْرَى كَانَتْ تَجِيشُ (¬4) فِي بَعْضِ الصُّدُورِ (¬5). * اغْتِسَالُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي دَارِ أمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَارَ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ ¬

_ (¬1) المِغْفر: هو ما يلبسه الدارع على رأسه. انظر النهاية (3/ 336). وفي رواية أخرى في صحيح مسلم- رقم الحديث (1358) قال جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. (¬2) التَّرْجيع: هو ترديد القراءة، ومنه ترجيع الأذان. انظر النهاية (2/ 185). (¬3) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أين يخرج من مكة - رقم الحديث (1578) (1579) - وكتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4281) (4286) - وكتاب التفسير - باب {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} - رقم الحديث (4835) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز دخول مكة بغير إحرام - رقم الحديث (1357) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5768). (¬4) تَجِيش: أي تفيض. انظر لسان العرب (2/ 435). (¬5) انظر فقه السيرة ص 380 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

اللَّهُ عَنْهَا، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي بَيْتِهَا، وَذَلِكَ ضُحًى. قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: لم أَرَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أنهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ (¬1). قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَتْ هَذِهِ صَلَاةَ الفَتْحِ، وَكَانَ أُمَرَاءُ الإِسْلَامِ إِذَا فتَحُوا حِصْنًا أَوْ بَلَدًا، صَلُّوا عُقَيْبَ الفَتْحِ هَذِهِ الصَّلَاةَ اقْتِدَاء بِرَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفِي القِصَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِسَبَبِ الفَتْحِ شُكْرًا للَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّاهَا قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا (¬2). قُلْتُ: وَقَدْ صَلَّى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ فَتْحِ المَدَائِنِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: إِنَّمَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أُمِّ هَانِئٍ؛ لِيَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَيْثُ ضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ فِي الخَيْفِ عِنْدَ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب منزل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح - رقم الحديث (4292) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - رقم الحديث (336). (¬2) انظر زاد المعاد (3/ 361). (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 695). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (4/ 695): وجاء التصريحُ بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسلم من كل ركعتين، وهو يرد على السهيلي في الرَّوْض الأُنُف (4/ 169) وغيره ممن يزعم أن صلاة الفتح تكون ثمانية ركعات بتسليمة واحدة. (¬4) انظر فتح الباري (8/ 333).

* حديث ضعيف

* حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَتَتْهُ بِشَرَابٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلةٌ، فنَاوَلَهَا فَشَرِبَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ فَعَلْتُ شَيْئًا مَا أَدْرِي يُوَافِقُكَ أَمْ لَا؟ قَالَ: "وَمَا ذَاكَ يَا أُمَّ هَانِئٍ؟ "، قَالَتْ: كُنْتُ صَائِمَةً، فكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ فَضْلَكَ، فَشَرِبْتُهُ، قَالَ: "تَطَوُّعًا أَوْ فَرِيضَةً؟ "، قَالَتْ: بَلْ تَطَوُّعًا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ بِالخِيَارِ، إِنْ شَاءَ صَامَ، وَإنْ شَاءَ أَفْطَرَ" (¬1). فَهَذَا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ، لِاضْطِرَابِ إِسْنَادِهِ (¬2) وَنَكَارَةِ مَتْنِهِ (¬3)، قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَهُ: وَحَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. * إِجَارَةُ أُمِّ هَانِئٍ لِقَرِيبَيْنِ لَهَا: وَأَجَارَتْ أُمُّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، رَجُلَيْنِ مِنْ أَقَارِبِهَا (¬4)، كَانَا فَرَّا إِلَيْهَا، ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27385) - والترمذي في جامعه - كتاب الصوم - باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع - رقم الحديث (740) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الصيام - باب الرخصة للصائم المتطوع أن يفطر - رقم الحديث (3288). (¬2) ممن أعلَّ هذا الحديث بالاضطراب: النسائي في السنن الكبرى (3/ 368). (¬3) قال الحافظ في التلخيص الحبير (2/ 111): ومما يدلُّ على غلط سِماك -أحد الرواة- فيه أنه قال في بعض الروايات عنه أن ذلك كان يوم الفتح، ويوم الفتح كان في رمضان، فكيف يُتصوّر قضاء رمضان في رمضان؟ (¬4) وقع في رواية الحاكم في المستدرك - رقم الحديث (5260) التصريح باسم الرجلين وهما: الحارث بن هشام بن المغيرة، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة. ورجح ذلك الحافظ في الفتح (2/ 19).

* طواف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبيت وتطهيره من الأصنام

وَكَانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- يَتْبَعُهُمَا، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ الفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْترهُ بِثَوْبٍ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَذِهِ؟ ". قُلْتُ: أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَرْحَبًا يَا أُمَّ هَانِئٍ"، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، . . . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا قَدْ أَجَرتُهُ، فُلَانُ بنُ هُبَيْرَةَ (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ" (¬2). * طَوَاف رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالبَيْتِ وَتَطْهِيرُهُ مِنَ الأَصْنَامِ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَالمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلْفَهُ وَحَوْلَهُ، يُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ، فَأَقْبلَ إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ بِمِحْجَنٍ (¬3) في يَدِهِ، ثُمَّ طَافَ بِالبَيْتِ سَبْعَّاَ عَلَى رَاحَلِتِه، وَحَوْلَ البَيْتِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا مَشْدُودَةٌ بِالحَدِيدِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا دَنَا مِنْ صَنَمٍ يَطْعَنُهَا بِمِحْجَنِهِ، ¬

_ (¬1) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26892) بسند صحيح - قالت رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه، أجرت حَمَوَيْنِ لي من المشركين. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به - رقم الحديث (357) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب استحباب صلاة الضحى - رقم الحديث (336) (82) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الطهارة - باب الغسل - رقم الحديث (1188). (¬3) المِحْجن: عصا معقفة الرأس. انظر النهاية (1/ 335).

* دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكعبة وتطهيرها من الصور

وَيَقُولُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (¬1)، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (¬2). فَمَا يُشِيرُ عَلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إِلَّا وَقَعَ لِقَفَاهُ، وَلَا يُشِيرُ إِلَى قَفَاهُ إِلَّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتَّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا وَقَعَ (¬3). * دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكَعْبَةَ وَتَطْهِيرُهَا مِنَ الصُّوَرِ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُثْمَانَ بنَ طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه- حَاجِبَ (¬4) الكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُ: "ائْتِنِي بِالمِفْتَاحِ"، فَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَبَتْ أَنْ تُعْطيَهُ المِفْتَاحَ فِي بِدَايَةِ الأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهَا أَعْطَتْهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ بَابَ الكَعْبَةِ، وَأَمَرَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَدْخُلَ، فَيَمْحُوَ كُلَّ صُورَةٍ فِيهَا، فَلَمْ يَدْخُلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى مُحِيَتْ كُلُّ صُورَةٍ فِيهَا (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الإسراء آية (81). (¬2) سورة سبأ آية (49). (¬3) أخرج ذلك: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4287) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب إزالة الأصنام من حول الكعبة - رقم الحديث (1781) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3584) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 65). (¬4) حِجَابَة الكعبة: هي سِدانتها، وتولي حفظها، وهم الذين بأيديهم مفتاحها. انظر النهاية (1/ 328). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من كبّر في نواحي الكعبة - رقم الحديث (1601) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب دخول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أعلى مكة - رقم الحديث (4289) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره - رقم الحديث (1329) (390) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه =

ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكَعْبَةَ، فَوَجَدَ حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فكَسَرَهَا بِيَدهِ، ثُمَّ طَرَحَهَا (¬1)، وَوَجَدَ بَعْضَ الآثَارِ لِلصُّوَرِ، فَوَجَدَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلَامُ (¬2)، وَوَجَدَ أَيْضًا صُورَةً لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ مَا اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلَامِ قَطُّ". ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِبَقِيَّةِ تِلْكَ الصُّوَرِ فَمَحَاهَا (¬3). وَفِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَجَعَلَ يَمْحُوهَا، وَيَقُولُ: "قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لَا يَخْلُقُونَ" (¬4). ¬

_ = كتاب الحظر والإباحة - باب الصور والمصورين - رقم الحديث (5857). (¬1) ذِكْر الحَمامة وكَسْرها -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَده الشريفة هي رواية ابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب من استلم الركن بمحجنه - رقم الحديث (2947) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر صفية بنت شيبة - رقم الحديث (7022) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 60) وإسناده حسن. (¬2) الأزْلَام: هي القِداحُ التي كانت في الجاهلية عليها مكتوب الأمر والنهي، افعل ولا تفعل، كان الرجل منهم يضعها في وعاء له، فإذا أراد سفرًا أو زواجًا أو أمرًا مهمًا، أدخل يده فأخرج منها زلمًا، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النهي كف عنه ولم يفعله. انظر النهاية (2/ 281). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} - رقم الحديث (3351) - وكتاب المغازي - باب أين ركز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الراية يوم الفتح - رقم الحديث (4288) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحظر والإباحة - باب الصور والمصورين - رقم الحديث (5858). (¬4) أخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (657) - وجوده إسناده الحافظ في الفتح (4/ 268).

* إغلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عليه باب الكعبة

ذَكَرْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ قَدْ أَمَرَ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- بِمَسْحِ الصُّوَرِ، وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ الذِي مَسَحَهَا. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- مَحَا مَا كَانَ مِنَ الصُّوَرِ مَدْهُونًا مَثَلًا، وَأَخْرَجَ مَا كَانَ مَخْرُوطًا، وَأَمَّا مَسْحُ النِّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلصُّوَرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ خَفِيَ عَلَى مَنْ مَحَاهَا أَوّلًا (¬1). * إِغْلَاقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيهِ بَابَ الكَعْبَةِ: ثُمَّ أَغْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَابَ الكَعْبَةِ (¬2)، وَمَا كَانَ مَعَهُ فِي هَذَا المَكَانِ العَظِيمِ الطَّاهِرِ إِلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، وَبِلَالُ بنُ رَبَاحٍ، وَعُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ، وَقِيلَ الفَضْلُ بنُ عَبَّاسٍ -وَفِيهِ نَظَرٌ- (¬3)، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَمَكَثَ فِيهِ طَوِيلًا، فَجَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ البَيْتُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 331). (¬2) قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح صحيح مسلم (9/ 72): إنما أغلقها عليه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ ليكون أسكن لقلبه وأجمع لخشوعه، ولئلا يجتمع الناس ويدخلوا ويزدحموا فينالهم ضرر ويتهوش عليه الحال بسبب لغطهم، واللَّه أعلم. الهوش: الاختِلَاط، أي يدخل بعضهم في بعض. (¬3) جاء ذكر دخول الفضل بن العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا معهم في رواية النسائي في السنن الكبرى - كتاب المواقيت - باب دخول الكعبة - رقم الحديث (3875) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4464). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 267): لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة أخرجها الإمام أحمد في مسنده.

* فوائد الحديث

يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ اسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ البَابِ قَائِمًا، فَسَأ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ . فَأَشَارَ لَهُ إِلَى المَكَانِ الذِي صَلَّى فِيهِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فنَسِيتُ أَنْ أَسْأله كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ؟ (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - رِوَايَةُ الصَّاحِبِ عَنِ الصَّاحِبِ. 2 - سُؤَالُ المَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الأَفْضَلِ وَالِاكْتِفَاءِ بِهِ. 3 - وَالحُجَّةُ بِخَبَرِ الوَاحِدِ. 4 - وَفيهِ اخْتِصَاصُ السَّابِقِ بِالبُقْعَةِ الفَاضِلَةِ. 5 - وَفِيهِ السُّؤَالُ عَنِ العِلْمِ وَالحِرْصُ عَلَيهِ. 6 - وَفِيهِ فَضِيلَةُ ابنِ عُمَرَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى تَتَبُّعِ آثارِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيَعْمَلَ بِهَا. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب إغلاق البيت، ويصلي في أي نواحي البيت شاء - رقم الحديث (1598) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب دخول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أعلى مكة - رقم الحديث (4289) - وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الحج - باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره - رقم الحديث (1329) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الصلاة في الكعبة - رقم الحديث (3203) (3203).

* خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأهل مكة وعفوه عنهم

7 - وَفيهِ أَنَّ الفَاضِلَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ كَانَ يَغِيبُ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَعْضِ المَشَاهِدِ الفَاضِلَةِ، وَيَحْضُرُهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَيَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرَهُمَا مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ بِلَالٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِي ذَلِكَ. 8 - وَفيهِ مَشْرُوعِيَّهُ الأَبْوَابِ وَالْغَلْقِ لِلْمَسَاجِدِ. 9 - وَفيهِ أَنَّ السُّتْرَةَ إِنَّما تُشْرَعُ حَيْثُ يُخْشَى المُرُورُ، فَإِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى بَيْنَ العَمُودَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَالذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ ترَكَ ذَلِكَ لِلِاكْتِفَاءِ بِالقُرْبِ مِنَ الجِدَارِ. 10 - وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْلَ العُلَمَاءِ تَحِيَّةُ المَسْجِدِ الحَرَامِ الطَّوَافُ مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ دَاخِلِ الكَعْبَةِ لِكَوْنِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَاءَ فَأَنَاخَ عِنْدَ البَيْتِ، فَدَخَلَهُ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ إِمَّا لِكَوْنِ الكَعْبَةِ كَالمَسْجِدِ المُسْتَقِلِّ، أَوْ هُوَ تَحِيَّةُ المَسْجِدِ العَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. 11 - وَفيهِ اسْتِحْبَابُ دُخُولِ الكَعْبَةِ (¬1). * خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَهْلِ مَكَّةَ وَعَفْوُهُ عَنْهُمْ: ثُمَّ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى بَابِ الكَعْبَةِ، وَقَدِ اسْتَكْفَّ (¬2) لَهُ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَصْنَعُ؟ فَأَخَذَ بِعَضَادَتِيِ البَابِ وَهُمْ تَحْتَهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (4/ 264). (¬2) استكفَّ له الناس: أحاطوا به واجتمعوا حوله. انظر النهاية (4/ 165).

وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الجَاهِلِيَّةِ تُذْكَرُ وَتُدْعَى مِنْ دَمٍ، أَوْ مَالٍ تَحْتَ قَدَمِي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الحَاجِّ، وَسِدَانَةِ البَيْتِ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الخَطَأِ شِبْهَ العَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالعَصَا، فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً: مِائَهٌ مِنَ الإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً (¬1)، فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا" (¬2). "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبَيَّةَ (¬3) الجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، النَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كرِيمٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدمَ، وَخُلِقَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنَ الْجِعْلَانِ (¬4) التِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ" (¬5). "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ (¬6) فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّ الإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْهُ ¬

_ (¬1) الخَلِفة: بفتح الخاء وكسر اللام: هي الحوامل من النوق. انظر النهاية (2/ 65). (¬2) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الديات - باب في الخطأ شبه العمد - رقم الحديث (4547) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الديات - باب ذكر وصف الدية في قتيل الخطأ - رقم الحديث (6011) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4945) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2488) - وإسناده صحيح. (¬3) عُبية: بضم العين وتشديد الباء والياء: يعني الكبر. انظر النهاية (3/ 154). (¬4) الجُعلُ: حيوان معروف كالخنفساء. انظر النهاية (1/ 268). (¬5) أخرج ذلك الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الحجرات - رقم الحديث (3270) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8736) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8215) - وهو حديث حسن. (¬6) أصلُ الحلف: المُعَاقَدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في =

إِلَّا شِدَّةً، وَلَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ" (¬1). وَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ، فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِثْلُ الذِي لَنَا، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الذِي عَلَيْنَا، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَلَهُ أَجْرُهُ، وَلَهُ مِثْلُ الذِي لَنَا، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الذِي عَلَيْنَا" (¬2). ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ! مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِل بِكُمْ؟ ". قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإخْوَتهِ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (¬3)، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلقاءُ" (¬4). ¬

_ = الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا حلف في الإسلام"، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام، فذلك الذي قال فيه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"، يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق. انظر النهاية (1/ 407). (¬1) أخرج ذلك الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1618) (5992) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (570) - وإسناده حسن. (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22234) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2571) - وإسناده حسن. قلتُ: وقع في رواية الطحاوي أن ذلك كان في حجة الوداع وليس يوم فتح مكة، ورواية الإمام أحمد في مسنده: أن ذلك كان يوم فتح مكة، فلعله -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ذلك مرتين يوم الفتح، وفي حجة الوداع، واللَّه أعلم. (¬3) سورة يوسف آية (95). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 61) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 58).

* دفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة إلى أهله

فَعَفَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَدَخَلُوا فِي الإِسْلَامِ. * دَفْعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِفْتَاحَ الكَعْبَةِ إِلَى أَهْلِهِ: ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَسْجِدِ، وَمِفْتَاحُ الكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْمَعْ لَنَا الحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيْنَ عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ؟ ". فَدُعِيَ له، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ! اليَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ" (¬1). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُثْمَانَ: "خُذُوهَا يَا بَنِي أَبِي طَلْحَةَ تَالِدَةً خَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ" (¬2). وَنَزَلَ فِي هَذَا المَوْقِفِ قَوْلُه تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ: وَهَذَا مِنَ المَشْهُورَاتِ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ -أَيْ فِي شَأْنِ عُثْمَانَ بنِ طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه- (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (4/ 61). (¬2) أخرج ذلك ابن سعد في طبقاته (2/ 318). (¬3) سورة النساء آية (58). (¬4) انظر تفسير ابن كثير (2/ 341).

* أبو سفيان يفكر في قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قُلْتُ: وَلَا يَزَالُ مِفْتَاحُ الكَعْبَةِ فِي بَنِي شَيْبَةَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَإِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * أَبُو سُفْيَانَ يُفَكِّرُ فِي قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَى أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَمْشِي وَالنَّاسُ يَطَؤُونَ عَقِبَهُ، فَقَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدْتُ هَذَا الرَّجُلَ القِتَالَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ: لَوْ جَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ جَمْعًا. قَالَ: فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، إِذْ ضَرَبَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَقَالَ: "إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ". قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا تَفَوَّهْتُ بِهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَيْقَنْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ حَتَّى السَّاعَةَ (¬1) * بِلَالٌ -رضي اللَّه عنه- يُؤَذِّن فَوْقَ الكَعْبَةِ: وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِلَالًا -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَصْعَدَ فيؤَذِّنَ فَوْقَ الكَعْبَةِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ، وَعَتَّابُ بنُ أَسِيدٍ، وَالحَارِثُ بنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفَنَاءِ الكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَسِيدًا أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يُغِيظُهُ، وَقَالَ الحَارِثُ بنُ هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 102) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 484).

* صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلوات بوضوء واحد

لَا تَّبَعْتُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي هَذِهِ الحَصَى (¬1). فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمْ: "قَدْ عَلِمْتُ الذِي قُلْتُمْ"، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَاَل الحَارِثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا، فَنَقُولَ أَخْبَرَكَ (¬2). * صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ: وَفِي يَوْمِ الفَتْحِ صَلَّى رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِم فِي صَحِيحِهِ، وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد عَنْ بريْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الفَتْحِ، تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، وَصَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ فَعَلْتَ شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ" (¬3). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ ¬

_ (¬1) وإنما قال ذلك أبو سفيان بسبب ما حدث له مع رَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عندما فكّر بقتال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأخبره رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بنفسه. (¬2) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (4/ 62) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 78 - 79). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الطهارة - باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد - رقم الحديث (277) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23029).

* إسلام أبي قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما

-صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الوُضُوءَ لِكُلِّ صلَاةٍ عَمَلًا بِالأَفْضَلِ، وَصَلَّي الصَّلَوَاتِ فِي هَذَا اليَوْمِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ بَيَانًا لِلْجَوَازِ، كَمَا قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَمْدًا صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ". وَفِي هَذَا الحَدِيثِ جَوَازُ سُؤَالِ المَفْضُولِ الفَاضِلَ عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِهِ التِي فِي ظَاهِرِهَا مُخَالفَةً لِلْعَادَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونَ عَنْ نِسْيَانٍ فَيَرْجعُ عَنْهَا، وَقَدْ تَكُونَ تَعَمُّدًا لِمَعْنًى خَفِيٍّ عَلَى المَفْضُولِ، فَيَسْتَفِيدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). * إِسْلَامُ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَسْجِدِ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- وَجَاءَ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، وَكَانَ قَدْ عَمِيَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: "هَلَّا تَرَكْتَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ"، وَذَلِكَ إِكْرَامًا لِأَبي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ أَحَقُّ أَنْ يَمْشِي إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ أَنْتَ. فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، وَقَالَ له: "أَسْلِمْ تَسْلَمْ"، فَأَسْلَمَ أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَأْسُ أَبِي قُحَافَةَ وَلحْيَتُهُ يَوْمَ الفَتْحِ كَالثُّغَامَةِ (¬2) بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَاد" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 152). (¬2) الثغامة: هو نبت أبيض الزهر والثمر، يُشبّه به الشيب. انظر النهاية (1/ 208). (¬3) أخرج قِصة إسلام أبي قحافة: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12635) (26956) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي =

* إسلام السائب بن أبي السائب -رضي الله عنه-

* إِسْلَامُ السَّائِبِ بنِ أَبِي السَّائِبِ -رضي اللَّه عنه-: كَذَلِكَ جِيءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوْمَ الفَتْحِ بِالسَّائِبِ بنِ أَبِي السَّائِبِ، وَكَانَ شَرِيكًا لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَرَحَّبَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَجَعَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- وَآخَرُونَ يُثْنُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُعَلِّمُونِي بِهِ، قَدْ كَانَ صَاحِبِي فِي الجَاهِلِيَّةِ". فَقَالَ السَّائِبُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنِعْمَ الصَّاحِبُ كُنْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا سَائِبُ! انْظُرْ أَخْلَاقَكَ التِي كنْتَ تَصْنَعُهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَاجْعَلْهَا فِي الإِسْلَامِ، أَقْرِ (¬1) الضَّيْفَ، وَأَكْرِمِ اليَتِيمَ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ" (¬2) * إِسْلَامُ فُضَالة بنَ عُمَيْرٍ -رضي اللَّه عنه-: وَهَمَّ فُضَالَةُ بنُ عُمَيْرِ بنِ المُلَوَّحِ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَطُوفُ ¬

_ = قحافة عثمان بن عامر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7208) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 53) - وإسناده صحيح كما قال الحافظ في الإصابة (4/ 375) - وأخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب اللباس والزينة - باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة - رقم الحديث (2102) مختصرًا على قصة تغير الشيب. (¬1) قَرَى الضيف: أضافه. انظر لسان العرب (11/ 149). (¬2) أخرج هذا الحديث: ابن ماجه في سننه - كتاب التجارات - باب الشركة والمضاربة - رقم الحديث (2287) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2400) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15500) وإسناده ضعيف لاضطرابه للخلاف في من هو شريك الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجاهلية، وقد ذكرنا ذلك مفصلًا عند ذكر تجارة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجاهلية.

* خبر لا يصح

بِالبَيْتِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ لَهُ: "أَفُضَالَةُ؟ ". قَاَلَ: نَعَمْ، فُضَالَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ؟ " قَالَ: لَا شَيْءَ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "اسْتَغْفِرِ اللَّهَ"، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ، فَكَانَ فُضَالَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ (¬1). * خَبَرٌ لَا يَصِحُّ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ الوَليدِ بنِ عُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ، جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ، فَيَدْعُو لَهُمْ بِالبَرَكَةِ، وَيَمْسَحُ رُؤُوسَهُمْ، فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ، وَأَنَا مُخَلَّقٌ (¬2) فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الخَلُوقِ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 65) - زاد المعاد (3/ 363). (¬2) أي عليه الخَلُوق، وهو طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره. انظر النهاية (2/ 68). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16379) - وأخرجه أبو داود في سننه - كتاب الترجل - باب في الخلوق للرجال - رقم الحديث (4181) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2879).

* متابعة العشرة الذين أهدر دمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وهَذَا الحَدِيثُ مُضْطَرِبُ الإِسْنَادِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الوَلِيدُ بنُ عُقْبَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ صَغِيرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَهُ سَاعِيًا إِلَى بَنِي المُصْطَلِقِ (¬1)، وَشَكَتْهُ زَوْجُتُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرُوِيَ أَنَّ الوَليدَ وَأَخُوهُ عُمَارَةُ بنُ عُقْبَةَ خَرَجَا لِيَرُدَّا أُخْتَهُمَا أُمَّ كُلْثُومٍ عَنِ الهِجْرَةِ، وَكَانَتْ هِجْرتُهَا فِي هُدْنَةِ الحُدَيْبِيَةِ (¬2). * مُتَابَعَةُ العَشَرَةِ الذِينَ أَهْدَرَ دَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَهْدَرَ دَمَ عَدَدٍ مِنَ المُشْرِكِينَ حَتَّى لَوْ وُجِدُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَفَى، ثُمَّ أَسْلَمَ، كَمَا سَيَأْتِي: 1 - إِسْلَامُ عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا انْهَزَمَ عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ أَمَامَ خَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، فَرَّ خَارجَ مَكَّةَ، وَذَهَبَ إِلَى جُدَّةَ، وَرَكِبَ البَحْرَ، فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ (¬3)، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا، فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ، لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي مِنَ البَحْرِ إِلَّا الإِخْلَاصُ، ما يُنَجِّينِي فِي البَرِّ غَيْرِهِ، اللَّهُمَّ! إِنَّ لَكَ عَلَيَّ ¬

_ (¬1) سيأتي خبر بعثه إلى بني المصطلق. (¬2) ذكرنا ذلك في صلح الحديبية فراجعه. (¬3) أي رِيحٌ عاصف شديدة الهبوب. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 376).

* رواية ضعيفة

عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، أَنْ اَتِيَ مُحَمَّدًا، حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ، فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا (¬1). * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ مَالِكٌ فِي المُوَطَّأِ مِنْ أَنَّ عِكْرِمَةَ -رضي اللَّه عنه- هَرَبَ إِلَى اليَمَنِ فَلَحِقَتْهُ زَوْجَتُهُ وَدَعَتْهُ إِلَى الإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ (¬2). * إِسْلَامُ عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا دَنَا عِكْرِمَةُ إِلَى مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "يَأْتِيكُمْ عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْل مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ، فَإِنَّ سَبَّ المَيِّتِ يُؤْذِي الحَيَّ، وَلَا يَبْلُغُ المَيِّتَ". فَلَمَّا وَصَلَ عِكْرِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ لَهُ: "مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ المُهَاجِرِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك: النسائي في السنن الكبرى - كتاب المحاربة - باب الحكم في المرتد - رقم الحديث (3516) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1506) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6149) وإسناده حسن. (¬2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ - كتاب النكاح - باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله - رقم الحديث (46) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9086). (¬3) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب عكرمة بن. أبي جهل -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5103) (5107) - والترمذي في جامعه - كتاب الاستئذان والآداب - باب ما جاء في مرحبا - رقم الحديث (2933) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (4860) - وإسناده ضعيف. قال الترمذي في جامعه: هذا حديث ليس إسناده بصحيح.

2 - عبد الله بن سعد بن أبي السرح -صلى الله عليه وسلم-

وَأَسْلَمَ عِكْرِمَةُ -رضي اللَّه عنه-، وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ مُطَأْطِئٌ (¬1) رَأْسَهُ اسْتِحْيَاءً: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اسْتِغْفِرْ لِي كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا، أَوْ مَوْكِبٍ أَوْضَعْتُ فِيهِ أُرِيدُ فِيهِ إِظْهَارَ الشِّرْكِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِعِكْرِمَةَ كُلَّ عَدَاوَوة عَادَانِيهَا أَوْ مَوْكِبٍ أَوْضَعَ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّ عَنْ سَبِيلِكَ" (¬2). وَهَكَذَا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ -رضي اللَّه عنه- وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَدِ اسْتُشْهِدَ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَ مَعْرَكَةِ أَجْنَادِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- 2 - عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ، اخْتَفَى وَذَهَبَ إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا هَدَأَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، اسْتَأْمَنَ لَهُ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ أَتَى بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! بَايعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأْسَهُ، فنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ، أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ رَآنِي كفَفْتُ يَدِيَ عَنْ بَيْعَتِهِ، فَيَقْتُلَهُ؟ ". قَالُوا: مَا دَرَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، فَهَلَّا أَوْمَأْتَ (¬3) إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ . ¬

_ (¬1) طأطأ رأسه: خفضه. انظر النهاية (3/ 101). (¬2) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر مناقب عكرمة بن أبي جهل -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (5105) - وإسناده ضعيف - لكن له شواهد يتقوى بها. (¬3) الإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس واليد والعين والحاجب. انظر النهاية (1/ 82).

3 - مقيس بن صبابة

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ" (¬1). وَهَكَذَا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ -رضي اللَّه عنه-، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَتْ لَهُ مَوَاقِفُ مَحْمُودَةٌ فِي الفُتُوحِ الإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَهُوَ الذِي فَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَتُوُفِّيَ -رضي اللَّه عنه- سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لِلْهِجْرَةِ (¬2). رَوَى البَغَوِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ يَزِيدَ بنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سَعْدِ بنِ أَبِي السَّرْحِ إِلَى الرَّمْلَةِ (¬3)، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ آخِرَ عَمَلِي الصُّبْحَ، فتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى، فَسَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَبَضَ اللَّهُ رُوحَهُ، يَرْحَمُهُ اللَّهُ (¬4). 3 - مِقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ: وَأَمَّا مِقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ، فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ، فَقتَلُوهُ (¬5). ¬

_ (¬1) خائنة الأعين: أي يُضمر فِي نفسه غير ما يُظهره. انظر النهاية (2/ 84). والخبرُ أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1506) (4521) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام - رقم الحديث (2683) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6149) - وإسناده حسن. (¬2) انظر الإصابة (4/ 95) - وسير أعلام النبلاء (3/ 33). (¬3) الرملة: اسم قرية. انظر معجم البلدان (4/ 421). (¬4) أورده الحافظ في الإصابة (4/ 96) وصحح إسناده. (¬5) أخرج ذلك النسائي في السنن الكبرى - كتاب المحاربة - باب الحكم في المرتد - رقم الحديث (3516) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1506) - وإسناده حسن.

4 - عبد الله بن خطل

وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَنَّ الذِي قَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ اللَّيْثيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). 4 - عَبْدُ اللَّهِ بنُ خَطَلٍ: وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بنُ خَطَلٍ، فَقتَلَهُ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ (¬2). قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَفِي أَمْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الحَرَمَ لَا يَعْصِمُ مِنْ إِقَامَةِ عُقُوبَةٍ وَجَبَتْ عَلَى إِنْسَانٍ، وَلَا يُوجِبُ تَأْخِيرَهَا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 59). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام - رقم الحديث (1846) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز دخول مكة بغير إحرام - رقم الحديث (1357) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مكة - رقم الحديث (3719). ولم تعين رواية البخاري ومسلم وابن حبان اسم قاتل عبد اللَّه بن خطل، ووقع عند ابن أبي شيبة فِي مصنفه "أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة". قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 539): وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك فِي "البر والصلة" من حديث أبي برزة نفسه، ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار. قلت: لكن وقع عند النسائي فِي السنن الكبرى - رقم الحديث (3516) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1506): أن سعيد بن حُريث وعمار بن ياسر هما اللذين قتلا ابن خطل. وإسناده حسن. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 539): تحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله، فكان المباشر له منهم أبو برزة الأسلمي -رضي اللَّه عنه-، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه. (¬3) انظر شرح السنة (7/ 305).

5 - الحويرث بن نقيذ

5 - الحُوَيْرِث بن نُقَيْذٍ: وَأَمَّا الحُوَيْرِثُ بنُ نُقَيْذٍ، فَأَدْرَكَهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- فَقَتَلَهُ (¬1). 6 - هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ: وَأَمَّا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ، فَهَرَبَ يَوْمَ الفَتْحِ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ المَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (¬2). وَقَدْ ذَكَرْنَا -فِيمَا تَقَدَّمَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ بِحَرْقِ هَبَّارِ بنِ الأَسْوَدِ بِالنَّارِ لِمَنْ قَدِرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَخَسَ بَعِيرَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَمَا أَرَادَتِ الهِجْرَةَ إِلَى المَدِينَةِ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَسَقَطَتْ مِنَ البَعِيرِ، وَسَقَطَ مَا فِي بَطْنِهَا. 7 - هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ: وَأَمَّا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنَّهَا اخْتَفَتْ يَوْمَ الفَتْحِ، ثُمَّ إِنَّهَا أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا سَيَأْتِي-. 8 - سَارَةُ مَوْلَاةُ بَنِي عَبْدِ المُطلِبِ: وَأَمَّا سَارَةُ فَهِيَ التِي أَعْطَاهَا حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ -رضي اللَّه عنه- كِتَابَهُ إِلَى قُرَيْشٍ، فَإِنَّهَا اخْتَفَتْ يَوْمَ الفَتْحِ، فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِهَا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 63) - سيرة ابن هشام (4/ 59). (¬2) انظر الإصابة (6/ 411) - زاد المعاد (3/ 362). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 59) - فتح الباري (14/ 317).

9 - 10 - قينتا ابن خطل

9 - 10 - قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ: وَأَمَّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ، فَقُتِلَتْ إِحْدَاهُمَا، وهَرَبَتِ الأُخْرَى، حَتَّى اسْتُؤْمِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَسْلَمَتْ (¬1). وَأَمَّا وَحْشِيٌّ بنُ حَرْبٍ، وَكَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ، فَإِنَّهُمَا أَسْلَمَا، وَسَتَأْتِي قِصَّةُ إِسْلَامِهِمَا. * تَخَوُّفُ الأَنْصَارِ مِنْ بَقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ: وَلَمَّا تَمَّ فَتْحُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ وَمَوْلدُهُ، قَالَتِ الأَنْصَارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، أَتَرَوْنَ إِذْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا؟ . فنَزَلَ الوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَا ذَكَرَ الأَنْصَارُ، فَلَمَّا انْقَضَى الوَحْيُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ"، قَالُوا: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "قُلْتُمْ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ". قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، وَالمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ". ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 59).

* بيعة أهل مكة

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَبْكُونَ، وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ! مَا قُلْنَا الذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ (¬1) بِاللَّهِ وَبِرَسُولهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بَلَغَ نَحْرَهُ بِالدُّمُوعِ (¬2). * بَيْعَةُ أَهْلِ مَكَّةَ: وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِمَكَّةَ لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَلَسَ لَهُمْ عَلَى الصَّفَا، وَعُمَرُ بنُ الخَطَّاب -رضي اللَّه عنه- تَحْتَهُ، أَسْفَلَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَأْخُذُ عَلَى النَّاسِ، فَجَاءَهُ الكِبَارُ وَالصِّغَارُ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلَامِ، وَعَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الأَسْوَدِ بنِ خَلَفٍ، قَالَ: أَنَّ أَبَاهُ الأَسْوَدَ رَأَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَايِعُ النَّاسَ يَوْمَ الفَتْحِ، قَالَ: جَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَسْفَلَةٍ (¬3)، فَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى الإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ، قُلْتُ: وَمَا الشَّهَادَةُ؟ قَالَ: بَايَعَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوله (¬4). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ مُجَاشِعٍ بنِ مَسْعُودٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: ¬

_ (¬1) الضِّن: بكسر الضاد: أي بخلًا به وشحًا أن يُشاركنا فيه غيرنا. انظر النهاية (3/ 95). (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب فتح مكة - رقم الحديث (1780) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10948) - والحاكم فِي المستدرك - كتاب البيوع - باب مكة مناخ لا يباع رباعه - رقم الحديث (2375). (¬3) قال السندي في شرح المسند (8/ 290): قَرْنِ مَسْفَلة: فِي "القاموس" في مادة السين والفاء: المسفلة: محلة بأسفل مكة. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15431).

أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَخِي بَعْدَ الفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى الهِجْرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَهَبَ أَهْلُ الهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا"، فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُبايِعُهُ عَلَى الإِسْلَامِ، وَالإِيمَانِ، وَالجِهَادِ" (¬1) وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ يَعْلَى بنِ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبِي أُمَيَّةُ يَوْمَ الفَتْحِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْ أَبِي عَلَى الهِجْرَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ أُبَايِعُهُ عَلَى الجِهَادِ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ" (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا -وَاللَّفْظُ لِابْنِ حِبَّانَ- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، أَوْ قَالَتْ: بَعْدَ الْيَوْمِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولهِ مِنْ أَنْ يُفْتَنُوا (¬3)، وَقَدْ أَفْشَى اللَّهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي - باب مقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة زمن الفتح - رقم الحديث (4305) (4306) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب المبايعة بعد فتح مكة علي الإسلام - رقم الحديث (1863) (84). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17958) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2621) (2622) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9214) - وأورد طرق هذا الحديث الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/ 268) وقال: وهذه أسانيد يُقوِّي بعضها بعضًا. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 635): أشارت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة.

الإِسْلَامَ، فَحَيْثُ شَاءَ العَبْدُ عَبَدَ رَبَّهُ" (¬1). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الْفتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ (¬2)، وَلَكِنْ جِهَاد وَنيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا" (¬3). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذ الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الهِجْرَةَ إِمَّا الكَامِلَةُ أَوْ مُطْلَقًا قَدِ انْقَطَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَظَهَرَ الإِسْلَامُ، وَثَبُتَتْ أَرْكَاُنهُ وَدَعَائِمُهُ، فَلَمْ تَبْقَ هِجْرَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ حَالٌ يَقْتَضِي الهِجْرَةَ، بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الحَرْبِ، وَعَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ، فتَجِبُ الهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ العُلَمَاءِ، وَلَكِنْ هَذِهِ الهِجْرَةُ لَيْسَتْ كَالهِجْرَةِ قَبْلَ الفَتْحِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الجِهَادِ وَالإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَشْرُوعٌ، وَرُغِّبَ فِيهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة - رقم الحديث (3900) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الهجرة - رقم الحديث (4867). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 122): والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة علي الأعيان إلى المدينة انقطعت، إِلَّا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب وجوب النفير - رقم الحديث (2825) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها - رقم الحديث (1353) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1991).

* بيعة نساء قريش

كَالإِنْفَاقِ وَلَا الجِهَادِ قَبْلَ الفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1). * بَيْعَةُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ، بَايَعَ النِّسَاءَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، فِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ التِي أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دمَهَا، وَكَانَتْ مُتَنَقِّبَةً مُتَنَكِّرَةً خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَعْرِفَهَا، فَلَمَّا دَنَوْنَ مِنْهُ، قَالَ لَهُنَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تُبَايِعْنَنِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا؟ ". فَقَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا أَمْرًا مَا تَأْخُذُهُ عَلَى الرِّجَالِ، وَسَنُؤْتيكَهُ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلَا تَسْرِقْنَ". فَقَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الهَنَةَ (¬2) وَالهَنَةَ، وَمَا أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ حِلًّا لِي أَمْ لَا؟ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَانَ شَاهِدًا: أَمَّا مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟ ". ¬

_ (¬1) سورة الحديد آية (10) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 716). (¬2) الهنة: الحاجة. انظر النهاية (5/ 241).

قَالَتْ: نَعَمْ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلَا تَزْنِينَ". قَالَتْ هِنْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ تَزْنِي الحُرَّةُ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ". فَقَالَتْ هِنْدٌ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا، وَقَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ! فَضَحِكَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ قَوْلهَا حَتَّى اسْتَغْرَبَ (¬1)، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "وَلَا تَأتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ". فَقَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ البُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ التَّجَاوُزِ أَمْثَلُ، وإِنَّكَ مَا تَأْمُرُنَا إِلَّا الرُّشْدَ، وَمَكَارِمَ الأَخْلَاقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَلَا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ". فَقَالَتْ هِنْدٌ: مَا جَلَسْنَا هَذَا المَجْلِسَ وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ. فَبَايَعَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ هِنْدٌ مِنْ بَيْنِ النِّسَاءَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نُصَافِحُكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ (¬2)، إِنَّمَا قَوْلي لِامْرَأَةٍ، قَوْلي ¬

_ (¬1) استغرب: بالغ في الضحك، وقيل: هو القهقهة. انظر النهاية (3/ 316). (¬2) ثبت في صحيح البخاري - رقم الحديث (4891) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1866) (88) (89) أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يصافح النساء أبدًا، فعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: واللَّه! ما مست يد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يد امرأة قط، غير أنَّه يبابعهن بالكلام، فإذا أخذ عليها فأعطته، قال: "اذهبي فقد بايعتكِ".

* سؤال هند بنت عتبة عن النفقة

لِمِائَةِ امْرَأَةٍ" (¬1). فَلَمَّا رَجَعَت هِنْدٌ إِلَى بَيْتِهَا عَمَدَتْ إِلَى صَنَمٍ كَانَ عِنْدَهَا، فَجَعَلَتْ تَكْسِرُهُ، وَتَقُولُ: كُنَّا مِنْكَ فِي غُرُورٍ (¬2). * سُؤَالُ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ عَنِ النَّفَقَةِ: ثُمَّ إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةٍ ذَهَبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ (¬3) أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلَ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَيْضًا وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ" (¬4). ¬

_ (¬1) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة، قولي لمئة امرأة". أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27006) وإسناده صحيح. (¬2) أخرج بيعة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لنساء قريش: ابن سعد فِي الطبَّقَات الكُبْرى (8/ 368) وإسناده صحيح، إِلا أنه مرسل - وانظر فتح الباري (10/ 639). (¬3) الخِباء: بكسر الخاء: هو أحد بيوت العرب من وبر أو صوف، وقد تستعمل في المنازل والمساكن. انظر النهاية (2/ 9). (¬4) قلت: ذكرنا قبل قليل أن هند بنت عتبة رضي اللَّه عنها سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أخذها المال من زوجها أبي سفيان -وكان حاضرًا- فقال لها: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه فِي حِلٍّ. وهذه المرة الثانية تسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الحافظ في الفتح (10/ 639): يمكن أن تكون فهمت من الأول إحلال أبي سفيان لما مضى فسألت المرة الثانية عما يستقبل. =

* إسلام صفوان بن أمية

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي الحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى وُفُورِ عَقْلِ هِنْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَحُسْنِ تَأْتِّيهَا فِي المُخَاطَبَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ صَاحِبَ الحَاجَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاهُ اعْتِذَارًا، إِذَا كَانَ فِي نَفْسِ الذِي يُخَاطِبُهُ عَلَيْهِ مَوْجِدَةٌ، وَأَنَّ المُعْتَذِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ صِدْقُهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ هِنْدًا قَدَّمَتِ الِاعْتِرَافَ بِذِكْرِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ البُغْضِ؛ لِيَعْلَمَ صِدْقَهَا فِيمَا ادَّعَتْهُ مِنَ المَحَبَّةِ (¬1). * إِسْلَامُ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ: لَمْ يَكُنْ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ مِمَّنْ أُهْدِرَ دَمُهُ، لَكِنَّهُ كَانَ زَعِيمًا كَبِيرًا مِنْ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ، فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ القَتْلَ، فَهَرَبَ خَارجَ مَكَّةَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ ابنُ عَمِّهِ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ (¬2)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَدْرِكِ ابْنَ عَمِّكَ فَهُوَ آمِنٌ". فَقَالَ عُمَيْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَعْطِنِي آيَةً (¬3) يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَكَ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَاءَ (¬4) الذِي دَخَلَ بِهِ مَكَّةَ. ¬

_ = والخبر أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب النفقات - باب إذا لم ينفق الرجل. . . - رقم الحديث (5364) - وأخرجه فِي كتاب الأيمان والنذور - باب كيف كانت يمين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6641) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأقضية - باب قضية هند - رقم الحديث (1714) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25888). (¬1) انظر فتح الباري (7/ 524). (¬2) هذه رواية جُلّ أهل المغازي والسير من أن عمير بن وهب هو الذي جاء صفوان بن أمية بأمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكر الإمام مالك فِي الموطأ عن ابن شهاب الزهري -بلاغًا- أن الذي جاء بأمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لصفوان بن أمية هو وهب بن عمير، قاله أعلم. (¬3) الآية: العلامة. انظر النهاية (1/ 88). (¬4) هذه رواية الإمام مالك في الموطأ. =

فَلَحِقَ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ حَتَّى أَدْرَكَ صَفْوَانَ بِجُدَّةَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ البَحْرَ، فَقَالَ لَهُ: يَا صَفْوَانُ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ جِئْتُكَ بِهِ. فَقَالَ صَفْوَانٌ: وَيْحَكَ! اغْرُبْ عَنِّي فَلَا تُكَلِّمْنِي. فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَيْ صَفْوَانُ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَفْضَلِ النَّاسِ، وَأَبَرِّ النَّاسِ، وَأَحْلَمِ النَّاسِ، وَخَيْرِ النَّاسِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّكَ عِزُّهُ عِزُّكَ، وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ، وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ. فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ عُمَيْر: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ، فَرَجَعَ صَفْوَانُ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ رِدَاءُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَنَادَاهُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ هَذَا عُمَيْرَ بنَ وَهْب جَاءَنِي بِرِدَائِكَ، وَزَعَمَ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ انْزِلْ أَبَا وَهْبٍ". فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَنْزِلُ حَتَّى تُبَيِّنَ لِي، وَاجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيكَ". فنَزَلَ، ثُمَّ خَرَجَ صَفْوَانُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ وَهُوَ مُشْرِك، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ (¬1). ¬

_ = وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 66): عمامته. (¬1) أخرج قصة إسلام صفوان بن أمية -رضي اللَّه عنه-: =

* مهابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* مَهَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُبَايِعَهُ، فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ مِنْ مَهَابَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّما أَنَّا ابْنُ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَأكُلُ القَدِيدَ (¬1) بِمَكَّةَ" (¬2). * خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَدَاةَ يَوْمِ الفَتحٍ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخُزَاعِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الفَتْحِ فِي قِتَالِ بَنِي بَكْرٍ حَتَّى أَصَبْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَنَا، وَهُوَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرَفْعِ السَّيْفِ، فَلَقِيَ رَهْطٌ ¬

_ = الإِمَامُ مالك فِي الموطأ بلاغًا عن الإمام ابن شهاب الزهري - كتاب النكاح - باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله - رقم الحديث (44) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9085) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 66) - والبيهقي فِي دلائل النبوة (5/ 46) - وإسناده منقطع. قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل من وجه صحيح، وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهلها، وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده إن شاء اللَّه، وقد روى بعضه مسلم. (¬1) القَديد: بفتح القاف: هو اللحم المَمْلُوح المجفَّف فِي الشمس. انظر النهاية (4/ 20). (¬2) أخرجه ابن ماجة في سننه - كتاب الأطعمة - باب القديد - رقم الحديث (3312) - وأخرجه الحاكم فِي المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب دخول الناس في دين اللَّه أفواجًا - رقم الحديث (4423) - وإسناده صحيح.

مِنَّا الغَدَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ فِي الحَرَمِ يَؤُمُّ (¬1) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيُسْلِمَ، وَكَانَ قَدْ وَتَرَهُمْ (¬2) الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا يَطْلُبُونَهُ، فَقَتَلُوهُ، وَبَادَرُوا أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَأْمَنَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَبًا أَشَدَّ مِنْهُ، . . . فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العَصْرَ، قَامَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ (¬3) بِهَا شَجَرًا، لَمْ تَحْلُلْ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلُلْ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ (¬4)، غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، أَلَا فَلْيُبَلَغِّ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ قَاتَلَ بِهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَحْلُلْهَا لَكُمْ. يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيكُمْ عَنِ القَتْلِ، فَقَدْ كَثُرَ أَنْ يَقَعَ، لَئِنْ قَتَلْتُمْ ¬

_ (¬1) يَؤُمُّه: يقصده. انظر لسان العرب (1/ 212). (¬2) يُقَال: وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلًا وأخذت له مالًا. انظر لسان العرب (15/ 206). (¬3) يَعْضِد: أي يقطع. انظر النهاية (3/ 227). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 518): يستفاد منه أن قتل من أذن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتلهم -كابن خطل- وقع في الوقت الذي أُبيح للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه القتال، وهو من طلوع الشمس إلى صلاة العصر.

قَتِيلًا لَأَدِيَنَّهُ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْله بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاؤُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ، وَإِنْ شَاؤُوا فَعَقْلُهُ" (¬1)، ثُمَّ وَدَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الرَّجُلَ الهُذَلِيَّ الذِي قتَلَتْهُ خُزَاعَةُ (¬2). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَتَلَ فِي الحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ (¬3) الجَاهِلِيَّةِ، لَا دِعْوَةَ (¬4) فِي الإِسْلَامِ، ذَهَبَ أَمْرُ الجَاهِلِيَّةِ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ (¬5) الأَثْلَبُ"، قَالُوا: وَمَا الأَثْلَبُ؟ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحَجَرُ، وَفِي الأَصَابِعُ عَشْرٌ عَشْرٌ، وَفِي المَوَاضِحِ (¬6) خَمْسٌ خَمْسٌ، لَا صَلَاةَ بَعْدَ الغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا ¬

_ (¬1) العَقْل: الدية، وأصله: أن القاتل كان إذا قتل قتيلًا جمع الدية من الإبل، فعقلها بفناء المقتول، أي شدَّها فِي عُقُلها ليُسلمها إليهم ويقبضوها منه، فسُميت الدية عَقْلًا بالمصدر. انظر النهاية (3/ 252). (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7242) (16376) (16377) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4901) (4903)، وأصله في صحيح البخاري - كتاب العلم - باب ليبلغ الشاهد الغائب - رقم الحديث (104) - وباب كتابة العلم - رقم الحديث (112) - وكتاب جزاء الصيد - باب لا يعضد شجر الحرم - رقم الحديث (1832) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها - رقم الحديث (1355) (448). (¬3) الذَّحل: فتح الذال المشددة: العداوة. انظر النهاية (2/ 144). (¬4) الدِّعْوَةُ: بكسر الدال وسكون العين هو أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه وعشيرته، وقد كانوا يفعلونه، فنهى عنه، وجعل الولد للفراش. انظر النهاية (2/ 114). (¬5) العاهر: الزاني. انظر النهاية (3/ 294). (¬6) المواضح: جمع موضحة: وهي التي تُبدي وضح العظم: أي بياضه، والتي فُرض فيها خمس من الإبل، هي ما كان منها في الرأس والوجه. انظر النهاية (5/ 170).

تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّة إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا" (¬1). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُلُّ حِلْفٍ كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً، وَلَا حِلْفَ فِي الإِسْلَامِ (¬2)، وَلَا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، يَدُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ (¬3)، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَدِيَةُ الكَافِرِ كنِصْفِ دِيَةِ المُسْلِمِ، أَلَا وَلَا شِغَارَ (¬4) فِي الإِسْلَامِ، وَلَا جَنَبَ (¬5) وَلَا جَلَبَ (¬6)، وتُؤْخَدُ صَدَقَاتُهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6681) - وأبو داود في سننه - كتاب البيوع - باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها - رقم الحديث (2274) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9244) - وأورده الحافظ في الفتح (13/ 523) وحسن إسناده. (¬2) تقدم قبل قليل معنى الحلف في الجاهلية والإسلام. (¬3) تتكافأ دماؤهم: أي تتساوى فِي القصاص والديات. انظر النهاية (4/ 156). (¬4) نِكاح الشغار: هو نكاح معروف فِي الجاهلية، كان الرجل يقول للرجل: شاغرني: أي زوجني أختك أو بنتك، أو من تلي أمرها، حَتَّى أزوجك أختي أو بنتي أو من أبي أمرها، ولا يكون بينهما مهرًا. انظر النهاية (2/ 432). (¬5) الجَنَب: بالتحريك في الزكاة: أن ينزل العامل بأقصى مواضع أصحاب الصدقة، ثم يأمر بالأموال أن تجنب إليه، أي تُحضر، فنهوا عن ذلك. انظر النهاية (1/ 292). (¬6) الجلب في الزكاة: هو أن يقدم المصدق على أهل الزكاة فينزل موضعًا، ثم يُرسل من يجلب إليه الأموال من أماكنها ليأخذ صدقتها، فنُهي عن ذلك، وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم. انظر النهاية (1/ 272).

عَلَى المُسْلِمِينَ أَقْصَاهُمْ" (¬1). فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شَاهٍ، قَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكْتبوا لِأَبِي شَاهٍ" (¬3). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا (¬4) بَعْدَ هَذَا اليَوْمِ، إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" (¬5). قَالَ العُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ الإِعْلَامُ بِأَنَّ قُرَيْشًا يُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ وَلَا يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَمَا ارْتَدَّ غَيْرُهُمْ بَعْدَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِمَّنْ حُورِبَ وَقُتِل صَبْرًا، وَلْيَس المُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ظُلْمًا صَبْرًا، فَقَدْ جَرَى عَلَى قُرَيْشٍ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7012) - وإسناده حسن. (¬2) قال الإمام البخاري في صحيحه (1/ 278): أي أكتب لي هذه الخطبة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب كتابة العلم - رقم الحديث (112) - وأخرجه فِي كتاب الديات - باب من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين - رقم الحديث (6880) - وأحرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم مكة وصيدها وخلاها - رقم الحديث (1355). (¬4) كلُّ من قُتل في غير معركة ولا حرب، ولا خطأ فإنه مقتول صبرًا. انظر النهاية (3/ 8). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب لا يقتل قرشي صَبرًا بعد الفتح - رقم الحديث (1782) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل مكة - رقم الحديث (3718). (¬6) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (12/ 113).

* إقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة وأعماله فيها

* إِقَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ وَأَعْمَالُهُ فِيهَا: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تِسْعَةَ عَشَرَ (¬1) يَقْصُرُ (¬2). وَخِلَالَ هَذِهِ الأَيَّامِ رَسَّخَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ، وَأَخَذَ يُفَقِّهُ النَّاسَ بِأَمْرِ دِينِهِمْ، وبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَمِيمَ بنَ أُسَيْدٍ الخُزَاعِيَّ؛ لِيُجَدِّدَ أَنْصَابَ الحَرَمِ (¬3). كَمَا بَثَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَرَايَاهُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الإِسْلَامِ، وَلِكَسْرِ الأَوْثَانِ التِي ¬

_ (¬1) ولأبي داود أيضًا في سننه - كتاب الصلاة - باب متى يُتِم المسافر؟ - رقم الحديث (1229) عن عمران بن حصين -رضي اللَّه عنه- قال: غَزَوْتُ مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إِلَّا ركعتين. ذكر الحافظ في الفتح (3/ 269): الاختلاف في مقدار المدة التي أقام فيها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مكة يقصر الصلاة، وقال: واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهوية، ويرجحها أيضًا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب تقصير الصلاة - باب ما جاء في التقصير - رقم الحديث (1080) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1958). (¬3) أنْصَابُ الحرم: حدوده وعلاماته. انظر لسان العرب (14/ 155). أخرج تجديد أنصاب الحرم على يد تميم بن أسيد: ابن سعد في طبقاته (4/ 466) - وأورده الحافظ فِي الإصابة (1/ 487) وحسن إسناده.

* السرايا والبعوث التي بعثها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء وجوده بمكة

كَانَتْ حَوْلَ الكَعْبَةِ، فكُسِرَتْ كُلُّهَا، وَنَادَى مُنَادِيهِ بِمَكَّةَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يَدَع فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إِلَّا كسَرَهُ" (¬1). * السَّرَايَا وَالبُعُوث التِي بَعَثَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَثْنَاءَ وُجُودِهِ بِمَكَّةَ: 1 - سَرِيَّةُ سَعْدِ بنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى مَنَاةَ (¬2): أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَعْدَ بنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِيَّ -رضي اللَّه عنه- فِي عِشْرِينَ فَارِسًا إِلَى مَنَاةَ لِيَهْدِمَهَا، وَكَانَتْ بِالمُشَلَّلِ (¬3)، وَذَلِكَ لَسِتِّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ العَامِ الثَّامِنِ لِلْهِجْرَةِ، فَلَمَّا انْتهَى سَعْدٌ إِلَيْهَا، قَالَ لَهُ سَادِنُهَا (¬4): مَا تُرِيدُ؟ . قَالَ: هَدْمَ مَنَاةٍ! قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إِلَيْهَا، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ ثَائِرَةُ الرَّأْسِ، تَدْعُو بِالوَيْلِ، وَتَضْرِبُ صَدْرَهَا، فَقَالَ لَهَا السَّادِنُ: مَنَاةُ دُونَكِ بَعْضُ غَضَبَاتِكِ! فَضَرَبَهَا سَعْدٌ -رضي اللَّه عنه- فَقتَلَهَا، وَأَقْبَلَ إِلَى بَيْتِهَا وَإِلَى الصَّنَمِ مَعَ أَصْحَابِهِ ¬

_ (¬1) أورد هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد (3/ 364). (¬2) مَناة: بفتح الميم والنون، صنم كان لهذيل وخزاعة فِي منطقة قُديد -بالتصغير- بين مكة والمدينة. انظر النهاية (4/ 313). وقد ذكر اللَّه تَعَالَى هذا الصنم فِي القرآن الكريم، فقال سبحانه فِي سورة النجم آية (20): {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 307): المُشلَّل: بضم الميم وفتح الشين واللام الأولى المشددة. (¬4) السَّادن: هو الخادم والمتولي أمرها. انظر النهاية (2/ 320).

2 - سرية خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى العزى

فَهَدَمُوهُ، وَلَمْ يَجِدُوا فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا، وَانْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). 2 - سَرِيَّةُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى العُزَّى (¬2): وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا مِنَ الصَّحَابَةِ لِهَدْمِ العُزَّى، وَذَلِكَ لِخَمْسِ لَيَالي بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ بِنَخْلَةٍ (¬3)، وَهِيَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ، فَأَتَاهَا خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَتْ عَلَى ثَلَاثِ سَمُرَاتٍ (¬4)، فَقَطَعَ السَّمُرَاتِ، وَهَدَمَ البَيْتَ الذِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْجعْ، فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا"، فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا بَصُرَتْ بِهِ السَّدَنَةُ، وَهُمْ حَجَبَتُهَا، أَمْعَنُوا (¬5) فِي الجَبَلِ وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا عُزَّى يَا عُزَّى، فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، تَحْتَفِنُ (¬6) التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا، فَعَمَّمَهَا خَالِدٌ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، وَهُوَ يَقُولُ: ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 323). (¬2) العُزَّى: هو صنم لقريش وجميع بني كنانة، وقد كانت قريش تعظمه، ولهذا لما انتهت غزوة أُحد، صرخ أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه: "قولوا: اللَّه مولانا، ولا مولى لكم". وقد ذكرنا ذلك في غزوة أُحد مفصلًا، فراجعه. وذكر اللَّه تَعَالَى هذا الصنم فِي القرآن الكريم، فقال سبحانه وتَعَالَى فِي سورة النجم آية (19): {أَفَرَءَيتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}. (¬3) نخلة: هو موضع بالحجاز قريب من مكة، فيه نخل وزروع. انظر معجم البلدان (8/ 381). (¬4) السَمُرات: واحدتها سَمُرة بفتح السين وضم الميم: هو نوع من أنواع الشجر. انظر النهاية (2/ 359). (¬5) أمعن فِي الجبل: أي جدّ وابعد فِي صعوده فِي الجبل. انظر النهاية (4/ 293). (¬6) الحَفْنَة: هي ملءُ الكف. انظر النهاية (1/ 393).

3 - سرية عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى سواع

يَا عِزُّ كُفْرَانِكِ لَا سُبْحَانَكِ ... إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ ثُمَّ رَجَعَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تِلْكَ العُزَّى" (¬1). 3 - سَرِيَّةُ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى سُوَاعَ (¬2): ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمْرَو بنَ العَاصِ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى سُوَاعَ لِهَدْمِهِ، وَكَانَ بِرُهَاطٍ (¬3) مِنْ أَرْضِ يَنْبُعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. قَالَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَعِنْدَهُ السَّادِنُ، قَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ أَهْدِمَهُ. قَالَ: لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة النجم - رقم الحديث (11483) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 86) - وابن سعد في طبقاته (2/ 322) - وإسناده حسن. (¬2) سُواع: هو بضم السين، وأصل هذا الصنم كان لقوم نوح عليه السلام، فتوارثته العرب إلى أن وصل إلى هذيل. فقد روى الإمام البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} - رقم الحديث (4920) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: صارت الأوثان التي كانت فِي قوم نوح فِي العرب بعد، أما وَدّ كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع كانت لهذيل. . . (¬3) رُهاط: بضم الراء: موضع بِيَنبع على ثلاث ليال من مكة. انظر معجم البلدان (4/ 450).

4 - سرية خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى بني جذيمة

قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: تُمْنَعُ! قُلْتُ: حَتَّى الآنَ أَنْتَ فِي البَاطِلِ، وَيْحَكَ! وَهَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ عَمْرٌو: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فكَسَرتُهُ، وَأَمَرْتُ أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، ثُمَّ قُلْتُ لِلسَّادِنِ: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ . قَالَ: أَسْلَمْتُ للَّهِ (¬1). 4 - سَرِيَّةُ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي جَذِيْمَةَ (¬2): ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي جَذِيْمَةَ (¬3)، وَكَانُوا بِأَسْفَلِ مَكَّةَ عَلَى لَيْلَةٍ نَاحِيَةَ يَلَمْلَمَ (¬4)، وَذَلِكَ فِي شَوَّالَ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ خِلَالَ إِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ أَيَّامَ الفَتْحِ؛ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ. ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 323). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 381) (12/ 429): جَذيمة: بفتح الجيم وكسر الذال، بوزن عظيمة. (¬3) وقع عند ابن إسحاق في السيرة (4/ 80): أن بني جذيمة أصابوا فِي الجاهلية الفاكه بن المغيرة عم خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه-، وعوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنهما-، وكانا أقبلا تاجرين من اليمن حَتَّى إذا نزلا بهم قتلوهما وأخذوا أموالهما. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 162): يَلملم: بفتح الياء واللام وسكون الميم، هو ميقات أهل اليمن.

فَخَرَجَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رَجُلًا مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَبَنُو سُلَيْمٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِمْ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: "صَبَأْنَا صَبَأْنَا" (¬1)، فَجَعَلَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ السَّرِيَّةِ أَسِيرَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- ذَاتَ يَوْمٍ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَسِيرَهُ، فَأَبَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، حَيْثُ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا حَدَثَ، رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَيْهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" مَرَّتَيْنِ (¬2). وَوَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ: أَنَّ بَنِي سُلَيْمٍ هُمُ الذِينَ قَتَلُوا مَنْ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الأَسْرَى، أَمَّا المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ فَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَأَطْلَقُوا أَسْرَاهُمْ (¬3). وَقَدْ وَدَى رَسُولُ اللَّهِ قتلَى بَنِي جَذِيْمَةَ (¬4). قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: إِنَّمَا أَرَادَ خَالِدُ بنُ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- نُصْرَةَ الإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ فِي أَمْرٍ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الإِسْلَامَ بِقَوْلهِمْ صَبَأْنَا ¬

_ (¬1) يُقال: صَبَأ فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره. انظر النهاية (3/ 3). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة - رقم الحديث (4339) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6382) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3230). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 323). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 79) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 323).

* النزاع بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما

صَبَأْنَا، وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا فَقتَل طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ وَأَسَرَ بَقِيَّتَهُمْ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ الأَسْرَى أَيْضًا، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَلِ اسْتَمَرَّ بِهِ أَمِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبْرَّأَ مِنْهُ فِي صَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَوَدَى مَا كَانَ جَنَاهُ خَطَأً فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بنَ نويْرَةَ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَا تَأَوَّلَ حِينَ ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَاصْطفَى امْرَأَتَهُ أُمَّ تَمِيمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: اعْزِلْهُ فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا (¬1)، فَقَالَ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: لَا أُغْمِدُ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى المُشْرِكِينَ (¬2). وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَالذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّبَرُّؤَ مِنَ الفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ إِثْمَ فَاعِلِهِ، وَلَا إِلْزَامَهُ الغَرَامَةَ، فَإِنَّ إِثْمَ المُخْطِئِ مَرْفُوعٌ، وَإِنْ كَانَ فِعْلَهُ لَيْسَ بِمَحمودٍ (¬3). * النِّزَاعُ بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَوَقَعَ بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوَليدِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، شَرٌّ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ فِي الإِسْلَامِ. فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّمَا ثَأَرْتُ لِأَبِيكَ. ¬

_ (¬1) رهقًا: عجلة. انظر النهاية (2/ 258). (¬2) انظر البداية والنهاية (4/ 710). (¬3) انظر فتح الباري (15/ 90).

فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: كَذَبْتَ، قَدْ قتَلْتَ قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ ثَأَرْتَ بِعَمِّكَ الفَاكِهِ بنِ المُغِيرَةِ. فَسَبَّ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، فشَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا خَالِدُ، لِمَ تُؤْذِي رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لَمْ تُدْرِكْ عَمَلَهُ". فَقَالَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَقَعُونَ فِيَّ، فَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُؤْذُوا خَالِدًا، فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ صَبَّهُ اللَّه عَلَى الكُفَّارِ" (¬1). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَهْلًا يَا خَالِدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا، ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ (¬2) رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ" (¬3). وَفِي رِوَايةٍ أُخْرَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7091) - والإمام أحمد فِي فضائل الصحابة - رقم الحديث (13) - وإسناده صحيح. (¬2) الغَدْوة: هو سير أول النهار. انظر النهاية (3/ 311). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 80). والرَّوْحَة: السير بعد الزوال. انظر النهاية (2/ 248).

* سبب تفضيل نفقة الصحابة رضي الله عنهم

فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ (¬1) أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ" (¬2). * سَبَبُ تَفْضِيلِ نَفَقَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَسَبَبُ تَفْضِيلِ نَفَقَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَضِيقِ الحَالِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ إِنْفَاقَهُمْ كَانَ فِي نُصْرَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَحِمَايَتِهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَهُ، وَكَذَا جِهَادُهُمْ وَسَائِرُ طَاعَتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (¬3)، وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّفَقَةِ وَالتَّوَدُّدِ وَالخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ وَالإِيثَارِ وَالجِهَادِ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَفَضِيلَةُ الصُّحْبَةِ وَلَوْ لَحْظةً لَا يُوَازِيهَا عَمَلٌ وَلَا يَنَالُ دَرَجَتَهَا شَيْءٌ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ (¬4). * شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) المد: بضم الميم: هو ربع الصاع. انظر النهاية (4/ 263). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 387): النصيف: بوزن رغيف وهو النصف. وهذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا" - رقم الحديث (3673) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب تحريم سب الصحابة - رقم الحديث (2541). (¬3) سورة الحديد آية (10). (¬4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (16/ 76).

* بعض ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة

-صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ (¬1) فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (¬2). * بَعْضُ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَكَّةَ: أَفْتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خِلَالَ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ فِي بَعْضِ الأُمُورِ، فَمِنْ ذَلِكَ: 1 - حُكْمُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ابْنِ وَلِيدَةَ (¬3) زَمْعَةَ (¬4): رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ (¬5) بنُ أَبِي وَقَّاص عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ ابنَ وَليدَةَ زَمْعَهَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ، أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابنُ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ ¬

_ (¬1) الأعتاد: هي آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها، والواحد عتاد بفتح العين. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 49). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} رقم الحديث (1468) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب فِي تقديم الزكاة ومنعها - رقم الحديث (983) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8284). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (13/ 520): الوليدة فِي الأصل: المولودة، وتطلق على الأمة، وهذه الوليدة لم أقف على اسمها. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (13/ 520): زمعة: بفتح الزاي وسكون الميم: وهو ابن قيس بن عبد شمس القرشي العامري والد سودة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (13/ 521): عتبة بن أبي وقاص هو الَّذي شج وجه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة أُحد، وجزم ابن التين والدمياطي بأنه مات كافرًا لعنه اللَّه.

2 - حكمه -صلى الله عليه وسلم- في المرأة السارقة

عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَليد أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فتَسَاوَقَا (¬1) إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابنُ أَخِي، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَليدَةَ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى شِبْهِهِ، فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنُ زَمْعَةَ، الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ (¬2) الحَجَرُ"، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "احْتَجِبِي مِنْهُ"، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ (¬3). 2 - حُكْمُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المَرْأَةِ السَّارِقَةِ: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ (¬4) المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ (¬5) التِي سَرَقَتْ (¬6) فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ ¬

_ (¬1) تساوقا: تتابعا. انظر لسان العرب (6/ 435). (¬2) العاهر: الزاني. انظر النهاية (3/ 294). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفرائض - باب الولد للفراش حرة كانت أو أمة - رقم الحديث (6749) - ومسلم في صحيحه - كتاب الرضاع - باب الولد للفراش وتوقي الشبهات - رقم الحديث (1457) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8391). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 40): أهمتهم: أي أجلبت إليهم هَمًّا، وسبب إعظامهم ذلك خشية أن تقطع يدها لعلمهم أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يرخص في الحدود. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 40): اسم المرأة علي الصحيح فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومي، قُتِل أبوها يوم بدر كافرًا، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل، زوج أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬6) جاء في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4304) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره - رقم الحديث (1688) =

-صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَنْ يَجْتَرِئُ (¬1) عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ (¬2) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ، فكلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتَشْفَعُ (¬4) فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ". فَقَالَ أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَطَبَ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهُمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَأَيْمُ اللَّهِ (¬5)، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ (¬6) بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لقطَعَ مُحَمَّد يَدَهَا"، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = (9) - أن ذلك وقع في غزوة الفتح، ولفظه: أن امرأة سرقت فِي عهد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة الفتح. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 46): يجترئ: بسكون الجيم وكسر الراء من الجرأة: بضم الجيم وسكون الراء وفتح الهمزة، والجرأة هي الإقدام. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 46): حب: بكسر الحاء بمعنى محبوب. (¬3) زاد النسائي فِي السنن الكبرى - رقم الحديث (7346): فزبره رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 46): زبره بفتح الزاي: أي أغلظ له فِي النهي حَتَّى نسبه إلى الجهل. (¬4) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4304): "أتكلمني". (¬5) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4304) قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذِي نفس محمد بيده". (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (14/ 48): وإنما خص رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فاطمة ابنته بالذكر، لأنها أعز أهله عنده؛ ولأنه لم يبق من بناته حينئذ غيرها، فأراد المبالغة في إثبات إقامة الحد على كل مكلف وترك المحاباة في ذلك، ولأن اسم السارقة وافق اسمها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فناسب أن يضرب المثل بها.

* فوائد الحديث

بِتِلْكَ المَرْأَةِ فَقُطِعَتْ يَدُهَا، ثُمَّ تَابَتْ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الحَدِيثِ مِنَ الفَوَائِدِ: 1 - مَنع الشَّفَاعَةِ فِي حُدُودِ اللَّهِ. 2 - وَفِيهِ دُخُولُ النِّسَاءَ مَعَ الرِّجَالِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ. 3 - وَفِيهِ قَبُولُ تَوْبَةِ السَّارِقِ. 4 - وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ لِأُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه-. 5 - وَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عِنْدَ أَبِيهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَعْظَمِ المَنَازِلِ، فَإِنَّ فِي القِصَّةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا الغَايَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 6 - وَفِيهِ تَرْكُ المُحَابَاةِ فِي إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ وَلَدًا أَوْ قَرِيبًا، أَوْ كَبِيرَ القَدْرِ، وَالتَّشْدِيدُ فِي ذَلِكَ، وَالإِنْكَارُ عَلَى مَنْ رَخَّصَ فِيهِ، أَوْ تَعَرَّضَ لِلشَّفَاعَةِ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ. 7 - وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ المَثَلِ بِالكَبِيرِ القَدْرِ لِلْمَبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنِ الفِعْلِ وَمَرَاتِبُ ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي - باب (54) - رقم الحديث (4304) - وأخرجه في كتاب الحدود - باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان - رقم الحديث (6788) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحدود - باب قطع السارق الشريف وغيره - رقم الحديث (1688) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25297).

3 - تحريمه -صلى الله عليه وسلم- بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام

8 - وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ الإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ مُقَدَّرٍ يُفِيدُ القَطْعَ بِأَمْرٍ مُحَقَّقٍ. 9 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ لَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ أَوْ لَا يَفْعَلُهُ لَا يَحْنَثُ. 10 - وَفِيهِ الِاعْتِبَارُ بِأَحْوَالِ مَنْ مَضَى مِنَ الأُمَمِ، وَلَاسِيَّمَا مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الشَّرْعِ (¬1). 3 - تَحْرِيمُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِمَكَّةَ عَنْ بَيْعِ الخَمْرِ، وَأَمَرَ بِإِهْرَاقِهِ وَكَسْرِ جِرَارِهِ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الأَصْنَامِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ، وَهُوَ بِمَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، ويَسْتَصْبِحُ (¬2) بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، هُوَ حَرَامٌ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ (¬3)، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (14/ 49). (¬2) يستصبح بها: أي يشعلون بها سرجهم. انظر النهاية (3/ 7). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 165): جملوه: بفتح الجيم والميم أي أذابوها. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب البيوع - باب بيع الميتة والأصنام - رقم الحديث =

4 - تحريمه -صلى الله عليه وسلم- نكاح المتعة تحريما نهائيا

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: قَالَ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: العِلَّةُ فِي مَنع بَيْعِ المَيْتَةِ وَالخَمْرِ وَالخِنْزِيرِ النَّجَاسَةُ، فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى كُلِّ نَجَاسَةٍ، وَالعِلَّةُ فِي مَنع بَيْعِ الأَصْنَامِ عَدَمُ المَنْفَعَةِ المُبَاحَةِ (¬1). 4 - تَحْرِيمُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِكَاحِ المُتْعَةِ تَحْرِيمًا نِهَائِيًّا: وَفِي فَتْحِ مَكَّةَ أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِكَاحَ المُتْعَةِ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَرَّمَهَا، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِم فِي صَحِيحِهِ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ الفَتْحِ" (¬2). وَرَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الرَّبِيعِ بنِ سَبْرَةَ الجُهَنِيِّ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاع مِنَ النِّسَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ" (¬3). قَالَ المَازَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ثَبَتَ أَنَّ نِكَاحَ المُتْعَةِ كَانَ جَائِزًا فِي أَوَّلِ ¬

_ = (2236) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساقاة - باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير - رقم الحديث (1581). (¬1) انظر فتح الباري (5/ 178). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب نكاح المتعة - رقم الحديث (1406) (26) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15337). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب النكاح - باب نكاح المتعة - رقم الحديث (1406) (21).

الإِسْلَامِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ نُسِخَ، وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ (¬1). وَقَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ المُتْعَةِ، وَهُوَ كَالإِجْمَاع بَيْنَ المُسْلِمِينَ (¬2). وَأَخْرَجَ الحَاكِمُ فِي المُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَقَرَأَتْ هَذِهِ الآيَةَ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (¬3). فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ مَا زَوَّجَهُ اللَّهُ، أَوْ مَلَّكَهُ فَقَدْ عَدَا (¬4). وَرَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا وَليَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةً، ثُمَّ حَرَّمَهَا، وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَتَمَتَّعُ وَهُوَ مُحْصَنٌ إِلَّا رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةِ، إِلَّا أَنْ يَأْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَلَّهَا بَعْدَ إِذْ حَرَّمَهَا (¬5). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم شرح النووي (9/ 153). (¬2) انظر شرح السنة للإمام البغوي (9/ 100). (¬3) سورة المؤمنون آية (5 - 6). (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تحريم المتعة - رقم الحديث (3536). (¬5) أخرج ذلك ابن ماجة في سننه - كتاب النكاح - باب النهي عن نكاح المتعة - رقم =

* قولة جميلة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله

* قَوْلَةٌ جَمِيلَةٌ لِلشَّيْخِ مُحَمَّد الغَزَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي يَوْمِ الفَتْحِ قَدْ تَرْجعُ بِنَا الذِّكرَيَاتُ إِلَى رِجَالٍ لَمْ يَشْهَدُوا هَذَا النَّصْرَ المُبِينَ، وَلَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ بِلَالٍ -رضي اللَّه عنه- يَرِنُّ فَوْقَ ظَهْرِ الكَعْبَةِ بِشِعَارِ التَّوْحِيدِ، وَلَمْ يَرَوُا الأَصْنَامَ مَكْبُوبَةً عَلَى وُجُوهِهَا مُسَوَّاةً بِالرُّغَامِ (¬1)، وَلَمْ يَرَوْا عُبَّادَهَا الأَقْدَمِينَ وَقَدْ أَلْقَوُا السَّلَمَ وَاتَّجَهُوا إِلَى الإِسْلَامِ. . . إِنَّهُمْ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا إِبَّانَ المَعْرَكَةِ الطَّوِيلَةِ التِي نَشِبَتْ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالكُفْرِ، وَلَكِنَّ النَّصْرَ الذِي يَجْنِي الأَحْيَاءُ ثِمَارَهُ اليَوْمَ لَهُمْ فِيهِ نَصِيبٌ كَبِيرٌ، وَجَزَاؤُهُمْ عَلَيْهِ مَكْفُولٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (¬2). * أَثَرُ فَتْحِ مَكَّةَ وَدُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفوَاجًا: كَانَ لِفَتْحِ مَكَّةَ أَثَر عَمِيقٌ فِي نُفُوسِ العَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَرَبَّصُونَ (¬3) نَتِيجَةَ الصِّرَاعِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَقُرَيْشٍ، فَلَمَّا انتصَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قُرَيْشٍ دَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بنِ سَلَمَةَ الجَرْمِيِّ (¬4) -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ ¬

_ = الحديث (1963) - وأخرجه بنحوه: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب في المتعة في الحج والعمرة - رقم الحديث (1217). (¬1) الرغام: التراب. انظر النهاية (2/ 217). (¬2) انظر فقه السيرة ص 385 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬3) التربُّص: المكث والانتظار. انظر النهاية (2/ 169). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 338): الجرمي: بفتح الجيم وسكون الراء.

قَالَ: كَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ (¬1) بِإِسْلَامِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ (¬2). وَقَالَ ابنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا كَانَتِ العَرَبُ تَرَبَّصُ بِالإِسْلَامِ أَمْرَ هَذَا الحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَأَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِمَامَ النَّاسِ وَهَادِيهِمْ، وَأَهْلَ البَيْتِ الحَرَامِ، وَصَرِيحَ (¬3) وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَادَةَ العَرَبِ لَا يُنْكَرُونَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ هِيَ التِي نَصَبَتْ (¬4) لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَخِلَافِهِ، فَلَمَّا افْتُتِحَتْ مَكَّةُ، وَدَانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ، وَدَوَّخَهَا (¬5) الإِسْلَامُ، وَعَرَفَتِ العَرَبُ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا عَدَاوَتِهِ، فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَوَاجًا} (¬6)، يَضْرِبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (¬7). وَسَنُفَصِّلُ أَمْرَ دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا عِنْدَ الحَدِيثِ عَنْ عَامِ الوُفُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 338): تلوّم: بفتح التاء واللام وتشديد الواو: أي تنتظر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (54) - رقم الحديث (4302). (¬3) الصَّرِيح: الخالص من كل شيء. انظر النهاية (3/ 19). (¬4) يُقال: ناصبه الشر والحرب: أظهره له. انظر لسان العرب (14/ 156). (¬5) دَوَّخها: أذلها. انظر النهاية (2/ 129). (¬6) الفوج: الجماعة من الناس. انظر النهاية (3/ 429). (¬7) انظر سيرة ابن هشام (4/ 214).

من بداية غزوة حنين الى نهاية غزوة الطائف

مِنْ بِدَايَةِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ الَى نِهَايَةِ غَزْوَةِ الطَّائِفِ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ (¬1) وَيُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ أَوْطَاسٍ (¬2)، وَهُوَ المَوْصعُ الذِي كَانَتْ بِهِ الوَقْعَةُ فِي آخِرِ الأَمْرِ، وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا: غَزْوَةُ هَوَازِنَ (¬3). * سَبَبُهَا: وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الغَزْوَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، وخَضَعَتْ لَهُ قُرَيْشٌ، خَافَ أَشْرَافُ هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ أَنْ يَغْزُوَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَحَشَدُوا وَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِهِ (¬4). * جُمُوعُ هَوَازِنَ وَعَدَدُهُمْ: وَاجْتَمَعَتْ إِلَى هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ القَبَائِلِ وَهُمْ: نَصْرٌ وَسَعْدُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 343): حنين: بالتصغير، وادٍ إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلًا من جهة عرفات. (¬2) أوطاس: وادٍ فِي ديار هوازن، وهناك عسكروا هم وثقيف، ثم التقوا بحنين. انظر فتح الباري (8/ 362). (¬3) هَوازن: بفتح الهاء، وكسر الزاي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون، سُمّيت الغزوة بها؛ لأنهم هم الذين أتوا لقتال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجمعوا لحربه. انظر شرح المواهب (3/ 497). (¬4) انظر فتح الباري (8/ 343) - سيرة ابن هشام (4/ 87) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 324).

* نصيحة دريد بن الصمة وتنظيم مالك جيشه

بنُ بَكْرٍ -وَهُمُ الذِينَ اسْتُرْضِعَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَنَاس مِنْ هِلَالٍ، وَفِي بَنِي جُشْمٍ رَجُل يُقَالُ لَهُ "دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ" (¬1) شَيْخٌ كَبِير قَدْ عَمِيَ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا التَّيَمُّنُ (¬2) بِرَأْيِهِ، ومَعْرِفَتُهُ بِالحَرْبِ، وَكَانَ شُجَاعًا مُجَرِّبًا، وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، فِي الأَحْلَافِ: قَارِبُ بنُ الأَسْوَدِ، وَفِي بَنِي مَالِكٍ: ذُو الخِمَارِ سُبَيْعُ بنُ الحَارِثِ، وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بنُ الحَارِثِ، وَقَدْ بَلَغَ جَيْشُ الكُفَّارِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَكَانَ جِمَاعُ أَمْرِ النَّاسِ إِلَى مَالِكِ بنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ (¬3)، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. فَلَمَّا أَجْمَعَ مَالِكُ بنُ عَوْفٍ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ النَّاسَ أَنْ يَسُوقُوا مَعَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَنِسَاءَهُمْ، وَأَبْنَاءَهُمْ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلُوا بِأَوْطَاسَ (¬4). * نَصِيحَةُ دُرَيْدِ بنِ الصِّمَّةِ وَتَنْظِيمُ مَالِكٍ جَيْشَهُ: وَلَمَّا نَزَلَ مَالِكُ بنُ عَوْفٍ بِأَوْطَاسَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَفِيهِمْ: دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّةِ، فَقَالَ دُرَيْدٌ لِلنَّاسِ: بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ . قَالُوا: بِأَوْطَاسَ، فَقَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الخَيلِ، لَا حَزْنَ (¬5) ضِرْسٍ (¬6)، وَلَا ¬

_ (¬1) دُريد: بضم الدال، والصِمة: بكسر الصاد وتشديد الميم. انظر فَتح الباري (8/ 362). (¬2) التيمن: بتشديد الميم: أي الابتداء فِي أخذ رأيه. انظر لسان العرب (15/ 457). (¬3) أسلم مالك بن عوف -رضي اللَّه عنه- بعد ذلك، وكان من المؤلفة قلوبهم، وصحب رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم شهد القادسية، وفتح دمشق. انظر الإصابة (5/ 550). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 87) - زاد المعاد (3/ 408). (¬5) الحَزْن: ما غلظ من الأرض فِي ارتفاع. انظر لسان العرب (3/ 159). (¬6) الضِّرس: بكسر الضاد وسكون الراء ما خشن من الآكام، والآكام: هو الموضع الذي أشد ارتفاعًا مما حوله، وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجرًا. انظر لسان العرب (1/ 173).

سَهْلَ (¬1) دَهْسٍ (¬2)، مَالِي أَسْمَعُ رُغَاءَ (¬3) البَعِيرِ، وَنُهَاقَ الحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُغَارَ (¬4) الشَّاءِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَقَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ فَدُعِيَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا مَالِكُ! إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الأَيَّامِ، مَالِي أَسْمَعُ رُغَاءَ البَعِيرِ، وَنُهَاقَ الحَمِيرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُغَارَ الشَّاءَ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. قَالَ: ولمَ ذَاكَ؟ قَالَ مَالِكٌ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، وَهَلْ يَرُدُّ المُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلْتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ؟ -وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ هَوَازِنَ- قَالُوا: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. ¬

_ (¬1) السهل من الأرض: نقيض الحَزْن. انظر لسان العرب (6/ 412). (¬2) الدَهْس: الأرض السهلة يثقل فيها المشي. انظر لسان العرب (4/ 427). (¬3) الرُغاء: بضم الراء: صوت الإبل. انظر لسان العرب (5/ 261). (¬4) قال الحافظ في الفتح (4/ 13): يُعار: بضم الياء، وهو صوت المَعْز.

فَقَالَ دُرَيْدٌ: غَابَ الحِدُّ وَالجِدُّ (¬1)، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَالِكُ! إِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ البَيْضَةِ (¬2) بَيْضَةِ هَوَازِنَ إِلَى نُحُورِ الخَيْلِ شَيْئًا، ارْفَعْهُمْ إِلَى مُتَمَنَّعِ بِلَادِهِمْ، وَعُلْيَاءِ قَوْمِهِمْ، ثُمَّ أَلْقِ الصُّبَاةَ (¬3) عَلَى مُتُونِ الخَيْلِ، فإِنْ كَانَتْ لكَ لحِقَ بِكَ مِنْ وَرَائِكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَليْكَ أَلْفَاكَ (¬4) ذَلِكَ، وَقَدْ أَحْرَزْتَ (¬5) أَهْلَكَ وَمَالَكَ. فَقَالَ مَالِكُ بنُ عَوْفٍ: لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، إِنَّكَ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقْلُكَ، وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَوْ لَأَتَّكِئَنَّ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي. قَالُوا: أَطَعْنَاكَ، فَقَالَ دُرَيْدٌ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ، وَلَمْ يَفُتْنِي. ثُمَّ أَمَرَ مَالِكُ بنُ عَوْفٍ بِالخَيْلِ فَصُفَّتْ، ثُمَّ صُفَّتِ المُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّتِ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّتِ النَّعَمُ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شُدُّوا عَلَيْهِمْ شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ (¬6). ¬

_ (¬1) الحِد: بكسر الحاء: الصلابة، والجد: بكسر الجيم: ضد الهزل. انظر النهاية (1/ 340). (¬2) البيضة: جماعتهم وأصلهم. انظر النهاية (1/ 168). (¬3) يُقال: صبأ فلان: إذا خرج من دين إلى دين غيره. انظر النهاية (3/ 3). ويقصد بالصباة المسلمون. (¬4) ألفاك: ألزمك. انظر لسان العرب (1/ 180). (¬5) يقال: أحرزت الشيء: إذا حفظته وضممته إليك وصنته عن الأخذ. انظر لسان العرب (3/ 121). (¬6) أخرج قصة قدوم هوازن بالصبيان والنساء والإبل والنعم: =

* استكشاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر هوازن

* اسْتِكْشَافُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَبَرَ هَوَازِنَ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاجْتِمَاعِ هَوَازِنَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ، فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، ثُمَّ يَأتِيهِ بِخَبَرِهِمْ، فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ -رضي اللَّه عنه-، فَدَخَلَ فِي هَوَازِنَ، فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرَهُ الخَبَرَ (¬1). * اسْتِعَارَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السِّلَاحَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: وَبَعْدَ أَنْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المَعْلُومَاتِ العَسْكَرِيَّةَ المَطْلُوبَةَ عَنْ جَيْشِ هَوَازِنَ، اسْتَعَدَّ لِمُوَاجَهَتِهِمْ، فَاسْتَعَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ -وَكَانَ مَا زَالَ مُشْرِكًا- أَدْرَاعًا وَسِلَاحًا، فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ . قَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ"، فَأَعَارَ صَفْوَانُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِائَةَ دِرْعٍ (¬2) ¬

_ = الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (1059) (136) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12977) - والطحاوي فِي شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4786) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2192) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (4/ 88) بدون سند. (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 89). (¬2) أخرج استعارة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السلاح من صفوان بن أمية: =

* خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين

* خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى حُنَيْنٍ: وَبَعْدَ أَنْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا (¬1)، خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِسِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ شَوَّالَ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ، وَاسْتَعَمَلَ عَتَّابَ بنَ أَسِيدٍ -رضي اللَّه عنه- أَمِيرًا عَلَى مَكَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ فِي الإِسْلَامِ عَلَى مَكَّةَ (¬2). وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنَ المُسْلِمِينَ: عَشَرَةُ آلَافٍ الذِينَ جَاؤُوا مَعَهُ مِنَ المَدِينَةِ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَأَلْفانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمُ الطُّلَقَاءُ (¬3)، وَأَكْثَرُهُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالإِسْلَامِ، لَمْ يَتَمَكَّنِ الإِسْلَامُ مِنْ قُلُوبِهِمْ (¬4)، وَخَرَجَ معَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاسٌ كَثِير مِنَ المُشْرِكِينَ مِثْلَ: صَفْوانَ بنِ أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو، وَغَيْرِهُمْ. ¬

_ = الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15302) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4454) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 121). وإسنادها حسن. (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مقام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة زمن الفتح - رقم الحديث (4298) (4299). (¬2) أخرج استعمال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَتَّاب بن أَسِيد علي مكة: الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1453) - وأورده الحافظ في الإصابة (4/ 356) وحسن إسناده. (¬3) قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى في شرح مسلم (12/ 158): الطُّلقاء: بضم الطاء وفتح اللام، وهم الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح، سموا بذلك؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنَّ عليهم وأطلقهم، وكان في إسلامهم ضعف. (¬4) سيأتي بعد قليل عند الحديث على شجرة ذات أنواط ما يدل على أن الإسلام لم يتمكن من قلوبهم.

* قصة نبي من الأنبياء

وَيُعْتَبَرُ هَذَا الجَيْشُ أَكْبَرَ جَيْشٍ إِسْلَامِيٍّ يَخْرُجُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ذَلِكَ الحِينِ، وَلهَذَا سَادَ شُعُورٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ (¬1) أَنَّهُمْ لَنْ يُغْلَبُوا (¬2) مِنْ قِلَّةٍ (¬3). * قِصَّةُ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ: فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَا وَقَعَ فِي قُلُوبِ بَعْضِ المُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الشُّعُورِ، وَهُوَ الِافْتِخَارُ بِكَثْرَتِهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا، قَالَ لَهُمْ: "إِنَّ نَبِيًّا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْجَبَتْهُ أُمَّتُهُ، فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ (¬4) هَؤُلَاءِ شَيْءٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ، أَوِ الجُوعَ، أَوِ المَوْتَ". ¬

_ (¬1) قِيل: إن القائل: أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وقيل: العباس -رضي اللَّه عنه-، وقيل: سلمة بن وَقْش -رضي اللَّه عنه-، وكلها روايات ضعيفة. (¬2) أخرج الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2682) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (572) بسند حسن عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربع مئة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يُغلب اثنا عشر ألفًا من قلة". يعني: لا يهزم جش قِوامه اثنا عشر ألفًا، بسبب قلة عددهم إذا صبروا وصدقوا. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تفسيره (4/ 125): ويوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئًا، فولوا مدبرين إِلا القليل منهم مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أنزل اللَّه نصره وتأييده على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده سبحانه وتَعَالَى وحده وبإمداده، وإن قل الجمع، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. (¬4) رام الشيء: طلبه. انظر لسان العرب (5/ 377).

* شجرة ذات أنواط

قَالَ: فَقَالُوا: أَمَّا القَتْلُ أَوِ الجُوعُ، فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَكِنِ المَوْتُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَاتَ فِي ثَلَاثٍ سَبْعُونَ ألفًا" (¬1). * شَجَرَةُ ذَاتُ أَنْوَاطٍ (¬2): وَفِي الطَّرِيقِ إِلَى حُنَيْنٍ رَأَوْا شَجَرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً يُقَالُ لَهَا: "ذَاتُ أَنْوَاطٍ"، كَانَتِ العَرَبُ تُعَلِّقُ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الطُّلَقَاءَ مِمَّنْ هُمْ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالجَاهِلِيَّةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ أَكبَرُ، قُلْتُمْ وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إِنَّهَا السُّنَنُ (¬3)، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً" (¬4). وَفِي هَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءَ الطُّلقَاءِ لَمْ تَتَشَرَّبِ الإِسْلَامَ بَعْدُ؛ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِمْ بِالجَاهِلِيَّةِ. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18933) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة البروج - رقم الحديث (3633) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) ذات أنواط: هو اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم، أي يعلِّقونه بها، ويعكفون حولها. انظر النهاية (5/ 113). (¬3) السُّنة: الطريقة: أي ستتبعون طريقتهم. انظر النهاية (2/ 368). (¬4) أخرج هذا الحديث أحمد في مسنده - رقم الحديث (21897) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم من الأمم - رقم الحديث (6702) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 92) - وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

* فضيلة لأنس بن أبي مرثد -رضي الله عنه-

أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مسِيرَهُ إِلَى حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبَ (¬1) السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيَّةً، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ (¬2) بِظُعْنِهِمْ (¬3) وَنَعْمِهِمْ (¬4) وَنِسَائِهِمْ اجْتَمَعُوا فِي حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "تِلْكَ غَنِيمَةُ المُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ" (¬5). * فَضِيلَةٌ لِأنَسَ بنِ أَبِي مِرْثَدٍ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلةَ؟ ". فَقَالَ أَنَسُ بنُ أَبِي مِرْثَدٍ الغَنَوِيُّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَارْكَبْ"، فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ (¬6) حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ، وَلَا تَنْزِلْ مِنْ فَرَسكَ اللَّيْلةَ". ¬

_ (¬1) أطنب فِي السير: إذا أبعد. انظر لسان العرب (8/ 206). (¬2) يُقال: جاء القوم علي بكرة أبيهم: إذا جاؤوا بأسرهم ولم يتخلف منهم أحد. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 383). (¬3) الظعن: بضم الظاء: النساء، واحدتها: ظعينة. انظر النهاية (3/ 143). (¬4) النَّعم: بفتح النون: الإبل والغنم. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 384). (¬5) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب فِي فضل الحرس في سبيل اللَّه تَعَالَى - رقم الحديث (2501) - والحاكم في المستدرك - كتاب الإمامة وصلاة الجماعة - باب الالتفات في الصلاة- رقم الحديث (900) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6157) - وإسناده حسن، كما قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 343) - وقال في الإصابة (1/ 280): إسناده على شرط الصحيح. (¬6) الشِّعب: بكسر الشين: ما انفرج بين جبلين. انظر لسان العرب (7/ 128).

فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مُصَلَّاهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَسْنَاهُ، فَثُوِّبَ (¬1) بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يُصَلِّي يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ"، فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ نزلْتَ اللَّيْلةَ؟ "، قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا، أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَوْجَبْتَ (¬2)، فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا" (¬3). ثُمَّ أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بجَيْشِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى حُنَيْنٍ مَسَاءَ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ. ¬

_ (¬1) التثويب: إقامة الصلاة. انظر النهاية (1/ 220). (¬2) يُقال: أوجب فلان: إذا فعل فعلًا وجبت له به الجنة، أو النار، والمراد به هاهنا: الجنة. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 384). (¬3) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في فضل الحرس فِي سبيل اللَّه تَعَالَى - رقم الحديث (2501) - والحاكم في المستدرك - كتاب الإمامة وصلاة الجماعة - باب الالتفات في الصلاة - رقم الحديث (900) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6157) - وإسناده حسن، كما قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 343) - وقال في الإصابة (1/ 280): إسناده على شرط الصحيح.

* تعبئة مالك بن عوف جيشه

* تَعْبِئَةُ مَالِكِ بنِ عَوْفٍ جَيْشَهُ: وَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ عَمِدَ مَالِكُ بنُ عَوْفٍ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَعَبَّأَهُمْ فِي وَادِي حُنَيْنٍ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ المُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، وَفَرَّقَ النَّاسَ فِيهِ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَرْشُقُوا المُسْلِمِينَ بِالنَّبْلِ أَوَّلَ مَا يَطْلُعُونَ، ثُمَّ يَحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. * تَعْبِئَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ: وَفِي السَّحَرِ عَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَيْشَهُ، وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ، وَرَتَّبَ جُنْدَهُ فِي هَيْئَةِ صُفُوفٍ مُنْتَظِمَةٍ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَغْلَتَهُ البَيْضَاءَ -التِي أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بنُ نُفَاثَةَ الجُذَامِيُّ-، وَلَبِسَ دِرْعَيْنِ، وَالمِغْفَرَ وَالبَيْضَةَ، وَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ، وَطَافَ عَلَيْهِمْ، فَأَمَرَهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَى القِتَالِ، وَبَشَّرَهُمْ بِالفَتْحِ إِنْ صَبَرُوا وَصَدَقُوا. وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى بَنِي سُلَيْمٍ خَالِدَ بنَ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمْ يَزَلْ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ حَتَّى وَرَدَ الجِعْرَانَةَ (¬1). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: وَعَلَى مَجْنَبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- (¬2) * هَزِيمَةُ المُسْلِمِينَ وَفِرَارُهُمْ: بَدَأَ المُسْلِمُونَ يَنْحَدِرُونَ فِي وَادِي حُنَيْنٍ -وَكَانَ مُنْحَدَرًا شَدِيدًا- وَذَلِكَ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 325). (¬2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (136).

فِي عِمَايَةِ الصُّبْحِ (¬1)، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ بِوُجُودِ كُمَنَاءَ العَدُوِّ فِي مَضَايِقِ هَذَا الوَادِي وَأَحْنَائِهِ (¬2) وشِعَابِهِ، فَمَا رَاعَهُمْ (¬3) وَهُمْ يَنْحَطُّونَ إِلَّا الكتَائِبُ قَدْ شَدَّتْ عَلَيْهِمْ شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَبَدَأَ الضَّرْبُ بِخَالِدِ بنِ الوَليدِ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى سَقَطَ، وَانْكَشَفَتْ خَيْلُ بَنِي سُلَيْمٍ مُوَلِّيَةً، وَتَبِعَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَهُمُ الطُّلَقَاءُ، وَبَدَأَ الفِرَارُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ (¬4). قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الأَسْرَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه-: فَلَقُوا قَوْمًا رُمَاة لَا يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ، فَرَشَقُوهُمْ (¬6) رَشْقًا مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ (¬7). فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ هَزِيمَةَ المُسْلِمِينَ -وَكَانَ قَدِ اعْتَزَلَ هُوَ وَصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، وَرِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَرَاءَ تَلٍّ يَنْظُرُونَ ¬

_ (¬1) عماية الصبح: بقية ظلمة الليل. انظر النهاية (3/ 276). (¬2) أحنَاء الوادي: منعطفه. انظر النهاية (1/ 437). (¬3) فما راعهم: أي فما فاجأهم. (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15027) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد- رقم الحديث (4774) - وإسناده حسن. (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15027) - وإسناده حسن. (¬6) رشَقَهُ رشقًا: إذا رماه بالسهام. انظر النهاية (2/ 206). (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في غزوة حنين - رقم الحديث (1776) (78).

* ثبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

لِمَنْ يَكُونُ النَّصْرُ- فَقَالَ وَكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بالإِسْلَامِ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ البَحْرِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بنُ الحَنْبَلِ (¬1) وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ صَفْوَانَ بنَ أُمَيَّةَ: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ اليَوْمَ، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاَك (¬2)، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَرُبَّنِي (¬3) رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُل مِنْ هَوَازِنَ (¬4). * ثَبَاتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَاتَ اليَمِينِ، وَثَبَتَ مَعَهُ نَفَرٌ قَلِيلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ (¬5)، وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فِيهِمْ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ، ¬

_ (¬1) كان كَلَدَة بن الحَنْبل -رضي اللَّه عنه- فِي ذلك الوقت مُشركًا، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15425) - بسندٍ صحيح عن كَلَدَةَ بن الحنبل -رضي اللَّه عنه- قال: أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبَإٍ وجِدَايةٍ وضغابيس، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأعلى الوادي، قال: فدخلتُ عليه، ولم أُسَلِّم ولم أستأذن، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارجع فقل: السلام عليكم، آدخل؟ ". اللبأ: أول ما يحلب عند الولادة. انظر النهاية (4/ 192). الجَذِاية: بفتح الجيم وكسرها ما بلغ ستة أشهر أو سبعة أشهر من أولاد الظباء ذكرًا كان أو أَنثى. انظر النهاية (1/ 241). الضغابيس: هي صغار القِثَّاء، واحدتها ضُغبوس. انظر النهاية (3/ 82). (¬2) فَضَّ اللَّه فاكَ: أي كسر أسنانك وأسقطها. انظر النهاية (3/ 406). (¬3) يَرُبَّنِي: أي يكون عليّ أميرًا وسيدًا. انظر النهاية (2/ 166). وهذه رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار، وفي رواية ابن حبان في صحيحه قال: لأن يليني. (¬4) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد - رقم الحديث (4774) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار- (41216) - وإسناده حسن. (¬5) روى الترمذي في جامعه بسند حسن - رقم الحديث (1784) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الفئتين لمولِّيَتَيْن، وما مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مائة رجل. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 346): هذا أكثر ما وقفتُ عليه من عدد من ثبت يوم حنين، =

وَالعَبَّاسُ، وَابْنُهُ الفَضْلُ، وَأَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ، وَرَبِيعَةُ بنُ الحَارِثِ، وَأَيْمَنُ بنُ عُبَيْدٍ، وَهُوَ ابنُ أُمِّ أَيْمَنَ حَاضِنَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُنَادِي: "إِلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ! هَلُمُّوا إِلَيَّ! أنَا رَسُولُ اللَّهِ، أنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ"، لَكِنْ لَمْ يَلْتَفِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ (¬1). ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْكُضُ بِبَغْلَتِهِ (¬2) قِبَلَ المُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَّا النِّبِيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ (¬3) ¬

_ = وروى أحمد في مسنده بسند ضعيف - رقم الحديث (4336) عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم حنين فولى الناس، وثبت معه ثمانون رجلًا من المهاجرين والأنصار. وهذا لا يُخالف حديث ابن عمر، فإنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبث أنهم كانوا ثمانين، وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم أنَّه ثبت معه اثنا عشر رجلًا فكأنه أخذه مما ذكر ابن إسحاق في السيرة (4/ 93): أنهم كانوا عشرة، ووقع فِي شعر العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- أن الذين ثبتوا كانو عشرة فقط، ولعل هذا هو المثبت، ومن زاد علي ذلك يكون عجل فِي الرجوع فَعُدّ فيمن لم ينهزم. (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15027) (22467) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 94) - وإسناده حسن. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 168): ومما يُنبَه عليه هنا أن البغلة البيضاء التي كان عليها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حُنَين غير البغلة البيضاء التي أهداها له ملك أَيْلة؛ لأن ذلك كان فِي تَبُوك، وغزوة حنين كانت قبلها، وقد وقع في صحيح مسلم - رقم الحديث (1775) أن البغلة التي كانت تحته -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حنين أهداها له فروة بن نُفَاثة الجُذامي، وهذا هو الصحيح. ووقع عند ابن سعد في طبقاته (2/ 325): أن البغلة التي ركبها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم حنين هي "دُلْدُلْ" وهي التي أهداها له المُقَوقس، وهذا فيه نظر، والصحيح ما في صحيح مسلم. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 348): وأما نسبتُه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عبد المطلب دون أبيه عبد اللَّه =

* نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بغلته

وَالعَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-، آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبُو سُفْيَانَ بنُ الحَارِثِ آخِذٌ بِرِكَابِهَا يَكُفَّانِهَا عَنِ الإِسْرَاعِ نَحْوَ العَدُوِّ، وَهُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَأْلُو يُسْرعُ نَحْوَ المُشْرِكِينَ (¬1). وَهَذا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّجَاعَةِ التَّامَّةِ، إِنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا اليَوْمِ فِي حَوْمَةِ الوَغَى (¬2)، وَقَدِ انْكَشَفَ عَنْهُ جَيْشُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى بَغْلَتِهِ، وَلَيْسَتْ سَرِيعَةَ الجَرْي، وَلَا تَصْلُحُ لِكَرٍّ وَلَا لِفَرِّ وَلَا لِهَرَبٍ، وَهُوَ مَعَ هَذَا أَيْضًا يُرْكِضُهَا إِلَى وُجُوهِهِمْ، وَيُنَوِّهُ بِاسْمِهِ لِيَعْرِفَهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَمَا هَذَا كُلّهُ إِلَّا ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهٍ، وَعِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ سَيَنْصُرُهُ وَيُتِمُّ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَيُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى سَائِرِ الأَدْيَانِ (¬3). * نُزُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ بَغْلَتِهِ: ثُمَّ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ بَغْلَتِهِ، فَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ ودَعَاهُ قَائِلًا: "اللَّهُمَّ! نَزِّلْ ¬

_ = فكأنها لشهرة عبد المطلب بين الناس، لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر، بخلاف عبد اللَّه فإنه مات شابًا، ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب، كما قال ضِمَام بن ثعلبة: أيكم ابن عبد المطلب؟ . (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} - رقم الحديث (4315) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة حنين - رقم الحديث (1775) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15027) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن منافب الصحابة - باب ذكر العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7049). (¬2) حَوْمَة القتال: معظمه وأشد موضع فيه. انظر لسان العرب (3/ 407). والوَغَى: الحرب نفسها. انظر لسان العرب (15/ 353). (¬3) انظر تفسير ابن كثير (4/ 128).

نَصرَكَ (¬1) اللَّهُمَّ إِنْ تَشْأْ أَنْ لَا تُعبَدَ بَعْدَ اليَوْمِ" (¬2). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ (¬3)، وبِكَ أُصَاوِلُ (¬4) وبِكَ أُقَاتِلُ" (¬5). وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَاتِلُ، وَالصَّحَابَةُ الذِينَ ثبتُوا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ، وَيَتَّقُونَ بِهِ لِشَجَاعَتِهِ وثَبَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَعَادَتِهِم فِي مِثلِ هَذِهِ المَوَاقِفِ العَصِيبَةِ. قَالَ البَرَاءُ بنُ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا، وَاللَّهِ إِذَا اخمَرَّ البَأْسُ نَتَّقِي بِهِ، وَإِنَّ الشُّجَاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعنِي النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا إِذَا احمَرَّ البَأْسُ، وَلَقِيَ القَوْمُ القَوْمَ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدنى إِلَى القَوْمِ مِنْهُ (¬7). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة حنين - رقم الحديث (1776) (79). (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12220) وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) أحاول: هو من المُفَاعلة، وقيل المحاولة: طلب الشيء بحيلة. انظر النهاية (1/ 444). (¬4) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده وفي رواية ابن حبان في صحيحه: "أصول". أصَاوِل: أي أسطو وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. انظر النهاية (3/ 57). (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18933) وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد - رقم الحديث (4758) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬6) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في غزوة حنين - رقم الحديث (1776) (79). (¬7) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1347) - والحاكم في المستدرك - كتاب قسم الفئ - باب الرسل لا تقتل - رقم الحديث (2680) - وإسناده صحيح.

* شيبة بن عثمان يريد قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* شَيْبَةُ بنُ عُثْمَانَ يُرِيدُ قَتْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَلَمَّا رَأَى شَيْبَةُ بنُ عُثْمَانَ بنِ أَبِي طَلْحَةَ -وَقَدْ قُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَدِ انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا، قَالَ: اليَوْمَ أُدرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمَّدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ -وَهُمُ الطُّلَقَاءُ- وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غِرَّةً (¬1) فَيَثْأَرَ مِنْهُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ العَرَبِ وَالعَجَمِ أَحَدٌ إِلَّا اتّبعَ مُحَمَّدًا مَا اتَّبعْتُهُ أبَدًا. فَجَاءَ رَجُلٌ عَنْ يَمِينهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا هُوَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُله، ثُمَّ جَاءَهُ عَنْ يَسَاره فَإِذَا هُوَ بِأَبِي سُفْيَانَ بنِ الحَارِثِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: ابنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُله، ثُمَّ جَاءَهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ له شُوَاظٌ (¬2) مِنْ نَارٍ كَالبَرقِ كَادَ أَنْ يُخرِقَهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَصَرِهِ وَمَشَى القَهْقَرَى (¬3)، قَالَ شَيْبَةُ: فَعَلِمتُ أنَّهُ ممنُوع. وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالَ: "يَا شَيْبُ يَا شَيْبُ! ادنُ مِنِّي"، فَدَنَا، فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ". قَالَ شَيْبَةُ: فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ بَصَرِي، وَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي وَنَفْسِي، وَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ ليَّ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا شَيْبُ! قَاتِلِ الكُفَّارَ". ¬

_ (¬1) الغِرَّة: الغفلة. انظر النهاية (3/ 318). (¬2) الشُوَاظ: اللهب الذي لا دخان فيه. انظر لسان العرب (7/ 237). (¬3) القَهْقَرى: هو المشي إلى الخلف من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه. انظر النهاية (4/ 113).

* رجوع المسلمين وانهزام الكفار

قَالَ شَيْبَةُ: فتَقَدَّمْتُ أَمَامَهُ، أَضْرِبُ بِسَيْفِي، واللَّهُ يَعلَمُ أنَي أُحِبُّ أَنْ أَقِيَهُ بِنَفْسِي، وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السَّاعَةَ أَبِي لَوْ كَانَ حَيًّا لَأَوْقَعتُ بِهِ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَلَمَّا انْهَزَمَ المُشْرِكُونَ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مُعَسْكَرِهِ، وَدَخَلَ خِبَاءَهُ، دَخَلَ عَلَيْهِ شَيْبَةُ محبًا لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَسُرُورًا بِهِ، فَلَّما رَآه رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ له: "يَا شَيْبُ! الذِي أَرَادَ بِكَ اللَّه خَيْرًا مِمَّا أَرَدتَ بِنَفْسِكَ"، ثُمَّ حَدَّثَهُ شَيْبَةُ بِكُل مَا أَضْمَرَهُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ ذَكَرَهُ لِأَحَدٍ قَطُّ، ثُمَّ قَالَ شَيْبَةُ: فَإِنِّي أَشْهدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ، وَأَنّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: استِغْفِر لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غَفَرَ اللَّهُ لَكَ" (¬1). * رُجُوعُ المُسْلِمِينَ وَانْهِزَامُ الكُفَّارِ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمِّهِ العَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا (¬2): "يا عَبَّاسُ! نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج قِصَّة شيبة: ابن أبي خيثمة عن مصعب النميري - وابن إسحاق في السيرة (4/ 94) بمعناه - وكذا أخرجه ابن سعد في طبقاته (8/ 509) عن الواقدي - وكذا ساقه البغوي بإسناد آخر عن شيبة - وأبو نعيم في دلائل النبوة (1/ 195) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 145) وفي سنده أبو بكر الهذلي، وهو متروك. (¬2) صَيِّتًا: أي شديد الصوت عاليه. انظر النهاية (3/ 60). (¬3) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في غزوة حنين - رقم الحديث (1775) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1775). قال الإمام النووي في شرح مسلم (12/ 98): السَّمُرة: بفتح السين وضم الميم: وهي =

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فنَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَالَ المُهاجِرِينَ! يَالَ المُهاجِرِينَ"، ثُمَّ قَالَ: "يَالَ الأَنْصَارِ! يَالَ الأَنْصَارِ" (¬1). فَلَمَّا سَمِعَ المُسْلِمُونَ نِدَاءَ العَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه-، أَقْبَلُوا، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. وَيَذْهبُ الرَّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَأْخُذُ دِرعَهُ، فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ، ويَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ، وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ، ويُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَيَؤُمُّ (¬2) الصَّوْتَ حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). قَالَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّ عَطْفَتَهُمْ (¬4)، حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي، عَطْفَةُ البَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا (¬5). لَقَدْ هَتَفَ العَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه- بِأَصْحَابِ العَقَائِدِ، وَرِجَالِ الفِدَاءِ عِنْدَ الصِّدَامِ فَهُمْ وَحدَهُمْ الذِينَ تَنْجَحُ بِهِمُ الرِّسَالَاتُ وَتُفْرَجُ الكُرُوبُ، أَمَّا هَذَا الغُثَاءُ مِنَ العَوَامِّ ¬

_ = الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان، ومعناه: ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية. (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (136). (¬2) أَم: بفتح الهمزة: أي قصد. انظر النهاية (1/ 70). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 95). (¬4) عطف عليه: رجع عليه. انظر لسان العرب (9/ 268). (¬5) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في غزوة حنين - رقم الحديث (1775) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1775) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب أصحابه - باب ذكر العباس -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7049).

* نزول الملائكة

الحِرَاصِ عَلَى الدُّنْيَا، السُّعَاةِ إِلَى المَغَانِمِ، فَمَا يَقُومُ بِهِمْ أَمْرٌ، أَوْ يَثْبُتُ بِهِمْ قَدَمٌ (¬1). وَتَجَالَدَ النَّاسُ مُجَالَدَةً شَدِيدَةً، وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا يَنْظُرُ إِلَى قِتَالِهِم، ثُمَّ قَالَ: "الآنَ حَمِيَ الوَطِيسُ" (¬2)، ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ (¬3) فَرَمَى بِهِنَّ وُجُوة الكُفَّارِ، وَقَالَ: "شَاهَتِ الوُجُوهُ"، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا امتَلَأَتْ عَيْنَاهُ، وَفَمُهُ تُرَابًا (¬4). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْهَزَمُوا وَرَبِّ الكَعْبَةِ، انْهَزَمُوا وَرَبِّ الكَعبَةِ" (¬5). * نُزُولُ المَلَائِكَةِ: ثُمَّ أَيَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- والمُؤْمِنِينَ بِأَنْ أَنْزَلَ مَلَائَكَتُه لِإرْهَابِ الكُفَّارِ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ الذَّهبِيُّ فِي السِّيرَةِ بِسَندٍ جَيِّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أُمِّ بُرثُنٍ، عَمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا، قَالَ: لَمَّا الْتَقَيَا وَالمُسْلِمُونَ لَمْ ¬

_ (¬1) انظر فقه السيرة ص 390 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى. (¬2) حَمى الوَطِيس: أي حَمى الضِّراب وجَدَّت الحرب، واشتدت. انظر لسان العرب (15/ 336). (¬3) وفي رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (1777) - ومسند الإمام أحمد - رقم الحديث (22467): . . . ثم قبض قبضة من تراب الأرض. (¬4) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في غزوة حنين - رقم الحديث (1775) (76) (77) - (1777) (81) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22467). (¬5) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في غزوة حنين - رقم الحديث (1775) (77) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1775) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -رضي اللَّه عنه- عن مناقب أصحابه - باب ذكر العباس -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7049).

* متابعة الكفار

يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَجِئْنَا نَهُشُّ سُيُوفَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ إِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ الوُجُوهِ، فَقَالُوا: شَاهتِ الوُجُوهُ، فَارجِعُوا، فَهُزِمْنَا (¬1). وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنْ يَعلَى بنِ عَطَاءٍ قَالَ: . . . فَحَدَّثَنِي أَبْنَاؤُهُمْ، عَنْ آبَائِهِمْ، أَنَّهُمْ قَالُوا: . . . وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً (¬2) بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ كَإِمرَارِ الحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ الحَدِيدِ، فَهزَمَهُمُ اللَّهُ (¬3). قُلْتُ: وَلَمْ تُقَاتِلِ المَلَائِكَةُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ لِتَخْوِيفِ الكُفَّارِ، وَلَمْ تُقَاتِلِ المَلَائِكَةُ فِي غَزْوَةٍ قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ بدرٍ الكُبْرَى، فَقَدْ رَوَى ابنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ المَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى بَدرٍ مِنَ الأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ (¬4). * مُتَابَعَةُ الكُفَّارِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ قَالَ يَوْمَئِذٍ: "مَنْ قتَلَ كافِرًا (¬5) فَلَهُ سَلَبُهُ"، فَقتَلَ ¬

_ (¬1) أورد ذلك الإمام الذهبي في سيرته (2/ 202) وجَوّد إسناده. (¬2) الصلصَلَة: صوت الحديد إذا حُرِّك. انظر النهاية (3/ 43). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22467) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1468). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (2/ 245) - تفسير البغوي (1/ 412). (¬5) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار: "مشركًا".

* شجاعة أم سليم رضي الله عنها

أَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه- يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهم (¬1) * شَجَاعَةُ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -وَالِدَةُ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-، وَزَوْجِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَدْ خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا، وَكَانَ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا، فَكَانَ مَعَها، فَرَآها أَبُو طَلْحَةَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَها خِنْجَرٌ، فَقَالَ لَهُا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا هَذَا الخِنْجَرُ؟ ". قَالَتْ: اتَّخَذْتُهُ، إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ بَقَرْتُ (¬2) بِهِ بَطْنَهُ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَضْحَكُ، ثُمَّ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقْتُلُ مَنْ بَعدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ انْهَزَمُوا بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أُمَّ سُلَيْمٍ! إِنَّ اللَّه قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ" (¬3). * قِصَّةُ صَاحِبِ الجَمَلِ الأَحْمَرِ: قَالَ جَابِرُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: . . . وَكَانَ أَمَامَ هوَازِنَ رَجُلٌ ضَخْمٌ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الغنائم - رقم الحديث (4836) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4786) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) البَقْرُ: بفتح الباء وسكون القاف: الشق. انظر النهاية (1/ 143). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة النساء مع الرجال - رقم الحديث (1809) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14049).

* أبو قتادة -رضي الله عنه- وقتيله

عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فِي يَدهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمحٍ طَوِيلٍ لَهُ أَمَامَ النَّاسِ، وَهوَازِنُ خَلْفَهُ، فَإِذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ لِمَنْ وَرَاءه فَاتَّبَعُوهُ، فَرَصَدَ (¬1) له عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، كِلَاهُمَا يُرِيدُهُ، فَضَرَبَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عُرقُوبَي (¬2) الجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ (¬3)، وَضَرَبَ الأَنْصَارِيُّ سَاقَهُ، فَطَرَحَ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَوَقَعَ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى كَانَتِ الهزِيمَةُ (¬4). * أَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- وَقَتِيلُهُ: وَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ أَبَا قتَادَةَ الحَارِثَ بنَ رِبْعِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، سَلَبَ رَجُلٍ قتَلَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي قتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا (¬5) رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرتُ إِلَيْهِ حَتَّى آتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ المَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ المَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ؟ ، قُلْتُ: أَمرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ ¬

_ (¬1) رَصَدَهُ: راقبه. انظر لسان العرب (5/ 223). (¬2) العُرْقُوبُ: هو الوَتَرُ الذي خلفَ الكعبينِ بين مفصل القدم والساق. انظر النهاية (3/ 200). (¬3) العَجُز: بفتح العين وضم الجيم: هو مؤخر الشيء. انظر النهاية (3/ 168). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15027) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد - رقم الحديث (4774) - وإسناده حسن. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 355): على: ظهر.

رَجَعُوا (¬1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ"، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّانِيَةَ، فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهدُ لِي؟ ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ"؟ ، فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ القِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ القَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: لَا هَا اللَّهُ (¬2) إِذًا لَا يَعْمَدُ (¬3) إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ، وَعَنْ رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ". قَالَ أَبُو قتَادَةَ: فَأَعْطَانِي، فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ (¬4) بِهِ مَخْرَفًا (¬5) فِي بَنِي سَلِمَةَ (¬6)، فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ (¬7) فِي الإِسْلَامِ (¬8). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 356): في السياق حذف، بينته الرواية الثانية حيث قال: فتحلل ودفعته، ثم قتلته، وانهزم المسلمون، وانهزمت معهم، فإذا عمر بن الخطاب. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 357): المعنى: لا واللَّه. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 359): أي لا يقصد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى رجل كأنه أسَدٌ في الشجاعة يُقاتل عن دين اللَّه ورسوله فيأخذ حقه ويعطيكه بغير طيبة من نفسه. (¬4) ابتَاعَ الشيءَ: اشتراه. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 360): المَخْرَف: بفتح الميم والراء: أي بستانًا. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 260): سلِمة: بكسر اللام: وهم بطن من الأنصار، وهم قوم أبي قتادة. (¬7) تأثلته: أي جمعته. انظر النهاية (1/ 27). (¬8) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ =

* شدة سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-

قَالَ الإِمَامُ البَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ قَتَلَ مُشْرِكًا فِي القِتَالِ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الغَانِمِينَ، وَأَنَّ السَّلَبَ لَا يُخَمَّسُ قَلَّ ذَلِكَ أَم كَثُرَ، وَرُوِيَ أَنَّ سَلَمَةَ بنَ الأَكْوَعِ قَتَلَ مُشْرِكًا، فَجَاءَ بِجَمَلِهِ يَقُودُهُ عَلَيْهِ رَحلُهُ وَسِلَاحُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ "، قَالُوا: ابْنُ الأَكْوَعِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ" (¬1). وَسَوَاءً نَادَى الإِمَامُ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُنَادِ، وَسَوَاءً كَانَ القَاتِلُ بَارَزَ المَقْتُولَ، أَوْ لَمْ يبارِزْهُ؛ لِأَنَّ أبَا قَتَادَةَ قَتَلَ القَتِيلَ قَبْلَ قَوْلِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَله سَلَبُهُ"، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُبَارَزَةٌ، ثُمَّ جَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمِيعَ سَلَبِهِ له، فَكَانَ ذَلِكَ القَوْلُ مِنَ الرَّسُوِل -صلى اللَّه عليه وسلم- شَرعُ حُكْمٍ، وَهذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أصحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومَنْ بَعدَهُم، وَإِليْهِ ذَهبَ الأوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ (¬2). * شِدَّةُ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَلَمَةَ بنِ الأَكْوَعِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ ¬

_ = أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} رقم الحديث (4321) (4322) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحقاق القاتل سلب القتيل - رقم الحديث (1751) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4785). (¬1) أخرج هذا الحديث الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحقاق القاتل سلب القتيل - رقم الحديث (1754) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الغنائم وقسمتها - رقم الحديث (4843) - وسيأتي بعد قليل. (¬2) انظر شرح السنة (11/ 107).

رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحَّى (¬1) مَعَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ (¬2)، ثُمَّ انْتَزَع طَلَقًا (¬3) مِنْ حَقَبِهِ (¬4) فَقَيَّدَ بِهِ الجَمَلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ يَتَغَدَّى مَعَ القَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفينَا ضَعفَة وَرِقَّةٌ فِي الظَّهْرِ (¬5)، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إِذْ خَرَجَ يَشْتَدُّ، فَأَتَى جَمَلَهُ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثُمَّ أَناخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَأَثَارَهُ، فَاشْتَدَّ بِهِ الجَمَلُ، وَهُوَ طَلِيعَةٌ (¬6) لِلْكُفَّارِ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَى نَاقَةٍ وَرقَاءَ (¬7)، قَالَ سَلَمَةُ: فَاتَّبَعتُهُ أَعْدُو، فَكُنْتُ عِنْدَ وِرْكِ (¬8) النَّاقَةِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، حَتَّى كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الجَمَلِ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ حَتَّى أَخَذْتُ بِخِطَامِ (¬9) الجَمَلِ فَانَخْتُهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الأَرْضِ اخْترَطْتُ (¬10) سَيْفِيَ، فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرَّجُلِ، فنَدَرَ (¬11)، ثُمَّ ¬

_ (¬1) نتَضَحّى: أي نتغدى. انظر النهاية (3/ 70). (¬2) أناخ الإبل: أبركها فبركت. انظر لسان العرب (14/ 321). (¬3) الطَّلَق: بالتحريك: الحَبل من جلود. انظر النهاية (3/ 122). (¬4) حقبه: أي الحبل المشدود على حقو البعير، أو من حقيبته، وهي الزيادة التي تجعل في مؤخر القتب، والوعاء الذي يجمع الرجل فيه زاده. انظر النهاية (1/ 395). (¬5) الظهر: الإبل التي يحمل عليها وتركب. انطر النهاية (3/ 151). (¬6) الطليعة: الجاسوس. انظر النهاية (3/ 121). (¬7) وَرْقاء: أي سمراء. انظر النهاية (5/ 153). (¬8) الوَرِك: ما فوق الفخذ. انظر النهاية (5/ 153). (¬9) خطام الناقة: أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتّان، فيجعل في أحد طرفيه حلقة، ثم يشد فيه الطرف الآخر حتى يصير كالحلقة، ثم تقاد النافة. انظر النهاية (2/ 48). (¬10) اختَرَط سيفه: أي سله من غمده. انظر النهاية (2/ 23). (¬11) نَدَرَ: سقط ووقع. انظر النهاية (5/ 30).

* الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبحث عن خالد بن الوليد -رضي الله عنه-

جِئْتُ بِالجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ وسِلَاحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَ الرَّجُلَ؟ ". قَالَ سَلَمَةُ: قُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَكَ سَلَبُهُ أَجْمَعُ" (¬1). * الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَبْحَثُ عَنْ خالِدِ بنِ الوَلِيد -رضي اللَّه عنه-: ذَكَرْنَا فِي بِدَايَةِ أَمرِ حُنَيْنٍ هزِيمَةَ المُسْلِمِينَ، وَأَنَّ هوَازِنَ اسْتَطَاعَتْ مِنْ خِلَالِ الكَمَائِنِ أَنْ تَضْرِبَ مُقَدِّمَةَ المُسْلِمِينَ مِمَّا أَدَّى إِلَى فِرَارِهِم، وَمِنْ بَيْنِ الذِينَ جُرِحُوا وَسَقَطُوا مِنْ شِدَّةِ الجِرَاحِ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ، وَفَرَّتْ هَوَازِنُ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْأَلُ عَنْ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ رَوَى ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَزْهرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَكَانَ عَلَى خَيْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَقَد رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ: "مَنْ يَدُلُّ عَلَى رَحْلِ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ؟ ". قَالَ ابنُ الأَزهرِ: فَمَشَيْتُ، أَوْ قَالَ: سَعَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَا مُحتَلِمٌ أَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى رَحْلِ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ؟ حَتَّى دُلِلْنَا عَلَى رَحْلِهِ، فَإِذَا هُوَ قَاعد مُسْتَنِدٌ إِلَى مُؤَخَّرِ رَحْلِهِ، فَأَتَاهُ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب استحقاق القاتل سلب القتيل - رقم الحديث (1754) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الغنائم وقسمتها - رقم الحديث (4843).

* مطاردة الكفار وسرية أبي عامر -رضي الله عنه- إلى أوطاس

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنَظَرَ إِلَى جُرْحِهِ، ونَفَثَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وَظَلَّ المُسْلِمُونَ يَتْبَعُونَ الكُفَّارَ حَتَّى تَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ -وَهُمُ الطُّلَقَاءُ- لِمَا رَأَوْا مِنْ نَصْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (¬2). وَهَكَذَا انهزَمَ الكُفَّارُ هزِيمَةً مُنْكَرَةً، وَغَنِمَ المُسْلِمُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيهِمْ وَأَنْعَامَهُمْ. * مُطَارَدَةُ الكُفَّارِ وَسَرِيَّةُ أَبِي عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- إَلى أَوْطَاسٍ: وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ هَوَازِنَ لَمَّا انْهَزَمَتْ ذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ فِيهِمْ رَئِيسُهُم مَالِكُ بنُ عَوْفٍ النَّصرِيُّ، فَلَجَؤُوا إِلَى الطَّائِفِ، فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَسَارَتْ فِرقَةٌ، فَعَسْكَرُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَوْطَاسٍ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْهِم سَرِيَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ بِقِيَادَةِ أَبِي عَامِرٍ الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ عَمُّ (¬3) أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رحمه اللَّه-، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7090). (¬2) سورة التوبة آية (25 - 26). (¬3) وقع عند ابن إسحاق في السيرة (4/ 105): ابن عمه.

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حُنَيْنٍ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بنَ الصِّمَّةِ فَقُتِلَ (¬1) دُرَيْدٌ، وهزَمَ اللَّه أَصحَابَهُ، قَالَ أَبُو مُوسَى -رضي اللَّه عنه-: وَبَعَثَنِي مَعَ أَبِي عَامِرٍ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ جُشَمِيٌّ (¬2) بِسَهْمٍ فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ مَنْ رَمَاكَ؟ . فَأَشَارَ إِلَى أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: ذَاكَ قَاتِلِي الذِي رَمَانِي، فَقَصَدْتُ لَهُ فَلَحِقْتُهُ، فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى فَاتَّبَعْتُهُ، وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلَا تَسْتَحِي أَلَّا تَثْبُتَ، فَكَفَّ، فَاخْتَلَفْنَا ضَربَتَيْنِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ رَجَعتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَتَلَ صَاحِبَكَ، قَالَ: فَانْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فنَزْعْتُهُ فَنَزَا (¬3) مِنْهُ المَاءُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَبُو عَامِرٍ: اسْتَغْفِر لِي. قَالَ أَبُو مُوسَى -رضي اللَّه عنه-: وَاسْتَعمَلَنِي أَبُو عَامِرٍ عَلَى النَّاسِ، ومَكَثَ يَسِيرًا، ثُمَّ إنَّه مَاتَ، فَلَمَّا مَاتَ رَجَعْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ عَلَى ¬

_ = قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 362) والأول -أي رواية الشيخين في صحيحيهما- أشهر. (¬1) اختلف في قاتِلِ دُرَيد بن الصِّمَّة: فعند ابن إسحاق في السيرة (4/ 103): أنه ربيعة بن رفيع السُلمي. وأورد الحافظ في الفتح (8/ 362): بأن قاتله هو الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه-، وساق الحديث، وقد رواه البزار بإسناد حسن، وهو الصحيح. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 363): جُشمي: بضم الجيم وفتح الشين: أي رجل من جُشم. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 363): فنزا: أي انصب.

* قصة سهل بن حنيف -رضي الله عنه-

سَرِيرٍ مُرمِلٍ (¬1)، وَعَلْيِه فِرَاشٌ، وَقَدْ أَثَّرَ رِمَالُ السَّرِيرِ بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وجَنْبَيْهِ، فَأَخْبَرتَهُ بِخَبَرِنَا وَخَبَرِ أَبِي عَامِرٍ، وقُلْتُ له: قَالَ: قُلْ له يَسْتَغْفِر لِي، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَاءٍ فتَوَضَّأَ مِنْهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعبيْدٍ، أَبِي عَامِرٍ" حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ! اجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ مِنَ النَّاسِ"، فَقُلْتُ: وَلي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَاسْتَغْفِرْ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللَّهِ بنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ، وَأَدْخِلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُدْخَلًا كَرِيمًا" (¬2). * قِصَّةُ سَهْلِ بنِ حُنَيفٍ (¬3) -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ قَالَ: اغْتَسَلَ أَبِي سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ، فنَزَعَ جُبَّةً كَانَتْ عليه يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ هزَمَ اللَّهُ العَدُوَّ، وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ، حَسَنَ الجِسْمِ وَالجِلْدِ، إِلَيْهِ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بنِ كَعْبٍ، وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ قَطُّ، وَلَا جَارِيَةً فِي سِتْرِها بِأَحْسَنَ جَسَدًا مِنْ جَسَدِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ (¬4)، ¬

_ (¬1) مُرْمل: أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر، ولم يكن على السرير وِطاء سوى الحصير. انظر فتح الباري (8/ 363) - النهاية (2/ 241). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة أوطاس - رقم الحديث (4323) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعري رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - رقم الحديث (2498). (¬3) حُنيف: بضم الحاء. (¬4) في رواية ابن حبان في صحيحه: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء.

فوُعِكَ (¬1) سَهْلٌ مَكَانَهُ، وَاشْتَدَّ وَعْكُهُ، فَأتيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ سَهْلَ بنَ حُنَيْفٍ وُعِكَ، وَإِنَّهُ غَيْرُ رَائِحٍ مَعَكَ، فَأتاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرُوهُ بِالذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ. وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟ ". قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بنُ رَبِيعَةَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامِرًا، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: "عَلَام يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ؟ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يُعجِبُهُ، فَلْيُبَرِّكْ، فَإِنَّ العَيْنَ حَقٌّ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ: "اغْتَسِلْ لَهُ". فَغَسَلَ وَجْههُ وَيَدَيْهِ، وَمِرفَقَيْهِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ المَاءُ عَلَى سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ، لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ (¬2). ¬

_ (¬1) الوَعْك: الحُمى. انظر النهاية (5/ 179). وفي رواية الإمام أحمد في مسنده: فَلُبِطَ بسهل. لُبِطَ: بضم اللام وكسر الباء: أي صُرع وسقط إلى الأرض. انظر النهاية (4/ 196). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15980) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الرقى والتمائم - رقم الحديث (6105) (6106) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب وعك سهل لعين عامر بن ربيعة - رقم الحديث (5797).

* جمع الغنائم

* جَمْعُ الغَنَائِمِ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالغَنَائِمِ، فَجُمِعَتْ، وَكَانَ السَّبْيُ سِتَّةَ آلَافٍ مِنَ النِّسَاءَ وَالأَطْفَالِ، وَالإِبِلُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَالغَنَمُ أَكْثَرُ مِنْ أَربَعِينَ أَلْفِ شَاةٍ، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ أُوقِيَّةِ فِضَّةٍ، فَجَعَلَ عَلَيْهَا مَسْعُودَ بنَ عَمرٍو الغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُبِسَتْ بِالجِعِرَانَةِ، وَلَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى انْصَرَفَ مِنْ غَزْوَةِ الطَّائِفِ (¬1). * شُهدَاءُ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: كَانَتْ خَسَارَةُ المُسْلِمِينَ طَفِيفَةً جِدًّا، فَقَدِ اسْتُشْهِدَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أرْبَعَةُ نَفَرٍ، وَهُمْ: أَيْمَنُ بنُ عُبَيْدٍ ابنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَيَزِيدُ بنُ زَمعَةَ الأَسَدِيُّ، وَسُرَاقَةُ بنُ الحَارِثِ الأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا (¬2). وَجُرِحَ مِنْهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بنُ أَبِي أَوْفَى، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: رَأَيْتُ بِيَدِ ابْنِ أَبِي أَوْفى ضَربَةً، قَالَ: ضُرِبْتُهَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ (¬3). وَجُرِحَ كَذَلِكَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- كَمَا تَقَدَّمَ. * * * ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 110) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 326). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 110) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 326). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} رقم الحديث (4314).

غزوة الطائف

غَزْوَةُ الطَّائِفِ وَهَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي الْحَقِيقَةِ امْتِدَادٌ لِغَزْوَةِ حُنَيْنٍ (¬1)، وَذَلِكَ أَنَّ مُعْظَمَ فُلُولِ (¬2) هَوَازِنَ وَثَقِيفٍ دَخَلُوا الطَّائِفَ مَعَ قَائِدِهم مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ، وَتَحَصَّنُوا بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ حُنَيْنٍ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَان لِلْهِجْرَةِ. وَكَانَتْ ثَقِيفٌ لَمَّا انْهَزَمُوا مِنْ حُنَيْنٍ وَأَوْطَاسٍ، تَحَصَّنُوا بِحُصُونِهِمُ الْمَنِيعَةِ فِي الطَّائِفِ. * طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الطَّائِفِ: تَحَرَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الطَّائِفِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدَ بْنَ الْوَليدِ -رضي اللَّه عنه-، وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الطَّائِفِ بِقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ (¬3)، ¬

_ (¬1) وبعض المؤرخين يجعلها غزوة مستقلة عن حنين. (¬2) الفَلُّ: بفتح الفاءَ: القومُ الْمُنهزِمونَ، ورُبَّمَا قالوا: فُلُولٌ وفلَالٌ. انظر النهاية (3/ 425). (¬3) قَالَ الحَافِظ فِي الفَتْحِ (7/ 27): رِغَال: بكسر الراء وتخفيف الغين. قلت: وقع في السيرة لابن إسحاق في السيرة (1/ 81): أن أبا رغال بعثته ئقيف دليلًا لأبرهة الأشرم ليهدم الكعبة، حتى إذا أنزله الْمُغَمِّس -بضم الميم وفتح الغين وهو موضع قرب مكة في طريق الطائف- مات أبو رغال ودفن هناك، فَرَجَمَتْ قبرَهُ العربُ، فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (2/ 567): والجمع بين هذا -أي بين أبي =

* حصار الطائف وإصابة نفر من المسلمين

وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ، كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ التِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ، فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ (¬1) ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أصَبْتُمُوهُ مَعَهُ"، فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ (¬2). * حِصَارُ الطَّائِفِ وَإِصَابَةُ نَفَرٍ مِنَ المُسلِمِينَ: ثُمَّ أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى الطَّائِفِ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ ¬

_ = رغال ثمود- وبين ما ذكره ابن إسحاق في السيرة: أن أبا رغال هذا المتأخر، وافق اسمه اسم جده الأعلى، ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضًا واللَّه أعلم. (¬1) الآيَةُ: الْعَلَامَةُ. انظر النهاية (1/ 88). (¬2) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب بدء الخلق - رقم الحديث (6198) - وأبو داود في سننه - كتاب الخراج - باب نبش القبور العادية - رقم الحديث (3088) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 154) - والتفسير (3/ 443) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9522) - وإسناده ضعيف. قلت: خبر رجم العرب لقبر أبي رغال ثابت، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4631) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4156) بسند صحيح عن سالم عن أبيه قال: أَنَّ غَيْلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عَشْرُ نسوة، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اختر منهنَّ أربعًا"، فلما كان في عهد عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- طلّق غَيْلَان بن سلمة الثقفي نساءه الأربع، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر -رضي اللَّه عنه-، فلقيه، فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك، ولعلك أن لا تمكث إلا قليلًا، وأيم اللَّه، لتراجعن نساءك، ولترجعن في مالك، أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك، فيرجم كما رُجم قبر أبي رِغال.

* قصة المخنث

الطَّائِفِ، فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ، وَفَرَضَ عَلَى أَهْلِها الْحِصَارَ (¬1)، وَأَشْرَفَتْ ثَقْيفٌ، وَأَقَامُوا يَرْمُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّبَالِ وَالْحِجَارَةِ رَمْيًا شَدِيدًا، حَتَّى أُصِيبَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحٍ، فَاضْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يرتَفِعَ بِعَسْكَرِهِ إِلَى مَسْجِدِ الطَّائِفِ الْيَوْمَ، فَعَسْكَرَ هُنَاكَ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ نِسَائِهِ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. * قِصَّةُ الْمُخَنَّثِ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا، وَعِنْدَها أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ، وَمُخَنَّثٌ (¬2) يُدْعَى هِيتًا (¬3)، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ (¬4). . . . . ¬

_ (¬1) اختلف في مدة الحصار الذي أقامه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على أهل الطائف، فعند موسى بن عقبة: أنها كانت بضعة عشرة ليلة، وفي رواية عروة بن الزبير: بضعًا وعشرون ليلة، وعند ابن إسحاق في السيرة (4/ 134): بضعًا وعشرون ليلة. وفي صحيح مسلم - رقم الحديث (1059) (136): أنهم أقاموا عليهم أربعين ليلة. ورد الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 755) رواية الإمام مسلم من أنهم حاصروهم أربعين ليلة، وقال: وإنما حاصروهم قريبًا من شهر ودون العشرين ليلة، واللَّه أعلم. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 419): الْمُخَنَّثُ: بكسر النون وبفتحها: هو من يشبه خِلْقَةَ النساءِ في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة، لم يكن عليه لوم، وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، كان كان بقصد منه وتكلف له فهو المذموم، ويطلق عليه اسم مخنث سواء فعل الفاحشة أو لم يفعل. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 365): هِيتًا: بكسر الهاء وسكون الياء. (¬4) اسمها: بَادِيَة، وقد أسلمت بعد ذلك والحمد للَّه. انظر الإصابة (8/ 45).

* رمي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهل الطائف بالمنجنيق

غَيْلَانَ (¬1)، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلَنَّ هؤُلَاءِ عَلَيْكُنَّ" (¬3). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ حَجْبُ النِّسَاءِ عَمَّنْ يَفْطَنُ لِمَحَاسِنِهِنَّ، وَهذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي إِبْعَادِ مَنْ يُسْتَرَابُ (¬4) بِهِ فِي أَمرٍ مِنَ الْأُمُورِ (¬5). * رَميُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَهْلَ الطَّائِفِ بِالْمَنْجَنِيقِ: وَنَصَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ، وَقَذَفَ بِهِ الْقَذَائِفَ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 420): غَيْلَان بفتح الغين، وهو ابن سلمة الثقفي، وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يختار أربعًا. قلت: تقدم ذكر ذلك قبل قليل. (¬2) معناه: أن أَعكَانَهَا يَنْعَطِفُ بعضُها على بعضٍ، وهي في بطنها أربع طرائق، وتبلغ أطرافها إلى خاصرتها في كل جانب أربع، ولإرادة العُكَنِ ذكر الأربع والثمان، وحاصله أنه وصفها بأنها مملوءة البدن بحيث يكون لبطنها عكن، وذلك لا يكون إلا للسمينة من النساء. انظر فتح الباري (10/ 420). العُكْن والأَعكان: هي الأطواء في البطن من السمن. انظر لسان العرب (9/ 345). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4324) - وأخرجه في كتاب النكاح - باب ما يُنهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة - رقم الحديث (5232) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب - رقم الحديث (2180) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26490). (¬4) يُسْتَرابُ: أي مِنَ الرَّيْبِ، وهو الشَّكُّ. انظر لسان العرب (5/ 384). (¬5) انظر فتح الباري (10/ 421).

وَهذَا أَوَّلُ مَنْجَنِيقٍ يُرْمَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا نَثَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْحَسَكَ (¬1) حَوْلَ الْحِصْنِ. ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحُثُّ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الرَّمْي، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ (¬2) السُلَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: حَاصَرنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِصْنَ الطَّائِفِ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَهُ عَدلُ مُحَرَّرٍ (¬3)، وَمَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قَالَ أَبُو نَجِيحٍ -رضي اللَّه عنه-: فَبَلَغْتُ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا (¬4). وَلَمَّا كَانَ الْقِتَالُ تَرَاشُقًا بِالسِّهامِ عَنْ بُعْدٍ، اسْتَخْدَمَ الْمُسْلِمُونَ "الدَّبَابَةَ" (¬5)؛ لِيَحْمُوا بِهَا أَنْفُسَهُم مِنَ السِّهامِ، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الْحِصْنِ، فَعِنْدَمَا ¬

_ (¬1) الْحَسَكُ: بفتح الحاء والسين خمع حَسَكَة: وهي شَوْكَةٌ صُلْبَةٌ معروفة. انظر النهاية (1/ 371). (¬2) نَجِيح: بفتح النون، وكسر الجيم. (¬3) الْمُحَرَّرِ: أي أَجْرُ مَن أعتقَ رقبةً. انظر النهاية (1/ 349). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17022) - والترمذي في جامعه - كتاب فضائل الجهاد - باب ما جاء في فضل الرمي في سبيل اللَّه - رقم الحديث (1733) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) الدَّبَّابَةُ: آلةٌ تُتَّخَذُ مِنْ جُلودٍ وخشبِ يدخل فيها الرجال ويُقرِّبونها من الحصن المحاصر لِيَنْقُبُوهُ، وتقيهم ما يرمون به من فوقهم. انظر النهاية (2/ 91).

* إسلام عبيد من الطائف

رَأَتْهُمْ ثَقِيفٌ، أَلْقَتْ عَلَيْهِمْ قِطَعًا مِنْ حَدِيدٍ مُحَمَّاةً بِالنَّارِ، فَأَحْرَقَتِ "الدَّبَابَةَ" فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا، فَرَمُوهُمْ بِالنِّبَالِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ وَتَحْرِيقِهَا، فَقَطَعَها الْمُسْلِمُونَ قَطْعًا ذَرِيعًا، فَسَأَلَتْ ثَقِيفٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَدَعَها للَّهِ وَالرَّحِمِ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ تَقْطَعُ أَمْوَالَنَا؟ إِمَّا أَنْ تَأْخُذَهَا إِنْ ظَهَرْتَ عَلَيْنَا، وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا للَّهِ وَالرَّحِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنِّي أَدَعُهَا للَّهِ وَالرَّحِمِ" (¬1). * إِسْلَامُ عَبِيدٍ مِنَ الطَّائِفِ: ثُمَّ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَيُّمَا عَبْدٍ نَزَلَ مِنَ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ! فَنَزَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فِيهِمْ: نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ، تَسَوَّرَ حِصْنَ الطَّائِفِ وَتَدَلَّى بِبَكْرَةٍ مُسْتَدِيرَةٍ، يُسْتَقَى عَلَيْهَا الْمَاءَ، فكَنَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرَةَ، فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِم أَبَا بَكْرَةَ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: "هُوَ طَلِيقُ اللَّهِ وَطَلِيقُ رَسُولِهِ"، وإنَ مَوْلى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك: في سيرة ابن هشام (4/ 135) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 329). (¬2) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4326) (4327) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2229) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4273).

* رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورحيل المسلمين

* رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَحِيلُ الْمُسْلِمِينَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ رَأَى رُؤْيَا، وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أبا بَكْرٍ! إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ (¬1) مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا، فنَقَرَهَا دِيكٌ، فَهَرَاقَ مَا فِيهَا"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: مَا أَظُنُّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَكَ هَذَا مَا تُرِيدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ" (¬2). وَلَمَّا طَالَ حِصَارُ الطَّائِفِ وَاسْتَعْصَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِفَتْحِ الطَّائِفِ، قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: "نَادِ فِي النَّاسِ: إِنَّا قَافِلُونَ (¬3) إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَنْكَرُوهُ، وَقَالُوا: نَذْهَبُ وَلَا نَفْتَحُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ"، فَغَدَوْا فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَحْرَقَتْنَا نِبَالُ ثَقِيفٍ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَسُرُّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا، وَجَعَلُوا يَرحَلُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَضْحَكُ (¬4). ¬

_ (¬1) الْقَعبُ: القَدَحُ الضخمُ. انظر لسان العرب (11/ 235). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 136). (¬3) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 81). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4325) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (1778) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6174). وأخرج دعاء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لثقيف بالهداية: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14702) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب في ثقيف وبني حنيفة - رقم الحديث (4285) - وإسناده صحيح على شرط مسلم.

* إسلام سراقة بن مالك الجعشمي

وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَتَى بِثَقِيفٍ مُسْلِمِينَ، قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْجِعرَانَةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْوُفُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. * إِسْلَامُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْجُعْشُمِيِّ: غَادَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الطَّائِفَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْجِعْرَانَةِ، وَفِي الطَّرِيقِ لَقِيَهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعْشُمِيُّ، فَدَخَلَ فِي كَتِيبَةٍ مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ، فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَهُ بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ، مَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ سُرَاقَةُ: فَدَنَوْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ (¬1) كَأَنَّهَا جِمَارَةٌ (¬2)، قَالَ: فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا كِتَابُكَ لِي (¬3)، أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَوْمُ وَفَاءٍ وَبرٍّ، ادْنُهْ". قَالَ سُرَاقَةُ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ تَذَكَّرتُ شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُ فَمَا أَذْكُرُهُ، إِلَّا أَنِّي قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الضَّالَّةُ مِنَ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي، ¬

_ (¬1) الْغَرْزُ: رِكَابُ كُورِ الْجَمَلِ إذا كان من جلد أو خشب، وقيل: هو الكُورُ مطلقًا. انظر النهاية (3/ 322). (¬2) الْجِمَارَةُ: قَلْبُ النَّخْلَةِ، شَبَّة سَاقَهُ بِبَيَاضِهَا. انظر النهاية (1/ 283). (¬3) هذا الكتاب هو كتاب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أعطاه سراقة يوم الهجرة، وهو كتابُ أماني من رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لسراقة إن لم يخبر أحدًا بطريق رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الهجرة، وقد فعل -رضي اللَّه عنه-.

* قسمة الغنائم بالجعرانة

وَقَدْ مَلأْتُهَا لِإِبِلِي، هَلْ لِي مِنْ أَجْر فِي أَنْ أَسْقِيَها؟ . قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، فِي كلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى (¬1) أَجْرٌ". قَالَ سُرَاقَةُ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي، فَسُقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدَقَتِي (¬2). * قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ بِالْجِعْرَانَةِ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْجِعْرَانَةَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي القَعْدَةِ، فَنَزَلَ بِهَا، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَة لَا يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ، يَبْتَغِي أَنْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ وَفْدُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فَيَحْرِزُوا (¬3) مَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَجِئْهُ أَحَدٌ أَمَرَ بِتَقْسِيمِ الْغَنَائِمِ. * الْبَدْءُ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ (¬4) وَهُمْ سَادَاتُ الْعَرَبِ: أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْغَنَائِمِ هُمْ سَادَاتُ الْعَرَبِ، يَتَأَلَّفُهُمْ إِلَى ¬

_ (¬1) كَبِدٍ حَرَّى: أي عَطْشَى، يريد أنها لشدة حرِّها قد عَطِشت ويبست من العطش، والمعنى أن في سقي كل ذي كبدٍ حَرَّى أجرًا. انظر النهاية (1/ 350). (¬2) أخرج ذلك الإمام احمد في مسنده - رقم الحديث (17581) - وابن حبان في صحيحه - كتاب البر والإحسان - باب البر والإحسان - رقم الحديث (542) - وابن إسحاق في السيرة (2/ 104) - وإسناده صحيح. (¬3) يقَال: أَحْرَزْتُ الشيءَ: إذا حَفِظْتُهُ وضَمَمْتُهُ إليكَ، وصُنْتُهُ عنِ الأَخْذِ. انظر النهاية (1/ 352). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 370): المراد بالمؤلفة ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلامًا ضعيفًا؛ ولم يتمكن الإسلام من قلوبهم.

الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ (¬1). وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ، ابْنَ عَمِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الفزَارِيَّ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ (¬2) مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْعَبَّاسَ بْنَ مردَاسَ دُونَ ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ: أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيـ ... ـد (¬3) بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ ¬

_ (¬1) أخرج إعطاء الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا سفيان مئةً من الإبل: الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (1060) (137) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الغنائم وقسمتها - رقم الحديث (4827). قلتُ: وقع عند الواقدي في مغازيه - وابن إسحاق في السيرة (4/ 145) - وابن سعد في طبقاته (2/ 326): أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى معاوية بن أبي سفيان -رضي اللَّه عنه- مئة من الإبل يوم حنين، وفي هذا نظر. قال الإمام الذهبي رحمه اللَّه في السير (3/ 122): الواقدي لا يعي ما يقول. . . ولو كان أعطاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مئة من الإبل، لما قال -صلى اللَّه عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس عندما خطبها معاوية -رضي اللَّه عنه-: ". . . أما معاوية فصعلوك لا مال له". وأخرج هذا الحديث: مسلم في صحيحه - كتاب الطلاق - باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها - رقم الحديث (1480). وقصة خطب معاوية -رضي اللَّه عنه- لفاطمة بنت قيس كانت بعد غزوة حنين. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (7/ 139): عُلَاثَة: بضم العين. (¬3) العُبَيْدُ: بضم العين وفتح الباء: اسمُ فَرَس للعباس بن مردَاس. انظر جامع الأصول لابن الأثير (2/ 687).

فَمَا كَانَ بدْرٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ (¬1). وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ سَأَلهُ مِئَةً أُخْرَى، فَأَعْطَاهُ إِيَّاها، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ (¬2)، ثُمَّ قَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوة نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْر مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى". قَالَ حَكِيم: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ (¬3) أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- يَدْعُو حَكِيمًا لِيُعطِيَهُ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: إِنِّي أُشْهِدُكم ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كُلَّهُ: مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (1060) (137) (138) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الغنائم وقسمتها - رقم الحديث (4827). (¬2) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15321) - قال حكيم: سألت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من المال فَأَلْحَفْتُ -أي بَالَغْتُ-. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 99): لا أَرْزَأُ: بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي: أي لا أُنْقِصُ مَالَهُ بالطلبِ منهُ.

* فوائد حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه-

مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أَنِّي أَعْرِضُ عَليْهِ حَقَّهُ مِنْ هذا الْفَيْءِ (¬1)، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى تُوُفِّيَ (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَإِنَّمَا امْتَنَعَ حَكِيمٌ مِنْ أَخْذِ الْعَطَاءِ، مَعَ أَنَّهُ حَقُّهُ، لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَيَعْتَادُ الْأَخْذَ، فَتَتَجَاوَزُ بِهِ نَفْسُهُ إِلَى مَا لَا يُرِيدُهُ، فَفَطَمَهَا عَنْ ذَلِكَ، وَتَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ (¬3). * فَوَائِدُ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رضي اللَّه عنه-: وَفِي حَدِيثِ حَكِيمٍ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - ضَربُ الْمَثَلِ لِمَا لَا يَعقِلُهُ السَّامِعُ مِنَ الْأَمثِلَةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّاسِ لَا يَعرِفُ الْبَرَكَةَ إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ، فَبَيَّنَ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ بِمَا يَعهدُونَ، فَالآكِلُ إِنَّمَا يَأْكُلُ لِيَشْبَعَ، فَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَشْبَعْ كَانَ عَنَاءً فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْمَالُ، لَيْسَتِ الفائِدَةُ فِي عَيْنِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِمَا يَتَحَصَّلُ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَإِذَا كَثُرَ عِنْدَ الْمرْءِ بِغَيْرِ ¬

_ (¬1) الفيْءُ: هو ما حَصَلَ للمسلمينَ مِنْ أموالِ الكفارِ مِنْ غيرِ حَرْبٍ، ولا جِهَادٍ. انظر النهاية (3/ 434). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب الاستعفاف عن المسألة - رقم الحديث (1472) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى - رقم الحديث (1035) (96) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15574) - (15321). (¬3) انظر فتح الباري (4/ 99).

تحصِيلِ مَنْفَعَةٍ كَانَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ. 2 - وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُبَيِّنَ لِلطَّالِبِ مَا فِي مَسْأَلتِهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ إِلَّا بَعْدَ قَضَاءَ حَاجَتِهِ لِتَقَعَ مَوْعِظَتُهُ لَهُ الْمَوْقِعَ؛ لِئَلَّا يَتَخَيَّلَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِمَنْعِهِ مِنْ حَاجَتِهِ. 3 - وَفيهِ جَوَازُ تَكْرَارِ السُّؤَالِ ثَلَاثًا. 4 - وَفِيهِ جَوَازُ الْمَنْعِ فِي الرَّابِعَةِ. واللَّه أَعْلَمُ (¬1). وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ -وَكَانَ مَا زَالَ مُشْرِكًا- مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ مِئَةً ثَانِيَةً، ثُمَّ مِئَةً ثَالِثَةً. قَالَ صَفْوَانُ: أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا زَالَ يُعطِينِي حَتَّى صَارَ وَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ (¬2). وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى سُهيْلَ بْنَ عَمرٍو مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ (¬3)، وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ العُزَّى مِئَةً مِنَ الْإِبِلِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (4/ 99). (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم - كتاب الفضائل - باب ما سئل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا قط فقال: "لا" - رقم الحديث (2313) (59) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15304). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13574) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 146) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 326).

* فوائد الحديث

وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- آخَرِينَ خَمْسِينَ خَمْسِينَ، وَأَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى شَاعَ فِي النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفقْرَ، فَازْدَحَمَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ يَطْلُبُونَ الْمَالَ حَتَّى اضْطَرُوهُ إِلَى سَمُرَةٍ (¬1)، فَخَطِفَتْ (¬2) رِداؤُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَعْطُوني رِدَائِي، فَلَوْ كَانَ عَدَدُ هَذِهِ الْعِضَاهِ (¬3) نَعَمًا (¬4) لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَخِيلًا، وَلَا كَذُوبًا، وَلَا جَبَانًا" (¬5). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - ذَمُّ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ الْبُخْلُ وَالْكَذِبُ وَالْجُبْنُ. 2 - أَنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَصلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خَصْلَةٍ مِنْهَا. 3 - وَفِيهِ مَا كَانَ فِي النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منَ الْحِلْمِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَسَعَةِ الْجُودِ وَالصَّبْرِ عَلَى جُفَاةِ الْأعرَابِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 386): السَّمُرَةُ: بفتح السين وضم الميم: شَجَرَةٌ طَوِيلَةٌ قَلِيلَةُ الظِّلِّ صَغِيرَةُ الْوَرَقِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 118): فَخَطِفَتْ: بكسر الطاء. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 118): الْعِضَاهُ: بكسر العين، هو شَجَرٌ ذُو شَوْكٍ. (¬4) النَّعَمُ: بفتح النون والعين: هي الْإِبِلُ والشَّاءُ. انظر لسان العرب (14/ 212). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الشجاعة في الحرب والجبن - رقم الحديث (2821) - وأخرجه في كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (3148) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16756).

* قصة الأعرابي

4 - وَفِيهِ جَوَازُ وَصْفِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَخَوْفِ ظَنِّ أَهْلِ الْجَهْلِ بِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الْفخْرِ الْمَذْمُومِ. 5 - وَفِيهِ رِضَا السَّائِلِ لِلْحَقِّ بِالْوَعْدِ إِذَا تَحَقَّقَ عَنِ الْوَاعِدِ التَّنْجِيزُ. 6 - وَفِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي قَسْمِ الْغَنِيمَةِ إِنْ شَاءَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَرْبِ، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ (¬1). وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَندٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بِالْجِعْرَانَةِ، فَازْدَحَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ بَعَثَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى قَوْمِهِ، فكَذَّبُوهُ وَشَجُّوهُ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ جَبِينِهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ". قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَمْسَحُ جَبْهَتَهُ، يَحْكِي الرَّجُلَ (¬2). * قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ: وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَاءٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفقْرَ. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (6/ 386). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4057) وأخرجه بنحوه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب (54) - رقم الحديث (3477).

* قصة أخرى

قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّ كَانَ الرَّجُلَ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الْإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا (¬1). * قِصَّةٌ أُخْرَى: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجِعْرَانَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ بِلال، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَا تُنْجِز لِي مَا وَعدتَنِي؟ (¬2). فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبْشِرْ". فَقَالَ: قَدْ أَكْثَرْتَ عَلَيَّ مِنْ أَبْشِر. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَبِي مُوسَى وَبِلَالٍ كَهيْئَةِ الْغَضْبَانِ فَقَالَ: "رَدَّ الْبُشْرَى فَاقْبَلَا أَنْتُمَا". قَالَا: قَبِلْنَا، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب ما سئل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا قط، فقال: "لا" - رقم الحديث (2312) (58) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخلافة والإمارة - رقم الحديث (4502) (6374). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 368): يحتمل أن الوعد كان خاصًا به، ويحتمل أن يكون عامًا، وكان طلبه أن يعجل له نصيبه من الغنيمة، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أمران تجمع غنائم حنين بالجعرانة، وتوجه هو بالعساكر إلى الطائف -كما تقدم- فلما رجع منها قسم الغنائم حينئذ بالجعرانة، فلهذا وقع في كثير ممن كان حديث عهد بالإسلام استبطاء الغنيمة واستنجاز قسمتها.

* لا توطأ الحبلى حتى تضع

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا وَأَبْشِرَا". فَأَخَذَا الْقَدَحَ فَفَعَلَا، فَنَادَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: أَنْ أَفْضِلَا لِأُمِّكُمَا، فَأَفْضَلَا لَهَا مِنْهُ طَائِفَةً (¬1). * لَا تُوطَأُ الْحُبْلَى (¬2) حَتَّى تَضَعَ: وَلَمَّا فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّبَايَا، نَادَى مُنَادِيهِ: "لَا تُوطَأُ الْحُبْلَى حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً" (¬3). رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يَوْمَ حُنَيْنٍ، بَعَثَ جَيْشًا إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقُوا عَدُوًّا، فَقَاتَلُوهُمْ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، وَأَصَابُوا لَهُمْ سَبَايَا، فكَأَنَّ نَاسًا مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحَرَّجُوا مِنْ غَشَيَانِهِنَّ مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {وَالْمُحْصَنَاتُ (¬4). . . . . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4328). (¬2) الحُبْلَى: بضم الحاء هي المرأة الحَامِلُ. انظر لسان العرب (3/ 31). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11823) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3048) - وإسناده حسن. (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (10/ 31): المراد بالْمُحْصَنَاتِ هنا: الْمُزَوَّجَاتُ، ومعناه: والمزوجات حرام على غير أزواجهن إلا ما ملكتم بالسَّبْي، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ زوجِها الكافرِ، وتحل لكم إذا انقضى اسْتِبْرَاؤُها. =

* شأن ذي الخويصرة التميمي

مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1)، أَيْ فَهُنَّ لَكُمْ حَلَالٌ إِذَا انْقَضَتْ (¬2) عِدَتُهُنَّ (¬3) * شَأْنُ ذِي الخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيِّ: ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلٌ، هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، وَاسْمُهُ حُرْقُوصُ (¬4) بْنُ زُهيْرٍ السَّعْدِيُّ، يَعْتَرِضُ عَلَى قِسْمَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْجِعْرَانَةِ، مُنْصَرَفه مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْبِضُ مِنْهَا، يُعطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! اعدِلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعدِلُ؟ ، لَقَدْ خِبْتُ ¬

_ = الِاسْتِبْرَاءُ: اختبارُ الأَمَةِ بِحَيْضَةٍ قبلَ الوَطْءِ، وهو طلبُ البَرَاءَةِ مِنْ حَملٍ، ربما يكون معها. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 118). (¬1) سورة النساء آية (24). (¬2) قال النووي في شرح مسلم (10/ 31): المراد بقوله: إذا انقضت عدتهن: أي استبراؤهن، وهي بوضع الحمل عن الحامل، وبحيضة من الحائل، كما جاءت به الأحاديث الصحيحة. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الرضاع - باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء - رقم الحديث (1456). (¬4) قال الحافظ في الإصابة (2/ 44): حُرْقُوصُ: بضم الحاء وسكون الراء وضم القاف. قلت: ولم تقع في رواية الشيخين في صحيحيهما تسمية هذا الرجل، وسَمَّاه الحافظ في الإصابة (2/ 44) - وابن الأثير في أسد الغابة (2/ 148).

وَخَسِرتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَؤُونَ الْقُرآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، دَعُوهُ، فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ (¬2) يَتَعَمَّقُونَ (¬3) فِي الدِّينِ، حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ (¬4)، يَنْظُر فِي النَّصلِ (¬5)، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، ثُمَّ فِي الْقِدْحِ (¬6) فَلَا يُوجَدُ شَيْء، ثُمَّ فِي. . . . . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب ذكر الخوارج وصفاتهم - رقم الحديث (1063) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14804). (¬2) الشِّيعَةُ: أي الْأَنْصَارُ. انظر النهاية (2/ 464). (¬3) الْمُتَعَمِّقُ: الْمُبَالِغُ في الأمرِ الْمُتَشَدِّدُ فيه، الذي يطلبُ أقصى غَايتِهِ. انظر النهاية (3/ 271). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 325): شَبَّة مُرُوقَهُم مِنَ الدِّينِ بالسهم الذي يُصيبُ الصَّيْدَ، فيدخل فيه، ويخرج منه، ومِنْ شِدَّةِ سُرعَةِ خُرُوجِهِ -لقوة الرامي- لا يعلقُ مِنْ جَسَدِ الصَّيْدِ شَيْءٌ. (¬5) النَّصلُ: الْحَدِيدَةُ التي في السَّهْمِ والرُّمْحِ. انظر لسان العرب (14/ 167). (¬6) الْقِدحُ: بكسر القاف وسكون الدال: عُودُ السَّهمِ قبل أَنْ يُرَاشَ ويُنْصَلَ. انظر لسان العرب (11/ 51).

* قصة أخرى شبيهة بها

الفُوْقِ (¬1)، فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ (¬2) وَالدَّمَ" (¬3). * قِصَّةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا: قُلْتُ: وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (¬4) مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قِصَّةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بقِصَّةِ حُرْقُوصٍ، عِنْدَمَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَكَانَ الْمَقْسُومُ فِيهَا ذَهبًا، بَعَثَهُ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ وَهُمْ: عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَزَيْدُ الْخَيْلِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا فِي وَقْتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِنْكَارُ القَائِلِ، وَصَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ. ¬

_ (¬1) الفُوْق: بضم الفاء: وهو مَوْضعُ الوَتْرِ منَ السهمِ. انظر النهاية (3/ 432). (¬2) سَبَقَ الفرثَ والدَّمَ: أي مَرَّ سَريعًا في الرَّمِيَّةِ، وخرجَ منها، لم يَعلَقْ منها بشيء منْ فَرْثِها ودَمِها لِسُرْعَتِهِ، شبَّهَ به خُرُوجَهُم منَ الدِّينِ، ولم يعلقوا بشيء منه. انظر النهاية (2/ 305). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7038) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 149) - وأورده الحافظ في الفتح (14/ 296) - وحسن إسناده. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3610) - وكتاب المغازي - باب بعث عليّ بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4351) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب ذكر الخوارج وصفاتهم - رقم الحديث (1064) (148) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده (11008).

* قدوم حليمة السعدية على الرسول -صلى الله عليه وسلم-

قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ، وَعِنْدَ قِسْمَةِ الذَّهَبِ الذِي بَعَثَهُ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * قُدُومُ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: قَدْ قَدِمَتْ حَلِيمَةُ السَّعْدِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الرَّضَاعَةِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِالْجِعِرَانَةِ، فَأَكْرَمها رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقْسِمُ لَحمًا بِالْجِعْرَانَةِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ أَحْمِلُ عُضْوَ الْبَعِيرِ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ بَدَوِيَّةٌ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ، فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ التِي أَرضَعَتْهُ (¬2). * عَتْبُ الْأَنْصَارِ وَخُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِمْ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّ النَّاسِ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَّا الْأَنْصَارَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَوَجَدُوا (¬3) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَنْفُسِهِم، حَتَّى إِنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ قَصِيدَةً فِي ذَلِكَ يَقُولُ فِيهَا: ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (14/ 296). (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (209) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الرضاع - باب ما يستحب للمرء إكرام من أرضعته في صباه - رقم الحديث (4232) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (5144). (¬3) وَجِدَ: حَزِن. انظر لسان العرب (15/ 220).

زَادَتْ هُمُومٌ هَمَاءُ الْعَينِ يَنْحَدِرُ ... سَحًّا (¬1) إِذَا حَفّلتَهُ (¬2) عَبْرَةٌ (¬3) دِرَرُ (¬4) وَجْدًا بِشَعْثَاءَ (¬5) إِذْ شَعْثَاءُ بَهْكنَةٌ (¬6) ... هيْفَاءُ (¬7) لَا دَنَسٌ (¬8) فِيهَا وَلَا خَوَرُ (¬9) دَعْ عَنْكَ شَعْثَاءَ إِذْ كَانَتْ مَوَدَّتُهَا ... نَزْرًا (¬10) وَشَرُّ وِصَالِ الْوَاصِلِ النَزْرُ وَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ ... لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا مَا عُدِّلَ الْبَشَرُ عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهِيَ نَازِحَةٌ ... أَمَامَ قَوْمٍ هُمُ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا سَمَّاهُمُ اللَّهُ أَنْصَارًا لِنَصْرِهِمِ ... دِينَ الهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ ¬

_ (¬1) سَحًّا: أي دَائِمَةَ الصَّبِّ والْهَطَلِ. انظر النهاية (2/ 311). (¬2) حفلته: أي مُمْتَلِئَةٌ. انظر النهاية (1/ 393). (¬3) الْعَبرَةُ: بفتح العين: الدَّمْعَةُ. انظر لسان العرب (9/ 18). (¬4) دِرَرٌ: سَالَ. انظر لسان العرب (4/ 325). (¬5) قال الحافظ في الإصابة (8/ 201): الشَّعْثَاءُ هي امرأةُ حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه-، وهي التي كان يُشَبِّبُ بِهَا في غَزَلِ قَصَائِدهِ. (¬6) امرأة بهكنة: غَضَّةٌ، وهي ذَاتُ شَبَابٍ، بَهْكَن: أي غَضٍّ. انظر لسان العرب (1/ 521). (¬7) الْهيْفُ: رِقَّةُ الْخَصْرِ، وضُمُورُ الْبَطْنِ، يقال: امرأةٌ هيفَاءُ. انظر لسان العرب (15/ 181). (¬8) الدَّنَسُ في الثِّيابِ: الوَسَخُ ونحوه، وحتى في الأخلاق. انظر لسان العرب (4/ 416). (¬9) الْخَوَرُ: بالتحريك: الضَّعْفُ. انظر النهاية (2/ 82). (¬10) النَّزْرُ: القَلِيلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. انظر لسان العرب (14/ 104).

وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْترَفُوا ... لِلنَّائِبَاتِ فَمَا خَامُوا (¬1) وَمَا ضَجِرُوا وَالنَّاسُ أَلْبٌ (¬2) عَلَيْنَا ثَمَّ لَيْسَ لَنَا ... إِلَّا السُّيُوفُ وَأَطْرَافُ القَنَا (¬3) وَزَرُ (¬4) وَلَا يَهُرُّ (¬5) جَنَابَ الْحَرْبِ مَجْلِسُنَا ... وَنَحْنُ حِينَ تَلَظَّى نَارُها سُعُرُ كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا ... أَهْلَ النِّفَاقِ وَفِينَا أُنْزِلَ الظَّفَرُ وَنَحْنُ جُنْدُكَ يَومَ النَعْفِ (¬6) مِنْ أُحُدٍ ... إِذْ حَزَّبَتْ بَطَرًا (¬7) أَشْيَاعَها مُضَرُ فَمَا وَنَيْنَا (¬8) وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبَرُوا ... مِنَّا عِثَارًا (¬9) وَجُلُّ الْقَوْمِ قَدْ عَثَرُوا (¬10) ¬

_ (¬1) الْخَائِمُ: الْجَبَانُ، وخَامَ عَنِ القِتَالِ: جَبُنَ عَنْهُ. انظر لسان العرب (4/ 270). (¬2) تَأَلَّبُوا عليه: إذا تَضَافروا واجْتَمَعُوا عليه. انظر لسان العرب (1/ 177). (¬3) الْقَنَا: الرِّمَاحُ. انظر لسان العرب (11/ 330). (¬4) يقال: وَزَرَ يَزِرُ فهو وَازِرٌ: إذا حَمَلَ ما يثقِلُ ظَهْرَهُ من الأشياءِ الْمُثْقَلَةِ. انظر النهاية (5/ 156) (¬5) هَرَّ: كَرِهَ. انظر لسان العرب (15/ 72). (¬6) نَعَفُ أحُدٍ: أَسْفَلُهُ. انظر لسان العرب (14/ 205). (¬7) الْبَطَرُ: الْكِبْرُ. انظر النهاية (1/ 134). (¬8) الْوَنُ: الضَّعْفُ. انظر لسان العرب (15/ 410). (¬9) الْعَثْرَةُ: الزَّلَّةُ. لسان العرب (9/ 45). (¬10) انظر سيرة ابن هشام (4/ 150) - والقصيدة موجودة كذلك في ديوان حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه-، ص 120.

وَقَالَ أَحْدَاثُهُمْ (¬1): يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ (¬2). وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالُوا: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فنَحْنُ نُدْعَى، وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنا (¬3)، وَكثُرَتْ فِيهمُ القَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُم: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْمَهُ (¬4). فَانْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- سَيِّدُ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الفيْءِ الذِي أَصَبْتَ، فَقَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قبائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَنَا إِلَّا امرُؤٌ مِنْ قَوْمِي (¬5). ¬

_ (¬1) الحَدَث: هو الشَّابُّ. انظر لسان العرب (3/ 76). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4331) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (132). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4337) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (135). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11730) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 152) - وإسناده حسن. (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11730) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 152) - وإسناده حسن.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ". فَخَرَجَ سعدٌ، فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَحَمِدَ اللَّه، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالذِي هُو له أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ؟ وَمُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ ، وَعَالَةً (¬1) فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ ". قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُوله أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ ". قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، وَللَّهِ وَلرَسُولهِ الْمَنُّ وَالفَضْلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُم لَقُلْتُم فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآويْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ". ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَجِدتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ (¬2) مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ؟ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ ¬

_ (¬1) العَالَةُ: الْفُقَرَاءُ. انظر جامع الأصول لابن الأثير (8/ 390). (¬2) لُعَاعَةٌ مِنَ الدنيا: أي شَيْءٌ يسيرٌ من الدنيا. انظر لسان العرب (12/ 290).

* ترتيب عجيب

فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعبا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ (¬1)، وَالنَّاسُ دِثَارٌ (¬2)، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ". فَبَكَى الْأَنْصَارُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ حَتَّى أَخْضَلُوا (¬3) لِحَاهُم، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُول اللَّهِ قِسْمًا وَحظًّا (¬4). * تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ رَتَّبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى يَدِهِ مِنَ النِّعَمِ تَرْتِيبًا بَالِغًا، فبَدَأَ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ التِي لَا يُوَازِيها شَيْءٌ مِنْ أَمرِ الدُّنْيَا، وَثَنَّى بِنِعْمَةِ الْأُلفةِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَموَالَ تُبْذَلُ فِي تَحْصِيلِها، وَقَدْ لَا تُحَصَّلُ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَنْصَارُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فِي غَايَةِ التَّنَافُرِ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 375): الشِّعَارُ: بكسر الشين هو: الثَّوْبُ الذِي يَلِي الْجِلْدَ من الْجَسَدِ. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 375): الدِّثَارُ: بكسر الدال: هو الذي فوق الشعار، وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأراد أيضًا أنهم بطانته وخاصته، وأنهم أَلْصَقُ به وأقربُ إليه من غيرهم. (¬3) خَضَل لحيته: بَلَّها بالدموع. انظر النهاية (2/ 42). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4330) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (1061) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12021) (11730) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 152).

* فوائد الحديث

وَالتَّقَاطُعِ، فَزَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - إِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ وَإِفْحَامُهُ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. 2 - وَفِيهِ حُسْنُ أَدَبِ الْأَنْصَارِ فِي تَركِهِمُ الْمُمَارَاةَ (¬2). 3 - وَالْمبالَغَةُ فِي الْحَيَاءِ. 4 - وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الذِي نَقَلَ عَنْهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَنْ شَبَابِهمْ لَا عَنْ شُيُوخِهِمْ وَكُهُولِهِمْ. 5 - وَفِيهِ مَنَاقِبُ عَظِيمَةٌ لَهُمْ لِمَا اشْتَمَلَ مِنْ ثَنَاءِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْبَالِغِ عَلَيْهِمْ. 6 - وَفِيهِ الْمُعَاتَبةُ وَاسْتِعْطَاف الْمُعَاتَبِ وَإِعتَابهُ عَنْ عَتْبِهِ بِإِقَامَةِ حُجَّةِ مَنْ عَتَبَ عَلَيْهِ. 7 - وَفِيهِ الِاعتِذَارُ وَالِاعتِرَافُ. 8 - وَفِيهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَفْضِيلَ بعضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ فِي مَصَارِفِ الفيْءِ، وَأَنَّ له أَنْ يُعطِيَ الْغَنِيَّ مِنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ. 9 - وَفِيهِ أَنَّ مَنْ طَلَبَ حَقَّهُ مِنَ الدُّنْيَا لَا عَتَبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (63). (¬2) الْمُمَارَاةُ: الْمُجَادَلَةُ على مذهبِ الشَّكَ والرِّيبَةِ. انظر النهاية (4/ 275).

* الحكمة من إعطاء المؤلفة قلوبهم

10 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْأَمرِ الذِي يَحْدُثُ سَوَاءً كَانَ خَاصًّا أَمْ عَامًّا. 11 - وَفِيهِ جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْخُطْبَةِ. 12 - وَفِيهِ تَسْلِيَةُ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا مِمَّا حَصَلَ لَهُ مِنْ ثَوَابِ الآخِرَةِ. 13 - وَفِيهِ الْحَضُّ عَلَى طَلَبِ الْهِدَايَةِ وَالْأُلفةِ وَالْغِنَى. 14 - وَفِيهِ أَنَّ الْمِنَّةَ للَّهِ وَرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى الْإِطْلَاقِ. 15 - وَفِيهِ تَقْدِيمُ جَانِبِ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا، وَالصَبْرُ عَمَّا فَاتَ مِنْهَا؛ لِيدَّخَرَ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ فِي الآخِرَةِ، وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (¬1). * الْحِكْمَةُ مِنْ إِعطَاءِ الْمُؤَلَفةِ قُلُوبُهم: وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمْ الْحِكْمَةَ فِي إِعطَاءِ هَذِهِ الْأموَالِ الْعَظِيمَةِ لِسَادَاتِ الْعَرَبِ، وَحِرمَانِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُم (¬2) وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ (¬3) أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِم مِنَ الْخَيْرِ وَالْغِنَى، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ تَغْلِبٍ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 373 - 375). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 385): ظَلعَهُم: بفتح الظاء: أي اعْوِجَاجُهُم. (¬3) أَكِلُ: بفتح الهمزة وكسر الكاف وضم اللام: أي أَلْجَأُ وأَعْتَمِدُ. انظر النهاية (5/ 192). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (3145) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20672).

قَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبٍ (¬1) -رضي اللَّه عنه-: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُمُرَ النَّعَمِ (¬2). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي لأُعطِي رِجَالًا حَدِيثُ عَهْدِهِم بِكُفْرٍ" (¬3). وَفي رِوَايَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ قُرَيْشًا حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَمُصِيبَةٍ، وَإنِّي أَرَدتُ أَنْ أَجْبُرَهم وَأَتَأَلَّفَهُم" (¬4). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ (¬5) بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاع الْأَرْضِ (¬6)، كلُّهُم مِثْلُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَع بْنِ حَابِسٍ، وَلَكِنِّي تَأَلَفْتُهُمَا لِيُسْلِمَا، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إِلَى إِسْلَامِهِ -رضي اللَّه عنه-" (¬7). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 385) تَغْلِب: بفتح التاء وسكون الغين وكسر اللام. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (15/ 490): أي ما أحب أن في بدل كلمته -صلى اللَّه عليه وسلم- النعم الحمر؛ لأن الصفة المذكورة تدل على قوة إيمانه المفضي به لدخول الجنة، وثواب الآخرة خير وأبقى. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم - رقم الحديث (3147) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (132). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4334) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام - رقم الحديث (1059) (133). (¬5) جُعَيل: بضم الجيم وفتح العين، وكان -رضي اللَّه عنه- من فقراء المسلمين، أسلم قديمًا، وأصيبت عينه يوم بني قريظة، وكان دميمًا قبيح الوجه، وأثنى عليه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووكله إلى إيمانه -رضي اللَّه عنه-. انظر أسد الغابة (1/ 324). (¬6) طِلَاعُ الأرضِ: بكسر الطاء: مَا يَملَؤها حتى يَطْلُعَ عَنها ويَسيلُ. انظر النهاية (3/ 121). (¬7) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (4/ 149) بإسناد مرسل صحيح، وله شاهد =

* قصة عاصم بن عدي -رضي الله عنه-، وحديث: "ما ذئبان جائعان"

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: فَظَهرَتْ بِهذَا الْحِكْمَةُ فِي حِرمَانِ جُعَيْلِ بْنِ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَإِعْطَاءَ غَيْرِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَصلَحَةِ التَّأْلِيفِ (¬1). وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَانَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى سِيَاسَةٍ حَكِيمَةٍ، فَإِنَّ فِي الدُّنْيَا أَقْوَامًا كَثِيرِينَ يُقَادُونَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ بُطُونِهِمْ لَا مِنْ عُقُولِهِمْ، فَكَمَا تُهْدَى الدَّوَابُّ إِلَى طَرِيقِهَا بِحِزْمَةِ برسِيمٍ تَظَلُّ تَمُدُّ إِلَيْهَا فَمَهَا حَتَّى تَدْخُلَ حَظِيرَتَها آمِنَةً، فكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ مِنَ الْبَشَرِ تَحْتَاجُ إِلَى فُنُونٍ مِنَ الْإِغْرَاءَ حَتَّى تَسْتَأْنِسَ بِالْإِيمَانِ، وَتَهُشَّ له، وَقَدْ خَفِيَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ أَوَّلَ الْأَمْرِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى قَالَتِ الْأَنْصَارُ مَا قَالَتْ، وَحَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- مَا قَالَ فِي جُعَيْلِ بْنِ سُرَاقَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا اسْتَبَانَ لَهُمُ الْأَمْرُ صَارُوا بِالذِي سَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقَرَّ عَيْنًا، وَأَشَدَّ اغْتِبَاطًا مِنْهُمْ بِالْمَالِ (¬2). * قِصَّةُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، وَحَدِيثُ: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ": رَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: اشْتَرَيْتُ أَنَا وَأَخِي مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِ حُنَيْنٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: ¬

_ = موصول صحيح، أورده الحافظ في الإصابة (1/ 596) - والفتح (1/ 114) - وإسناده صحيح - وأصله في صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة - رقم الحديث (27) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه - رقم الحديث (150) (237). (¬1) انظر فتح الباري (1/ 114). (¬2) انظر فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ص 394.

"يَا عَاصِمُ مَا ذِئْبَانِ عَادِيَانِ أَصَابَا فَرِيسَةَ غَنَمٍ أَضَاعَهَا رَبُّهَا (¬1) بِأَفْسَدَ فِيهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرصِ الْمَرء عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" (¬3). قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: فَهَذَا مَثَلٌ عَظِيمٌ جِدًّا ضَرَبَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِفَسَادِ دِينِ الْمُسْلِمِ بِالْحِرصِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ بِذَلِكَ لَيْسَ بِدُونِ فَسَادِ الْغَنَمِ بِذِئْبَيْنِ جَائِعَيْنِ ضَارِيَيْنِ بَاتَا فِي الْغَنَمِ قَدْ غَابَ عَنْهَا رِعَاؤُها لَيْلًا، فَهُمَا يَأْكُلَانِ فِي الْغَنَمِ وَيَفْتَرِسَانِ فِيهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنَ الْغَنَمِ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ حرصَ الْمرءَ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ إِفْسَادٌ لِدِينِهِ، لَيْسَ بِأَقَلَّ مِنْ إِفْسَادِ الذِّئْبَيْنِ لهذه الْغَنَمِ (¬4). ¬

_ (¬1) الرَّبُّ: يُطْلَقُ في اللغة على الْمَالك والسَّيِّدِ، والْمُدَبِّرِ، والْمُرَبِّي. انظر النهاية (2/ 165). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب مذمة حب المال - رقم الحديث (5826). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15784) - والترمذي في جامعه - كتاب الزهد - باب ما جاء في أخذ المال - رقم الحديث (2533) - وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) انظر كلام ابن رجب رَحِمَهُ اللَّهُ في رسالة له في شرح هذا الحديث ص 21 - تحقيق: محمد صبحي حَلَّاق.

* نذر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-

* نَذْرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، بَعْدَ أَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ (¬1)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي نَذَرتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (¬2) أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَيْفَ تَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ يَوْمًا". قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَعْطَاهُ جَارِيَةً (¬3) مِنَ الْخُمُسِ، فَلَمَّا أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَايَا النَّاسِ، سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أَصْوَاتَهُمْ يَقُولُونَ: أَعْتَقَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَا هَذَا؟ قَالُوا: أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَايَا النَّاسِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْجَارِيَةِ فَخَلِّ سَبِيلَهَا (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4320): لما قفلنا -أي رجعنا- من حنين. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (13/ 443): المراد بقول عمر -رضي اللَّه عنه- في الجاهلية: قبل إسلامة، لأن جاهلية كل أحد بحسبه، ووَهِم من قال: الجاهلية في كلامه زمن فترة النبوة، والمراد بها هنا ما قبل بعثة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن هذا يتوقف على النقل، وقد تقدم أنه نذر قبل أن يُسلم، وبين البعثة وإسلامه مدة. (¬3) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (6418): غلام. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الطائف - رقم الحديث (4320) - كتاب فرض الخمس - باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم - رقم =

* قدوم وفد هوازن

* قُدُومُ وَفْدِ هَوَازِنَ: وَبَعْدَ أَنْ قُسِمَتِ الْغَنَائِمُ قَدِمَ وَفْدُ هوَازِنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَرَأْسُهُم: زُهيْرُ بْنُ صُردٍ، فبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، فَمُنَّ عَلَيْنَا، مَنَّ اللَّه عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، وَقَالَ زُهيْرُ بْنُ صُردٍ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ (¬1): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ (¬2) عَمَّاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفَلْنَكَ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ وَسَبْيَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ، فَاخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْظَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ (¬3) مِنَ الطَّائِفِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلَّا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: فَإِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلبنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ، فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ، فَقُوُلُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي نِسَائِنَا وَأَبْنَائِنَا". ¬

_ = الحديث (3144) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأيمان - باب نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم - رقم الحديث (1656) (28) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4922) (6418). (¬1) وهم قوم حليمة السعدية مرضعة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) الْحَظِيرَةُ: هي الْمَوْضِعُ الذي يُحَاطُ عليه، ويَقْصِدُ الأسرى. انظر النهاية (1/ 389). (¬3) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 82).

فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، قَامُوا فتَكَلَّمُوا بِالذِي أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ جَاؤُوا تَائِبِينَ، وَإنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَهُوَ لَكُمْ". وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: مَا كَانَ لَنَا، فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلبَنِي فزَارَةَ، فَلَا، وَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ، فَلَا، وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ، فَلَا، فَقَالَتِ الْحَيَّانِ: كَذَبْتَ، بَلْ هُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَمَنْ تَمْسَّكَ بِشَيءٍ مِنَ الْفَيءِ، فَلَهُ عَلَيْنَا سِتَّةُ فَرَائِضٍ (¬1) مِنْ أوّلِ شَيْءٍ يُفِيئُهُ اللَّهُ عَلَيْنَا"، فَرَدَّ النَّاسُ عَلَى هَوَازِنَ جَمِيعَ السَّبْيِ (¬2). ¬

_ (¬1) الفَرَائِضُ: جمع فَرِيضَةٍ، وهو البعير المأخوذ من الزكاة، سُمي فريضة؛ لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حَتَّى سُمي البعيرُ فريضةً في غير الزكاة. انظر النهاية (3/ 387). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} - رقم الحديث (4318) (4319) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6729) (18914) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4509) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 141).

* إسلام مالك بن عوف النصري

* إِسْلَامُ مَالِكٍ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ: وَقَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ رَئِيسُ هَوَازِنَ فَأَسْلَمَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَأَلَ وَفْدَ هَوَازِنَ عَنْ مَالِكٍ بْنِ عَوْفٍ مَا فَعَلَ؟ . فَقَالُوا: هُوَ بِالطَّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحَبْسِ أَهْلِهِ عِنْدَ عَمَّتِهِمْ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِوَفْدِ هَوَازِنَ: "أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنَّهُ إِنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْتُ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَيْتُهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ". فَلَمَّا أُخْبِرَ مَالِكٌ بِذَلِكَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيِّئَتْ لَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الطَّائِفِ لَيْلًا، حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ، وَقِيلَ: بِمَكَّةَ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَهْلَهُ وَمَالَهُ، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ (¬1) إِلَّا أَغَارَ عَلَيْهِ حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ (¬2). * اعْتِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْجِعْرَانَةِ: وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ في الْجِعْرَانَةِ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ تُسَمَّى عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ في ¬

_ (¬1) السَّرْحُ: بفتح السين: الْماشيةُ. انظر النهاية (2/ 322). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 143) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 198).

جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُحَرِّشٍ (¬1) الْكَعْبِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا، فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا، فَقَضَى عُمْرَتِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ، خَرَجَ في بَطْنِ سَرِفٍ (¬2) حَتَّى جَاءَ مَعَ الطَّرِيقِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَفِيَتْ عُمْرَتُهُ عَلَى النَّاسِ (¬3). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ، فَرَمَلُوا (¬4) بِالْبَيْتِ، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، قَدْ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى (¬5). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ قَتادَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أنَسًا -رضي اللَّه عنه-: كَمِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: أَرْبَعَ عُمَرٍ، كُلّهُنَّ في ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا التِي مَعَ حَجَّتِهِ: عُمْرَةٌ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ (¬6) في ذِي ¬

_ (¬1) مُحَرِّش: بضم الميم وتشديد الراء المكسورة. (¬2) سَرِف: بفتح السين وكسر الراء: موضع من مكة على عشرة أميال. انظر النهاية (2/ 326). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15513) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في العمرة من الجعرّانة - رقم الحديث (953). (¬4) الرَّمَلُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ وهَزُّ الْكَتِفَيْنِ. انظر النهاية (2/ 214). (¬5) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب الاضْطِبَاعِ في الطواف - رقم الحديث (1884) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1432). (¬6) وهي عمرة القضاء.

* استخلاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- على مكة

القعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ في ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ حَجَّتِهِ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ، وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، وَعُمْرَتَهُ التِي مَعَ حَجَّتِهِ (¬2). * اسْتِخْلَافُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى مَكَّةَ: اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يَرْجعَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى مَكَّةَ، وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ في الْإِسْلَامِ عَلَى مَكَّةَ (¬3). * قِصَّةُ أَبِي مَحْذُورَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَفي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ لَقِيَهُ أَبُو مَحْذُورَةَ -رضي اللَّه عنه-, فَأَسْلَمَ, وَلَهُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العمرة - باب كم اعتمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ - رقم الحديث (1778) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة الحديبية - رقم الحديث (4148) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان عدد عمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وزمانهن - رقم الحديث (1253). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده (2211) - وابن حبان في صحيحه - باب ما جاء في حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واعتماره - رقم الحديث (3946). (¬3) أخرج استخلافَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَتَّابَ بنَ أَسيد -رضي اللَّه عنه- على مكة: الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1453) - وحَسّن إسناده الحافظ في الإصابة (4/ 356).

قِصَّةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْتُ في نَفَرٍ، فَكُنَّا بِبَعْضِ طَرِيقِ حُنَيْنٍ، فَقَفَلَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حُنَيْنٍ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالصَّلَاةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَمِعْنَا الصَّوْتَ وَنَحْنُ مُتَنَكِّبُونَ (¬2) عَنِ الطَّرِيقِ، فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ، وَنَسْتَهْزِئُ بِهِ، فَسَمعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّوْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا إِلَى أَنْ وَقَفْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيَّكُمُ الذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ؟ "، فَأَشَارَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ، وَصَدَقُوا، فَأَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَحَبَسَنِي عِنْدَهُ، وَلَا شَيْءَ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِمَّا يَأْمُرُنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَرَنِي بِالْأَذَانِ، وَأَلْقَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيَّ نَفْسُهُ الْأَذَانَ، فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُ كبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ كبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ"، ثُمَّ قَالَ لِي: "ارْجعْ وَامْدُدْ صَوْتَكَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفلَاحِ، حَيَّ عَلَى الفلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". قَالَ أَبُو مَحْذُورَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ التَّأْذِينِ، دَعَانِي رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِي (¬3)، ثُمَّ أَمَارَّهَا ¬

_ (¬1) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 82). (¬2) نَكَبَ عن الطريق: إذا عَدَلَ عنهُ، وتجنبه. انظر النهاية (5/ 98). (¬3) الناصِيَةُ: مُقَدِّمُ الرأسِ، وهي الْجَبْهَةُ. انظر لسان العرب (14/ 169).

عَلَى وَجْهِي مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَرَّ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ عَلَى كَبِدِي، ثُمَّ بَلَغَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُرَّتِي، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ" (¬1). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ"، وَذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ كَرَاهِيَةٍ، وَعَادَ ذَلِكَ مَحَبَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدِمْتُ عَلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، عَامِلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ، فكنْتُ أُأَذِّنُ بِمَكَّةَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَكَانَ عُمْرُ أَبِي مَحْذُورَةَ -رضي اللَّه عنه- سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَذَّنَ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةً تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَتَوَارَثَ وَلَدُهُ، وَوَلَدُ وَلَدِهِ الْأَذَانَ بَعْدَهُ بِمَكَّةَ في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (¬3). قَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لِبَعْضِهِمْ: أَمَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَةْ ... وَمَا تَلَا مُحَمَّدٌ مِنْ سُورَهْ وَالنَّغَمَاتُ مِنْ أَبِي مَحْذُورَةْ ... لَأَفْعَلَنَّ فِعْلَةً مَذْكُورَهْ (¬4) ¬

_ (¬1) في رواية ابن حبان: "اللهم بارك فيه وبارك عليه". (¬2) أخرج قصة أبي محذورة -رضي اللَّه عنه-: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15380) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الأذان - رقم الحديث (1680) - وأخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الأذان - باب الترجيح في الأذان - رقم الحديث (708) - وأصل القصة في صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب صفة الأذان - رقم الحديث (379). (¬3) انظر تهذيب التهذيب (4/ 582) للحافظ ابن حجر - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (5/ 312). (¬4) انظر تهذيب التهذيب (4/ 582).

* رجوع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة

* رُجُوعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمَدينَةِ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، فَقَدِمَهَا لِسِتِّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةً ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ (¬1). قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: للَّهِ مَا أَفْسَحَ الْمَدَى بَيْنَ هَذِهِ الْأَوْبَةِ (¬2) الظَّافِرَةِ بَعْدَ أَنْ تَوَجَّ اللَّهُ هَامَتَهُ بِالفتْحِ الْمُبِينِ، وَبَيْنَ مَقْدِمِهِ إِلَى هَذَا الْبَلَدِ النَّبِيلِ مُنْذُ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ؟ لَقَدْ جَاءَهُ مُطَارَدًا يَبْغِي الْأَمَانَ، غَرِيبًا مُسْتَوْحِشًا يَنْشُدُ الْإِيلَافَ (¬3) وَالْإِيْنَاسَ، فَأَكْرَمَ أَهْلُهُ مَثْوَاهُ، وَآوَوْهُ وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَاسْتَخَفُّوا بِعَدَاوَةِ النَّاسِ جَمِيعًا مِنْ أَجْلِهِ، وَهَا هُوَ ذَا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ التِي اسْتَقْبَلَتْهُ مُهَاجِرًا خَائِفًا لِتَسْتَقْبِلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَدْ دَانَتْ لَهُ مَكَّةُ، وَأَلْقَتْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ كِبْرِيَاءَهَا وَجَاهِلِيَّتَهَا، فَأَنْهَضَهَا لِيُعِزَّهَا بِالْإِسْلَامِ، وَعَفَا عَنْ خَطِيئَاتِهَا الْأُولَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 154). (¬2) الْأَوْبَةُ: الرُّجُوعُ. انظر لسان العرب (1/ 258). (¬3) أَلِفْتُ الشيءَ: إذا أَنِسْتُ به. انظر لسان العرب (1/ 180). (¬4) سورة يوسف آية (90) - وانظر كلام الشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في فقه السيرة، ص 400.

الأحداث بين غزوة الطائف وغزوة تبوك

الأَحْدَاثُ بَيْنَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَغَزْوَةِ تَبُوكَ قُدُومُ كَعْبِ بْنِ زُهَير بْنِ أَبِي سُلْمَى وَإِسْلامُهُ: ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى مِمَّنْ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَمَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَهْجُوهُ بِشِعْرِهِ، وَكَانَ شَاعِرًا مُخَضْرَمًا، وَكَانَ أَبُوهُ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي سُلْمَى، صَاحِبَ إِحْدَى الْمُعَلَقاتِ السَّبْعِ الْمَشْهُورَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَهْدَرَ دَمَهُ خَافَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، وَقِصَّتُهُ أَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ، وَابْنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ: أَنَّهُ خَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ بُجَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَتَيَا أَبْرَقَ الْعُزَافِ (¬1)، فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ: اثْبُتْ في غَنَمِنَا هُنَا حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ -يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْمَعَ مَا يَقُولُ، فَأَقَامَ كَعْبٌ، وَمَضَى بُجَيْرٌ، فَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا، قَالَ: أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَخًا لَكَ سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأَسًا رَوِيَّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا ¬

_ (¬1) أَبْرَقُ الْعُزَافِ: مَاءٌ لبني أسد، وهو في الطريق المقاصد إلى المدينة من البصرة. انظر معجم البلدان (1/ 65).

وَبَعَثَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِلَى أَخِيهِ بُجَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا عَلِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ لَقِيَ كَعْبًا فَلْيَقْتُلْهُ". فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ، وَرَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ الطَّائِفِ كتَبَ بُجَيْرٌ إِلَى أَخِيهِ كَعْبٍ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ في نَفْسِكَ حَاجَةٌ فَطِرْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ مُسْلِمًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ بِنَفْسِكَ، وَمَا أَرَاكَ تُفْلِتُ، ثُمَّ كتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْيَاتًا مِنْهَا: مَنْ مُبَلِّغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ في التِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ إِلَى اللَّهِ لَا الْعُزَّى وَلَا اللَّاتِ، وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلَتٍ ... مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَاهِرُ القلْبِ مُسْلِمُ وَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَأَسْلِمْ، وَأَقْبِلْ. فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَرْجَفَ (¬1) بِهِ مَنْ كَانَ في حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، فَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدًّا أَسْلَمَ، وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الرَّائِعَةَ التِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالْمَعْرُوفَةُ بِاسْمِ "بَانَتْ سُعَادُ"، ذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ (¬2) بِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى ¬

_ (¬1) أَرْجَفَ القَومُ: إذا خَاضُوا في الأخبارِ السّيئةِ، وذكر الفتن. انظر لسان العرب (5/ 153). (¬2) الْوَاشِي: النَّمَّامُ. انظر لسان العرب (15/ 313).

قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَلَاتِهِ أَتَاُه كَعْبٌ، وَكَانَ رَسُولٌ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إِنْ أَنَا جِئْتُكَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعْهُ عَنْكَ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ"، ثُمَّ أَنْشَدَ كَعْبٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ وَالْمَعْرُوفَةَ "بَانَتْ سُعَادُ"، يَقُولُ في مَطْلَعِهَا: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَمِنْهَا: نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ مَهْلًا هَدَاكَ الذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ ... الْقُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ وَمِنْهَا: إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ في عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا

فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبٌ قَوْلَهُ: إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ. . . رَمَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُرْدَتَهُ التِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَذَلَ فِيهَا عَشَرَةَ آلَافٍ، فَقَالَ كَعْبٌ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ كَعْب بَعَثَ مُعَاوِيَةُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى وَرَثَتِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَهَا مِنْهُمْ، وَيُقَالُ: وَهِيَ الْبُرْدَةُ التِي عِنْدَ السَّلَاطِينِ (¬1). قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الشَّوْكَانِيُّ: وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ قَدْ رَوَيْنَاهَا مِنْ طُرُقٍ لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ، وَذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ (¬2). وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا مِنَ الْأَمُورِ الْمَشْهُورَةِ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ ذَلِكَ في شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب إسلام كعب بن زهير - رقم الحديث (6536) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 154). (¬2) انظر نيل الأوطار للشوكاني (3/ 585). (¬3) انظر البداية والنهاية (4/ 775).

وفد ثعلبة

وَفْدُ ثَعْلَبَةَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرْجِعَهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَفْدُ بَنِي ثَعْلَبَةَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ مَنْ خَلْفَنَا مِنْ قَوْمِنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَنْزَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَارَ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأَمَرَ لَهُمْ بِضِيَافَةٍ، فَجَاءَهُمْ بِلَالٌ -رضي اللَّه عنه- بِجَفْنَةٍ (¬1) مِنْ ثَرِيدٍ (¬2) بِلَبَنٍ وَسَمْنٍ، فَأَكَلُوا، ثُمَّ شَهِدُوا الظُّهْرَ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ لَا إِسْلَامَ لِمَنْ لَا هِجْرَةَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَيْثُمَا كُنْتُمْ وَاتَّقَيْتُمُ اللَّه فَلَا يَضُرُّكُمْ"، وَأَقَامُوا أَيَّامًا، ثُمَّ جَاؤُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُوَدِّعُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِبِلَالٍ: "أَجْزِهِمْ كَمَا تُجِيزُ الْوَفْدَ"، فَجَاءَ بِنَقْرٍ مِنْ فِضَّةٍ (¬3)، فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسَ أَوَاقٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) الْجَفْنَةُ: معروفة، وهي أعظم ما يكون من القِصَاعِ، والجمع جِفَان. انظر لسان العرب (2/ 310). (¬2) قال الحافظ في الفتح (10/ 691): الثَّرِيدُ: بفتح الثاء وكسر الراء، وهو أَنْ يُثْرَدَ -أي يُكْسَرَ- الْخُبْزُ ويُخْلَطَ بِمَرَقِ اللَّحْمِ. (¬3) النَّقْرُ: جمع نُقْرَةٍ، والنقرة من الذهبِ والفضةِ: هي القِطعةُ الْمُذَابَةُ، وقيل: السَّبِيكَةُ. انظر لسان العرب (14/ 257). (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 144).

كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك عمان

كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَلِكِ عُمَانَ وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى جَيْفَرَ (¬1) وَعَبْدٍ ابْنَيْ الْجُلَنْدِيِّ (¬2)، وَهُمَا مِنَ الْأَزْدِ بِعُمَانَ، وَالْمَلِكُ مِنْهُمَا جَيْفَرُ، يَدْعُوهُمَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكتَبَ مَعَه إِلَيْهِمَا كِتَابًا هَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، إِلَى جَيْفَرَ، وَعَبْدٍ ابْنَي الْجُلَنْدِيِّ، سلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكُمَا بِدِعَايَةِ الْإِسلَامِ، أَسْلِمَا تَسْلَمَا، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كاَفَّةً لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَإِنَّكُمَا إِنْ أَقْرْرْتُمَا بِالْإِسلَامِ وَلَّيْتُكُمَا، وَإِنْ أَبيْتُمَا أَنْ تُقِرَّا بِالْإِسلَامِ، فَإِنَّ مُلْكَكُمَا زَائِلٌ عَنْكُمَا، وَخَيْلِي تَحُلُّ بِسَاحَتِكُمَا، وَتَظْهَرُ نُبُوَّتِي عَلَى مُلْكِكُمَا". وَكتَبَ الْكِتَابَ أُبَى بْنَ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَخَتَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ عَمْرٌو -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى عُمَانَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا، عَمَدْتُ إِلَى عَبْدٍ، وَكَانَ أَحْلَمَ الرَّجُلَيْنِ، وَأَسْهَلَهُمَا خُلُقًا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْكَ، وَإِلَى أَخِيكَ، فَقَالَ: أَخِي الْمُقَدَّمُ عَلَيَّ بِالسِّنِّ وَالْمُلْكِ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 431): جَيْفَر مثل جَعْفَر إِلَّا أن بدل العين ياء. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 431): الْجُلَنْدِيُّ: بضم الجيم وفتح اللام وسكون النُّون.

وَأَنَا أُوصِلُكَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْرَأَ كِتَابَكَ، ثُمَّ قَالَ لِي: وَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ؟ . قُلْتُ: أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَخْلَعُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ، وَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَقَالَ عَبْدٌ: يَا عَمْرُو! إِنَّكَ ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِكَ، فكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ، فَإِنَّ لَنَا فِيهِ قُدْوَةً؟ . فَقُلْتُ: مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ، وَصَدَّقَ بِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، قَالَ: فَمَتَى تَبِعْتَهُ؟ قُلْتُ: قَرِيبًا، فَسَأَلنِي: أَيْنَ كَانَ إِسْلَامُكَ؟ فَقُلْتُ: عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَأَخْبَرتُهُ أَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ أَسْلَمَ. قَالَ: فكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ؟ قُلْتُ: أَقَرُّوهُ وَاتَّبَعُوهُ. قَالَ: وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرُّهْبَانُ اتَّبَعُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: انظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ في رَجُلٍ أَفْضَحُ لَهُ مِنْ الكَذِبِ. قُلْتُ: مَا كَذَبْتُ، وَمَا نَسْتَحِلُّهُ في دِينِنَا. ثُمَّ قَالَ عَبْدٌ: مَا أَرَى هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ النَّجَاشِيِّ.

قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّجَاشِيُّ يُخْرِجُ لَهُ خَرْجًا (¬1)، فَلَمَّا أَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِمُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَوْ سَأَلنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْتُهُ، فَبَلَغَ هِرَقْلَ قَوْلُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ لِهِرَقْلَ: أَتَدَعُ عَبْدَكَ لَا يُخْرِجُ لَكَ خَرْجًا، وَيَدِينُ دِينًا مُحْدَثًا؟ قَالَ هِرَقْلُ: رَجُلٌ رَغِبَ في دِينٍ فَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ، مَا أَصْنَعُ بِهِ؟ ، وَاللَّهِ لَوْلَا الضِّنُّ (¬2) بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ. فَقَالَ عَبْدٌ: انْظُرْ مَا تَقُولُ يَا عَمْرُو. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ صَدَقْتُكَ. قَالَ عَبْدٌ: فَأَخْبِرْنِي مَا الذِي يَأْمُرُ بِهِ، وَيَنْهَى عَنْهُ؟ . قُلْتُ: يَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْبِرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَعَنِ الزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصَّلِيبِ. فَقَالَ عَبْدٌ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الذِي يَدْعُو إِلَيْهِ، لَوْ كَانَ أَخِي يُتَابِعُنِي عَلَيْهِ، ¬

_ (¬1) الْخَرَاجُ: هو شيءٌ يُخْرِجُهُ القومُ في السَّنَةِ مِنْ مَالِهِم بقَدْرٍ معلومٍ. انظر لسان العرب (4/ 54). (¬2) الضِّنُّ: بكسر الضاد: الْبُخْلُ. انظر لسان العرب (8/ 94).

لَرَكِبْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ بِمُحَمَّدٍ، وَنُصَدِّقَ بِهِ، وَلَكِنَّ أَخِي أَضَنُّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِيرَ ذَنَبًا (¬1). قُلْتُ: إِنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ مَلَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى قَوْمِهِ، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ غَنِيِّهِمْ، فَرَدَّهَا عَلَى فَقِيرِهِمْ. قَالَ: إِنَّ هَذَا لَخُلُقٌ حَسَنٌ، وَمَا الصَّدَقَةُ؟ . قَالَ عَمْرٌو: فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الصَّدَقَاتِ في الْأَمْوَالِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْإِبِلِ. فَقَالَ: يَا عَمْرُو! تُؤْخَذُ مِنْ سَوَائِمِ (¬2) مَوَاشِينَا التِي تَرْعَى الشَّجَرَ، وَتَرِدُ الْمَاءَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُرَى قَوْمِي في بُعْدِ دَارِهِمْ، وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ يُطِيعُونَ بِهَذَا. قَالَ عَمْرٌو: فَمَكَثْتُ بِبَابِهِ أَيَّامًا، وَهُوَ يَصِلُ إِلَى أَخِيهِ، فَيُخْبِرُهُ كُلَّ خَبَرِي، ثُمَّ إِنَّهُ دَعَانِي يَوْمًا، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ أَعْوَانُهُ بِضَبُعَيَّ (¬3)، فَقَالَ: دَعُوهُ، فَأُرْسِلْتُ، فَذَهَبْتُ لِأَجْلِسَ، فَأَبَوا أَنْ يَدَعُونِي أَجْلِسُ، فنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: تَكَلَّمْ بِحَاجَتِكَ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَخْتُومًا، فَقَرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى انْتَهَى ¬

_ (¬1) الْأَذْنَابُ: الْأَتْبَاعُ، جمع ذَنب. انظر النهاية (2/ 157). (¬2) السَّائِمَةُ من الماشية: الرَّاعِيَةُ. انظر النهاية (2/ 382). (¬3) الضَبْع: بفتح الضاد وسكون الباء: وَسَطُ الْعَضُدِ. انظر النهاية (3/ 68).

إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أَخِيهِ -وَهُوَ عَبْدٌ- فَقَرَأَ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَخَاهُ أَرَقَّ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ قُرَيْشٍ كَيْفَ صَنَعَتْ؟ فَقُلْتُ: تَبِعُوهُ، إِمَّا رَاغِبٌ في الدِّينِ، وَإِمَّا مَقُهُورٌ بِالسَّيْفِ. قَالَ: وَمَنْ مَعَهُ؟ قُلْتُ: النَّاسُ قَدْ رَغِبُوا في الْإِسْلَامِ، وَاخْتَارُوهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَعَرَفُوا بِعُقُولهِمْ مِنْ هُدَى اللَّهِ إِيَّاهُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا في ضَلَالٍ، فَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ غَيْرَكَ في هَذِهِ الْحَرَجَةِ (¬1)، وَأَنْتَ إِنْ لَمْ تُسْلِمِ الْيَوْمَ وَتَتَّبِعْهُ، يُوَاطِيُّكَ الْخَيْلَ، وَيُبِيدُ خَضْرَاءَكَ (¬2)، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَيَسْتَعْمِلُكَ عَلَى قَوْمِكَ، وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْكَ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ. فَقَالَ: دَعْنِي يَوْمِي هَذَا، وَارْجعْ إِلَيَّ غَدًا. قَالَ عَمْرٌو: فَرَجَعْتُ إِلَى أَخِيهِ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو! إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ إِنْ لَمْ يَضِنَّ بِمُلْكِهِ. فَقَالَ عَمْرٌو: حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ أَتَيْتُ إِلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَأْذَنَ لِي، فَانْصَرَفْتُ إِلَى أَخِيهِ، فَأَخْبَرتُهُ أنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَيْهِ، فَأَوْصَلَنِي إِلَيْهِ، فَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي فكَّرْتُ فِيمَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أنَا أَضْعَفُ الْعَرَبِ إِنْ مَلَّكْتُ رَجُلًا مَا في يَدِي، ¬

_ (¬1) الْحَرَجَةُ: بالتحريك مُجْتَمَعُ شَجَرٍ مُلْتَف كالغِيضَةِ. انظر النهاية (1/ 348). (¬2) الْخَضْرَاءُ: سَوَادُهُمْ ودُهَمَاؤُهُم. انظر النهاية (2/ 40).

* من فضائل أهل عمان

وَهُوَ لَا تَبْلُغُ خَيْلُهُ هَاهُنَا، وَإنْ بَلَغَتْ خَيْلهُ أَلْفَتْ (¬1) قِتَالًا لَيْسَ كَقِتَالِ مَنْ لَاقَى. فَقَالَ عَمْرٌو: وَأَنَا خَارِجٌ غَدًا، فَلَمَّا أَيْقَنَ بِمَخْرَجِي، خَلَا بِهِ أَخُوهُ، فَقَالَ: مَا نَحْنُ فِيمَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَدْ أَجَابَهُ. قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا أَصْبَحَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَأَجَابَ إِلَى الْإِسْلَامِ هُوَ وَأَخُوهُ جَمِيعًا، وَصَدَّقَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَخَلَّيَا بَيْنِي وَبَيْنَ الصَّدَقَةِ، وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَا لِي عَوْنًا عَلَى مَنْ خَالفَنِي. فَأَخَذَ عَمْرٌو الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ بِعُمَانَ عِنْدَهُمْ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * مِنْ فَضَائِلِ أَهْلِ عُمَانَ: رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ، مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ" (¬3). ¬

_ (¬1) أَلفى الشيءَ: وَجَدَهُ. انظر لسان العرب (12/ 307)، ومنه قوله تَعَالَى في سورة الصافات آية (69): {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ}. (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 127) - زاد المعاد (3/ 604) - وذكر ابن إسحاق في السيرة (4/ 263) بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنه- إلى عُمان، لكن بدون تفصيل. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضل أهل عُمان - رقم الحديث (2544) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19771).

كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين

كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى مَلِكِ الْبَحْرِينِ وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منْصَرَفَهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيَّ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ مَلِكِ الْبَحْرَيْنِ، وَكتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ مَعَهُ نَفَرًا فِيهِمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَأَوْصَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمَنْ مَعَهُ خَيْرًا. فَلَمَّا قَدِمَ الْعَلَاءُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى قَالَ لَهُ: يَا مُنْذِرُ! إِنَّكَ عَظِيمُ الْعَقْلِ في الدُّنْيَا فَلَا تَصْغُرَنَّ عَنِ الْآخِرَةِ، إِنَّ هَذِهِ الْمَجُوسِيَّةَ شَرُّ دِينٍ، يُنْكَحُ فِيهَا مَا يُسْتَحْيَا مِنْ نِكَاحِهِ، وَيَأْكُلُونَ مَا يُتَكَرَّهُ مِنْ أَكْلِهِ، وَتَعْبُدُ في الدُّنْيَا نَارًا تَأْكُلُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَسْتَ بِعَدِيمِ عَقْلٍ وَلَا رَأْيٍ، فَانْظُرْ هَلْ يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَكْذِبُ في الدُّنْيَا أَنْ لَا نُصَدِّقَهُ، وَلِمَنْ لَا يَخُونُ أَنْ لَا نَأْتْمِنَهُ، وَلِمَنْ لَا يُخْلِفُ أَنْ لَا نَثِقَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هَكَذَا، فَهَذَا هُوَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الذِي وَاللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُ ذُو عَقْلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْتَ مَا أَمَرَ بِهِ نَهَى عَنْهُ، أَوْ مَا نَهَى عَنْهُ أَمَرَ بِهِ. فَقَالَ الْمُنْذِرُ: قَدْ نَظَرْتُ في هَذَا الذِي في يَدَيَّ -يَقْصِدُ كِتَابَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَوَجَدْتُهُ لِلدُّنْيَا دُونَ الآخِرَةِ، وَنَظَرْتُ في دِينِكُمْ فَرَأَيْتُهُ لِلْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ كبولِ دِينٍ فِيهِ أُمْنِيَةُ الْحَيَاةِ وَرَاحَةُ الْمَوْتِ؟ وَلقدْ عَجِبْتُ أَمْسَ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ، وَعَجِبْتُ الْيَوْمَ مِمَّنْ رَدَّهُ، وَإِنَّ مِنْ إِعْظَامِ مَنْ جَاءَ بِهِ أَنْ يُعَظَّمَ رَسُولُهُ، وَسَأَنْظُرُ.

ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُنْذِرُ، وَكتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهَذَا نَصُّ كِتَابِهِ: أَمَّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنِّي قَرَأْتُ كِتَابَكَ عَلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ الْإِسْلَامَ، وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ، وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ، فَأَحْدِثْ إِلَيَّ في ذَلِكَ أَمْرَكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّه الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أُذَكِّرُكَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَنْصَحْ، فَإِنَّمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ رُسُلِي، وَيَتَّبعْ أَمْرَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ نَصَحَ لَهُمْ، فَقَدْ نَصَحَ لِي، وَإِنَّ رُسُلِي قَدْ أَثْنَوْا عَلَيْكَ خَيْرًا، وَإِنِّي قَدْ شَفَعْتُكَ في قَوْمِكَ، فَاتْرُكْ لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَعَفَوْتُ عَنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا تُصْلِحُ، فَلَنْ نَعْزِلَكَ عَنْ عَمَلِكَ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ". وَلَمْ يَزَلِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْبَحْرَيْنِ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). ¬

_ (¬1) خبر إرسال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى البحرين ومصالحتهم ثابت في صحيح البخاري - كتاب الرقائق - باب ما يحذر من زهرة الدنيا - رقم الحديث (6425) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - رقم الحديث (2961) - وذكر تفاصيل الخبر: ابن سعد في طبقاته (1/ 126) - وابن القيم في زاد المعاد (3/ 605) - وذكر ابن إسحاق في السيرة (4/ 263) بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي -رضي اللَّه عنه- إلى ملك البحرين، لكن بدون تفصيل.

زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجونية ومفارقته لها

زَوَاجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْجَونِيَّةِ وَمُفَارَقَتُهُ لَهَا وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ (¬1) تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَيْمَةَ بِنْتَ النُّعْمَانِ بْنِ شُرَاحِيلَ الْجَونِيَّةَ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ أَنَّهَا الْكِلَابِيَّةُ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ اخْتِلَافًا كَثِيرًا في اسْمِهَا (¬2). قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهَا أُمَيْمَةُ (¬3) بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شُرَاحِيلَ الْجَونِيَّةُ، . . . وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا هِيَ الْكِنْدِيَّةُ، فَكَأَنَّمَا الْكَلِمَةُ تَصَحَّفَتْ، نَعَمْ لِلْكِلَابِيَّةِ قِصَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابْنُ سَعْدٍ (¬4) عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ: اسْمُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَطَلَّقَهَا، فَكَانَتْ تَقُولُ: أَنَا الشَّقِيَّةُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ التِي اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ هِيَ الْجَوَنِيَّةُ (¬5). رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ ¬

_ (¬1) وقيل في ربيع الأول سنة تسع. انظر فتح الباري (10/ 451). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 316). (¬3) وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (5/ 311): والصحيح أنها أميمة، واللَّه أعلم. (¬4) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (8/ 316). (¬5) انظر فتح الباري (10/ 449).

قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: "لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ" (¬1). وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ (¬2) يُقَالُ لَهُ الشَّوْطُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجْلِسُوا هَهُنَا"، وَدَخَلَ، وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَونِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ في بَيْتٍ في نَخْلٍ في بَيْتِ أُمَيْمَةَ (¬3) بِنْتِ النُّعْمَانِ بنِ شَرَاحِيلَ، وَمَعَهَا دَايَتُهَا (¬4) حَاضِنَةٌ لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "هَبِي نَفْسَكَ لِي"، فَقَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الطلاق - باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق؟ - رقم الحديث (5254). (¬2) الحائط: البستان. انظر النهاية (1/ 444). (¬3) قال السندي في شرح المسند (9/ 200): المشهور إضافة بيت إلى أميمة، لكن رده كثير بأن الجونية هي أميمة، فالصواب تنوين بيت، وجعل أميمة بدلًا من الجونية. (¬4) قال السندي في شرح المسند (9/ 200): البداية: لفظ معرَّب يقال للمرضعة والقابلة. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (10/ 450): السُّوقَةُ: بضم السين، يقال للواحد من الرَّعِيَّةِ، والجمع، قيل لهم ذلك؛ لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، ولم يؤاخذها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها.

قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ" (¬1). ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: "يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّيْنِ (¬2)، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (10/ 452): بمعاذ: بفتح الميم ما يستعاذ منه. (¬2) قال الحافظ في الفتح (10/ 452): الرَّازِقِيَّةُ: ثِيَابٌ من كِتَّانٍ أَبْيَضَ طِوَالٌ. (¬3) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الطلاق - باب من طلق وهل يواجه الرَّجل امرأته بالطلاق؟ - رقم الحديث (5255) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16061) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (642).

ولادة إبراهيم بن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وِلَادَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفِي ذِي القعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ لِلْهِجْرَةِ وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وُلِدَ بِالْعَالِيَةِ حَيْثُ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّهُ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا هُنَاكَ، وَيَطَؤُهَا بِمُلْكِ الْيَمِينِ، وَمَعَ ذَلِكَ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ، فَلَمَّا حَمَلَتْ وَضَعَتْ هُنَاكَ، فَلَمَّا وُلِدَ، جَاءَ أَبُو رَافِعٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبَشَّرَهُ بِهِ، فَوَهَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدًا. رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وُلِدَ لِيَ اللَّيْلةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ" (¬1). * تَنَافُسُ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ في إِرْضَاعِ إِبْرَاهِيمَ: وَتَنَافَسَتْ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ في إِبْرَاهِيمَ أَيَّتُهُنَّ تُرْضِعُهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَارِيَةُ قَلِيلَةَ اللَّبَنِ، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أُمِّ سَيْفٍ، فَكَانَتْ تُرْضِعُهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . ثُمَّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أُمِّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال - رقم الحديث (2315) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13014).

سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ (¬1)، يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَيْفٍ (¬2). قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضَعًا لَهُ في عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجعُ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: . . . فَانْطَلَقَ -أَيْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْتِيهِ وَاتَّبَعْتُهُ، فَانتهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ (¬4)، قَدِ امْتَلَأَ الْبيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ! أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالصَّبِيِّ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ (¬5). وَقَدْ غَارَ نِسَاءُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِنَّ حِينَ رُزِقَ مِنْ مَارِيَةَ الْوَلَدَ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دَخَلَ بِهِ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: "انْظُرِي إِلَى شِبْهِهِ بِي". ¬

_ (¬1) القيْنُ: بفتح القاف: الْحَدَّادُ. انظر النهاية (4/ 119). (¬2) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال - رقم الحديث (2315) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13014). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال - رقم الحديث (2316). (¬4) الْكِيرُ: بكسر الكاف: هو كِيرُ الْحَدّادِ، وهو الْمَبْنِيُّ من الطينِ، وقيل: الزِّقُّ الذي يَنْفُخُ بِهِ النارَ. انظر النهاية (4/ 188). (¬5) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال - رقم الحديث (2315) - والإمام مسلم في مسنده - رقم الحديث (13014).

* حديث ضعيف جدا

قَالَتْ: فَحَمَلَنِي مَا يَحْمِلُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: مَا أَرَى شَبَهًا (¬1). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ جِدًّا: قُلْتُ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: ذُكِرَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا". فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةَ في سُنَنِهِ (¬2)، وَالْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ (¬3). * قِصَّةُ الرَّجُلِ الْمَجْبُوبِ (¬4): رَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ النَّاسُ قَدْ تَجَرَّؤُوا عَلَى مَارِيَةَ في قِبْطِيٍّ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْطَلِقْ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ عِنْدَهَا فَاقْتُلْهُ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكُونُ في أَمْرِكَ كَالسِّكَّةِ (¬5) الْمُحَمَّاةِ، وَأَمْضِي لِمَا أَمَرْتَنِي لَا يَثْنِينِي شَيْءٌ، أَمِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ؟ . فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-. "الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ". فَتَوَشَّحْتُ (¬6) سَيْفِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ، فَوَجَدْتُهُ خَارِجًا مِنْ عِنْدِهَا عَلَى عُنُقِهِ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 65). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب العتق - باب أمهات الأولاد - رقم الحديث (2516). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب البيوع - باب لا يجوز بيعان في بيع ولا بيع ما لا يملك - رقم الحديث (2238). (¬4) الْمَجْبُوبُ: الْمَقْطُوعُ الذَّكَرِ. انظر النهاية (1/ 226). (¬5) السِّكَّةُ: الْمِسْمَارُ. انظر النهاية (2/ 346). (¬6) تَوَشَّحَ الرجُلُ سَيْفَهُ: أي لَبِسَهُ. انظر لسان العرب (15/ 306).

جَرَّة، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ اخْتَرَطْتُ (¬1) سَيْفِي، فَلَمَّا رَآنِي إِيَّاهُ أُرِيدُ، أَلْقَى الْجَرَّةَ، وَانْطَلَقَ هَارِبًا، فَرَقِيَ في نَخْلَةٍ، فَلَمَّا كَانَ في نِصْفِهَا، وَقَعَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَانْكَشَفَ ثَوبهُ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ أَجَبُّ (¬2) أَمْسَحُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلرِّجَالِ، فَغَمَدْتُ سَيْفِي، وَقُلْتُ: مَهْ، قَالَ: خَيْرًا، رَجُلٌ مِنَ الْقِبْطِ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنَ الْقِبْطِ، وَزَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحْتَطِبُ لَهَا، وَأَسْتَعْذِبُ (¬3) لَهَا. قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْحَمْدُ للَّهِ الذِي يَصْرِفُ عَنَّا السُّوءَ أَهْلَ الْبَيْتِ" (¬4). * * * ¬

_ (¬1) اخْتَرَطَ سَيْفُهُ: أي سَلَّهُ مِنْ غِمْد. انظر النهاية (2/ 23). (¬2) أَجَبُّ: أي مَقْطُوعُ الذَّكَرِ. انظر النهاية (1/ 226). (¬3) يَسْتَعْذِبُ الماءَ: أي يَطلبُ الماءَ الْعَذْبَ. انظر النهاية (3/ 177). (¬4) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4953) - وأصله في صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب براءة حرم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الريبة - رقم الحديث (2771).

السنة التاسعة للهجرة وهي سنة الوفود

السَّنَةُ التَّاسِعَةُ لِلْهِجْرَةِ وَهِيَ سَنَةُ الْوُفُودِ (¬1) كَانَ لِفَتْحِ مَكَّةَ أَثَرٌ كَبِيرٌ في تَعْزِيزِ الْإِسْلَامِ، وَتَغَيُّرِ مَوْقِفِ الْعَرَبِ مِنْهُ، فتَسَارَعُوا إِلَى اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرِّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ، فنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّه أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَكَأَنَّمَا يُقَرُّ في صَدْرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ (¬2) بِإِسْلَامِهِمُ الْفتْحَ، فَيَقُولُونَ: اترُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَقًّا (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن هشام في السيرة (4/ 214): حدثني أبو عبيدة: كانت سنة تسع، تُسمى سنة الوفود. (¬2) تَلَوَّمُ: بفتح التاء وتشديد الواو: أي تَنْتَظِرُ، أراد تتلوم، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا. انظر النهاية (4/ 238). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (54) - رقم الحديث (4302) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20333) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3963).

* وفد باهلة

فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طِيلَةَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، يَسْتَقْبِلُ الْوُفُودَ، وَيَبْعَثُ الْعُمَّالَ، وَيَبُثُّ الدُّعَاةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ بَلَغَ مَجْمُوعُ الْوُفُودِ مَا يَزِيدُ عَلَى السِّتِّينَ وَفْدًا، وَسَأَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْوُفُودِ: * وَفْدُ بَاهِلَةَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُطَرِّفُ بْنُ الْكَاهِنِ الْبَاهِلِيُّ بَعْدَ الَفتْحِ وَافِدًا لِقَوْمِهِ بِإِسْلَامِهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبَا أُمَامَةَ صُدَيَّ (¬1) بْنَ عَجْلَانِ الْبَاهِلِيَّ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَأَبَوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ مُطَرِّفٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ لِقَوْمِهِ أَمَانًا، وَكتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِتَابًا فِيهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ، ثُمَّ قَدِمَ نَهْشَلُ بْنُ مَالِكٍ الْوَائِلِيُّ مِنْ بَاهِلَةَ وَافِدًا لِقَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ، وَكتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ كِتَابًا فِيهِ شَرَائِعُ الْإِسْلَامُ، هَذَا نَصُّهُ: ¬

_ (¬1) صُدَي: بضم الصاد مصغرًا، صحابي جليل من خيرة أصحاب رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مشهور بكنيته. قال الحافظ في الإصابة (3/ 340): أخرج البيهقي من طريق سليمان بن عامر، قال: جاء رجل إلى أبي أُمامة، فقال: إني رأيت في منامي الملائكة تصلي عليك، كما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست. . . الحديث. وإسناده صحيح.

"بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِنَهْشَلَ بْنِ مَالِكٍ، وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي وَائِلٍ لِمَنْ أَسْلَمَ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَآتَى الزَّكَاةَ، وَأَطَاعَ اللَّه وَرَسُولَهُ، وَأَعْطَى مِنَ الْمَغْنَمِ خُمُسَ اللَّهِ وَسَهْمَ النَّبِيِّ، وَأَشهَدَ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَفَارَقَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَبَرِئَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الظُّلْمِ كلِّهِ، وَأَنَّ لَهُمْ أَنْ لَا يُحْشَرُوا (¬1)، وَلَا يُعْشَرُوا (¬2)، وَعَامِلُهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ". وَكتَبَ الْكِتَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * * * ¬

_ (¬1) لا يُحْشَرُوا: أي لا يُنْدَبُونَ إلى الْمَغَازِي، ولا تضرب عليهم البعوث، وقيل: لا يحشرون إلى عامل الزكاة؛ ليأخذ صدقة أموالهم، بل يأخذها في أماكنهم. انظر النهاية (1/ 374). (¬2) لا يُعْشَرُوا: أي لا يُؤْخَذُ عُشْرُ أموالهِمْ. انظر النهاية (3/ 216). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 148).

بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عماله على الصدقات

بَعْثُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَلَمَّا اسْتَهَلَّ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَّالَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ إِلَى كُلِّ مَا أَوْطَأَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْمَنَاطِقِ الْمُخْتَلِفَةِ: 1 - فَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى صَنْعَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ (¬1)، وَهُوَ بِهَا. 2 - وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيَّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى حَضْرَمَوْتَ. 3 - وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى طَيْءٍ، وَبَنِي أَسَدٍ. 4 - وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نويْرَةَ الْيَرْبُوعِيَّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي حَنْظَلَةَ، وَفَرَّقَ صَدَقَةَ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَبَعَثَ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدِرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا، وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى نَاحِيَةٍ. 5 - وَبَعَثَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي تَمِيمٍ. 6 - وَبَعَثَ الْوَليدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْط -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 425): الْعَنْسِي: بفتح العين وسكون النُّون، وهذا الرَّجل ادعى النبوة في آخر حياة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقتله فيروز الديلمي -رضي اللَّه عنه-. وستأتي قصة هذا الرجل وادعائه النبوة.

* ملاحظة مهمة

7 - وَبَعَثَ بريْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَسْلَمَ وَغِفَارٍ، وَيُقَالُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه-. 8 - وَبَعَثَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةَ (¬1) إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ. 9 - وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكَيْثٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى جُهَيْنَةَ. 10 - وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي فزَارَةَ. 11 - وَبَعَثَ الضَّحَاكَ بْنَ سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي كِلَابٍ. 12 - وَبَعَثَ بُسْرَ بْنَ سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي كَعْبٍ. 13 - وَبَعَثَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْل -رضي اللَّه عنه- إِلَى هُوَازِنَ. 14 - وَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- عَامِلِهِ عَلَى الْبَحْرَيْنِ؛ لِيَقْبِضُوا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ صَدَقَةِ الْبَحْرَيْنِ، كَمَا بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه-؛ لِيَأْتِيَ بِجِزْيَتِهَا. * مُلَاحَظَةٌ مُهِمَّةٌ: وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَبْعَثُ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ كُلَّهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً في الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، بَلْ تَأَخَّرَ بَعْثُ بَعْضِهِمْ إِلَى وَقْتِ اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ مِنْ تِلْكَ القبَائِلِ التِي بُعِثُوا إِلَيْهَا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 137): اللُّتبية: بضم اللام وسكون التاء من بني لُتب، حي من الْأَزْدِ، واسمه عبد اللَّه.

* تحذير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه من غلول الصدقة

مَا جَاءَ في رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه-، كَانَ مِنْ بَيْنِ الْعُمَّالِ الذِينَ أَرْسَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى صَدَقَاتِ قَوْمِهِمْ، وكَاد إِسْلَامُ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ بَعْثِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- لِهَدْم الْفُلْسِ (¬1)، وَذَلِكَ في رَبِيعٍ الْآخِر مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهجْرَةِ (¬2). * تَحْذِيرُ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ مِنْ غُلُولِ (¬3) الصَّدَقَةِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا بَعَثَ أَصْحَابَهُ لِيَأْتُوا بِصَدَقَاتِ هَذِهِ الْقَبَائِلِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا صَدَقَاتِهِمْ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ (¬4)، وَيَتَوَقَّوْا كَرَائِمَهَا، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَخَذُوا مِنَ الصَّدَقَاتِ أَنْ يُجْعَلَ في ذَوِي قَرَابَةٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرَابَةٌ فَلِأَوْلَى الْعَشِيرَةِ، ثُمَّ لِذَوِي الْحَاجَةِ مِنَ الْجِيرَانِ وَغَيْرِهِمْ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدَيْهِمَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ هُلْبٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يَقُولُ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: "لَا يَجِيئَنَّ أَحَدُكُمْ بِشَاةٍ لَهَا يُعَارٌ" (¬5). ¬

_ (¬1) الْفُلْس: بضم الفاء وسكون اللام، هو صَنَمٌ لقبيلةِ طَيْءٍ. انظر النهاية (3/ 423). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 255). (¬3) الْغُلُولُ: هو السَّرِقَةُ من الغنيمةِ قبل توزيعها. انظر النهاية (3/ 341). (¬4) حَوَاشِي الأموالِ: هي صِغارُ الإبل، كابنِ الْمَخَاضِ، وابنِ اللَّبُونِ، واحدها: حَاشِيَة، وحاشية كل شيء جَانِبُهُ وطَرَفُهُ. انظر النهاية (1/ 377). (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 13): يُعَار: بضم الياء، وهو صَوْتُ الْمَعْزِ. والحديث أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21970) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1182).

* شأن ابن اللتبية

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ تَذَاكَرَ هُوَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَوْمًا الصَّدَقَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ ذَكَرَ غُلُولَ الصَّدَقَةِ: "أَنَّهُ مَنْ كَلَّ فِيهَا بَعِيرًا أَوْ شَاةً، أَتَى بِهِ يَحْمِله يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنيْسٍ -رضي اللَّه عنه-: بَلَى (¬1). وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ في الْكَبِيرِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ: "اتَّقِ اللَّه يَا أَبَا الْوَليدِ! لَا تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِله لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ لَهَا ثُؤَاجٌ (¬2) "، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِيْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ" (¬3). * شَأْنُ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16063) - وابن ماجه في سننه - كتاب الزكاة - باب ما جاء في عمال الصدقة - رقم الحديث (1810). (¬2) الثُّؤاج: بضم الثاء صوت الغنم. انظر النهاية (1/ 199). (¬3) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطَّبْرَانِيّ في الكبير، ورجاله رجال الصحيح - وانظر السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (857) - وصحيح الجامع - رقم الحديث (99) - للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* فوائد الحديث

ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ (¬1) وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ (¬2) أَمْ لَا، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ (¬3) إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ (¬4)، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ (¬5) إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ " ثَلَاثًا (¬6). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ الْإِمَامَ يَخْطُبُ في الْأَمُورِ الْمُهِمَّةِ. 2 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ مُحَاسَبَةِ الْمُؤْتَمَنِ. 3 - وَفِيهِ مَنْعُ الْعُمَّالِ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ في ذَلِكَ. ¬

_ (¬1) في رواية الإِمام مسلم: "لكم". (¬2) في رواية الإِمام مسلم: "إليه". (¬3) في رواية الإِمام مسلم: "لا ينال أحد منكم منها شيئًا". (¬4) في رواية الإِمام مسلم: "عنقه". (¬5) العُفْرَةُ: بضم العين وسكون الفاء، بَيَاضٌ ليسَ بالنَّاصِعِ. انظر النهاية (3/ 236) - فتح الباري (15/ 71). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأحكام - باب هدايا العمال - رقم الحديث (7174) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب تحريم هدايا العمال - رقم الحديث (1832) (26).

4 - وَفِيهِ إِبْطَالُ كُلِّ طريق يُتَوَصَّلُ بِهَا مَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ إِلَى مُحَابَاةِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَالِانْفِرَادُ بِالْمَأْخُوذِ. 5 - وَفِيهِ جَوَازُ تَوْبِيخِ الْمُخْطِئِ. 6 - وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمَفْضُولِ في الْإِمَارَةِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالْأَمَانَةِ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ. 7 - وَفِيهِ اسْتِشْهَادُ الرَّاوِي وَالنَّاقِلِ بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ؛ لِيَكُونَ أَوْقَعَ في نَفْسِ السَّامِعِ، وَأَبْلَغَ في طُمَأْنِينَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (15/ 72).

بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق

بَعْثُ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ -وَهُمْ قَوْمُ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَخْذِ صَدَقَاتِهمْ، وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا -وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا في غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ-. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ ضِرَارٍ، قَالَ: . . . بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْوَليدَ بْنَ عُقْبَةَ إِلَى الْحَارِثِ (¬1)؛ لِيَقْبِضَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِمَّا جَمَعَ مِنَ الزَّكَاةِ، فَلَمَّا أَنْ سَارَ الْوَلِيدُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضَ الطَّرِيقَ، فَرِقَ (¬2)، فَرجَعَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّهِ! إِنَّ الحَارِثَ مَنَعَنِي الزَّكَاةَ، وَأَرَادَ قَتْلِي، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْبَعْثَ (¬3) إِلَى الْحَارِثِ، فَأَقْبَلَ الْحَارِثُ بِأَصْحَابِهِ إِذِ اسْتَقْبَلَ الْبَعْثَ، فَقَالُوا: هَذَا الْحَارِثُ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ، قَالَ لَهُمْ: إِلَى مَنْ بُعِثْتُمْ؟ ، قَالُوا: إِلَيْكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ ¬

_ (¬1) هو الحارث بن أبي ضرار، سيد بني المصطلق، وأبو جويرية زوجة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) الفرَقُ: بالتحريك: الْخَوْفُ والفزَعُ. انظر النهاية (3/ 392). (¬3) الْبَعْثُ: أي أَرْسَلَ جيشًا.

بَعَثَ إِلَيْكَ الْوَليدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ مَنَعْتَهُ الزَّكَاةَ، وَأَرَدْتَ قَتْلَهُ! قَالَ: لَا وَالذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُهُ بَتَّةً، وَلَا أَتَانِي! فَلَمَّا دَخَلَ الْحَارِثُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَهُ: "مَنَعْتَ الزَّكَاةَ وَأَرَدْتَ قَتْلَ رَسُولِي؟ ! "، قَالَ: لَا وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا رَأَيْتُهُ وَلَا أَتَانِي، وَمَا أَقْبَلْتُ إِلَّا حِينَ احْتَبَسَ عَلَيَّ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، خَشِيتُ أَنْ تَكُونَ كَانَتْ سَخْطَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ، فنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬1). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- علَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ. . . وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَغَيْرُهُمْ في هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ في الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الحجرات آية (6 - 8). والحديث أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18459). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (7/ 370 - 372).

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} نَزَلَتْ في الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الاستيعاب (4/ 114).

سرية عيينة بن حصن إلى بني العنبر من تميم

سَرِيَّةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ تَمِيمٍ وَفي مُحَرَّمٍ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الفزَارِيَّ إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ، وَكَانُوا فِيمَا بَيْنَ السُّقْيَا (¬1)، وَأَرْضِ بَنِي تَمِيمٍ. وَسَبَبُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ الْكَعْبِيَّ -رضي اللَّه عنه-، إِلَى بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ لِأَخْذِ صَدَقَاتِهِمْ، فَجَاءَ وَقَدْ حَلَّ بِنَوَاحِيهِمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ جُنْدُبِ بْنِ الْعَنْبَرِ التَّمِيمِيُّونَ، فَجَمَعَتْ خُزَاعَةُ مَوَاشِيهَا لِلصَّدَقَةِ، فَاسْتَكْثَرَ ذَلِكَ بَنُو تَمِيمٍ وَشَهَرُوا السُّيُوفَ، وَمَنَعُوا بِشْرًا -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ. فَلَمَّا رَأَى بِشْرٌ -رضي اللَّه عنه- ذَلِكَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ؟ "، فانتدَبَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ -رضي اللَّه عنه-، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خَمْسِينَ فَارِسًا مِنَ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهِمْ مُهَاجِرِيٌّ وَلَا أَنْصَارِيٌّ، فَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوُا الْجَمْعَ وَلَّوا، فَأَخَذَ عُيَيْنَةُ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، وَوَجَدَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ صَبِيًّا، فَأَخَذَهُمْ وَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَحُبِسُوا في دَارِ رَمْلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ (¬2). ¬

_ (¬1) السُّقْيَا: مَنْزِلٌ بين مكة والمدينة، قيل: هي على يومين من المدينة. انظر النهاية (2/ 343). (¬2) أشار البخاري في صحيحه إلى هذه السرية - كتاب المغازي - باب قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن. . . - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 330).

قدوم وفد بني تميم ونزول سورة الحجرات

قُدُومُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَنُزُولُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ فَلَمَّا جَاءَتْ سَرِيَّةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حْصِنٍ بِالسَّبَايَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكِبَ وَفْدٌ عَظِيمٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، قِيلَ: كَانُوا تِسْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ رَجُلًا، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِمْ عِدَّةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، مِنْهُمْ: عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ، وَالزِّبْرِقَانُ (¬1) بْنُ بَدْرٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ، وَالقَعْقَاعُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَالْحَبْحَابُ، وَيُقَالُ: الْحُتَاتُ بْنُ يَزِيدٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ -كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ- فَلَمَّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، رَآهُمْ سَبَايَاهُمْ، فَأَخَذَ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ يَبْكُونَ، فَعَجَّلَ الْوَفْدُ، وَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَقَدْ أَذَّنَ بِلَالٌ -رضي اللَّه عنه- لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَاسْتَبْطَأَ الْوَفْدُ خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَجَاؤُوا بَابَهُ، وَأَخَذُوا يُنَادُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ وَرَاءَ الْحُجُرَاتِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ! فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صِيَاحِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَتَعَلَّقُوا بِهِ يُكَلِّمُونَهُ في سَبْيِهِمْ، فَوَقَفَ مَعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: يَا مُحَمَّدُ! ائْذَنْ لِي، فَوَاللَّهِ إِنَّ حَمْدِي زَيْنٌ، وَإِنَّ ذَمِّي ¬

_ (¬1) الزِّبْرِقَان: بكسر الزاي.

* ثابت بن قيس -رضي الله عنه- يرد

شَيْنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" (¬1). ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ جَلَسَ في صَحْنِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! جِئْنَاكَ نُفَاخِرْكَ، فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَذِنْتُ لِخَطِيبِكُمْ، فَلْيَقُلْ". فَقَامَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الذِي لَهُ عَلَيْنَا الفضْلُ وَالْمَنُّ، وَهُوَ أَهْلُهُ، الذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ، وَجَعَلَنَا أَعَزَّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا، وَأَيْسَرَهُ عُدَّةً، فَمَنْ مِثْلُنَا في النَّاسِ؟ أَلسْنَا بِرُؤُوسِ النَّاسِ وَأُولي فَضْلِهِمْ؟ فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا، وَإِنَّا لَوْ نَشَاءُ لَأَكْثَرْنَا الْكَلَامَ، وَلَكِنَّا نَحْيَا مِنَ الْإِكْثَارِ فِيمَا أُعْطِينَا، وَإِنَّا نُعْرَفُ بِذَلِكَ، أَقُولُ هَذَا؛ لِأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلنَا، وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا، ثُمَّ جَلَسَ. * ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ -رضي اللَّه عنه- يَرُدُّ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15991) - وإسناده ضعيف - وله شاهد عند النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة الحجرات - رقم الحديث (11451) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة الحجرات - رقم الحديث (3550) - وإسناده حسن. وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

* شعر الزبرقان بن بدر

الْخَزْرَجِ، خَطِيبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُمْ فَأَجِبِ الرَّجُلَ في خُطْبَتِهِ". فَقَامَ ثَابِتٌ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ الذِي السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ، قَضَى فِيهِنَّ أَمْرَهُ، وَوَسِعَ كُرْسِيَّهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا، أَكْرَمَهُ نَسَبًا، وَأَصْدَقهُ حَدِيثًا، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ، وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ خِيرَةَ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَآمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ، أَكْرَمِ النَّاسِ حَسَبًا، وَأَحْسَنِ النَّاسِ وُجُوهًا، وَخَيْرِ النَّاسِ فِعَالًا، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ الْخَلْقِ إِجَابَةً، وَاسْتَجَابَ للَّهِ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ نَحْنُ، فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، وَوُزَرَاءُ رَسُولهِ، نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولهِ مَنَعَ مِنَّا مَالَهُ وَدَمَهُ، وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ في اللَّهِ أَبَدًا، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَستَغْفِرُ اللَّه لِي وَللْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ. * شِعْر الزِّبْرِقَانِ بنِ بَدْرٍ: ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ! ائْذَنْ لِشَاعِرِنَا، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ الزِّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ، فَقَالَ: نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... مِنَّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ البِيَعُ وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِنَ الشِّوَاءَ (¬1) إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ القزَعُ إِلَى أَنْ يَقُولَ: ¬

_ (¬1) الشِّوَاءُ: اسمُ جَمْعٍ للشَّاةِ. انظر النهاية (2/ 457).

* حسان بن ثابت -رضي الله عنه- يرد

فَلَا تَرَانَا إِلَى حَيٍّ نُفَاخِرُهُمْ ... إِلَّا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرَّأْسَ يُقْتَطَعُ فَمَنْ يُفَاخِرُنا في ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ القوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ إِنَّا أَبَيْنَا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إِنَّا كَذَلِكَ عِنْدَ الفخْرِ نَرْتَفِعُ * حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه- يَرُدُّ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ غَائِبًا، قَالَ حَسَّانُ جَاءَنِي رَسُولُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَانِي لِأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي تَمِيمٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنَا أَقُولُ: مَنَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ حَلَّ وَسْطَنَا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدٍّ وَرَاغِمِ مَنَعْنَاهُ لَمَّا حَلَّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلِّ بَاغٍ وَظَالِمِ فَلَمَّا وَصَلَ حَسَّانُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُمْ يَا حَسَّانُ فَأَجِبْ الرَّجُلَ فِيمَا قَالَ"، فَقَامَ حَسَّانُ فَأَجَابَهُ بِمِثْلِ شِعْرِهِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّ الذَّوَائِبَ (¬1) مِنْ فِهْرٍ (¬2) وَإِخْوَتِهُمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الذِي شَرَعُوا قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ في أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا سَجِيَّةٌ (¬3) تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إِنَّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا الْبِدَعُ ¬

_ (¬1) الذَّوَائِبُ: الأشْرَافُ. انظر النهاية (2/ 140). (¬2) فِهْر: هي قُرَيْش. (¬3) سَجِيَّة: أي طَبِيعِيَّة مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ. انظر النهاية (2/ 311).

إِنْ كَانَ في النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ ... فكُلُّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ إِلَى أَنْ يَقُولَ -رضي اللَّه عنه-: أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللَّهِ شِيعَتُهُمْ ... إِذَا تَفَاوَتَتِ الْأَهْوَاءُ وَالشِّيَعُ أُهْدِي لَهُمْ مَدْحِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا أُحِبُّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلِّهِمِ ... إِنْ جَدَّ بِالنَّاسِ جِدُّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: وَأَبِي، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَمُؤْتًى لَهُ، لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا، وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَعَلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا. فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا، وَجَوَّزَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَبَايَاهُمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَعْتَقَ بَعْضًا وَأَفْدَى بَعْضًا، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ، سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقُولُهَا فِيهِمْ: "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ"، وَكَانَتْ فِيهِمْ سَبِيَّةٌ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ: "أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ"، وجاءت صدقاتهم، فقال: "هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ سَرَّكِ أَنْ تُعْتِقِي مِنْ وَلَدِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري في صحيحه - كتاب العتق - باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع - رقم الحديث (2543) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب قول ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن. . . - رقم الحديث (4366) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل غفار وأسلم. . . - رقم الحديث (2525).

* حديث في فضل بني تميم

إِسْمَاعِيلِ، فَأَعْتِقِي مِنْ هَؤُلَاءِ" (¬1). وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبْيَ بَنِي الْعَنْبَرِ (¬2) كَانَ وُزِّعَ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَلَكَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِالشِّرَاءِ أَوِ الْهِبَةِ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا عِنْدَمَا جَاءَ قَوْمُهَا يَطْلُبُونَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ في وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). * حَدِيثٌ في فَضْلِ بَنِي تَمِيمٍ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ، سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُهَا فِيهِمْ: "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَالِ" (¬4). . . . . ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3914). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 479): بنو العنبر بطن شهير من بني تميم، ينسبون إلى عنبر بن عمرو بن تميم. (¬3) سورة الحجرات آية (4 - 5). وانظر تفاصيل قدوم وقد بني تميم في: صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب وقد بني تميم - رقم الحديث (4365) - وباب قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن. . . - رقم الحديث (4366) (4367) - سيرة ابن هشام (4/ 215) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 142). (¬4) في رواية أخرى في صحيح مسلم قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هم أشد النَّاس قتالًا في الملاحم".=

* فوائد الحديث

وَكَانَتْ فِيهِمْ سَبِيَّةٌ (¬1) عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ"، وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا" (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِبَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ فِيهِمْ في الْجَاهِلِيَّةِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالرُّؤَسَاءِ. 2 - وَفِيهِ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحْوَالِ الْكَائِنَةِ في آخِرِ الزَّمَانِ (¬3). * سَبَبُ نزولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}: وَلَمَّا أَسْلَمَ وَفْدُ بَنِي تَمْيمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: أَمِّرْ عَلَيْهِمُ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَقَالَ عمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَلْ أَمِّرْ عَلَيْهِمُ الْأَقْرَعَ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا ¬

_ = قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (5/ 478): يمكن أن يُحمل العام في ذلك على الخاص فيكون المراد بالملاحم أكبرها، وهو قتال الدجال، أو ذَكَرَ الدجال ليدخل غيره بطريق الأولى. (¬1) السَّبِية: بفتح السين وكسر الباء وهي المرأة الْمَنْهُوبَةُ. انظر النهاية (2/ 307). (¬2) قَالَ الحَافِظ في الفَتْحِ (5/ 478): إنما نسبهم -صلى اللَّه عليه وسلم- إليه لاجتماع نسبهم بنسبه -صلى اللَّه عليه وسلم- في إلياس بن مضر. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العتق - باب من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع - رقم الحديث (2543) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصَّحَابَة - باب من فضائل غفار وأسلم وجهينة وأشجع. . . - رقم الحديث (2525). (¬3) انظر فتح الباري (5/ 480).

* سبب آخر في نزول الآية

خِلَافِي، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فتَمَارَيَا (¬1) حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَكَانَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَدِيثًا حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ (¬3)، لَمْ يُسمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ (¬4). * سَببٌ آخَرُ في نُزُولِ الْآيَةِ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ -وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}. ¬

_ (¬1) المماراة: المجادلة. انظر النهاية (4/ 275). (¬2) سورة الحجرات آية (1 - 5). (¬3) السِّرَار: بكسر السين: أي الْكَلَامُ السِّرِّ، من الْمُسَارَرَةِ. انظر النهاية (2/ 324). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قال ابن إسحاق: غزوة عيينة بن حصن - رقم الحديث (4367) - وكتاب التفسير - باب {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} - رقم الحديث (4845) - وكتاب الاعتصام - باب ما يكره من التعمق - رقم الحديث (7302) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16133).

وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: أَنَا الذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ! وَجَلَسَ في أَهْلِهِ حَزِينًا، فتَفَقَّدَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: تَفَقَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مَالَكَ؟ فَقَالَ: أَنَا الذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَأَجْهَرُ بِالْقَوْلِ، حَبِطَ عَمَلِي، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ". قَالَ أَنَسٌ: وَكُنَّا نراهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّه مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الَيَمَامَةِ (¬1) كَانَ فِينَا بَعْضُ الِانْكِشَافِ (¬2)، فَجَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس -رضي اللَّه عنه-، وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ، فَقَالَ: بِئْسَمَا تُعَوِّدُونَ أَقْرَانَكُمْ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ في الْفتْحِ: الصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَلَامُ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ (¬4). ¬

_ (¬1) معركة اليمامة: هي المعركة التي كانت بين المسلمين وبين مسيلمة الكذاب، وكانت في خلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، في السنة الثَّانية عشرة للهجرة، وقد قُتِل فيها مسيلمة الكذاب. (¬2) كَشِفَ القوم: انهزموا. انظر لسان العرب (12/ 102). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} - رقم الحديث (4846) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله - رقم الحديث (119) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12399). (¬4) انظر فتح الباري (9/ 567).

* فائدة مهمة

وَقَالَ الْحَافِظُ في الْفتْحِ: وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الذِي يَتَعَلَّقُ بِقِصَّةِ الشَّيْخَيْنِ في تَخَالُفِهِمَا في التَّأْمِيرِ هُوَ أَوَّلُ السُّورَةِ: {لَا تُقَدِّمُوا} وَلَكِنْ لَمَّا اتَّصَلَ بِهَا قَوْلُهُ: {لَا تَرْفَعُوا} تَمَسَّكَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- مِنْهَا بِخَفْضِ صَوْتِهِ، وَجُفَاةُ الْأَعْرَابِ الذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُمْ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالذِي يَخْتَصُّ بِهِمْ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} (¬1). * فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ: قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ الْعُلَمَاءُ: يُكْرَهُ رَفع الصَّوْتِ عِنْدَ قَبْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، كَمَا كَانَ يُكْرَهُ في حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُحْترَمٌ حَيًّا وَفِي قَبِرْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، دَائِمًا، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقوْلِ كَمَا يَجْهَرُ الرَّجُلُ لِمُخَاطَبِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ، بَلْ يُخَاطَبُ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَعْظِيمٍ، وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدٍ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا في الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي (¬2) رَجُلٌ، فنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا. فَقَالَ لَهُمَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَنْ أَنْتُمَا؟ -أَوْ قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالَا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا (¬3)، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا في مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-! (¬4). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 567). (¬2) حصبني: أي رماني بالحصباء، وهو الحصى الصغار. انظر النهاية (1/ 379). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (2/ 137): زاد الإسماعيلي: "جَلْدًا". (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب رفع الصوت في المسجد - رقم الحديث (470) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في تفسيره (7/ 368).

وفد بني أسد بن خزيمة

وَفْدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَفِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشَرَةُ رَهْطٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، فِيهِمْ: حَضْرَمِيُّ بْنُ عَامِرٍ، وَضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ، وَوَابِصَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنُقَادَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَطُلَيْحَةُ (¬1) بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَتَكَلَّمُوا، فَقَالَ حَضْرَمِيُّ بْنُ عَامِرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا شَهِدْنَا أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَجِئْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَمْ تَبْعَثْ إِلَيْنَا بَعْثًا، وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَتْكَ الْعَرَبُ، وَنَحْنُ عَلَى مَنْ وَرَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ بَنِي أَسَدٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَتَكَلَّمُوا، فَقَالُوا: قَاتَلَتْكَ مُضَرٌ، وَلَسْنَا ¬

_ (¬1) ارتد طليحة بن خويلد بعد ذلك، وادعى النبوة، ثم تاب، وعاد إلى الإسلام، وسيأتي خبر ارتداده في آخر العام العاشر للهجرة. (¬2) سورة الحجرات آية (17) - والخبر في الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 141).

بِأَقَلِّهِمْ عَدَدًا، وَلَا أَكَلِّهِمْ (¬1) شَوْكَةً، وَصَلْنَا رَحِمَكَ، فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "تَكَلَّمُوا هَكَذَا"، قَالُوا: لَا، قَالَ: "إِنَّ فِقْهَ هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ"، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَبَنُو أَسَدٍ كَانُوا فِيمَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَتَبِعُوا طُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيَّ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَسَرَهُمْ، وَرَجَعَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَابَ طُلَيْحَةُ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) الكَلُّ: الضعف. انظر لسان العرب (12/ 143). (¬2) سورة الحجرات آية (17) - والخبر أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة الحجرات - رقم الحديث (11455). (¬3) انظر فتح الباري (13/ 78).

سرية الضحاك بن سفيان -رضي الله عنه- إلى بني كلاب

سَرِيَّةُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى بَنِي كِلابٍ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيَّ -رضي اللَّه عنه-، فِي سَرِيَّةٍ إِلَى الْقُرَطَاءَ (¬1)، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيع الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ؛ لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَمَعَهُ الْأَصَيْدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ قُرَطٍ، فَلَقُوهُمْ بِالزُّجِّ زُجِّ لَاوَهَ (¬2)، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوا، فَقَاتَلُوهُمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَلَحِقَ الْأَصَيْدُ أبَاهُ سَلَمَةَ، وَسَلَمَةُ عَلَى فَرَس له فِي غَدِيرٍ بِالزُّجِّ، فَدَعَا أَبَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ، فَسَبَّهُ وَسَبَّ دِينَهُ، فَضَرَبَ الْأَصَيْدُ عُرْقُوبَيْ فَرَسِ أَبِيهِ فَوَقَعَ، فَأَمْسَكَ أَبَاهُ إِلَى أَنْ جَاءَهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ فَقتَلَهُ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ ابْنُهُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) الْقُرَطَاءُ: بضم القاف وفتح الراء، بَطْنٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، واسمه عبيد بن كلاب. انظر شرح المواهب (4/ 41). (¬2) زُجُّ لَاوَهَ: بضم الزاي وتشديد الجيم، موضعٌ بِنَجْدٍ. انظر معجم البلدان (4/ 469). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 331) - شرح المواهب (4/ 41).

سرية علقمة بن مجزر -رضي الله عنه-

سَرِيَّةُ علْقَمَةَ بْنِ مُجَزِّرٍ (¬1) -رضي اللَّه عنه- وَسَبَبُ هَذِهِ السَّرِيَّةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْحَبَشَةِ قَدِ اجْتَمَعُوا بِالْقُرْبِ مِنْ سَوَاحِلِ جُدَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّرٍ الْمُدْلِجِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِمَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ هَرَبُوا، فَلَمْ يَلْقَ عَلْقَمَةُ -رضي اللَّه عنه- وَأَصْحَابُهُ كَيْدًا. ثُمَّ رَجَعُوا، فَاسْتَأْذَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالتَّعَجُّلِ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ عَلْقَمَةُ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ (¬2) -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ (¬3)، فَنَزَلُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَأَوْقَدُوا نَارًا يَصْطَلُونَ (¬4) عَلَيْهَا، وَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) مُجَزِّر: بضم الميم وفتح الجيم تشديد الزاي المكسورة. (¬2) قلت: وقد وقع في صحيح البخاري ومسلم أن أمير هذه السرية رجل من الأنصار، وعبد اللَّه بن حذافة السهمي -رضي اللَّه عنه- من المهاجرين. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 383): يحتمل الحمل على المعنى الأعم أي أنه نصر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجملة. وقال ابن الجوزي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (8/ 383): قوله: من الأنصار، وَهْم من بعض الرواة، وإنما هو سهمي. قلت: والذي نميل إليه: هو قول ابن الجوزي، واللَّه أعلم. (¬3) الدُّعَابَةُ: الْمِزَاحُ. انظر النهاية (2/ 111). (¬4) يَصْطَلُونَ: يَتَدَفئونَ. انظر لسان العرب (7/ 399). ومنه قوله تَعَالَى في سورة القصص آية (29) على لسان موسى عليه السلام لزوجته: =

لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ: أَليْسَ لِي عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ؟ . قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَفَمَا أَنَا آمُرُكُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا فَعَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكُمْ بِحَقِّي وَطَاعَتِي إِلَّا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذهِ النَّارِ! ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ النَّارِ، وَقَامَ نَاسٌ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُمْ وَاثِبُونَ فِيهَا، قَالَ: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّمَا كُنْتُ أَضْحَكُ (¬1) مَعَكُمْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ دَخَلْتُمُوهَا لَمْ تَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ". وَنَزَلَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬2). ¬

_ = {. . . لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}. (¬1) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار: ألعب. (¬2) سورة النساء آية (59) - والقصة أخرجها: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب سرية عبد اللَّه بن حذافة السهمي وعلقمة بن مُجزِّر - رقم الحديث (4340) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول - رقم الحديث (4584) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية - رقم الحديث (1840) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب طاعة الأئمة - رقم الحديث (4558) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1621) (4898) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3124) (11639) - وابن سعد في طبقاته (2/ 331).

سرية علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى الفلس

سَرِيَّةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْفُلْسِ (¬1) وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- لِهَدْمِ الْفُلْسِ، وَمَعَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَخَمِسِينَ فَرَسًا، فَشَنُّوا عَلَى قَبِيلَةِ طَيْءٍ مَعَ الْفجْرِ، فَهَدَمُوا الْفُلْسَ وَخَرَّبُوهُ، وَمَلَأُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ السَّبْيِ وَالنَّعَمِ وَالشَّاءِ، وَكَانَ فِي السَّبْيِ سَفَّانَةُ أُخْتُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَهَرَبَ عَدِيٌّ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أُخْتِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَأَطْلَقَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِسْلَامِ أَخِيهَا عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه- (¬2). * * * ¬

_ (¬1) الفُلْسُ: بضم الفاء وسكون اللام: هو صَنَمٌ لقبيلة طيء. انظر النهاية (3/ 423). (¬2) انظر الطبقات الكبرى (2/ 331) لابن سعد.

قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي -رضي الله عنه-

قِصَّةُ إِسْلامِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ -رضي اللَّه عنه- رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَوْ قَالَ: رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَقْصَى الْأَرْضِ مِمَّا يَلِي الرُّومَ، فَأَخَذُوا عَمَّتِي (¬1) وَنَاسًا، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصُفُّوا لَهُ، قَالَتْ عَمَّتِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ! نَأَى (¬2) الْوَافِدُ، وَانْقَطَعَ الْوَلَدُ، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ، فَمُنَّ عَلَيَّ، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ وَافِدُكِ؟ "، قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولهِ؟ ". قَالَتْ: فَمُنَّ عَلَيَّ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعَ وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ، تُرَى أَّنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: سَلِيهِ حُمْلَانًا، فَسَأَلتْهُ، فَأَمَرَ لَهَا، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عَدِيًّا، وَقُلْتُ لَهُ: لقَدْ فَعَلْتَ فَعْلَةً مَا كَانَ أَبُوكَ يَفْعَلُهَا (¬3)، فَأْتِهِ -أَي ائْتَ ¬

_ (¬1) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19381) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7206). وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (2/ 234): ابنة حاتم الطائي -أي أخت عدي-. (¬2) نَأَى: أي بَعُدَ. انظر لسان العرب (7/ 14). (¬3) الفعلة التي فعلها هو أنه فَرَّ، ولم يأخذ أهله معه.

رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ، فَأَصَابَ مِنْهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ، فَأَصَابَ مِنْهُ. قَالَ عَدِيٌّ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، اسْتَشْرَفَ لِيَ النَّاسُ، وَقَالُوا: جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، جَاءَ عَدْيُّ بْنُ حَاتِمٍ، فَلَمَّا أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ لِي: "يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ! مَا أَفرَّكَ (¬1) أَنْ يُقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ فَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ؟ ، مَا أَفَرَّكَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ أَكْبَر؟ فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ؟ ، يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ" ثَلَاثًا. قُلْتُ: إِنِّي عَلَى دِينٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنَّا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ". فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ ! . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، أَلَسْتَ مِنَ الرَّكُوسِيَّةِ (¬2)، وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ (¬3) قَوْمِكَ؟ ". قُلْتُ: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ". قَالَ عَدِيٌّ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا، فتَضَعْضَعْتُ (¬4) لِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) أَفْرَرْتَ الرَّجُلَ: إذا فعلتَ به فِعْلًا يَفِرُّ منك لأجله، أي: ما يُهْرِبُكَ منَ الإسلامِ؟ . انظر جامع الأصول (9/ 112). (¬2) الرَّكُوسِيَّةُ: هو دِينٌ بين النَّصَارى والصَّابِئِينَ. انظر النهاية (2/ 235). (¬3) الْمِرْبَاعُ: كان الملك في الجاهلية يأخذ الرُّبع من الغنيمة في الجاهلية دون أصحابه، ويُسمى ذلك الربع: الْمِرْبَاعَ. انظر النهاية (2/ 171). (¬4) تَضَعْضَعَ: خَضَعَ وذَلَّ. انظر النهاية (3/ 81). وفي رواية الإمام أحمد في مسنده: فتواضعت.

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ، تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ، أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟ " (¬1). قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُتَمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ (¬2) حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ (¬3) مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَيُفْتَحَنَّ كُنُوزَ كسْرَى بْنِ هُرْمُزَ". فَقَالَ عَدِيٌّ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ ! . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، كسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبَذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ" (¬4). ¬

_ (¬1) الْحِيرَةُ: بكسر الحاء: البَلَدُ القديمُ بظهرِ الكوفة، ومحلة معروفة بنيسابور. انظر النهاية (1/ 448). (¬2) المقصود بالأمر هنا: الإسلام، أي سينتشر الإسلام انتشارًا واسعًا في الأرض. (¬3) الظَّعينة: المرأة. انظر النهاية (3/ 143). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 319): أي لعدم الفقراء في ذلك الزمان، وقد تقدم في الزكاة -من صحيح البخاري- قول من قال: إن ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز، وبذلك جزم البيهقي في الدلائل (6/ 323) عن عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنما ولي عمر بن عبد العزيز، ثلاثين شهرًا، ألا واللَّه ما مات حتى جعل الرجل يأتيه بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما برح حتى يرجع بالمال، يتذكر من يضعه فيه، فلا يجده، وقد أغنى عمر الناس. قال الحافظ: ولا شك في رجحان هذا الاحتمال على الأول، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث: "ولئن طالت بك حياة" -وهي رواية البخاري في صحيحه.

* حديث ضعيف

قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه-: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ، فتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ، وَلقدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ قَالَهَا (¬1). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أتيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ" (¬2)، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج قصة إسلام عدي بن حاتم -رضي اللَّه عنه-: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18260) (19381) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عما يكون في أمته - رقم الحديث (6679) (7206) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة فاتحة الكتاب - رقم الحديث (3186). وابن إسحاق في السيرة (4/ 234). وأخرج البخاري في صحيحه - كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام - رقم الحديث (3595): من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا عدي هل رأيت الحيرة؟ " إلى نهاية الحديث. (¬2) الوَثَنُ: هو ما يُعْبَدُ من دون اللَّه، وأراد به هاهنا: الصَّلِيبَ. انظر جامع الأصول (2/ 161). (¬3) سورة التوبة آية (31). (¬4) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة التوبة - رقم الحديث (3352) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (651).

* سؤال عدي -رضي الله عنه- عن أبيه

قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ السَّلَامِ بنِ حَرْبٍ، وَغُطَيفُ بنُ أَعْيَنَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي الحَدِيثِ. * سُؤَالُ عَدِيٍّ -رضي اللَّه عنه- عَنْ أَبِيهِ: ثُمَّ إِنَّ عَدِيًّا -رضي اللَّه عنه- سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أَبِيهِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي كَانَ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ، وَيَعْتِقُ الرِّقَابَ، فَهَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ أجْرٍ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ أَباكَ أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ" يَعْنِي الذِّكْرَ. وَفِي رِوَايَةٍ: "فَأَصَابَهُ" (¬1) * شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِ- فِي وَفْدٍ فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلًا رَجُلًا وَيُسَمِّيهِمْ، فَقُلْتُ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ . قَالَ: بَلَى، أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا، وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا، وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا، وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18262) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4360) (4361) - وهو حديث حسن.

فَقَالَ عَدِيٌّ: فَلَا أُبَالِي إِذًا (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ لِي: إِنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ بَيَّضَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ صَدَقَةُ طَيْءٍ، جِئْتَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قصة وفد طيء وحديث عدي بن حاتم - رقم الحديث (4394) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6663). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل غفار واسلم وجهينة. . . إلخ - رقم الحديث (2523).

قدوم وفد طيء

قُدُومُ وَفْدِ طَيْءٍ قَدِمَ عَلَى رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفْدُ طَيْءٍ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1)، وَكَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَةَ رَجُلًا، فِيهِمْ: قَبِيصَةُ بْنُ الْأَسوَدِ، وَقُعيْنُ بْنُ خُلَيْفٍ، وَرَأْسُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ زَيْدُ الْخَيْلِ (¬2) بْنُ مُهَلْهِلَ مِنْ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا، بَلِيغًا جَوَادًا، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَرَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ، فَأَنَاخُوا رَوَاحِلَهُمْ بِفِنَاءَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلُوا فَدَنَوْا مِنْ رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِزَيْدِ الْخَيْلِ: "مَنْ أَنْتَ؟ "، قَالَ: أَنَا زَيْدُ الْخَيْلِ بْنُ مُهَلْهِلَ، فَقَالَ لَهُ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ، ثُمَّ جَاءَنِي إِلَّا رَأَيْتُهُ دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ، إِلَّا زَيْدُ الْخَيْلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ" ثُمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَيْدَ الْخَيْرِ. ثُمَّ أَجَازَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِخَمْسِ أَوَاقِ فِضَّةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ (¬3). ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الحافظ في الإصابة (2/ 513). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 395): قيل له زيد الخيل لكرائم الخيل التي كانت له، وسماه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد الخير بالراء بدل اللام، وأثنى عليه، فأسلم وحسن إسلامه -رضي اللَّه عنه-. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 233) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 155).

وفد بجيلة وأحمس

وَفْدُ بَجِيلةَ (¬1) وأَحْمَسَ (¬2) قَدِمَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ -رضي اللَّه عنه- الْمَدِينَةَ وَمَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ رَجُلًا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، عَرضَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي خُطْبَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا البَابِ -أَوْ مِنْ هَذَا الفجِّ- مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةُ مَلَكٍ"، فَأَخَذَ النَّاسُ كُلُّ رَجُلٍ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا هُمْ بَجَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه- قَدْ طَلَعَ مِنَ الثَّنِيَّةِ عَلَى رَاحِلَتِه، ومَعَهُ قَوْمُهُ. قَالَ جَرِيرٌ: فَأَنَخْتُ رَاحِلَتِي، ثُمَّ حَلَلْتُ عَيْبَتِي (¬3)، ثُمَّ لَبِسْتُ حُلَّتِي، ثُمَّ دَخَلْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَرَمَانِي النَّاسُ بِالْحَدَقِ (¬4)، فَقُلْتُ لِجَلِيسِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ! ذَكَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَكَرَكَ آنِفًا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ، قَالَ جَرِيرٌ: فَحَمِدْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا أَبْلَانِي (¬5). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 401): بَجِيلَة: بفتح الباء وكسر الجيم، وهي امرأة نُسِبَتْ إليها القبيلة المشهورة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 401): أَحْمَس: بفتح الهمزة والميم بوزن أحمر، وهم إخوة بجيلة. (¬3) الْعَيْبَةُ: ما يُجْعَلُ فيه الثِّيَابُ. انظر النهاية (3/ 295). (¬4) الْحَدَقَةُ: هي الْعَيْنُ، والتَّحْدِيقُ: شِدَّةُ النَّظَرِ. انظر النهاية (1/ 341). (¬5) أخرج ذلك كله: الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19180) - ابن حبان في =

* أهمية أحاديث جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-

ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَبَسَطَ لِي رِدَاءَهُ وَقَالَ: "عَلَى هَذَا يَا جَرِيرٌ فَاقْعُدْ"، وَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ" (¬1). ثُمَّ أَسْلَمَ جَرِيرٌ هُوَ وَقَوْمُهُ، وَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ (¬2). قَالَ جَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه-: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ فِي وجْهِي (¬3). * أَهَمِيَّةُ أَحَادِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه-: تَكْمُنُ أَهَمِيَّةُ أَحَادِيثِ جَرِيرٍ -رضي اللَّه عنه- بِأَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا، فَيَكُونُ فِعْلُهُ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ = صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر جرير بن عبد اللَّه البجلي - رقم الحديث (7199) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬1) أخرج ذلك ابن ماجه في سننه - كتاب الأدب - باب إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه - رقم الحديث (3712) - والحاكم في المستدرك - كتاب الأدب - باب إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه - رقم الحديث (7861) - وإسناده حسن بالشواهد. (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان أن الدين النصيحة - رقم الحديث (56) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19153). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب من لا يثبت على الخيل - رقم الحديث (3035) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل جرير بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2475) (135) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر جرير بن عبد اللَّه البجلي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7200).

* خبر منكر

مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ بَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. قَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ (¬1). * خَبَرٌ مُنْكَرٌ: قُلْتُ: وَقَعَ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ قَوْلُ جَرِيرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَسْلَمْتُ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا أَسْلَمَ جَرِيرٌ إِلَّا قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً (¬2). وَهَذَا الْخَبَرُ إِسْنَادُهُ صَحِيح، لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ؛ لِمَا فِي مَتْنِهِ مِنْ نَكَارَةٍ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْخَبَرَ: وَهَذَا عِنْدَنَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ (¬3). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفتْحِ: اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ جَرِيرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي سَنَةَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الصلاة في الخفاف - رقم الحديث (387) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين - رقم الحديث (272) - وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2492). (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (6/ 299). (¬3) انظر شرح مشكل الآثار (6/ 300).

بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ" (¬1) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب الإنصات للعلماء - رقم الحديث (121) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان معنى قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ترجعوا بعدي كفارًا" - رقم الحديث (65) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2496). (¬2) انظر فتح الباري (7/ 522).

وفد الأحمسيين

وَفْدُ الأَحْمَسِيِّينَ وَقَدِمَ قَيْسُ بْنُ عَزْرَةَ الْأَحْمَسِيُّ فِي مِائتَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ أَحْمَسَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَنْتُمْ؟ "، فَقَالُوا: نَحْنُ أَحْمَسُ (¬1) اللَّهِ -وَكَانَ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَنْتُمْ الْيَوْمَ للَّهِ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِبِلَالٍ: "أَعْطِ رَكْبَ بَجِيلةَ، وَابْدَأْ بِالْأَحْمَسِيِّينَ"، فَفَعَلَ (¬2). وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ بَجِيلَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اكْسُوا الْبَجَلِيِّينَ، وَابْدَؤُوا بِالْأَحْمَسِيِّينَ"، قَالَ: فتَخَلَّفَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ، قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَقُولُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: فَدَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَمْسَ مَرَّاتٍ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ" أَوْ "اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِمْ" (¬3). * * * ¬

_ (¬1) الْأَحْمَسُ: الْمُتَشَدِّدُ في دِيِنهِ. انظر النهاية (1/ 423). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 167). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18833).

هدم ذي الخلصة

هَدْمُ ذِي الْخَلَصَةِ (¬1) ذُو الْخَلَصَةِ، هُوَ بَيْتٌ فِيهِ صَنَمٌ بِالْيَمَنِ لِدَوْسٍ وَخَثْعَمَ (¬2) وَبَجِيلَةَ، وَمَنْ كَانَ ببلَادِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِجَرِيرٍ -رضي اللَّه عنه-: "ألا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ ". فَقَالَ جَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه-: بَلَى، فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِوَاءً، وَانْطَلَقَ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ. قَالَ جَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه-: وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا"، قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ. فَانْطَلَقَ جَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه- وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ حَتَّى أَتَى ذِي الْخَلَصَةِ فَحَرَقَهَا بِالنَّارِ وَكَسَرَهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا مِنْ أَحْمَسَ، يُكَنَّى أَبَا أَرْطَاةَ (¬3) حُصَيْنَ بْنَ رَبِيعَةَ، لِيُبَشِّرَهُ بِهَدْمِهَا، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 399): الْخَلَصَةُ: بفتح الخاء واللام. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 399): خَثْعَمُ: بفتح الخاء، على وزن جعفر، قبيلة مشهورة. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 402): أَرْطَاة بفتح الهمزة وسكون الراء، والصواب في اسمه حصين بن ربيعة، وهو صحابي بَجَلي لم أر له ذكرًا إلا في هذا الحديث.

* فوائد الحديث

وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا جِئْتُ حَتَّى تَرَكْتُهَا كَأنَّهَا جَمَلٌ أَجْرَبُ (¬1)، فَبَرَّكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَمَا لَبِثَ جَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه- أَنْ رَجَعَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلِأَحْمَسَ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَاَلَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - مَشْرُوعِيَّةُ إِزَالَةِ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ النَّاسُ مِنْ بِنَاءٍ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوانًا أَوْ جَمَادًا. 2 - وَفِيهِ اسْتِمَالَةُ نُفُوسِ الْقَوْمِ بِتَأْمِيرِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ. 3 - وَفِيهِ الِاسْتِمَالَةُ بِالدُّعَاءِ. 4 - وَفِيهِ الثَّنَاءُ وَالْبِشَارَةُ فِي الْفُتُوحِ. 5 - وَفِيهِ فَضْلُ رُكُوبِ الْخَيْلِ فِي الْحَرْبِ. 6 - وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ. 7 - وَفِيهِ الْمُبالَغَةُ فِي نِكَايَةِ الْعَدُوِّ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 402) هو كناية عن نَزْعِ زِينَتِهَا وإِذْهَابِ بَهْجَتِهَا. (¬2) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة ذي الخلصة - رقم الحديث (4355) (4356) (4357) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل جرير بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2476) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب أصحابه - باب ذكر جرير بن عبد اللَّه البجلي - رقم الحديث (7201) (7202) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2497).

8 - وَفِيهِ مَنَاقِبٌ لَجَرِيرٍ -رضي اللَّه عنه- وَلقَوْمِهِ. 9 - وَفِيهِ بَرَكَةُ يَدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدُعَائِهِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو وِتْرًا، وَقَدْ يُجَاوِزُ الثَّلَاثَ. 10 - وَفِيهِ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِ أَنَسٍ: "كَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا" (¬1)، فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ، وَكَأَنَّ الزِّيَادَةَ لِمَعْنًى اقْتَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَحْمَسَ لِمَا اعْتَمَدُوهُ مِنْ دَحْضِ الْكُفْرِ وَنَصْرِ الْإِسْلَامِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْمِ الذِينَ هُمْ مِنهُمْ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) حديث: "كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دعا دعا ثلاثًا" - أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب ما لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى المشركين والمنافقين - رقم الحديث (1794). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 402).

وفد خثعم

وَفْدُ خَثْعَمَ وَبَعْدَمَا هَدَمَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ -رضي اللَّه عنه-، ذَا الْخَلَصَةِ، وَقتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْ خَثْعَم، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفْدٌ مِنْهُمْ، فِيهِمْ: أَنَسُ بْنُ مُدْرِكٍ، وَحُصَيْنُ بْنُ مُشَمِّتٍ، فَقَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَبَايَعُوهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: اكْتُبْ لَنَا كِتَابًا نَتَّبعُ مَا فِيهِ، فَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، شَهِدَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ -رضي اللَّه عنه-، وَمَنْ حَضَرَ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 168).

وفاة النجاشي -رضي الله عنه- وفضله

وَفَاةُ النَّجَاشِيِّ -رضي اللَّه عنه- وَفَضْلُهُ وَفِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ (¬1)، تُوُفِّيَ أَصْحَمَةُ النَّجَاشِيُّ -رضي اللَّه عنه- مَلِكُ الْحَبَشَةِ-، فَنَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ. وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَى غَائِبٍ سِوَاهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَاتَ بَيْنَ قَوْمٍ نَصَارَى، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الذِينَ كَانُوا مُهَاجِرِينَ عِنْدَهُ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ مُهَاجِرِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَامَ خَيْبَرَ (¬2) -كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ-. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَعَى لَهُمُ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الْحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ" (¬3). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 443) - الإصابة (1/ 348). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (1/ 429). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب موت النجاشي - رقم الحديث (3880) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في التكبير على الجنازة - رقم الحديث (951) (63).

قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ: "مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ" (¬1). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَصَفَّنَا وَرَاءَهُ، فكنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ (¬2). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كُنَّا نتحَدَّثُ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ (¬3). وَقَدْ تَكَلَّمْنَا بِشَيْءٍ عِنِ النَّجَاشِيِّ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَ ذِكْرِ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، فَرَاجِعْهُ. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب موت النجاشي - رقم الحديث (3877) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في التكبير على الجنازة - رقم الحديث (952) (65). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب موت النجاشي - رقم الحديث (3878) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في التكبير على الجنازة - رقم الحديث (952) (66). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه- كتاب الجهاد - باب في النور يُرى عند قبر الشهيد - رقم الحديث (2523) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6827).

وفد عبد القيس

وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَبْدُ القيْسِ، قَبِيلَةٌ كَبِيرَةٌ يَنْتَمُونَ إِلَى رَبِيعَةَ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْبَحْرَيْنَ، وَيَدِينُ بَعْضُهُمْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَكَانَتْ لِهَذِهِ الْقَبِيلَةِ وِفَادَتَانِ: * الْوِفَادَةُ الأُولَى: وَكَانَتْ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ أَوْ قَبْلَهَا، وَكَانَ عَدَدُ الْوَفْدِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَفِيهَا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَعَنِ الْأَشْرِبَةِ، وَكَانَ فِيهِمْ: الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ، وَهُوَ أَشَجُّ عبْدِ الْقيْسِ (¬1). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ وَفْدَ (¬2) عبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ القوْمُ؟ "، أَوْ "مَنِ الوَفدُ؟ ". قَالُوا: رَبِيعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوِ الْوَفْدِ- غَيْرِ خَزَايَا (¬3) وَلَا نَدَامَى"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ (¬4) بَعِيدَةٍ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 417). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (1/ 162): الْوَفْدُ: الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقي العظماء، واحدهم وافد. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 179): خَزَايَا جَمْعُ خَزْيَانَ، وهو الذي أصابه الخزي، والمعنى أنهم أسلموا طوعًا من غير حرب أو سبي يخزيهم، ويفضحهم. (¬4) شُقَّةٌ بعيدةٌ: بضم الشين أي مَسَافَةٌ بَعيدةٌ، والشُّقَّةُ أيضًا السَّفَرُ الطَّويل. انظر النهاية (2/ 440). =

هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ (¬1)، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، وَسَأَلُوهُ عَنِ الْأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ (¬2)، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ". وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: "عَنِ الْحَنْتَمِ (¬3) وَالدُّبَّاءِ (¬4)، وَالنَّقِيرِ (¬5)، وَالْمُزَفَّتِ (¬6) ". ¬

_ = ومنه قوله تعالى في سورة التوبة آية (42): {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ. . .}. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 180): المراد بالشهر الحرام الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، وهي: ذي القعدة، وذي الحجة، ومحرم، ورجب، والمراد به هنا: شهر رجب، وفي رواية البيهقي التصريح به: "رجب مضر"، وكانت قبيلة مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليها. (¬2) قال القاضي عياض فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (1/ 182): والسبب في كونه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يذكر الحج في الحديث، لأنه لم يكن فُرِضَ. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 182): وما ذكر القاضي عياض: هو المعتمد. (¬3) الْحَنتمُ: بفتح الحاء وسكون النون: هي الجِرَارُ مَدْهُونَةً خُضْر كانت تُحْمَلُ الخَمْرُ فيها إلى المدينة. انظر النهاية (1/ 431) - فتح الباري (1/ 183). (¬4) الدُّبَّاءُ: بضم الدال المشددة هو: الْقَرْعُ، واحدتها دُبَّاءَةٌ، كانوا يَنْتَبذُونَ فيها. انظر فتح الباري (1/ 183) - انظر النهاية (2/ 91). يُقال: نَبَذْتُ التَّمْرَ والعِنَبَ، إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذًا. انظر النهاية (5/ 6). (¬5) النَّقِيرُ: بفتح النون وكسر القاف: هو أَصْلُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ وَسَطُهُ، ثم يُنْبَذُ فيه التَّمْرُ، ويُلْقَى عليه الماءُ لِيَصيرَ نَبِيذًا مُسْكِرًا. انظر النهاية (5/ 91) - فتح الباري (1/ 183). (¬6) الْمُزَفَّتُ: بضم الميم وتشديد الفاء: هو الْإِنَاءُ الذي طُلِيَ بالزِّفْتِ، وهو نَوعٌ من القَارِ.=

* أدلة على تقدم إسلام قبيلة عبد القيس

وَرُبَّمَا قَالَ: "الْمُقَيَّرِ" (¬1). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ" (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفتْحِ: وَمَعْنَى النَّهْيُ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ بِخُصُوصِهَا؛ لِأَنَّهُ يُسْرعُ فِيهَا الْإِسْكَارُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ مِنْهَا مَنْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ (¬3). وَكَانَ هَذَا التَّحْرِيمُ فِي الشَّرَابِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْقِيَةِ صَدْرَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِحَدِيثِ بريْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَلفظُهُ: "كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ: . . . وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ فِي هَذِهِ الْأَسْقِيَةِ، فَاشْرَبُوا، وَلَا تَشْرَبُوا حَرَامًا". وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا حَرَامًا" (¬4). * أَدِلَّةٌ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ قَبِيلَةِ عَبْدِ الْقَيْسِ: 1 - فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيل عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ قَبِيلَةِ عَبْدِ الْقَيْسِ. ¬

_ = انظر النهاية (2/ 275) - فتح الباري (1/ 183). (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 183): الْمُقَيَّرُ: بضم الميم وتشديد الياء: ما طُلِيَ بالْقَارِ. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب أداء الخمس من الإيمان - رقم الحديث (53) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الأمر بالإيمان باللَّه تَعَالَى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وشرائع الدين - رقم الحديث (17) (24) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11175). (¬3) انظر فتح الباري (1/ 183). (¬4) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب استئذان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ربه عَزَّ وَجَلَّ في زيارة قبر أمه - رقم الحديث (977) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23015).

* الوفادة الثانية

2 - رَوَى الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ (¬1) بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَسْجِدِ عَبْدِ القيْسِ بِجُوَاثِي (¬2) مِنَ الْبَحْرَيْنِ (¬3). 3 - وَمِنَ الأَدِلَّةِ كَذَلِكَ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ قَبِيلَةِ عَبْدِ الْقَيْسِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ عَنِ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي رِفْقَةٍ مِنْ عَبْدِ القيْسِ -وَهَذِهِ كَانَتْ فِي الْوِفَادَةِ الثَّانِيَةِ التِي كَانَتْ فِي عَامِ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ- فَلَمَّا قَدِمُوا. . . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ، مَا لِي أَرَى وُجُوهَكُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ نَحْنُ بِأَرْضٍ وَخِمَةٍ (¬4). * الوِفَادَة الثَّانِيَة: وَأَمَّا الْوِفَادَةُ الثَّانِيَةُ، فَكَانَتْ فِي عَامِ الْوُفُودِ مِنَ الْعَامِ التَّاسِعِ الْهِجْرِيِّ، ¬

_ (¬1) زاد أبو داود في سننه: في الإسلام. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 37): جُوَاثي، بضم الجيم وتخفيف الواو، وهي قرية من قرى البحرين. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجمعة - باب الجمعة في القرى والمدن - رقم الحديث (892) - وأخرجه أبو دواد في سننه - كتاب الصلاة - باب الجمعة في القرى - رقم الحديث (1068). (¬4) شيء وَخِم: بفتح الواو وكسر الخاء: أي وَبِيءٌ، وبلدةٌ وَخِمَةٌ: إذا لم يوافق سكنها. انظر لسان العرب (15/ 245). والحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أشج عبد القيس -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7203).

قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْبَعُونَ أَوْ عِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ، فِيهِمْ رِجَالُ الْوِفَادَةِ الْأُولَى وَآخَرُونَ، مِنْهُمْ: الْجَارُودُ بْنُ عَمْرٍ والْعَبْدِيُّ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنِ الْأَشَجِّ الْعَصْرِيِّ (¬1) -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في رِفْقَةٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ لِيَزُورَهُ، فَأَقْبَلُوا، فَلَمَّا قَدِمُوا، رُفِعَ (¬2) لَهُمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنَاخُوا (¬3) رِكَابَهُمْ (¬4)، فَابْتَدَرَ (¬5) الْقَوْمُ، وَلَمْ يَلْبَسُوا إِلَّا ثِيَابَ سَفَرِهِمْ، وَأَقَامَ الْعَصْرِيّ، فَعَقَلَ (¬6) رَكَائِبَ أَصْحَابِهِ وَبَعِيرَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ ثِيَابَهُ مِنْ عَيْبَتِهِ (¬7)، وَذَلِكَ بِعَيْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ (¬8) يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ"، قَالَ: مَا هُمَا؟ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"، فَقَالَ الْأَشَجُّ -رضي اللَّه عنه-: شَيْءٌ لا جُبِلْتُ عَلَيْهِ، أَوْ شَيْءٌ أَتَخَلَّقُهُ؟ (¬9)، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، بَلْ ¬

_ (¬1) الْأَشَجُّ العَصْرِي: اسمه المنذر بن عائذ العصري، وعصر: بطن من عبد القيس، ويُعرف أيضًا بأشج عبد القيس، وكان سيد قومه. (¬2) رُفِعَ لي الشيء: أبصرته من بُعدٍ. انظر لسان العرب (5/ 269). (¬3) أَنَاخَ الإبلَ: أَبْرَكَهَا فَبَرَكَتْ. انظر لسان العرب (14/ 321). (¬4) الرِّكَابُ: هي الرَّواحِلُ من الإبلِ. انظر النهاية (2/ 233). (¬5) بَدَرْتُ إلى الشيءَ: أَسْرَعْتُ. انظر لسان العرب (1/ 340). (¬6) عَقَلَ الْبَعِيرَ: رَبَطَهُ. انظر لسان العرب (9/ 327). (¬7) الْعَيْبَةُ: ما يُجعَلُ فيه الثيابُ. انظر النهاية (3/ 295). (¬8) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (17828): "خُلَّتَيْنِ". (¬9) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (17828): قال الأَشَجُّ: أَقَديمًا كَانَ فِيَّ أمْ حديثًا؟ .

جُبِلْتَ عَلَيْهِ" (¬1)، قَالَ: الْحَمْدُ للَّهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَعْشَرَ عَبْدِ الْقَيْسِ، مَا لِي أَرَى وُجُوهَكُمْ قَدْ تَغَيَّرَتْ" (¬2)، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! نَحْنُ بِأَرْضٍ وَخِمَةٍ، كُنَّا نَتَّخِذُ مِنْ هَذِهِ الْأَنْبِذَةِ مَا يَقْطَعُ اللُّحْمَانَ فِي بُطُونِنَا، فَلَمَّا نَهَيْتَنَا عَنِ الظُّرُوفِ (¬3)، فَذَلِكَ الذِي ترَى فِي وُجُوهِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الظُّرُوفَ لَا تُحِلُّ وَلَا تُحَرِّمُ، وَلَكِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَلَيْسَ أَنْ تَحْبِسُوا فتَشْرَبُوا، حَتَّى إِذَا امْتَلَأَتِ الْعُرُوقُ تَنَاحَرْتُمْ، فَوَثَبَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَتَرَكَهُ أَعْرَجَ" (¬4). وَكَانَ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى الْعَبْدِيُّ -رضي اللَّه عنه- نَصْرَانيًا، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (17828): قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بل قديمًا". (¬2) وفي هذا دليل على أنهم وفدوا على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل هذه المرة، التي كانت في عام الوفود. (¬3) الظُّرُوفُ: هي الأَوعيةُ التي نهاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَنْتبِذُوا فيها وهي: الْحَنْتَمُ، والدُّبَّاءُ والنَّقِيرُ، والْمُزَفَّتُ. (¬4) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أشج عبد القيس -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7203) - وللحديث شواهد كثيرة منها: عند مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الأمر بالإيمان باللَّه تَعَالَى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وشرائع الدين - رقم الحديث (17) (25) - وأبي داود في سننه - كتاب الأدب - باب قبلة الجسد - رقم الحديث (5225) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17828) (17829) (17829).

* صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة الظهر بعد العصر

مُحَمَّدُ! إِنِّي كُنْتُ عَلَى دِينٍ، وَإِنِّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِكَ، أَفتَضْمَنُ لِي دِينِي؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، أنَّا ضَامِنٌ لِذَلِكَ، إِنَّ الذِي أَدْعُوكَ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنَ الذِي كُنْتَ عَلَيْهِ"، فَأَسْلَمَ (¬1). ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ فِي -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَدَعَا لِقَبِيلَةِ عَبْدِ القيْسِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ إِذْ أَسْلَمُوا طَائِعِينَ غَيْرَ كَارِهِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَوْتُورِينَ (¬2)، إِذْ بَعْضُ قَوْمِنَا لَا يُسْلِمُونَ حَتَّى يُخْزَوْا وَيُوتَرُوا". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ خَيْرَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ عَبْدُ الْقَيْسِ" (¬3). * صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ: وَانْشَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، حَتَّى فَاتَتْهُ رَكْعَتَا سُنَّةِ الظُّهْرِ، فَمَا صَلَّاهَا إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْهَى عَنْهُمَا -أَيْ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ- ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى الْعَصْرَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: "يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ! سَأَلْتِ عَنِ الرَّكعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؟ إِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 230) - زاد المعاد (3/ 530). (¬2) يُقال: وَتَرْتُهُ: إذا نَقَصْتُهُ، فكأنك جعلته وِتْرًا بعد أن كان كثيرًا. انظر النهاية (5/ 129). (¬3) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17829) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1514) - وإسناده صحيح.

الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ" (¬1). وَأَقَامَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا أَرَادُوا الرُّجُوعَ إِلَى بِلَادِهِمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْحُمْلَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فَقَالَ الْجَارُودُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلَادِنَا ضَوَالًّا (¬2) مِنْ ضَوَالِّ النَّاسِ، أَفَنَتَبَلَّغُ عَلَيْهَا؟ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، تِلْكَ حَرَقُ النَّارِ" (¬3)، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْجَوَائِزِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب السهو - باب إذا كُلِّم وهو يُصلي فأشار بيده - رقم الحديث (1233) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب وفد عبد القيس - رقم الحديث (4370) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد العصر - رقم الحديث (834). (¬2) ضَوَالّ: جمع ضَالٍّ، وهي الإبلُ الضّائعةُ. انظر النهاية (3/ 89). (¬3) حديث "ضالة المسلم حَرَقُ النار" - أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20754) - عن الجارود بن المعلى العبدي -رضي اللَّه عنه- وإسناده حسن - وأخرجه ابن ماجه في سننه - رقم الحديث (2502) عن عبد اللَّه بن الشِّخِّير -رضي اللَّه عنه- وإسناده صحيح. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَرَقُ النَّارِ" بالتحريك: لهَبُها، وقد يُسكَّن، أي إن ضالة المؤمن إذا أخذها إنسان ليتملكها أدته إلى النار. انظر النهاية (1/ 357). (¬4) انظر الطبقات لابن سعد (1/ 152).

وفد بني سعد بن بكر

وَفْدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ هَوَازِنَ، ضِمَامَ (¬1) بْنَ ثَعْلَبَةَ -رضي اللَّه عنه- وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، غَيْرَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَطْمَئِنُّوا، فَأَرْسَلُوا ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ، فَجَاءَ ضِمَامٌ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَنَاخَ بَعِيرَهُ فِي الْمَسْجِدِ (¬2)، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ -وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُتَّكِئًا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ- فَقَالَ الصَّحَابَةُ: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ ضِمَامٌ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ أَجَبْتُكَ"، فَقَالَ ضِمَامٌ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلةِ، فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ". فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُكَ، فَزَعَمَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. ¬

_ (¬1) ضِمَامٌ: بكسر الضاد. (¬2) هذه رواية البخاري ومسلم - وفي رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (2380) - وإسناده حسن، قال: فأناخ بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 204): وهذا السياق يدل على أنه ما دخل ببعيره المسجد، . . . فعلى هذا في رواية أنس -رضي اللَّه عنه- مجاز الحذف، والتقدير: فأناخه في ساحة المسجد، أو نحو ذلك.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ". فَقَالَ ضِمَامٌ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ". قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ؟ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُ". قَالَ: أُنْشِدُكَ بِالذِي خَلَقَ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ". قَالَ: أُنْشِدُكَ بِالذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرٍ فِي سَنَتِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ".

قَالَ: أُنْشِدُكَ بِالذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ". قَالَ: أُنْشِدُكَ بِالذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَ". قَالَ: أُنْشِدُكَ بِالذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ". فَلَمَّا فَرَغَ ضِمَامٌ مِنْ سُؤَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ ضِمَامٌ -رضي اللَّه عنه-: سَأُؤَدِّي هَذِهِ الفرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ".

وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ (¬1)، يَدْخُلِ الْجَنَّةَ". ثُمَّ أَتَى ضِمَامٌ بَعِيرَهُ، فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى، قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ. قَالَ: وَيْلَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لَا يَضُرَّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا، فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بنِ ثَعْلبَةَ (¬2). ¬

_ (¬1) الَعَقِيصَةُ: الشَّعْرُ الْمَعْقُوصُ، وأَصْلُ الْعَقْصِ: اللَّيُّ، وإدْخَالُ أطرافِ الشَّعْرِ في أُصُولِهِ. انظر النهاية (3/ 249). (¬2) أخرج قصة ضمام بن ثعلبة -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب ما جاء في العلم - رقم الحديث (63) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام - رقم الحديث (11) - وباب السؤال عن أركان الإسلام - رقم الحديث (12) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2380) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الإيمان - باب فرض الإيمان - رقم الحديث (154) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5938).

* وهم الواقدي

* وَهْمُ الْوَاقِدِيِّ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: جَزَمَ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامٍ كَانَ سَنَةَ خَمْسٍ لِلْهِجْرَةِ، فَيَكُونُ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ النَّهْي فِي الْقُرْآنِ عَنْ سُؤَالِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وَآيَةِ النَّهْي فِي الْمَائِدَةِ، وَنُزُولُهَا مُتَأَخِّرٌ جِدًّا (¬2). ثَانِيهَا: أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمُعْظَمُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. ثَالِثُهَا: أَنَّ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ قَوْمَهُ أَوْفَدُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مُعْظَمُ الْوُفُودِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ. رَابِعُهَا: فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -الذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ- (¬3): ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (12) - ولفظ الحديث عن أنس -رضي اللَّه عنه- قال: نهينا أن نسأل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله، ونحن نسمع. . . . (¬2) الآية التي فيها النهي عن سؤال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هي قوله تَعَالَى في سورة المائدة آية (101): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2380) - وإسناده حسن.

أَنَّ قَوْمَهُ أَطَاعُوهُ وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلْ بَنُو سَعْدٍ -وَهُوَ ابْنُ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ- فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا بَعْدَ وَقْعَةِ حُنَيْنٍ، وَكَانَتْ فِي شَوَالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. فَالصَّوَابُ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامٍ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ (¬1) وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُمَا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 228). (¬2) انظر فتح الباري (1/ 206).

هجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أزواجه

هَجْرُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ وَفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَقَبْلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ، وَآلَى (¬1) مِنْهُنَّ شَهْرًا، فَاعْتَزَلَ عَنْهُنَّ فِي مَشْرُبَةٍ (¬2) لَهُ. * سَبَبُ هَذَا الْهَجْرِ: اخْتُلِفَ فِي السَّبَبِ الذِي مِنْ أَجْلِهِ هَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِسَاءَهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ، أَنَّ أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ (¬3)، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ -وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ تُوجَدَ مِنْهُ رِيحٌ كَرِيهَةٌ- فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ: ذَلِكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ"، فنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. . .} إِلَى قَوْلِهِ ¬

_ (¬1) آلَ: رَجَعَ. انظر لسان العرب (1/ 264) - النهاية (1/ 81). (¬2) قال الحافظ في الفتح (10/ 358): المَشْرُبَة: بضم الراء وفتحها هي الْغُرْفَة. وانظر النهاية (2/ 408). (¬3) المَغَافِيرُ: بفتح الميم، واحدها مُغْفُور: بضم الميم، وهو صَمْغٌ حُلْوٌ لَهُ رَائحةٌ كريهةٌ، يخرج في الشجر. انظر النهاية (3/ 336) - فتح الباري (10/ 474).

* سبب آخر

تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ. . .} (¬1)، لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} (¬2)، لِقَوْلهِ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا" (¬3). * سَبَبٌ آخَرُ: وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُهْدِيَ لِي لَحْمٌ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ أُهْدِيَ مِنْهُ لِزَيْنَبَ (¬4)، فَأَهْدَيْتُ لَهَا فَرَدَّتْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زِيدِيهَا"، فَزِدْتُهَا فَرَدَّتْهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَقْسَمْتُ عَلَيْكِ إِلَّا زِدْتِيهَا"، فَزِدْتُهَا فَرَدَّتْهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَدَخَلَتْنِي غَيْرَةٌ، فَقُلْتُ: لَقَدْ أَهَانَتْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْتِ وَهِيَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُهِينَنِي مِنْكُنَّ أَحَدٌ، أُقْسِمُ لَا أَدْخُلُ عَلَيْكُنَّ شَهْرًا". قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَغَابَ عَنَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْنَا مَسَاءَ الثَّلَاثِينَ، فَقُلْتُ: كُنْتَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ شَهْرًا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "شَهْرٌ هَكَذَا، وَشَهْرٌ هَكَذَا"، وَفرَقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ وَأَمْسَكَ فِي الثَّالِثَةِ الْإِبْهَامَ (¬5). ¬

_ (¬1) سورة التحريم آية (1 - 4). (¬2) سورة التحريم آية (3). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الطلاق - باب لم تحرم ما أحل اللَّه لك؟ - رقم الحديث (5267) - وأخرجه في كتاب الأيمان والنذور - باب إذا حَرَّم طعامًا - رقم الحديث (6691) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الطلاق - باب وجوب الكفارة على من حَرّم امرأته ولم ينو الطلاق - رقم الحديث (1474) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25852). (¬4) هي زينب بنت جحش زوج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الأيمان والنذور - باب إذا شق إيفاء النذر على =

* سبب آخر

* سَبَبٌ آخَرُ: وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ (¬1) يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. . .} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ سَبَبًا لِاعْتِزَالِهِنَّ، وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَسَعَةِ صَدْرهِ، وَكَثْرَةِ صَفْحِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ حَتَّى تَكَرَّرَ مُوجِبُهُ مِنْهُنَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَضِيَ عَنْهُنَّ (¬3). * أَحْدَاثُ الْقِصَّةِ: وَأَمَّا أَحْدَاثُ قِصَّةِ هَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَهَا الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَغَيْرُهُمَا، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْحَادِثَةِ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ (¬4) فِي بَنِي ¬

_ = رجل فليكفر عن يمينه - رقم الحديث (7901). (¬1) هي ماربة القبطية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كما جاء مصرحًا به في رواية ابن سعد في طبقاته (8/ 340) عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة التحريم - رقم الحديث (3877) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب عشرة النساء - باب الغيرة - رقم الحديث (8857). (¬3) انظر فتح الباري (10/ 363). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 351): اسم الجار المذكور أوس بن خوليّ الأنصاري.

أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نتنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْي أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُم نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ (¬1) نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ، فَصَخِبتُ (¬2) عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، قَالَتْ: وَلمَ (¬3) تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيُرَاجِعَنَّهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ. قَالَ عُمَرُ: فَأَفْزَعَنِي ذَلكَ، فَقُلْتُ لَهَا: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي (¬4)، فنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ! أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتَهْلِكِي؟ لَا تَسْتَكْثِرِي (¬5) النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلَا تَهْجُرِيهِ، وَسَلِينِي ¬

_ (¬1) طَفِقَ: بكسر الفاء، وقد تفتح: أي جعل أو أخذ. انظر النهاية (3/ 118). (¬2) الصَّخَبُ: الضَّجَّةُ والصِّيَاحُ. انظر النهاية (3/ 14). (¬3) ولِمَ: بكسر اللام وفتح الميم. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 353): أي لبستها جميعها. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 353): أي لا تطلبي منه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكثير.

مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ (¬1) مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-يُرِيدُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا، فكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَزْوَاجِهِ؟ قَالَ عُمَرُ: فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا، وَنَدِمْتُ عَلَى كَلَامِي لِنِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ: وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ، طَلَّقَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ، وَقَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ، فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الفجْرِ مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مشْرُبَةٌ لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا، وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا، أَطَلَقكُنَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ . قَالَتْ: لَا أَدْرِي، هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ، فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 354): أَوْضَأ: مِنَ الوَضَاءَةِ، والمراد أَجْمَل.

أَجِدُ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ التِي فِيهَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا بِرَبَاحٍ (¬1) غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ (¬2) الْمَشْرُبَةِ مُدَلٍّ رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ، وَهُوَ جِذْعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَيَنْحَدِرُ، فنَادَيْتُ: يَا رَبَاحُ! اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلَ، فكَلَّمَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَذَكَرْتَكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ! اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ، فَصَمَتَ، فَرَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ! اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنِّي أَظُنّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ظَنَّ أَني جِئْتُ مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِضَرْبِ عُنُقِهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقِهَا، وَرَفَعْتُ صَوْتِي، فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصمَتَ، قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا أَوْمَأَ إِلَيَّ رَبَاحٌ أَنِ ارْقَهْ، وَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ مُضطَجعٌ عَلَى رِمَالِ (¬3) حَصِيرٍ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أثَرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ (¬4) حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: يَا ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 359): رَباح بفتح الراء. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 359): الْأُسْكُفَّة: بضم الهمزة والكاف وتشديد الفاء: هي عَتَبَةُ البابِ السُّفْلى. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 359): رِمَال بكسر الراء، وقد تُضَمُّ، والمراد به النَّسْجُ، تقول: رَمَلْتُ الحصيرَ وأَرْمَلْتُهُ إذا نَسَجْتُهُ. (¬4) أَدَم: أي جِلْد. انظر لسان العرب (1/ 96).

رَسُولَ اللَّهِ! أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ، فَقَالَ: "لَا"، فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرِيدُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -فتَبَسَّمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَبَسُّمَةً أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ (¬1) ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اُدْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ، فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَبَكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يُبْكِيكَ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ، إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ -أَيْ عَلَى ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (10/ 361): الْأَهَبَة: بفتح الهمزة والهاء وبضمها أيضًا، وهو جمعُ إِهَاب، وهو الْجِلْدُ قَبلَ الدِّبَاغِ.

* دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أزواجه وتخيرهن

أَزْوَاجِهِ- شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ، حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. * دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَزْوَاجِهِ وَتَخَيُّرُهُنَّ: فَلَمَّا مَضَتْ تِسْع وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا، وإِنَمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةُ أَعُدُّهَا عَدًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشَّهْرُ تِسْع وَعِشْرُونَ لَيْلَةً"، فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَائِشَةُ إِنِّي ذَاكِرٌ لَكَ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ، حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ"، قَالَتْ: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} " (¬1). قَالَتْ: فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، ثُمَّ خَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ، فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬2). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية (28 - 29). (¬2) أخرج قصة هجر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أزواجه: =

* فوائد قصة هجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أزواجه

* فَوَائِدُ قِصَّةِ هَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ هَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ شِدَّةَ الْوَطْأَةِ عَلَى النِّسَاءِ مَذْمُومٌ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ بِسِيرَةِ الْأَنْصَارِ فِي نِسَائِهِمْ، وَتَرَكَ سِيرَةَ قَوْمِهِ. 2 - وَفِيهِ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ وَقَرَابَتَهُ بِالْقوْلِ؛ لِأَجْلِ إِصْلَاحِهَا لِزَوجِهَا. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ ضَرْبِ الْبَابِ وَدَقُّهُ إِذَا لَمْ يَسْمَعِ الدَّاخِلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. 4 - وَفِيهِ دُخُولُ الْآبَاءِ عَلَى الْبَنَاتِ، وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ. 5 - وَفِيهِ التَّنْقِيبُ عَنْ أَحْوَالِهِنَّ لَا سِيَّمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُتَزَوِّجَاتِ. 6 - وَفِيهِ حِرصُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالضَّبْطِ بِأَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 7 - وَفِيهِ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ وَقْتًا يَتَفَرَّغُ فِيهِ لِأَمْرِ مَعَاشِهِ وَحَالِ أَهْلِهِ. ¬

_ = البخاري في صحيحه - كتاب النكاح - باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها - رقم الحديث (5191) - وفي كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. . .} - رقم الحديث (4786) - ومسلم في صحيحه - كتاب الطلاق - باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن - رقم الحديث (1479) (31) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (222) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (23).

8 - وَفِيهِ الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَاتِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ خِطَابِهِنَّ وَالصَّفْحُ عَمَّا يَقَعُ مِنْهُنَّ مِنْ زَلَلٍ فِي حَقِّ الْمَرْءَ دُونَ مَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. 9 - وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْحَاكِمِ عِنْدَ الْخَلْوَةِ بَوَّابًا يَمْنَعُ مَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. 10 - وَفِيهِ الرِّفْقُ بِالْأَصْهَارِ وَالْحَيَاءُ مِنْهُمْ إِذَا وَقَعَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِهِ مَا يَقْتَضِي مُعَاتَبَتَهُمْ. 11 - وَفِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنَ الْكَلَامِ، وَأَفْضَلَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ؛ لِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَوْ أَمَرَ غُلَامَهُ بِرَدِّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، لَمْ يَجُزْ لِعُمَرَ الْعَوْدُ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمَّا سَكَتَ فَهِمَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ رَدَّهُ مُطْلَقًا. 12 - وَفِيهِ أَنَّ الْحَاجِبَ إِذَا عَلِمَ مَنع الْإِذْنِ بِسُكُوتِ الْمَحْجُوبِ لَمْ يَأْذَنْ. 13 - وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَالَةٍ يَكْرَهُ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا. 14 - وَفِيهِ جَوَازُ تَكْرَارِ الْاسْتِئْذَانِ لِمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ إِذَا رَجَا حُصُولَ الْإِذْنِ، وَأَنْ لَا يَتَجَاوَزَ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. 15 - وَفِيهِ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا رَأَى صَاحِبَهُ مَهْمُومًا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ بِمَا

يُزِيلُ هَمَّهُ وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ: لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ الْكَبِيرِ فِي ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-. 16 - وَفِيهِ تَذْكِيرُ الْحَالِفِ بِيَمِينِهِ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا ظَاهِرُهُ نِسْيَانُهَا، لَا سِيَّمَا مِمَّنْ له تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ خَشِيَتْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَسِيَ مِقْدَارَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ شَهْر، وَالشَّهْرُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَة وَعِشْرُونَ يَوْمًا، فَأَعْلَمَهَا أَنَّ الشَّهْرَ اسْتَهَلَّ، فَإِنَّ الذِي كَانَ الْحَلْفُ وَقَعَ فِيهِ جَاءَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. 17 - وَفِيهِ سُكْنَى الْغُرْفَةِ ذَاتِ الدَّرَجِ وَاتِّخَاذُ الْخِزَانَةِ لِأَثَاثِ الْبَيْتِ وَالْأَمْتِعَةِ. 18 - وَفِيهِ التَّنَاوُبُ فِي مَجْلِسِ الْعَالِمِ إِذَا لَمْ تَتَيَسَّرِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى حُضُورِهِ لِشَاغِلٍ شَرْعِيٍّ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ أَو دُنْيَوِيٍّ. 19 - وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ كَانَ الْآخِذُ فَاضِلًا وَالْمَأْخُوذُ عَنْهُ مَفْضُولًا. 20 - وَفِيهِ رِوَايَةُ الْكَبِيرِ عَنِ الصَّغِيرِ. 21 - وَفِيهِ أَنَّ الْأَخْبَارَ التِي تُشَاعُ وَلَوْ كَثُرَ نَاقِلُوهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ حِسِّيٍّ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ لَا تَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ، فَإِنَّ جَزْمَ الْأَنْصَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ بِوُقُوعِ التَّطْلِيقِ، وَكَذَا جَزْمُ النَّاسِ الذِينَ رَآهُمْ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَ الْمِنْبَرِ بِذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ شَاعَ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ مِنْ شَخْصٍ بِنَاءً عَلَى التَّوَهُّمِ الذِي تَوَهَّمَهُ مِنِ

اعْتِزَالِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِسَاءَهُ، فَظُنَّ لِكَوْنِهِ لَم تَجْرِ عَادَتُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ طَلَّقَهُنَّ، فَأَشَاعَ أَنَّهُ طَلَّقَهُنَّ، فَشَاعَ ذَلِكَ، فتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ. 22 - وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنْ مَحَبَّةِ الِاطِّلَاع عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَلَّتْ أَوْ قَلَّتْ، وَاهْتِمَامُهُمْ بِمَا يَهْتَمُّ لَهُ لإِطْلَاقِ الْأَنْصَارِيِّ اعْتِزَالَهُ نِسَاءَهُ الذِي أَشْعَرَ عِنْدَهُ بِأنَّهُ طَلَقهُنَّ الْمُقْتَضِي وُقُوعَ غَمِّهِ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ طُرُوقِ مَلِكِ الشَّامِ الْغَسَّانِيِّ بِجُيُوشهِ الْمَدِينَةَ لِغَزْوِ مَنْ بِهَا. 23 - وَفِيهِ أَنَّ الْغَضَبَ وَالْحُزْنَ يَحْمِلُ الرَّجُلَ الْوَقُورَ عَلَى تَرْكِ التَّأَنِّي الْمَأْلُوفِ مِنْهُ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ غَلَبَنِي عَلَى مَا أَجِدُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. 24 - وَفِيهِ شِدَّةُ الْفَزَعِ وَالْجَزَعِ لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ. 25 - وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ الْإِنْسَانِ إِلَى نوَاحِي بَيْتِ صَاحِبِهِ وَمَا فِيهِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مَا وَقَعَ لِعُمَرَ -رضي اللَّه عنه- وَبَيْنَ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْي عَنْ فُضولِ النَّظَرِ. 26 - وَفِيهِ كَرَاهَةُ سُخْطِ النِّعْمَةِ وَاحْتِقَارِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ، وَطَلَبُ الْاسْتِغْفَارِ مِنْ أَهْلِ الفضْلِ، وَإِيثَارُ الْقنَاعَةِ، وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا خُصَّ بِهِ الْغَيْرُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ. 27 - وَفِيهِ الْمُعَاقَبَةُ عَلَى إِفْشَاءِ السِّرِّ بِمَا يَلِيقُ بِمَنْ أَفْشَاهُ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (10/ 365 - 367).

غزوة تبوك من بدايتها إلى نهايتها

غَزوَةُ تَبُوكَ مِنْ بدَايَتِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا غَزوَةُ تَبُوكَ (¬1) أَو (الْعُسْرَةِ) (¬2) كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ في رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا والْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ، . . . وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا (¬3). ¬

_ (¬1) تَبُوك: بفتح التاء وضم الباء، موضع بين وادي القرى والشَّام. انظر معجم البلدان (2/ 431). وتبعد اليوم عن المدينة المنورة نحو (800) كيلو تقريبًا. ووقع تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة: منها ما رواه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (706) (15/ 33) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22070) من حديث معاذ -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنكم ستأتون كدًا إن شاء اللَّه عين تبوك. . . " (¬2) وأما تسميتها "العسرة": فبضم العين وسكون السين، والسبب في تسميتها ذلك ما وقع فيها من الشدة والضيق في النفقة والظهر -أي الإبل- والماء، وقد وقع هذا الاسم في القرآن، فقال سبحانه وتَعَالَى في سورة التوبة، آية (117): {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}. وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة، ثم ساق حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-، ولفظه: أرسلني أصحابي إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أسأله الحُملان لهم إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك. . . . (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27175).

* سبب الغزوة

وَرَوَى الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: . . . وَكَانَ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَبُوكُ (¬1). وَكَانَتْ في وَقْتٍ حَارٍّ جِدًّا وَقَحْطٍ، وَضِيقٍ شَدِيدٍ في النَّفَقَةِ وَالظَّهْرِ (¬2) وَالْمَاءِ. * سَبَبُ الْغَزْوَةِ: اخْتُلِفَ في سَبَبِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَعِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَلَغَهُ أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ جَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً مِنَ الرُّومِ وَالْغَسَاسِنَةِ وَقَبائِلِ الْعَرَبِ الْمُوَالِيَةِ لَهُ، فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ (¬3). قُلْتُ: وَيَظْهَرُ ذَلِكَ جَلِيًّا في حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- الذِي مَضَى قَبْلَ قَلِيلٍ-، وَهُوَ يَرْوِي قِصَّةَ هَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ في بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ -وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ- وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْي أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، . . . وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الخَيْلَ لِتَغْزُونَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فضَرَبَ بَابِي ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب استغفار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن جابر - رقم الحديث (6463). (¬2) الظهر: الإبل التي يُحمل عليها وتُركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 332).

* رأي الحافظ ابن كثير

ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: قَدْ حَدَثَ اليَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ لَهُ: مَا هُوَ؟ أَجَاءَ غَسَّانُ؟ ، قَالَ: لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نِسَاءَهُ (¬1). * رَأْيُ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ: وَيَرَى الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ السَّبَبَ فِي عَزْمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى غَزْوِ الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، بَعْدَمَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ أَمْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَعَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى قِتَالِ الرُّومِ؛ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ لِقُرْبِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). قُلْتُ: وَالذِي نَمِيلُ إِلَيْهِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- في سَبَبِ غَزْوَةِ تَبُوكَ، مَا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَزْوِ الرُّومِ لَهُمْ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ، وَحَدِيثِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-. * اسْتِنْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمُسْلِمِينَ لِلْغَزوِ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَلَّمَا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح - باب موعظة الرَّجل ابنته لحال زوجها - رقم الحديث (5191) - ومسلم في صحيحه - كتاب الطلاق - باب الإيلاء واعتزال النساء - رقم الحديث (1479). (¬2) سورة التوبة آية (123) - وانظر كلام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 5).

يَخْرُجُ إِلَى غَزْوَةٍ إِلَّا وَوَرَّى (¬1) بِغَيْرِهَا، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَغَزْوَةِ تَبُوكَ (¬2)، فَغَزْوَةُ خَيْبَرَ، فلِأنَّ اللَّه تَعَالى وَعَدَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بفَتْحِهَا، وَأمَّا غزْوَةُ تَبُوكَ، فَلبُعْدِ الشُّقَّةِ (¬3)، وَشِدَّةِ الزَّمَانِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ في شِدَّةِ الْحَرِّ، حِينَ طَابَتِ الظِّلَالُ، وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ، وَحُبِّبَ إِلَى النَّاسِ الْمُقَامُ، وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ. . . وَكَانَ لِهَذِهِ الْعَوَامِلِ الْمُخْتَلِفَةِ أَثَرُهَا في تَثَاقُلِ بَعْضِ النَّاسِ عِنْدَ النَّفْرَةِ، فَبَدَأَتِ الْآيَاتُ تَنْزِلُ في سُورَةِ التَّوْبَةِ لِتُعَالِجَ هَذَا الْأَمْرَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ¬

_ (¬1) ورّى: أي سَتَرَهُ وكَنَّى عنه، وأوهم أنَّه يريد غيره. انظر النهاية (5/ 155). (¬2) روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2769) (54) - عن كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- أنَّه قال: . . . ولم يكن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يريد غزوة إِلَّا وَرّى بغيرها حَى كانت تلك الغزوة -أي غزوة تبوك- غزاها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حر شديد. (¬3) الشُّقَّةُ: السَّفَرُ الطويلُ، وقيل: الْمَسَافَةُ البَعِيدَةُ. انظر النهاية (2/ 440). ومنه قوله تَعَالَى في سورة التوبة آية (42): {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ. . .}

* حض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على النفقة لجيش العسرة

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). ذَلِكَ بَدْءُ الْعِتَابِ لِلْمُتَخَلِّفِينَ، وَالتَّهْدِيدِ بِعَاقِبةِ التّثاقُلِ عَنِ الْجِهَادِ في سبِيلِ اللَّهِ، وَالتَّذْكِيرِ لَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ نَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَبِقُدْرَته عَلَى إِعَادَةِ هَذَا النَّصْرِ بِدُونِهِمْ، فَلَا يَنَالُهُمْ عِنْدَئِذٍ إِلَّا إِثْمُ التَّخَلُّفِ وَالتَّقْصِيرِ (¬2). فَأَسْرَعَ الْمُسْلِمُونَ يتَجَهَّزُونَ لِلْخُرُوجِ، وَأَخَذَتِ القبَائِلُ تَقْدُمُ الْمَدِينَةَ مِنْ كُلِّ حَدْبٍ وَصَوْبٍ، مِنْهَا: غِفَارٌ، وَأَسْلَمُ، وَجُهَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ، وَبَنُو كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ. * حَضُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى النَّفَقَةِ لِجَيْشِ الْعُسْرَةِ: حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى الْإِنْفَاقِ لِجَيْشِ الْعُسْرَةِ، فتَسَابَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى التَّنَافُسِ في الْإِنْفَاقِ كُلٌّ حَسَبَ مَقْدِرَتِهِ، وَإِلَيْكُمْ بَعْضَ هَذِهِ النَّفَقَاتِ: * إِنْفَاقُ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيق وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِصَدَقَتِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (38 - 41). (¬2) انظر في ظلال القرآن (3/ 1655) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* إنفاق عثمان بن عفان -رضي الله عنه-

-صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا (¬1) أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ، إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ "، قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟ "، قَالَ -رضي اللَّه عنه-: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّه وَرَسُولَهُ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- وَاللَّهِ لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا (¬2). * إِنْفَاقُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ أَعْظَمَ مِنْ نَفَقَةِ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أُنْشِدُكُمُ اللَّه، وَلَا أُنْشِدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَلسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: ". . . مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ"، فَجَهَّزْتُهُ (¬4). ¬

_ (¬1) الذي يظهر أن ذلك كان يوم تبوك -واللَّه أعلم-. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب مناقب أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4006) - وأبو داود في سننه - كتاب الزكاة - باب في الرخصة في ذلك - رقم الحديث (1678) - والحاكم في المستدرك - كتاب الزكاة - باب الصدقة جهد المقل - رقم الحديث (1550). (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 233) للإمام الذهبي. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوصايا - باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا أو اشترط =

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَفِي الفضَائِلِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَلْفِ دِينَارٍ في ثَوْبِهِ حِينَ جَهَّزَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَصَبَّهَا في حِجْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ وَيَقُولُ: "مَا ضَرَّ ابْنُ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ" يُرَدِّدُهَا مِرَارًا (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّيَالِسِيُّ في مُسْنَدَيْهِمَا بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: عَلَيّ مِئَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا (¬2) وَأَقْتَابِهَا (¬3)، ثُمَّ حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَانِيَةً، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: عَلَيَّ مِئَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، ثُمَّ حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَالِثَةً، فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: عَلَيَّ مِئَةٌ أُخْرَى بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَبَّابٍ: فَرَأَيْتُ ¬

_ = لنفسه - رقم الحديث (2778) معلقًا، ووصله الإسماعيلي - وأبو نعيم - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (82) - والإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (730) - وهو حديث صحيح. (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20630) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (738). (¬2) الْأَحْلَاسُ: جمع حِلْس، وهو الكِساءُ الذي يَلي ظهرَ البعيرِ تحتَ القتَبِ. انظر النهاية (1/ 407). (¬3) الْقتَبُ: هو إِكَافُ البعيرِ، وقيل: رَحْلٌ صَغيرٌ على قَدْرِ السِّنَامِ. انظر لسان العرب (11/ 27).

* إنفاق عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-

رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْزِلُ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: "مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا" مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا (¬1) * إِنْفَاقُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبرِيُّ في تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "تَصَدَّقُوا، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا" (¬2). قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ عِنْدِي أَرْبَعَةَ آلَافٍ: أَلفيْنِ أُقْرِضُهُمَا اللَّه، وَأَلفيْنِ لِعِيَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنه- بِسَنَدٍ حَسَنٍ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً (¬4) مِنْ ذَهَبٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَقَدِ اخْتُلِفَ في إِنْفَاقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده رقم الحديث (16696) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1285) - والترمذي في جامعة - كتاب المناقب - باب مناقب عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4033) - وقال الترمذي في جامعة: هذا حديث غريب. (¬2) هذا البعث هو جيش العسرة. (¬3) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 431). (¬4) الْأُوقيَّةُ: بضمِّ الهمزة وتشديد الياء: وهي عبارة عن أربعين درهمًا. انظر النهاية (1/ 80). (¬5) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/ 430).

* تتابع الصحابة رضي الله عنهم في الإنفاق لجيش العسرة

يَوْمَ تَبُوكَ اخْتلَافًا شَدِيدًا، وَأَصَحُّ الطُّرُقِ فيه أَنَّهُ أَنْفَقَ ثَمَانيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ (¬1). * تَتَابُعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في الْإِنْفَاقِ لِجَيْشِ الْعُسْرَةِ: وَتَتَابَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِصَدَقَاتِهمْ لِجَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ (¬2) بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرْنَا بِالصَّدَقَةِ، كُنَّا نتحَامَلُ، فَجَاءَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ (¬3). وَوَقَعَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ في قِصَّةِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ (¬4) وَهُوَ الذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ (¬5) الْمُنَافِقُونَ (¬6). قَالَ الْحَافِظُ في الْفتْحِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ مَنْ جَاءَ بِالصَّاعِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا: أَنَّهُ جَاءَ بِصَاعٍ، وَكَذَا وَقَعَ في الزَّكَاةِ -في صَحِيحِ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 230). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 32) (9/ 229): أبو عَقِيلٍ: بفتح العين، واسمه حبحاب. (¬3) أخرجه البخاري - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} - رقم الحديث (4668) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب العمل بأجرة يتصدق بها - رقم الحديث (1018). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 230): واسم أبي خيثمة هذا عبد اللَّه بن خيثمة من بني سالم من الْأَنصار. (¬5) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (17/ 75): لَمَزَه: أي عَابَهُ واحْتَقَرَهُ. (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769).

* استهزاء المنافقين

الْبُخَارِيِّ-: "وَجَاءَ رَجُلٌ فتَصَدَّقَ بِصَاعٍ" (¬1)، وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ "فَجَاءَ أَبُو عَقِيل بِنِصْفِ صَاعٍ" (¬2). * اسْتِهْزَاءُ الْمُنَافِقِينَ: وَلَمَّا أَنْفَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا فَعَلَ هَذَا إِلَّا رِيَاءً، وَلَمَّا أَنْفَقَ أَبُو عَقِيلٍ، قَالُوا: إِنَّ اللَّه لَغَنِيٌّ عَنْ صَدَقَةِ (¬3) هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ في هَؤُلَاءَ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ (¬4) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5). * أَمْرُ الْبَكَّائِينَ: وَجَاءَ جَمَاعَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانُوا سَبْعَةً وَهُمْ: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب اتقوا النَّار ولو بشق تمرة - رقم الحديث (1415). (¬2) انظر كلام الحافظ في الفتح (9/ 229). (¬3) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (1415): صاع. (¬4) الْمُطَّوِّعُ: الْمُتَطَوِّعُ: وهو الذي يفعلُ الشيءَ تَبَرُّعًا من نفسه، من غير أَنْ يُجْبَرَ عليه، فأدغمت التاء بالطاء. انظر جامع الأصول (2/ 167). (¬5) سورة التوبة آية (79) - وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب اتقوا النَّار ولو بشق تمرة - رقم الحديث (1415) - وأخرجه في كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} - رقم الحديث (4668) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الزكاة - باب العمل بأجرة يتصدق بها - رقم الحديث (1018).

وَعُلْبَةُ (¬1) بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُومِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ، وَهَرَمِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ، وَكَانُوا كُلُّهُمْ مُعْسِرِينَ وَذَوِي حَاجَةٍ، وَلَا يُحِبُّونَ التَّخَلُّفَ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ"، فتَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِيَخْرُجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَقَدْ عَذَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (¬2). وَلَمَّا خَرَجَ الْبَكَّاؤُونَ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَقِيَ ابْنُ يَامِينَ بْنِ عُمَيْرٍ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (4/ 449): عُلْبَةُ: بضم العين وسكون اللام. (¬2) سورة التوبة آية (91 - 92). قلت: وقع في مسند الإِمام أحمد - رقم الحديث (17145) بسند صحيح التصريح باسم بعض هؤلاء الصحابة في أن هذه الآية نزلت فيهم، فعن عبد الرحمن بن عمرو السُلمي، وحُجر بن حُجر قالا: أتينا العرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه-، وهو ممن نزل فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، ثم ذكر الحديث. وروى الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20546) بسند ضعيف عن عبد اللَّه بن مُغفَّل - وكان أحد الرهط الذين نزلت فيهم هذه الآية: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ}، ثم ذكر الحديث.

* شأن علبة بن زيد -رضي الله عنه-

النَّضْرِيُّ أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ، وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَقَالَ لَهُمَا: مَا يُبْكِيكُمَا؟ . قَالَا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ يَجِدْ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نتقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا (¬1) لَهُ، وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ، فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. * شَأْنُ عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه-: وَأَمَّا عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- فَإِنَّهُ قَامَ فَصَلَّى مِنْ لَيْلَتِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ! إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ تَجْعَلْ في يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا في مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلةَ؟ " فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ"، فَقَامَ إِلَيْهِ عُلْبَةُ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبْشِرْ، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ في الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ" (¬2). ¬

_ (¬1) النَّاضِحُ: البعيرُ الذي يُستقَى عليه. انظر النهاية (5/ 59). (¬2) أورد ذلك الحافظ في الإصابة (4/ 450) وإسناده صحيح، وصححه الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تعليقه على فقه السيرة للغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ص 405 - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (4/ 171) بدون سند.

* شأن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- وأصحابه

وَإِنَّ لَنَا هُنَا لَوَقفةً تُرِينَا كَيْفَ بَلَغَ حُبُّ الْجِهَادِ وَالْبَذْلُ في سَبِيلِ اللَّهِ في نُفُوسِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤثِرُونَ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ لَدَيْهِمْ، وَبِهَذِهِ الْمَعَانِي وَالْخَصَائِصِ النَّفْسِيَّةِ فتَحُوا الْعَالَمَ وَسَادُوا الدُّنْيَا (¬1). * شَأْنُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- وَأَصْحَابِهِ: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَسْأَلُه الْحُمْلَانَ (¬2) لَهُمْ، إِذْ هُمْ مَعَهُ في جَيْشِ الْعُسْرَةِ، وَهِيَ غَزْوَةُ تَبوكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ" (¬3) وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ، وَلَا أَشْعُرُ، وَرَجَعْتُ حَزِينًا مِنْ مَنع النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَدَ في نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرتُهُمُ الذِي قَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلَّا سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلَالًا يُنَادِي: أَيْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ (¬4)! فَأَجَبْتَهُ، فَقَالَ: أَجِبُّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (2/ 497) للدكتور محمَّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 450): الْحُمْلَانُ: بضم الحاء: أي الشيء الذي يَركبونَ عليهِ ويَحْمِلُهُمْ. (¬3) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ". (¬4) هو اسم أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه-.

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ (¬1)، وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ (¬2) حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ (¬3) فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ اللَّه -أَوْ قَالَ- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ فَارْكبُوهُنَّ"، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِمْ بِهِنَّ فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَا أَدَعُكُمْ حَتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالة رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَا تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا لِي: إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ، فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ حَتَّى أَتَوُا الذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في الصَّحِيحَيْنِ قَالَ أَبُو مُوسَى -رضي اللَّه عنه-: فَقُلْنَا: مَا صَنَعْنَا؟ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا، تَغَفَّلْنَا (¬5) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لَا نُفْلحُ أَبَدًا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ، وَإِنَّكَ حَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلُنَا، ثُمَّ حَمَلْتَنَا، أَفَنَسِيتَ؟ ¬

_ (¬1) الْقَرِينَيْنِ: أي الْجَمَلَيْنِ الْمَشْدُودَيْنِ أحدهما إلى الآخر. انظر النهاية (4/ 47). (¬2) ابْتَاعَ الشيءَ: اشْتَرَاهُ. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 450): لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن، إِلا أنه يهجس في خاطري أنَّه سعد بن عبادة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة - رقم الحديث (4415) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها - رقم الحديث (1649) (8). (¬5) تغفّلنا: أي جَعَلْنَاهُ غَافلًا عن يمينه بسبب سؤالنا. انظر النهاية (3/ 337).

* فوائد الحديث

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّه حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللَّهِ لا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا" (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - اسْتِحْبَابُ حَنْثِ الْحَالِفِ في يَمِينِهِ إِذَا رَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا. 2 - انِعْقَادُ الْيَمِينِ في الْغَضَبِ (¬2). * قِصَّةُ وَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ وَاثِلَةَ بنِ الْأَسْقَعِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: نَادَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَخَرَجْتُ إِلَى أَهْلِي، فَأَقْبَلْتُ وَقَدْ خَرَجَ أَوَّلُ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَطَفِقْتُ في الْمَدِينَةِ أُنَادِي: أَلَا مَنْ يَحْمِلُ رَجُلًا لَهُ سهْمُهُ، فنَادَى شَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: لَنَا سَهْمُهُ عَلَى أَنْ نَحْمِلَهُ عُقْبَةً وَطَعَامُهُ مَعَنَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ خَيْرِ صَاحِبٍ حَتَّى أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا، فَأَصَابَنِي قَلَائِصُ (¬3) فَسُقْتُهُنَّ حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَخَرَجَ فَقَعَدَ عَلَى حَقِيبَةٍ مِنْ حَقَائِبِ إِبِلِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُقْهُنَّ مُدْبِرَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: سُقْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ، فَقَالَ: مَا أَرَى قَلَائِصَكَ إِلَّا كِرَامًا، قَالَ: إِنَّمَا هِيَ غَنِيمَتُكَ التِي شَرَطْتُ لَكَ، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوحيد - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} - رقم الحديث (7555) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها - رقم الحديث (1649) (7) (9). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 450). (¬3) القلائص: جمع قلوص وهي الناقة الشابة. انظر النهاية (4/ 88).

* المعذرون من الأعراب

قَالَ: خُذْ قَلَائِصَكَ يَا ابْنَ أَخِي فَغَيْرُ سَهْمِكَ أَرَدْنَا (¬1). * الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ: جَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في التَّخَلُّفِ وَتَعَلَّلُوا بِالْجَهْدِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْذُرْهُمْ، أَيْ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُمْ لِكَذِبِهِمْ فِيهِ، وَكَانُوا اثْنَانِ وَثَمَانُونَ رَجُلًا (¬2). فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (¬3). فَالذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، وَيَعْتَقِدُونَ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ، لَا يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ في أَدَاءِ فَرِيضَةِ الْجِهَادِ، وَلَا يَتَلَكَّؤُونَ في تَلْبِيَةِ دَاعِي النَّفْرَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ، بَلْ يُسَارِعُونَ إِلَيْهَا خِفَافًا وثِقَالًا كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، طَاعَةً لِأَمْرِهِ، وَيَقِينًا بِلِقَائِهِ، وَثِقَةً بِجَزَائِهِ، وَابْتِغَاءً لِرِضَاهُ، وَإِنَّهُمْ لَيَتَطَوَّعُونَ تَطَوُّعًا فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يَسْتَحِثُّهُمْ، فَضْلًا عَنِ الْإِذْنِ لَهُمْ، إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُ أُولَئِكَ الذِينَ خَلَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْيَقِينِ فَهُمْ يَتَلَكَّؤُونَ وَيَتَلَمَّسُونَ الْمَعَاذِيرَ، لَعَلَّ عَائِقًا مِنَ الْعَوَائِقِ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّهُوضِ بِتَكَالِيفِ الْعَقِيدَةِ التِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا، وَهُمْ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في الرجل يكري دابته على النصف أو السهم - رقم الحديث (2676). (¬2) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 332). (¬3) سورة التوبة الآيات (43 - 45).

* تخلف المنافقين

يَرْتَابُونَ فِيهَا وَيَتَرَدَّدُونَ (¬1). * تَخَلُّفُ المُنَافِقِينَ: وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ بِالْجَهَازِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى النَّفِيرِ، أَخَذَ الْمُنَافِقُونَ في تَثْبِيطِ هِمَمِ النَّاسِ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا طَاقَةَ لَهُ بِالرُّومِ، وَالسَّفَرُ بَعِيدٌ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا (¬2) قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا (¬3) لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ (¬4) وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬5). قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَنْفِرُوا في الْحَرِّ، زَهَادَةً في الْجِهَادِ، وَشَكًّا في الْحَقِّ، وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬6). إِنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ نَمُوذَجٌ لِضَعْفِ الْهِمَّةِ، وَطَرَاوَةِ الْإِرَادَةِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الذِينَ يُشْفِقُونَ مِنَ الْمَتَاعِبِ، وَيَنْفِرُونَ مِنَ الْجَهْدِ، وَيُؤثِرُونَ الرَّاحَةَ الرَّخِيصةَ عَلَى الْكَدْحِ الْكَرِيمِ، وَيُفَضِّلُونَ السَّلَامَةَ الذَّلِيلَةَ عَلَى الْخَطَرِ الْعَزِيزِ، وَهُمْ يَتَسَاقَطُونَ ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (3/ 1662) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) قال ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: عَرَضًا: غنيمة قريبة. انظر تفسير ابن كثير (4/ 158). (¬3) قَاصِدًا: قريبًا. انظر تفسير ابن كثير (4/ 158). (¬4) الشُّقَّةُ: السَّفَرُ الطَّوِيلُ. انظر النهاية (2/ 440). (¬5) سورة التوبة آية (42). (¬6) سورة التوبة آية (81 - 82) والخبر في سيرة ابن هشام (4/ 170).

* موقف المنافق الجد بن قيس

إِعْيَاءً (¬1) خَلْفَ الصُّفُوفِ الْجَادَّةِ الزَّاحِفَةِ الْعَارِفَةِ بِتَكَالِيفِ الدَّعَوَاتِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الصُّفُوفَ تَظَلُّ في طَرِيقِهَا الْمَمْلُوءِ بِالْعَقَبَاتِ وَالْأَشْوَاكِ؛ لِأَنَّهَا تُدْرِكُ بِفِطْرَتِهَا أَنَّ كِفَاحَ الْعَقَبَاتِ وَالْأَشْوَاكِ فِطْرَةٌ في الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهُ أَلذُّ وَأَجْمَلُ مِنَ الْقُعُودِ وَالتَّخَلُّفِ وَالرَّاحَةِ الْبَلِيدَةِ التِي لَا تَلِيقُ بِالرِّجَالِ (¬2). * مَوْقِفُ الْمُنَافِقِ الْجَدِّ بْنِ قَيسٍ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ في جَهَازِهِ لِغَزْوَةِ تَبُوكٍ للْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدَ بَنِي سَلمَةَ: "يَا جَدُّ، هَلْ لَكَ الْعَامُ في جِلَادِ (¬3) بَنِي الْأَصْفَرِ؟ " (¬4). فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوَ تَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنِّي؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُل بِأَشَدِّ عُجْبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ لَهُ: "قَدْ أَذِنْتُ لَكَ"، فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى في الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (¬5). ¬

_ (¬1) الْعَيُّ: الْعَجْزُ. انظر النهاية (3/ 301). (¬2) انظر في ظلال القرآن (3/ 1682) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬3) أي مَوْضِعُ الْجِلَادُ، وهو الضَّرْبُ بالسَّيْفِ في الْقِتَالِ. انظر النهاية (1/ 276). (¬4) بني الْأَصْفَرِ: يعني الرُّومَ. انظر النهاية (3/ 35). (¬5) سورة التوبة آية (49). والخبر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه - رقم الحديث (9403) - والطبري في تفسيره (6/ 386) - ابن إسحاق في السيرة (4/ 170) - وأورد طرقه الألباني رحمه اللَّه تعالى في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (2988) - وحسّن إسناده.

* تثبيط المنافقين

قَالَ الْإِمَامُ ابْن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَفْسِيرِهِ: تَضَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ في الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ (¬1). قُلْتُ: وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ هَذَا هُوَ سَيِّدُ بَنِي سَلِمَةَ (¬2)، وَقَدِ انْتَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُ السِّيَادَةَ (¬3)، وَهُوَ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يُبَايِعْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ (¬4). * تَثْبِيطُ الْمُنَافِقِينَ: وَكَانَ رَهْطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ: مَخْشِي (¬5) بْنُ حُمَيِّرٍ (¬6)، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ (¬7) في الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مَخْشِي بْنُ حُمَيِّر: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضِي عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآن لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ. ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (6/ 386). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 356): سَلِمَة: بفتح السين وكسر اللام. (¬3) ذكرنا ذلك عند الكلام على بيعة الرضوان، فراجعه. (¬4) ذكرنا ذلك عند الكلام على بيعة الرضوان، فراجعه. (¬5) قال الحافظ في الإصابة (6/ 44): مَخْشي: بسكون الخاء. (¬6) قال الحافظ في الإصابة (6/ 44): حُميِّر مصغرًا بالتثقيل. (¬7) مُقَرَّنِينَ: مُرَبَّطِينَ. انظر لسان العرب (11/ 139). ومنه قوله تَعَالَى في سورة إبراهيم آية (49): {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}. الأصفاد: هي القيود. انظر تفسير ابن كثير (4/ 522).

* كلام الجلاس بن سويد بن الصامت

في هَذِهِ الْفَتْرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رضي اللَّه عنه-: "أَدْرِكِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا". فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (¬1). * كَلَامُ الْجُلَاسِ (¬2) بْنِ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ: رَوَى الأُمَوِيُّ في تَارِيخِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَسَمِعَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا جُلَاسُ إِنَّكَ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدِي يَدًا، وَأَعَزُّهُمْ عَلَيَّ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَلقدْ قُلْتَ مَقَالَةً لَئِنْ ذَكَرْتَهَا، لَتَفْضَحَنَّكَ، وَلَئِنْ سَكَتُّ عَلَيْهَا، لَتُهْلِكَنِّي، وَلَإِحْدَاهُمَا أَشَدُّ عَلَيَّ مِنَ الْأُخْرَى، ثُمَّ مَشَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (64 - 66) - والخبر أخرجه ابن إسحاق في السيرة (4/ 179) بسند حسن. (¬2) قال الحافظ في الإصابة (1/ 599): الجُلَاس بن سويد بن الصامت الأنصاري، كان من المنافقين ثم تاب وحسنت توبته.

* بناء المنافقين مسجد الضرار

-صلى اللَّه عليه وسلم- فَذَكَرَ لَه مَا قَالَ جُلَاسٌ، فَأَتَى جُلَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وجَعَلَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا قَالَ، وَلقدْ كَذَبَ عَلَيَّ عُمَيْرٌ، وَمَا قُلْتُ مَا قَالَ عُمَيْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فيه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬1). قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ: فزَعَمُوا أَنَّ الْجُلَاسَ تَابَ، وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، حَتَّى عُرِفَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَالْخَيْرُ (¬2). * بِنَاءُ المُنَافِقِينَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ: وَوَصَلَتِ الْجُرْأَةُ بِالْمُنَافِقِينَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولهِ أَنْ يَبْنُوا مَسْجِدًا قبَيْلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِيَجْتَمِعُوا فِيهِ، وَيُدِيرُوا حَلَقَاتِ تَآمُرِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بَنَوْهُ لِلْمَنْفَعَةِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ الذِي أَمَرَهُمْ ببنَائِهِ أَبُو عَامِرٍ الْفاسِقُ (¬3)، وَكَانَ وَاعَدَهُمْ أَنْ يُعِينَهُمْ بِالْمَالِ وَالسِّلَاحِ، وَأَنْ يَأْتِيَهُمْ بِقُوَّةٍ مِنَ الرّومِ لِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منَ ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (74) - والخبر أخرجه الأموي في مغازيه كما في الاستيعاب في معرفة الأسباب (2/ 291) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/ 133) بدون سند. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (2/ 133). (¬3) هذا الرجل هو الذي حفر الحفر يوم غزوة أُحد؛ ليسقط فيها المسلمون، وقد وقع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حفرة من حفر أبي عامر هذا. وانظر تفاصيل ذلك في غزوة أُحد -كما تقدم- وهو والد حنظلة غسيل الملائكة -رضي اللَّه عنه-.

الْمَدِينَةِ، وَكَانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّه فَضَحَ حَقِيقَةَ نوايَاهُمْ، فَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬1). فَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَقَالَ: "إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ، وَحَالِ شغْلٍ، وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَأَتَيْنَاكُمْ، فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ" (¬2). وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدَمَا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ أَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ كَمَا سَيَأْتِي. فَهَذَا هُوَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ الذِي اتُّخِذَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكِيدَةً لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْإِضْرَارُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَإِلَّا سَتْرُ الْمُتَآمِرِينَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ، الْكَائِدِينَ لَهَا في الظَّلَامِ، وَإِلَّا التَّعَاوُنُ مَعَ أَعْدَاءَ هَذَا الدِّينِ عَلَى الْكَيْدِ لَهُ تَحْتَ سِتَارِ الدِّينِ. . .، هَذَا الْمَسْجِدُ مَا يَزَالُ يُتَّخَذُ في صُوَرٍ شَتَّى تُلَائِمُ ارْتِقَاءَ الْوَسَائِلِ الْخَبِيثَةِ التِي يَتَّخِذُهَا أَعْدَاءُ هَذَا الدِّينِ، تُتَّخَذُ في صُورَةِ نَشَاطٍ ظَاهِرُهُ لِلْإِسْلَامِ، وَبَاطِنُهُ لِسَحْقِ الْإِسْلَامِ، أَوْ ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (107 - 108). (¬2) أخرج ذلك الطبري في جامع البيان (6/ 471) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 260) - وإسناده حسن - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (4/ 183) بدون سند.

* تخلف عدد من الصحابة الصادقين

تَشْوِيهِهِ وَتَمْوِيهِهِ وَتَمْيِيعِهِ (¬1). * تَخَلُّفُ عَدَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الصَّادِقِينَ: وَكَانَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ النِّيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْهُ عَنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا ارْتِيَابٍ مِنْهُمْ، مِثْلُ: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُرَارَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ، وَأَبُو لُبَابَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الذِينَ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ في سَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ، لَا يُتَّهَمُونَ في إِسْلَامِهِمْ (¬2). * خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوكَ: فَلَمَّا تَجَهَّزَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ بِجَيْشِهِ الْعَظِيمِ، وَكَانَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا (¬3). رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْو غَزَاهَا قَطّ إِلَّا في غَزْو تبوكَ. . . فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حَرَّةٍ شَدِيدَةٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا (¬4)، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، . . . وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ بِذَلِكَ الدِّيوَانَ (¬5) -. ¬

_ (¬1) انظر في ظلال القرآن (3/ 1710 - 1711) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 172). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 457): وللحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ: خرجنا مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفًا، وبهذ العدة جزم ابن إسحاق في السيرة. قلت: ولم أجد هذه الرواية في السيرة النبوية المطبوع لابن إسحاق، وهي رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 332). (¬4) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (17/ 73): المفازة: البرية الطويلة القليلة الماء. (¬5) الديوان: هو الدفتر الذي يُكتب فيه أسماء الجيش، وأهل العطاء. انظر النهاية (2/ 139)، =

* علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لم يشهد تبوك

وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْمَدِينَةِ: مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَيُقَالُ: سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ في الصَّلَاةِ (¬1). وَكَانَ يَظُنُّ مَنْ تَخَلَّفَ أَنْ لَا أَحَدَ يَتَفَقَّدُهُ لِكَثْرَةِ أَفْرَادِ الْجَيْشِ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَفَقَّدَ وَهُوَ في طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ بَعْضَ مَنْ تَخَلَّفَ، فَقَدْ سَأَلَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- عَمَّنْ تَخَلَّفَ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَأَسْلَمَ (¬2)، وَعِنْدَمَا وَصَلَ تَبُوكَ سَأَلَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- لَمْ يَشْهَدْ تَبُوكَ: وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِب -رضي اللَّه عنه-، عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: أَتُخَلِّفنِي في الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءَ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ ¬

_ = أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769). (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 332) - سيرة ابن هشام (4/ 173). (¬2) أخرج سؤال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي رُهم -رضي اللَّه عنه-. الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19072) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (7257) - وإسناده ضعيف. (¬3) أخرج سؤال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769)

مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟ ". فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَفهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَفُّفًا مِنْهُ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، سِلَاحَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ (¬1)، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُ: "مَا جَاءَ بِكَ يَا عَلِيٌّ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! زَعَمَ النَّاسُ أنّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتَنِي وَتَخَفَّفْتَ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبُوا، وَلَكِنَّنِي خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجعْ فَاخْلفنِي في أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غير أنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟ ". قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه- رَاوِي الْحَدِيثِ: فَأَدْبَرَ عَلَيَّ -رضي اللَّه عنه- مُسْرِعًا كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى غُبَارِ قَدَمَيْهِ يَسْطَعُ (¬2). ¬

_ (¬1) الْجُرْفُ: بضم الميم، وهو موضع قريب من المدينة. انظر النهاية (1/ 254). هذه رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 173) - وفي رواية النسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (8386): ثنية الوداع. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب فصائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب مناقب عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3706) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2404) (31) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1490) - وفي فضائل الصحابة - رقم الحديث (1041) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 173).

* تخلف رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول

* تَخَلُّفُ رَأسِ المُنَافِقِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلولٍ: مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ في ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ (¬1)، وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، رَئِسُ الْمُنَافِقِينَ، عَسْكَرَهُ عَلَى حِدَةٍ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوِ ذُبَابٍ (¬2)، -وَكَانَ قَدْ خَرَجَ في مَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ- فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحْوَ تَبُوكَ تَخَلَّفَ عَنْهُ وَمَعَهُ الْمُنَافِقُونَ، وَقَالَ: يَغْزُو مُحَمَّد بَنِي الْأَصْفَرِ مَعَ جَهْدِ الْحَالِ وَالْحَرِّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ إِلَى مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، يَحْسَبُ أَنَّ قِتَالَهُمْ مَعَهُ اللَّعِبَ! وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصْحَابِهِ مُقَرَّنِينَ بِالْحِبَالِ، إِرْجَافًا بِرَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ (¬3). * تَوْزِيعُ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ: وَقَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ عَقَدَ الْأَلْوِيةَ وَالرَّايَاتِ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ الْأَعْظَمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (¬4) -رضي اللَّه عنه-، وَأَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه- رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَعْطَى أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ -رضي اللَّه عنه- رَايَةَ الْأَوْسِ، وَأَعْطَى الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ رَايَةَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ دَلِيلَ الرَّسولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوك عَلْقَمَةُ بْنُ الْفغْوَاءِ الْخُزَاعِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬5). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 473): الثَّنِيَّةُ: ما ارتفع في الأرض، وقيل: الطريق في الجبل. (¬2) ذُبَابُ: بضم الذال، وهو جبل بالمدينة. انظر النهاية (2/ 141). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 173) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 332). (¬4) قال الدكتور محمد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابه السِّيرة النَّبوِيَّة (2/ 499): ولا يخفى على القارئ الْفَطِنِ ما في إعطائه -صلى اللَّه عليه وسلم- اللواء في آخر غزوة غزاها الصديق -رضي اللَّه عنه-، من إشارة لطيفة إلى أن الصديق -رضي اللَّه عنه- أحق الصَّحَابَة بالخلافة. (¬5) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 332).

* شأن أبي خيثمة -رضي الله عنه- صاحب النفس اللوامة

* شَأْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ -رضي اللَّه عنه- صَاحِبِ النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ: وَكَانَ أَبُو خَيْثَمَةَ -رضي اللَّه عنه- مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوكَ أَيَّامًا، دَخَلَ أَبُو خَيْثَمَةَ -رضي اللَّه عنه- عَلَى أَهْلِهِ في يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ في عَرِيشَيْنِ لَهُمَا في حَائِطِهِ (¬1)، قَدْ رَشَّتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الضِّحِّ، وَالرِّيحِ، وَالْحَرِّ (¬2)، وَأَبُو خَيْثَمَةَ في ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ في مَالِهِ مُقِيمٌ! ! مَا هَذَا بِالنِّصْفِ (¬3)، ثُمَّ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَهٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَهَيِّئَا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَانْطَلَقَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَدْرَكَهُ بِتبوكٍ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ نَازِلٌ بِتبوكَ، قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ، فَلَمَّا أَنَاخَ بَعِيرَهُ سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبَكَى -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ" (¬4). ¬

_ (¬1) الْحَائِطُ: الْبُسْتَانُ. انظر النهاية (1/ 444). (¬2) قال ابن الأثير في النهاية (3/ 69): أي يكون بَارِزًا لِحَرِّ الشمسِ وهُبُوبِ الريَاحِ، والضِّحُّ بكسر الضاد: ضَوْءُ الشمسِ إذا استَمْكَنَ مِنَ الْأَرْضِ. (¬3) النِّصْفُ: بكسر النُّون: الْعَدْلُ. انظر لسان العرب (14/ 166). (¬4) أَوْلَى لَكَ: معناه التَّوَعُّدُ والتَّهَدُّدُ: أي الشَّرُّ أَقْرَبُ إليكَ، أو قَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ، أو دَنَوْتَ مِنَ التَّهْلُكَةِ. انظر لسان العرب (15/ 404).

* إبطاء جمل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه-

قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: كِدْتُ يَا نَبِيِّ اللَّهِ أَنْ أَهْلِكَ بِتَخَلُّفِي عَنْكَ، وَتَزَيَّنَتْ لِيَ الدُّنْيَا، وَتَزَيَّنَ لِي مَالِي في عَيْنِي، وَكِدْتُ أَنْ أَخْتَارَهُ عَلَى الْجِهَادِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَعَا لَهُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ (¬1). وَهَكَذَا نَجَا أَبُو خَيْثَمَةَ -رضي اللَّه عنه-، لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ إِلَّا مُنَافِقٌ أَوْ رَجُلٌ ضَعِيفٌ مَعْذُورٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ في النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلَا مَغْمُوصًا (¬2) عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلَا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ (¬3). * إِبْطَاءُ جَمَلِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَمَّا أَبُو ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه- فَقَدْ أَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَأَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ مَاشِيًا حَتَّى أَدْرَكَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، جَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَخَلَّفَ فُلَانٌ، فَيَقُولُ: "دَعُوهُ، فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ ¬

_ (¬1) أخرج قصة تخلف أبي خيثمة -رضي اللَّه عنه-: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع - رقم الحديث (3370) - والطبراني في الكبير - رقم الحديث (5419) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 174). (¬2) مَغْمُوصٌ عليه بالنفاقِ: أي مَطْعُونٌ في دِينِهِ مُتَّهَمٌ بالنفاقِ. انظر النهاية (3/ 347). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769).

* تحقق خبر وفاة أبي ذر -رضي الله عنه-

فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ، وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعُوهُ، فَإنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ، فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ". وَتَلَوَّمَ (¬1) أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَاشِيًا يَتْبَعُ الرَّسُولَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَعْضِ مَنَازِلهِ، فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُنْ أَبَا ذَرٍّ" فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ القوْمُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ" (¬2). * تَحَقُّقُ خَبَرِ وَفَاةِ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدْ تَحَقَّقَ قَوْلُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-، فَإِنَّهُ في خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، سَكَنَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبَذَةَ (¬3)، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَهُ وَغُلَامَهُ، فَلَمَّا ¬

_ (¬1) تَلَوَّمَ: انتظَرَ. انظر النهاية (4/ 238). (¬2) أخرج قصة أبي ذر -رضي اللَّه عنه-: الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب ذكر وفاة أبي ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4430) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 178) - وأوردها الحافظ في الإصابة (7/ 109) وضعَّفَ إسنادها، والألباني في السلسلة الضعيفة - رقم الحديث (5531) - وضَعَّفَ إسنادها - وأوردها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 12) - وحسن إسنادها. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 121): الرَّبَذَةُ: بفتح الراء والباء: مَوْضعٌ بالباديةِ، بينه وبين المدينة ثلاث مراحل.

* رواية أخرى في وفاة أبي ذر -رضي الله عنه-

حَضَرَهُ الْمَوْتُ، قَالَ لَهُمَا: اغْسِلَانِي وَكَفِّنَاني، ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ، قُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، فَلَمَّا مَاتَ -رضي اللَّه عنه-، غَسَّلَاهُ وَكَفَّنَاهُ، ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَأَقْبلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- في رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارًا، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلَّا الْجَنَازَةَ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، قَدْ كَادَتْ الْإِبِلُ أَنْ تَطَأَ الْجَنَازَةَ، وَقَامَ إِلَيْهِمُ الْغُلَامُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- يَبْكِي، وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَمْشِي وَحْدَكَ، وَتَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ"، ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَدَفنوهُ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي وَفَاةِ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ أُمِّ ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: وَمَا لِي لَا أَبْكِي، وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا يَدَ لِي بِدَفْنِكَ، وَلَيْسَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ فَأُكُفِّنَكَ فِيهِ. فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَا تَبْكِي وَأَبْشِرِي، فَانِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ (¬2) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ". ¬

_ (¬1) أخرج خبر وفاة أبي ذر -رضي اللَّه عنه-: الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب ذكر وفاة أبي ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4430) - وابن إسحاق في السيرة في السيرة (4/ 178) - وضعف إسنادها الحافظ في الإصابة (7/ 109) - والألباني رحمه اللَّه في السلسلة الضعيفة - رقم الحديث (5531) - وحسن إسنادها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 12). (¬2) الْعِصَابَةُ: هم الجماعة من النَّاس من العشرة إلى الأربعين. انظر النهاية (3/ 220).

* حديث في فضل أبي ذر -رضي الله عنه-

وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفرِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ في قَرْيَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَإِنِّي أَنَا الذِي أَمُوتُ بِفَلَاةٍ، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ (¬1). * حَدِيثٌ في فَضْلِ أَبِي ذَرٍّ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ (¬2)، وَلَا أَقَلَّتِ (¬3) الْغَبْرَاءُ (¬4) عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقِ مِنْ أَبِي ذَرٍّ" (¬5). * مُرُورُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْحِجْرِ (¬6): أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى تَبُوكَ، وَفِي الطَّرِيقِ مَرُّوا بِالْحِجْرِ دِيَارِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21373) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عما يكون في أمته من الفتن والحوادث - رقم الحديث (6670). (¬2) الْخَضْرَاءُ: السَّمَاءُ. انظر النهاية (2/ 41). (¬3) أَقَلَّهُ: حَمَلَهُ. انظر لسان العرب (11/ 289). (¬4) الْغَبْرَاءُ: الْأَرْضُ. انظر النهاية (2/ 41). (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6519) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي ذر الغفاري -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (7132) - وابن ماجه في سننه - في المقدمة - رقم الحديث (156) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (532). (¬6) الحِجْرُ: بكسر الحاء: هي أَرَاضِي قومِ ثمودَ، وهم قوم صالح عليه السلام، وقد ذكر اللَّه تَعَالَى ذلك في القرآن في سورة الحِجر آية (80)، فقال سبحانه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}. انظر النهاية (1/ 329).

ثَمُودَ، فَاسْتَحَثَّ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ، وَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ دِيَارِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْ بِئْرٍ كَانَ بِالْحِجْرِ وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الذِينَ عُذِّبُوا إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ" (¬3). وَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلَا يَسْتَقُوا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ في غَزْوَةِ تبوكٍ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلَا يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ، وَيُهْرِيقُوا ¬

_ (¬1) الْحَثُّ: الِاسْتِعْجَالُ. انظر لسان العرب (3/ 46). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} - رقم الحديث (3380) (3381) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم - رقم الحديث (2980) (39). (¬3) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم - رقم الحديث (2980) (38) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4561) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب بدء الخلق - رقم الحديث (6200). قال الإِمام الخطابي فيما نقله عنه البغوي في شرح السنة (14/ 362): معناه أن الداخل في دار قوم أُهلكوا بخسف أو عذاب إذا لم يكن باكيًا إما شفقة عليهم، وإما خوفًا من حلول مثلها به، كان قاسي القلب، قليل الخشوع، فلا يأمن إذا كان هكذا أن يُصيبه ما أصابهم.

* خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه

ذَلِكَ الْمَاءَ، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ ذَلِكَ الْعَجِينَ (¬1). * خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَصْحَابِهِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَامَ خَطِيبًا في النَّاسِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْحِجْرِ، قَالَ: "لَا تَسْألوا الْآيَاتِ، وَقَدْ سَأَلهَا قَوْمُ صَالِحٍ، فَكَانَتْ تَرِدُ (¬2) مِنْ هَذَا الْفَجِّ (¬3)، وَتَصْدُرُ (¬4) مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا، وَكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا، وَيَشْربُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ (¬5) اللَّهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ، إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ في حَرَمِ اللَّهِ"، قِيلَ: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ: "هُوَ أَبُو رِغَالٍ (¬6)، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ" (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب قول اللَّه تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} - رقم الحديث (3378) - ومسلم في صحيحه - كتاب الزهد والرقائق - باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم - رقم الحديث (2981). (¬2) وَرَدَ: حَضَرَ. انظر لسان العرب (15/ 268). (¬3) الفجُّ: الطريقُ الوَاسِعُ. انظر النهاية (3/ 370). والذي كان يرد من هذا الفج هي الناقة التي سألها قوم صالح عليه السلام. (¬4) صَدَرَ: رَجَعَ. انظر النهاية (3/ 15). (¬5) أَهْمَدَ: أَمَاتَ. انظر لسان العرب (15/ 130). (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (7/ 27): أبو رِغال بكسر الراء وتخفيف الغين. (¬7) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14160) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3755) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 14) وقال إسناده صحيح.

* فوائد الحديث

وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثارِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنُودِيَ في النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ، فَقَالَ: "عَلَامَ تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ قَدْ غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ؟ ". فَنَادَاهُ رَجُلٌ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (¬1) يُخْبِرُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَبِمَا هُوَ كَائِن بَعْدَكُمْ، فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا" (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - الْحَثُّ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ. 2 - الزَّجْرُ عَنِ السُّكْنَى في دِيَارِ الْمُعَذَّبِينَ. 3 - الْإِسْرَاعُ عِنْد الْمُرُورِ بِهَا، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ¬

_ (¬1) يقصد نفسه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) أخرجه والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3741) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18029) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 14) وحسن إسناده.

* اخرصوا للمرأة

وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} (¬1). * اخْرُصُوا (¬2) لِلْمَرْأَةِ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى تَبُوكَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى وَادِي الْقِرَى (¬3) إِذَا امْرَأَةٌ في حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "اخْرُصُوا"، فَخَرَصَ الْقَوْمُ، وَخَرَصَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَشَرَةَ أَوْسُقٍ (¬4)، فَقَالَ لَهَا: "أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا حَتَّى أَرْجعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ"، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى قَدِمَ تَبُوكَ، . . . فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، جَاءَ وَادِي الْقِرى، فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: "كَمْ جَاءَتْ حَدِيقَتُكِ؟ ". قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، خَرْصَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). * الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ في هَذِهِ الْغَزْوةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم آية (45) - وانظر كلام الحافظ في فتح الباري (2/ 98). (¬2) خَرَصَ النَّخْلَةَ: إذا خَرَزَ ما عليها مِنَ الرّطَبِ تَمْرًا، والْخَرْصُ: بفتح الخاء وسكون الراء. انظر النهاية (2/ 22). (¬3) قال الحافظ في الفتح (4/ 109): وادي الْقِرى: هي مدينة قديمة بين المدينة والشام. (¬4) الْوَسْقُ: بفتح الواو وسكون السين: ستون صاعًا. انظر النهاية (5/ 161). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب خرص التمر - رقم الحديث (1481) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1392) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23604).

* ما لاقاه المسلمون من شدة، وظهور المعجزات

مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوةِ تَبُوكٍ، فَكَانَ يُصَلِّي الظّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في مُسْنَدِ الْإِمَامٍ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بنِ وَاثِلَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ مُعَاذًا -رضي اللَّه عنه- أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (¬2). * مَا لَاقَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ شِدَّةٍ، وَظُهُورُ الْمُعْجِزَاتِ: وَاشْتَدَّتْ في الطَّرِيقِ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى الْمَاءِ، وَقَدْ أَصْبَحُوا وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ، وَأَصَابَهُمْ مِنَ الْعَطَشِ مَا كَادَ يَقْطَعُ رِقَابَهُمْ حَتَّى حَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى نَحْرِ إِبِلِهِمْ لِيَشُقُّوا أَكْرَاشَهَا وَيَشْرَبُوا مَاءَهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ في قَيْظٍ شَدِيدٍ، فنَزَلْنَا مَنْزِلًا، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَا يَرْجعُ حَتَّى نَظُنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب الجمع بين الصلاتين في الحضر - رقم الحديث (706). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22070) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الجمع بين الصلاتين - رقم الحديث (1595).

* قصة المجاعة

أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ عَوَّدَكَ اللَّهُ في الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمْ يَرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، فَسَكَبَتْ (¬1)، فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ (¬2). * قِصَةُ الْمَجَاعَةِ: وَأَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ حَتَّى اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في نَحْرِ نَوَاضِحِهِمْ (¬3) لِيَأْكُلُوا مِنْهَا، فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "افْعَلُوا"، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ (¬4)، وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، ثُمَّ ادْعُ اللَّه لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ فِي ¬

_ (¬1) سَكَبَ الْمَاءَ: صَبَّهُ. انظر لسان العرب (6/ 302). (¬2) أخرجه ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (1383) - والحاكم في المستدرك - رقم الحديث (582) - وأورده الذهبي في السيرة النبوية (2/ 239) وقال: حديث حسن قوي - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 12) وجود إسناده. (¬3) النَّوَاضِحُ: الْإِبِلُ التي يُسْتَقَى عليها، واحدتها: نَاضِحٌ. انظر النهاية (5/ 59). (¬4) الظَّهْرُ: الإِبِلُ التي يُحْمَلُ عليها وتُرْكَبُ. انظر النهاية (3/ 151).

* فوائد الحديث

ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، قَالَ: فَدَعَا بِنِطْعٍ (¬1) فَبَسَطَهُ، ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطْعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: "خُذُوا في أَوْعِيَتِكُمْ"، قَالَ: فَأَخَذُوا في أَوْعِيَتِهِمْ، حَتَّى مَا ترَكُوا في الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا مَلَؤُوهُ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَلقى اللَّه بِهِمَا عَبْدٌ غيْرُ شَاكٍّ، فيحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ" (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - حُسْنُ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَإِجَابَتُهُ إِلَى مَا يَلْتَمِسُ مِنْهُ أَصحَابُهُ، وَإِجْرَاؤُهُمْ عَلَى الْعَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ في الِاحْتِيَاجِ إِلَى الزَّادِ في السَّفَرِ. 2 - وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- دَالَّةٌ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِهِ بِإِجَابَةِ ¬

_ (¬1) النِّطْعُ: بكسر النُّون وكسر الطاء وسكونها: بِسَاطٌ مِنْ جِلْدٍ. انظر لسان العرب (14/ 186) - فتح الباري (6/ 234). (¬2) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا - رقم الحديث (27) (45) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (11080) - وأخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب حمل الزاد في الغزو - رقم الحديث (2982) عن سلمة بن الأكوع -رضي اللَّه عنه-.

* مجاعة أخرى أصابتهم

دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَلَى حُسْنِ نَظَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ. 3 - وَفِيهِ جَوَازُ الْمَشُورَةِ عَلَى الْإِمَامِ بِالْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ الْاسْتِشَارَةُ (¬1). * مَجَاعَةٌ أُخْرَى أَصَابَتْهُمْ: وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ فُضَالة بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-، أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَجُهِدَ بِالظَّهْرِ جَهْدًا شَدِيدًا، فَشَكَوْا إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا بِظَهْرِهِمْ مِنَ الْجَهْدِ، فَتَحَيَّنَ (¬2) بِهِمْ مَضِيقًا فَسَارَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ، فَقَالَ: "مُرُّوا بِسْمِ اللَّهِ"، فَمَرَّ النَّاسُ عَلَيْهِ بِظَهْرِهِمْ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ بِظَهْرِهِمْ، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ احْمِلْ عَلَيْهَا في سَبِيلِكَ، إِنَّكَ تَحْمِلُ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَعَلَى الرَّطْبِ وَاليَابِسِ، في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ". قَالَ فُضَالَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى جَعَلَتْ تُنَازِعُنَا أَزِمَّتَهَا. قَالَ فُضَالَةُ -رضي اللَّه عنه-: هَذِهِ دَعْوَةُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، فَمَا بَالُ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ! فَلَمَّا قَدِمْنَا الشَّامَ غَزَوْنَا غَزْوَةَ قُبْرُسَ في الْبَحْرِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (6/ 235). (¬2) تَحَيَّنَ: انْتَظَرَ. انظر لسان العرب (3/ 423).

* فقدان ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستهزاء المنافقين

السُّفُنَ في الْبَحْرِ، وَمَا يَدْخُلُ فِيهَا، عَرَفْتُ دَعْوَةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * فُقْدَانُ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاسْتِهْزَاءُ الْمُنَافِقِينَ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى تَبُوكَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضلَّتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ (¬2) -وَكَانَ يَهُودِيًّا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَسْلَمَ فنَافَقَ-: أَليْسَ مُحَمَّد يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ ! فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللَّهُ نَافَقْتَ، فَلِمَ خَرَجْتَ وَهَذَا في نَفْسِكَ؟ . قَالَ: خَرَجْتُ لِأُصِيبَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَسَبُّوهُ وَقَالُوا لَهُ: وَاللَّهِ مَا نَكُونُ مِنْكَ بِسَبِيلٍ، وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا في نَفْسِكَ مَا صَحِبْتَنَا سَاعَةً. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ في رَحْلِ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ الْعَقَبِيِّ الْبَدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ: "إِنَّ رَجُلًا قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ يُخْبِرُكُمْ أنَّهُ نَبِيٌّ وَيَزْعُمُ أنَّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ في هَذَا الْوَادِي، في شِعْبِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ حبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُونِي بِهَا". ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده رقم الحديث (23955) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخيل - رقم الحديث (4681). (¬2) اللُّصَيْتُ: بضم اللام المشددة.

* مرور المسلمين على أهل بيت

فَذَهَبَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ، فَجَاؤُوا بِهَا، وَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إِلَى رَحْلِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَعَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدَثنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ بْكَذَا وَكَذَا -لِلَّذِي قَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ- فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ في رَحْلِ عُمَارَةَ، وَلَمْ يَحْضرْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: زَيْدٌ وَاللَّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ، فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدِ بْنِ اللُّصيْتِ يَجَأُ (¬1) في عُنُقِهِ، وَيَقُولُ: في رَحْلِي لَدَاهِيَةٌ وَمَا أَشْعُرُ، اُخْرُجْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ رَحْلِي، فَلَا تصْحَبْنِي (¬2). * مُرُورُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ وَالنَّسَائِيُّ في السُّنَنِ الْكُبْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَتَى في غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ (¬3)، فإذا في فِنَاءِ (¬4) الْبَيْت قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَسَأَلَ (¬5) الْمَاءَ؟ . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دِبَاغُهَا طُهُورُهَا". ¬

_ (¬1) وَجَأْتُ عُنُقَهُ: ضَرَبْتُهُ. انظر لسان العرب (15/ 214). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 177) وإسناده رجاله ثقات. (¬3) في رواية النسائي: امرأة. (¬4) الْفِنَاءُ: بكسر الفاء هو الْمُتَّسَعُ أَمَامَ الْبَيْتِ. انظر لسان العرب (10/ 339). (¬5) في رواية ابن حبان في صحيحه: فاستسقى.

* ائتمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-

وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَليْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا؟ ". قَالَتْ: بَلَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّ دِبَاغَهَا ذَكَاتُهَا" (¬1). قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الذَّكَاةُ وَالتَّذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، جَعَلَ دِبَاغَ الْجِلْدِ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ، فَإِنَّ جِلْدَ الْمَذْبُوحِ طَاهِرٌ (¬2). * ائْتِمَامُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: وَفِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوكَ، وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَ الْجَيْشُ في اللَّيْلِ، وَعِنْدَ الفجْرِ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِقَضَاءَ الْحَاجَةِ، وَكَانَ مَعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه-، فتَأَخَّرَ، فَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، وَصَلَّى بِهِمُ الفجْرَ، وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَدْرَكَ رَكْعَةً، وَأَتَمَّ رَكْعَةً، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: عَدَلَ (¬3) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنَا مَعَهُ في غَزْوَةِ تَبُوكٍ، قَبْلَ الفجْرِ، فَعَدَلْتُ مَعَهُ، فَأَنَاخَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَرَّزَ (¬4)، ثُمَّ جَاءَنِي، فَسَكَبْتُ (¬5) عَلَى ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب اللباس - باب أهب الميتة - رقم الحديث (4125) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الفرع والعتيرة - باب جلود الميتة - رقم الحديث (4555) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخلافة والإمارة - رقم الحديث (4522). (¬2) انظر جامع الأصول (7/ 110). (¬3) عَدَلَ: مَالَ. انظر النهاية (3/ 173). (¬4) في رواية الإِمام أحمد في مسنده: فتبرّز. (¬5) سَكَبَ: صَبَّ. انظر لسان العرب (6/ 302).

* زيادة ضعيفة

يَدَيْهِ مِنَ الْإِدَاوَةِ (¬1)، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ حَسَرَ (¬2) عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَضَاقَ كُمُّ جُبَّتِهِ (¬3)، فَأَدْخَلَ يَدَيْهِ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَهُمَا إِلَى الْمِرْفَقِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ، فَأَقْبَلْنَا نَسِيرُ حَتَّى نَجِدَ النَّاسَ في الصَّلَاةِ، قَدَّمُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-، فَصَلَّى بِهِمْ حِينَ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَوَجَدْنَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَرَاءَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ سَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُتِمُّ صَلَاتَهُ، فَفَزعَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَكْثَرُوا التَّسْبِيحَ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ لَهُمْ: "أَحْسَنْتُمْ" أَوْ قَالَ: "أَصَبْتُمْ" (¬4). * زِيَادَةٌ ضَعِيفَةٌ: زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ والْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ وَابْنُ سَعْدٍ في طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا قُبِضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يُصلِّي ¬

_ (¬1) الْإِدَاوَةُ: بكسر الهمزة: إِناءٌ صغيرٌ من جَلْدٍ يُتَّخَذُ للماء. انظر النهاية (1/ 36). (¬2) حَسَرَ: كَشَفَ. انظر النهاية (1/ 368). (¬3) الْجُبَّةُ: بضم الجيم: نَوْعٌ من الثيابِ تُلْبَسُ. انظر لسان العرب (2/ 161). (¬4) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإِمام - رقم الحديث (421) (105) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب فرض متابعة الإِمام - رقم الحديث (2224) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18134) (18175) - وأصله في صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب رقم (82) - رقم الحديث (4421).

* لا يأخذ من عين تبوك أحد

خَلْفَ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ أُمَّتِهِ" (¬1). * لَا يَأْخُذْ مِنْ عَيْنِ تَبُوكَ أَحَدٌ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى تَبُوكَ، وَقَبْلَ أَنْ يَأْتُوهَا بِيَوْمٍ واحدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "إِنَّكُمْ سَتَأْتونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ (¬2) تَبُوكٍ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِي النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا، فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِي" (¬3). * فَوَاتُ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا كُنَّا بِدَهَاسٍ (¬4) مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ يَكْلَؤُنَا (¬5) اللَّيْلةَ؟ ". ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (78) - والحاكم في المستدرك - كتاب الإِمام وصلاة الجماعة - باب لم يمت نبي حتى يؤمه رجل من قومه - رقم الحديث (923) - وابن سعد في طبقاته (3/ 69) - وانظر السلسلة الضعيفة - رقم الحديث (2654) للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ. (¬2) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 181): على وَشَل. والوَشَل: بفتح الواو والشين: هو الْمَاءُ القَلِيلُ. انظر النهاية (5/ 160). (¬3) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (706) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22070) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الجمع بين الصلاتين - رقم الحديث (1595). (¬4) الدَّهَاسُ والدَّهْسُ: مَا سَهُلَ ولَانَ مِنَ الأرضِ، ولم يبلغ أن يكونَ رَمْلًا. انظر النهاية (2/ 134). (¬5) الْكَلَاءَةُ: الْحِفْظُ والْحِرَاسَةُ. انظر النهاية (4/ 169).

قَالَ بِلَالٌ: أَنَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذًا تَنَامُ"، فنَامَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَاسْتَيْقَظَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَقُلْنَا: تَكَلَّمُوا حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "افْعَلُوا مَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَنْ نَامَ أَوْ نَسِيَ" (¬1). وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سَفَرٍ (¬2)، فَخَطَبَنَا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ الْمَاءَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا". قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ (¬3)، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ، فنَعِسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ (¬4)، مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ (¬5)، مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا ¬

_ (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3985). قلت: قصة فوات صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس حدثت أكثر من مرة، فمنها: في غزوة الحديبية، وغزوة خيبر، كما مر معنا، فراجعه. (¬2) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار: غزوة. (¬3) ابْهَارَّ الليلُ: بتشديد الراء: أي انتصَفَ. انظر النهاية (1/ 162). (¬4) دَعَمَهُ: أَسْنَدَهُ. انظر النهاية (2/ 112). (¬5) تَهَوَّرَ الليلُ: أي ذَهَبَ أكثرُهُ. انظر النهاية (5/ 242).

كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ (¬1)، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هَذَا؟ ". قُلْتُ: أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّي؟ ". قُلْتُ: مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ"، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: . . . فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الطَّرِيقِ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ (¬2)، ثُمَّ قَالَ: "احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلَاتَنَا"، فَنِمْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالشَّمْسُ في ظَهْرِهِ، فَقُمْنَا فَزِعِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "ارْكبُوا"، فَرَكِبْنَا فَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ، ثُمَّ دَعَا بِمَيْضَأَةٍ (¬3) كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، فتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ، وَبَقِيَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "احْفَظْ عَلَيْنَا مَيْضَأَتكَ، فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ". ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكْعَتَيْنِ (¬4)، ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ (¬5) فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ أَبُو قَتادَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرَكِبْنَا مَعَهُ، فَجَعَلَ بَعْضُنَا ¬

_ (¬1) يَنْجَفِلُ: أي يَنْقَلِبُ ويَسْقُطُ. انظر النهاية (1/ 270). (¬2) أي نام. (¬3) الْمَيْضَأَةُ: مَطْهَرةٌ كبيرةٌ يُتَوَضَّأُ منها. انظر النهاية (4/ 324). (¬4) في رواية الإِمام أحمد في مسنده: وصلوا الركعتين قبل الفجر. (¬5) صلاة الغَدَاةِ: هي صلاة الفجر. وفي رواية الإِمام أحمد في مسنده: ثم صلوا الفجر.

يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا في صَلَاتِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يِجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا" (¬1). قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الظَّهِيرَةُ جَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا عَطَشْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ثُمَّ قَالَ: "أَطْلِقُوا لِي غُمَرِي (¬2) "، وَدَعَا بِالْمَيْضَأَةِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَصُبُّ، وَأَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- يَسْقِيهِمْ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً في الْمَيْضَأَةِ تَكَابُّوا (¬3) عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- "أَحْسِنُوا الْمَلَأَ (¬4)، كُلُّكُمْ سَيَرْوَى"، فَفَعَلُوا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَصُبُّ، وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِيَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لِي: "اشْرَبْ"، فَقُلْتُ: لَا أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شرْبًا"، فَشَرِبْتُ، وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح مسلم (5/ 160): معناه أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها، ويتحول في المستقبل، بل يبقى كما كان، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد. (¬2) أي ائتوني به، والغُمَرُ: بضم الغين وفتح الميم: القَدَحُ الصَّغِيرُ. انظر النهاية (3/ 345). (¬3) تَكَابُّوا عليه: بفتح التاء وتشديد الباء المضمومة: أي ازْدَحَمُوا. انظر النهاية (4/ 121). وفي رواية الإِمام أحمد في مسنده: فازدحم الناس عليه. (¬4) الْمَلَأَ: بفتح الميم واللام والهمزة: أي الخُلُق. انظر النهاية (4/ 299).

* وصول المسلمين إلى تبوك وأخذ المنافقين ماءها

قَالَ أَبُو قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ (¬1) جَامِّينَ (¬2) رِوَاءً (¬3). * وُصُولُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَبُوكَ وَأَخْذُ الْمُنَافِقِينَ مَاءَهَا: وَلَمَّا وَصَلَ الْمُسْلِمُونَ تَبوكَ، وَجَدُوا عَيْنَهَا قَلِيلَةَ الْمَاءِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ قَالَ لَهُمْ: "إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَيْنَ تبُوكٍ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِي النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِي"، فَسَبَقَهُ إِلَيْهَا رَجُلَانِ (¬4) فَاسْتَقَيَا مَا فِيهَا، فَسَبَّهُمَا (¬5) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ، قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى اجْتَمَعَ في شَيْءٍ، ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- رَاوِي الْحَدِيثِ-: "يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ ¬

_ (¬1) أي ماء تبوك. (¬2) جَامِّين: بفتح الجيم وتشديد الميم، أي مُسْتَرِيحِين قد رُوُوا مِنَ الماءِ. انظر النهاية (1/ 290). (¬3) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها - رقم الحديث (681) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22546) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3981). (¬4) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 181): فسبقه إليه نفر من المنافقين. (¬5) في رواية أخرى في مسند الإِمام أحمد - رقم الحديث (23321) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 181): فلعنهم.

* نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تبوك وخطبته فيها

تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا" (¬1). وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ في السِّيرَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَئِنْ بَقِيتُمْ، أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ، لَتَسْمَعُنَّ بِهَذَا الْوَادِي، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلفهُ" (¬2). * نُزُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تَبُوكَ وَخُطْبَتُهُ فِيهَا: لَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوكَ ضرِبَتْ لَهُ قُبَّةٌ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ في قُبَّةٌ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ (¬3). فَلَمَّا اسْتَقَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تَبُوكَ خَطَبَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ تَبُوكَ، فَقَالَ: "مَا في النَّاسِ مِثْلُ رَجُلٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ لِيُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَجْتَنِبَ شُرُورَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2779) (11) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22070) (23321) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الجمع بين الصلاتين - رقم الحديث (1595) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 181). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 181). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب ما يحذر من الغدر - رقم الحديث (3176) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب ما جاء في المزاح - رقم الحديث (5000) (5001) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (4821).

* خطبة غير ثابتة

النَّاسِ، وَمِثْلُ رَجُلٍ بَادٍ (¬1) في غَنَمِهِ يَقْرِي (¬2) ضَيْفَهُ، وَيُؤَدِّي حَقَّهُ" (¬3). * خُطْبَةٌ غَيْرُ ثَابِتَةٍ: وَقِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَطَبَ خُطْبَةً طَوِيلَةً في تَبُوكَ، قَالَ فِيهَا: "أَيُّهَا النَّاسُ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كتَابُ اللَّهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَخَيْرَ السُّنَنِ سَنَّةُ مُحَمَّدٍ، وَأَشرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا، وَشرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشرَفَ الْمَوْتِ قَتْلُ الشُّهَدِاءِ، وَأَعْمَى الْعَمَى الضَّلَالة بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ مَا اتُّبِعَ، وَشرَّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ. . . إِلَخِ". رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبَيْهَقِيُّ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ (¬4)، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَذِهِ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (¬5). ¬

_ (¬1) بَادٍ: أي سكن البادية. انظر لسان العرب (1/ 348). (¬2) قَرَى الضَّيْفِ: أَضَافه. انظر لسان العرب (11/ 149). (¬3) رواه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2116) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5546). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 241 - 242). (¬5) انظر البداية والنهاية (5/ 17).

* إقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتبوك

* إِقَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِتَبُوكَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا (¬1)، لَمْ يَلْقَ كَيْدًا، وَلَمْ يُوَاجِهْ عَدُوًّا، وَكَانَ يُرْسِلُ السَّرَايَا إِلَى القبَائِلِ عَلَى أَطْرَافِ الشَّامِ، وَأَرْسَلَ رِسَالَةً إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، كَمَا سَيَأْتِي. * حِرَاسَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحْرَسُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَاجْتَمَعَ وَرَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ (¬2). * هُبُوبُ رِيحٍ شَدِيدَةٍ: أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ أَنَّهُ سَتَهُبُّ عَلَيْهِمْ -وَهُمْ فِي تَبُوكَ- رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَةَ تَبُوكَ. . . فَلَمَّا أَتيْنَا تَبُوكًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا ¬

_ (¬1) هذا هو الصحيح في إقامة الرَسُول -صلى اللَّه عليه وسلم- بتبوك، وقد أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14139) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب في صلاة السفر- رقم الحديث (2749) - وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7068) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4489) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/ 490)، وقال: إسناده جيد قوي - وأورده المنذري في الترغيب والترهيب - رقم الحديث (5319) وقال: إسناده صحيح.

* غسل الأعضاء في الوضوء مرة واحدة

إِنَّهَا سَتَهُبُّ اللَّيلةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَعِيرٌ فَلْيَعْقِلْهُ، فَعَقَلْنَاهَا، وَهَبَّتْ رِيحٌ شدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ فَألقَتْهُ بِجَبَلِ طَيْءٍ" (¬1). وَفي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ: فَفَعَلَ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ، وَخَرَجَ الآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ، فَأَمَّا الذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ، فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَاحْتَمَلَتْهُ الرِّيحُ، حَتَّى طَرَحَتْهُ بِجبلَيْ طَيْءٍ (¬2). * غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوء مَرَّةً وَاحِدَةً: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي تَبوكٍ إِذَا تَوَضَّأَ غَسَلَ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صحيح لِغَيْرِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تبوكَ تَوَضَّأَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً (¬3). قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْوُضُوءَ يُجْزِئُ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ أَفْضَلُ، وَأَفْضَلُهُ ثَلَاثٌ، وَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب خرص التمر - رقم الحديث (1481) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1392) (11). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 175). (¬3) أي غسل كل عضو مرة واحدة - والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (151) - وابن ماجة في سننه - كتاب الطهارة وسننها - باب ما جاء في الوضوء مرة مرة - رقم الحديث (412). (¬4) انظر جامع الترمذي (1/ 62).

* اعدد ستا بين يدي الساعة

* اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: وَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تَبوكَ جَاءَهُ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسِتِّ عَلَامَاتٍ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: "ادْخُلْ"، قُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "كُلُّكَ"، فَدَخَلْتُ، ثُمَّ قَالَ لِي: "اعْدُدْ (¬1) سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوتِي (¬2)، ثُمَّ فتحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مَوْتَانِ يَأْخُذُ فِيكُمْ كقُعَاصِ (¬3) الْغَنَمِ (¬4)، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ (¬5)، حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ ساخِطًا، ثُمَّ فِتْنةٌ (¬6) لَا يَبْقَى بَيْتٌ ¬

_ (¬1) في رواية ابن ماجة: "احفظ". (¬2) زاد ابن ماجة في سننه: قال عوف: فوجمت -أي حزنت- عندها وجمة شديدة. (¬3) القُعاص: بضم القاف داء يأخذ الغنم لا يُلبثها أن تموت. انظر النهاية (4/ 78). (¬4) في رواية ابن ماجة: "ثم داء يظهر فيكم يستشهد اللَّه به ذراريكم وأنفسكم". وهذا الداء الذي وقع هو طاعون عمواس الذي مات فيه كثير من الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وحدث هذا الطاعون في خلافة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، سنة ثمان عشرة للهجرة، على ما رجحه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 96)، قال: المشهور الذي عليه الجمهور أن طاعون عمواس كان بها -أي سنة ثماني عشرة-. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 416): أي كثرته، وظهرت في خلافة عثمان -رضي اللَّه عنه- عند تلك الفتوح العظيمة. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 416): والفتنة المشار إليها افتتحت بقتل عثمان -رضي اللَّه عنه-، واستمرت الفتن بعده.

* أكل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الجبن

مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ (¬1) تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ، فَيَأْتُونَكُم تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً (¬2)، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ ألفًا" (¬3). * أَكْلُ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْجُبْنِ: وَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تَبُوكَ إِذْ جِيءَ له بِجُبْنَةٍ، فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا وَأَكَلَهَا، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِجُبْنَةٍ فِي تَبُوكَ، فَدَعَا بِسِكِّينٍ، فَسَمَّى، وَقَطَعَ (¬4). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أُوتَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِجُبْنَةٍ فِي غَزَاةٍ، فَقَالَ: "أَيْنَ صنِعَتْ هَذِهِ"؟ قَالُوا: بِفَارِسَ، وَنَحْنُ نُرَى أَنَّهُ يُجْعَلُ فِيهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اطْعَنُوا فِيهَا بِالسِّكِّينِ، وَاذْكرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَكُلُوا" (¬5). * قِصَّةُ الطَّاعُونِ: وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ مَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ إِذَا وَقَعَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 416) الْهُدْنَةُ: بضم الهاء وسكون الدال: هي الصُّلْحُ. (¬2) الغَايَةُ: الرَّايَةُ. انظر جامع الأصول (10/ 412). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة - باب ما يحذر من الغدر - رقم الحديث (3176) - وأبو داود - كتاب الأدب - باب ما جاء في المزاح - رقم الحديث (5000) (5001) - وابن ماجة في سننه - كتاب الفتن - باب أشراط الساعة - رقم الحديث (4042). (¬4) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الأطعمة - باب ما جاء في أكل الجبن - رقم الحديث (3819) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (5571). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2755).

* أعطيت الليلة خمسا لم يعطهن نبي قبلي

الطَّاعُونُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَنْ عَمِّهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ: "إِذَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِأَرضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا، وَإذَا وَقَعَ وَلَسْتُمْ بِهَا، فَلَا تَقْدُمُوا عَلَيْهِ" (¬1). * أُعْطِيتُ اللَّيلةَ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلي: وَهُنَاكَ وَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تَبُوكَ، أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِعْطَائِهِ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثار بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَامَ تَبوكَ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَاجْتَمَعَ وَرَاءهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْرُسُونَهُ، حَتَّى إِذَا صَلَّى، وَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، قَالَ: "لقَدْ أُعْطِيتُ اللَّيْلةَ خَمْسًا، مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: أُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَكَانَ مِنْ قبلي إِنَّمَا يُرْسَلُ النَّبِيُّ إِلَى قَوْمهِ، وَنُصِرْتُ عَلَى الْعَدُوِّ بِالرُّعْبِ، وَلَوْ كَانَتْ بَيْني وَبَيْنَهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ مُلِئَ مِنِّي رُعْبًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعْظِمُونَ أَكْلَهَا، كَانُوا يَحْرِقُونَهَا، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أَدْرَكتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحْتُ (¬2) وَصَلَّيْتُ، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعْظِمُونَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15435) - وأصله في صحيح البخاري في صحيحه - كتاب الطب - باب ما يذكر في الطاعون - رقم الحديث (5730) - ومسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب الطاعون والطيرة - رقم الحديث (2219). (¬2) تَمَسَّحْتُ: أي تَيَمَّمْتُ. انظر النهاية (4/ 279).

* مصالحة أهل أيلة

كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ (¬1)، وَالْخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ، قِيلَ لِي: سَلْ، فَإِنَّ مَنْ قَبْلَكَ سَأَلَ، فَأَخَّرْتُ مَسْأَلتِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ، وَلِمَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (¬2). * مُصَالَحَةُ أَهْلِ أَيْلةَ (¬3): وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِتَبُوكَ يُحَنَّهُ (¬4) بْنُ رُؤْبَة (¬5) صَاحِبَ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَعْطَاهُ الْجِزيةَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَار كُلَّ سَنَةٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بغْلَةً بَيْضَاءَ، فكَسَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُرْدًا، وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلِأَهْلِ أَيْلَةَ كِتَابًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَةَ تبوكَ. . . وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَكَسَاهُ (¬6) برْدًا، وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ (¬7). ¬

_ (¬1) الْبِيَعُ: بكسر الباء هي كَنَائِسُ الْيَهُودِ. انظر تفسير ابن كثير (5/ 114). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7068) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4489) - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيرة (3/ 490) وقال: إسناده جيد قوي - وأورده المنذري في الترغيب والترهيب - رقم الحديث (5319) وقال: إسناده صحيح - وأصل الحديث في صحيح البخاري - كتاب التَّيمم - باب (1) - رقم الحديث (335) - وصحيح مسلم - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - رقم الحديث (521). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 38) (4/ 110): أيلة: بفتح الهمزة وسكون الياء بلدة معروفة في طريق الشام بين المدينة ومصر على ساحل القلزم. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 110): يُحَنَّةَ: بضم الياء وفتح الحاء وتشديد النون. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 110): رُؤْبَةَ: بضم الراء وسكون الواو. (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (6/ 402): إن فاعل كسا هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ووقع في رواية ابن حبان والإمام أحمد: فكساه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُردًا. (¬7) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتحِ (4/ 111): أي ببلدهم، أو المراد بأهل بحرهم لأنهم كانوا سكانًا بساحل البحر؛ أي أنَّه أقره عليهم بما التزموه من الجزية، وفي بعض الروايات: "ببحرتهم" أي بلدتهم. =

* مصالحة يهود جرباء وأذرح

أَمَّا نَصُّ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَهْلِ أَيْلَةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كتَبَ لِأَهْلِ أَيْلَةَ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ، وَأَهْلِ أَيْلةَ لِسُفُنِهِمْ وَلِسَيَّارَتهِمْ، وَلبحْرِهِمْ وَلبرِّهِمْ، ذِمَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ كُلِّ مَارٍّ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالْيَمَنِ وَأَهْلِ البحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ طَيِّبَةٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلَا طَرِيقًا يَرِدُونَهَا مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ" (¬1). * مُصَالَحَةُ يَهُودِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ: وَأتى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِتَبُوكَ يَهُودُ جَرْبَاءَ، وَأَذْرُحَ، فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، فكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِأَهْلِ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ أَنَّهُمْ آمِنُونَ بِأَمَانِ اللَّهِ وَأَمَانِ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ دِينَارٍ فِي كُلِّ رَجَب وَافِيَةً ¬

_ = والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب خرص التمر - رقم الحديث (1481) - وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة - باب إذا وادع الإمام ملك القرية - رقم الحديث (3161) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1392) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخلافة والإمارة - رقم الحديث (4503) (6501) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23604). (¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5353) - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (4/ 180) بدون سند.

* إسلام مالك بن أحمر العوفي

طَيِّبَةً، وَاللَّهُ كفِيلٌ عَلَيْهِمْ" (¬1). * إِسْلَامُ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ الْعُوفِيِّ: وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِتَبُوكَ، مَالِكُ بْنُ أَحْمَرَ الْعُوفِيُّ، فَأَسْلَمَ، وَسَأله أَنْ يَكْتُبَ له كِتَابًا يَدْعُوهُ بِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَهَذَا نَصُّهُ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحْيمِ، هَذَا كِتَاب مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى ابْنِ أَحْمَرَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَانًا لَهُمْ، مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَخَالفوا الْمُشْرِكِينَ، وَأَدَّوُا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ" (¬2). * قِصَّةُ الذِي عَضَّ أُصْبُعَ صَاحِبِهِ: أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ يَعَلَى بْنِ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَةَ تَبُوكَ، وَكَانَتْ أَوْثَقُ أَعْمَالِي فِي نَفْسِي، فَاسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا فَقَاتَلَ رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فِيهِ وَنَزَعَ ثَنِيّتَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَهْدَرَهَا، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيدْفَعُ يَدَهُ إِلَيْكَ فتَقْضِمُهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ". وَفِي رِوَايَةٍ النَّسَائِيِّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَنْطَلِقُ أَحَدُكمْ إِلَى أَخِيهِ، فَيَعَضَّهُ عَضِيضَ الْفَحْلِ، ثُمَّ يَأْتِي فَيَطْلُبُ الْعَقْلَ (¬3)؟ لَا عَقْلَ لَهَا"، فَأَبْطَلَهَا رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 140) - سيرة ابن هشام (4/ 179). (¬2) انظر الإصابة (5/ 523). (¬3) الْعَقْلُ: الدِّيَّةُ. انظر النهاية (3/ 252). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب الأجير - رقم الحديث =

* فضل الوضوء

* فَضْلُ الْوُضُوءِ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لِغَيْرِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا يُحَدِّثُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: "مَنْ قَامَ إِذَا اسْتَقَلَّتِ الشَّمْسُ (¬1) فَتَوَضَّأ، فَأحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ (¬2)، غُفِرَ لَهُ خَطَايَاهُ، فَكَانَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه-: فَقُلْتُ: الْحَمْدُ للَّهِ الذِي رَزَقَنِي أَنْ أَسْمَعَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ تُجَاهِي جَالِسًا: أَتَعْجَبُ مِنْ هَذَا؟ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْجَبَ مِنْ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ، فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمَّي؟ . فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ" (¬3). ¬

_ = (2973) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة تبوك - رقم الحديث (4417) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب القسامة والمحاربين - باب القائل على نفس الإنسان أو عضوه - رقم الحديث (1674) (23) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب القسامة - باب الرجل يدفع عن نفسه - رقم الحديث (6941). (¬1) اسْتَقَلَّتِ الشَّمسُ: أي ارْتَفَعَتْ في السَّماءِ وتَعَالَتْ. انظر لسان العرب (11/ 356). (¬2) يريد بالركعتين هنا ركعتي الضحى. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (121) - وابن حبان في صحيحه - كتاب =

* بعث خالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى أكيدر دومة

* بَعْثُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى أُكَيْدَرَ (¬1) دُوْمَةَ (¬2): وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-، فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إِلَى أُكَيْدَرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَدُوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ كِنْدَةَ قَدْ مَلَكَهُمْ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا، وَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ". فَخَرَجَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِ أُكَيْدَرَ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً مُقْمِرَةً صَائِفَةً، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ، وَمَعَهُ امْرَأتُهُ، فَجَاءَتِ الْبَقَرُ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ قَصْرِهِ، فَقَالَتْ له امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ هَذه؟ قَالَ: لَا أَحَدَ، فَنَزَلَ، فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فِيهِمْ أَخٌ له يُقَالُ لَهُ: حَسَّانٌ، فَلَمَّا خَرَجُوا تَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتَأْسَرَ أُكَيْدَرَ، وَقَاتَلَ أَخُوهُ حَسَّانٌ حَتَّى قُتِلَ، وَهَرَبَ مَنْ كَانَ مَعَهُمَا، فَدخَلَ الْحِصْنَ، وَأَجَارَ خَالِدٌ أُكَيْدَرَ مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَنْ يَفْتَحَ له دُوْمَةَ ¬

_ = الطهارة - باب فضل الوضوء - رقم الحديث (1050). (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 552): أُكَيْدَر بضم الهمزة، تصغير أكدر. قال ابن الأثير في أسد الغابة (1/ 134): أُكيدر بن عبد الملك صاحب دُومة الجندل. . صالح رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على الجزية، ولم يُسلم، وهذا لا اختلاف بين أهل السير فيه، ومن قال: إنه أسلم، فقد أخطأ خطأ ظاهرًا، . . . فلا ينبغي أن يُذكر في الصحابة، وقد قتله خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- في خلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. قلتُ: وجزم الحافظ في الإصابة (1/ 381) أنه لم يُسلم. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 552): دُوْمَةُ بضم الدال وسكون الواو، وهي دُوْمَةَ الجندل، مدينة بقرب تبوك بها نخل وزرع وحصن، على عشرة مراحل من المدينة، وثمان من دمشق.

* رواية ضعيفة

الْجَنْدَلِ، فَفَعَلَ، وَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ بَعِيرٍ، وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ، وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْعٍ، وَأَرْبَعِمِائَةِ رُمْحٍ، فَعَزَلَ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه- صَفِيَّ (¬1) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ قَسَمَ مَا بَقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَصَارَ لِكُلِّ رَجُل مِنْهُمْ خَمْسَ فَرَائِضَ (¬2). ثُمَّ قَدِمَ خَالِدٌ بِأُكَيْدَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ. وَأَهْدَى أُكَيْدَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَغْلَةً، وَجُبَّةً (¬3) مِنْ سُنْدُسٍ (¬4) مَنْسُوجٍ فِيهَا الذَّهَبُ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأليَنُ" (¬5). * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ: قُلْتُ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ (¬6) مِنْ أَنَّ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) الصَّفِيُّ هو ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. انظر النهاية (3/ 37). (¬2) الفرِيضَةُ: هو البعيرُ المأخوذُ في الزكاة، سُمي فريضة؛ لأنَّه فَرْضٌ واجبٌ على رَبِّ المال، ثم اتُسِع فيه حَتَّى سُمي البعيرُ فريضةً في غير الزكاة. انظر النهاية (3/ 387). (¬3) في رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (2468): حُلَّة: بضم الحاء وتشديد اللام، وهي بُرْدَةٌ معروفة من اليمن. انظر النهاية (1/ 415). (¬4) السُّنْدُسُ: هو مَا رَقَّ مِنَ الدِّيباجِ. انظر النهاية (2/ 367). وفي رواية أخرى في صحيح مسلم - رقم الحديث (2468): من حرير. (¬5) أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه - كتاب الهبة وفضلها - باب قبول الهدية من المشركين - رقم الحديث (2615) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2468) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر وصف مناديل سعد بن معاذ في الجنَّة - رقم الحديث (7037) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12223). (¬6) انظر سيرة ابن هشام (4/ 180).

* رسالة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل عظيم الروم

أَخَذَ هَذِهِ الْجُبَّةَ مِنْ أُكَيْدِرَ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِلَابِ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ أَنَّ أُكَيْدَرَ أَهْدَى هَذِهِ الْجُبَّةَ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو يعَلَى بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ: أنَّهُ لَمَّا قَدِمَ أُكَيْدَرُ أَخْرَجَ قِبَاءً (¬1) مِنْ ديبَاجٍ مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ رَدِّ هَدِيَّتِهِ فَرَجَعَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْفَعْهُ إِلَى عُمَرَ" (¬2). وَفي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُعْطِهَا عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- لِيَلْبَسَهَا، وَلذَلِكَ كَسَاهَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- لِأَخٍ له كَانَ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا (¬3). * رِسَالَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى هِرَقلَ عَظِيمِ الرُّومِ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرِسَالَةٍ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ (¬4) ¬

_ (¬1) الْقِبَاءُ: نوعٌ من أنواعِ الثيابِ. انظر لسان العرب (11/ 27). وفي رواية ابن حبان والترمذي: جُبّة. (¬2) أورد هذا الحديث الحافظ في الفتح (5/ 552) - وقوى إسناده - وأخرجه كذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره قيس عن مناقب الصحابة - باب ذكر وصف مناديل سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه- في الجنة - رقم الحديث (7037) - والترمذي في جامعه - كتاب اللباس - باب رقم (3) - رقم الحديث (1820) - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الهبة وفضلها - باب هدية ما يكره لبسها - رقم الحديث (2612) - وأخرجه في كتاب اللباس - باب الحرير للنساء - رقم الحديث (5841) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب اللباس - باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء - رقم الحديث (2068). (¬4) إن ثبت هذا فتكون هذه الرسالة الثانية، التي بعث بها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل، وكانت الأولى بعد الحديبية -كما ذكرنا ذلك فيما مضى-.

يَدْعُوهُ فِيهَا إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ دَفع الْجِزيَةِ، أَوِ الْقِتَالُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ قَالَ: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ (¬1) رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِحِمْصٍ، وَكَانَ جَارًا لِي، شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ بَلَغَ الفنَدَ (¬2) أَوْ قَرُبَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ رِسَالَةِ هِرَقْلَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى هِرَقْلَ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَبُوكَ، فَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إِلَى هِرَقْلَ، فَلَمَّا أَنْ جَاة كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَعَا قِسِّيسِي (¬3) الرُّومِ وَبَطِارِقتَهَا (¬4)، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَابًا، فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ هَذَا الرَّجُلُ حَيْثُ رَأَيْتُمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَدْعُونِي إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: يَدْعُونِي إِلَى أَنْ أَتَّبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَهُ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا، وَالْأَرْضُ أَرْضُنَا، أَوْ نُلْقِيَ إِلَيْهِ الْحَرْبَ. ثُمَّ قَالَ هِرَقْلُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ فِيمَا تَقْرَؤُونَ مِنَ الْكُتُبِ لَيَأْخُذَنَّ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ، فَهَلُمَّ نَتَّبِعُهُ عَلَى دِينِهِ، أَوْ نُعْطِيهِ مَالَنَا مِنْ أَرْضِنَا، فنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ ¬

_ (¬1) التَّنُوخِيّ: بفتح التاء، هو رسول هرقل إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان حينئذ كافرًا، ثم أسلم بعد وفاة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهو تابعي اتفاقًا. (¬2) الْفَنَد: الْخَرَفُ وإنكارُ العقلِ منَ الْهَرَمِ أو المرضِ. انظر لسان العرب (10/ 332). ومنه قوله تَعَالَى على لسان يعقوب عليه السَّلام في سورة يوسف آية (94): {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ}. (¬3) القسُّ: بفتح القاف رئيسٌ من رُؤَسَاءِ النصارى في الدِّينِ والعِلْمِ. انظر لسان العرب (11/ 157). (¬4) الْبِطْرِيقُ: هو الْحَاذِقُ بالْحَرْبِ وأمورها بلغة الرُّومِ. انظر النهاية (1/ 134).

وَاحِدٍ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ بَرَانِسِهِمْ (¬1)، وَقالُوا: تَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَدَعَ النَّصْرَانِيَّةَ، أَوْ نَكُونَ عَبِيدًا لِأَعْرَابيٍّ جَاءَ مِنَ الْحِجَازِ! . فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ إِنْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الرّومَ رَفَّأَهُمْ (¬2) وَلَمْ يَكَدْ (¬3)، ؤقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لَكُمْ لِأَعْلَمَ صَلَابَتَكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا مِنْ عَرَبِ تُجِيبَ كَانَ عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَالَ لَهُ: ادْعُ لِي رَجُلًا حَافِظًا لِلْحَدِيثِ، عَرِبيَّ اللِّسَانِ، أَبْعَثْهُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِجَوَابِ كِتَابِهِ، فَجَاءَ بِي، فَدَفعَ إِلَيَّ هِرَقْلُ كِتَابًا، فَقَالُ: اذْهَبْ بِكِتَابِي إِلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَمَا ضَيَّعْتَ مِنْ حَدِيثِهِ فَاحْفَظْ لِي مِنْهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: 1 - انْظُرْ هَلْ يَذْكُرُ صَحِيفَتَهُ التِي كَتَبَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ . 2 - وَانْظُرْ إِذَا قَرَأَ كِتَابِي، فَهَلْ يَذْكُرُ اللَّيْلَ؟ . 3 - وَانْظُرْ فِي ظَهْرِهِ، هَلْ بِهِ شَيْءٌ لا يَرِيبُكَ؟ قَالَ التَّنُوخِيُّ: فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِهِ حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ، فَإِذَا هُوَ (¬4) جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ مُحْتَبِيًا (¬5) عَلَى الْمَاءِ (¬6)، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَاحِبُكُمْ؟ ¬

_ (¬1) الْبُرْنُس: هو كُلُّ ثوبٍ رأسه منه مُلْتَزِقٌ به، من دُرَّاعَةٍ أو جُبَّةٍ أو غيره. انظر النهاية (1/ 121). (¬2) رَفَّاَهُمْ: أي سَكَّنَهُمْ ورَفَقَ بِهِمْ. انظر النهاية (2/ 219). (¬3) لم يَكَدْ: بفتح الكاف أي لم يُلحّ عليهم. انظر لسان العرب (12/ 43). (¬4) أي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) الِاحْتِبَاءُ: هو أَنْ يَضُمَّ الإنسانُ رِجليهِ إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشدّه عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض عن الثوب. انظر النهاية (1/ 324). (¬6) الْمَاءُ: هو عَيْنُ تَبُوكَ.

قِيلَ: هَا هُوَ ذَا، فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَاوَلتُهُ كِتَابِي، فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: "مِمَّنْ أَنْتَ؟ "، فَقُلْتُ: أنا أَحَدُ تَنُوخٍ. قَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ؟ ". قُلْتُ: إِنِّي رَسولُ قَوْمٍ، وَعَلَى دِينِ قَوْم، لَا أَرْجعُ عَنْهُ حَتَّى أَرْجعَ إِلَيْهِمْ. فَضَحِكَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: " {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬1)، يَا أَخَا تَنُوخ، إِنِّي كتَبْتُ بِكِتَابٍ إِلَى كِسْرَى فَمَزَّقَه، وَاللَّهُ مُمَزِّقُهُ وَمُمَزِّقُ مُلْكِهِ، وَكتَبْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ (¬2) بِصَحِيفَةٍ فَخَرَّقَهَا، وَاللَّهُ مَخَرِّقُهُ وَمُخرِّقُ مُلْكِهِ، وَكَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِكَ بِصَحِيفَةٍ فَأمْسَكَهَا، فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجدُونَ مِنْهُ بَأسًا مَادَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ". قُلْتُ: هَذِهِ إِحْدَى الثَّلَاثَةِ التِي أَوْصَانِي بِهَا صَاحِبِي، وَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جُعْبَتِي، فَكَتَبْتُهَا فِي جِلْدِ سَيْفِي، ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ كِتَابِكُمُ الذِي يَقْرَأُ لَكُمْ؟ قَالُوا: مُعَاوِيَةُ، فَإِذَا فِي كِتَابِ صَاحِبِي: تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ؟ ". قَالَ التَّنُوخِيُّ: فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جُعْبَتِي، فكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي، فَلَمَّا أَنْ ¬

_ (¬1) سورة القصص آية (56). (¬2) هذا النجاشي غير النجاشي أصحمة الذي آمن بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-.

فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ كِتَابِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ لَكَ حَقًّا، وَإنَّكَ رَسُولٌ، فَلَوْ وَجَدْتُ عِنْدَنَا جَائِزَةً (¬1) جَوَّزْنَاكَ بِهَا، إِنَّا سَفْرٌ (¬2) مُرْمِلُونَ (¬3) ". قَالَ: فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ طَائِفَةِ النَّاسِ، قَالَ: أَنَا أُجَوِّزُهُ (¬4)، فَفَتَحَ رَحْلَهُ فَإِذَا هُوَ يَأْتِي بِحُلَّةٍ صَفُّورِيَّةٍ (¬5)، فَوَضَعَهَا فِي حِجْرِي، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ الْجَائِزَةِ؟ قِيلَ لِي: عُثْمَانُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "أَيُّكُمْ يُنْزِلُ هَذَا الرَّجُلَ؟ ". فَقَالَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا، فَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ، وَقُمْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا خَرَجْتُ مِنْ طَائِفَةِ الْمَجْلِسِ، نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "تَعَالَ يَا أَخَا تَنُوخٍ"، فَأَقْبَلْتُ أَهْوِي إِلَيْهِ، حَتَّى كُنْتُ قَائِمًا فِي مَجْلِسِي الذِي كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَلَّ حَبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَقَالَ: "هَاهُنَا امْضِ لِمَا أُمِرْتَ لَهُ" فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ عُضُونِ (¬6) الْكَتِفِ مِثْلِ الْحَجْمَةِ (¬7) الضَّخْمَةِ (¬8). ¬

_ (¬1) الْجَائِزَةُ: الضِّيَافَةُ. انظر النهاية (1/ 302). (¬2) أي مسافرين (¬3) مُرْمِلُونَ: أي نَفِدَ زَادُهُم. انظر النهاية (2/ 240). (¬4) أي أضيفه. (¬5) صَفُّورية: بفتح الصاد وتشديد الفاء: بلد في الأردن، نُسِبَت الحُلَّة إليها. انظر معجم البلدان (5/ 195). (¬6) الْغَضْنُ: الْكَسْرُ في الْجِلْدِ. انظر لسان العرب (10/ 85). (¬7) الحَجْمَة: بفتح الحاء: شبه صورة خاتم النبوة الناتئ على كتفه -صلى اللَّه عليه وسلم- بصورة النتوء الضخم الذي يحصل بإلصاقِ المحجمة -وهي القارورة- في ظهر المحجوم. انظر الموسوعة الحديثية (24/ 421). (¬8) أخرج ذلك كله الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15655) - وأورده الحافظ ابن =

* وفاة عبد الله ذو البجادين -رضي الله عنه-

* وَفَاةُ عَبْدِ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ -رضي اللَّه عنه-: وَفِي تَبُوكٍ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيُّ -رضي اللَّه عنه-. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ، فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ، فَاتَّبعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ قَدْ مَاتَ، وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حُفْرَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُدَلِّيَانِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكُمَا"، فَدَلَّيَاهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا هَيَّأَهُ لِشِقِّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ! إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضيًا عَنْهُ، فَارْضَ عَنْهُ"، فَقُلْتُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ. * لِمَاذَا سُمِّيَ بِذِي الْبِجَادَينِ؟ : وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْبِجَادَيْنِ؛ لِأنَّهُ كَانَ يُنَازعُ (¬1) إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ، قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَيْهِ، حَتَّى ترَكُوهُ فِي بِجَادٍ (¬2) لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، شَقَّ بِجَادَهُ بِاثْنَيْنِ، فَاتَّزَرَ بِوَاحِدٍ، وَاشْتَمَلَ بِالْآخَرِ، ثُمَّ أتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أَنْتَ؟ ". ¬

_ = كثير في البداية والنهاية (5/ 18) وقال: هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس به تفرّد به الإمام أحمد - وانظر السلسلة الضعيفة للألباني - رقم الحديث (3686). (¬1) يُقال للإنسان إذا هوى شيئًا ونازعته نفسه إليه: هو ينزع إليه نِزاعًا. انظر لسان العرب (14/ 106). (¬2) الْبِجَادُ: بكسر الباء هو الْكِسَاءُ. انظر النهاية (1/ 97).

قَالَ: أَنَا عَبْدُ الْعُزَّى -وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْعُزَّى يَوْمَئِذٍ- فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ"، ثُمَّ قَالَ له: "انْزِلْ مِنِّي قَرِيبًا"، فَكَانَ يَكُونُ مِنْ أَضْيَافِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَعَلَّمَهُ الْقُرْاَنَ حَتَّى قَرَأَ قُرآنًا كَثِيرًا، وَكَانَ يَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ، وَكَانَ رَجُلًا صَيِّتًا (¬1)، فَشَكَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ألا تَسْمَعُ إِلَى صَوْتِ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ، يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ؟ قَدْ مَنَعَ النَّاسَ الْقِرَاءَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَعْهُ يَا عُمَرُ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ". فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوكٍ خَرَجَ مَعَهُ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَبْغِنِي لِحَاءَ (¬2) شَجَرَة"، فَأتَاهُ بِذَلِكَ، فَرَبَطَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَضُدِهِ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ دَمَهُ عَلَى الْكُفَّارِ"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا أَرَدْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَخَذَتْكَ حُمَّى فَقَتَلَتْكَ، فَأنْتَ شَهِيدٌ، أَوْ وَقَصَتْكَ (¬3) دَابَّتُكَ، فَأنْتَ شَهِيدٌ، لَا تُبَالِ بَأَيَّتِهِ كَانَ". فَلَمَّا نَزَلُوا تَبُوكَ أَقَامُوا بِهَا أَيَّامًا، فَأَخَذَتْهُ الْحُمَّى فَمَاتَ مِنْهَا -رضي اللَّه عنه- (¬4). ¬

_ (¬1) صَيِّتًا: أي شديد الصوت عاليه. انظر النهاية (3/ 60). (¬2) لِحَاءُ الشجرةِ: هو قِشْرُهَا. انظر النهاية (4/ 210). (¬3) الوَقْصُ: بفتح الواو وسكون القاف: كسر العنق. انظر النهاية (5/ 186). (¬4) أخرج قصة وفاة عبد اللَّه ذي البجادين -رضي اللَّه عنه-: ابن إسحاق في السيرة (4/ 182) - وأبو نعيم في دلائل النبوة (2/ 525) - وإسناده منقطع كما قال الحافظ في الإصابة (4/ 139).

* حديث في فضل عبد الله ذو البجادين -رضي الله عنه-

* حديث في فضل عبد اللَّه ذو البجادين -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ذُو البِجَادَيْنِ: "إِنَّهُ أَوَّاهٌ"، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الذِّكْرِ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي القُرْآنِ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الدُّعَاءِ (¬1). * رُجُوعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا -كَمَا ذَكَرْنَا-، وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا مِنْ أَيِّ عَدُوٍّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مُنْتَصِرًا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ، وَقَدْ حَدَثَتْ أَحْدَاثٌ، وَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ، مِنْهَا: * حَدِيثُ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه-: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ خَلِيًّا (¬2) فَدَنَوْتُ مِنْهُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ البَيْتَ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ ". قُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! . ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17453). (¬2) خَلِيًّا: أي لِوَحْدِهِ ليس معه أحد.

* مكر المنافقين برسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصَّوْمُ جُنَّةٌ (¬1)، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ"، ثُمَّ قَرَأَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬2)، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كلِّهِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تَكُفَّ عَلَيْكَ هَذَا". قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ ألسِنَتِهِمْ" (¬3). * مَكْرُ الْمُنَافِقِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَفي الطَّرِيقِ إِلَى الْمَدِينَةِ تَآمَرَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ ¬

_ (¬1) جُنَّةٌ: بضم الجيم وتشديد النون أي وِقَايَة. انظر النهاية (1/ 297). (¬2) سورة السجدة آية (16). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22068) - وابن ماجة في سننه - كتاب الفتن - باب كف اللسان في الفتنة - رقم الحديث (3973) - والحاكم في المستدرك - كتاب التفسير - باب تفسير سورة السجدة - رقم الحديث (3601) - والترمذي في جامعه - كتاب الإيمان - باب ما جاء في حرمة الصلاة - رقم الحديث (2804) - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

عَشَرَ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ، عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمُزَاحَمَتِهِ عَلَى الْعَقَبَةِ (¬1)، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَ رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمْ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا أَقبل رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَد، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ، وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ، إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ (¬2) مُتَلثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ (¬3)، غَشُوا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَقبل عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحُذَيْفَةَ: "قَدْ، قَدْ" (¬4)، حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّار، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟ ". فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ وَالْقَوْمُ مُتَلثِّمُونَ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟ "، قَالَ عَمَّارٌ: اللَّهُ وَرَسُول أَعْلَمُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَطْرَحُوهُ" (¬5). ¬

_ (¬1) الْعَقَبَةُ: الْجَبَلُ الطَّوِيلُ. انظر لسان العرب (9/ 306). قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 105): وهذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمِنَى التي كانت بها بيعة الأنصار رضي اللَّه عنهم، وإنَّما هذه عقبة على طريق تبوك اجتمع المنافقون فيها للغدرِ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة تبوك، فعصمه اللَّه منهم. (¬2) الرَّهْطُ من الرجال: ما دون العشرة. انظر النهاية (2/ 257). (¬3) الرَّاحِلَةُ من الإبلِ: البعيرُ القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء. انظر النهاية (2/ 191). (¬4) قَدْ: بفتح القاف: أي حَسْبِي، وتكرارها لتأكيد الأمر. انظر النهاية (4/ 18). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23792).

* شأن أبي رهم الغفاري -رضي الله عنه-

وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرَادُوا أَنْ يَزْحَمُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الْعَقَبَةِ، فيلْقُوهُ مِنْهَا" (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ -رضي اللَّه عنه-: كُنَّا نُخْبِرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ كُنْتُ مِنْهُمْ فَقَدْ كَانَ القوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ اثْنَى عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ للَّهِ وَلرَسُولهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَعَذْرَ ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ (¬2). وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {. . . وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} (¬3). أَيْ هَمُّوا بِإلْقَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْعَقَبَةِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَنَالُوا ذَلِكَ. * شَأْنُ أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 261). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - رقم الحديث (2779) (11) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23321). (¬3) سورة التوبة آية (74).

أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا قَفَلَ (¬1)، سِرْنَا لَيْلَةً، فَسِرْتُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُلْقِيَ عَلَيَّ النّعاسُ، فَطَفِقْتُ (¬2) أَسْتَيْقِظُ، وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَتِهِ، فيفْزِعُنِي دُنُوُّهَا خَشْيَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ (¬3)، فَأَزْجِرُ (¬4) رَاحِلَتِي، حَتَّى غَلَبتْنِي عَيْني فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، فَزَحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَتَهُ، وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ، فَأَصَبْتُ رِجْلَهُ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إِلَّا بِقَوْلهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حَسِّ" (¬5)، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "سِرْ"، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْأَلُنِي عَمَّنْ تَخَلَّفَ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَأَخْبَرتُهُ، فَإذا هُوَ قَالَ: "مَا فَعَلَ النَّفَرُ الْحُمْرُ (¬6) الثِّطَاطُ (¬7)؟ ". فَحَدَّثْتُهُ بِتَخَلُّفِهمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا فَعَلَ النَّفَرُ السُّودُ الْجِعَادُ (¬8) ¬

_ (¬1) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 82). وفي رواية الإمام أحمد في مسنده: فَصَلَ. (¬2) طَفِقَ: جَعَلَ. انظر لسان العرب (8/ 174). (¬3) الْغَرْزُ: رِكَابُ كُورِ الْجَمَلِ إذا كان من جلد أو خشب. انظر النهاية (3/ 323). (¬4) في رواية الإمام أحمد في مسنده: فأُوخِّر. (¬5) حَسِّ: بفتح الحاء كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مَضَّهُ أو أَحْرَقَهُ غَفْلَةً، كالجمرة والضربة، ونحوهما. انظر النهاية (1/ 370). (¬6) قال السندي في شرح المسند (11/ 312): الحُمْرُ: بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر. (¬7) الثِّطَاطُ: بكسر الثاء جمع ثَطٍّ، وهو القليلُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ والْحَاجِبَيْنِ. انظر النهاية (1/ 206) - لسان العرب (2/ 97). (¬8) الْجَعْدُ: في صفات الرجال يكون مدحًا وذمًا: فالمدح معناه أَنْ يكونَ شديدَ الْأَسْرِ والخَلْقِ، وَأَمَّا الذم فهو القصيرُ المتردِّدُ الْخَلْق. انظر النهاية (1/ 266).

* استعجال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة

الْقِطَاطُ (¬1) أَوْ الْقِصَارُ، الذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ (¬2) بِشَبَكَةِ شَرْخٍ (¬3)؟ ". قَالَ: فتَذَكَّرتُهُمْ فِي بَنِي غِفَارٍ، فَلَمْ أَذْكُرْهُمْ حَتَّى ذَكَرْتُ رَهْطًا مِنْ أَسْلَمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ تَخَلَّفُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَمَا يَمْنَعُ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلَف أَحَدُهُمْ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعْضِ إِبِلِهِ امْرَءًا نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ أَعَزَّ أَهْلِي عَلَيَّ أَنْ يَتَخَلَف عَنِّي الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارٌ" (¬4). * اسْتِعْجَالُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الْمَدِينَةِ: فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابُهُ إِلَى وَادِي الْقِرَى، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "إِنِّي مُتَعَجِّل إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ" (¬5). * هَدْمُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ: ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ (¬6)، فَجَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ ¬

_ (¬1) القَطَطُ: الشَّدِيدُ جُعُودَةِ الشَّعْرِ. انظر النهاية (4/ 71). (¬2) النَّعَمُ: بفتح النون: الإبل والغنم. انظر لسان العرب (14/ 212). (¬3) شَبَكَةُ شَرْخٍ: موضع بالحجاز في ديار غِفار. انظر النهاية (2/ 396). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19072) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر الخبر الدال على أن أحب الناس إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المهاجرون والأنصار - رقم الحديث (7257) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (114). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب خرص التمر - رقم الحديث (1481) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب أُحد جبل يحبنا ونحبه - رقم الحديث (1392). (¬6) قال ابن إسحاق في السيرة (4/ 183): ذِي أَوَان: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار.

الْمُنَافِقِينَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَهُمْ بِقُبَاءَ لِيُصَلِّي فِيهِ -وَهُوَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ- فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَذِهِ الْآيَاتِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬1). فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَالِكَ بْنَ الدُّخْشُمِ (¬2) أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيٍّ أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ، فَقَالَ لَهُمَا: "انْطَلِقَا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْله، فَاهْدِمَاهُ وَحَرِّقَاهُ". فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتَّى أَتَياهُ، فَأَشْعَلَا فِيهِ النِّيرَانَ، وَهَدَمَاهُ (¬3). وَهَذَا الْمَسْجِدُ -مَسْجِدُ الضِّرَارِ- الذِي اتُّخِذَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكِيدَةً لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْإِضْرَارُ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَإِلَّا سَتْرُ الْمُتَآمِرِينَ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ، الْكَائِدِينَ لَهَا فِي الظَّلَامِ، وَإِلَّا التَّعَاوُنُ مَعَ أَعْدَاءَ هَذَا الدِّينِ عَلَى الْكَيْدِ لَهُ تَحْتَ سِتَارِ الدِّينِ. . . (¬4). ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (107 - 108) - وقد تكلمنا عن تفسير هذه الآيات في بداية الكلام عن غزوة تبوك، فراجعها. (¬2) قال النووي في شرح مسلم (1/ 214): الدُخْشُم بضم الدال وإسكان الخاء وضم الشين. (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 184) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 263). (¬4) انظر في ظلال القرآن (3/ 1701) لسيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة

* قُدُومُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ: فَلَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: "هَذِهِ طَيبَةٌ أَوْ طَابَةٌ"، فَلَمَّا رَأَى جَبَلَ أُحُدٍ، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا جُبيْلٌ (¬1) يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، ألا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ؟ ". قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دُورُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ أَوْ دُورُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَج، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ". فَأُخْبِرَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه- بِذَلِكَ، فَأَدْرَكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! خَيَّرْتَ دُورَ الْأَنْصَارِ فَجَعَلْتَنَا آخِرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ؟ " (¬2). * فَضْلُ النِّيَّةِ الصَّادِقَةِ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخْبَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّ بِالْمَدِينَةِ أُناسًا أَخَذوا أَجْرَ الْغَزْوِ مَعَهُمْ كَامِلًا، حبَسَهُمُ الْعُذْرُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (4422): "جبل". (¬2) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب خرص التمر - رقم الحديث (1481) - وكتاب مناقب الأنصار - باب فضل دور الأنصار - رقم الحديث (3791) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب في معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1392) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب المعجزات - رقم الحديث (6501).

* أهل المدينة يتلقون الجيش

صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ تَبوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: "إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ فيهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ ! ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حبَسَهُمُ الْعُذْرُ" (¬1). * أَهْلُ المَدِينَةِ يَتلَقَّون الجَيْشَ: وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِمَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَخَرَجُوا إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ يتلَقَّوْنَهُ، بِحَفَاوَةٍ وَفَرَحٍ وَسُرُورٍ بَالغٍ، وَجَعَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْوَلَائِدُ يَقُلْنَ: طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا ... مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعِ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا ... مَا دَعَا للَّهِ دَاعٍ (¬2) رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَذْكُرُ أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ نتلَقَّى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ مَقْدَمَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب من حبسه العذر عن الغزو - رقم الحديث (2838) (2839) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب (82) - رقم الحديث (4423) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر - رقم الحديث (1911) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12009) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الخروج وكيفية الجهاد - رقم الحديث (4731). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 473). (¬3) أخرجه البخاري - كتاب المغازي - باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر - رقم الحديث (4426) (4427).

* أمر المتخلفين

وَكَانَ خُرُوجُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى تَبُوكَ فِي رَجَبٍ، وَعَوْدَتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي رَمَضَانَ (¬1) ضُحًى، وَكَانَ قَلَّمَا يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ سَافَرَهُ إِلَّا ضُحًى، وَكَانَ يَبدَأُ بالْمَسْجِدِ، فَأَتَى مَسْجِدَهُ، فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ (¬2). * أَمْرُ الْمُتْخَلِّفِينَ: كَانَتْ غَزْوُةُ تَبُوكَ لِظُرُوفِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا اخْتِبَارًا شَدِيدًا وَعَسِيرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى تَمَيَّزَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ خَرَجَ إِلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ كُلُّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا صَادِقًا، وَصَارَ التَّخُلُّفُ عَنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَمَارَةً (¬3) عَلَى نِفَاقِ الرَّجُلِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . فكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفاقُ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ (¬4). وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ: ¬

_ (¬1) ذكرنا أن مدة إقامة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في تبوك عشرون ليلة، فيكون غاب عن المدينة أكثر من شهر؛ لأنه خرج من المدينة في رجب، ورجع في رمضان. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15789). (¬3) الْأَمَارَةُ: الْعَلَامَةُ. انظر النهاية (1/ 68). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769).

* مقاطعة المتخلفين

1 - مَأْمُورُونَ مَأْجُورُونَ: كَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بنِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. 2 - مَعْذُورُونَ: وَهُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْمَرْضَى، وَالْمُقِلُّونَ الذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، وَلَا يَجِدُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، كَالْبَكَّائِينَ وَأَمْثَالِهِمْ. 3 - عُصَاةٌ مُذْنِبُونَ، وَهُمْ الثَّلَاثَةُ الذِينَ خُلِّفُوا، وَأَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابُهُ الذِينَ رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَوَارِي الْمَسْجِدِ. 4 - مَلُومُونَ مَذْمُومُونَ، يُظْهِرُونَ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، وَذَمَّهُمْ، وَوَبَّخَهُمْ، وَقَرَّعَهُمْ أَشَدَّ التَّقْرِيعِ، وَفَضَحَهُمْ أَشَدَّ الفَضِيحَةِ، وَأَنْزَلَ فِيهِمْ قُرآنًا يُتْلَى، وَبَيَّنَ أَمْرَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ (¬1). * مُقَاطَعَةُ الْمُتَخَلِّفِينَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "مَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنَ الْمُخَلَّفِينَ فَلَا يُكَلِّمَنَّهُ، وَلَا يُجَالِسَنَّهُ" (¬2). فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْرِضُ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَخِيهِ، وَحَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ لتُعْرِضُ عَنْ زَوْجِهَا، فَمَكَثُوا بِذَلِكَ أَيَّامًا حَتَّى كَرِبَ الذِينَ تَخَلَّفُوا، فَجَاؤُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ بِالْجَهْدِ ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (5/ 5) (5/ 30). (¬2) أخرج هذا الحديث ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (19737) - وإسناده ضعيف

* أمر أبي لبابة وأصحابه رضي الله عنهم

وَالْأَسْقَامِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، فَعَذَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ (¬1) أَمْرَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ، وَهُمَا هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (¬2). * أَمْرُ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: رَوَى الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي جَامِعِ الْبَيَانِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ حَسَن عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَؤلِهِ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} (¬3)، قال -رضي اللَّه عنه-: كَانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلفوا عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا رَجَعَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ، قَالَ: "مَنْ هَؤُلَاءِ الْمُوثقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي؟ ". قَالُوا: هَذَا أَبُو لُبَابَةَ، وَأَصْحَابٌ له تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَحَلَفُوا لَا يُطْلِقُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ، وَتَعْذُرَهُمْ، فَفَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا ¬

_ (¬1) أَرْجَأَ: أَخَّرَ. انظر لسان العرب (5/ 138). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 185) - دلائل النبوة (5/ 280) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 333). (¬3) سورة التوبة آية (102). قال الإمام الطبري في تفسيره (6/ 462): وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتركهم الجهاد معه، والخروج لغزو الروم، حين شَخَص -أي ذهب- إلى تبوك، وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم: أبو لبابة -رضي اللَّه عنه-.

أُطْلِقُهُمْ، وَلَا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي (¬1)، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمِينَ". فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ، قَالُوا: وَنَحْنُ بِاللَّهِ لَا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الذِي يُطْلِقُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَعَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، أَنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَطْلَقَهُمْ، وَعَذَرَهُمْ، فَجَاؤُوا بِأَمْوَالهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذِهِ أَمْوَالُنَا فتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ"، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ (¬3) إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ (¬4) لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬5). فَأَخَذَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الصَّدَقَةَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ (¬6). ¬

_ (¬1) رَغِبَ عن الشيء: تركه متعمدًا، وزهد فيه. انظر لسان العرب (5/ 255). ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (5063) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1401): ". . . فمن رغب عن سنَّتي فليس مني". (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 206): وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين، إِلا أنها عامة في كل المذنبين الخاطئين المخلصين المتلوثين. (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في تفسيره (4/ 207): أي أدع لهم واستغفر لهم. (¬4) قال ابن عباس: أي رحمة لهم. انظر تفسير ابن كثير (4/ 207). (¬5) سورة التوبة آية (103). (¬6) أخرجه الطبري في جامع البيان (6/ 460) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 272) - وأخرجه أيضًا الإمام مالك في الموطأ - كتاب النذور والأيمان - باب جامع الأيمان - رقم الحديث (16) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (3319).

قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم

قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ (¬1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرِيدُ عِيرَ (¬2) قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلقدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ليْلَةَ الْعَقَبَةِ (¬3) حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ (¬4)، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا (¬5)، وَعَدُوًّا كَثِيرًا، ¬

_ (¬1) صاحباه هما: مرارة بن الرَّبيع، وهلال بن أميَّة الواقفي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬2) الْعِيرُ: بكسر العين، هي الإبل بأحمالها. انظر النهاية (3/ 297). (¬3) المقصود بليلة العقبة: هي بيعة العقبة الثانية التي بايع فيها الأنصار رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذكرنا تفاصيل هذه البيعة فيما مضى، فراجعه. (¬4) أي غزوة تبوك. (¬5) الْمَفَازَةُ: الْبَرِّيَّةُ الْقَفْرُ، سميت بذلك، لأنها مُهلكة. انظر النهاية (3/ 430).

فَجَلَّى (¬1) لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ -يُرِيدُ الدِّيوَانَ-. قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُل يُرِبدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أنا قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يتمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ (¬2)، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَادِيًا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا (¬3) لِاتَجَهَّزَ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ (¬4) الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكُهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ! فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا (¬5) عَلَيْهِ النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا ¬

_ (¬1) جَلَّى: أي كَشَفَ وأَوْضَحَ. انظر النهاية (1/ 280). (¬2) الْجِدُّ: بكسر الجيم ضد الْهَزْلِ، والْجِّد: الاجْتِهَادُ في الأمور. انظر النهاية (1/ 237) - لسان العرب (2/ 203). ومنه قول ابن عمر رضي اللَّه عنهما الذي رواه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1805): إنِّي رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا جَدَّ به السير أخَّر المغرب، وجمع بينهما. أي جمع بين المغرب والعشاء. (¬3) فَصَلَ: خرج. انظر لسان العرب (10/ 273). (¬4) تَفَارَطَ الْغَزْوِ: أي فَاتَ وَقْتُهُ وتَقَدَّمَ. انظر النهاية (3/ 389). (¬5) مَغْمُوصٌ: أي مَطْعُونٌ في دينه متهم بالنفاق. انظر النهاية (3/ 347).

مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الضُّعَفَاءَ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القوْمِ بِتبوكَ: "مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ (¬1): يَا رَسُولَ اللَّهِ! حبَسَهٌ برْدَاهُ (¬2)، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ (¬3). فَقَالَ له مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه-: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا (¬4) مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي هَمِّي (¬5)، فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ ، وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْي مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ له، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 356): سَلِمة: بكسر اللام، وهم بطن كبير من الأنصار. (¬2) البُرْدَةُ: نوع من الثياب معروف. انظر النهاية (1/ 116). (¬3) الْمِعْطَفُ: الرِّدَاءُ. انظر النهاية (3/ 233). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 459): كَنَّى بذلك عن حسنه وبهجته، والعرب تصف الرداء بصفة الحسن. (¬4) قَفَلَ: رَجَعَ. انظر النهاية (4/ 81). (¬5) في رواية مسلم في صحيحه: بشيء. والْبَثُّ: أَشَدُّ الْحُزْنِ. انظر النهاية (1/ 96).

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي: "مَا خَلَّفكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ (¬1) ظَهْرَكَ (¬2)؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا (¬3)، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ (¬4) عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ (¬5)، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ". قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ ما عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، وَلقدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَكَ. ¬

_ (¬1) ابتاع الشيء: اشتراه. انظر لسان العرب (1/ 557). (¬2) الظهر: الإبل التي يُحمل عليها وتُركب. انظر النهاية (3/ 151). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 406): أي فَصَاحَةٌ وقُوَّة كلام بحيث أخرج عن عهدة ما يُنسب إليّ إذا أردت. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 406): تَجِدُ بكسر الجيم أي تَغْضَبُ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 467): فيه إشعار بأن من سواه كذب.

قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأكُذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. قَالَ: قُلْتُ مَنْ هُمَا؟ ، قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ. قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا (¬1)، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي. قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- المُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيها الثَّلَاثَة مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْه (¬2)، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيّروا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ التِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا (¬3) ¬

_ (¬1) قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 505): وهذا الموضع مما عُدّ من أوهام الزهري، فإنَّه لا يُحفظ عن أحد من أهل المغازي والسير البتة ذِكرُ هذين الرجلين في أهل بدر، لا ابن إسحاق، ولا موسى بن عقبة، ولا الأموي، ولا الواقدي، ولا أحد ممن عَدّ أهل بدر، وكذلك ينبغي ألا يكونا من أهل بدر، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يهجر حاطبًا -رضي اللَّه عنه-، ولا عاقبه وقد جس عليه، وقال لعمر -رضي اللَّه عنه- لما هَمّ بقتله: "وما يدريك لعل اللَّه اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وأين ذنب التخلف من ذنب الجس. قلت: ممن ذهب إلى هذا الرأي: الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 233). (¬2) قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 506): وفي نهي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم، وكذب الباقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يُقابل بالهجر. (¬3) اسْتَكَانَ: أي خَضَعَ. انظر النهاية (2/ 347).

وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ القوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ (¬1)، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ ، ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ (¬2) النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ علَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ (¬3) أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ، حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ (¬4) مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانٍ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) جَلْدًا: أي قَوِيًّا في نفسه وجسمه. انظر النهاية (1/ 275). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 461): أُسَارِقُهُ: أي أَنْظُرُ إليه في خُفْيَةٍ. (¬3) الْحَائِطُ: الْبُسْتَانُ. انظر النهاية (1/ 444). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 78): الْأَنْبَاطُ هم فَلَّاحُو الْعَجَمِ.

بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نواسِكَ. فَقُلْتُ حِينَ قَرَأتهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ! فَتَيَمَّمْتُ (¬1) بِهَا التَّنُورَ فَسَجَرتُهَا بِهَا (¬2)، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ يَأْتِيني فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ (¬3). فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ (¬4) هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ ، قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ"، فَقَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ ¬

_ (¬1) تَيَمَّمْتُ: قَصَدْتُ. انظر النهاية (5/ 259). (¬2) سَجَرْتُهَا بِهَا: أي أَوْقَدَ النَّارَ بهذه الرسالة؛ أي أنَّه أَحْرَقَهَا. انظر لسان العرب (6/ 177). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 462): ودَلّ صنيع كعب -رضي اللَّه عنه- هذا على قوة إيمانه ومحبته للَّه ولرسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ولما احتمل عنده أنَّه لا يأمن من الافتتان حسم المادة، وأحرق الكتاب. (¬3) قال الحافظ في الفتح (8/ 463): امرأته هي: عميرة بنت جُبير بن صخر الأنصارية، أم أولاده الثلاثة: عبد اللَّه، وعبيد اللَّه، ومعبد. (¬4) قال الحافظ في الفتح (8/ 463): هي خولة بنت عاصم.

لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَا يُدْرِيني مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟ . قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ كَلَامِنَا، فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الفجْرِ صُبْحَ (¬1) خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأنا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتنَا، فبَيْنَا أنا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ التِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أَوْفَى (¬2) عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ (¬3) بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ! أَبْشِرْ. قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ. قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا، حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قبُلَ صَاحِبَيَّ مبشِّرُونَ، وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجَل فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قبُلِي، فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الفرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يبشِّرُنِي، نَزَعْتُ له ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُ ¬

_ (¬1) في رواية الإمام مسلم في صحيحه: صباح. (¬2) أَوْفَى: أَشْرَفَ واطَّلَعَ. انظر النهاية (5/ 184). (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (17/ 79): سَلْع: بفتح السِّين وسكون اللام: جبل معروف بالمدينة.

إِيَّاهُمَا بِبُشْرَاهُ، وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئوني بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْكِ، قَالَ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَوْلهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُل مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"، فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الذِي بِخَيْبَرَ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحْدِّثَ إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ (¬1) اللَّهُ تَعَالَى فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا بَقِيتُ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 465): أَبْلَاهُ اللَّه: أي أَنْعَمَ عليه.

وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1). قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الذِينَ كَذَبُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (¬2). قَالَ كَعْبٌ -رضي اللَّه عنه-: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (117 - 119). (¬2) سورة التوبة آية (95 - 96).

خُلِّفُوا}، وَلَيْسَ الذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفنَا تَخَلُّفنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ له وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ (¬1). قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ النَّدَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَوْبَةً كَرِيمَةً، شَرَّفَ فِيهَا قَدْرَهُمْ، وَغَسَلَ عَنْهُمْ عَارَهُمْ، وَبَيَّضَ وُجُوهَهُمْ، وَبَدَأَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْآيَاتِ (¬2) بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَالْمُهَاجِرِبنَ وَالْأَنْصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، وَهَكَذَا أَلْحَقَهُمْ (¬3) بِأَصْحَابِهِمُ الذِينَ سَبَقُوهُمْ وَوَضَعَهُمْ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمُشَرِّفِ الْكَرِيمِ، وَمَا بَدَأَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذِي غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَلَا بِذِكْرِ الذِينَ سَاهَمُوا فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ إِلَّا لِإِعَادَةِ الثِّقةِ إِلَى نُفُوسِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَرَدِّ اعْتِبَارِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَلإِزَالَةِ ¬

_ (¬1) أخرج قصة توبة كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2769) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15789) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع - رقم الحديث (3370). (¬2) الآيات هي قوله تعالى في سورة التوبة (117 - 119): {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. (¬3) أي ألحق هؤلاء الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أميَّة، ومرارة بن الرَّبيع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

* فوائد قصة الثلاثة الذين تخلفوا

مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ النَّفْسِ الْيَوْمَ "بِمُرَكَّبِ النَّقْصِ"، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ مَصَالِحِ التَّوْبَةِ (¬1). * فَوَائِد قِصَّةِ الثَّلاثَةِ الذِينَ تَخَلَّفوا: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ الْغَزْوِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. 2 - التَّصْرِيحُ بِجِهَةِ الْغَزْوِ إِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْمَصْلَحَةُ سَتْرَهُ. 3 - أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا اسْتَنْفَرَ الْجَيْشَ عُمُومًا لَزِمَهُمُ النَّفِيرُ، وَلَحِقَ اللَّوْمُ بِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ أَنْ لَوْ تَخَلَّفَ. 4 - وَفيهَا أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَالِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ. 5 - وَفِيهَا اسْتِخْلَافُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْإِمَامِ عَلَى أَهْلِهِ وَالضَّعَفَةِ. 6 - وَفِيهَا تَرْكُ قتلِ الْمُنَافِقِينَ، وَأَجَابَ مَنْ أَجَازَهُ بِأَنَّ التَّرْكَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمَصْلَحَةِ التَّألِيفِ عَلَى الْإِسْلَامِ. 7 - وَفِيهَا عِظَمُ أَمْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَقَدْ نبَّهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِم عَنْهُ قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا أَكَلَ هَؤُلَاءَ الثَّلَاثَةُ مَالًا حَرَامًا، وَلَا سَفَكُوا دَمًا حَرَامًا، وَلَا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، أَصَابَهُمْ مَا ¬

_ (¬1) انظر كتاب تأملات في القرآن الكريم، ص 49، للشيخ أبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

سَمِعْتُمْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبتْ، فكَيْفَ بِمَنْ يُوَاقِعُ الْفَوَاحِشَ وَالْكَبَائِرَ؟ . 8 - وَفِيهَا أَنَّ الْقَوِيَّ فِي الدِّينِ يُؤَاخَذُ بِأَشَدِّ مِمَّا يُؤَاخَذُ الضَّعِيفُ فِي الدِّينِ. 9 - وَفيهَا جَوَازُ إِخْبَارِ الْمَرْءَ عَنْ تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ، وَعَنْ سَبَبِ ذَلِكَ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ تَحْذِيرًا وَنَصِيحَةً لِغَيْرِهِ. 10 - وَفيهَا جَوَازُ مَدْحِ الْمَرْءَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ إِذَا أَمِنَ الْفِتْنَةَ، وَتَسْلِيَةُ نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِمَا وَقَعَ لِنَظِيرِهِ. 11 - وَفيهَا فَضْلُ أَهْلِ بَدْرٍ وَالْعَقَبَةِ. 12 - وَفِيهَا الْحَلْفُ لِلتَّأْكِيدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ. 13 - وَفِيهَا التَّوْرِيَةُ عَنِ الْمَقْصِدِ. 14 - وَفِيهَا رَدُّ الغِيبَةِ. 15 - وَفيهَا أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا لَاحَتْ لَهُ فُرْصَةٌ فِي الطَّاعَةِ فَحَقُّهُ أَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهَا وَلَا يُسَوِّفُ بِهَا لِئَلَّا يُحْرَمَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬1)، وَمِثْلُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (24).

لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬1)، وَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُلْهِمَنَا الْمُبادَرَةَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ لَا يَسْلُبَنَا مَا خَوَّلَنَا مِنْ نِعْمَتِهِ. 16 - وَفيهَا جَوَازُ تَمِنِّي مَا فَاتَ مِنَ الْخَيْرِ. 17 - وَفِيهَا أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُهْمِلُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، بَلْ يُذَكِّرُهُ لِيُرَاجعَ التَّوْبَةَ. 18 - وَفِيهَا جَوَازُ الطَّعْنِ فِي الرَّجُلِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى اجْتِهَادِ الطَّاعِنِ عَنْ خَمِيَّةٍ للَّهِ وَرَسُولهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 19 - وَفِيهَا جَوَازُ الرَّدِّ عَلَى الطَّاعِنِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّادِّ وَهْمُ الطَّاعِنِ أَوْ غَلَطُهُ. 20 - وَفِيهَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِلْقَادِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وُضُوءٍ. 21 - وَفيهَا أَنْ يبدَأَ بِالْمَسْجِدِ قَبْلَ بَيْتِهِ فيصَلِّي، ثُمَّ يَجْلِسُ لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ. 22 - وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ السَّلَامِ عَلَى الْقَادِمِ وَتَلَقِّيهِ. 23 - وَفِيهَا الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ. 24 - وَفِيهَا قَبُولُ الْمَعَاذِيرِ، وَاسْتِحْبَابُ بُكَاءِ الْعَاصِي أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْخَيْرِ. ¬

_ (¬1) سورة الأنعام آية (110).

25 - وَفيهَا إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَوُكُولُ السَّرَائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. 26 - وَفِيهَا تَرْكُ السَّلَامِ عَلَى مَنْ أَذْنَبَ، وَجَوَازُ هَجْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْهَجْرِ فَوْقَ الثَّلَاثِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ هِجْرَانُهُ شَرْعِيًّا. 27 - وَفِيهَا أَنَّ التَّبَسُّمَ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَضَبٍ، كَمَا يَكُونُ عَنْ تَعَجُّبٍ وَلَا يَخْتَصُّ بِالسُّرُورِ. 28 - وَفِيهَا مُعَاتَبَةُ الْكَبِيرِ أَصْحَابَهُ وَمَنْ يَعُزُّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. 29 - وَفِيهَا فَائِدَةُ الصِّدْقِ وَشُؤْمُ عَاقبةِ الْكَذِبِ. 30 - وَفِيهَا تَبْرِيدُ حَرِّ الْمُصِيبَةِ بِالتَّأسِّي بِالنَّظِيرِ. 31 - وَفِيهَا عِظَمُ مِقْدَارِ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَعْلِيقُ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ شَرِّهِمَا بِهِ. 32 - وَفيهَا أَنَّ مَنْ عُوقِبَ بِالْهَجْرِ، يُعْذَرُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ مرَارَةَ بْنَ الرَّبِيعِ -رضي اللَّه عنه-، وَهِلَالَ بنَ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- لَمْ يَخْرُجَا مِنْ بُيُوتِهِمَا تِلْكَ الْمُدَّةِ. 33 - وَفيهَا سُقُوطُ رَدِّ السَّلَامِ عَلَى الْمَهْجُورِ عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَقُلْ كَعْبٌ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ؟ 34 - وَفِيهَا جَوَازُ دُخُولِ الْمَرْءَ دَارَ جَارِهِ وَصَدِيقِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَمِنْ غَيْرِ الْبَابِ إِذَا عَلِمَ رِضَا. 35 - وَفيهَا أَنَّ مُسَارَقَةَ النَّظَرِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَقْدَحُ فِي صِحَّتِهَا.

36 - وَفِيهَا إِيثَارُ طَاعَةِ الرَّسُولِ عَلَى مَوَدَّةِ القرِيبِ. 37 - وَفِيهَا خِدْمَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَالِاحْتِيَاطُ لِمُجَانَبَةِ مَا يُخْشَى الْوُقُوعُ فِيهِ. 38 - وَفِيهَا جَوَازُ تَحْرِيقِ مَا فِيهِ اسْمُ اللَّهِ لِلْمَصْلَحَةِ. 39 - وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ سُجُودِ الشُّكْرِ. 40 - وَفِيهَا الْاسْتِبَاقُ إِلَى الْبِشَارَةِ بِالْخَيْرِ، وَإِعْطَاءُ الْبَشِيرِ أَنْفَسَ مَا يَحْضُرُ الذِي يَأْتِيهِ بِالْبِشَارَةِ. 41 - وَفِيهَا تَهْنِئَةُ مَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهِ إِذَا أَقبَلَ. 42 - وَفِيهَا اجْتِمَاعُ النَّاسِ عِنْدَ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ. 43 - وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ مُصَافَحَةِ الْقَادِمِ وَالْقِيَامِ لَهُ. 44 - وَفِيهَا الْتِزَامُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْخَيْرِ الذِي يَنْتَفِعُ بِهِ. 45 - وَفِيهَا اسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ. 46 - وَفيهَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِكُلِّ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إِخْرَاجُ جَمِيعِهِ. 47 - وَفيهَا أَنَّ كَعْبًا -رضي اللَّه عنه- مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلينَ مِنَ الْأَنْصَارِ الذِينَ صَلُّوا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 466 - 467).

ما نزل من القرآن حول غزوة تبوك

مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ حَوْلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ نَزَلَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ حَوْلَ مَوْضُوعِ الْغَزْوَةِ، نَزَلَ بَعْضُهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَبَعْضُهَا بَعْدَ الْخُرُوجِ، وَهُوَ فِي السَّفَرِ، وَبَعْضُهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى ذِكْرِ ظُرُوفِ الْغَزْوَةِ، وَفَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَقَبولِ التَّوْبَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَفَضْحِ الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَتْ سُورَةُ التَّوْبَةِ مِنْ أَشَدِّ مَا نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ حَتَّى كَانَتْ تُسَمَّى: "الفاضِحَةَ"، وَتُسَمَّى: "الْمُبعْثِرَةَ" لِمَا كَشَفَتْ مِنْ سَرَائِرَ المُنَافِقِينَ. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُورَةُ التَّوْبَةِ؟ قَالَ: التَّوْبَةُ هِيَ الفَاضِحَةُ، مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ، حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة الحشر - رقم الحديث (4882) - ومسلم في صحيحه - كتاب التفسير - باب في سورة براءة والأنفال والحشر - رقم الحديث (3031).

الأحداث بين غزوة تبوك وحجة الوداع

الأَحْدَاثُ بَيْنَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَحَجَّةِ الوَدَاعِ عَدَدُ الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا وَنَظْرَة عَامَّةٌ عَلَيْهَا انْتَهَتِ الْغَزَوَاتُ النَّبَوِيَّةُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَالتِي بَلَغَ عَدَدُهَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِيهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ: بَدْرٍ، وَأُحُدٍ، وَالْخَنْدَقِ، وَقُرَيْظَةَ، وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَخَيبرَ، وَالفتْحِ، وَحُنَيْنٍ، وَالطَّائِفِ. وَبَلَغَتْ بُعُوثُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَسَرَايَاهُ ثَمَانِيةً وَثَلَاثِينَ بَيْنَ بَعْثٍ وَسَرِيَّةٍ، وَقِيلَ: سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ، أَوْ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ، وَلَا يَجدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُوني، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلفوا عَنِّي، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ" (¬1). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا بَعَثَ بَعْثًا بَعَثَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ (¬2)، وَيَقُولُ لَهُمْ: ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تمني الشهادة - رقم الحديث (2797) - وأخرجه في كتاب التمني - باب ما جاء في التمني ومن تمنى الشهادة - رقم الحديث (7226) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب فضل الجهاد والخروج في سبيل اللَّه - رقم الحديث (1876) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7157). (¬2) روى الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15438) - والترمذي في جامعه - رقم =

"تَأَلَّفُوا النَّاسَ، وَلَا تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَدْعُوهُمْ (¬1)، فَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَلَا مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ (¬2)، إِلَّا تَأْتُونِي بِهِمْ مُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْتْوني بِنِسَائِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ وَتَقْتُلُوا رِجَالَهُمْ" (¬3). وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ، لَا يُمْكِنُ لَنَا وَلَا لِأَحَدٍ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي أَوْضَاعِ الْحُرُوبِ وَأثارِهَا وَخَلْفِيَّاتِهَا. . . لَا يُمْكِنُ لَنَا إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ أَكْبَرَ قَائِدٍ عَسْكَرِيٍّ فِي الدُّنْيَا، وَأَسَدَّهُمْ (¬4) وَأَعْمَقَهُمْ فِرَاسَةً وَتَيَقُّظًا، إِنَّهُ صَاحِبُ عَبْقَرِيَّةٍ فَذَّةٍ فِي هَذَا الْوَصْفِ، كَمَا كَانَ سَيِّدَ الرُّسْلِ وَأَعْظَمَهُمْ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، فَلَمْ يَخُضْ مَعْرَكَةً مِنَ الْمَعَارِكِ إِلَّا فِي الظَّرْفِ، وَمِنَ الْجِهَةِ اللَّذَيْنِ يَقْتَضِيهِمَا الْحَزْمُ وَالشَّجَاعَةُ وَالتَّدْبِيرُ، وَلذَلِكَ لَمْ يَفْشَلْ فِي أَيِّ مَعْرَكَةٍ مِنَ الْمَعَارِكِ التِي خَاضَهَا لِغَلَطِهِ فِي الْحِكْمَةِ، وَمَا إِلَيْهَا مِنْ تَعْبِئَةِ الْجَيْشِ، وَتَعْيِينِهِ عَلَى الْمَرَاكِزِ الِاسْتِرَاتِيجِيَّةِ، وَاحْتِلَالِ أَفْضَلِ الْمَوَاضِعِ وَأَوْثَقِهَا لِلْمُجَابَهَةِ، وَاخْتِيَارِ أَفْضَلِ خُطَّةٍ لِإِدَارَةِ دَفَّةِ الْقِتَالِ، بَلْ أَثْبَتَ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنَّ له نَوْعًا آخَرَ مِنَ الْقِيَادَةِ غَيْرُ مَا عَرَفتهَا، وَتَعْرِف الدُّنْيَا فِي الْقُوَّادِ، وَلَمْ يَقَعْ مَا ¬

_ = الحديث (1255) عن صخر الغامدي -رضي اللَّه عنه- قال: كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا بعث سرية أو جيشًا، بعثهم أوَّل النهار. وقال الترمذي: حديث حسن. (¬1) روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح على شرط مسلم - رقم الحديث (2105) - عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: ما قاتل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قومًا قط إِلَّا دعاهم. (¬2) يريد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "أهل بيت مدر ووبر": أي أهل البوادي والمدن والقرى، وهو من وبئر الإبل، لأنَّ بيوتهم يتخذونها منه. انظر النهاية (5/ 127). (¬3) أورد هذا الحديث الصالحي في سيرته الشامية (6/ 7)، وعزاه إلى مُسَدَّد، والحارث بن أبي أسامة مرسلًا. (¬4) السَّدِيدُ: الصَّوَابُ من القول، والتَّسْدِيدُ: التَّوْفِيقُ. انظر لسان العرب (6/ 212).

وَقَعَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَغَزْوَةِ حُنَيْنٍ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الضَّعفِ فِي أَفْرَادِ الْجَيْشِ -كَمَا فِي حُنَيْنٍ- أَوْ مِنْ جِهةِ مَعصِيَتهم أَوَامِرَهُ، وَتَركِهِمُ التَّقَيُّدَ وَالِالْتِزَامَ بِالْحِكْمَةِ وَالْخُطَّةِ اللَّتَيْنِ كَانَ أَوْجَبَهُمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ الْوِجْهةُ الْعَسْكَرِيَّةُ -كَمَا فِي أُحُدٍ-. وَقَدْ تَجَلَّتْ عَبْقَرِّيتهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَاتَيْنِ الْغَزْوَتَيْنِ عِنْدَ هَزِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ ثَبَتَ مُجَابِهًا لِلْعَدُوِّ، وَاسْتَطَاعَ بِحِكْمَتِهِ الفذَّةِ أَنْ يُخَيّبَهُم فِي أَهْدَافِهِم -كَمَا فَعَلَ فِي أُحُدٍ- أَوْ يُغَيِّر مَجْرَى الْحَرْبِ حِتَّى ولبدِّلَ الْهزِيمَةَ انْتِصَارًا -كَمَا فِي حُنَيْنٍ- مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّطَوُّرِ الْخَطِيرِ، وَمِثْلَ هَذِهِ الْهزِيمَةِ السَّاحِقَةِ تَأْخُذَانِ بِمَشَاعِرِ الْقُوَّادِ، وَتَتْرُكَانِ عَلَى أَعصَابِهِم أَسْوَأَ الأَثَرِ، لَا يَبْقَى لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا همُّ النَّجَاةِ بِأَنْفُسِهِمْ. هَذِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْقِيَادَةِ الْعَسْكَرِيَّةِ الْخَالِصَةِ، أَمَّا مِنْ نَوَاحٍ أُخْرَى، فَإِنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَطَاعَ بهذِهِ الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا فَرضَ الْأَمنِ وَبَسْطَ السَّلَامِ، وإِطْفَاءَ نَارِ الْفِتْنَةِ، وَكَسْرَ شَوْكَةِ الْأَعدَاءِ فِي صِرَاعِ الْإِسْلَامِ وَالْوَثَنِيَّةِ، وَإِلْجَاءَهُم إِلَى الْمُصَالَحَةِ، وَتَخْلِيَةِ السَّبِيلِ لِنَشْرِ الدَّعوَةِ، وَقَدْ أُرِيقَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا أَقَلُّ دَمٍ عُرِفَ فِي تَارِيخِ الْحُرُوبِ وَالْغَزَوَاتِ، فَلَمْ يَتَجَاوَزِ الْقَتْلَى كُلُّها (1018) قَتِيلًا مِنَ الفَرِيقَيْنِ. كَمَا اسْتَطَاعَ رَسُولُ اللَّهِ هو أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ عَلَى الْمُخْلِصِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمِمَّنْ يُبْطِنُ النِّفَاقَ، وَيُضْمِرُ (¬1) نَوَازِعَ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، ¬

_ (¬1) أَضْمَرْتُ الشيءَ: أَخْفَيْتُهُ. انظر لسان العرب (8/ 85).

وَقَدْ أَنْشَأَ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الْقُوَّادِ، الذِينَ لَاقُوا بَعدَهُ الْفُرسَ وَالرُّومَانَ فِي مَيَادِينِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، فَفَاقُوهُمْ فِي تَخْطِيطِ الْحُرُوبِ وَإِدَارَةِ دَفَّةِ الْقِتَالِ، حَتَّى اسْتَطَاعُوا إِجْلَاءَهُم مِنْ أَرضِهم وَدِيَارِهم وَأَموَالِهِمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. وَاسْتَطَاعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِفَضْلِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ، أَنْ يُوَفِّرَ السُّكْنَى وَالْأَرضَ وَالْحِرَفَ وَالْمَشَاغِلَ لِلْمُسْلِمِينَ، حَتَّى قَضَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَشَاكِلِ اللَّاجِئِينَ الذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ وَلَا دَارٌ، وَهَيَّأَ السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ (¬1) وَالْعُدَّةَ وَالنَّفَقَاتِ، حَصَلَ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِمِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ وَالْبَغْي وَالْعُدوَانِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ. وَقَدْ غَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ بِهَا أَغْرَاضَ الْحُرُوبِ وَأَهْدَافَها التِي كَانَتْ تَضْطَرِمُ (¬2) نَارُ الْحَربِ لِأَجْلِها فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَيْنَمَا كَانَتِ الْحَربُ عِبَارَةً عَنِ النَّهْبِ، وَالسَّلْبِ، وَالْقَتْلِ، وَالْإِغَارَةِ، وَالظُّلْمِ، وَالْبَغْي، وَالْعُدوَانِ، وَأَخْذِ الثَّأْرِ، وَالفوْزِ بِالْوَتْرِ (¬3)، وَكَبْتِ (¬4) الضَّعِيفِ، وَتَخْرِيبِ الْعِمرَانِ، وَتَدمِيرِ الْبُنْيَانِ، وَهَتْكِ حُرُمَاتِ النِّسَاءَ، وَالقَسْوَةِ بِالضِّعَافِ وَالْوَلَائِدِ وَالصِّبْيَانِ، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَالْعَبَثِ ¬

_ (¬1) الكُرَاعُ: بضم الكاف: اسمٌ لجميعِ الْخَيْلِ. انظر النهاية (4/ 143). (¬2) اضْطَرَمَتْ: اشْتَعَلَتْ والْتَهبَتْ. انظر لسان العرب (8/ 56). (¬3) الْوَتْرُ: الْجِنَايَةُ التي يَجْنيها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبي. انظر لسان العرب (15/ 205). (¬4) الْكَبْتُ: كَسْرُ الرَّجُلِ وإِخْزَاؤُهُ. انظر لسان العرب (12/ 10).

وَالفسَادِ فِي الْأَرْضِ -فِي الْجَاهِلِيَّةِ- إِذْ صَارَتْ هَذِهِ الْحَربُ -فِي الْإِسْلَامِ- جِهَادًا فِي تَحْقِيقِ أَهْدَافٍ نَبِيلَةٍ، وَأَغْرَاضٍ سَامِيَةٍ وَغَايَاتٍ مَحمُودةٍ، يَعْتَزُّ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْإِنْسَانِيُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَقَدْ صَارَتِ الْحَربُ جِهادًا فِي تَخْلِيصِ الْإِنْسَانِ مِنْ نِظَامِ القَهْرِ وَالْعُدْوَانِ، إِلَى نِظَامِ الْعَدَالَةِ وَالنَّصَفِ، مِنْ نِظَامٍ يَأْكُلُ فِيهِ القَوِيُّ الضَّعِيفَ، إِلَى نِظَامٍ يَصِيرُ فِيهِ الْقوِيُّ ضَعِيفًا حَتَّى يُؤْخَذَ مِنْهُ، وَصَارَتْ جِهَادًا فِي تَخْلِيصِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (¬1)، وَصَارَتْ جِهَادًا فِي تَطْهِيرِ أَرضِ اللَّهِ مِنَ الْغدرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْإِثْمِ وَالْعُدوَانِ إِلَى بَسْطِ الْأَمنِ وَالسَّلَامَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحمَةِ، وَمُرَاعَاةِ الْحُقُوقِ وَالْمُرُوءَةِ. كَمَا شَرَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْحُرُوبِ قَوَاعِدَ شَرِيفَةً أَلْزَمَ التَّقَيُّدَ بِهَا عَلَى جُنُودِهِ وَقُوَّادِهِ، وَلَمْ يَسْمَح لَهُمْ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا بِحَالٍ. رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ بُرَيْدةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: "اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا (¬2)، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا (¬3)، وَلَا تَقْتُلُوا وَليدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (75). (¬2) الْغُلُولُ: هو الْخِيَانَةُ في الْمَغْنَمِ، والسرِقَةُ من الغنيمة قبل القسمة. انظر النهاية (3/ 341). (¬3) مُثّل بالْقَتِيلِ: إذا قَطَعَ أَنْفَهُ، أو أُذنهُ، أو مَذَاكِيرَهُ، أو شيئًا من أطرافه. انظر النهاية (4/ 251).

فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهاجِرِينَ، وَأَخْبِرهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَهُم مَا لِلْمُهاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهاجِرِينَ، فَإِنْ أبوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأعرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْتلْ مِنْهُمْ وَكفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُم أبوا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُم، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصحَابِكَ، فَإِنَّكُم أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمِ أَصْحَابِكُمْ، أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ، وَذِمَّةَ رَسُولهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهم عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهم عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهم عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تدرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَم لَا" (¬1). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُ بِالتَّيْسِيرِ وَيَقُولُ: "بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا" (¬2)، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِر عَلَيْهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ (¬3)، وَنَهى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث - رقم الحديث (1731) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22978). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير - رقم الحديث (1732) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19572). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الناس إلى الإسلام - رقم الحديث (2945) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4197) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب =

أَشَدَّ النَّهْي عَنِ التَّحرِيقِ فِي النَّارِ (¬1)، وَنَهَى عَنْ قتلِ النِّسَاءِ (¬2)، وَنَهَى عَنِ النَّهْبِ (¬3)، وَنَهَى عَنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ، إِلَّا إِذَا اشْتَدَّتْ إِلَيْها الْحَاجَةُ، وَلَا يَبْقَى سِوَاهُ سَبِيلٌ، وَقَالَ عِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا تُجْهِزُنَّ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَتَّبِعُوا مُدبِرًا" (¬4)، وَأَمضَى السُّنَّةَ بِأَنَّ السَّفِيرَ لَا يُقْتَلُ (¬5)، وَشَدَّدَ فِي النَّهْي عَنْ قَتْلِ الْمُعَاهدِينَ (¬6). . . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوَاعِدِ النَّبِيلَةِ التِي طَهَّرَتِ الْحُرُوبَ مِنْ أَدْرَانِ (¬7) الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى جَعَلَتْها جِهادًا مُقَدَّسًا (¬8). ¬

_ = الإمساك من الإغارة - رقم الحديث (382). (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب لا يعذب بعذاب اللَّه - رقم الحديث (3016) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1871) (8068). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب قتل الصبيان في الحرب - رقم الحديث (3014) - وباب قتل النساء في الحرب - رقم الحديث (3015) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب - رقم الحديث (1744) (24) (25) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4739). (¬3) النَّهب: الغارة والسَّلب. انظر النهاية (5/ 117)، وأخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب المظالم - باب النهبى بغير إذن صاحبه - رقم الحديث (2474) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18740). (¬4) انظر سيرة ابن هشام (4/ 57) - الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 317). (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3642) (15989) - وابن حبان - كتاب السير - باب الرسول - رقم الحديث (4879) - وأبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في الرسل - رقم الحديث (2761) - وإسناده صحيح. (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم - رقم الحديث (3166) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20377). (¬7) الدَّرَنُ: الْوَسَخُ. انظر النهاية (2/ 108). (¬8) انظر الرحيق المختوم، ص (441 - 442) - والسِّيرة النَّبوِيَّة لأبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ص (377 - 378).

تبشير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفتح الحيرة

تَبْشِيرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بفَتْحِ الْحِيرَةِ (¬1) فَلَمَّا انْتَهَى أَمرُ تَبُوكٍ، أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يبشِّرُ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ الْحِيرَةِ (¬2)، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرطِ مُسْلِمٍ وَالْبَيْهقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ خُرَيْمِ (¬3) بْنِ أَوْس -رضي اللَّه عنه- قَالَ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ فَأَسْلَمْتُ. . . ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذِهِ الْحِيرَةُ الْبيْضَاءُ قَدْ رُفِعَتْ إِلَيَّ، وَهَذِهِ الشَّيْمَاءُ بِنْتُ نُفَيْلةَ (¬4) الْأَزْدِيَّةُ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُعتَجِرَةً بِخِمَار أَسْوَدَ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنْ نَحْنُ دَخَلْنَا الْحِيرَةَ فَوَجَدْتُهَا كَمَا تَصِفُ فَهِيَ لِي؟ (¬5). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هِيَ لَكَ" قَالَ: ثُمَّ كَانَتِ الرِّدَّةُ. . . فَسَارَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى أَقبلْنَا عَلَى طَرِيقِ الطَّفِّ إِلَى الْحِيرَةِ، فَأَوَّلُ مَنْ يَلْقَانَا حِينَ دَخَلْنَاها الشَّيْمَاءُ بِنْتُ نُفَيْلَةَ (¬6)، كَمَا ¬

_ (¬1) الْحِيرَةُ: بكسر الحاء: بلد قديم بظهر الكوفة. انظر النهاية (1/ 448). (¬2) فتحت الحيرة في خلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- على يد خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه-، وذلك في السنة الثانية عشرة للهجرة. (¬3) خُرَيْم: بضم الخاء مصغرًا. (¬4) في رواية ابن حبان: بنت بُقَيْلة. (¬5) في رواية ابن حبان: قال خريم -رضي اللَّه عنه-: هب لي يا رَسُول اللَّهِ ابنة بُقيلة. (¬6) في رواية ابن حبان: بُقَيْلة.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ مُعْتَجِرَةً بِخِمَارٍ أَسْوَدَ، فتَعَلَّقْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: هَذِهِ وهَبَهَا لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَدَعَانِي خَالِدٌ عَلَيْهَا بِالْبَيِّنَةِ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، وَكَانَتِ الْبَيِّنَةُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَمُحَمَّدَ بْنَ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ، فَسَلَّمها إِلَيَّ، فَنَزَلَ إِلَيْنَا أَخُوهَا: عَبْدُ الْمَسِيحِ يُرِيدُ الصُّلْحَ، فَقَالَ لِي: بِعْنِيهَا، فَقُلْتُ: لَا أَنْقُصُها وَاللَّهِ عَنْ عَشَرَةِ مِائَةِ درهمٍ، فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِرهمٍ، وَسَلَّمْتُهَا إِلَيْهِ، فَقِيلَ لِي: لَوْ قُلْتَ مِائَةَ أَلْفٍ لَدَفَعَها إِلَيْكَ، فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ أحسَبُ أَنَّ عَدَدًا أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَ مِائَةٍ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب ذكر الإخبار عن فتح المسلمين الحيرة - رقم الحديث (6674) - والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 267 - 269).

تتابع الوفود

تَتَابُعُ الوُفُودِ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ، وَقَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ فِيهَا، سَارَعَتِ الْقَبَائِلُ إِلَى اعْتِنَاقِ الْإِسْلَامِ، وَالدُّخُولِ فِيهِ. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمرِو بْنِ سَلَمَةَ الْجَرْمِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرِّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ . فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّه أَرسَلَهُ، أُوحِيَ إِلَيْهِ، أَوْ أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الْكَلَامَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ (¬1) فِي صَدرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ (¬2) بِإِسْلَامِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ فَإِنَّهُ إِنْ ظَهرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِم، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُم وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَقًّا (¬3). وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 338) يُقرُّ بضم الياء وفتح القاف وتشديد الراء من القرار. (¬2) تَلَوّم: بفتح التاء واللام وتشديد الواو: أي ينتظر. انظر النهاية (4/ 238). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب (54) - رقم الحديث (4302).

وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ (¬1) وَبَايَعَتْ، ضَرَبَتْ إِلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، . . . وَإِنَّمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَرَبَّصُ (¬2) بِالْإِسْلَامِ أَمْرُ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُريْشٍ، وَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا إِمَامَ النَّاسِ وهَادِيَهُمْ، وَأَهْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إِسمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَادَةَ الْعَرَبِ، لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ هِيَ التِي نَصَبَتْ لِحَربِ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخِلَافِهِ، فَلَمَّا افْتُتِحَتْ مِكَّةُ وَدَانَتْ (¬3) قُرَيْشٌ، وَدَوَّخَهَا (¬4) الْإِسْلَامُ، عَرَفَتِ الْعَرَبُ أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَا عَدَاوَيهِ، فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَفْوَاجًا}، يَضْرِبُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} (¬5). وَلذَلِكَ بَلَغَتِ الْوُفُودُ أَوْجَها (¬6) فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعْدَ مَقْدِمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ، حَتَّى سُمِّيَتْ هَذِهِ السَّنَةُ سَنَةَ الْوُفُودِ لِكَثْرَةِ مَا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ ¬

_ (¬1) سيأتي بعد قليل خبر إسلامهم. (¬2) التربص: المكث والانتظار. انظر لسان العرب (5/ 108). (¬3) دَانَتْ: خَضَعَتْ وَذَلَّتْ. انظر لسان العرب (4/ 422). (¬4) دَوَّخَها: أي أَذَلَها وأَخْضَعها. انظر لسان العرب (4/ 437). (¬5) سورة النصر بكاملها - وانظر كلام ابن إسحاق في السيرة (4/ 214). (¬6) الأَوْجُ: ضِدَّ الْهبوطِ. انظر القاموس المحيط. أي بلغت الوفود أعلاها وقِمَّتَها في العام التاسع الهجري.

-صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْوُفُودِ (¬1)، وَتَتَابَعَتْ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ وَالْحَادِيَةِ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْوُفُودُ تَرِدُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَيَضْرِبُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْزِلًا لِرَوَاحِلِهم قُربَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ، فيقِيمُونَ فِيهِ أَيَّامًا، فَيَسْمَعُونَ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيَانَهُ وَمَوْعِظَتَهُ. وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ وِفَادَةَ عَامَّةِ الْقَبَائِلِ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لَكِنْ هُنَاكَ قبائِلُ وَفَدَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا مَرَّ مَعَنَا. وَالْوُفُودُ التِي ذَكَرَها أَهْلُ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ يَزِيدُ عَدَدُها عَلَى السَّبْعِينَ، وَنَحْنُ سَنَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْوُفُودِ. * * * ¬

_ (¬1) قال ابن هشام في السيرة (4/ 214): حدثني أبو عبيدة: أنها كانت تُسمّى -أي السنة التاسعة للهجرة- سنة الوفود.

1 - وفد ثقيف

1 - وَفْدُ ثَقِيفٍ كَانَ قُدُومُهُم فِي رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، بَعْدَ عَوْدَةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ تَبُوكَ (¬1)، وكَانَ من حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُمْ مِنْ غَزْوَةِ الطَّائِفِ اتَّبَعَ أَثَرَهُ سَيِّدُ ثَقِيفٍ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ (¬2) حَتَّى أَدرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ -رضي اللَّه عنه-، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ لِلْهِجْرَةِ، ثُمَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَرجعَ إِلَى قَوْمِهِ لِيَدْعُوَهُم إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ"، لِعِلْمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِامْتِنَاعِ ثَقِيفٍ، فَقَالَ عُرْوَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أنَّا أَحَبُّ إِلَيْهِم مِنْ أَبْكَارِهم (¬3)، أَوْ مِنْ أَبْصَارِهم، وَلَوْ وَجَدُوني نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 191). (¬2) عروة بن مسعود الثقفي -رضي اللَّه عنه- هو الذي عناه المشركون في قوله تَعَالَى في سورة الزخرف آية (31) {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. قال ابن عباس، وعكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، والسدي، وابن زيد: إنهم أرادو بذلك: الوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف. انظر تفسير ابن كثير (7/ 225). وكان عروة بن مسعود -رضي اللَّه عنه- من أشد الناس شبهًا بعيسى عليه السلام، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (167) عن جابر -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُرِضَ عليّ الأنبياء. . . ورأيت عيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا أقرب من رأيت به شبهًا عروة بن مسعود". (¬3) أَبْكَارُهم: أي أَحْدَاثُهُمْ، وَبِكْرُ الرَّجُلِ بكسر الباء: أَوَّلُ وَلَدِهِ. انظر النهاية (1/ 147).

فَخَرَجَ عُرْوَةُ -رضي اللَّه عنه- يَدعُو قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ يُطِيعُونَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدًا مُحَبَّبًا مُطَاعًا فِيهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عُلِّيَّةٍ (¬1) لَهُ، وَقَدْ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ رَمَوْهُ بِالنَّبْلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقتَلَهُ (¬2). وَأَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قتلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَربِ مَنْ حَوْلَهُم مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ يرسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا مِنْهُمْ، فَأَرسَلُوا عَبْدَ يَالِيلَ، وَمَعَهُ خَمسَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِم فِيهِمْ: عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ أَصغَرَهُم، فَخَرَجَ بِهِم عَبْدُ يَالِيلُ، وَهُوَ رَئِيسُ الْقَوْمِ، وَصَاحِبُ أمرهم، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ وَجَدُوا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعبَةَ -رضي اللَّه عنه- يرعَى رِكَابَ (¬3) أَصحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَتْ رَعْيَتُها نُوبًا (¬4) عَلَى أَصْحَابِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا رَآهُمُ الْمُغِيرَةَ -رضي اللَّه عنه- ترَكَ الرِّكَابَ، وَذَهَبَ يَشْتَدُّ لِيُبَشِّرَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقُدُومِهِم عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ قُدُومِ ثَقِيفٍ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ إِنْ شَرَطَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شُرُوطًا، وَيَكْتُبُوا لَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِتَابًا، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَقْسَمتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَا تَسْبِقْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، ¬

_ (¬1) عُلِّيَّة: بضم العين: الْغُرْفَةُ. انظر النهاية (3/ 267). (¬2) أخرج ذلك الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر عروة بن مسعود -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6638) - وإسناده ضعيف - وأخرجه ابن إسحاق في السيرة (4/ 191) بدون سند. (¬3) الرِّكَابُ: هي الرَّوَاحِلُ مِنَ الْإِبِلِ. انظر النهاية (2/ 233). (¬4) نَاوَبَهُ في الشيءَ والأَمرِ: أي سَاهمَهُ فِيهِ وتَدَاوَلَهُ مَعَهُ. انظر المعجم الوسيط (2/ 961).

فَفَعَلَ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِ وَفْدِ ثَقِيفٍ عَلَيْهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَقْدِمِهِمْ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعبَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَعَلَّمَهم كَيْفَ يُحَيُّونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيَّوْهُ بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِنْزَالِهِم فِي الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ، فَضَرَبَ لَهُمْ قُبَّةً فِي نَاحِيَتهِ حَيْثُ يَسْمَعُونَ الْقرآنَ. وَمَكَثُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهُوَ يَدْعُوهُم إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى سَأَلَ رَئِيْسُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَن يَكْتُبَ لَهُمْ كِتَابا: يَأْذَنُ لَهُمْ فِيهِ بِالزِّنَى، وَالرِّبَا، وَشُرْبِ الْخَمرِ، وَأَنْ يُعفِيَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ (¬1). رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْزَلَهُمُ الْمَسْجِدَ، لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهم، فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحْشَرُوا (¬2)، وَلَا يُعْشَرُوا (¬3)، وَلَا يُجَبُّوا (¬4)، وَلَا يُسْتَعمَلُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 192 - 193) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 151). (¬2) لا يُحْشَرُوا: بضم الياء أي لا يُنْدَبُونَ إلى المغازي، ولا تُضْرَبُ عليهم البعوث. انظر النهاية (1/ 374). (¬3) لا يُعْشَرُوا: أي لا يُؤخَذُ عُشْرُ أموالهم، وقيل: أرادوا به الصدقة الواجبة، وإنما فسح لهم رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تركها، لأنها لم تكن واجبة يومئذ عليهم، إنما تجب بتمام الحول. انظر النهاية (3/ 216). (¬4) أصل التَّجْبِيَةِ: أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على ركبتيه وهو=

"إِنَّ لَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا، وَلَا تُعْشَرُوا، وَلَا يُسْتَعمَلُ عَلَيْكُمْ غَيْرُكُمْ، وَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا رُكُوعَ (¬1) فِيهِ" (¬2). وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنبَّهٍ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا -رضي اللَّه عنه- عَنْ شَأْنِ ثَقِيفٍ إِذْ بَايَعَتْ؟ قَالَ: اشْتَرَطَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ لَا صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلَا جِهَادَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: "سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا" (¬3). ثُمَّ إِنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالُوا: نَعَمْ، لَكَ مَا سَأَلْتَ، وَأَسْلَمُوا، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَتَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَدْمَ اللَّاتِ، وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُم بِأَيْدِيهِمْ، فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمْ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا صَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ بِلَالٌ ¬

_ = قائم، وقيل: هو السجود، والمراد بقولهم: لا يُجَبّوا أنهم لا يصلون، ولفظ الحديث يدل على الركوع؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في جوابهم: "ولا خير في دين لا ركوع فيه"، فسمى الصلاة ركوعًا، لأنه بعضها، وسُئِل جابر -رضي اللَّه عنه- عن اشتراط ثقيف أن لا صدقة عليها ولا جهاد، فقال -رضي اللَّه عنه-: عَلِمَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنهم سَيَصَّدقون ويجاهدون إذا أسلموا، ولم يُرخص لهم في ترك الصلاة، لأن وقتها حاضر متكرر، بخلاف وقت الزكاة والجهاد. انظر النهاية (1/ 231). (¬1) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 194): صلاة. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17913) - وأبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب ما جاء في خبر الطائف - رقم الحديث (3026) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6175). (¬3) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب ما جاء في خبر الطائف - رقم الحديث (3025) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6176).

* تأمير عثمان بن أبي العاص -رضي الله عنه- على ثقيف

-رضي اللَّه عنه-، يَأْتِيهِمْ بِفُطُورِهِمْ وَسُحُورِهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * تَأْمِيرُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- عَلَى ثَقِيفٍ: وَلَمَّا أَرَادَ وَفْدُ ثَقِيفٍ الِانْصِرَافَ إِلَى بِلَادِهِم سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يَؤُمّهُم لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ أصغَرَهم- لِمَا رَأَى مِنْ حِرصِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرآنِ، وَتَعَلُّمِ الدِّينِ، فَكَانَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْهاجِرَةِ (¬2) فَيَسْأَله عَنِ الدِّينِ، فَأَسْلَمَ قبلَهم سِرًّا، وَكتَمَهُمْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَقْرئُهُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ سُوَرًا مِنْ فِيِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ إِذَا وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَائِمًا عَمَدَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، فَيَسْأَله عَنْ أَمرِ الدِّينِ، وَيَسْتَقْرئُهُ الْقُرْآنَ، وَيَذْهبُ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَيَسْتَقْرئُهُ الْقُرْآنَ، حَتَّى فَقِهَ فِي الدِّينِ وَعَلِمَ، فَأُعْجِبَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَحَبَّهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ هَذَا الْغُلَامَ -يَقْصِدُ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَعَلُّمِ الْقُرآنِ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرطِ مُسْلِمٍ عَنْ عُثْمَانَ ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 194). (¬2) الْهَاجِرَةُ: وقتُ الظهرِ عند اشتداد الحَرِّ نصف النهار. انظر النهاية (5/ 214).

بْنِ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي (¬1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أذَانِهِ أَجْرًا" (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "أُمَّ قَوْمَكَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي شَيْئًا (¬3)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْنُهُ"، فَجَلَّسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ فِي صَدْرِي بَيْنَ ثَدَيَيَّ، ثُمَّ قَالَ: "تَحَوَّلْ"، فَوَضَعَها فِي ظَهْرِي بَيْنَ كَتِفَيَّ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمَّ قَوْمَكَ، فَمَنْ أَمَّ قَوْمًا فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ، وَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَإِنَّ فِيهِمْ ذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صلى أَحَدُكُمْ وَحْدَهُ، فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ" (¬4). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ قَوِي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) في رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار بسند حسن - رقم الحديث (4210) قال عثمان -رضي اللَّه عنه-: أمرني رَسُول اللَّهِ أن أؤم الناس. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16270) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4210). (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (4/ 155): يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له بتقدمه على الناس، ويحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوسًا، ولا يصلح للإمامة الموسوس. (¬4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام - رقم الحديث (468) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16275).

* شكوى عثمان -رضي الله عنه-

قَالَ: إِنَّ آخِرَ كَلَامٍ كَلَّمَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِذِ اسْتَعمَلَنِي عَلَى الطَّائِفِ، فَقَالَ: "خَفِّفِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّاسِ" حَتَّى وَقَّتَ لِي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (¬1)، وَأَشْبَاهها مِنَ الْقُرآنِ (¬2). قَالَ الدُّكْتُورُ مُحَمَّدُ أَبُو شَهْبَةَ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى: وَكَانَتْ تِلْكَ حِكْمَةً بَالِغَةً مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّ قَوْمًا رَغِبُوا (¬3) أَنْ يتَحَلَّلُوا مِنَ الصَّلَاةِ يَنْبَغِي أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمْ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى لَا يَسْأَمُوا (¬4)، وَلَعَلَّ فِي هَذَا بَلَاغًا لِلَّذِينَ يُنَفِّرُونَ النَّاسَ أَوْ بَعضَهُم بِإِطَالَةِ الصَّلَاةِ (¬5). * شَكْوَى عُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه-: جَاءَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- يَوْمًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَعْدَ أَنِ اسْتعمَلَهُ، يَشْكُو إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي، يُلَبِّسُها عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ شَيْطَان يُقَالُ لَهُ خِنْزَبُ (¬6)، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا". ¬

_ (¬1) سورة العلق آية (1). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17916). (¬3) رَغِبَ: إذا حَرِصَ على الشيء، وطمع فيه. انظر لسان العرب (5/ 254). (¬4) السّاَمَةُ: المَللُ والضجرُ. انظر النهاية (2/ 296). (¬5) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (2/ 530). (¬6) قال الإمام النووي في شرح مسلم (14/ 159): خِنْزَبُ: بكسر الخاء وسكون النون.

قَالَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهبَهُ اللَّهُ عَنِّي (¬1). وَرَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا اسْتعمَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الطَّائِفِ، جَعَلَ يعرِضُ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي، حَتَّى مَا أَدرِي مَا أُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "ابْنَ أَبِي الْعَاصِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "مَا جَاءَ بِكَ؟ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَرَضَ لِي شَيْءٌ فِي صَلَاتِي حَتَّى مَا أَدْرِي مَا أُصَلَي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَاكَ الشَّيْطَانُ، ادْنُهْ". قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمِي. قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرِي بِيَدِهِ، وَتَفَلَ فِي فَمِي، وَقَالَ: "اخْرُجْ عَدُوَّ اللَّهِ"، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: "الْحَقْ بِعَمَلِكَ". قَالَ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَعَمْرِي مَا أَحسَبُهُ خَالَطَنِي بَعدُ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة - رقم الحديث (2203) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (370). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الطب - باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه - رقم الحديث (3548).

* شكوى ثانية لعثمان -رضي الله عنه-

* شَكْوَى ثَانِيَةٌ لِعُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه-: شَكَا عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضَع يَدَكَ عَلَى الذِي تَأَلَّمُ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ: سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ" (¬1). * رَجُلٌ عُصِمَ مِنَ الْقَتْلِ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدَيْهِمَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فكنَّا فِي قبةٍ، فَقَامَ مَنْ كَانَ فِيهَا غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَجَاءَ رَجُل فَسَارَّهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذهبْ فَاقْتُلْهُ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَليْسَ يَشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ ". قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّهُ يَقُولُها تَعَوُّذًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رُدَّهُ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا حَرُمَتْ عَلَيَّ دِمَاؤُهُم وَأَموَالُهم إِلَّا بِحَقِّها" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب استحباب وضع يده على موضع الألم، مع الدعاء - رقم الحديث (2202) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16268). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16160) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1206).

* إسلام ثقيف

* إِسْلَامُ ثَقِيفٍ: ثُمَّ انْصَرَفَ الْوَفْدُ إِلَى بِلَادِهِم، بَعْدَ أَنْ أَقَامُوا نِصْفَ شَهْرٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ أَكْرَمَهُمْ وَحبَاهُمْ، فَلَمَّا أَتَوُا الطَّائِفَ وَجَاءَتْهُمْ ثَقِيفٌ كتَمُوهُمُ الْحَقِيقَةَ، وَأَظْهرُوا الْحُزْنَ وَالْكَآبَةَ، وَخَوَّفُوهُم بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ، وَقَالُوا لَهُمْ: أتَيْنَا رَجُلًا فَظًّا غَلِيظًا قَدْ ظَهرَ بِالسَّيْفِ وَدَانَ (¬1) لَهُ النَّاسُ، فَعَرَضَ عَلَيْنَا أُمُورًا شِدَادًا أَبَيْنَاهَا عَلَيْهِ، سَأَلنَا أَنْ نَهْدِمَ اللَّاتَ، وَنُبْطِلَ أَموَالَنَا فِي الرِّبَا، وَنُحَرِّمَ الْخَمْرَ وَالزِّنَى، فَأَخَذَتْ ثَقِيفٌ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ هَذَا أَبَدًا، فَقَالُوا لَهُمْ: أَصْلِحُوا السِّلَاحَ وَتَهيَّؤوا لِلْقِتَالِ. فَمَكَثَتْ ثَقِيفٌ كَذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ أَلْقَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَقَالُوا لِلْوَفْدِ: وَاللَّهِ مَا لَنَا بِهِ مِنْ طَاقَةٍ، وَقَدْ أَدَاخَ الْعَرَبَ كُلَّها، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَأَعْطُوهُ مَا سَأَلَ وَصَالِحُوهُ عَلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبْدَى الْوَفْدُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَقَالُوا لَهُمْ: قَدْ قَاضَيْنَاهُ وَأَسْلَمْنَا، وَوَجَدنَاهُ أَتْقَى النَّاسِ وَأَوْفَاهُم، وَأَرحَمَهُم، وَأَصْدَقَهُمْ، وَقَدْ بُورِكَ لَنَا وَلَكُمْ فِي مَسِيرِنَا إِلَيْهِ، وفيمَا قَاضَيْنَاهُ عَلَيْهِ. فَقَالَتْ ثَقِيفٌ: لِمَ كتَمْتُمُونَا هَذَا الْحَدِيثَ، وَغَمَمْتُمُونَا أَشَدَّ الْغَمِّ؟ . فَقَالُوا: أَرَدْنَا أَنْ يَنْزِعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِكُمْ نَخْوَةَ الشَّيْطَانِ، فَأَسْلَمُوا (¬2). ¬

_ (¬1) دَانَ: ذَلَّ. انظر لسان العرب (4/ 450). (¬2) انظر تفاصيل قدوم وفد ثقيف للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في: سيرة ابن هشام (4/ 191) - الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 151) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 302 - 303) - البداية والنهاية (5/ 32).

* استجابة دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم-

* اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَهكَذَا اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِإِسْلَامِ ثَقِيفٍ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِر -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا" (¬1). * هَدْمُ اللَّاتِ: مَكَثَتْ ثَقِيفٌ أَيَّامًا، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَدْ أَمَّرَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-؛ لِهدمِ الطَّاغِيَةِ اللَّاتِ -وَكَانَتْ فِي بَيْتٍ-، فَلَمَّا عَمَدُوا إِلَى اللَّاتِ لِيَهْدِمُوهَا، وَاسْتَكَفَّتْ (¬2) ثَقِيفٌ كُلُّها، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِم، وَلَا يَرَوْنُ أَنَّهَا سَتُهْدَمُ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهَا سَتَمنَعُهُمْ، فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ مَعَ خَالِدٍ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخَذَ الفأْسَ، وَقَالَ لِأصحَابِهِ: وَاللَّهِ لَأُضْحِكَنَّكُمْ مِنْ ثَقِيفٍ، فَضَرَبَ بِالفأْسِ، ثُمَّ سَقَطَ يَرْكُضُ، فَارْتَجَّ أَهْلُ الطَّائِفِ بِصَيْحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَالُوا: أَبْعَدَ اللَّهُ الْمُغِيرَةَ قَدْ قَتَلَتْهُ الرَّبَّةُ (¬3)، وَفَرِحُوا حِينَ رَأَوْهُ سَاقِطًا، وَقَالُوا: مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيَقْتَرِبْ وَلْيَجْتَهِد عَلَى هَدْمِهَا، فَوَاللَّهِ لَا تُسْتَطَاعُ أَبَدًا، فَوَثَبَ الْمُغِيرَةُ -رضي اللَّه عنه- وَقَالَ: قَبَّحَكُمُ اللَّهُ يَا مَعْشَرَ ثَقِيفٍ إِنَّمَا هِيَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14702) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب في ثقيف وبني حنيفة - رقم الحديث (4285). (¬2) اسْتَكَفَّ القومُ حول الشيء: أَحاطُوا به ينظرون إليه. انظر لسان العرب (12/ 125). (¬3) الرَّبَّةُ: هي اللاتُ. انظر النهاية (2/ 166).

لُكَاعُ (¬1) حِجَارَةٍ وَمَدَرٍ (¬2)، فَاقْبَلُوا عَافِيَةَ اللَّهِ وَاعْبُدُوهُ، ثُمَّ ضَرَبَ الْبَابَ فَكَسَرَهُ، ثُمَّ عَلَا سُورَهَا وَعَلَا الرِّجَالُ مَعَهُ، فَمَا زَالُوا يَهْدِمُونَها حَجَرًا حَجَرًا حَتَّى سَوَّوْها بِالْأَرْضِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ يَقُولُ: لَيُغْضَيَنَّ (¬3) الْأَسَاسُ فَلَيُخْسَفَنَّ بِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُغِيرَةُ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ لِخَالِدٍ: دَعنِي أَخفِرُ أَسَاسَهَا، فَحَفَرَهُ حَتَّى أَخْرَجُوا تُرَابَها، وَانْتَزَعُوا حُلِيَّها، وَأَخَذُوا ثِيَابَهَا، فَبُهِتَتْ ثَقِيفٌ، وَرَجَعَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدِمُوا عَلَيْهِ بِحُلِيِّهَا وَكِسْوَتِها، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ يَوْمِهِ، وَحَمَدُوا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى نُصْرَةِ نَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَإِعْزَازِ دِينِهِ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) اللُّكَعُ: كلمة تُستعمل في الحُمْقِ والذَّمِ. انظر النهاية (4/ 230). (¬2) المَدَرُ: هو الطينُ المتماسك. انظر النهاية (4/ 264). (¬3) غاضَ: أي ذهب في الأرض. انظر لسان العرب (10/ 157). (¬4) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 303) - البداية والنهاية (5/ 37).

2 - وفد الداويين

2 - وَفْدُ الدَّاوِيِّينَ قَدِمَ وَفْدُ الدَّارِيِّينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ، وَكَانُوا عَشَرَةَ نَفَرٍ، فِيهِمْ: تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ، وَأَخُوهُ نُعَيْمٌ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ النَّصرَانِيَّةِ، فَأَسْلَمُوا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ. * رِوَايَةُ حَدِيثِ الْجسَّاسَةِ (¬1) وَالدَّجَالِ (¬2): وَمِنْ فَضَائِلِ تَمِيمٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ ذَكَرَ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قِصَّةَ الْجَسَّاسَةِ وَالدَّجَّالِ، وَحَدَّثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: . . . سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي، مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ التِي تَلِي ظُهُورَ القوْمِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاتَهُ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "لِيَلْزَم كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ"، ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعتُكُم؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ. ¬

_ (¬1) الْجَسَّاسَةُ: هي دَابَّةٌ، سميت بذلك، لأنها تَجُسُّ الأخبار للدجال. انظر النهاية (1/ 263). (¬2) الدجال: هو الكذاب. انظر النهاية (2/ 96). ويسمى المسيح لأن عينه الواحدة ممسوحة، وقيل لأنه يمسح الأرض: أي يقطعُها. انظر النهاية (4/ 279).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي، وَاللَّهِ مَا جَمَعتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ؛ لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ، كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الذِي كنْتُ أُحَدِّثُكُم عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي: أنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤُوا (¬1) إِلَى جَزِيرة فِي الْبحرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ (¬2) السَّفِينَةِ، فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيتُهُمْ دَابَّة أَهْلَبُ (¬3) كَثِيرُ الشَّعْرِ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الشَّعْرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ! مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّها الْقَوْمُ! انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ (¬4)، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا (¬5) مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا، حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، ¬

_ (¬1) أرفَأْتَ السفينة: إذا قَرَّبتْها من الشاطئ، والموضع الذي تشد فيه: الْمَرْفَأُ. انظر النهاية (2/ 219). (¬2) أَقْرُبِ السفينة: بضم الراء هي سُفُن صغار تكون مع السفن الكبار البحرية كالجنائب لها، واحدها قارب، وجمعها: قوارب. انظر النهاية (4/ 31). (¬3) أَهْلَب: بفتح الهمزة وسكون الهاء وفتح اللام: غليظ الشعر كثيره. انظر النهاية (5/ 232) - صحيح مسلم بشرح النووي (18/ 65). (¬4) الدَيْر: بفتح الدال وسكون الياء، هو خان النصارى. انظر لسان العرب (4/ 457). الْخَان: هو بمثابة مكان يجتمع فيه النصارى لأداء عبادتهم. (¬5) الْفَرَقُ: بالتحريك: الخوف والفزع: انظر النهاية (3/ 392).

وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ، بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ! مَا أَنْتَ؟ . قَالَ: قَدْ قَدِرْتُمْ عَلَى خَبَرِي، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ . قَالُوا: نَحْنُ أُناسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحرِيةٍ، فَصَادَفَنَا الْبَحْرُ حَتَّى اغْتَلَمَ (¬1)، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأَنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كثِيرُ الشَّعْرِ، لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دبرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعْرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ! مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: اعمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا، وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً. فَقَالَ: أَخْبِرُوني عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ (¬2)، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِها تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْالكُم عَنْ نَخْلِها، هَلْ يُثْمِر؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُوني عَنْ بُحَيْرَةِ ¬

_ (¬1) اغْتَلَمَ: أي هاجَ، واضطربت أمواجه. انظر النهاية (3/ 342). (¬2) بَيْسَان: بفتح الباء وسكون الياء وفتح السين، مدينة بالأردن. انظر معجم البلدان (2/ 414).

الطبرِيَّةِ (¬1)، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قُلْنَا: هِيَ كثِيرَةُ الْمَاءِ. قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَها يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُوني عَنْ عَيْنِ زُغَرَ (¬2)، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهلْ يَزْرَعُ أَهْلُها بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا. قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قُلْنَا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ. قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أنَّهُ قَدْ ظَهرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ. فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ ¬

_ (¬1) بُحيرة الطبرية: هي بحيرة في الأردن بينها وبين دمشق ثلاثة أيام، وكذلك بينها وبين بيت المقدس. انظر معجم البلدان (6/ 248). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (18/ 66): عين زُغَر: بضم الزاي وفتح الغين، هي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام.

قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُم عَنِّي، إِنِّي أنَّا الْمَسِيحُ (¬1)، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوج، فَأَخْرُجُ فَأَسِيرُ فِي الْأَرْضِ فَلَا أَدَعُ قريَةً إِلَّا هبَطْتُها فِي أَربَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ، كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَردتُ أَنْ أَدخُلَ وَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا (¬2)، يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ (¬3) مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ (¬4) فِي الْمِنْبَرِ: "هَذِهِ طَيْبَةٌ، هَذِهِ طَيْبَةٌ، هَذِهِ طَيْبَةٌ" يَعنِي الْمَدِينَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ طَيْبَةً الْمَدِينَةُ، إِنَّ اللَّه حَرَّمَ حَرَمِي عَلَى الدَّجَّالِ أَنْ يَدخُلها"، ثُمَّ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا لَهَا طَرِيقٌ ضَيِّقٌ، وَلَا وَاسعٌ، فِي سَهْلٍ، وَلَا فِي جَبَلٍ، إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ شَاهِرٌ بِالسَّيْفِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا يَسْتَطِيعُ الدَّجَّالُ أَنْ يَدْخُلَها عَلَى أَهْلِهَا". ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد: أنا الدجال. (¬2) صَلْتا: بفتح الصاد أي مسلولًا. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (18/ 66) - النهاية (3/ 42). (¬3) النَّقْبُ: الطريق بين الجبلين. انظر النهاية (5/ 89). (¬4) الْمِخْصَرَة: بكسر الميم، هو ما يختصره الإنسان بيده فيمسكه من عصا، أو عكازة، أو قضيب، وقد يتكئ عليها. انظر النهاية (2/ 35).

* تبشير المسلمين بانتشار الإسلام

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟ ". فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّهُ أعجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قبلٍ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ؟ مِنْ قبل الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ؟ مِنْ قِبلِ الْمَشْرِقِ، مَا هُوَ؟ "، وَأَوْمَأَ بِيَدهِ إِلَى الْمَشْرِقِ (¬1). * تَبْشِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِانْتِشَارِ الإِسْلَامِ: وَرَوَى كَذَلِكَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ -رضي اللَّه عنه- حَدِيثًا عَنِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ تَبْشِيرٌ كَبِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَنْصُرُ دِينَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ (¬2) مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ". وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ -رضي اللَّه عنه- يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ، وَالشَّرَفُ، وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب قصة الجساسة - رقم الحديث (2942) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27101) (27102). (¬2) المقصود بالأمر: أي الإسلام.

* شيء من فضائل تميم الداري -رضي الله عنه-

كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ (¬1). * شَيْءٌ مِنْ فَضَائِلِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رضي اللَّه عنه-: قَالَ الْإِمَامُ الذَّهبِيُّ فِي السِّيَرِ: تَمِيمٌ الدَّارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ، أَبُو رُقَيَّةَ، اللَّخْمِيُّ، الْفِلَسْطِينيُّ، وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَنَةَ تِسْعٍ، فَأَسْلَمَ، وَكَانَ عَابِدًا، تَلَّاءً لِكِتَابِ اللَّهِ (¬2). رَوَى ابْنُ سعد فِي طَبَقَاتِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي الْمُهلَّبِ، قَالَ: كَانَ تَمِيمٌ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ (¬3). وَرَوَى الْبَغَوِيُّ فِي الْجَعدِيَّاتِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مَسْرُوق قَالَ: قَالَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: هَذَا مَقَامُ أَخِيكَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، صَلَّى لَيْلَةً حَتَّى أَصبَحَ أَوْ يَقْرَأُ آيَةً يُرَدِّدُهَا، وَيَبْكِي، وَهِيَ قَوْلُه تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬4). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16957) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (6155). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (2/ 442). (¬3) أخرجه ابن سعد في طبقاته (8/ 588) - وانظر سير أعلام النبلاء (2/ 24). (¬4) سورة الجاثية آية (20) - والخبر أورده الحافظ في الإصابة (1/ 488)، ونسبه إلى البغوي في الجعديات، وصحح إسناده - وانظر سير أعلام النبلاء (2/ 445).

3 - وفد بني عامر بن صعصعة

3 - وَفْدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفْدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعصَعَةَ، فِيهِمْ: عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ (¬1)، وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَا رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ وَمِنْ شَيَاطِينِهِمْ، وَلَا يُرِيدانِ الْإِسْلَامَ، لَكِنْ بِسَبَبِ ضَغْطِ قَوْمِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ أَسْلَمُوا، فَوَافَقَا عَلَى الذَّهابِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِمُلَاقَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلأَنَّهُمَا لَا يُرِيدانِ الْإِسْلَامَ اتَّفَقَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى اغْتِيَالِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لِأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ: إِذَا قَدِمْنَا عَلَى الرَّجُلِ فَإِنِّي سَأَشْغَلُ عَنْكَ وَجههُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَاقْتُلْهُ بِالسَّيْفِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا مُحَمَّدٌ خَالِّنِي (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُؤْمنَ بِاللَّهِ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ خَالِّنِي، وَجَعَلَ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَيَنْتَظِرُ مِنْ أَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ، وَهُوَ ضَرْبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالسَّيْفِ لِيَقْتُلَهُ، فَجَعَلَ أَرْبَدُ لَا يَفْعَلُ، فَلَمَّا رَأَى عَامِرٌ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدٌ مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أَسْلَمتُ؟ ¬

_ (¬1) هذا الرجل هو الذي غدر بأصحاب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في بئر معونة قبحه اللَّه، وقد فصلنا أحداث هذه الحادثة فيما مضى فراجعه. (¬2) خَالِّنِي: بكسر اللام المشددة: أي اتخذني خليلًا، أي صديقًا. انظر النهاية (2/ 68).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَكَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ". فَقَالَ: أَتجْعَلُ لِيَ الْأَمرَ مِنْ بَعدِكَ إِنْ أَسْلَمتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ، وَلَا لِقَوْمِكَ". فَقَالَ عَامِرٌ: أَتَجْعَلُ لِيَ الْوَبَرَ (¬1)، وَلَكَ الْمَدَرَ (¬2)؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا". فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَملَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا وَرِجَالًا، فَلَمَّا وَلَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَاهْدِ بَنِي عَامِرٍ، وَأَغْنِ الْإِسْلَامَ عَنْ عَامِرٍ" (¬3). وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ عَامِرًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: أُخَيِّرُكَ بَيْنَ خِصَالٍ ثَلَاثٍ: يَكُونُ لَكَ السَّهْلُ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ (¬4). ¬

_ (¬1) الْوَبَرُ: أهل البوادي. انظر النهاية (5/ 127). (¬2) الْمَدَرُ: أهل القرى والمدن. انظر النهاية (4/ 264). (¬3) انظر سيرة ابن هشام (4/ 222) - الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 150) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 318 - 319). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4091). وفي رواية البيهقي في دلائل النبوة (5/ 320) قال: أو أغزوك بغطفان بألف أشقر، وألف شقراء. قوله: بألف أشقر، وألف شقراء: هي الخيل الأشقر، وهي أجود أنواع الخيول عند العرب. انظر لسان العرب (7/ 161).

* هلاك عامر بن الطفيل وأربد بن قيس قبحهما الله

فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ عَامِر لِأَرْبَدَ: وَيْلَكَ يَا أَرْبَدُ أَيْنَ مَا كُنْتُ أَمَرتُكَ بِهِ؟ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلٌ هُوَ أَخْوَفَ عِنْدِي عَلَى نَفْسِي مِنْكَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَخَافُكَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا، فَقَالَ أَرْبَدُ: لَا تَعجَلْ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ بِالذِي أَمَرتَنِي بِهِ مِنْ أَمرِهِ إِلَّا دَخَلْتَ بَيْني وَبَيْنَ الرَّجُلِ، حَتَّى مَا أَرَى غَيْرَكَ، أَفَأَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ؟ فَتَعَجَّبَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مِنْ ذَلِكَ. * هَلَاكُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ قبَّحَهُمَا اللَّهُ: ثُمَّ رَجَعَ وَفْدُ بَنِي عَامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ إِلَى بِلَادِهم، حَتَّى إِذَا كَانَا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ اللَّه عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ الطَّاعُونَ فِي عُنقِهِ، فَأَوَى إِلَى بَيْتِ امرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، وَكَانُوا مَوْصُوفِينَ بِاللُّؤْمِ، فَصَارَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَجِيءِ الْمَوْتِ له فِي بَيْتِهَا، وَيَقُولُ: يَا بَنِي عَامِرٍ أَغُدَّةً كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَوْتًا فِي بَيْتِ امرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ؟ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ فِي بَيْتها لَعَنَهُ اللَّهُ. وَأَمَّا أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ فَإِنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ سَأَلُوهُ: مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ، وَاللَّهِ لقد دَعَانَا مُحَمَّد إِلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدِدتُ أَنَّهُ عِنْدِي الآنَ، فَأرْمِيهِ بِالنَّبْلِ حَتَّى أَقْتُلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ هَذِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمَلُهُ يَتْبَعُهُ، فَأَرْسَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى فِي عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ قَيس، قَوْلُه تَعَالَى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ

* إرسال بني عامر وفدا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإسلامهم

كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (¬1). * إِرسَالُ بَنِي عَامِرٍ وَفْدًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَإِسْلَامُهُمْ: فَلَمَّا رَأَى بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مَا حَلَّ بِعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ أَرسَلُوا وَفْدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَعْلَنُوا إِسْلَامَهُم، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرطِ مُسْلِمٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّه بْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي رَهْطٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، قَالَ: ¬

_ (¬1) سورة الرعد آية (8 - 13). أخرج قصة بني عامر بن صعصعة: الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب خصوصية الأوس والخزرج في الإسلام - رقم الحديث (7066) - بإسناد منقطع - وانظر سيرة ابن هشام (4/ 222) - والطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (1/ 150) - ودلائل النبوة للبيهقي (5/ 318) - وأصل القصة في صحيح البخاري - كتاب المغازي - باب غزوة الرجيع - رقم الحديث (4091).

فَأَتَيْنَاهُ، فَسَلَّمنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: أَنْتَ وَليُّنَا، وَأَنْتَ سَيِّدُنَا، وَأَنْتَ أَطْوَلُ عَلَيْنَا، وَأَنْتَ أَفْضَلُنَا عَلَيْنَا فَضْلًا، وَأَنْتَ الْجَفْنَةُ الْغَرَّاءُ (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلَا يَسْتَجِرَنَّكُمُ (¬2) الشَّيْطَانُ" (¬3). قَالَ ابْنُ الْأَثِيرُ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: وَمَعنَى الْحَدِيثِ: يَقُولُ: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُم مِنَ الْقَوْلِ، وَلَا تَسْجَعُوا، كَأَنَّمَا تَنْطِقُونَ عَلَى لِسَانِ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مَدَحُوهُ، فَكَرِهَ لَهُمُ الْمبالَغَةَ فِي الْمدحِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ (¬4). قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ وَاضِحَةٌ مِنَ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَدَمِ الْمبالَغَةِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي مَدحِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ الْإِطْرَاءُ الذِي نَهى عَنْهُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامِ أَخمَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَريَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُوله" (¬5). ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في النهاية (1/ 271): كانت العرب تدعو السيد المطعام جفنة؛ لأنه يضعها، ويُطعم الناس فيها فسمي باسمها، والغراء البيضاء: أي أنها مملوءة بالشحم والدهن. (¬2) قال ابن الأثير في جامع الأصول (11/ 49) يقال: جريت جريًا، واستجريت جريًا: أي اتخذت وكيلًا. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16311) - وأبو داود في سننه - كتاب الأدب - باب في كراهية التمادح - رقم الحديث (4806) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (8515). (¬4) انظر جامع الأصول (11/ 49). (¬5) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ. . .} - رقم الحديث (3445) - وأحمد في مسنده - رقم الحديث (154).

4 - وفد بني حنيفة

4 - وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَفْدٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ الْيَمَامَةَ (¬1). وَكَانَ الْوَفْدُ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ: رَجَّالُ (¬2) بْنُ عُنْفُوَةَ، وَمُجَّاعَةُ بْنُ مُرَارَةَ، وَكَانَ مَعَهم مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْكَذَّابُ. فَأَنْزَلَهُم رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دَارَ رَفلَةَ بْنِتِ الْحَارِثِ -وَكَانَتْ دَارُهَا دَارَ الْوُفُودِ- وَأُجْرِيتْ عَلِيْهم ضِيَافَةٌ، ثُمَّ جَاؤُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوا، إِلَّا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الْأَمرَ مِنْ بَعدِهِ تَبعتُهُ، وَقَدِمَها فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -رضي اللَّه عنه-، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: "لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ ¬

_ (¬1) اليمامة: مدينة معروفة شرقي الحجاز. انظر النهاية (5/ 259). (¬2) قال الحافظ في الإصابة (2/ 446): رجَّال: بتشديد الجيم. . . ارتد، وقُتِل على الكفر.

* خبر شاذ وضعيف

الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ تَعْدُوَ أَمرَ اللَّهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ، لَيَعقِرَنَّكَ (¬1) اللَّهُ، وَإِنِّي لَأَرَاكَ الذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، وَهذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي" (¬2)، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّكَ أَرَى الذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا أُرِيتُ"، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "بَيْنَا أنَّا نَائِم رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهبٍ، فَأَهمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ: أَنِ انْفُخْهُمَا، فنفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ بَعدِي أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ (¬3) صَاحِبُ صَنْعَاءَ، وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ" (¬4). * خَبَرٌ شَاذٌّ وَضَعِيفٌ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ (¬5) مَا يُخَالِفُ مَا فِي ¬

_ (¬1) الْعَقْرُ في الأصل: هو أن تُضرب قوائم الفرس أو البعير بالسيف فتقطع، ثم استعمل في القتل والهلاك. انظر جامع الأصول (11/ 803). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 423): لأنه -أي ثابت- كان خطيب الأنصار، . . . ويؤخذ منه استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد ونحو ذلك. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 425): الْعَنْسِي: بفتح العين وسكون النون، وهو الأسود، واسمه عبهلة بن كعب، وكان الأسود العنسي قد خرج بصنعاء وادعى النبوة. قلت: سيأتي خبر تنبؤ الأسود العنسي إن شاء اللَّه. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب وفد بني حنيفة - رقم الحديث (4373) (4374) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الرؤيا - باب رؤيا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2273) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5843). (¬5) انظر سيرة ابن هشام (4/ 232).

* رجوع الوفد إلى اليمامة

الصَّحِيحِ، فَذَكَرَ: أَنَّ مُسَيْلِمَةَ قَدِمَ مَعَ وَفْدِ قَوْمِهِ، وَأنَّهُمْ تَرَكُوهُ فِي رِحَالِهِمْ يَحْفَظُهَا لَهُمْ، وَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَخَذُوا مِنْهُ جَائِزَتَهُ، وَأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُمْ عَنْ مُسَيْلِمَةَ: "لَيْسَ بِشَرِّكُمْ"، وَأَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى أَنَّهُ أُشْرِكَ فِي النُّبُوَّةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- احْتَجَّ بِهذِهِ الْمَقَالَةِ. وَهذَا مَعَ شُذُوذِهِ ضَعِيف الْإِسْنَادِ لِانْقِطَاعِهِ، وَأَمْرُ مُسَيْلِمَةَ كَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يُقَالُ لَهُ: رحمَانُ الْيَمَامَةِ لِعِظَمِ قَدْرِهِ فِيهِمْ، وَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا الْخَبَرُ الضَّعِيفُ مَعَ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اجْتَمَعَ بِهِ وَخَاطَبَهُ، وَصَرَّحَ له بِحَضْرَةِ قَوْمِهِ أَنَّهُ لَوْ سَأَلهُ قِطْعَةَ الْجَرِيدَةَ مَا أَعْطَاهُ (¬1). قُلْتُ: سَيَأْتِي خَبَرُ تَنَبُّؤِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. * رُجُوعُ الْوَفدِ إِلَى اليَمَامَةِ: وَلَمَّا أَرَادَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ الرُّجُوعَ إِلَى الْيَمَامَةِ أَعطَاهُم رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِدَاوَةً (¬2) فِيهَا مَاءٌ مِنْ فَضْلِ طَهُورِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا سِتَّةً وَفْدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، خَمسَةٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَايَعنَاهُ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ بِأَرْضِنَا ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 422). (¬2) الْإِدَاوَة: بكسر الهمزة إناء صغير من جلد يتخذ للماء. انظر لسان العرب (1/ 100).

بِيعَةً (¬1) لَنَا، وَاسْتَوْهَبْنَاهُ مِنْ فَضْلِ طُهُورِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فتَوَضَّأَ مِنْهُ وَتَمَضْمَضَ، وَصَبَّ لَنَا فِي إِدَاوَةٍ، ثُمَّ قَالَ: "اذْهبُوا بِهذَا الْمَاءِ، فَإِذَا قَدِمتُم بَلَدَكُم، فَاكْسِرُوا بِيعَتَكُم، ثُمَّ انْضَحُوا (¬2) مَكَانَها مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَاتَّخِذُوا مَكَانَها مَسْجِدًا". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه! الْبَلَدُ بَعِيدٌ، وَالْحَرُّ شَدِيدٌ، وَالْمَاءُ يَنْشَفُ، قَالَ: "فَأَمِدُّوهُ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا طِيبًا". فَخَرَجْنَا فتَشَاحَحْنَا (¬3) عَلَى حَملِ الْإِدَاوَةِ أَيُّنَا يَحْمِلُهَا، فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نَوْبًا (¬4) لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا وَلَيْلَةً، فَخَرَجْنَا بِهَا حَتَّى قَدِمنَا بَلَدَنَا، فَعَمِلْنَا الذِي أَمَرَنَا (¬5)، وَرَاهِبُ ذَلِكَ القوْمِ رَجُل مِنْ طَيْءٍ، فنَادَيْنَا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ الرَّاهِبُ: دَعوَةُ حَقٍّ، ثُمَّ هَرَبَ، فَلَمْ يُرَ بَعْدُ (¬6). * * * ¬

_ (¬1) بِيعَة: بكسر الباء هي كنيسة اليهود، وقيل كنيسة لنصارى، ومنه قوله تَعَالَى في سورة الحج آية (40): {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}. انظر لسان العرب (1/ 558) (¬2) النَّضْحُ: الرَّشُ. انظر لسان العرب (14/ 173). (¬3) الشُّح: أشد البخل. انظر النهاية (2/ 401). (¬4) نَاوَبَهُ في الشيء والأمر: أي ساهمه فيه وتداوله معه. انظر المعجم الوسيط (2/ 961). (¬5) في رواية النسائي قال: فخرجنا حتى قدمنا بلدنا، فكسرنا بيعتنا، ثم نضحنا مكانها، واتخذناها مسجدًا. (¬6) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء - رقم الحديث (1123) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المساجد - باب اتخاذ البيع مساجد - رقم الحديث (782).

5 - وفد نجران

5 - وَفْدُ نَجْرَانَ (¬1) وَفِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفْدُ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَتَبَ إِلَيْهِم كِتَابًا يَدْعُوهُم فِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوِ الْجِزْيَةِ، وَإِلَّا آذَنَهُمْ بِحَربٍ، فَذُعِرَ أَهْلُ نَجْرَانَ ذُعْرًا شَدِيدًا، فبعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفْدَهُم، وَكَانُوا سِتِّينَ رَجُلًا، فِيهِمْ أَربَعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَيْهِم يَؤُولُ أَمْرُهُمْ، أَحَدُهُمْ: الْعَاقِبُ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ، وَذُو رَأْيِهِمْ، وَالذِي لَا يَصْدِرُونَ (¬2) إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، وَالثَّانِي: السَّيِّدُ، وَاسْمُهُ الْأَيْهَمُ، وَيُقَالُ: شُرَحْبِيلُ، وَهُوَ ثِمَالُهُمْ (¬3)، وَصَاحِبُ رَحْلِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ، وَالثَّالِثُ: الْأُسْقُفُ، وَاسْمُهُ أَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ حَبْرُهُمْ (¬4) وَإِمَامُهُمْ. فَلَمَّا وَصَلَ الْوَفْدُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْتَقَوْا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 428) نَجْرَان: بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن. (¬2) صَدَرَ: رجع. انظر لسان العرب (7/ 301). (¬3) الثِّمَال: بكسر الميم: الملجأ والغياث. انظر النهاية (1/ 216). (¬4) الْحَبْرُ: بفتح الحاء: العالِم، وكان يُقال لابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الحَبر والبحر؛ لعلمه وسعته. انظر النهاية (1/ 317).

-صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَامْتَنَعُوا (¬1). رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ مُرسَلٍ رِجَاله ثِقَاتٌ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَاهِبَا نَجْرَانَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَسْلِمَا تَسْلَمَا". فَقَالَا: قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كَذَبْتُمَا مَنَعَكُمَا مِنَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثٌ: سُجُودُكُمَا لِلصَّلِيبِ، وَقَوْلُكُمَا: اتَّخَذَ اللَّه وَلَدًا، وَشُرْبُكُمَا الْخَمْرَ" (¬2). ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ ينَاقِشُهُمْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ أَتَوُا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: مَا تَقُولُ فِي عِيسَى؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هُوَ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" (¬3). وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ ¬

_ (¬1) انظر دلائل النبوة للبيهقي (5/ 383). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1374). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء - باب قصة ولادة عيسى ابن مريم عليه السلام - رقم الحديث (4213)، وصححه - وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/ 55) وقال: هكذا رواه الحاكم في مستدركه، وصححه على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، هكذا قال، وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن المغيرة، عن الشعبي مرسلًا، وهذا أصح.

وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (¬1). وَكَثُرَ النِّقَاشُ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَبَيْنَ وَفْدِ نَجْرَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتْلُو عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَيَقْرَعُ بَاطِلَهُم بِالْحُجَّةِ، فَلَمَّا لَمْ تُجْدِ مَعَهُمُ الْمُجَادَلَةُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُبَاهِلَهُمْ (¬2)، فَوَافَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (¬3)، فَخَافُوا مِنَ الْمباهلَةِ، وَرَفَضُوهَا. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا، لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا (¬4). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْ خَرَجَ الذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (58 - 60). (¬2) الْمبَاهلَةُ: الْمُلَاعَنَةُ، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة اللَّه على الظالم منا. انظر النهاية (1/ 164). (¬3) سورة آل عمران آية (61). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران - رقم الحديث (4380) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3930).

لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا (¬1). ثُمَّ إِنَّهُمْ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا (¬2). فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الْجِزيةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلفيْ حُلَّةٍ: النِّصْفُ فِي صَفَرٍ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ، يُؤَدُّونَها إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَارِيَّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا، وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا، وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ، يَغْزُونَ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوها عَلَيْهِمْ إِنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْد أَوْ غَدرَةٌ، عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ (¬3)، وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ (¬4)، وَلَا يُفْتَنُوا عَنْ دِينِهِمْ، مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا، أَوْ يَأْكُلُوا رِبًا (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2225) وإسناده صحيح. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران - رقم الحديث (4380) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3930). (¬3) الْبِيعَة: بكسر الباء هي كنيسة اليهود، وقيل كنيسة النصارى، ومنه قوله تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}. انظر لسان العرب (1/ 558). (¬4) الْقَسُّ: بفتح القاف هو رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم. انظر لسان العرب (11/ 157). (¬5) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الخراج والإمارة - باب في أخذ الجزية - رقم الحديث (3041) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1123).

* بعث أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- معهم

* بَعْثُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- مَعَهُمْ: فَلَمَّا قَبَضَ أَهْلُ نَجْرَانَ كِتَابَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَرَادُوا الْانْصِرَافَ إِلَى نَجْرَانَ، طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا، لِيَقْبِضَ مَالَ الصُّلْحِ، وَليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي أَشْيَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا فِي أَمْوَالِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ"، فَاسْتَشْرَفَ (¬1) لَهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ"، فَلَمَّا قَامَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ" (¬2). قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْأَمَانَةُ مُشْتركَة بَيْنَهُ -رضي اللَّه عنه- وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ، لَكِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَصَّ بَعْضَهُمْ بِصِفَاتٍ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا بِهَا أَخْصَّ (¬3). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ -وَاللَّفْظُ لِأَحمَدَ- ¬

_ (¬1) استشرف: أي تطلع إليها، وتعرض لها. انظر النهاية (2/ 414). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قصة أهل نجران - رقم الحديث (4380) - وأخرجه في كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3745) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2420) - وأخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6999). (¬3) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 115).

* فوائد قصة وفد نجران

عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَهْلُ الْيَمَنِ (¬1) عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا يُعَلِّمُنَا كِتَابَ رَبَّنَا والسُّنَةَ (¬2)، قَالَ: فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِم، وَقَالَ: "هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ" (¬3). * فَوَائِدُ قِصَّةِ وَفْدِ نَجْرَانَ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي قِصَّةِ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ إِقْرَارَ الْكَافِرِ بِالنُّبُوَّةِ لَا يَدْخِلُهُ فِي الْإِسْلَامِ حَتَّى يَلْتَزِمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ. 2 - وَفِيهَا جَوَازُ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَدْ تَجِبُ إِذَا تَعَيَّنَتْ مَصْلَحَتُهُ. 3 - وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّةُ مُبَاهَلَةِ الْمُخَالِفِ إِذَا أَصَرَّ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ دَعَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ الْأَوْزَاعِيُّ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّا عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ مَنْ بَاهَلَ وَكَانَ مُبْطِلًا لَا تَمْضِي عَلَيْهِ سَنَةٌ مِنْ يَوْمِ الْمُبَاهَلَةِ، وَوَقَعَ لِي ذَلِكَ مَعَ شَخْصٍ كَانَ يَتَعَصَّبُ لِبَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ، فَلَمْ يَقُمْ بَعْدَهَا غَيْرَ شَهْرَيْنِ. 4 - وَفِيهَا مُصَالَحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ، ¬

_ (¬1) أهل اليمن: هم أهل نجران. (¬2) في رواية الإمام مسلم في صحيحه: يُعلِّمنا السنة والإسلام. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل أبي عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2419) (54) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13217).

وَيَجْرِي ذَلِكَ مَجْرَى ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ يؤْخَذُ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ فِي كُلِّ عَامٍ. 5 - وَفِيهَا بَعْثُ الْإِمَامِ الرَّجُلَ الْعَالِمَ الْأَمِينَ إِلَى أَهْلِ الْهُدْنَةِ فِي مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ. 6 - وَفِيهَا مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 429).

وفاة أم كلثوم بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وَفَاةُ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ تُوُفِّيَتْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَزَوْجُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. رَوَى الإِمَامُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ، فَقَالَ: "اغْسِلْنَها ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي"، فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ (¬1)، وَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا (¬2) إِيَّاهُ" (¬3). وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا (¬4) لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 496): حقوه بفتح الحاء ويجوز كسرها، وهي لغة هذيل، والمراد به هنا إزاره. (¬2) الشِّعَارُ: هو الثوب الذي يلي الجسد؛ لأنه يلي شعره. انظر النهاية (2/ 429). (¬3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب غُسل الميت ووضُوئه بالماء والسدر - رقم الحديث (1253) - وباب ما يُستحبّ أن يُغسل وترًا - رقم الحديث (1254) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب غُسل الميت - رقم الحديث (939) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في غسل الميت - رقم الحديث (1458). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 505): هي أم كلثوم زوج عثمان -رضي اللَّه عنه-.

* حزن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها

عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ (¬1) اللَّيْلةَ؟ ". فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا، قَالَ: "فَانْزِلْ"، قَالَ أَنَسٌ: فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: أَنَّ رُقَيَّةَ (¬3) - بِنْتَ رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَا مَاتَت، قَالَ رَسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلِ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ أَهْلَهُ"، فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه- الْقَبْرَ (¬4). * حُزْنُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهَا: وَحَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى رُئِيَ الدَّمْعُ يَتَحَدَّرُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَبِمَوْتِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ يَبْقَ مِنْ بَنَاتِ رَسولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. ¬

_ (¬1) لم يُقَارِفْ: بضم الياء أي لم يجامع. انظر النهاية (4/ 40) - فتح الباري (3/ 505). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه" - رقم الحديث (1285) - وباب من يدخل قبر المرأة - رقم الحديث (1342) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12275). (¬3) قال الإمام البخاري فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (3/ 505): ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ببدر لم يشهدها -أي لم يشهد جنازة رقية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-. وقال الحافظ: وَهِمَ حماد بن سلمة في تسميتها فقط، والصواب أنها أم كلثوم رَضِيَ اللَّهُ عَنها. وقال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (6/ 323): فابنة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه هي أم كلثوم توفيت، وكانت وفاتها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سنة تسع من الهجرة. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13398) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2512).

وفاة عبد الله بن أبي بن سلول قبحه الله

وَفَاةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَفي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ لَعَنَهُ اللَّهُ، بَعْدَ أَنْ مَرِضَ عِشْرِينَ لَيْلَةً. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَرَفَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قَدْ كُنْتُ أَنْهاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقَدْ أَبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فَمَهْ (¬1). ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا بِحِينِ عِتَابٍ، هُوَ الْمَوْتُ، فَإِنْ مِتُّ فَامْنُنْ عَلَيَّ، فكَفِّنِّي فِي قَمِيصِكَ (¬2) وَصَلِّ عَلَيَّ وَاسْتَغْفِر لِي. ¬

_ (¬1) فَمَهْ: اسم مبني على السكون، بمعنى اسكت. انظر النهاية (4/ 321). والخبر أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21758) - وأبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في العيادة - رقم الحديث (3094). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 233): كأن عبد اللَّه بن ابي أراد بذلك دفع العار عن ولده وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليه، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما ظهر من حاله إلى أن كشف اللَّه الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة.

* صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وموقف عمر -رضي الله عنه-

فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ قَبَّحَهُ اللَّهُ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ (¬1) -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَقَدْ رَوى الشَّيْخَانِ فِي صَحْيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، وَقَالَ لَهُ: "إِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ فَآذِنِّي" (¬2). * صَلَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمَوْقِفُ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ، قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَجَذَبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منْ ثَوْبِهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ وَهُوَ الْقَائِلُ -أَي ابن سلول- يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا ¬

_ (¬1) عبد اللَّه هذا هو ابن رأس المنافقين عبد اللَّه بن أُبي بن سلول، وهو من فضلاء الصحابة، شهد بدرًا وما بعدها، واستشهد يوم ليمامة في خلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، ومن مناقبه -رضي اللَّه عنه- أنه لما بلغه بعض مقالات أبيه في رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، جاء إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يستأذنه في قتله، فقال له رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا". وقد تقدم هذا عند الكلام على غزوة بني المصطلق، فراجعه. (¬2) قال السندي في شرح المسند (4/ 24): آذني: أي أعلمني، أي بالفراغ من تجهيزه وتكفينه. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب الكفن في القميص الذي يُكَف أو لا يُكَف - رقم الحديث (1269) - وأخرجه في كتاب اللباس - باب لبس القميص - رقم الحديث (5796) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عمر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2400) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4680).

وَكَذَا، يُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوله، فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَالَ: "أَخِّر عَنِّي يَا عُمَرُ"، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنِّي خُيِّرتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدتُ عَلَيْهَا" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ بهاّ: "إِنَّمَا خَيَّرَني اللَّهُ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ" (¬2). قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬3). قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} - رقم الحديث (4671). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} - رقم الحديث (4670) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عمر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2400) - وكتاب صفات المنافقين - رقم الحديث (2774). (¬3) سورة التوبة آية (84). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} - رقم الحديث (4671) - وباب قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} - رقم الحديث (4672).

* لماذا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عبد الله بن أبي؟

* لِمَاذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ؟ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْخُذِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَوْلِ عُمَرَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَصَلَّى عَلَيْهِ إِجْرَاءً لَهُ عَلَى ظَاهِرِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَاسْتِصْحَابا لِظَاهِرِ الْحُكْمِ، وَلمَا فِيهِ مِنْ إِكْرَامِ وَلَدِهِ الذِي تَحَقَّقَتْ صَلَاحِتيهُ، وَمَصْلَحَةِ الِاسْتِئْلَافِ لِقَوْمِهِ، وَدَفع الْمَفْسَدَةِ، وَكَانَ الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَصْبِرُ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَيَعْفُو، وَيَصْفَحُ، ثُمَّ أُمِرَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَاسْتَمَرَّ صَفْحُهُ وَعَفْوُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمَّنْ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ بَاطِنُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الِاسْتِئْلَافِ، وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ عَنْهُ، وَلذَلِكَ قَالَ: "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" (¬1)، فَلَمَّا حَصَلَ الْفَتْحُ وَدَخَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَلَّ أَهْلُ الْكُفْرِ وَذَلُّوا، أُمِرَ بِمُجَاهَرَةِ الْمُنَافِقِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى حُكْمِ مُرِّ الْحَقِّ، وَلَاسِيَّمَا وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ النَّهْي الصَّرِيحِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُمِرَ فِيهِ بِمُجَاهَرَتِهِمْ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى (¬2). * فَوَائِدُ هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَفِي قِصَّةِ وَفَاةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ الْمُنَافِقَ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ. ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث: البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4905) (4907) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2584) (63). (¬2) انظر فتح الباري (9/ 235).

2 - وَفِيهِ رِعَايَةُ الْحَيِّ الْمُطِيعِ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَيِّتِ الْعَاصِي. 3 - وَفِيهِ التَّكْفِينُ بِالْمَخِيطِ. 4 - وَفِيهِ الْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ إِذَا كَانَ النَّصُّ مُحْتَمِلًا. 5 - وَفِيهِ جَوَازُ تَنْبِيهِ الْمَفْضُولِ لِلْفَاضِلِ عَلَى مَا يَظُنُّ أنَّهُ سَهَا عَنْهُ. 6 - وَتَنْبِيهُ الفاضِلِ الْمَفْضُولَ عَلَى مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ. 7 - وَفيهِ جَوَازُ اسْتِفْسَارِ السَّائِلِ الْمَسْؤُولَ وَعَكْسهُ عَمَّا يَحْتَمِلُ مَا دَارَ بَيْنَهُمَا. 8 - وَفِيهِ جَوَازُ التَّبَسُّمِ فِي حُضُورِ الْجَنَازَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَقَدِ اسْتَحَبَّ أَهْلُ الْعِلْمِ عَدَمَ التَّبَسُّمِ مِنْ أَجْلِ تَمَامِ الْخُشُوعِ، فيسْتَثْنَى مِنْهُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (9/ 240).

حج أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالناس

حَجُّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- بِالنَّاسِ وَفي أَوَاخِرِ شَهْرِ ذِي القعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ التَّاسِعَةِ (¬1) لِلْهِجْرَةِ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) قال الإمام البخاري في صحيحه -في كتاب المغازي-: باب حج أبي بكر بالناس في سنة تسع. قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 413): كذا جزم به -أي البخاري-. . . والحق أنه لم يُختلف في ذلك -أي في أي سنة حج أبي بكر -رضي اللَّه عنه- بالناس- وإنما وقع الاختلاف في أي شهر حج أبو بكر -رضي اللَّه عنه-، فذكر ابن سعد وغيره بإسناد صحيح عن مجاهد: أن حجة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- وقعت في ذي القعدة، . . . والمعتمد ما قاله مجاهد. قلت: وقع في صحيح ابن حبان - رقم الحديث (3707) بسند صحيح عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- في قوله تَعَالَى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، قال: لما قفل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من حنين، اعتمر من الجعرانة، ثم أَمّر أبا بكر -رضي اللَّه عنه- على تلك الحجة. والإشكال هنا قوله -رضي اللَّه عنه-: ثم أَمّر أبا بكر -رضي اللَّه عنه- على تلك الحجة -أي لما رجع من حنين- وكان ذلك سنة ثمان للهجرة، والمشهور أن أمير الحج سنة ثمان هو عَتَّاب بن أَسيد -رضي اللَّه عنه-. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِير في تفسيره (4/ 104): وهذا السياق فيه غرابة، من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عَتّاب بن أَسيد، فأما أبو بكر إنما كان أميرًا سنة تسع. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 217): يمكن رفع الإشكال بأن المراد بقوله: "ثم أَمّر أبا بكر"، يعني بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذكر من ولي الحج سنة ثمان، فإن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة، إلى أن جاء أوان الحج، فأَمّر أبا بكر -رضي اللَّه عنه-، وذلك سنة تسع، وليس المراد أنه أَمّر أبا بكر أن يحج في السنة التي كانت فيها عمرة الجعرانة، وقوله -رضي اللَّه عنه-: "على تلك الحجة"، يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة.

-صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه-، أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجَّهُمْ، وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَدِينَةِ يتَابع الدَّعْوَةَ وَالْوُفُودَ التِي جَاءَتْ لِتُعْلِنَ إْسِلَامَهَا عِنْدَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَرْغَبْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالُخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ لِكَرَاهَتِهِ الِاخْتِلَاطَ بِأَهْلِ الشِّرْكِ الذِينَ يَتَنَسَّكُونَ بِغَيْرِ التَّوْحِيدِ، وَرُبَّمَا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِيَصُدَّهُمْ لِلْعُقُودِ التِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ (¬1). فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعِشْرِينَ بَدَنَة (¬2) قَلَّدَهَا (¬3) وَأَشْعَرَهَا (¬4) بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ (¬5)، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (4/ 102). (¬2) الْبَدَنَةُ: تقع علي الجمل والناقة والبقرة، وهي بالإبل أشبه، وسميت بدنة لعظمها وسمنها. انظر النهاية (1/ 108). (¬3) تَقْلِيدُ الْهَدي: أن يُجعل في عنقها شِعار يُعلم به أنها هدي. انظر لسان العرب (11/ 276). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (8/ 185): الاشعار في الهدي: هو أن يجرحها في صفحة سنامها اليمني بحربة أو سكين أو حديدة، أو نحوها، ثم يُسلت -أي يُمسح- الدم عنها، ويجعل ذلك لها علامة تُعرف بها أنها هدي. (¬5) ثبت بعث رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هديه مع أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، وتقليده وتشعيره لها بيده الشريفة -صلى اللَّه عليه وسلم- في: صحيح البخاري - كتاب الحج - باب من قلّد القلائد بيده - رقم الحديث (1700) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم. . رقم الحديث (1321) (369) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ولفظه: أنا فتلت قلائد هدي رَسول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بيديَّ، ثم قَلّدها رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء أحله اللَّه له، حتى نُحر الهدي.

نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَسَاقَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- خَمْسَ بَدَنَاتٍ (¬1). فَلَمَّا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الْمَدِينَةِ، نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسُورَةِ بَرَاءَةٍ (¬2)، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- لِيُعْلِنَهَا عَلَى النَّاسِ فِي الْحَجِّ (¬3). فَلَمَّا كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فِي الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّةَ، إِذْ سَمِعَ رُغَاءَ (¬4) نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْقَصْوَاءَ، فَظَنَّ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: أَمِيرٌ أَنْتَ أَمْ رَسُولٌ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: لَا، بَلْ رَسُولٌ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ (¬5) كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَمَّرَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ (¬6)، وَأَمَرَ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- أَنْ ¬

_ (¬1) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 334). (¬2) نزل من سورة براءة وهي التوبة من بدايتها إلى بضع وثلاثين آية منها، وقيل: أربعين. انظر فتح الباري (9/ 214). (¬3) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (5/ 40): والمقصود أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث عليًا -رضي اللَّه عنه- بعد أبي بكر -رضي اللَّه عنه- ليكون معه، ويتولى عليّ -رضي اللَّه عنه- بنفسه إبلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكونه ابن عمه من عصبته. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 216): قال العلماء: إن الحكمة في إرسال عليّ -رضي اللَّه عنه- بعد أبي بكر -رضي اللَّه عنه- أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم. (¬4) الرُغَاء: بضم الراء: هو صوت البعير. انظر النهاية (2/ 218). (¬5) أي إلى أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. (¬6) أي أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمّر أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- على الحج. قال الطحاوي في شرح مشكل الآثار (9/ 225) - وأورده عنه الحافظ في الفتح =

يُنَادِيَ بِبَعْضِ الْأُمُورِ كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ مَضى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، قَامَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَأَذَّنَ (¬1) بِالذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهِيَ: 1 - لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِك (¬2). 2 - وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ (¬3). 3 - وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ. 4 - مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ له عَهْدٌ، فَأَجَلُهُ أَرْبعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُوله (¬4). ¬

_ = (9/ 213): كان أبو بكر -رضي اللَّه عنه- الأمير على الناس في تلك الحجة بلا خِلاف، وكان عليّ -رضي اللَّه عنه- هو المأمور بالتأذين بذلك -أي بما أمره رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 212): المراد بالتأذين الإعلام، وهو اقتباس من قوله تَعَالَى في سورة التوبة آية (3): {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، أي إعلام. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 98): فلا يُمكّن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة أو أمر مهم لا يُمكّن من الدخول، بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به، ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم. (¬3) قلت: كان العرب يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، ثبت ذلك في صحيح مسلم - رقم الحديث (3028) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: كانت المرأة تطوف بالبيت، وهي عُريانة. . . فنزلت هذه الآية في سورة الأعراف آية (31): {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: المراد بالزينة في هذه الآية: اللباس. انظر تفسير ابن كثير (3/ 405). (¬4) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب لا يطوف بالبيت عُريان - =

* بعث أبي بكر -رضي الله عنه- أبا هريرة -رضي الله عنه-

* بَعْثُ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي نَاسٍ مَعَهُ، فَأَذَّنُوا مَعَ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- فِي النَّاسِ بِعَرَفَةَ، وَبِمِنًى، وَبِالْمَشَاعِرِ كُلِّهَا، بِمَا أَمَرَ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- حَيْثُ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِبَرَاءَةٍ، قَالَ: كُنَّا نُنَادِي: أنهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَهْدٌ، فَإِنَّ أَجَلَهُ -أَوْ أَمَدَهُ- إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (¬1)، فَإِذَا مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَحُجُّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ. ¬

_ = رقم الحديث (1622) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب لا يحج مشرك. . . - رقم الحديث (1347) - والترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب سورة التوبة - رقم الحديث (3345). (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (5/ 42) بعد أن أورد هذا الحديث: فهذا جيد، لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي: إن من كان له عهد، فأجله إلى أربعة أشهر وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح أن من كان له عهد، فأجله إلى أمده بالغًا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية، فله تأجيل أربعة أشهر قسم ثالث: وهو: من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، يحتمل أن يلتحق بالأول، فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال: إنه إلى أربعة أشهر؛ لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية.

* رواية ضعيفة

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه-: فكُنْتُ أنادِي حَتَّى صَحِلَ (¬1) صَوْتي (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: فَالْحَاصِلُ أَنَّ مباشَرَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- لِذَلِكَ -أَيْ الْإِعْلَامِ- كَانَتْ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يُنَادِي بِمَا يُلْقِيهِ إِلَيْهِ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مِمَّا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ (¬3). وَبِذَلِكَ قَضَى الْإِسْلَامُ نِهَائِيًا عَلَى مَعَالِمِ الشِّرْكِ فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، وَحَفِظَ لِلْبَيْتِ قُدْسِيَّتَهُ وَحُرْمَتَهُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَجَّةُ بِمَثَابَةِ التَّوْطِئَةِ لِلْحَجَّةِ الْكُبْرَى، وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالتِي تُسَمَّى حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. * رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسنده وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثَارِ، وَابْنُ ¬

_ (¬1) صَحِلَ: أي بُحَّ. انظر النهاية (3/ 13). قلت: كذلك عليّ -رضي اللَّه عنه- كان ينادي بهؤلاء الكلمات حتى بُحَّ صوته -رضي اللَّه عنه-، فقد أخرج الترمذي في جامعه - رقم الحديث (3345) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3585) بسند قوي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال: . . . فكان عليّ يُنادي بها، فإذا بُحَّ، قام أبو هريرة، فنادى بها. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7977) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3593) - وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري - كتاب الصلاة - باب ما يُستر من العورة - رقم الحديث (369) وكتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} - رقم الحديث (4655) (4656) (4657) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب لا يحج البيت مشرك - رقم الحديث (1347). (¬3) انظر فتح الباري (9/ 213).

حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ بَرَاءَةٍ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، دَعَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَبَعَثَهُ بِهَا لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ دَعَانِي النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "أَدْرِكْ أبا بَكْرٍ، فَحَيْثُمَا لَحِقْتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَاقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ". قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَلَحِقْتُهُ بِالْجُحْفَةِ، فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَ فِيَّ شَيْءٌ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا، وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي، فَقَالَ: لَنْ يُؤَدِّيَ عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ، أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ" (¬1). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ: وَهَذَا ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ، وَمَتْنُهُ فِيهِ نَكَارَةٌ (¬2). وَقَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ: وَفِي مَتْنِهِ نَكَارَةٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَعْمَلَ أَبا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَلَمْ يَرُدَّهُ، وَلَا رَجَعَ، بَلْ هُوَ الذِي أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ ذَلِكَ الْعَامَ، وَعَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتهِ يُصَلِّي خَلْفَهُ، وَيَدْفَعُ بِدَفْعِهِ، وَيَأتَمِرُ بِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ لِيَكُونَ مَعَهُ، وَيَتَوَلَّي عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- إِبْلَاغَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1297) (13214) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3584) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- يكون في أمته من الفتن - رقم الحديث (6644). (¬2) انظر البداية والنهاية (5/ 42).

الْبَرَاءَةِ لِلْمُشْرِكِينَ نِيَابَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لِكَوْنِهِ ابْنَ عَمِّهِ مِنْ عَصَبَتِهِ، فَقَدْ كَانَتِ الْعَادَةُ الْمُتَّبَعَةُ عِنْدَهُمْ -أَيْ عِنْدَ الْعَرَبِ- أَنْ لَا يَعْقِدَ الْعَهْدَ وَلَا يَحِلَّهُ إِلَّا الْمُطَاعُ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَلَمْ يَكُوُنوا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ (¬1). قُلْتُ: قَدْ ثَبَتَ إِرْسَالُ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- بِبَرَاءَةٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنَّ الذِي لَمْ يَثْبُتْ هُوَ رُجُوعُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَتَأْمِيرِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-. * * * ¬

_ (¬1) انظر حاشية شرح مشكل الآثار (9/ 217).

السنة العاشرة للهجرة

السَّنَةُ العَاشِرَةُ لِلْهِجْرَةِ دَخَلَ الْعَامُ الْعَاشِرُ الْهِجْرِيُّ وَالرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْتَقْبِلُ الْوُفُودَ، وَيُرْسِلُ سَرَايَاهُ وَدُعَاتَهُ إِلَى قبائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُونَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُفَقِّهُونَهَا فِي الدِّينِ، . . . وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْهَا:

بعث معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن

بَعْثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى الْيَمَنِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَأَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِلَى الْيَمَنِ (¬1)، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُعلِّمَا النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَأُمُورَ دِينهِمْ، وَاسْتَعْمَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ (¬2) مِنْهَا -وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ- وَكَانَتْ جِهَةُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- الْعُلْيَا إِلَى جِهَةِ عَدْنٍ، وَكَانَتْ جِهَةُ أَبِي مُوسَى -رضي اللَّه عنه- السُّفْلَى، وَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا" (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 126): كان بعث معاذ -رضي اللَّه عنه- إلى اليمن سنة عشر للهجرة قبل حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما ذكره المصنف -أي البخاري- في أواخر المغازي، وقيل: كان ذلك في أواخر سنة تسع للهجرة عند منصرفه من تبوك، رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- وأخرجه ابن سعد في طبقاته (3/ 296) عنه. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 386): المخلاف: بكسر الميم وسكون الخاء، وهو الكورة والإقليم. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث أبي موسى ومعاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4341) (4342) (4344) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير - رقم الحديث (1732) (1733) - وأخرجه الطيالسي في مسنده - رقم الحديث (498).

* رواية مخالفة

1 - الْأَمْرُ بِالتَّيْسِيرِ فِي الْأُمُورِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ، وَتَحْبِيبِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ، وَتَرْكِ الشِّدَّةِ لِئَلَّا تَنْفِرَ قُلُوبُهُمْ، وَلَاسِيَّمَا فِيمَنْ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ قَارَبَ حَدَّ التَّكْلِيفِ مِنَ الْأَطْفَالِ لِيَتَمَكَّنَ الْإِيمَانُ مِنْ قَلْبِهِ وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ فِي تَدْرِيبِ نَفْسِهِ عَلَى الْعَمَلِ إِذَا صَدَقَتْ إِرَادَتُهُ لَا يُشَدِّدُ عَلَيْهَا، بَلْ يَأْخُذُهَا بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّيْسِيرِ حَتَّى إِذَا أَنِسَتْ بِحَالَةٍ وَتَدَاوَلَتْ عَلَيْهَا نَقَلَهَا لِحَالٍ آخَرَ وَزَادَ عَلَيْهَا أَكْثرَ مِنَ الْأُولَى حَتَّى يَصِلَ إِلَى قَدْرِ احْتِمَالِهَا، وَلَا يُكَلِّفُهَا بِمَا لَعَلَّهَا تَعْجَزُ عَنْهُ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ -رضي اللَّه عنه- عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ الْقُرْآنَ (¬2). * رِوَايَةٌ مُخَالِفَةٌ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَهُ إِلَى الْيمَنِ ثُمَّ أَتبعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثهُمَا مَعًا، وَجَمَعَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (15/ 67). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19544) - والحاكم في المستدرك - كتاب فضائل القرآن - باب فضيلة المعوذتين - رقم الحديث (2130). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب استتابة المرتدين والمعاندين - باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم - رقم الحديث (6923) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها - رقم الحديث (1733) (15).

* سؤال أبى موسى -رضي الله عنه-

بَيْنَهُمَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَقَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَ مُعَاذًا إِلَى أَبِي مُوسَى بَعْدَ سَبْقِ وِلَايَتِهِ لَكِنْ قَبْلَ تَوَجُّهِهِ فَوَصَّاهُمَا عِنْدَ التَّوَجُّهِ بِذَلِكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ وَصَّى كُلًا مِنْهُمَا وَاحِدًا بَعْدَ آخَرٍ (¬1). * سُؤَالُ أَبِى مُوسَى -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ سَأَلَ أَبُو مُوسَى -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنَّ أَرْضَنَا (¬2) بِهَا شَرَابٌ مِنَ الشَّعِيرِ، يُقَالُ له: الْمِزْرُ (¬3)، وَشَرَابٌ مِنَ الْعَسَلِ، يُقَالُ له: الْبِتْعُ (¬4). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ" (¬5). * فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ دَلَّ بَعْثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَطِنًا حَاذِقًا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوَلِّهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْإِمَارَةَ، وَلَوْ كَانَ فَوَّضَ الْحُكْمَ لِغَيْرِهِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَوْصِيَتِهِ بِمَا وَصَّاهُ بِهِ، وَلذَلِكَ ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (14/ 275). (¬2) أي اليمن؛ لأن أبا موسى -رضي اللَّه عنه- من اليمن. (¬3) المِزْر: بكسر الميم: نبيذ يتخذ من الذرة، وقيل: من الشعير أو الحنطة. انظر النهاية (4/ 276). (¬4) الْبِتْع: بكسر الباء: نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن. انظر النهاية (1/ 94). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث أبي موسى ومعاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4343) (4344) - ومسلم في صحيحه - كتاب الأشربة - باب بيان أن كل مسكر خمر - رقم الحديث (2001) (70) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19673).

* وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-

اعْتَمَدَ عَلَيْهِ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ عُثْمَانُ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-. وَأَمَّا الْخَوَارجُ وَالرَّوَافِضُ فَطَعَنُوا فِيهِ، وَنَسَبُوهُ إِلَى الْغَفْلَةِ، وَعَدَمِ الْفِطْنَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي التَّحْكِيمِ بِصِفِّينٍ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِي وَغَيْرُهُ: وَالْحَقَّ أنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي وَصْفَهُ بِذَلِكَ، وَغَايَةُ مَا وَقَعَ مِنْهُ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ اجْتِهَادَهُ أَدَّاهُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ؛ لَمَّا شَاهَدَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الشَّدِيدِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِصِفِّينٍ، وَآلَ الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ (¬1). * وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمَعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: "إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ (¬2) أَمْوَالهمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 387). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 81): الكرائم جمع كريمة أي نفيسة، والمراد نفاس الأموال من أي صنف كان. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الزكاة - باب أخذ الصدقة من الأغنياء - رقم =

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالنَّسَائيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ (¬1)، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً مُسِنَّةً (¬2)، وَمِنْ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا (¬3) حَوْليًّا (¬4)، وَأَمَرَنِي فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ، وَمِمَّا سُقِيَ بِالدَّوَالِي (¬5) نِصْفَ الْعُشْرِ (¬6). وَرَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: آخِرَ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ (¬7) أَنْ قَالَ: "يَا مُعَاذٌ، أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ" (¬8). ¬

_ = الحديث (1496) - ومسلم في صحيحه - كتاب الإيمان - باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام - رقم الحديث (19). (¬1) المعافر: هي برود باليمن منسوبة إلى معافر: وهي قيلة باليمن. انظر النهاية (3/ 237). (¬2) الْمُسِنَّة: أي أتمت سنتين. انظر النهاية (2/ 370). (¬3) التبِيع: من أتم سنة من البقر. انظر النهاية (1/ 176). (¬4) الْحَوْل: السنة. انظر النهاية (1/ 445). (¬5) الدَّوَالي: جمع دالية، وهو شيء يُتخذ من خُص وخشب يُستقى به بحبال تشد في رأس جذع طويل. انظر لسان العرب (4/ 398). (¬6) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22037) - وأخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب الزكاة - باب زكاة البقر - رقم الحديث (2242) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2697). (¬7) الْغَرْزُ: بفتح العين وسكون الراء: رِكاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب. انظر النهاية (3/ 322). (¬8) أخرجه الإمام مالك في الموطأ - كتاب حسن الخلق - باب ما جاء في حسن الخلق - رقم =

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: "كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاء؟ ". قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ ". قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ ". ¬

_ = الحديث (1) -بغير إسناد- وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1972) بغير إسناد. قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى محقق جامع الأصول (4/ 4): هذا أحد الأحاديث التي وردت في الموطأ بغير سند، وذكر العلماء أنها ليست موصولة في كتاب. وقال الزرقاني في شرح الموطأ: كذا ليحيى وابن القاسم، والقعنبي، ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ -رضي اللَّه عنه-، وهو مع هذا منقطع جدًّا، ولا يوجد مُسندًا من حديث معاذ -رضي اللَّه عنه- ولا غيره بهذا اللفظ، لكن ورد معناه، قاله ابن عبد البر. ومن شواهد هذا الحديث: ما رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21988) - بسند حسن عن معاذ -رضي اللَّه عنه- قال: قلت: يا رَسُول اللَّهِ! علمني ما ينفعني، قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتق اللَّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 396): وقد رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه وَصّى بهذه الوصية -أي وصية تقوى اللَّه وحسن الخلق- معاذًا وأبا ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا من وجوه. . . وهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق اللَّه وحقوق عباده. قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رَحِمَهُ اللَّهُ: فالحديث حسن بطرقه وشواهده التي تشهد له بالمعنى.

* حديث ضعيف

قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو (¬1). قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَدْرِي بِيَده، ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ للَّهِ الذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ" (¬2). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: "إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ" (¬3). * تَوْدِيعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِمُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ ¬

_ (¬1) لا آلو: أي لا أُقصر. انظر النهاية (1/ 64). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22007) - والترمذي في جامعه - كتاب الأحكام - باب في القاضي كيف يقضي - رقم الحديث (1376) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3583). قلت: ضَعّف هذا الحديث غير واحد من أهل العلم منهم: الإمام البخاري، والدارقطني، والحافظ العراقي، وابن الجوزي، والحافظ ابن حجر، والألباني. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. وانظر لزاما تعليق الألباني رحمه اللَّه على هذا الحديث في السلسلة الضعيفة - رقم الحديث (881)، فقد أجاد وأفاد رحمه اللَّه تعالى. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22105) في سنده بقية بن الوليد، وهو مدلس تدليس التسوية، وقد عنعن.

* رواية مخالفة

مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُوصِيهُ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلقانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا وَقَبْرِي"، فبكَي مُعَاذٌ -رضي اللَّه عنه- جَشَعًا (¬1) لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي المُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا" (¬2). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ إِشَارَةٌ، وَظُهُورٌ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مُعَاذًا -رضي اللَّه عنه- لَا يَجْتَمعُ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِالْيَمَنِ حَتَّى كَانَتْ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَحَدٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا مِنَ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (¬3). * رِوَايَةٌ مُخَالِفَةٌ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْيَمَنِ (¬4)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ رِجَالًا بِالْيَمَنِ يَسْجُدُ بَعْضُهُمْ ¬

_ (¬1) الْجَشَع: الجزع لفراق الإلف. انظر النهاية (1/ 265). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22052) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الرقائق - باب الخوف والتقوى - رقم الحديث (647). (¬3) انظر البداية والنهاية (5/ 106). (¬4) قال الإمام السندي في شرح المسند (13/ 78): هكذا وقع في هذه الرواية، وقد ثبت أن معاذا -رضي اللَّه عنه- ما رجع من اليمن بعد أن بعثه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، . . . لكن قد =

* بعض الأحداث التي حدثت لمعاذ -رضي الله عنه- في اليمن

لِبَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْ كُنْتُ آمِرًا بَشَرًا يَسْجُدُ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأة أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا" (¬1). * بَعْضُ الْأَحْدَاثِ التِي حَدَثَتْ لِمُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- فِي الْيَمَنِ: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّ مُعَاذًا -رضي اللَّه عنه- لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّي بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬2)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ (¬3). ¬

_ = صح في بعض روايات هذا الحديث الصحيح: أن هذا الأمر إنما كان حين رجوعه -رضي اللَّه عنه- من الشام، ويؤيد ذلك ما رواه ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4171) - وابن ماجه - رقم الحديث (1853) - بسند حسن عن عبد اللَّه بن أبي أوفى -رضي اللَّه عنه- قال: لما قدم معاذ من الشام سجد للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما هذا يا معاذ؟ " قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك. فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير اللَّه لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". فالظاهر أن الصواب الشام، وإنما وقع اليمن موضع الشام من تصرف الرواة، واللَّه أعلم. وَقَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (5/ 108): والصحيح إنه -أي معاذ -رضي اللَّه عنه- لم ير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك، أي بعد بعثه لليمن. (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21986). (¬2) سورة النساء آية (125). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث أبي موسى ومعاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4348) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6181).

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَقَدِ اسْتُشْكِلَ تَقْرِيرُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- لِهَذَا الْقَائِلِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَرْكُ أَمْرِهِ بِالْإِعَادَةِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: 1 - إِمَّا بِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالْحُكْمِ يُعْذَرُ. 2 - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ. 3 - أَوْ كَانَ الْقَائِلُ خَلْفَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزْيدَ قَالَ: أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رضي اللَّه عنه- بِالْيَمَنِ مُعلِّمًا وَأَمِيرًا، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ فَأَعْطَى الِابْنَةَ النِّصْفَ وَالْأُخْتَ النِّصْفَ (¬2). وَلَمْ يَزَلْ مُعَاذ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْيَمَنِ إِلَى أَنْ قَدِمَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَوَافَى السَّنَةَ التِي حَجَّ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْحَجِّ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 391). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الفرائض - باب ميراث البنات - رقم الحديث (6734) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (7394). (¬3) انظر الإصابة (6/ 19).

وفاة إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وَفَاةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عَشْرٍ لِلْهِجْرَةِ (¬1) عِنْدَ مُرْضِعِهِ أُمِّ سَيْفٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَيْفٍ القيْنِ (¬2) -وَكَانَ ظِئْرًا (¬3) لِإِبْرَاهِيمَ- فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ (¬4)، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ (¬5) -وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ (¬6) بِنَفْسِهِ- فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَذْرِفَانِ (¬7)، فَقَالَ له عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 226): ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة. (¬2) الْقَيْنُ: بفتح القاف الحداد. انظر النهاية (4/ 119). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (3/ 525): الظِئر: بكسر الظاء أي مرضعًا، وأُطلق عليه ذلك؛ لأنه كان زوج المرضعة، وأُطلق ذلك على زوجها؛ لأنه يشاركها في تربيته غالبًا. (¬4) الشَّمُّ: الدنو. انظر لسان العرب (7/ 206). (¬5) أي عند وفاته -رضي اللَّه عنه-. (¬6) يَجُود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله، يريد أنه كان في النزع وسياق الموت. انظر النهاية (1/ 301). وفي رواية الإمام مسلم: "يكيد"، بفتح الياء الأولى، وكسر الكاف (¬7) ذَرَفَتِ العينُ: إذا جرى دمعها. انظر النهاية (2/ 147).

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ (¬1)، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إَبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" (¬2). وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَاحَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَيْسَ هَذَا مِنَّا، لَيْسَ لِصَارخِ حَظٌّ، الْقَلْبُ يَحْزَنُ، وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَلَا نَقُولُ مَا يُغْضِبُ الرَّبَّ" (¬3). فَلَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي، وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْي (¬4)، وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ (¬5) تُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ" (¬6). ¬

_ (¬1) هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه - وفي رواية مسلم في صحيحه قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تدمع العين ويحزن القلب". (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنا بك لمحزونون" - رقم الحديث (1303) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال - رقم الحديث (2315) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13014). (¬3) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الجنائز - باب فصل في النياحة ونحوها - رقم الحديث (3160) - والحاكم في المستدرك - كتاب الجنائز - باب استثناء النياحة - رقم الحديث (1450). (¬4) قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 61): معناه مات وهو في سن رضاع الثدي، أو في حال تغذيه بلبن الثدي. (¬5) الظِّئْرُ: بكسر الظاء هي المرضعة غير ولدها. انظر النهاية (3/ 140). (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال - رقم الحديث (2316) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12102).

* هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المصيبة

قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى تُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ أَيْ تُتِمَّانِهِ سَنَتَيْنِ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ، فَتُرْضِعَانِهِ بَقِيَّةَ السَّنَتَيْنِ (¬1). وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ ابْنُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يدْفَنَ بِالْبَقِيعِ (¬2). * هَدْيُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي المُصِيبَةِ: كَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الجَنَائِزِ أَكْمَلَ الهَدْي، فَقَدْ سَنَّ لِأُمَّتِهِ الْحَمْدَ وَالْاسْتِرْجَاعَ، وَالرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِدَمْعِ الْعَيْنِ وَحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلذَلِكَ كَانَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ فِي قَضَائِهِ، وَأَعْظَمَهُمْ لَهُ حَمْدًا، وَبَكَى مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهيمَ رَأْفَةً مِنْهُ، وَرَحْمَةً لِلْوَلَدِ، وَرِقَّةً عَلَيْهِ، وَالقلْبُ مُمْتَلِئٌ بِالرِّضَى عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشُكْرِهِ، وَاللِّسَانُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرِهِ وَحَمْدِهِ (¬3). * لَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (15/ 62). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18550) (18624). (¬3) انظر زاد المعاد (1/ 480). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26305) - وأبو داود في سننه - كتاب =

* كسوف الشمس

وَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ (¬1). فَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ جِدًّا، فِيهِ إِبْرَاهِيمُ بنُ عُثْمَانَ -وَهُوَ الْعَبْسِيُّ- مَتْرُوكٌ. وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ الْبَرَاءَ بْنِ عَازِب -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا (¬2). فِي سَنَدِهِ جَابِرُ بنُ يَزِيدٌ الجُعْفِيُّ -وَهُوَ ضَعِيفٌ-. قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: اخْتُلِفَ فِي السَّبِبِ الذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُصلِّ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: اسْتَغْنَى بِبُنُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ قُرْبَةِ الصَّلَاةِ التِي هِيَ شَفَاعَةٌ لَهُ، كَمَا اسْتَغْنَى الشَّهِيدُ بِشَهَادَتِهِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إِنَّهُ مَاتَ يَوْمَ كُسِفَتِ الشَّمْسُ، فَاشْتَغَلَ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ (¬3). * كُسُوفُ الشَّمْسِ: وَانْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ = الجنائز - باب في الصلاة على الأطفال - رقم الحديث (3187) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (4325). (¬1) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الصلاة على ابن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1511). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18497). (¬3) انظر زاد المعاد (1/ 495).

فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهيمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَادْعُوا وَصَلوا حَتَّى تَنْجَلِي" (¬1). وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَده بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالُوا: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، أَلَا وإنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا كذَلِكَ، فَافْزَعُوا إِلَى الْمَسَاجِدِ" (¬2). قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أُمِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بِالصَّلَاةِ عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالقمَرِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَأطْلِقَ هَذَا الْمَقْصُودُ عَلَى سَبَبِهِ، وَهُوَ الْمَسَاجِدُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَّصِلُ فِيهَا، لَا أَنَّ الْمَسَاجِدَ يُسْتَغْنَى بِحُضُورِهَا عِنْدَ كُسُوفِ الشَّمْسِ أَوِ الْقَمَرِ دُونَ الصَّلَاةِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الكسوف - باب الصلاة في كسوف الشمس - رقم الحديث (1043) - ومسلم في صحيحه - كتاب الكسوف - باب ذكر النداء بصلاة الكسوف - رقم الحديث (915) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الصلاة - باب صلاة الكسوف - رقم الحديث (2827). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23629). (¬3) انظر صحيح ابن حبان (7/ 69).

* فضائل إبراهيم عليه السلام ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* فَضَائِلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ أَبِي أَوْفَى: رَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: مَاتَ صَغِيرًا، وَلَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَبِيٌّ عَاشَ ابْنُهُ، وَلَكِنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أنَّهُ قَالَ: لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَكَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأدب - باب من سمي بأسماء الأنبياء - رقم الحديث (6194). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12358).

6 - وفد كندة

6 - وَفْدُ كِنْدَةَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَدِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ قَبِيلَةِ كِنْدَةَ، عَلَى رَأْسِهِمُ الْأَشْعثُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ بِالْيَمَنِ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَفْدٍ لَا يَرَوْنَ أَنِّي أَفْضَلُهُمْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكَ مِنَّا! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بَنُو كِنَانَةَ، لَا نَقْفُوا أُمَّنَا (¬1)، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا". فَكَانَ الْأَشْعَثُ يَقُولُ: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ نَفَى قُرَيْشًا مِنَ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَفْدِ كِنْدَةَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ لَكَ مِنْ ولدٍ؟ ". ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في النهاية (4/ 83): أي لا نتهمها ولا نقذفها، وقيل معناه: لا نترك النسب إلى الآباء وننتسب إلى الأمهات. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21839) - وابن ماجه - كتاب الحدود - باب من نفى رجلًا من قبيلة - رقم الحديث (2612).

قُلْتُ: غُلَامٌ وُلِدَ لِي فِي مَخْرَجِي إِلَيْكَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ مَكَانَهُ شِبَعُ الْقَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَقُولَنَّ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِمْ قُرَّةَ عَيْنٍ، وَأَجْرًا إِذَا قُبِضُوا، ثُمَّ لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّهُمْ لَمَجْبَنةٌ مَحْزَنَةٌ (¬1)، إِنَّهُمْ لَمَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ" (¬2). زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: "وَمَبْخَلة". وَكَانَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ سَيِّدًا مُطَاعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَجِيهًا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، وَشَهِدَ بَعْدَ دلِكَ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي اللَّه عنه-، الْقَادِسِيَّةَ وَالْمَدَائِنَ، وَجَلُولَاءَ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ بِالْكُوفَةِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) قال الإمام البغوي في شرح السنة (13/ 36): أراد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الرجل إذا كثر ولده بخل بماله إبقاء عليهم، وجبن عن الحروب استبقاء لنفسه. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21840) - وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 78) وقال: تفرد به أحمد، وهو حديث حسن جيد الإسناد. (¬3) انظر أسد الغابة (1/ 115).

بعث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وخالد بن الوليد -رضي الله عنه- إلى اليمن

بَعْثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْيَمَنِ وَفِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْهِجْرَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَهُ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَقْبِضَ الْخُمُسَ مِنْ خَالِد -رضي اللَّه عنه-، وَيُعَلِّمَهُمُ الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَبْعَثُنِي، وَأنا شَابٌّ أَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَلَا أدْرِي مَا الْقَضَاءُ؟ (¬1). فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ فِي صَدْرِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ، وَثَبِّتْ لِسَانَهُ" (¬2). ثُمَّ أَوْصَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: "يَا عَلِيُّ إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الْخَصْمَانِ، فَلَا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الْآخَرِ، مَا سَمِعْتَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ". قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا اخْتَلَفَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ، أَوْ مَا أَشْكَلَ عَلَيَّ قَضَاءٌ بَعْدُ. ¬

_ (¬1) في رواية الطيالسي: لا علم لي بكثير من القضاء. (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (636) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1195) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (100) - وابن ماجه في سننه - كتاب الأحكام - باب ذكر القضاة - رقم الحديث (2310) - وإسناده صحيح.

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا أَعْيَانِي قَضَاءٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ (¬1). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "مُرْ أَصْحَابَ خَالِدٍ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ أَنْ يُعَقِّبَ (¬2) مَعَكَ فَلْيُعَقِّبْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقْبِلْ" (¬3). فَخَرَجَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، حَتَّى أَتَى الْيَمَنَ؛ لِيَقْبِضَ خُمُسَ الْغَنَائِمِ التِي غَنِمَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-، فَأتوْا بِغَنَائِمَ وَأَطْفَالٍ وَنسَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْغَنَائِمِ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه-. ثُمَّ بَعَثَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْغَنَائِمِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ (¬4). فِي أَدِيمٍ (¬5) مَقْرُوظٍ (¬6) لَمْ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (690) - وأخرجه في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1195) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (100) - وإسناده حسن. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 392): أي يرجع إلى اليمن، والذي يظهر أن الخليفة يرسل العسكر إلى جهة مدة، فإذا انمضت رجعوا وأرسل غيرهم، فمن شاء أن يرجع من العسكر الأول مع العسكر الثاني سمي رجوعه تعقيبًا. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4349). (¬4) ذُهَيبة: تصغير ذهب. انظر النهاية (2/ 160). (¬5) الْأَدِيم: الجلد. انظر لسان العرب (1/ 96). (¬6) مَقْرُوظ: أي مدبوغ بالقَرَظ، وهو ورق السَّلَم. انظر النهاية (4/ 38). والسَّلَم: نوع من أنواع الشجر.

* مثل في الأمانة

تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا (¬1)، قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعِ إِمَّا عَلْقَمَةَ (¬2)، وإمَّا عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ (¬3). * مَثَلٌ فِي الأَمَانةِ: وَلَقَدْ ضَرَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مَثَلًا عَالِيًا فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ التِي نِيطَتْ بِهِ (¬4)، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ -رضي اللَّه عنه-: فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا -وَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي إِبِلِنَا خَلَلًا- فَأَبَى عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ مَنْهَا سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مِنْ أَمْرِ الْيَمَنِ، انْطَلَقَ رَاجِعًا مُسْرِعا، حَتَّى أَدْرَكَ الْحَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَانَ أَمَّرَ عَلَيْنَا إِنْسَانًا، فَلَمَّا قَضَى حَجَّتَهُ قَالَ له النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْجعْ إِلَى أَصْحَابِكَ حَتَّى تَقْدُمَ عَلَيْهِمْ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدْ كُنَّا سَأَلْنَا الذِي اسْتَخْلفهُ مَا كَانَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- مَنَعَنَا إِيَّاهُ فَفَعَلَ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- عَرَفَ أَنَّ إِبِلِ الصَّدَقَةِ قَدْ رُكِبَتْ، وَرَأَى أَثَرَ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 395): أي لم تخلص من تراب المعدن. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 395): أي ابن عُلاثة بضم العين العامري، وأسلم علقمة فحسن إسلامه، وأما ذكر عامر بن الطفيل غلط من عبد الواحد -أحد رواة هذا الحديث- فإنه كان مات قبل ذلك. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4351). (¬4) نِيطَتْ به: أي عُلِّقتْ به. انظر المعجم الوسيط (2/ 963).

* موقف بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- من علي -رضي الله عنه-

المَرْكَبِ، فَذَمَّ الذِي أَمَّرَهَ وَلَامَهُ، وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- ذَلِكَ مِنْهُ غِلْظَةً وَتَضَيُّقًا، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ شَكَى أَبُو سَعِيد الْخُدْرِيُّ -رضي اللَّه عنه- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا كَانَ مِنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى إِدا كُنْتُ فِي وَسَطِ كَلَامِي ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى فَخِذِي، وَكُنْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَقَالَ: "يَا سَعْدَ بْنَ مَالِكِ (¬1) بْنِ الشَّهِيدِ (¬2) مَهْ بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَحْسَنَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ -رضي اللَّه عنه-: . . . وَاللَّهِ لَا أَذْكُرُهُ بِسُوءٍ أَبَدًا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً (¬3). * مَوْقِفُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- مِنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ بريْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيًّا إِلَى خَالِدٍ؛ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ، وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا وَقَدِ اغْتَسَلَ (¬4)، فَقُلْتُ لِخَالِدٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا؟ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا بُرَيْدَةُ أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ ". ¬

_ (¬1) هو اسم أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬2) والد أبي سعيد هو مالك بن سنان، وقد استشهد في غزوة أُحد، ولذلك قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي سعيد: "ابن الشهيد". (¬3) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (5/ 398 - 399) - وأورده ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 112) - وقال: هذا إسناد جيد على شرط النسائي، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة. (¬4) هذه رواية الإمام البخاري - وفي رواية الإمام أحمد: فأصبح عليّ -رضي اللَّه عنه- ورأسه يقطر. وسيأتي بعد قليل سبب اغتسال عليّ -رضي اللَّه عنه-.

قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تُبْغِضُهُ فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ" (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ بريْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ عَلِيِّ بِنِ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى أَحْبَبْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَا أُحِبُّهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِ عَلِيٍّ، فبعِثَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى خَيْلٍ، فَصَحِبْتُهُ، وَمَا أَصْحَبُهُ إِلَّا عَلَى بَغْضَاءِ عَلِيٍّ، فَأَصَابَ سَبْيًا، فكَتَبَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبْعَثَ له مَنْ يُخَمِّسُهُ، فَبُعِثَ إِلَيْنَا عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه-، وَفِي السَّبْي وَصِيفَةٌ (¬2) مِنْ أَفْضَلِ السَّبْي، فَلَمَّا خَمَّسَهُ، صَارَتِ الْوَصِيفَةُ فِي الْخُمُسِ، ثُمَّ خَمَّسَ، فَصَارَتْ فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ خَمَّسَ، فَصَارَتْ فِي آلِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، فَأتَانَا وَرَأْسُهُ تَقْطُرُ، فَقُلْنَا: مَا هَذَا (¬3)؟ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب بعث عليّ، وخالد بن الوليد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4350) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23036). (¬2) وَصِيفَةٌ: أي أَمَةٌ. انظر النهاية (5/ 166). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 394): وقد استشكل وقوع عليّ -رضي اللَّه عنه- على الجارية بغير استبراء، وكذلك قسمته لنفسه، فأما الأول فمحمول على أنها كانت بكرًا غير بالغ، ورأى أن مثلها لا يستبرأ، كما صار إليه غيره من الصحابة، ويجوز أن تكون حاضت عقب صيرورتها له، ثم طهرت بعد يوم وليلة، ثم وقع عليها وليس ما يدفعه، وأما القسمة فجائزة في مثل ذلك ممن هو شريك فيما يقسمه كالإمام إذا قسم بين الرعية، وهو منهم، فكذلك من نَصّبه الإمام قام مقامه. ويؤخذ من الحديث: جواز التسري -أي اتخاذ السرايا- على بنت رَسُول اللَّهِ بخلاف التزويج عليها.

قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْوَصِيفَةِ صَارَتْ فِي الْخُمُسِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ صَارَتْ فِي آل عَلِيٍّ، وَقَعْتُ عَلَيْهَا، فكَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقُلْتُ: ابْعَثْنِي، فَبَعَثَنِي مُصَدِّقًا، فَجَعَلْتُ أَقْرَأُ الْكِتَابَ، وَأَقُولُ: صَدَقَ، فَأَمْسَكَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "أَتُبْغِضُ عَلِيًّا؟ ". فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا (¬1) تُبْغِضْهُ، وَإِنْ كنْتَ تُحِبُّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبًّا، فَوَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ (¬2) لَنَصِيبُ آلِ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ". قَالَ بُرَيْدَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَمَا كَانَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَلِيٍّ (¬3). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ بُريْدَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ عَلِيٍّ الْيَمَنَ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَكَرْتُ عَلِيًّا، فَتَنَقَّصْتُهُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ: "يَا بُرَيْدَةُ، أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ "، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ" (¬4). وَرَوَى الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) في رواية الإمام أحمد في مسنده: "فلا". (¬2) في رواية الإمام أحمد في مسنده قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فوالذي نفس محمد بيده". (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22967) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3051). (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22945).

قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعَثَ إِلَى الْيَمَنِ جَيْشَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَى أَحَدِهِمَا عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه-، وَعَلَى الآخَرِ خَالِدًا -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: "إِذَا كَانَ الْقِتَالُ فَعَلِيٌّ"، قَالَ: فَافْتَتَحَ عَلِيٌّ حِصْنًا، فَأَخَذَ مِنْهُ جَارِيَةً. قَالَ الْبَرَاءُ: فكَتَبَ مَعِي خَالِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُخْبِرُهُ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَرَأَ الْكِتَابَ، رَأَيْتُهُ يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا تَرَى فِي رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُوله"، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ غَضَبِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولٌ، فَسَكَتَ (¬1). وَظَلَّ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- فِي الْيَمَنِ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْإِسْلَامَ، وَكتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُوَافِيَهُ بِالْمَوْسِمِ -مَوْسِمِ الحَجِّ-، فَرَجَعَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَوَافَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ، كَمَا سَيَأْتِي. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الجهاد - باب ما جاء من يستعمل علي الحرب - رقم الحديث (1799) - وأخرجه في كتاب المناقب - باب مناقب عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4045) - وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (1175) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (6184).

7 - وفد حضرموت

7 - وَفْدُ حَضْرَمَوْتَ قَدِمَ وَفْدُ حَضْرَمَوْتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ وَفْدِ كِنْدَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ: وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ (¬1) -رضي اللَّه عنه- وكَانَ أَحَدَ الأَشْرَافِ مِنْ أَبْنَاءِ المُلُوكِ -وَفي طَريقهمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَدِينَةِ أَخَذَ عَدُوٌّ لَهُمْ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ، فَحَلَفَ أَحَدُهُمْ -وَهُوَ سُوَيْدُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ- أَنَّهُ أَخُوهُ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: خَرَجْنَا نُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ له، فَتَحَرَّجَ النَّاسُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أَنَا: إِنَّهُ أَخِي، فَخَلَّي سَبِيلَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخْبَرتُهُ أَنَّ الْقَوْمَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَحْلِفُوا وَحَلَفْتُ أنا: إِنَّهُ أَخِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَنْتَ كُنْتَ أبرَّهُمْ وَأَصْدَقَهُمْ، صَدَقْتَ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمُ" (¬2). فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ رَحَّبَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَقْطَعَ (¬3) وَائِلَ بْنَ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (6/ 466): حُجْر: بضم الحاء وسكون الجيم. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16726) - وابن ماجه في سننه - كتاب الكفارات - باب من وَرّى في يمينه - رقم الحديث (2119) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1874). (¬3) أقطع: أعطى. انظر النهاية (4/ 73).

* حرص وائل بن حجر -رضي الله عنه- على تعلم الدين

حُجْرٍ -رضي اللَّه عنه- أَرْضًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَقْطَعَهُ أَرْضًا، وَأَرْسَلَ مَعَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنْ أَعْطِهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ -رضي اللَّه عنه-: أَرْدِفْنِي خَلْفَكَ، فَقَالَ وَائِلٌ -رضي اللَّه عنه-: لَا تَكُنْ مِنْ أَرْدَافِ الْمُلُوكِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ -رضي اللَّه عنه-: أَعْطِنِي نَعْلَكَ (¬1)، فَقَالَ وَائِلٌ -رضي اللَّه عنه-: انْتَعِلْ ظِلَّ النَّاقَةِ (¬2)، قَالَ: فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ مُعَاوِيَةُ -رضي اللَّه عنه-، أَتَيْتُهُ، فَأَقْعَدَنِي مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَذَكَرَ لِيَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ وَائِلٌ -رضي اللَّه عنه-: وَدِدْتُ أنَي كُنْتُ حَمَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ (¬3). * حِرْصُ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى تَعَلُّمِ الدِّينِ: وَكَانَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ -رضي اللَّه عنه- لَمَّا وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرِيصًا عَلَى تَعَلُّمِ أَمْرِ الدِّينِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقُلْتُ: لَأَنْظُرَنَّ كَيْفَ يُصَلِّي؟ ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبتَيْهِ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى كَانَتَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، ¬

_ (¬1) زاد ابن سعد في طبقاته (1/ 168): إن الرمضاء قد أحرقت قدمي. (¬2) في رواية ابن سعد في طبقاته (1/ 168): قال وائل -رضي اللَّه عنه-: امش في ظل ناقتي كفاك به شرفًا. (¬3) أخرجه الإمام في مسنده - رقم الحديث (27239) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب أصحابه - باب ذكر وائل بن حُجْر - رقم الحديث (7205).

فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ مِنْ وَجْهِهِ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَلَمَّا قَعَدَ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ حَدَّ مِرْفَقِهِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَي، وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ، وَحَلَّقَ وَاحِدَةً، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18850).

8 - وفد مذحج

8 - وَفْدُ مَذْحِجَ (¬1) قَدِمَ وَفْدُ مَذْحِجَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِمْ: هَانِئُ بْنُ يَزِيدَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أخَرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ هَانِئِ بْنِ يَزِيدَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: أَنَّ هَانِئًا لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مَعَ قَوْمِهِ، فَسَمِعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَنُّونَ هَانِئًا أَبَا الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ له: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ؟ ". فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ، رَضُوا بِي حَكَمًا، فَأَحْكُمُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ ذَلِكَ لَحَسَنٌ، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟ ". قَالَ: شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُسْلِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَيُّهُمْ أَكْبَرُ؟ ". قَالَ: شُرَيْحٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ"، فَدَعَا لَهُ وَلوَلَدِهِ، فَلَمَّا أَرَادَ ¬

_ (¬1) مَذْحِج: بفتح الميم، وسكون الذال، وكسر الحاء. انظر معجم البلدان (7/ 233).

الْقَوْمُ الرُّجُوعَ إِلَى بِلَادِهِمْ، أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْضًا حَيْثُ أَحَبَّ فِي بِلَادِهِ، فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يُوجِبُ لِيَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "طِيبُ الْكَلَامِ، وَبَذْلُ السَّلَامِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ" (¬1). وَهَكَذَا تَتَابَعَتِ الْوُفُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي سَنَتَيْ تِسْعٍ وَعَشْرٍ، وَتَأَخَّرَ بَعْضُهَا إِلَى السَّنَةِ الْحَادِيَةَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ. * * * ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب البر والإحسان - باب ذكر إيجاب الجنة للمرء بطيب الكلام - رقم الحديث (504) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (627) - وأخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب الإيمان - باب إذا زنى العبد خرج منه الإيمان - رقم الحديث (70).

حجة الوداع

كَلِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمَّا تَمَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ تَطْهِيرِ نُفُوسِ الْأُمَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الْوَثَنِيَّةِ، وَعَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَارَتِهَا بِنُورِ الْإِيمَانِ، وَإِشْعَالِ مَجَامِرِهَا بَالْحُبِّ وَالْحَنَانِ، وَتَمَّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ تَطْهِيرِ بَيْتِهِ مِنَ الرِّجْسِ وَالْأَوْثَانِ، وَتَاقَتْ نُفُوسُ الْمُسْلِمِينَ، الذِينَ بَعُدَ عَهْدُهُمْ عَنْ حَجِّ الْبَيْتِ، وَطفَحَتْ كَأْسُ الْحُبِّ وَالْحَنَانِ، حَتَّى فَاضَتْ، وَدَنَتْ سَاعَةُ الْفِرَاقِ، وَأَلْجَأَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى وَدَاعِ الْأُمَّةِ، آذَنَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْحَجِّ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَحُجَّ الْبَيْتَ، وَيَلْقَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُعَلِّمَهُمْ دِينَهُمْ وَمَنَاسِكَهُمْ، وَيُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ، ويُبَلِّغَ الْأَمَانَةَ، وَيُوصِي الْوَصَايَا الْأَخِيرَةَ، وَيَأْخُذَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَيَمْحُوَ آثارَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَطْمِسَهَا وَيَضَعَهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَجَّةُ تَقُومُ مَقَامَ أَلْفِ خُطْبَةٍ، وَأَلْفِ دَرْسٍ، وَكَانَتْ مَدْرَسَةً مُتَنَقِّلَةً، وَمَسْجِدًا سَيَّارًا، وَثُكَنَةً (¬1) جَوَّالَةً، يتعَلَّمُ فِيهَا الْجَاهِلُ، وَيَنْتَبِهُ الْغَافِلُ، وَيَنْشَطُ فِيهَا الْكَسْلَانُ، وَيَقْوَى فِيهَا الضَّعِيفُ، وَكَانتْ سَحَابَةَ رَحْمَةٍ تَغْشَاهُمْ فِي ¬

_ (¬1) الثُّكَنَةُ: بضم الثاء مراكز الجند. انظر لسان العرب (2/ 116).

* تسجيل دقائق حجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

الْحِلِّ وَالتِّرْحَالِ، وَهِيَ سَحَابَةُ صُحْبَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَحُبِّهِ وَعَطْفِهِ، وَتَرْبِيَتِهِ وَإِشْرَافِهِ (¬1). * تَسْجِيلُ دَقَائِقِ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَقَدْ سَجَّلَ الرُّوَاةُ الْعُدُولُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كُلَّ دَقِيقَةٍ مِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْحَجَّةِ، وَكُلَّ حَادِثَةٍ مِنْ حَوَادِثِهَا الصَّغِيرَةِ تَسْجِيلًا لَا يُوجَدُ لَهُ نَظِير فِي رِحْلَاتِ الْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ، وَالْعُلَمَاءِ وَالنُّبَغَاءِ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للشيخ أبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 393. (¬2) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة للشيخ أبي الحسن النَّدْوي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ص 394.

حجة الوداع من بدايتها إلى نهايتها

حجة الوداع من بدايتها إلى نهايتها حَجَّةُ (¬1) الْوَدَاعِ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَجَّةُ الْمُبَارَكَةُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَهَا. فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الجَمَرَاتِ فِي الحَجَّةِ التِي حَجَّ بِهَا، وَقَالَ: "هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ"، فَطَفِقَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ"، وَوَدَّعَ النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ (¬2). وَتُسَمَّى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَحُجَّ مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ (¬3) غَيْرَهَا. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 152): الحج في اللغة: القصد، وفي الشرع: القصد إلى بيت اللَّه الحرام بأعمال مخصوصة. . . ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وأجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الخطبة أيام منى - رقم الحديث (1742). (¬3) اختُلِف في زمن فرض الحج: فقيل: سنة ست من الهجرة، واستُدِل على ذلك بقوله تَعَالَى في سورة البقرة آية (196): {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ}. وهذه الآية نزلت بالحديبية سنة ست، وليس فيه ابتداء فرض الحج، وإنما فيه الأمر بإتمامه إذا شرع فيه. والصحيح أن الحج فُرض في السنة التاسعة من الهجرة. وجزم ابن القيم في زاد المعاد (2/ 96) (3/ 520) بأن فرضه كان في العام التاسع =

* هل حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة أم لا؟

وَتُسَمَّى حَجَّةَ الْبَلَاغِ وَالتَّمَامِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَلَّغَ النَّاسَ شَرْعَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ دَعَائمِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ شَرِيعَةَ الْحَجِّ، وَوَضَّحَهُ، وَشَرَحَهُ، أَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَةَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1). * هَلْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ الهِجْرَةِ أَمْ لَا؟ : رَوَي التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ: حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ (¬2). وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ ¬

_ = الهجري، فقال: وعلى هذا، فلم يُؤخر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحج بعد فرضه عامًا واحدًا، بل بادر إلى الامتثال في العام الذي فرض فيه، وهذا هو اللائق بهديه وحاله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآية فرض الحج هي قوله تَعَالَى في سورة آل عمران آية (97): {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وقد نزلت عام الوفود أواخر سنة تسع من الهجرة النبوية. وإنما تأخر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المبادرة إلى الحج في السنة التاسعة لكراهة الاختلاط في الحج بأهل الشرك؛ لأنهم كانوا يحجون ويطوفون بالبيت عُراة، فلما طَهّر اللَّه البيت الحرام منهم حج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬1) سورة المائدة آية (3) - وانظر البداية والنهاية (5/ 115) للحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء: كم حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ رقم الحديث (826) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب حجة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3076) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1784).

* خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة للحج

-صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حِجَجًا، وَحَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ الْوَدَاعَ (¬1). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ -أَيْ حَجُّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ الْهِجْرَةِ- عَلَى عَدَدِ وُفُودِ الْأَنْصَارِ إِلَى الْعَقَبَةِ بِمِنًى بَعْدَ الْحَجِّ، فَإِنَّهُمْ قَدِمُوا أَوَّلًا فَتَوَاعَدُوا، ثُمَّ قَدِمُوا ثَانِيًا فَبَايَعُوا الْبَيْعَةَ الْأُولَى، ثُمَّ قَدِمُوا ثَالِثًا، فَبَايَعُوا الْبَيْعَةَ الثَّانِيَةَ -كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ- (¬2). * خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْحَجِّ: وَفي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ لِلْهِجْرَةِ أُذِّنَ فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَاجٌّ هَذَا الْعَامَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُول اللَّهِ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ (¬3). قَالَ جَابِرٌ (¬4) -رضي اللَّه عنه-: فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا إِلَّا قَدِمَ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب المغازي والسرايا - باب ذكر حجاته -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4439) - وأورده الحافظ في الفتح (8/ 440) وصحح إسناده. (¬2) انظر فتح الباري (8/ 440). (¬3) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3858). (¬4) جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أفضل الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سياقًا لرواية حديث حجة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- التي هي حجهَ الوداع، فإنه -رضي اللَّه عنه- ذكرها من حين خرج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها. (¬5) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب إهلال النفساء - رقم الحديث =

وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ، قَالَ جَابِر -رضي اللَّه عنه- وَهُوَ يَصِفُ كَثْرَةَ النَّاسِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ-: فنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي مَدَّ بَصَرِي، وَالنَّاسُ مُشَاةٌ، وَرُكْبَانٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُلَبِّي. . . (¬1). خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ (¬2) لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ (¬3)، بَعْدَ أَنْ ترَجَّلَ (¬4) وَادَّهَنَ (¬5)، وَبَعْدَ أَنْ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا (¬6). ¬

_ = (3727) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (3/ 470). (¬1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3943). (¬2) هذا هو الصحيح في يوم خروجه -صلى اللَّه عليه وسلم- من المدينة، وهي رواية ابن سعد في طبقاته (2/ 336) - وجزم بذلك ابن القيم في زاد المعاد (2/ 97) - والحافظ ابن حجر في الفتح (4/ 189) - وابن كثير في البداية والنهاية (5/ 118). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية - رقم الحديث (1545) - وباب ذبح الرجل البقر عن نسائه - رقم الحديث (1709) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الحج - رقم الحديث (1211) (125) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع - رقم الحديث (3928). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 176): تَرجّل: أي سَرّح شعره. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يلبس المحرم من الثياب - رقم الحديث (1545). (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح - رقم الحديث (1546) (1547) - ومسلم في صحيحه - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب صلاة المسافرين وقصرها - رقم الحديث (690) (11) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12818).

* خروج نسائه -صلى الله عليه وسلم- معه

وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الْمَدِينَةِ: أَبَا دُجَانَةَ السَّاعِدِيَّ -رضي اللَّه عنه-، وَيُقَالُ: سِبَاعَ بْن عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * خُرُوجُ نِسَائِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَهُ: خَرَجَ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ حَاجٍّ (¬2)، وَكَانَتْ نِسَاؤُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُلُّهُنَّ مَعَهُ فِي الْهَوَادِج (¬3). رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِنِسَائِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "هَذِهِ الْحَجَّةُ، ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصُرِ" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 257). (¬2) هذه عِدّة من خرج معه -صلى اللَّه عليه وسلم- من المدينة، أما الذين حجوا معه فأكثر من ذلك، كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع عليّ بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهمَا. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 392): الهودج: بفتح الهاء والدال وسكون الواو: هو محمل له قبة تستر بالثياب ونحوه، يوضع علي ظهر البعير، يركب عليه النساء ليكون أستر لهن. (¬4) قال ابن الأثير في النهاية (1/ 380): أي أنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن، وتلزمن الحصر، وهي جمع حصير الذي يبسط في البيوت. وقال البيهقي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (4/ 556): وفي الحديث أن المراد وجوب الحج مرة واحدة كالرجال، لا المنع من الريادة، وفيه دليل على أن الأمر بالقرار في البيوت ليس على سبيل الوجوب. وَقَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 554): والعذر عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها تأولت الحديث المذكور، كما تأوله غيرها من صواحباتها على أن المراد بذلك أنه لا يجب عليهن غير تلك الحجة، وتأيد ذلك عندها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لما سألت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: =

* طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذي الحليفة وإحرامه بها

قَالَ: فَكُنَّ كُلُّهُنَّ يَحْجُجْنَ غَيْرَ زَيْنَبَ بْنِتِ جَحْشٍ، وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، كَانَتَا تَقُولَانِ: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ أَنْ سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ (¬2) وَإِحْرَامُهُ بِهَا: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ -وَهِيَ وَادِي الْعَقِيقِ- سَالِكًا طَرِيقَ الشَّجَرَةِ حَتَّى بَلَغَهَا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي الْعَصْرَ، فَصَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ، ثم بَاتَ هُنَاكَ حَتي أَصْبَحَ (¬3)، وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالصُّبْحَ، وَالظُّهْرَ، فَصَلَّى بِهَا -أَيْ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ- خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَطَافَ (¬4) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى نِسَائِهِ التِّسْعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ. (¬5). ¬

_ = يا رَسُول اللَّهِ ألا نغزو ونجاهد معكم؟ ، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج حج مبرور"، فقالت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1861). (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (9765) (21905) (26751) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5603) (5604) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1752) - وأورده الحافظ في الفتح (4/ 554) وصحح إسناده. (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (8/ 66): ذا الحليفة بضم الحاء مصغرًا: هي ميقات أهل المدينة، وهي أبعد المواقيت من مكة. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب خروج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على طريق الشجرة - رقم الحديث (1533) - وباب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العقيق واد مبارك" - رقم الحديث (1534) - وباب من بات بذي الحليفة حتى أصبح - رقم الحديث (1546) (1547). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (1/ 502): طاف: كناية عن الجماع. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الغسل - باب إذا جامع ثم عاد - رقم الحديث =

فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "أَتَانِي اللَّيْلةَ آتٍ مِنْ رَبِّي (¬1)، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّة" (¬2). ثُمَّ اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِإِحْرَامِهِ، وَهَذَا الْغُسْلُ غَيْرُ غُسْلِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ طَيَّبَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِيَدِهَا بِذَرِيرَةٍ (¬3) وَبِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ، فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ، حَتَّى كَانَ وَبِيصُ (¬4) الطِّيبِ يُرَى فِي مَفْرَقِ رَأْسِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلحْيَتِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ (¬5)، ثمَّ لبَّدَ (¬6) شَعْرَ رَأسِهِ بِالْعَسَلِ (¬7) حَتَّى لا يَشْعَثَ، ثُمَّ تَجَرَّدَ فِي إِزَارِهِ ¬

_ = (267) - وباب من تطيب ثم اغتسل - رقم الحديث (270) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الطيب للمحرم عند الإحرام - رقم الحديث (1192). (¬1) قَالَ الحَافِظ فِي الفَتْحِ (4/ 171): هو جبريل عليه السلام. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العقيق واد مبارك" - رقم الحديث (1534) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (161). (¬3) الذريرة: هي نوع من الطيب مجموع في أخلاط. انظر النهاية (2/ 146). (¬4) الوبيص: البريق. انظر النهاية (5/ 128). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الطيب عند الإحرام - رقم الحديث (1538) (1539) - وأخرجه في كتاب اللباس - باب الذريرة - رقم الحديث (5930) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الطيب للمحرم عند الإحرام - رقم الحديث (1189) (35) (1190) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24107). (¬6) تَلْبِيدُ الشَّعر: أن يُسرح ويُجعل فيه شيء من صمغ ليلتزق، لئلا يشعث، ويقمل عند الإحرام، وأصون له من استقرار التراب والغبار فيه. انظر النهاية (4/ 194) - جامع الأصول (3/ 44). (¬7) أخرج ذلك أبو داود في سننه - رقم الحديث (1748) وإسناده ضعيف فيه محمد بن إسحاق مدلس، ولم يصرح بالتحديث -ومع ذلك فقد جود إسناده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 123). ووقع في جامع الأصول لابن الأثير - رقم الحديث (1319) بلفظ: الغِسل بالغين. =

وَرِدَائِهِ (¬1)، ثُمَّ دَعَا بِهَدْيِهِ فَأَشْعَرَهُ وَقَلَّدَهُ (¬2)، وَكَانَ عَلَى هَدْيِهِ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيُّ (¬3) -رضي اللَّه عنه-، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ (¬4)، وَقِيلَ: إِنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِلْإِحْرَامِ (¬5). ¬

_ = قال ابن الأثير: الغِسل: بكسر الغين ما يُغتسل به من خِطمي وغيره، وبالضم: اسم الفعل، وبالفتح: المصدر. وجزم ابن القيم فِي زاد المعاد (2/ 148): أنها بالغين، فقال رَحِمَهُ اللَّهُ: ولبّد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رأسه بالغِسل، وهو بالغين المعجمة على وزن كِفل، وهو ما يُغسل به الرأس من خِطمي ونحوه يُلبد به الشعر حَتَّى لا ينتشر. وقال ابن عبد السلام فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (4/ 180): يحتمل أنَّه بفتح المهملتين، ويحتمل أنَّه بكسر المعجمة، وسكون المهملة، وهو ما يغسل به الرأس من خِطمي أو غيره. الْخِطمي: بكسر الخاء: هو نبات ليّن نافع يُغسل به. انظر نيل الأوطار (2/ 365) - لسان العرب (4/ 147). قلت: -القائل الحافظ ابن حجر- ضبطناه في روايتنا في سنن أبي داود بالمهملتين. (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يلبس المحرم من الثياب - رقم الحديث (1545) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام - رقم الحديث (845) - وانظر نيل الأوطار للشوكاني (2/ 363). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب فتل القلائد للبدن والبقر - رقم الحديث (1697) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام - رقم الحديث (1243) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2528). (¬3) انظر الطبَّقَات الكُبْرى لابن سعد (2/ 336). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال - رقم الحديث (1551). (¬5) قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي زاد المعاد (2/ 101): ولم ينقل عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. =

ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي مُصَلَّاهُ وَقَرَنَ بَيْنَهُمَا (¬1)، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكِبَ نَاقتَهُ الْقَصْوَاءَ (¬2) فَأَهَلَّ أَيْضًا (¬3)، ثُمَّ أَهَلَّ لَمَّا اسْتَقَلَّتْ (¬4) بِهِ عَلَى ¬

_ = قلت: لكن روى الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب التلبية وصفتها ووقتها - رقم الحديث (1184) (21) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به قائمة عند مسجد الحليفة، أهل بهؤلاء الكلمات -أي بكلمات التلبية وهي: لبيك اللهم لبيك. . . . قال الإِمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (8/ 75): فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام ويكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إِلَّا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البَصْرِي: أنَّه استحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور، وهو ظاهر الحديث. (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13349) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ما جاء في حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3932) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب الإحرام - رقم الحديث (2917) وإسناده صحيح. (¬2) قلت: لم يثبت أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اعتمر أو حج ماشيًا. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي البداية والنهاية (5/ 120): ولم يعتمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في شيء من عمره ماشيًا لا في الحديبية، ولا في القضاء، ولا في الجعرانة، ولا في حجة الوداع، وأما ما رواه البزار في مسنده عن أبي سعيد قال: حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، قد ربطوا أوساطهم، ومشيهم خلط الهرولة. فهذا حديث منكر ضعيف الإسناد شاذ لا يثبت. (¬3) أخرج ذلك الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أهلَّ حين استوت به راحلته قائمة - رقم الحديث (1552) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب من أمر أهل المدينة بالإحرام. . - رقم الحديث (1186) (24) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2358). (¬4) استقلت: أي قامت. انظر النهاية (4/ 91). وفي رواية أخرى: استوت.

الْبَيْدَاءِ (¬1) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ! حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةً" (¬2). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَاكِبًا عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ (¬3)، وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَوْ لَا تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمٍ (¬4). ¬

_ (¬1) الْبَيْدَاءُ: أي الأرض، وليس المقصود بالبيداء هنا المكان المعروف بين مكة والمدينة. انظر البداية والنهاية (5/ 126). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأُزر - رقم الحديث (1545) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وباب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام - رقم الحديث (1243) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2358). (¬2) أخرج ذلك ابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب الحج على الرحل - رقم الحديث (2890) - والترمذي فِي الشمائل - باب ما جاء فِي تواضع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (341) - وأورده الحافظ في الفتح (4/ 156) - والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 119) وضعفا إسناده -لكن للحديث شواهد كثيرة أوردها الألباني رحمه اللَّه تعالى في السلسلة الصحيحة- رقم الحديث (2617) - وختم كلامه بقوله: وجملة القول أن الحديث صحيح بهذه الطرق. (¬3) رَثٌّ: أي خَلِق بالي. انظر النهاية (2/ 179). (¬4) أخرج ذلك ابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب الحج على الرحل - رقم الحديث (2890) - والترمذي في الشمائل - باب ما جاء في تواضع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (341) - وأورده الحافظ في الفتح (4/ 156) - والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 119) وضعفا إسناده - لكن للحديث شواهد كثيرة أوردها الألباني رحمه اللَّه تعالى في السلسلة الصحيحة - رقم الحديث (2617) - وختم كلامه بقوله: وجملة القول أن الحديث صحيح بهذه الطرق. قلت: علقه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الحج على الرحل - رقم الحديث (1517) عن ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس قال: حج أنس على رَحل، ولم يكن شحيحًا، وحَدّث أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حج على رحل، وكانت زاملته. =

* تلبية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* تَلْبِيَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثُمَّ لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ" (¬1). "لبَّيْكَ: إِلَهَ الْحَقِّ لبَّيْكَ" (¬2). وَالنَّاسُ مَعَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يزِيدُونَ فِي التَّلْبِيَةِ، وَيَنْقُصُونَ، وَهُوَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقِرُّهُمْ، وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: وَلَبَّى النَّاسُ، وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ: ذَا الْمَعَارجِ، وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْمَعُ، فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ شَيْئًا (¬3). ¬

_ = ووصله الحافظ البيهقي في سننه كما قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي البداية والنهاية (5/ 119). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 156): الزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل وهو الحمل، والمراد أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم تكن معه زاملة تحمل طعامه ومتاعه، بل كان ذلك محمولًا معه على راحلته، وكانت هي الراحلة والزاملة. (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التلبية - رقم الحديث (1549) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب التلبية وصفتها ووقتها - رقم الحديث (1184) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإحرام - رقم الحديث (3799). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8497) - وابن ماجه في سننه - كتاب الحج - باب التلبية - رقم الحديث (2920) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإحرام - رقم الحديث (3800) وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬3) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14440) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. وأما ما رواه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1475) عن سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- أنه سمع رجلًا يقول: لبيك ذا المعارج. =

* ولادة محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ (¬1). قَالَ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ (¬2). وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الْعَجُّ (¬3) وَالثَّجُّ (¬4) ". * وِلَادَةُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: وَفِي ذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ (¬5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ¬

_ = فقال سعد -رضي اللَّه عنه-: إنه لذو المعارج، ولكنا كنا مع رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لا نقول ذلك. فسنده ضعيف لانقطاعه، وهو مخالف لحديث جابر -رضي اللَّه عنه- الصحيح. (¬1) أخرج ذلك الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5782) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإحرام - رقم الحديث (3803) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16556) - وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة فِي مصنَّفه - رقم الحديث (15288) - وأورده الحافظ في الفتح (4/ 191) وصحح إسناده. (¬3) الْعَجُّ: بفتح العين، رفع الصوت بالتلبية. انظر النهاية (3/ 167). (¬4) الثَّجُّ: بفتح الثاء: سيلان دماء الهدي والأضاحي. انظر النهاية (1/ 202). والحديث أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5789) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب رفع الصوت بالتلبية - رقم الحديث (2924) - والحاكم فِي المستدرك - كتاب المناسك - باب أي العمل أفضل؟ - رقم الحديث (1697). (¬5) أسماء بنت عميس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كانت زوجة جعفر بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، فلما قُتِل عنها يوم مؤتة، تزوجها أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- فلما مات عنها أبو بكر -رضي اللَّه عنه-، تزوجها علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-.

زَوْجُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ خَرَجَ حَاجًّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَمَعَهُ امْرَأَتَهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ (¬1)، وَلَدَتْ أَسْمَاءُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَتَى أَبُو بَكْرٍ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ، وَتَسْتَثْفِرَ (¬2) بِثَوْبٍ، ثُمَّ تُهِلَّ بِالْحَجِّ، وَتَصْنَعَ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ (¬3). قَالَ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي قِصَّتِهَا ثَلَاثُ سُنَنٍ: إِحْدَاهُمَا: غُسْلُ الْمُحْرِمِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْحَائِضَ تَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح مسلم: أنها ولدت بالشجرة. وفي رواية النسائي في السنن الكبرى: أنها ولدت بالبيداء. قال النووي في شرح مسلم (8/ 108): وهذه المواضع الثلاثة متقاربة، فالشجرة بذي الحليفة، وأما البيداء فهي بطرف ذي الحليفة. (¬2) تَسْتَثْفِرُ: هو أن تشد فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي قُطنًا، وتوثق طرفيها فِي شيء تشده على وسطها، فتمنع بذلك سيل الدم. انظر النهاية (1/ 209). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب إحرام النفساء - رقم الحديث (1209) (1210) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب النفساء والحائض تهل بالحج - رقم الحديث (2911) (2912) (2913) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب الغسل للإهلال - رقم الحديث (3629) (3630). (¬4) انظر زاد المعاد (2/ 150).

* مسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة وأحداث جرت في الطريق

* مَسِيرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ وَأَحْدَاثٌ جَرَتْ فِي الطَّرِيقِ: مَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي طَرِيقِهِ إِلَى مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الطَّرِيقِ حَدَثَتْ بَعْضُ الْأَحْدَاثِ، مِنْ ذَلِكَ: * شَأْنُ الْمَاشِي عَلَى قَدَمَيْهِ: روَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ حِبَّانَ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا (¬1) يُهَادَى (¬2) بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا لَهُ؟ ". قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ مَاشِيًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ مَشْي هَذَا، فَلْيَرْكَبْ" (¬3) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إِمَّا لِأَنَّ الْحَجَّ رَاكِبًا أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ مَاشِيًا، فنَذْرُ الْمَشْي يَقْتَضِي الْتِزَامَ تَرْكِ الْأَفْضَلِ، فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية الإِمام البخاري: شيخًا. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 561): يُهادى: بضم الياء من المهاداة، وهو أن يمشي معتمدًا على غيره. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب جزاء الصيد - باب من نذر المشي إلى الكعبة - رقم الحديث (1865) - ومسلم في صحيحه - كتاب النذر - باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة - رقم الحديث (1642) - وابن حبان في صحيحه - كتاب النذور - باب ذكر إباحة ركوب الناذر المشي إلى بيت اللَّه الحرام - رقم الحديث (4383). (¬4) انظر فتح الباري (4/ 562).

* هل للصبي حج أم لا؟

* هَلْ لِلصَّبِيِّ حَجٌّ أَمْ لَا؟ : رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّ بِامْرَأَةٍ، فَقِيلَ لَهَا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخَذَتْ بِعَضُدِ صَبِيٍّ كَانَ مَعَهَا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ" (¬1). قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حَجَّ الصَّبِيِّ مُنْعَقِدٌ صَحِيحٌ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُجْزِيهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَقَعُ تَطَوُّعًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِيهِ (¬2). * شَأْنُ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ الضَّمْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ يُرِيدُ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ (¬3)، إِذَا حِمَارٌ وَحْشِيٌّ عَقِيرٌ (¬4)، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: "دَعُوهُ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ صَاحِبُهُ"، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْرٍ، وهو صاحبه، إِلَى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَأْنُكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ، فَأَمَرَ ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب صحة حج الصبي - رقم الحديث (1336) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإحرام - رقم الحديث (3797). (¬2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 84). (¬3) الرَّوْحَاء: موضع بينه وبين المدينة ستة وثلاثين ميلًا. انظر جامع الأصول (9/ 379). (¬4) عقير: أي منحور، لكنه لم يمت. انظر النهاية (3/ 246).

* المحرم يؤدب غلامه

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأُثَايَةِ بَيْنَ الرُّوَيْثَةِ وَالْعَرْجِ (¬1)، إِذَا ظَبْيٌ حَاقِفٌ (¬2) فِي ظِلٍّ، وَفِيهِ سَهْمٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَقِفُ عِنْدَهُ لَا يَرِيبُهُ (¬3) أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ (¬4). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ إِذَا لَمْ يَصِدْهُ لِأَجْلِهِ، وَأَمَّا كَوْنُ صَاحِبِهِ لَمْ يُحْرِمْ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَمُرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَهُوَ كَأَبِي قَتَادَةَ -رضي اللَّه عنه- فِي قِصَّتِهِ (¬5). وَالْفَرْقُ بَيْنَ قِصَّةِ الظَّبْي، وَقِصَّةِ الْحِمَارِ، أَنَّ الذِي صَادَ الْحِمَارَ كَانَ حَلَالًا، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ، وَهَذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ حَلَالٌ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي أَكْلِهِ، وَوَكَّلَ مَنْ يَقِفُ عِنْدَهُ، لِئَلَّا يَأْخُذَهُ أَحَدٌ حَتَّى يُجَاوِزُوهُ (¬6). * الْمُحْرمُ يُؤَدَّبُ غُلَامَهُ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِالْعَرْجِ (¬7)، وَكَانَتْ زِمَالَتُهُ (¬8) وَزِمَالَةُ ¬

_ (¬1) الْأُثَايَةُ والرُّوَيْثَةُ والْعَرْجُ: كلها مواضع بين مكة والمدينة. انظر النهاية (3/ 184). (¬2) حَاقِفٌ: أي نائم قد انحنى فِي نومه. انظر النهاية (1/ 396). (¬3) لا يريبه: أي لا يتعرض له ويزعجه. انظر النهاية (2/ 260). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15450) (15744) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الهبة - باب ذكر إباحة قبول المرء الهبة - رقم الحديث (5111) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الصيد - باب إباحة أكل لحوم الحمر الوحش - رقم الحديث (4837). (¬5) تقدمت قصة أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- في عمرة الحديبية، فراجعها. (¬6) انظر زاد المعاد (2/ 151 - 152). (¬7) الْعَرْجُ بفتح العين وسكون الراء: قرية جامعة، على أيام من المدينة. انظر النهاية (3/ 184). (¬8) قَالَ الحَافِظ فِي الفَتْحِ (4/ 156): الزمالة: البعير الذي يُحمل عليه الطعام والمتاع.

* تلبية الأنبياء عليهم السلام

أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- وَاحِدَةً، وَكَانَتْ مَعَ غُلَامِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَائِشَةُ إِلَى جَنْبِهِ، وَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ وَأَسْمَاءُ ابْنَتُهُ إِلَى جَنْبِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ غُلَامَهُ وَالزِّمَالَةَ، إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ لَيْسَ مَعَهُ الْبَعِيرُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَيْنَ بَعِيرُكَ؟ قَالَ: أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ، فَطَفِقَ (¬1) يَضْرِبُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَتَبَسَّمُ، وَيَقُولُ: "انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ؟ "، وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، وَيتَبَسَّمُ (¬2). * تَلْبِيَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَادِي عُسْفَانَ، قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ! أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ ". قَالَ: وَادِي عُسْفَانَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ وَصالِحٌ عَلَى بَكَرَاتٍ (¬3) حُمْرٍ خُطُمُهَا (¬4) اللِّيفُ، أُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ (¬5)، يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ ¬

_ (¬1) طَفِقَ: بمعنى أخذ وجعل. انظر النهاية (3/ 118). (¬2) أخرج ذلك ابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب التوقي فِي الإحرام - رقم الحديث (2933) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26916) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب المحرم يؤدب غلامه - رقم الحديث (1818) - وإسناده ضعيف - فيه ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. (¬3) الْبَكْر: بفتح الباء: الفتي من الإبل، والأنثى بكرة. انظر النهاية (1/ 147). (¬4) خِطام البعير: بكسر الخاء، هو الحبل الذي يُقاد به البعير. انظر النهاية (2/ 49). (¬5) النِّمَار: هي شملة مخططة من مآزر الأعراب، كأنها أُخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض، واحدتها نَمِرة بفتح النُّون وكسر الميم. انظر النهاية (5/ 103).

* هدية الصعب بن جثامة

الْبَيْتَ الْعَتِيقَ" (¬1). * هَدِيَّةُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ (¬2): أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْأَبْوَاءِ (¬3)، أَوْ وَدَّانَ (¬4)، لَقِيَهُ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ، فَأَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ مِنَ الْكَرَاهَةِ، قَالَ لَهُ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2067) - وإسناده ضعيف. قلت: قد ثبت أن الأنبياء حجوا البيت من ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه - رقم الحديث (166) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . كأني انظر إِلَى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية، وله جُؤار -الجؤار: رفع الصوت بالتلبية-، إِلَى اللَّه بالتلبية، كأني انظر إِلَى يونس بن مَتَّى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف، خطام ناقته خُلْبة -بضم الخاء، هو الليف- وهو يُلبي". (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 503): الصعب: بفتح الصاد وسكون العين، وأبوه جثامة: بفتح الجيم وتشديد الثاء. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 504): الأبواء بفتح الهمزة وسكون الباء: جبل من عمل الفُرع بضم الفاء والراء، قيل: سمي الأبواء؛ لأن السيول تتبوؤه أي تحله. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 504): ودّان بفتح الواو وتشديد الدال، موضع بقرب الجحفة، وودان أقرب إِلَى الجحفة من الأبواء. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب جزاء الصيد - باب إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًا لم يقبل - رقم الحديث (1825) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تحريم الصيد للمحرم - رقم الحديث (1193) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16422).

* فوائد الحديث

قَالَ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ الصَّيْدِ إِذَا كَانَ حَيًّا، وَإِنْ كَانَ مَيْتًا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ لَحْمِهِ (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَلَامَةِ لِقَوْلهِ: فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي. 2 - وَفِيهِ جَوَازُ رَدِّ الْهَدِيَّةِ لِعِلَّةٍ، وَتَرْجَمَ لَهُ الْمُصَنِّفُ -أَيْ الْبُخَارِيُّ- "مَنْ رَدَّ الْهَدِيَّةَ لِعِلَّةٍ". 3 - وَفِيهِ الِاعْتِذَارُ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ الْمُهْدِي. 4 - وَفِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَدْخُلُ فِي الْمُلْكِ إِلَّا بَالْقَبُولِ، وَأَنَّ قُدْرَتَهُ عَلَى تَمَلُّكِهَا لَا تُصَيِّرُهُ مَالِكًا لَهَا. 5 - وَفِيهِ أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يُرْسِلَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الصَّيْدِ الْمُمْتَنِعِ عَلَيْهِ اصْطِيَادُهُ (¬2). * نُزُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِسَرِفٍ (¬3): ثُمَّ وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى سَرِفٍ وَنَزَلَ بِهَا، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ، فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا" (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر شرح السنة (7/ 261). (¬2) انظر فتح الباري (4/ 505). (¬3) سرف: بفتح السين وكسر الراء: موضع على عشرة أميال من مكة. انظر النهاية (2/ 326). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب قول اللَّه تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. . .} - رقم الحديث (1560) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان =

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ - كَمَا ذَكَرْنَا -فَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَارِنًا (¬1). وَفِي سَرِفٍ حَاضَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي الْيَوْمِ الذِي نَدَبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ إِلَى فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ يَا هَنَتَاهُ (¬2)؟ ". قَالَتْ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لِأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَمَا شَأْنُكِ؟ ". قَالَتْ: لَا أُصَلِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلَا يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ، كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقكِيهَا" (¬3). ¬

_ = وجوه الإحرام. . . - رقم الحديث (1211) (123). (¬1) هذا الذي رجحه الحافظ في الفتح (4/ 215)، ورد على كل الروايات التي تذكر أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حج متمتعًا أو مفردًا. وكذلك ابن القيم فِي زاد المعاد (2/ 102) ساق بضعًا وعشرين دليلًا على أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حج قارنًا. (¬2) يَا هَنَتَاهُ: بفتح الهاء والنون وقد تُسكَّن النُّون: أي يَا هذه. انظر النهاية (5/ 241). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب قول اللَّه تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. . .} - رقم الحديث (1560) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (120).

* مبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذي طوى ودخوله مكة

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ (¬1)، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ؟ ". قَالَتْ: لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ، أَوْ أَخْرُجِ الْعَامَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَعَلَّكِ نَفِسْتِ" (¬2). قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا شَيْءٌ كَتبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انْقُضِي رَأْسَكَ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ"، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَفَعَلْتُ (¬4). * مَبِيتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِذِي طُوًى (¬5) وَدُخُولُهُ مَكَّةَ: أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَرِيقَهُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِذِي طُوًى، فَلَمَّا وَصَلَ ¬

_ (¬1) طَمِثَتِ المرأة: أي حاضت. انظر النهاية (3/ 125). (¬2) نَفِسْتَ: أي حاضت. انظر النهاية (5/ 82). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحيض - باب تقضي الحائض المناسك كلها إِلَّا الطواف بالبيت - رقم الحديث (305) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (120) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2429). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب كيف تُهل الحائض والنفساء؟ - رقم الحديث (1556) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25441). (¬5) طُوَى: بفحم الطاء وفتح الواو المخففة، موضع عند باب مكة. انظر النهاية (3/ 133).

* دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد الحرام وطوافه بالبيت

إِلَى ذِي طُوًى قَطَعَ التَّلْبِيَةَ، وَبَاتَ بِهَا لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى بِهَا الفجْرَ، ثُمَّ نَهَضَ إِلَى مَكَّةَ نَهَارًا مِنْ أَعْلَاهَا مِنْ كَدَاءَ (¬1) مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا التِي بِالْبَطْحَاءِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَنَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ بِظَاهِرِ مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ (¬2). * دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَطَوَافُهُ بِالْبَيْتِ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ضُحًى، فَدَخَلَهُ مِنْ بَابِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ بَابُ بَنِي شَيْبَةَ، الْمَعْرُوفُ الْآنَ بِبَابِ السَّلَامِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْبَيْتَ كَبَّرَ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا" (¬3). ¬

_ (¬1) كَدَاء: بفتح الكاف. انظر النهاية (4/ 136). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 189): الحَجُون: بفتح الحاء وضم الجيم هو الجبل المطل على المسجد الحرام، وهناك مقبرة أهل مكة. وانظر أَيضًا النهاية (1/ 335). وأخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يلبس المحرم من الثياب والأَرْدية والأُزُر - رقم الحديث (1545) - وباب دخول مكة نهارًا أو ليلًا - رقم الحديث (1574) - وباب من أين يخرج من مكة - رقم الحديث (1576) (1577) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا - رقم الحديث (1258) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4625) (24121) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب الوقت الذي وافى فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة - رقم الحديث (3841) - وابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1725) (1726) (1727). (¬3) أخرج ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (15999) - وإسناده ضعيف. =

ثُمَّ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ (¬1) وَقَبَّلَهُ، وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ (¬2). رَوَى ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْحَجَرَ وَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يَبْكِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ" (¬3). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ (¬4). ¬

_ = وأخرج البيهقي في السنن (5/ 73) بسند حسن أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- كان يقول إذا رأى البيت: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحيّنا ربنا بالسلام. (¬1) معنى الاستلام: التمسح بالسَلِمة، بفتح السين وكسر اللام، وهي الحجارة، وقيل: هو افتعال من السلام: التحية. انظر النهاية (2/ 356) - وجامع الأصول (3/ 168). (¬2) أورد ذلك الحافظ ابن كثير فِي البداية والنهاية (5/ 167) - وعزاه إلى البيهقي في السنن الكبرى، وجود إسناده. (¬3) العبرات: الدموع. انظر لسان العرب (9/ 18). والحديث أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب استلام الحجر - رقم الحديث (2945) - والحاكم في المستدرك - كتاب المناسك - باب استلام الحجر وتقبيله - رقم الحديث (1713). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب ما ذكر في الحجر الأسود - رقم الحديث (1597) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب تقبيل الحجر =

ثُمَّ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْبَيْتِ مَاشِيًا (¬1)، فَرَمَلَ (¬2) ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِي فِي كُلِّ طَوَافِهِ (¬3)، وَقَدِ اضْطَبَعَ (¬4) بِرِدَائِهِ فَجَعَلَ طَرَفَيْهِ عَلَى أَحَدِ كَتِفَيْهِ، وَأَبْدَى كَتِفَهُ الْأَخْرَى، وَمَنْكِبَهُ، وَكَانَ كُلَّمَا حَاذَى (¬5) الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قبَّلَهَا وَكَبَّرَ، أَوِ اسْتَلَمَهُ بِمِحْجَنِهِ (¬6) ¬

_ = الأسود في الطواف - رقم الحديث (1270) (251) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب دخول مكة - رقم الحديث (3822). (¬1) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي البداية والنهاية (5/ 167): فأما الأول، وهو طواف القدوم، فكان ماشيًا فيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد نص الشافعي على هذا كله، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي في السنن الكبرى بسند جيد عن جابر بن عبد اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب المسجد فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد، فبدأ بالحجر فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثًا، ومشى أربعًا حَتَّى فرغ. (¬2) الرَمَل: بفتح الراء والميم، هو المشي السريع مع هز المنكبين. انظر النهاية (2/ 241). (¬3) قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي زاد المعاد (2/ 208): ولم يَدْعُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الباب -أي باب الكعبة- بدعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها، ولا وَقّت للطواف ذكرًا معينًا، لا بفعله، ولا بتعليمه، بل حُفِظَ عنه بين الركنين قوله: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". أخرج هذا الدعاء ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (3826) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15398) - وإسناده حسن. (¬4) الِاضْطِبَاع: هو أن يأخذ الإزار أو البُرْد، فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن، ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، وسمي بذلك لإبداء الضبعين. انظر النهاية (3/ 68). (¬5) الحِذاء: الإزاء والمقابل. انظر لسان العرب (3/ 98). (¬6) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 273): الْمِحْجَن: بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الجيم، هو عصا محنية الرأس، والحجن الاعوجاج.

وَقَبَّلَ الْمِحْجَنَ وَكَبَّرَ إِذَا ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ (¬1)، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُو بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ -أَي الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِي- فَيَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2). وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ قَبَّلَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي، أَوْ قَبَّلَ يَدَهُ عِنْدَ اسْتِلَامِهِ (¬3). فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ طَوَافِهِ، جَاءَ إِلَى خَلْفِ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬4)، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَقَامُ بَيْنَهُ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الرمل في الحج والعمرة - رقم الحديث (1604) - وباب تقبيل الحجر - رقم الحديث (1611) - وباب من ساق البدن معه - رقم الحديث (1691) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وباب استحباب الرمل في الطواف والعمرة - رقم الحديث (1261) (1262) - وباب استحباب استلام الركنين اليمانيين في الطواف - رقم الحديث (1267) - وباب وجوب الدم على المتمتع - رقم الحديث (1227) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب دخول مكة - رقم الحديث (3810). (¬2) تقدم تخريج هذا الحديث قبل قليل. (¬3) روى الإِمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1609) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1267) - عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: لم أر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين. قال الإِمام النووي في شرح مسلم (9/ 12): الركنان اليمانيان: هما الركن الأسود، والركن اليماني. (¬4) سورة البقرة آية (125).

* سعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة

وَبَيْنَ الْبَيْتِ، قَرَأَ فِيهِمَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ صَلَاتِهِ، عَادَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ (¬1). * سَعْيُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الصَّفَا مِنَ الْبَابِ الذِي يُقَابِلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬2)، ثُمَّ قَالَ: "أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ"، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّه وَكَبّرَهُ، وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ يَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ (¬3) قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي رَمَلَ (¬4)، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "لَا يُقْطَعُ الْوَادِي إِلَّا شَدًّا (¬5) "، وَقَالَ أَيْضًا رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1773) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3943). (¬2) سورة البقرة آية (159). (¬3) انْصَبَّت: أي انحدرت في المسعى. انظر النهاية (3/ 4). (¬4) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ فِي البداية والنهاية (5/ 169): وهذا هو الذي يستحبه العلماء قاطبة أن الساعي بين الصفا والمروة يستحب له أن يرمل في بطن الوادي في كل طوافه، في بطن المسيل الذي بينهما، وحددوا ذلك بما بين الأميال الخضر. (¬5) شدًا: عدوًا. انظر جامع الأصول (3/ 189). =

-صلى اللَّه عليه وسلم-: "اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّه كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ" (¬1)، حَتَّى إِذَا جَاوَزَ الْوَادِي، وَصَعَدَ الْمَرْوَةَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَرَقَى عَلَيْهَا حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ عَلَى الصَّفَا (¬2). رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِالشَّوَاهِدِ عَنْ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي تَجْرَأَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ وَرَاءَهُمْ، وَهُوَ يَسْعَى حَتَّى أَرَى رُكْبَتَيْهِ مِنْ شِدَّةِ السَّعْي، يَدُورُ بِهِ إِزَارُهُ (¬3). ¬

_ = وأخرج هذا اللفظ: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27281) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب السعي بين الصفا والمروة - رقم الحديث (2987) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب السعي بين الصفا والمروة - رقم الحديث (3960) - وإسناده حسن. (¬1) أخرج هذا اللفظ: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27368) - والبغوي في شرح السنة - رقم الحديث (1921) - وإسناده حسن- وأورده الحافظ في الفتح (4/ 306) وقوى إسناده. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي البداية والنهاية (5/ 169): المراد بالسعي هاهنا هو الذهاب من الصفا إلى المروة، ومنها إليها، وليس المراد بالسعي هاهنا الهرولة والإسراع، فإن اللَّه لم يكتبه علينا حتمًا، بل لو مشى الإنسان على هينة في السبع الطوافات بينهما، ولم يرمل في المسيل أجزأه ذلك عند جماعة العلماء، لا نعرف بينهم اختلافًا في ذلك. (¬2) أخرج ذلك كله: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3943) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14440) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1773). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27368) - والبغوي في شرح السنة - رقم الحديث (1921).

وَهَذَا كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَاشِيًا، لَكِنْ رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. . . (¬1). وَرَوَى الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ لَا ضَرْبَ، وَلَا طَرْدَ (¬2)، وَلَا إِلَيْكَ (¬3) إِلَيْكَ (¬4). وَقَدْ جَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: . . . أَخْبِرْنِي عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَاكِبًا، أَسُنَّةٌ هُوَ؟ ، فَإِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سُنَّةٌ. فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، فَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: وَمَا قَوْلُكَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؟ . ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز الطواف على بعير وغيره - رقم الحديث (1273). (¬2) قال الطيبي في شرح الحديث كما في شرح السنة (7/ 142): معناه: ما كانوا يضربون الناس ولا يطردونهم، ولا يقولون: تنحوا عن الطريق، كما هو عادة الملوك والجبابرة، والمقصود التعريض بالذين كانوا يعملون ذلك. (¬3) معنى إليك إليك: أي تنح. (¬4) أخرجه البغوي في شرح السنة - رقم الحديث (1922).

* أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة

قَالَ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مُحَمَّدٌ، هَذَا مُحَمَّد، حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ (¬1) مِنَ الْبُيُوتِ، قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرَ عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ (¬2). * أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ: فَلَمَّا أَكْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- طَوَافَهُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَكَانَ عَلَى الْمَرْوةِ، أَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ مِنْ أَصْحَابِهِ قَارِنًا كَانَ أَوْ مُفْرِدًا، أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً، وَيَتَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامِهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً، وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالُوا: أَيُّ الْحِلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْحِلُّ كُلُّهُ". فَضَاقَتْ بِذَلِكَ صُدُورِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَرُوحُ أَحَدُنَا إِلَى مِنًى وَذَكَرُهُ يَقْطُرُ مَنِيًّا؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ" (¬4). ¬

_ (¬1) العواتق: جمع عاتقة، وهي الشابة أول ما تدرك. انظر النهاية (3/ 162). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة - رقم الحديث (1264) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2820). (¬3) أخرج ذلك الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والإقران والإفراد بالحج - رقم الحديث (1568) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1216) (143). (¬4) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والإقران والإفراد - =

* لماذا استنكر الصحابة رضي الله عنهم فسخ الحج إلى العمرة

ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقَالَتْ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَوَ مَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ". (¬1) * لِمَاذَا اسْتَنْكَرَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ: وَكَانَ سَبَبُ إِنْكَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ (¬2)، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُبْطِلَ مَا كَانَتْ تَزْعُمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَلذَلِكَ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ، وَغَضِبَ لَمَّا تَلَكَّأَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ ¬

_ = رقم الحديث (1564) - وكتاب الشركة - باب الاشتراك فى الهدي والبُدن - رقم الحديث (2505) - والإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1213) (138) (1216) (141) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4304) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4822) (14238) (15244). (¬1) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (130) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ما جاء في حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3941) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1644) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25425). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والإقران والإفراد - رقم الحديث (1564) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز العمرة في أشهر الحج - رقم الحديث (1240) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2274).

* خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه

-صلى اللَّه عليه وسلم-، فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ لِإِزَالَةِ التَّحَرُّجِ مِنْ نُفُوسِهِمْ عَنْ فِعْلٍ مَشْرُوعٍ. * خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي أَصْحَابِهِ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلنَّاسِ: "قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ للَّهِ، وَأَصْدَقُكُمْ وَأَبَرُّكُمْ، وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ، فَحِلُّوا" (¬1). فَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ، إِلَّا الرَّسُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَذَوُو الْيَسَارَةِ، وَحَلَّ نِسَاؤُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعُمْرَةٍ إِلَّا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لَمْ تَحِلَّ مِنْ أَجْلِ حَيْضتِهَا (¬2). قَالَ جَابِرٌ -رضي اللَّه عنه-: فَأَتَيْنَا النِّسَاءَ، وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَمَسَسْنَا الطِّيبَ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب تقضي الحائض المناسك كلَّها. . رقم الحديث (1651) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1216) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14409) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإحرام - رقم الحديث (3791) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4300). (¬2) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (120) (121) - وباب في متعة الحج - رقم الحديث (1239) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2429). (¬3) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1213) (138) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14238).

* دخول العمرة في الحج

* دُخُولُ الْعُمْرَةِ فِي الحَجِّ: وَهُنَاكَ سَأَلَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْجُعْشُمِيُّ -رضي اللَّه عنه- عُقِيبَ أَمْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عُمْرتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ . فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصَابِعَهُ، وَقَالَ: "بَلْ لِلْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (¬1). * مَا أَفْضَلُ أَنْوَاعِ النُّسُكِ؟ : وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَيِّ أَنْوَاعِ نُسُكِ الْحَجِّ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ: الْإِفْرَادُ، أَمْ التَّمَتُّعُ، أَمِ الْقِرَانُ؟ . مِنْ خِلَالِ مَا ذَكَرْنَا، تَتَّضِحُ الدِّلَالَةُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّمَتُّعِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذًا مِنْ هَذَا، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا أَشُكُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ قَارِنًا، وَلَكِنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ لِتَأَسُّفِهِ عَلَيْهِ. ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب التمني - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" - رقم الحديث (7230) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) (147) - وباب جواز العمرة في أشهر الحج - رقم الحديث (1241) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2115) (14440) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1773) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3943).

* إقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة

وَرَدَّ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: وَجَوَابُهُ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمْ يَتَأَسَّفْ لِكَوْنِهِ -أَي التَّمَتُّعُ- أَفْضَلَ مِنَ الْقِرَانِ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا تَأَسَّفَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي بَقَائِهِ عَلَى إِحْرَامِهِ وَأَمْرِهِ لَهُمْ بِالْإِحْلَالِ، وَلِهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمَّا تَأَمَّلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا السِّرَّ نَصَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، عَلَى أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، لِأَمْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالتَّمَتُّعِ، وَأَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ، كَمَا اخْتَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (¬1). * إِقَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَكَّةَ: ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَوَافِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمْرِهِ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، حَتَّى نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ شَرْقِيِّ مَكَّةَ، فَأَقَامَ هُنَاكَ بَقِيَّةَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَالِاثْنَيْنِ، وَالثُّلَاثَاءِ، وَالْأَرْبِعَاءِ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ، كُلُّ ذَلِكَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ هُنَاكَ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْكَعْبَةِ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ فَطَافَ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (5/ 176). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من لم يقرب الكعبة - رقم الحديث (1625).

* قصر الصلاة

قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَلَعَلَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَرَكَ الطَّوَافَ تَطَوُّعًا خَشْيَةَ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ التَّخْفِيفَ عَلَى أُمَّتِهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (¬1). * قَصْرُ الصَّلَاةِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُدَّةَ إِقَامَتِهِ هُنَاكَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْهَاجِرَةِ (¬2) إِلَى الْبَطْحَاءِ (¬3)، فتَوَضَّأَ (¬4)، وَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ (¬5)، وَكَانَ يَمُرُّ مِنْ وَرَائِهَا الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، ثُمَّ قَامَ النَّاسُ، فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَهُ، فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ، فَأَخَذْتُ يَدَهُ، فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي، فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ (¬6). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (4/ 290). (¬2) الْهَاجرة: هو وقت اشتداد الحُر نصف النهار. انظر النهاية (5/ 214). (¬3) في رواية أخرى: الأبطح. (¬4) زاد مسلم في صحيحه: فرأيت النَّاس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئًا تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. (¬5) الْعَنَزَة: بفتح العين عصا مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا. انظر النهاية (3/ 278). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب استعمال فضل وضوء الناس - رقم الحديث (187) - وكتاب الصلاة - باب السترة بمكة وغيرها - رقم الحديث (501) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب سترة المصلي - رقم الحديث (503) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18760) (18767).

* فوائد الحديث

* فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - الْتِمَاسُ الْبَرَكَةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 2 - وَضْعُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلِّي حَيْثُ يَخْشَى الْمُرُورَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِاكْتِفَاءُ فِيهَا بِمِثْلِ غِلَظِ الْعَنَزَةِ. 3 - وَفِيهِ أَنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ لِمَا يُشْعِرُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ مُوَاظَبَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَيْهِ. 4 - وَفِيهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْقَصْرِ مِنْ حِينِ مُفَارَقَةِ الْبَلَدِ الذِي يَخْرُجُ مِنْهُ. 5 - وَفِيهِ تَعْظِيمُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * يَا لَسَعَادَةَ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلةَ -رضي اللَّه عنه-: وَحِينَئِذٍ رَأَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ الْبَكْرِيُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَعُدَّ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ -رضي اللَّه عنه-. رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (2/ 154). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب جواز الطواف على بعير وغيره - رقم الحديث (1275) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب من استلم الركن بمحجنه - رقم الحديث (2949).

عَنْ أَبِي الطُّفْيَلِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: رَأَيْتَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلًا حَيًّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرِي. وَفِي لفظٍ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: مَا بَقِيَ أَحَدٌ رَأَى النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غَيْرِي (¬1). قَالَ الْإِمَامُ الذَّهَبِيُّ فِي السِّيَرِ: أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ خَاتِمُ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الدُّنْيَا، وَكَانَ -رضي اللَّه عنه- صَادِقًا، عَالِمًا، شَاعِرًا، فَارِسًا، عُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- حُرُوبَهُ، وَمَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةً عَشْرٍ وَمِئَةٍ (¬2). وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِئَةِ سَنةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ" (¬3). قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْه الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إِنَّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ هَذِهِ الْمُدَةَ تَخْتَرِمُ (¬4) الْجِيلَ الذِي هُمْ فِيهِ، فَوَعَظَهُمْ بِقِصَرِ أَعْمَارِهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَعْمَارَهُمْ لَيْسَتْ كَأَعْمَارِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمَمِ لِيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري فِي الأدب المفرد - رقم الحديث (610). (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (3/ 467). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب السمر في العلم - رقم الحديث (116) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تأتي مئة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم" - رقم الحديث (2537). (¬4) انْخِرَامُهُ: ذهابه وانقضاؤه. انظر النهاية (2/ 27). (¬5) انظر فتح الباري (1/ 287).

* قدوم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من اليمن

* قُدُومُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الْيَمَنِ: فِي هَذِهِ الْفتْرَةِ قَدِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- مِنَ الْيَمَنِ حَاجًّا، فَدَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَوَجَدَهَا قَدْ حَلَّتْ، وَتَكَحَّلَتْ، وَلَبِسَتْ ثِيَابَ صِبْغٍ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: مَنْ أَمَرَكِ بِهَذَا؟ ، قَالَتْ: أَمَرَنِي أَبِي بِهَذَا. فَأَتَى عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُحَرِّشًا (¬1) عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا (¬2) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، أَنَا أَمَرْتُهَا بِهِ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ " (¬3). قَالَ -رضي اللَّه عنه-: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلَا تَحِلَّ" (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ" (¬5). ¬

_ (¬1) أراد بالتحريش هاهنا ذكر ما يُوجب عتابه لها. انظر النهاية (1/ 354). (¬2) في رواية ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (3943): مستثبتًا. (¬3) هذه رواية الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1218) - وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (1558) - قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بم أهللت؟ ". (¬4) أخرج ذلك: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3943) (3944) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14440). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أَهلَّ في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كإهلال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1558).

* قدوم أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-

وَكَانَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، قَدِمَ بِهَدْيٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَكَانَ مَجْمُوعُ الْهَدْيِ الذِي قَدِمَ بِهِ، وَالذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِئَةَ بَدَنَةٍ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ لِي: "انْطَلِقْ، فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَحِلَّ كَمَا حَلَّ أَصْحَابُكَ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَهْلَلْتُ كَمَا أَهْلَلْتَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَهَلْ مَعَكَ هَدْيٌ؟ "، قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: لَا (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَقِمْ كَمَا أَنْتَ، وَلَكَ ثُلُثُ هَدْيِي"، فَأَشْرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي هَدْيِهِ (¬3). * قُدُومُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ أَيْضًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَجَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْبَطْحَاءَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بِمَا أَهْلَلْتَ". قَالَ: قُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ ". ¬

_ (¬1) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14440) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3791) (3943). (¬2) قلت: ويمكن الجمع بين هذه الرواية، والرواية التي قبلها، بأن الهدي تأخر مجيئه بعده؛ لأن علي -رضي اللَّه عنه- تعجل إِلَى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من اليمن، واستخلف على الجيش رجلًا من أصحابه كما ذكرنا ذلك فيما تقدم. (¬3) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2287) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 258) - وإسناده حسن.

* خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى منى

قَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَاسْعَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوةِ، ثُمَّ حِلَّ"، فَفَعَلَ (¬1). * خُرُوجُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ إِلَى مِنًى: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ (¬2)، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ضُحًى، تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مِنًى، وَقَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَنْ كَانَ أَحَلَّ مِنْهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مِنًى نَزَلَ هُنَاكَ، وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، قَصْرًا رَكْعَتَيْنِ، وَبَاتَ بِمِنًى تِلَكْ اللَّيْلَةِ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّى بِهَا الصُّبْحَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أهل في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كإهلال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1559) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب بعث أبي موسى ومعاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلى اليمن - رقم الحديث (4346) - وباب حجة الوداع - رقم الحديث (4397) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام - رقم الحديث (1221) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4321). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 317): التروية بفتح التاء وسكون الراء وكسر الواو، وهو يوم الثامن من ذي الحجة، سُمي يوم التروية لأنهم كانوا يروون فيها إبلهم ويتروون من الماء؛ لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فقد كثرت جدًا، واستغنوا عن حمل الماء. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الإهلال من البطحاء وغيرها - معلقًا - ووصله مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944).

* توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عرفة وخطبته بها

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِنًى خَمْسَ صَلَوَاتٍ (¬1). وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، وَالصُّبْحَ بِمِنًى (¬2). * تَوَجُّهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عَرَفَةَ وَخُطبَتُهُ بِهَا: فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ -مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ- نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى عَرَفَةَ، وَأَمَرَ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ شَعْرٍ بِنَمِرَةَ (¬3)، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَالِكًا طَرِيقَ ضَبٍّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمُلَبِّي، وَمِنْهُمُ الْمُكَبِّرُ، وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءَ وَلَا عَلَى هَؤُلَاءِ (¬4)، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى عَرَفَةَ وَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِنَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2700) (4533) - وأصله في صحيح مسلم - كتاب صلاة المسافرين وقصرها - باب قصر الصلاة بمنى - رقم الحديث (694). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المناسك - باب الوقوف بعرفات - رقم الحديث (1738). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 322): نمرة بفتح النون وكسر الميم موضع بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التلبية والتكبير إذا غدًا من منى إلى عرفات - رقم الحديث (1659).

فَرُحِلَتْ لَهُ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي مِنْ أَرْضِ عُرَنَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ (¬1)، خُطْبَةً عَظِيمَةً جَامِعَةً، قَرَّرَ فِيهَا قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ، وَهَدَمَ فِيهَا قَوَاعِدَ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّه تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ: "أَيُّهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا. أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ دِمَاءَكُمْ (¬2) وَأَمْوَالَكُمْ (¬3) حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ ¬

_ (¬1) قلت: هذا هو الصحيح في أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- خطب خطبة عرفة وهو على راحلته، وهي رواية الإِمام مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- الطويل، ورقمه (1218). وروى الإِمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (20335) عن العَدَّاءِ بن خالد -رضي اللَّه عنه- قال: رأيت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب الناس يوم عرفة على بعير. وأما ما رواه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب الخطبة على المنبر بعرفة - رقم الحديث (1915) عن رجل من بني ضمرة عن أَبيه عن عمه قال: رأيت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو على المنبر بعرفة. فإسناده ضعيف. (¬2) قلت: جاءت أحاديث كثيرة تشدد على حرمة الدم، فقد روى الإِمام البخاري - رقم الحديث (6862) عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه، ما لم يصب دمًا حرامًا". قال ابن العربي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (14/ 167): الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت؛ لأنها لا تقي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا القتل ارتفع القبول. وروى الإِمام البخاري في صحيحه - رقم الحديث (6863) عن عبد اللَّه بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حِلّه. (¬3) وأما حرمة الأموال، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (5978) - =

هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. أَلَا إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ إِيَادِ (¬1) بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلُ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأوّلُ رِبًا أَضَعَ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. فَاتَّقَوا اللَّه فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (¬2). ¬

_ = والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2822) بسند صحيح عن أبي حُمَيْد الساعدي -رضي اللَّه عنه- أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه"، قال: وذلك لشدة ما حَرّم اللَّه عَزَّ وَجَلَّ على المسلم من مال المسلم. وروى الإِمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (137) عن أبي أُمامة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب اللَّه له النار، وحَرّم عليه الجنة"، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يَا رَسُول اللَّهِ؟ ، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإن قضيبًا من أراك". (¬1) لم يقع في رواية الإِمام مسلم في صحيحه تسميته، وإنما وقع فيه بلفظ "ابن ربيعة"، ووقع في رواية النسائي في السنن الكبرى تسميته: إياد. قال الإِمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (8/ 149): قال المحققون والجمهور: اسم هذا الابن إياد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. (¬2) أخرج ذلك كله: الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة =

أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللَّه قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (¬1)، وَلِلْعَاهِرِ (¬2) الْحَجَرُ (¬3)، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنةُ اللَّهِ التَّابِعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الطَّعَامَ؟ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا". الْعَارِيَةُ (¬4) مُؤَدَّاةٌ، وَالْمِنْحَةُ (¬5) مَرْدُودَةٌ، وَالدَّينُ مَقْضِيٌّ، وَالزَّعِيمُ (¬6) ¬

_ = المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2524). (¬1) الولد للفراش: أي لمالك الفراش، وهو الزوج والمولى، والمرأة تُسمى فراشًا؛ لأن الرَّجل يفترشها. انظر النهاية (3/ 385). (¬2) العاهر: الزاني. انظر النهاية (3/ 294). (¬3) الحَجَر: أي الخيبة، يعني أن الولد لصاحب الفراش من الزوج أو السيد، وللزاني الخيبة والحرمان، وذهب قوم إلى أنه كنى بالحَجَر عن الرجم، وليس كذلك؛ لأنه ليس كل زان يُرجم. انظر النهاية (1/ 331). وضَعّف النووي في شرح مسلم (10/ 32) الرأي الثاني وقوى الرأي الأول. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (5/ 564): العارية: بفتح العين وتشديد الياء ويجوز تخفيفها، وهي في الشرع هبة المنافع دون الرقبة، ويجوز توقيتها، وحكم العارية إذا تلفت في يد المستعير أن يضمنها إلا فيما إذا كان ذلك من الوجه المأذون فيه، هذا قول الجمهور. (¬5) الْمِنْحَة: العطية، ومنحة اللبن: أن يعطيه ناقة أو شاة، ينتفع بلبنها ويعيدها، وكذلك إذا أعطاه لينتفع بوبرها وصوفها زمانًا ثم يردها. انظر النهاية (4/ 310). (¬6) الزعيم: الكفيل. انظر النهاية (2/ 274).

غَارِمٌ (¬1) ". "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ" (¬2). "وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كتَابَ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ ". قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) الغارم: الضامن. انظر النهاية (2/ 274). وأخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22294) - والترمذي في جامعه - كتاب الوصايا - باب ما جاء لا وصية لوارث - رقم الحديث (2253) - وإسناده حسن - ووقع في رواية الإِمام أحمد والترمذي أن ذلك كان في حجة الوداع. ووقع في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 261) أن ذلك كان بعرفة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب جزاء الصيد - باب لبس الحُفين للمحرم إذا لم يجد النعلين - رقم الحديث (1841) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة - رقم الحديث (1178) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإحرام - رقم الحديث (3786). قال الإمام القرطبي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (4/ 535): أخذ بظاهر هذا الحديث أَحْمد فأجاز لبس الخف والسراويل للمحرم الذي لا يجد النعلين والإزار على حالهما، واشترط الجمهور قطع الخف وفتق السراويل، فلو لبس شيئًا منهما على حالة لزمته الفدية، والدليل لهم قول رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي حديث ابن عمر الذي رواه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1842) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1177) (2): ". . . وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين"، فيحمل المطلق على المقيد، ويلحق النظير بالنظير، لاستوائهما في الحكم.

بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا (¬1) إِلَى النَّاسِ: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ" (¬2). فَهَذِهِ خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكَانَتْ قَصِيرَةً. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَالِمِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ. . . فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْحَجَّاجِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ (¬3). وَكَانَ الرَّجُلُ الذِي يَصْرُخُ فِي النَّاسِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ بِعَرَفَةَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، أَخُو صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَكَانَ صَيِّتًا (¬4)، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ لَهُ: "يَا رَبِيعَةُ! قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ كَذَا"، ¬

_ (¬1) هكذا وقع في صحيح مسلم بلفظ: ينكتها بالتاء، ووقع في رواية ابن ماجه في سننه، وأبي داود في سننه بلفظ: ينكبها، بالباء. قال ابن الأثير في النهاية (5/ 98): أي يُميلها إليهم، يريد بذلك أن يُشْهدَ اللَّه عليهم. (¬2) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب حجة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3074) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب صفة حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1905). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التهجير بالرواح يوم عرفة - رقم الحديث (1660). (¬4) صَيّتًا: بفتح الصاد وتشديد الياء أي شديد الصوت عاليه. انظر النهاية (3/ 60).

* جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الظهر والعصر ووقوفه بعرفة

فَيَصْرَخُ بِهِ (¬1). * جَمْعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَوُقُوفُهُ بِعَرَفَةَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ خُطْبَتِهِ أَمَرَ بِلَالًا -رضي اللَّه عنه-، فَأَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا (¬2). ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ جَبَلَ (¬3) الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا، مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالِابْتِهَالِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 260) - أسد الغابة (2/ 177). (¬2) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فِي حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944). (¬3) هذه رواية النسائي في السنن الكبرى - رقم الحديث (3992) - ووقع في رواية الإِمام مسلم: حَبْل. قال القاضي عياض في شرح مسلم (8/ 152): والأول أشبه بالحديث، وجبل المشاة: أي مجتمعهم، وحَبْل الرمل: ما طال منه وضخم، وأما بالجيم فمعناه: طريقهم وحيث تسلك الرجالة. (¬4) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944).

* هل صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة أم لا؟

* هَلْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمِ عَرَفَةَ أَمْ لَا؟ : وَقَدْ شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الفضْلِ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَامَ النَّاسِ، وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ (¬1). رَوَى الشَّيْخَانِ كَذَلِكَ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا فِي صِيَامِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلَابٍ (¬2)، وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْمَوْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ (¬3). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَوْمُ عَرَفَةَ (¬4)، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب صوم يوم عرفة - رقم الحديث (1988) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب استحباب الفطر للحاج يوم عرفة - رقم الحديث (1123) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (4522). (¬2) الحِلاب: بكسر الحاء هو إناء يُجعل فيه اللبن. انظر جامع الأصول (6/ 358) - وفتح الباري (4/ 762). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصوم - باب صوم يوم عرفة - رقم الحديث (1989) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصيام - باب استحباب الفطر للحاج يوم عرفة - رقم الحديث (1124) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (4521). (¬4) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوم عرفة": أي لمن كان بعرفة. =

وَهُنَّ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ" (¬1). قَالَ ابْنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِفْطَارُ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَقَدْ ذُكِرَ لِفْطِرْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرَفَةَ عِدَّةُ حِكَمٍ: 1 - مِنْهَا أَنَّهُ أَقْوَى عَلَى الدُّعَاءِ. 2 - وَمِنْهَا أَنَّ الْفِطْرَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ فِي فَرْضِ الصَّوْمِ، فَكَيْفَ بِنَفْلِهِ. 3 - وَمِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ إِفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَرَى النَّاسُ فِطْرَهُ فِيهِ تَأْكِيدًا لِنَهْيِهِ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ لِكَوْنِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَا يَوْمَ جُمُعَةٍ (¬2). وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ أَنْ يَرْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ (¬3)، فَقَالَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ" (¬4). ¬

_ = وأما صيام يوم عرفة لمن لم يكن بها فمندوب إليه، وقد روى مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1162) من حديث أبي قتادة -رضي اللَّه عنه- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على اللَّه أن يكفِّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده". (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (17379) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2964). (¬2) انظر زاد المعاد (2/ 73 - 74). (¬3) عُرَنة: بضم العين وفتح الراء موضع عند الموقف بعرفات. انظر النهاية (3/ 202). (¬4) أخرج ذلك الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1194) - وإسناده صحيح - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16751) وإسناده صحيح لغيره - وأورده الألباني في الصحيحة (4/ 48) وصحَّح إسناده.

* سؤال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحج

وَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ عَرَفَةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَوْقِفِهِ الذِي وَقَفَ فِيهِ، بَلْ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" (¬1). وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى النَّاسِ أَنْ يَكُوُنوا عَلَى مَشَاعِرِهِمْ (¬2) وَيَقِفُوا بِهَا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَتَانَا ابْنُ مِرْبِعٍ الْأَنْصَارِيُّ بِعَرَفَةَ، وَنَحْنُ بِمَكَانٍ مِنَ الْمَوْقِفِ بَعِيدٍ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَيْكُمْ يَقُولُ: "كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْث مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ" (¬3). * سُؤُالُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الْحَجِّ: وَهُنَاكَ أَقْبْلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنِ الْحَجِّ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) (149) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14440) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1196) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء أن عرفة كلها موقف - رقم الحديث (900). (¬2) المشاعر: جمع مشعر، وهو المعلم، والمراد به: معالم الحج. انظر جامع الأصول (3/ 236). (¬3) أخرج ذلك الترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في الوقوف بعرفات والدعاء بها - رقم الحديث (883) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب الموقف بعرفة - رقم الحديث (3011) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1204) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1522) وإسناده صحيح.

* دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة

يَعْمَرَ الدَّيْلِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الْحَجُّ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ (¬1)، فقدْ تَمَّ حَجُّهُ" (¬2). * دُعَاءُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ عَرَفَةَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُنْشَغِلًا فِي عَرَفَةَ بِالدُّعَاءِ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ رَافِعًا يَدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ كَاسْتِطْعَامِ الْمِسْكِينِ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو، فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ، فَسَقَطَ خِطَامُهَا (¬3)، فتَنَاوَلَ الْخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الْأَخْرَى (¬4). وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ أَنَّ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 337): جَمْع: بفتح الجيم وسكون الميم، أي المزدلفة، سميت جمعًا؛ لأن آدَمَ اجتمع فيها مع حواء، وقيل سميت جمعًا: لأنها يجمع فيها بين الصلاتين. (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18774) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع - رقم الحديث (3015) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4860). (¬3) الخِطام: بكسر الخاء وهو الحبل الذي يُقاد به البعير. انظر النهاية (2/ 49). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21821).

قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (¬1). وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ أَنَّهُ: "مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟ " (¬2). وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا إِلَى عِبَادِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ (¬3) جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يَرْجُونَ رَحْمَتِي، وَلَمْ يَرَوْا عَذَابِي، فَلَمْ يُرَ يَوْمٌ أَكْثَرُ عِتْقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ" (¬4). وَعِنْدَ الْمُنْذِرِيِّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي اللَّه عنه- ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6961) - والترمذي في جامعه - كتاب الدعوات - باب في دعاء يوم عرفة - رقم الحديث (3585) - وإسناده حسن بالشواهد. (¬2) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فِي فضل الحج والعمرة ويوم عرفة - رقم الحديث (1348) - وابن ماجه في سننه - كتاب المناسك - باب الدعاء بعرفة - رقم الحديث (3014). (¬3) ضاحين: أي بارزين للشمس. انظر لسان العرب (8/ 30). (¬4) أخرجه ابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الوقوف بعرفة - رقم الحديث (3853) - والبغوي في شرح السنة - رقم الحديث (1931).

* نزول قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم}

قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرَفَاتٍ، وَقَدْ كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَؤُوبَ (¬1)، فَقَالَ: "يَا بِلَالُ أَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ"، فَقَامَ بِلَالٌ، فَقَالَ: أَنْصِتُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَنْصَتَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَعْشَرَ النَّاسِ أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ آنِفًا فَأَقْرَأَنِي مِنْ رَبِّي السَّلَامَ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ غَفَرَ لِأَهْلِ عَرَفَاتٍ، وَأَهْلِ الْمَشْعَرِ، وَضَمِنَ عَنْهُمُ التَّبِعَاتِ"، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَنَا خَاصَّةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا لَكُمْ، وَلِمَنْ أَتَي مِنْ بَعْدِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: كَثُرَ خَيْرُ اللَّهِ وَطَابَ (¬2). * نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3)، فَلَمَّا سَمِعَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- بَكَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا يُبْكِيكَ يَا عُمَرُ؟ ". قَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ، أَمَا إِذَا كَمُلَ، فَإِنَّهُ لَا يَكْمُلُ شَيْءٌ إِلَّا ¬

_ (¬1) تؤوب: أي تغرب، من الأوب: وهو الرجوع؛ لأنها ترجع بالغرب إِلَى الموضع الذي طلعت منه. انظر النهاية (1/ 80). (¬2) أورده المنذري فِي الترغيب والترهيب - رقم الحديث (1737) - وانظر السلسة الصحيحة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ (4/ 164). (¬3) سورة المائدة آية (3).

نَقَصَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَدَقْتَ" (¬1). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- اسْتَشْعَرَ وَفَاةَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَعْيَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ موتهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِنَحْوِ ثَمَانِينَ يَوْمًا (¬3). رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَيُّ آيَةٍ؟ . قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ، يَوْمَ جُمُعَةٍ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (35549) - والطبري في تفسيره (4/ 419) - وجوّد إسناده الحافظ ابن كثير فِي البداية والنهاية (5/ 226). (¬2) انظر البداية والنهاية (3/ 226). (¬3) انظر فتح الباري (15/ 170) - تفسير ابن كثير (3/ 26). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الإيمان - باب زيادة الإيمان ونقصانه - رقم الحديث (45) - ومسلم في صحيحه - كتاب التفسير - باب في تفسير آيات متفرقة - رقم الحديث (3017) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (188).

* خطأ مشهور

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: هَذِهِ أَكْبْرُ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، حَيْثُ أَكْمَلَ تَعَالَى لَهُمْ دِينَهُمْ، فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى دِينٍ غَيْرِهِ، وَلَا إِلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْبَرَ بِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَصِدْقٌ، وَلَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا خُلْفَ (¬1). * خَطَأٌ مَشْهُورٌ: وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، فَهُوَ خَطَأٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (¬2). قَالَ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ (¬3). وَبَوَّبَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ، بَابُ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَفْظُهُ: ¬

_ (¬1) انظر تفسير ابن كثير (3/ 26). (¬2) سورة البقرة آية (281). (¬3) انظر تفسير القرطبي (4/ 421).

* حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الذي سقط عن راحلته

آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- آيَةُ الرِّبَا (¬1). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: كَذَا تَرْجَمَ الْمُصَنِّفُ -أَي الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ- بِقَوْلهِ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلَي ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْهُ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَجَاءَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْهُ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَزَادَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّهُ مَكَثَ بَعْدَهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- تِسْعَ لَيَالٍ. وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ القوْلَيْنِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هِيَ خِتَامُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الرِّبَا إِذْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهِنَّ (¬2). * حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ: وَهُنَاكَ بِعَرَفَةَ سَقَطَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَمَاتَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ، وَلَا يُمَسَّ بِطِيبٍ، وَأَنْ يُغَسَّلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَلَا يُغَطَّى رَأْسُهُ وَلَا وَجْهُهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَبْعَثُهُ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} - رقم الحديث (4544). (¬2) انظر فتح الباري (9/ 66).

* فوائد الحديث

يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا (¬1). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - اسْتِحْبَابُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ فِي ثِيَابِ إِحْرَامِهِ. 2 - وَفِيهِ أَنَّ إِحْرَامَهُ بَاقٍ، وَأَنَّهُ لَا يُكَفَّنُ فِي الْمَخِيطِ. 3 - وَفِيهِ التَّكْفِينُ فِي الثِّيَابِ الْمَلْبُوسَةِ. 4 - وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ دَوَامِ التَّلْبِيَةِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْإِحْرَامُ. 5 - وَأَنَّ الْإِحْرَامَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ لَا بِالْوَجْهِ (¬2). * إِفَاضَةُ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ (¬4): فَلَمَّا غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَاسْتَحْكَمَ غُرُوبُهَا بِحَيْثُ ذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، وَغَابَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب الكفن في ثوبين - رقم الحديث (1265) - وباب كيف يكفن المحرم - رقم الحديث (1267) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يفعل بالمحرم إذا مات - رقم الحديث (1206). (¬2) انظر فتح الباري (3/ 479). (¬3) الإفاضة: الزحف والدفع فِي السير بكثرة، ولا يكون إلا عن تفرق وجمع. انظر النهاية (3/ 436). (¬4) قال ابن الأثير فِي النهاية (2/ 280): سُمي المشعر الحرام "مزدلفة"؛ لأنه يُتقرب إلى اللَّه فيها. ومنه قوله تَعَالَى في سورة الزمر آية (3): {. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .}.

الْقُرْصُ، أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، سَالِكًا طَرِيقَ الْمَأْزِمَيْنِ (¬1)، وَهُوَ يُلَبِّي فِي مَسِيرِهِ، وَقَدْ أَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، خَلْفَهُ، وَأَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالسَّكِينَةِ (¬2)، وَقَدْ ضَمَّ إِلَيْهِ زِمَامَ نَاقَتِهِ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ طَرَفَ رَحْلِهِ، وَهُوَ يَقُولُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رُوَيْدًا أَيُّهَا النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ (¬3) لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ (¬4) "، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسِيرُ الْعَنَقَ (¬5)، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً (¬6) سَارَ النَّصَّ (¬7)، وَهُوَ فَوْقَ الْعَنَقِ، وَكُلَّمَا أَتَى حَبْلًا (¬8) مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لِلنَّاقَةِ زِمَامَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ. فَلَمَّا كَانَ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ الشِّعْبِ (¬9) نَزَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَالَ وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا ¬

_ (¬1) الْمَأْزِمين: بفتح الميم، وإسكان الهمزة وكسر الزاي: موضع معروف بين عرفة والمزدلفة. انظر زاد المعاد (2/ 228). (¬2) السكينة: أي الوقار والتأني في الحركة والسير. انظر النهاية (2/ 346). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 336): البر: بكسر الباء، اسم لكل ما يُتقرب به إِلَى اللَّه من العمل. (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 336): الإيضاع: السير السريع، فبيَّن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تكلف الإسراع فِي السير ليس من البر أي مما يتقرب به. (¬5) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 330): العنق: بفتح العين والنون هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع. (¬6) الفجوة: المتسع. انظر النهاية (3/ 371). (¬7) النَّصُّ: نوع من السير سريع. انظر النهاية (5/ 55). (¬8) الحَبْل: القطعة من الرمل ضخمة ممتدة. انظر النهاية (1/ 321). (¬9) الشِّعب: بكسر الشين هو ما انفرج بين جبلين. انظر لسان العرب (7/ 128).

* جمعه -صلى الله عليه وسلم- بين المغرب والعشاء في المزدلفة

خَفِيفًا (¬1) بِمَاءِ زَمْزَمٍ (¬2)، فَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-: الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصَّلَاةُ أَمَامَكَ" (¬3). * جَمْعُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ في الْمُزْدَلِفَةِ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، وَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، فتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَمَرَ بالْأَذَانِ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ قَبْلَ حَطِّ الرِّحَالِ وَتَبْرِيكِ الْجِمَالِ، فَلَمَّا حَطُّوا رِحَالَهُمْ، أَمَرَ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِإِقَامَةٍ بِلَا أَذَانٍ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ (¬4). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 334): أي خففه بأن توضأ مرة مرة -أي غسل كل عضو مرة-. (¬2) لم يقع في رواية الصحيحين أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ بماء زمزم، وإنما وقعت في رواية عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل في زياداته على مسند أبيه - رقم الحديث (564) - وإسناده حسن. قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 324): فيستفاد منه الرد على من منع استعمال ماء زمزم لغير الشرب. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب السير إذا دفع من عرفة - رقم الحديث (1666) - وباب النزول بين عرفة وجمع - رقم الحديث (1669) - وباب أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسكينة عند الإفاضة - رقم الحديث (1671) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6151) (21742) (21761). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من الجمع الصلاتين بالمزدلفة - رقم =

وَلَمْ يُحْي رَسُولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تِلْكَ اللَّيْلَةَ -وَهِيَ لَيْلَةُ عِيدِ الْأَضْحَى- وَلَا صَحَّ عَنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في إِحْيَاءِ لَيْلَتَي الْعِيدَيْنِ شَيْءٌ (¬1). قَالَ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يُصَلِّي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ دُونَ جَمْعٍ، فَإِذَا أَتَى جَمْعًا، وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يَتَطَوَّعْ فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ سُفْيَانُ: وَإِنْ شَاءَ، صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ تَعَشَّى، وَوَضَعَ ثِيَابَهُ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعِشَاءَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، يُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَيُقِيمُ، وَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يُقِيمُ وَيُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (¬2). ¬

_ = الحديث (1672) - وباب من جمع بينهما ولم يتطوع - رقم الحديث (1673) (1674) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4452) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة - رقم الحديث (887) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944). (¬1) انظر زاد المعاد (2/ 228). قلت: وأما ما رواه ابن ماجة في سننه - كتاب الصيام - باب فيمن قام ليلتي العيد - رقم الحديث (1782) - عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من قام ليلتي العيدين، محتسبًا للَّه لم يمت قلبه يوم تموت القلوب". فإسناده ضعيف جدًّا. (¬2) انظر جامع الترمذي (2/ 399).

* إذنه -صلى الله عليه وسلم- لضعفة أهله بالتعجل إلى منى

* إِذْنُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِضَعَفَةِ أَهْلِهِ بِالتَّعَجُّلِ إِلَى مِنًى: وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الْقَمَرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنتِ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ (¬1) النَّاسِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَطِيئَةً (¬2)، فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلَأَنْ أَكُونُ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا اسْتَأْذَنتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ (¬3). وَرَوَى الشَّيْخَانِ كَذَلِكَ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَا (¬4) مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ في ضَعَفَةِ أَهْلِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتحِ (4/ 346): الحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء: الزحمة. (¬2) في رواية أخرى في الصحيح: ثقيلة. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من قدّم ضعفة أهله بليل - رقم الحديث (1681) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب تقديم دفع الضعفة من النساء وغيرهن - رقم الحديث (1290) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25314). (¬4) كان عمر عبد اللَّه بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في حجة الوداع ثلاثة عشرة سنة. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من قدّم ضعفة أهله بليل - رقم الحديث (1678) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب تقديم دفع =

* وقوف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمشعر الحرام، ثم دفعه إلى منى

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سنَنِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُغَيْلِمَةَ (¬1) بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَلَى حُمْرَاتٍ (¬2) لَنَا مِنْ جَمْعٍ، فَجَعَلَ يَلْطَخُ (¬3) أَفْخَاذَنا، وَيَقُولُ: "أُبَيْنِيَّ (¬4)، لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ" (¬5). * وُقُوفُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ (¬6)، ثُمَّ دَفْعُهُ إِلَى مِنًى: فَلَمَّا طَلَعَ الفجْرُ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ مُغْلِسًا (¬7) بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ (¬8)، وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبرِ، وَهُوَ يَوْمُ الْأَذَانِ بِبَرَاءَةِ اللَّهِ ¬

_ = الضعفة من النساء وغيرهن - رقم الحديث (1293) (301). (¬1) أُغيلمة: تصغير أَغْلِمة، جمع غلام في القياس، ولم يَرد في جمعه أغلمة، وإنما قالوا: غِلْمة، ومثله أُصيبية تصغير صِبية. انظر النهاية (3/ 343) - جامع الأصول (3/ 260). (¬2) حُمْرات: بضم الحاء، جمع حُمُر، والحُمُر جمع حمار. انظر جامع الأصول (3/ 260). (¬3) اللَّطْح: ضَرب لين بباطن الكف. انظر جامع الأصول (3/ 260). (¬4) الأُبَيْنِي: بوزن الأُعيمي: تصغير الأبنى بوزن الأعمى، وهو جمع ابن. انظر جامع الأصول (3/ 260). (¬5) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب التعجيل من جَمع - رقم الحديث (1940) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2082) (3003) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب من تقدم من جمع إلى منى لرمي الجمار - رقم الحديث (3025) - وأورده الحافظ في الفتح (4/ 344) - وحسن إسناده. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 342): المشعر بفتح الميم والعين، سُمي مشعر؛ لأنه معلم للعبادة، والحرام: لأنه من الحرم أو لحرمته. (¬7) الْغَلَس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصبح. انظر النهاية (3/ 339). (¬8) وهو يوم الأضحى، وهو أحب الأيام إلى اللَّه، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (2811) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1319) بسند =

وَرَسُولهِ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَاقتَهُ الْقصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَدَعَا اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، وَذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ (¬1). وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ حِينَ وَقَفَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلُّهَا مَوْقِفٌ فَقَالَ: "وَقَفْتُ هَاهُنَا، والْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَذَا قُزَحُ (¬3)، وَهُوَ الْمَوْقِفُ ¬

_ = صحيح عن عبد اللَّه بن قُرط -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحب الأيام إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يوم النحر، ثم يوم القر"، ويوم القر: هو يوم الغد من يوم النحر، وهو الحادي عشر من ذي الحجة، سمي بذلك لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي يسكنون ويقيمون. انظر النهاية (4/ 33). (¬1) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944). (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما جاء أن عرفة كلها موقف - رقم الحديث (1218) (149) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1194) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب وقوف الحاج بعرفات والمزدلفة - رقم الحديث (3854) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16751) (14440) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب الذبح - رقم الحديث (3048). (¬3) قُزح: بضم القاف وفتح الزاي هو العَلَم -أي جبل- الذي يقف عنده الإمام بالمزدلفة. =

* حديث عروة بن مصرس الطائي -رضي الله عنه-

وَجَمْعٌ (¬1) كُلُّهَا مَوْقِفٌ" (¬2). * حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُصرِّسٍ (¬3) الطَّائِيِّ -رضي اللَّه عنه-: وَهُنَاكَ سَأَلَ عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ الطَّائِيُّ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ بِمُزْدَلِفَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُ مِنْ جَبَلَيْ طَيْءٍ، أَكْلَلْتُ (¬4) مَطِيَّتِي (¬5)، وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاللَّهِ مَا ترَكْتُ مِنْ حَبْلٍ، إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ شَهِدَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ -صَلَاةَ الفجْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ- وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ (¬6) ". ¬

_ = انظر النهاية (4/ 51). (¬1) جَمْعٌ: هي المزدلفة، وتقدم ذلك. (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1348) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب الصلاة بجمع- رقم الحديث (1935) وإسناده حسن. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 345): مُضَرِّس: بضم الميم وفتح الضاد وتشديد الراء المكسورة. (¬4) أَكْلَلْتُ: أَتْعَبْتُ. انظر لسان العرب (12/ 142). (¬5) الْمَطِيَّةُ: بفتح الميم هي الناقة التي يُركب مَطاها، أي ظهرها. انظر النهاية (4/ 290). (¬6) التفث: المناسك. انظر تفسير ابن كثير (5/ 417). ومنه قوله تَعَالَى في سورة الحج آية (29): {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16208) - والطحاوي في =

* جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجمار

* جَمْعُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْجِمَارَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ أَنْ يَلْتَقِطَ لَهُ حَصَى الْجِمَارِ، فَالْتَقَطَ لَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ (¬1)، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ في يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ، بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلو في الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ في الدِّينِ" (¬2). ثُمَّ دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- منَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، مُخَالِفًا لِلْمُشْرِكِينَ الذِينَ كَانُوا لَا يُفِيضونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ خَلْفَهُ الفضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ (¬3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، وَانْطَلَقَ ¬

_ = شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4691) (4692) (4693) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء من أدرك الإمام بجمع. . . رقم الحديث (906) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يجب على المرء من الوقوف بعرفات في حجه - رقم الحديث (3850) - وإسناده صحيح. (¬1) الخذف: الصغار. انظر النهاية (1/ 343). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1821) (1851) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب رمي جمرة العقبة - رقم الحديث (3871) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب التقاط الحصى - رقم الحديث (4049) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬3) كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أردف خلفه أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل بن العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا من المزدلفة إلى منى، وقد روى ذلك البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1686) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب إدامة الحاج التلبية - رقم الحديث (1280) عن أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما.

* سؤال الرجل عن أمه

أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في سُبَّاقِ قُرَيْشٍ (¬1). فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ (¬2) يَجْرِينَ، فَطَفِقَ (¬3) الْفَضْلُ -رضي اللَّه عنه- يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الْآخَرِ يَنْظُرُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ (¬4). * سُؤَالُ الرَّجُلِ عَنْ أُمِّهِ: وَفِي مَسِيرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مِنًى أتِاهُ رَجُل فَسَأَلهُ عَنْ أُمِّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرةٌ، وَإِنْ حَمَلْتُهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ، وَإِنْ رَبَطْتُهَا خَشِيتُ أَنْ أَقْتُلَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَحُجَّ عَنْ أُمِّكَ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب متى يُدفع من جمع - رقم الحديث (1684) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (84). (¬2) الظُّعُنُ: بضم الظاء، النساء. انظر النهاية (3/ 143). (¬3) طفق: جعل. انظر النهاية (3/ 118). (¬4) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944). (¬5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3377) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2537) وإسناده صحيح.

* وصول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى وادي محسر

* وُصُولُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى وَادِي مُحَسِّرٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَسِيرُ سَيْرًا لَيِّنًا، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، فَلَمَّا أَتَى مُحَسِّرًا حَرَّكَ (¬1) ناقَتَهُ قلِيلًا (¬2). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الْمَوَاضِعِ التِي نَزَلَ فِيهَا بَأْسُ اللَّهِ بِأَعْدَائِهِ، فَإِنَّ هُنَالِكَ أَصَابَ أَصْحَابَ الْفِيلِ مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَلذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ الْوَادِي وَادِي مُحَسِّرٍ؛ لِأَنَّ الْفِيلَ حَسَرَ فِيهِ، أَيْ أَعْيَى، وَانْقَطَعَ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سُلُوكِهِ الْحِجْرَ دِيَارَ ثَمُودَ، فَإِنَّهُ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ (¬3). وَلَمَّا أَوْضَعَ (¬4) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في وَادِي مُحَسِّرٍ، قَالَ لِلنَّاسِ: "عَلَيْكُمْ بِحَصَى الخَذْفِ الذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ"، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَقَالَ: "لِتَأْخُذْ أُمَّتِي مَنْسَكَهَا، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا ألقَاهُمْ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا" (¬5). ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في مسند الإمام أحمد - رقم الحديث (613): قَرَعَ -أي ضربها بسوطه-. انظر النهاية (4/ 38). (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (1218) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14553) (21812). (¬3) انظر زاد المعاد (2/ 236) -وقد ذكرنا- في غزوة تبوك - ما فعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عندما مرَّ على ديار ثمود، فراجعه. (¬4) أوضع: أسرع. انظر النهاية (5/ 171). (¬5) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14553) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب الوقوف بجمع - رقم الحديث (3023) - وإسناده صحيح على شرط مسلم.

* رمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمرة العقبة يوم النحر

* رَمْيُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ: ثُمَّ سَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الطَّرِيقَ الْوُسْطَى التِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ، وَكَانَ يُلَبِّي في مَسِيرِهِ ذَلِكَ حَتَّى شَرَعَ في الرَّمْي. رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ رَدِفَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الفضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، فكِلَاهُمَا قَالَا: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (¬1). فَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ -وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى- وَقَفَ في أَسْفَلِ الْوَادِي، وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْجَمْرَةَ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَحَدُهُمَا آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، وَالْآخَرُ يُظَلِّله بِثَوْبٍ مِنَ الشَّمْسِ، وَكَانَ الْوَقْتُ ضُحًى، فَرَمَاهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، وَهُوَ يَقُولُ: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" (¬2). رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ قُدَامَةَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة - رقم الحديث (1686). (¬2) أخرج ذلك كله: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا - رقم الحديث (1297) (1298) (312) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14419) (27259).

* خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى يوم النحر

بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يوْمَ النَّحْرِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ عَلَى نَاقَتِهِ، لَا ضَرْبٌ، وَلَا طَرْدٌ، وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ (¬1). وَازْدَحَمَ النَّاسُ عِنْدَ الرَّمْي، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرَّوِيَّةِ في الرَّمْي، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدْ حَسَنٍ عَنْ أُمِّ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُوَلَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يُصِيبُ بَعْضُكُمْ، وَإِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ، فَارْمُوهَا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ" (¬2). * خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَقِيلَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ، وَأَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خُطْبَتِهِ هَذِهِ بَعْضَ مَا كَانَ أَلْقَاهُ في خُطْبَةِ عَرَفَةَ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ الذِي اجْتَمَعَ حَوْلَهُ. وَقَرَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في خُطْبَتِهِ هَذِهِ تَحْرِيمَ الزِّنَى، وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَعْرَاضِ، وَذَكَرَ حُرْمَةَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَحُرْمَةَ مَكَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَكَانَ مِمَّا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15411) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في كراهية طرد الناس عند رمي الجمار - رقم الحديث (919). وقال الترمذي: حديث قدامة بن عبد اللَّه حديث حسن صحيح. وقد تقدم شرح هذا الحديث عند الكلام على سعي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الصفا والمروة، فراجعه. (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16087) (27110).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ (¬1)، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقِعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ (¬2) الذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: "أَليْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ. ¬

_ (¬1) قال الإمام البغوي في شرح السنة (7/ 220 - 222): معناه أن العرب كانت في الجاهلية قد بدّلت أشهر الحُرم، وذلك أنهم كانوا يعتقدون تعظيم هذه الأشهر الحرم، ويتحرَّجون فيها عن القتال، فاستحل بعضهم القتال فيها من أجل أن عامة معايشهم كانت من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وكانوا إذا استحلّوا شهرًا منها، حَرَّموا مكانه شهرًا آخر، وهو النسيء الذي ذكره اللَّه سبحانه وتَعَالَى في سورة التوبة آية (37)، فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}. ومعنى النسيء: تأخير تحريم رجب إلى شعبان، والمحرم إلى صفر، مأخوذ من نسأت الشيء: إذا أخرته. . . إلى أن كان العام الذي حج فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فوافى حجهم شهر الحج المشروع، وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة اليوم التاسع، وخطب اليوم العاشر بمنى، وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع اللَّه عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض، وأمرهم بالمحافظة عليه، لئلا يتبدل في مستأنف الأيام. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (9/ 222): إضافة شهر رجب إلى قبيلة مُضر؛ لأنهم كانوا متمسكين بتعظيمه، بخلاف غيرهم.

فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: "أَليْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ ". قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: "أَليْسَتِ الْبَلْدَةَ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا، وَسَتَلقوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا أَوْ ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يُبَلِّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ" (¬1). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَسْرِقُوا" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الخطبة في منى - رقم الحديث (1739) (1741) - وكتاب المغازي - باب حجة الوداع - رقم الحديث (4406) - ومسلم في صحيحه - كتاب القسامة والمحاربين - باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال - رقم الحديث (1679) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20386) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (43) (1454) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب وقت الخطبة يوم النحر - رقم الحديث (4079). (¬2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18989) - وإسناده صحيح.

"أَلَا وَإِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَنْظُرُكُمْ، وَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ، فَلَا تُسَوِّدُوا وَجْهِي، أَلَا وَقَدْ رَأَيْتُمُونِي وَسَمِعْتُمْ مِنِّي، وَسَتُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، أَلَا وَإِنِّي مُسْتَنْقِذٌ رِجَالًا، وَمُسْتَنْقَذٌ مِنِّي آخَرُونَ، فَأَقُولُ: يَارَبِّ أَصْحَابِي! ، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ" (¬1). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا لَا يَجْنِي (¬2) جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ في بَلَدِكُمْ هَذَا أَبدًا، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ في بَعْضِ مَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ" (¬3). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعْبُدُوا رَبَّكُمْ (¬4)، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23497) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب الخطبة يوم النحر - رقم الحديث (3057) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (42) - وإسناده صحيح. (¬2) الجناية: الذنب والجُرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العذاب، أو القصاص في الدنيا والآخرة، والمعنى أنه لا يُطَالَب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهما جناية لا يعاقب بها الآخر، كقوله تَعَالَى في سورة الإسراء آية (15): {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. انظر النهاية (1/ 298). (¬3) أخرج ذلك الترمذي في جامعه - كتاب التفسير - باب ومن سورة التوبة - رقم الحديث (3341) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب الخطبة يوم النحر - رقم الحديث (3055) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب يوم الحج الأكبر - رقم الحديث (4085) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (52) - وإسناده صحيح. (¬4) هذه رواية الإمام أحمد في مسنده، وفي رواية الترمذي: "اتقوا اللَّه".

شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ" (¬1). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ (¬2) عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ (¬3)، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ" (¬4). وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ في خُطْبَتِهِ هَذِهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْ قَادَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ مُجَدَّعًا (¬5)، وَعَلَّمَهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ (¬6). قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ التَّيْمِيُّ -رضي اللَّه عنه-: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَنَحْنُ بِمِنًى، فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ مَا يَقُولُ وَنَحْنُ في مَنَازِلِنَا، فَطَفِقَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22161) - والترمذي في جامعه - كتاب الصلاة - باب ما ذكر في فضل الصلاة - رقم الحديث (620) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (7288) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬2) يغل: هو من الإغلال: الخيانة في كل شيء. انظر النهاية (3/ 341). (¬3) في رواية الإمام أحمد في مسنده: "الأمر". (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16738) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب الخطبة يوم النحر - رقم الحديث (3056) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1601) - وهو صحيح لغيره. (¬5) الْمُجَدَّع: بفتح الجيم والدال المشددة، والْجَدْعُ: قطع الأنف، والأذن، والشفة. انظر النهاية (1/ 239). قال النووي في شرح مسلم (9/ 40): ومقصوده التنبيه على نهاية خِسَّتِهِ، فإن العبد خسيس في العادة، ثم سواده نقص آخر، وجدعه نقص آخر. (¬6) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا - رقم الحديث (1298).

* سؤال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ (¬1). وَوَدَّعَ حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ (¬2). ثُمَّ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارُ مَنَازِلَهُمْ، فَقَالَ: "لِيَنْزِلِ الْمُهَاجِرُونَ هَهُنَا"، وَأَشَارَ إِلَى مَيْمَنَةِ الْقِبْلَةِ، "وَالْأَنْصَارُ هَهُنَا"، وَأَشَارَ إِلَى مَيْسَرَةِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ قَالَ: "لِيَنْزِلِ النَّاسُ حَوْلَهُمْ"، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ عَلَى يَسَارِ مُصَلَّى الْإِمَامِ بِمِنًى (¬3). وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُبْنَى لَهُ بِنَاءٌ يُظَلِّلُهُ مِنَ الْحَرِّ، فَقَالَ: "لَا، مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ" (¬4). * سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَهُنَاكَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَمَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ، وَعَمَّنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ، فَقَالَ: "لَا حَرَجَ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب ما يذكر الإمام في خطبته بمنى - رقم الحديث (1957) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1757) - وإسناده حسن. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الخطبة أيام منى - رقم الحديث (1742). (¬3) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب النزول بمنى - رقم الحديث (1951) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1757) - وإسناده حسن. (¬4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25541) - وابن ماجة في سننه - كتاب المناسك - باب النزول بمنى - رقم الحديث (3006) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب تحريم مكة - رقم الحديث (2019) - وإسناده ضعيف. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 244): أي لا شيء عليه مطلقًا من الإثم.

* نحر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هديه بمنى

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ، إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" (¬1). قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ مَنْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ الْبَحْثِ الشَّدِيدِ، وَلَا عَلَى اسْمِ أَحَدٍ مِمَّنْ سَأَلَ في هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَسَأُبَيِّنُ أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً، لَكِنْ في حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ (¬2) كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ، وَكَأَنَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ في عَدَمِ ضَبْطِ أَسْمَائِهِمْ" (¬3). * نَحْرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَدْيَهُ بِمِنًى: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمَنْحَرِ بِمِنًى، فنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً (¬4) بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَالَ: "نَحَرْتُ هَاهُنَا، وَمِنًى كُلّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَكُلُّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ذَبْحٌ" (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها - رقم الحديث (83) - وأخرجه في كتاب الحج - باب الفتيا على الدابة عند الجمرة - رقم الحديث (1736) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي - رقم الحديث (1306) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (6484) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2399). (¬2) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (6015) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب فيمن قدم شيئًا قبل شيء في حجه - رقم الحديث (2015) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1607) - وإسناده صحيح. (¬3) انظر فتح الباري (4/ 397). (¬4) الْبَدَنَةُ: تقع على الجمل والناقة والبقرة، وهي بالإبل أشبه، وسميت بدنة لعظمها وسمنها. انظر النهاية (1/ 108). (¬5) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما جاء أن عرفة كلها موقف - =

وَكَانَتْ تُقَرَّبُ إِلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْبُدْنُ أَرْسَالًا (¬1)، فَقُرِّبَ مِنْهُنَّ إِلَيْهِ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ فَطَفِقْنَ (¬2) يَزْدَلِفْنَ (¬3) إِلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ (¬4)، وَكَانَ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْحَرُهَا قَائِمَةً مَعْقُولَةً يَدِهَا الْيُسْرَى (¬5)، فَلَمَّا نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً أَمْسَكَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه-، أَنْ يَنْحَرَ مَا بَقِيَ مِنْهَا (¬6)، وَهِيَ سَبْعٌ وَثَلَاثُونَ بَدَنَةً، تَمَامُ الْمِائَةِ (¬7). ¬

_ = رقم الحديث (1218) (149) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14440) (16751) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (3854) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1194). (¬1) أَرْسالًا: أي أفواجًا وفرقًا متقطعة، يتبع بعضها بعضًا. انظر النهاية (2/ 202). (¬2) طفق: جعل. انظر النهاية (3/ 118). (¬3) يَزْدَلِفْنَ: أي يقربن منه. انظر النهاية (2/ 280). (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19075) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب في الهَدي إذا عطب قبل أن يبلغ - رقم الحديث (1765) والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1319) - وإسناده صحيح. (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب نحر الإبل مقيدة - رقم الحديث (1713) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب نحر الإبل قيامًا مقيدة - رقم الحديث (1320) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب كيف تنحر البدن - رقم الحديث (1767). (¬6) قلت هذا هو الصحيح، أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نحر بيده الشريفة ثلاثًا وستين، وعليًا -رضي اللَّه عنه- نحر الباقي، وهي رواية الإمام مسلم في صحيحه - رقم الحديث (1218). وأما ما رواه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1374) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (1764) عن عليّ -رضي اللَّه عنه- قال: لما نحر رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بُدنه، نحر بيده ثلاثين، وأمرني فنحرت سائرها. فهو حديث ضعيف. وأخرج الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2359) بسند ضعيف عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: أهدى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة الوداع مئة بدنة، نحر منها ثلاثين بدنة بيده، ثم أمر عليًّا -رضي اللَّه عنه- فنحر ما بقي منها. (¬7) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب يتصدق بجلال البدن - رقم =

* ذبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البقر عن نسائه

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: "اقْسِمْ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا (¬1) فِي الْمَسَاكينِ، وَلَا تُعْطِيَنَّ جَزَّارًا مِنْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتهَا، وَخُذْ لَنَا مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ حِذْيَهً (¬2) مِنْ لَحْمٍ، ثُمَّ اجْعَلْهَا فِي قِدْرٍ وَاحِدٍ حَتَّى نَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهَا، وَنَحْسُوَ مِنْ مَرَقِهَا"، فَفَعَلَ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * ذَبْحُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ: وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ؛ لأَنَّهُنَّ كُنَّ مُتَمَتِّعَاتٍ وَعَلَيْهِنَّ الْهَدْيُ (¬4). ¬

_ = الحديث (1718) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218). (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 371): الجِلال: بكسر الجيم وتخفيف اللام جمع جُل بضم الجيم، وهو ما يطرح على ظهر البعير من كساء ونحوه. (¬2) الْحِذْيَة: بكسر الحاء: القطعة. انظر النهاية (1/ 344). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب لا يعطي الجزار من الهدي شيئًا - رقم الحديث (1716) - وباب يتصدق بجلود الهدي - رقم الحديث (1717) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وباب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها - رقم الحديث (1317) (349) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1002) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب الاشتراك في الهدي - رقم الحديث (4105). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب ذبح الرجل البقر عن نسائه - رقم الحديث (1709) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (119) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2429).

* حديث شاذ

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ذَبَحَ عَنْهُنَّ كُلُّهُنَّ بَقَرَةً وَاحِدَةً (¬1). * حَدِيثٌ شاذٌّ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ النَّسَائيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ذَبَحَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ حَجَجْنَا بَقَرَةً بَقَرَةً (¬2). فَهُوَ حَدِيثٌ شَاذٌّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ (¬3)، مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَذَبَحَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فنَحَرُوا الْبَعِيرَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لَهُمْ عِنْدَمُا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ: ". . . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ"، كَانُوا يَشْتَرِكُونَ في الْهَدْيِ (¬4). * قِصَّةُ الْفَضْلِ مَعَ الخَثعَمِيَّةِ: رَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26109) - وأبو داود في سننه - رقم الحديث (1750) - وابن ماجه في سننه - رقم الحديث (3135) - ابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الهدي - رقم الحديث (4008) - وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب المناسك - باب النحر عن النساء - رقم الحديث (4115). (¬3) انظر فتح الباري (4/ 373). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من ساق البدن معه - رقم الحديث (1691) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الاشتراك في الهدي - رقم الحديث (1318) (351) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14265).

قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا وَضِيئًا (¬1) - فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ (¬2) مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ في الْحَجِّ أَدْرَكتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، وَذَلِكَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ (¬3). وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ وَالتِّرْمِذِيِّ في جَامِعِهِ: عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَنْحَرَ. . . وَاسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ في الحَجِّ، أَفيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حُجِّي عَنْ أَبِيكِ"، وَلَوَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُنُقَ الفَضْلِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ شَاهِدًا-: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكِ؟ ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) الْوَضَاءَة: الْحُسْنُ. انظر النهاية (5/ 169). (¬2) وفي رواية الترمذي في جامعه - رقم الحديث (900) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (562): جارية شابَّة. (¬3) في رواية النسائي في السنن الكبرى وذلك غداة النحر. والحديث أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب وجوب الحج وفضله - رقم الحديث (1513) - وباب حج المرأة عن الرجل - رقم الحديث (1855) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الحج عن العاجز لزمانه وهرم ونحوهما - رقم الحديث (1334) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب القضاء - باب الحكم بالظاهر - رقم الحديث (5915).

* فوائد الحديث

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً، فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا" (¬1). ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْفَضْلِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "ابْنَ أَخِي، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، وَلِسَانَهُ، غُفِرَ لَهُ" (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ: 1 - جَوَازُ الِارْتِدَافِ. 2 - وَفِيهِ تَوَاضُعُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - وَفِيهِ مَنْزِلَةُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي اللَّه عنه- مِنَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 4 - وَفِيهِ بَيَانُ مَا رُكِّبَ في الْآدَمِيِّ مِنَ الشَّهْوَةِ، وَجُبِلَتْ طِبَاعُهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الصُّوَرِ الْحَسَنَةِ. 5 - وَفِيهِ مَنْعُ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ وَغَضُّ الْبَصَرِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءَ خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (562) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء أن عرفة كلها موقف - رقم الحديث (900) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2540) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1798) - وإسناده حسن. (¬2) أخرج هذه الرواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3041) - وأوردها المنذري في الترغيب والترهيب - رقم الحديث (1741) - وإسناده ضعيف.

* حلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه ودعاؤه للمحلقين

6 - وَفِيهِ جَوَازُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ وَسَمَاعُ صَوْتِهَا لِلْأَجَانِبِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالِاسْتِفْتَاءِ عَنِ الْعِلْمِ، وَالتَّرَافُعِ في الْحُكْمِ وَالْمُعَامَلَةِ. 7 - وَفِيهِ أَنَّ إِحْرَامَ الْمَرْأَةِ في وَجْهِهَا فَيَجُوزُ لَهَا كَشْفُهُ فِي الْإِحْرَامِ. 8 - وَفِيهِ النِّيَابَةُ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْعِلْمِ حَتَّى مِنَ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ. 9 - وَفِيهِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَالِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِهِمَا، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِمَا مِنْ قَضَاءَ دَيْنٍ، وَخِدْمَةٍ، وَنَفَقَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا (¬1). * حَلْقُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأْسَه وَدُعُاؤهُ لِلْمحَلَقِينَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ نَحْرِ هَدْيِهِ دَعَا الْحَلَّاقَ، فَحَلَقَ رَأْسَهُ الشَّرِيفَ، حَلَقَهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدْوِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬2). رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْحَلَّاقِ: "خُذْ" وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (4/ 550). (¬2) قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (9/ 46): الصحيح المشهور أن الَّذي حلق رأس رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في حجة الوداع معمر بن عبد اللَّه العدوي -وانظر فتح الباري (1/ 368). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان أن السنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق - رقم الحديث (1305).

وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِم في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- والْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ، وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا في يَدِ رَجُلٍ (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عنْدَ الْمَنْحَرِ، هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضَحَايَا، فَلَمْ يُصْبِهُ وَلَا صَاحِبُهُ شَيْءٌ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ في ثَوْبِهِ، فَأَعْطَاهُ وَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ، فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ (¬3). وَحَلَقَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِلْمُحَلِّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا، وَللْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان - رقم الحديث (171). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب قرب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الناس، وتبركهم به - رقم الحديث (2325). (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16475). (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الحلق والتقصير عند الإحلال - رقم الحديث (1727) (1728) (1729) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب تفضيل الحلق على التقصير وجواز التقصير - رقم الحديث (1301) (1302).

* تطيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإفاضته بالبيت

* تَطَيُّبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَإِفَاضَتُهُ بالبَيْتِ: وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حِلَاقَةِ رَأْسِهِ الشَّرِيفِ، لَبِسَ الْقَمِيصَ، وَأَصَابَ الطِّيبَ، طَيَّبَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ، قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (¬1). ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَليُشْرِفَ، وَليَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشَوْهُ (¬2)، وَكانَ يَسْتَلمُ الرّكْنَ بمِحْجَنِهِ (¬3)، كُلَّمَا أَتَى عَلَيْهِ أَشَارَ إِلَيْهِ بهِ وَكَبَّرَ (¬4). * شُرْبُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ زَمْزَمٍ: ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَمْزَمَ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الطيب عند الإحرام - رقم الحديث (1539) - وباب الطيب بعد رمي الجمار - رقم الحديث (1754) - وأخرجه في كتاب اللباس - باب تطييب المرأة زوجها بيديها - رقم الحديث (5922) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب الطيب للمحرم عند الإحرام - رقم الحديث (1191). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (9/ 17): غشوه: أي ازدحموا عليه. (¬3) المحجن: عصا معقفة الرأس. انظر النهاية (1/ 335). (¬4) أخرج ذلك الإمام البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب استلام الركن بالمحجن - رقم الحديث (1607) - وباب التكبير عند الركن - رقم الحديث (1613) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وباب جواز الطواف على بعير وغيره، واستلام الحجر بمحجن - رقم الحديث (1273) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب رمي جمرة العقبة - رقم الحديث (3868) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24592).

* إقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى

"انْزِعُوا (¬1) بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسَ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ" (¬2)، ثُمَّ نَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ مَجَّ فِيهِ، ثُمَّ أَفْرَغَهُ في زَمْزَمَ (¬3)، ثُمَّ تَوَضَّأ مِنْهُ (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: . . . ثُمَّ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ" يَعْنِي عَاتِقِهِ، وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ (¬5). * إِقَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِنًى: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مِنًى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بِهَا ¬

_ (¬1) انزعوا: بكسر الزاي أي استقوا من زمزم الماء باليد، يقال: نزعت الدلو أَنزِعُها نزعًا: إذا أخرجتها. انظر النهاية (5/ 35) - صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 158). (¬2) قال الإمام النووي في شرح مسلم (8/ 159): معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج، ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستسقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستسقاء. (¬3) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب ذكر وصف حجة المصطفى -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3944) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5791) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3527). (¬4) أخرج وضوء رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من ماء زمزم: عبد اللَّه بن الإمام أحمد في زياداته على مسند أبيه - رقم الحديث (564) وإسناده حسن. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب سقاية الحاج - رقم الحديث (1635).

رَكْعَتَيْنِ (¬1)، وَقِيلَ: صَلَّاهَا بمَكَّةَ (¬2)، وَمَكَثَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بمِنًى أَيَّامَ التَّشْريقِ الثَّلَاثَة. وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشْرَ بْنَ سُحَيْمٍ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يُنَادِيَ بِمِنًى في النَّاسِ أَنْ "لَا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَإِنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ"، يَعْنِي أَيَّامَ التَّشْرِيقِ (¬3). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْتِي الْجِمَارَ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، بَعَدْ زَوَالِ الشَّمْسِ، مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، فَيَرْمِي كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالْوُسْطَى مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فيُطِيلُ الْقِيَامَ، وَيَرْفَعُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب الزيارة يوم النحر - رقم الحديث (1732) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر - رقم الحديث (1308) من حديث ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬2) أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1218) - من حديث جابر -رضي اللَّه عنه- وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24592) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب رمي جمرة العقبة - رقم الحديث (3868) من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وإسناده حسن. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهايهَ (5/ 201): والجمع بين الحديثين أن يُقال: إنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى، فوجد الناس ينتظرونه فصلى بهم، واللَّه أعلم. ورجوعه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى منى في وقت الظهر ممكن؛ لأن ذلك الوقت كان صيفًا، والنهار طويل. (¬3) أخرج ذلك ابن ماجة في سننه - كتاب الصيام - باب ما جاء في النهي عن صيام أيام التشريق - رقم الحديث (1720) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (1395) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15429) - وإسناده صحيح. أيام التشريق: هي الثلاثة الأيام التي تلي يوم الأضحى. انظر النهاية (2/ 416).

* مواضع الدعاء في حجته -صلى الله عليه وسلم-

يَدَيْهِ يَدْعُو، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْجعُ فيصَلِّي الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ (¬1). وَخِلَالَ إِقَامَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِمِنًى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَلْ بَقِيَ في مِنًى إِلَى حِينِ الْوَدَاعِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (¬2). * مَوَاضِعُ الدُّعَاءِ فِي حَجَّتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَقَدْ تَضَمَّنَتْ حَجَّتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتَّ وَقَفَاتٍ لِلدُّعَاءِ: 1 - عَلَى الصَّفَا. 2 - عَلَى الْمَرْوَةِ. 3 - بِعَرَفَةَ. 4 - بِمُزْدَلِفَةَ. 5 - عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى (الصُّغْرَى). 6 - عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ (الْوُسْطَى) (¬3). * اسْتِئْذَانُ الْعَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ: وَاسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب يكبر مع كل حصاة - رقم الحديث (1750) - وباب إذا رمى الجمرتين يقوم ويُسهل مستقبل القبلة - رقم الحديث (1751) - وباب رفع اليدين عند الجمرتين- رقم الحديث (1752) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وقت استحباب الرمي - رقم الحديث (1299) (314) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب رمي الجمار أيام التشريق - رقم الحديث (3886) (3887). (¬2) انظر في ذلك في زاد المعاد (2/ 284) لابن القيم، فقد أجاد وأفاد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. (¬3) انظر زاد المعاد (2/ 265).

* خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أوسط أيام التشريق

لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ السِّقَايَةِ، فَأَذِنَ لَهُ (¬1)، وَاسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رِعَاءُ الْإِبِلِ في الْبَيْتُوتَةِ خَارجَ مِنًى عِنْدَ الْإِبِلِ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَيَرْمُونَهُ في أَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ (¬2). * خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: وَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ في هَذَا الْيَوْمِ تُشْبِهُ خُطْبَتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَزَادَ فِيهَا بَعْضَ الْأُمُورِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ألا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى، أَبَلَّغْتُ؟ ". قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب هل يبيت أصحاب السقاية أو غيرهم بمكة ليالي منى؟ - رقم الحديث (1745) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق - رقم الحديث (1315). (¬2) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23775) - والترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب ما جاء في الرخصة للرعاة أن يرموا يومًا، ويدعوا يومًا - رقم الحديث (976) - وإسناده صحيح. (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23489).

* إفاضة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منى ونزوله المحصب

* إِفَاضَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مِنًى ونُزُولُهُ المُحَصَّبَ (¬1): ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مِنًى فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ يَوْمُ النَّفَرِ الْآخِرِ، وَنَفَرَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَأَفَاضَ إِلَى الْمُحَصَّبِ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ، وَهُوَ خَيْفُ (¬2) بَنِي كِنَانَةَ، فَوَجَدَ أَبَا رَافِع -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ عَلَى ثَقَلِ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَدْ ضَرَبَ لَهُ فِيهِ قُبَّةً، فنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُنَاكَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ وَهُوَ بِمِنًى: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ"، وَهُوَ الْمَكَانِ الذِي ضَرَبَ فِيهِ أَبُو رَافِعٍ قُبَّتَهُ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْمُحَصَّبِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَلَيْلَتِهِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً (¬5) هُنَاكَ (¬6). ¬

_ (¬1) الْمُحَصَّب: بضم الميم، موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب، وكان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نزل به؛ لأنه أسمح وأسهل لخروجه. انظر فتح الباري (4/ 423). (¬2) الخَيْف: بفتح الخاء وسكون الياء: ما ارتفع عن مجرى السيل وانحدر عن غلظ الجبل، ومسجد منى يُسمى مسجد الخَيْف؛ لأنه في سفح الجبل. انظر النهاية (2/ 88). (¬3) الثَّقَل: بفتح الثاء والقاف متاع المسافر. انظر النهاية (1/ 211). (¬4) أخرج ذلك كله البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب نزول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة - رقم الحديث (1590) ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب النزول بالمُحَصَّب يوم النفر - رقم الحديث (1313) (1314) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7240) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب التحصيب - رقم الحديث (2009). (¬5) في رواية الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5892): هجع هجعة. الهجع والهجعة والهجيع: طائفة من الليل، والهجوع: النوم ليلًا. انظر النهاية (5/ 214). (¬6) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب طواف الوداع - رقم الحديث =

* اعتمار عائشة رضي الله عنها من التنعيم

* اعْتِمَارُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ (¬1): وَفِي تِلْكِ اللَّيْلَةِ، لَيْلَةِ الْحَصْبَةِ (¬2)، رَغِبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في الْعُمْرَةِ، فَقَالَتْ لِلرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَرْجعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، وَأَرْجعُ أَنَا بِحَجَّةٍ؟ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَصْدُرُ (¬4) النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ، وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ؟ (¬5). فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ"، فَأَبَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا، فَخَرَجَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ ¬

_ = (1756) - وباب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح - رقم الحديث (1763) (1764) - وابن حبان في صحيحه - كتاب الحج - باب الإفاضة من منى لطواف الزيارة - رقم الحديث (3884) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (5892). (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 444): التنعيم: بفتح التاء وسكون النون وكسر العين: مكان معروف خارج مكة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (4/ 442): الحصبة على وزن الضربة، والمراد بها ليلة المبيت بالمُحَصَّب. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب التمتع والإقران والإفراد بالحج - رقم الحديث (1561) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (120). (¬4) صدر: رجع. انظر النهاية (3/ 15). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العمرة - باب أجر العمرة على قدر النصب - رقم الحديث (1787) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الحج - رقم الحديث (1211) (126).

* طواف الوداع

أَخِيهَا، فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ، فَفَرَغَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا لَيْلًا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ مَعَ أَخِيهَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في جَوْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ بِالْمُحَصَّبِ، قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هَلْ فَرَغْتُمَا؟ ". قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: نَعَمْ، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ (¬1). * طَوَافُ الْوَدَاعِ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ أَنْ لَا يَنْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِهِمْ حَتَّى يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ في كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ" (¬2). ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَكَّةَ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ -لَيْلَةِ الْحَصْبَةِ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ سَحَرًا قَبْلَ صَلَا الصُّبْحِ، وَلَمْ يَرْمَلْ في هَذَا الطَّوَافِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب قول اللَّه تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. . .} رقم الحديث (1560) - وباب عمرة التنعيم - رقم الحديث (1784) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (123) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24159) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3853). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب طواف الوداع - رقم الحديث (1755) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب وجوب طواف الوداع - رقم الحديث (1327). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. . .} - رقم الحديث (1560) - وباب المعتمر إذا طاف طواف العمرة، ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع؟ - رقم الحديث (17881) - ومسلم في صحيحه - =

* الرخصة للحائض في ترك طواف الوداع

* الرُّخْصَةُ لِلْحَائِضِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ: وَرَخَّصَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في تَرْكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ لِلْحَائِضِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَال: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ ". قُلْتُ: حَاضَتْ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ، فَقَال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلْتَنْفِرْ إِذًا" (¬1). ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُرْتَحِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مَاءَ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَحْمِلُهُ (¬2). * ارْتِحَالُ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ في غَدِيرِ خُمٍّ (¬3): خَرَجَ رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ (¬4) السُّفْلَى ثَنِيَّةِ كُدَيٍّ (¬5)، وَكَانَتْ ¬

_ = كتاب الحج - باب بيان وجوه الإحرام - رقم الحديث (1211) (123). (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت - رقم الحديث (1757) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض - رقم الحديث (1328) (382) - وأخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24101). (¬2) أخرجه الترمذي في جامعه - كتاب الحج - باب رقم (115) - رقم الحديث (984) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (1774). (¬3) غَدِيرُ خُمٍّ: بفتح الغين وكسر الدال، وضم الخاء: موضع بين مكة والمدينة، تصب فيه عين هناك. انظر النهاية (2/ 77). (¬4) الثَّنِيَّةُ: هي الطريق العالي في الجبل. انظر النهاية (1/ 220). (¬5) كُدي: بضم الكاف، وهي الثنية السفلى مما يلي باب العمرة. انظر النهاية (4/ 136). =

مُدَّةُ إِقَامَتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى غَدِيرِ خُمٍّ، نَزَلَ هُنَاكَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً عَظِيمَةً، وَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ: ". . . أَمَّا بَعْدُ، ألَا أَيُّهَا النَّاسُ! فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي (¬1) فَأُجِيبُ، وَأَنَا تَاركٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ (¬2): أَوَّلُهُمَا كتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ"، ثُمَّ قَالَ: "وَأَهْلُ بَيْتِي، أَذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ في أَهْلِ بَيْتِي" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِتْرَتِي (¬4) أَهْلُ بَيْتِي، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" (¬5). ¬

_ = وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب من أين يخرج من مكة؟ - رقم الحديث (1576) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب استحباب دخول مكة من الثنية العليا والخروج منها من الثنية السفلى- رقم الحديث (1257) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24121). (¬1) قال السندي في حاشيته على المسند (11/ 361): قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: رسول ربي: يريد ملك الموت. (¬2) قال ابن الأثير في النهاية (1/ 211): يُقال لكل خطير نفيس ثقل، وسمى هنا كتاب اللَّه وأهل بيته -صلى اللَّه عليه وسلم- ثقلين؛ لأن الأخذ بهما، والعمل بهما ثقيل، فسماهما ثقلين إعظامًا لقدرهما وتفخيمًا لشأنهما. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2408) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19265) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (3464). (¬4) عِتْرَةُ الرجل: أخص أقاربه. انظر النهاية (3/ 161). (¬5) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1765) (3463) وإسناده صحيح.

ثُمَّ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَضْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، وَبَرَاءَةَ عِرْضِهِ مِمَّا كَانَ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، بِسَبَبِ مَا كَانَ صَدَرَ مِنْهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعَدَالَةِ التِي ظَنَّهَا بَعْضُهُمْ جَوْرًا، وَتَضَيُّقًا، وَبُخْلًا، وَالصَّوَابُ كَانَ مَعَهُ -رضي اللَّه عنه- في ذَلِكَ (¬1)، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: "أَلسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ " (¬2). قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ هَذَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ" (¬3). وَلَمَّا أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَا الْحُلَيْفَةِ بَاتَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَطْرُقَ (¬4) النَّاسُ أَهَالِيَهُمْ لَيْلًا عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ (¬5)، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَرَأَى الْمَدِينَةَ كَبَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، ¬

_ (¬1) راجع بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليّ -رضي اللَّه عنه- إلى اليمن -من كتابنا هذا- لتعرف تفاصيل القصة. (¬2) في رواية ابن ماجة: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم". (¬3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18479) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6931) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1762) - وابن ماجة في سننه في المقدمة - فضل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (116) وإسناده حسن. قال الإمام الذهبىِ في السير (335/ 8): هذا حديث حسن عالٍ جدًّا، ومتنه متواتر. (¬4) كل آت بالليل طارق. انظر النهاية (3/ 110). (¬5) أُهْبَة: نُبهة. انظر لسان العرب (15/ 11). وأخرج كراهية أن يأتي الرجل المسافر أهله طروقًا: الإمام مسلم في صحيحه - كتاب الإمارة - باب كراهة الطروق - رقم الحديث (1928) (183).

* عمرة في رمضان كحجة

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ (¬1)، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ" (¬2). ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ نَهَارًا، فَأَتَى الْمَسْجِدَ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَيْتِهِ (¬3). * عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ كحَجَّةٍ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حَجَّتِهِ قَالَ لِأُمِّ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيَّةِ (¬4) رَضِيَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (9/ 95): آيبون: أي راجعون. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحج - باب خروج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- على طريق الشجرة - رقم الحديث (1533) - وأخرجه في كتاب العمرة - باب ما يقول إذا رجع من حج أو العمرة أو الغزو - رقم الحديث (1797) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره - رقم الحديث (1344) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (4496). (¬3) أخرج حديث أن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا دخل المدينة من سفر أو غيره بدأ بالمسجد: البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4418) - ومسلم في صحيحه - كتاب التوبة - باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه - رقم الحديث (2769). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (4/ 439): وقع عند ابن حبان في صحيحه بسند حسن لغيره - رقم الحديث (3699) أنها أم سُليم، ولفظه: جاءت أم سليم إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت: حج أبو طلحة وابنه، وتركاني، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أم سليم عمرة في رمضان تعدل حجة". ووقع عند أحمد بن منيع في مسنده بسند صحيح قصة أخرى لامرأة من الأنصار يقال لها: أم سنان. ثم حمل الحافظ ذلك على التعدد.

عَنْهَا: "مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا؟ ". قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ (¬1)، فَحَجَّ أَبُو وَلَدِنَا وَابْنُهُ عَلَى نَاضِحٍ، وَترَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ اعْتَمِرِي فِيهِ، فَإِنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) النَّاضِحُ: الناقة التي يستقى عليها. انظر النهاية (5/ 59). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العمرة - باب عمرة في رمضان - رقم الحديث (1782) - وأخرجه في كتاب جزاء الصيد - باب حج النساء - رقم الحديث (1863) - ومسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل العمرة في رمضان - رقم الحديث (1256) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2025).

الأحداث بين حجة الوداع ودنو أجله -صلى الله عليه وسلم-

الأحداث بين حجة الوداع ودنو أجله -صلى اللَّه عليه وسلم- * تَنَبُّؤُ مُسَيلِمَةَ الْكَذَّابِ قَبَّحَهُ اللَّهُ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ في السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَأَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ حَتَّى يَتَّبِعَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ إِلَى الْيَمَامَةِ أَخَذَ مُسَيْلِمَةُ يُفَكِّرُ في أَمْرِهِ حَتَّى ادَّعَى أَنَّهُ أُشْرِكَ في الْأَمْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَادَّعَى النُّبُوَّةَ. وَشَهِدَ لَهُ الرَّجَّالُ بْنُ عُنْفُوَةَ (¬1) قَبَّحَهُ اللَّهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَشْرَكَهُ في الْأَمْرِ مَعَهُ، فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِهِ. وَكَانَ الرَّجَّالُ قَدْ وَفَدَ مَعَ قَوْمِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَفَقِهَ في الدِّينِ، فَرَآه رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا مَعَ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ فِيكُمْ لَرَجُلًا ضِرْسُهُ فِي النَّارِ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الإصابة (2/ 446): الرَّجّال: بفتح الراء، وتشديد الجيم، وعُنْفُوَة: بضم العين. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (6/ 716): وكان هذا الملعون من أكبر ما أضل أهل اليمامة، حتى اتبعوا مسيلمة لعنهما اللَّه. وقد قُتِل الرَّجَّال هذا لعنه اللَّه مع مسيلمة الكذاب في معركة اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-

أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ" (¬1)، فَمَا زَالَا خَائِفِينَ حَتَّى ارْتَدَّ الرَّجَّالُ، وَآمَنَ بِمُسَيْلِمَةَ، وَشَهِدَ لَهُ زُورًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَشْرَكَ مُسَيْلِمَةَ مَعَهُ في النُّبُوَّةِ، فَكَانَ الرَّجَّالُ لَعَنَهُ اللَّهُ أَعْظَمَ فِتْنَةٍ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنَّهُمْ صَدَّقُوهُ وَاسْتَجَابُوا لَهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أُرِيَ قَبْلَ ذَلِكَ في الْمَنَامِ أَنَّهُ وُضِعَ في يَدَيْهِ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهَهُمَا، فنَفَخَهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلَهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ أَبِي هُريرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ في يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَب، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ في الْمَنَامِ أَنْ أَنْفُخَهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ (¬2) يَخْرُجَانِ بَعْدِي" (¬3). فَكَانَ أَحَدَهُمَا الْعَنْسِيُّ، صَاحِبُ صَنْعَاءَ، وَالْآخَرَ مُسَيْلِمَةُ، صَاحِبُ الْيَمَامَةِ (¬4). ¬

_ (¬1) أورد هذا الحديث الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 716). (¬2) قال المهلب فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (14/ 457): إنما أول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- السوارين بالكذابين؛ لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليسا من لبسه؛ لأنهما من حلية النساء عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له، وأيضًا ففي كونهما من ذهب، والذهب منهي عن لبسه دليل على الكذب، وأيضا فالذهب مشتق من الذهاب فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما فطارا، فعرف أنه لا يثبت لهما أمر. (¬3) قال الإمام النووي في شرح مسلم (15/ 28): المراد بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يخرجان بعدي" أي تظهران شوكتهما، أو محاربتهما ودعواهما النبوة بعد وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإلا فقد كانا في زمنه (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب قصة الأسود العنسي - رقم الحديث (4379) - ومسلم في صحيحه - كتاب الرؤيا - باب رؤيا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2274).

* سجع مسيلمة الكذاب قبحه الله

* سَجْعُ (¬1) مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَبَّحَهُ اللَّهُ: وَجَعَلَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ يَسْجَعُ الْأَسَاجِيعَ، وَيَنْظُمُ مِنْ كَلَامِ الْكُهَانِ وَالْمُنَجِّمِينَ مُضَاهَاةً (¬2) لِلْقُرْآنِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ قبَّحَهُ اللَّهُ: وَالطَّاحِنَاتِ طَحْنًا، وَالْعَاجِنَاتِ عَجْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خُبْزًا، وَالثَّارِدَاتِ (¬3) ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا، لَقَدْ فُضِّلْتُمْ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ (¬4)، وَمَا سَبَقَكُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ (¬5)، رِيفَكُمْ فَامْنَعُوهُ، وَالْمُعْتَرَّ (¬6) فَآوُوهُ، وَالْبَاغِي فنَاوِئُوهُ. وَسَجَعَ أَيْضًا قبَّحَهُ اللَّهُ عَلَى سُورَةِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، فَقَالَ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَوَاهِرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَهَاجِرْ، إِنَّ مُبْغِضَكَ رَجُلٌ فَاجِرٌ. ثُمَّ وَضَعَ مُسَيْلِمَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْمِهِ الصَّلَاةَ، وَأَحَلَّ لَهُمُ الْخَمْرَ وَالزِّنَا تَرْغِيبًا لَهُمْ في اتِّبَاعِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ نَبِيٌّ فَافْتَتَنَ بِهِ قَوْمُهُ. ¬

_ (¬1) السَّجْعُ: كلام له فواصل كفواصل الشعر من غير وزن. انظر لسان العرب (6/ 179). (¬2) ضَاهَأتُ الرجل: أي شابهته. انظر لسان العرب (8/ 96). ومنه قوله تعالى في سورة التوبة آية (30): {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. .} (¬3) الثَّرِيدُ: الطعام المتخذ من اللحم والخبز. انظرالنهاية (1/ 204). (¬4) أهل الوبر: هم أهل البوادي. انظر النهاية (5/ 127). (¬5) أهل المدر: هم أهل القرى والأمصار. انظر النهاية (4/ 264). (¬6) الْمُعْتَرُّ: بضم الميم هو الفقير، ومنه قوله تَعَالَى في سورة الحج آية (36): {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}. انظر تفسير ابن كثير (5/ 429).

* ظهور الكذابين وأولهم مسيلمة الكذاب

وَسَمَّى مُسيْلِمَةُ نَفْسَهُ "رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ"، غَيْرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَمَّاهُ "مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ"، وَاشْتَهَرَ بِهَذَا الِاسْمِ حَتَّى لَا يَكَادُ يُعْرَفُ بِغَيْرِهِ (¬1). * ظُهُورُ الْكَذَّابَينِ وَأَوَّلُهُم مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ: فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ في شَأْنِ مُسَيْلِمَةَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في النَّاسِ خَطِيبًا، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أَكْثَرْتُمْ في شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ كذَّابٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كَذَّابًا يَخْرُجُونَ قَبْلَ الدَّجَّالِ، كُلُّهُمْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ" (¬2). رُوِيَ أَنَّ طَلْحَةَ النَّمْرِيَّ جَاءَ الْيَمَامَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ مُسَيْلِمَةُ؟ . قَالُوا: مَهْ رَسُولَ اللَّهِ! . فَقَالَ: لَا، حَتَّى أَرَاهُ، فَلَمَّا جَاءَهُ قَالَ: أَنْتَ مُسَيْلِمَةُ؟ . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ يِأْتِيكَ؟ . قَالَ: رَحْمَانُ. ¬

_ (¬1) انظر تفاصيل ذلك كله في: سيرة ابن هشام (4/ 231 - 255) - البداية والنهاية (6/ 716) - الرَّوْض الأُنُف (4/ 354). (¬2) أخرج هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20464) - الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2952) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عما يكون في أمته - رقم الحديث (6652) - وإسناده ضعيف.

* كتاب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

قَالَ: أَفِي نُورٍ أَمْ فِي ظُلْمَةٍ؟ فَقَالَ: فِي ظُلْمَةٍ. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ كَذَّابٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَادِقٌ، وَلَكِنَّ كَذَّابَ رَبِيعَةَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ صَادِقِ مُضَرَ. وَاتَّبَعَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ الْجِلْفُ (¬1) لَعَنَهُ اللَّهُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ حَتَّى قُتِلَ مَعَهُ يَوْمَ عَقْرَبَا (¬2)، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ (¬3). * كِتَابُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثُمَّ كتَبَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ فِيهِ: مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ في الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفُ الْأَرْضِ، وَلقُرَيْشٍ نِصْفُ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ. وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النَّوَّاحَةِ (¬4)، وَالآخَرِ: ابْنُ أُثَالٍ، فَلَمَّا قُرِئَ الْكِتَابُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ ¬

_ (¬1) الجِلْف: هو الجافي في خَلْقِه وخُلُقه. انظر لسان العرب (2/ 332). (¬2) عقربا: منزل من أرض اليمامة، وهو لقوم من بني عامر بن ربيعة، . . . خرج إليها مسيلمة الكذاب لما بلغه سُرَى خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه- إلى اليمامة، فنزل بها في طرف اليمامة، وجعل ريف اليمامة وراء ظهره، وقتل مسيلمة لعنه اللَّه تَعَالَى بها، قتله وحشي بن حرب. انظر معجم البلدان (6/ 337). (¬3) انظر البداية والنهاية (6/ 720). (¬4) قلت: أما عبد اللَّه بن النواحة هذا: فقد قَتله عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- عندما كان واليًا =

لَهُمَا: "فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا؟ ". قَالَا: نَقُولُ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ ". قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّهِ. ¬

_ = للكوفة، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (4879) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار (11/ 312) بسند صحيح عن حارثة بن مُضرّب، قال: صليت الغداة -أي صلاة الفجر- مع عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- في المسجد، فلما سَلّم قام رجل، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فواللَّه لقد بِتُ هذه الليلة وما في نفسي على أحد من الناس حِنة -أي ضغينة-، وإني كنت استطرقت رجلًا من بني حنيفة لفرسي -أي طلب منه فحلا يعلو فرسه لكي تحمل منه- فأمرني أن آتيه بغلس -الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح- وإني أتيته، فلما انتهيت إلى مسجد بني حنيفة مسجد عبد اللَّه بن النواحة، سمعت مؤذنهم وهو يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن مسيلمة رَسُول اللَّهِ، فاتهمت سمعي، وكففت الفرس حتى سمعت أهل المسجد اتفقوا على ذلك، فما كذبه عبد اللَّه، وقال: مَنْ هاهنا؟ فقام رجال، فقال: عليّ بعبد اللَّه بن النواحة وأصحابه، قال حارثة: فجيء بهم وأنا جالس، فقال عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- لابن النواحة: ويلك! أين ما كنت تقرأ من القرآن؟ قال: كنت أتقيكم به، قال له: تُب، فأبى، فامر به عبد اللَّه قُرظة بن كعب الأنصاري، فأخرجه إلى السوق فجلد رأسه، قال حارثة: فسمعت عبد اللَّه يقول: مَن سَرّه أن ينظر إلى عبد اللَّه بن النواحة قتيلًا بالسوق، فليخرج، فلينظر إليه، قال حارثة: فكنت فيمن خرج ينظر إليه، ثم إن عبد اللَّه استشار أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بقية النفر، فقام عدي بن حاتم الطائي -رضي اللَّه عنه-، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فثؤلول من الكفر أطلع رأسه، فاحسمه، فلا يكون بعده شيء، وقام الأشعث بن قيس، وجرير بن عبد اللَّه البجلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فقالا: بل استتبهم، وكفلهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم، ونفاهم إلى الشام.

* كتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مسيلمة

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا" (¬1). * كِتَابُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مُسَيْلِمَةَ: ثُمَّ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، السَّلَاُم عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ حَبِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيِّ -رضي اللَّه عنه-. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى مُسَيْلِمَةَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ قَتَلَ حَبِيبَ بْنَ زَيْدٍ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رضي اللَّه عنه- (¬2). اسْتَمَرَّ مُسَيْلِمَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ في فُجُورِهِ وَكَذِبِهِ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ وَازْدَادَتْ شَوْكَتُهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَخَذَ يَجْمَعُ الْجُمُوعَ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَهَّزَ لَهُ خَلِيفَةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، جَيْشًا أَمَّرَ عَلَيهِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-، وَاسْتَطَاعَ أَنْ يَقْتُلَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، وَيَهْزِمَهُ في مَعْرَكَةِ الْيَمَامَةِ الْعَظِيمَةِ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3708) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (248) - وابن حبان في صحيحه - كتاب السير - باب الرسول - رقم الحديث (4878) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (9521) - وإسناده حسن. (¬2) انظر أسد الغابة (1/ 421). (¬3) انظر البداية والنهاية (6/ 717).

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَيْفًا مِنْ سُيُوفِهِ، وَحَتْفًا مِنْ حُتُوفِهِ فَبَعَجَ (¬1) بَطْنَهُ، وَفَلَقَ رَأْسَهُ، وَعَجَّلَ اللَّهُ بِرُوحِهِ إِلَى النَّارِ، وَبِئْسَ الْقَرَارُ (¬2). * * * ¬

_ (¬1) بعج: شقَّ. انظر النهاية (1/ 139). (¬2) انظر البداية والنهاية (6/ 736).

خروج الأسود العنسي

خُرُوجُ الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ وَظَهَرَ في صَنْعَاءَ بِالْيَمَنِ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، فَادَّعَى النُبوَّةَ أَيْضًا، وَتبِعَهُ قَوْمُهُ بَنُو عَبْسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي مَذْحَجٍ، وَسَمَّى نَفْسَهُ "رَحْمَانَ الْيَمَنِ". وَاسْمُ الْأَسْوَدِ هَذَا عَبْهَلَةُ بْنُ كَعْبٍ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ الْأَسْوَدَ، لِأَنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ أَيْضًا: ذُو الْخِمَارِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُخَمِّرُ وَجْهَهُ دَائِمًا (¬1). وَكَانَ الْأَسْوَدُ كَاهِنًا مُشَعْوِذًا، وَكَانَ يُرِي قَوْمَهُ الْأَعَاجِيبَ، وَيَسْبِي قُلُوبَ مَنْ سَمِعَ مَنْطِقَهُ (¬2). وَكَانَ أَوَّلُ خُرُوجِهِ بَعْدَ عَوْدَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَاتَبَتْهُ مَذْحَجٌ، وَوَاعَدُوهُ نَجْرَانَ، فَوَثَبُوا عَلَيْهَا، وَأَخْرَجُوا عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ، وَخَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَامِلَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَأَنْزَلُوهُ مَنْزِلَهُمَا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبِ الْأَسْوَدُ أَنِ اسْتَوْلَى عَلَى صَنْعَاءَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمُهَاجِرَ بْنَ أُمَيَّةَ -رضي اللَّه عنه- عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ قَوِيَ أَمْرُهُ بِمَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (8/ 427). (¬2) الْمَنْطِق: الكلام. انظر لسان العرب (14/ 188). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 427).

وَكَانَ لِلْأَسْوَدِ شَيْطَانَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: سُحَيْقٌ، وَالْآخَرِ: شُقَيْقٌ، وَكَانَا يُخْبِرَانِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ يَحْدُثُ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ. وَقُتِلَ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ الْكَذَّابُ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَتَلَهُ فَيْرُوزُ الدَّيْلَمِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (6/ 702) - دلائل النبوة للبيهقي (5/ 334).

ارتداد وتنبؤ طليحة بن خويلد الأسدي

ارْتِدَادُ وَتَنَبُّؤُ طُلَيْحَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ الأَسَدَيِّ كَذَلِكَ ظَهَرَ في بَنِي أَسَدٍ في حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُتَنبَّئٌ ثَالِثٌ، هُوَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، وَكَانَ قَدْ وَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، فكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَدْعُوهُ إِلَى الْمُوَادَعَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ضِرَارَ بْنَ الْأَزْوَرِ إِلَى عُمَّالِهِ عَلَى بَنِي أَسَدٍ وَأَمَرَهُمْ بِقِتَالِ مَنِ ارْتَدَّ، وَلَمْ يَلْبَثِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتُّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-، بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -رضي اللَّه عنه-، فَسَارَ إِلَيْهِ خَالِدٌ -رضي اللَّه عنه-، فَقَاتَلَ طُلَيْحَةَ فَهَزَمَهُ، وَهَرَبَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَشَهِدَ مَعْرَكَةَ القادِسِيَّةِ، فَأَبْلَى بِهَا بَلَاءً عَظِيمًا (¬1). قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (6/ 710). (¬2) سورة الأنعام آية (93).

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: فَمُسَيْلِمَةُ وَالْأَسْوَدُ، وَأَمْثَالُهُمَا لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ دُخُولًا في هَذِهِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْلَاهُمْ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ الْعَظِيمَةِ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (6/ 736).

السنة الحادية عشرة للهجرة

السَّنَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ بَعْثُ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى البَلْقَاءِ فِي يَوْمِ الِاثْنينِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، نَدَبَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- النَّاسَ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً (¬2)، وَأَمَّرَهُ عَلَى هَذَا الْجَيْشِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ الْخَيْلَ الْبَلْقَاءَ مِنْ أَرْضِ فِلِسْطِينَ فَقَالَ لَهُ: "سِرْ إِلَى مَوْضعِ مَقْتَلِ أَبِيكَ فَأَوْطِئْهُمُ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْجَيْشَ، فَأَغِرْ صَبَاحًا عَلَى أَهْلِ أُبْنَى (¬3) وَحَرِّقْ عَلَيْهِمْ (¬4)، وَأَسْرعِ السَّيْرَ تَسْبِقِ الْأَخْبَارَ، فَإِنْ ظَفَّرَكَ اللَّهُ فَأقْلِلِ اللَّبْثَ فِيهِمْ، وَخُذْ مَعَكَ الْأَدِلَّاءَ (¬5)، وَقَدِّمِ الْعُيُونَ (¬6) وَالطَّلَائِعَ (¬7) أَمَامَكَ" (¬8). ¬

_ (¬1) يقال: ندبته فانتدب: أي بعثته ودعوته فأجاب. انظر النهاية (5/ 29). (¬2) جزم بذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/ 500): على أن عمره -رضي اللَّه عنه- كان ثماني عشرة سنة. (¬3) أُبْنَى: بضم الهمزة اسم موضع في فلسطين. انظر النهاية (1/ 22). (¬4) أخرج قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأسامه -رضي اللَّه عنه-: "أغر صباحًا على أهل أُبنى، وحَرّق عليهم". أبو داود في سننه - كتاب الجهاد - باب في الحرق في بلاد العدو - رقم الحديث (2616) - وابن ماجة في سننه - كتاب الجهاد - باب التحريق بأرض العدو - رقم الحديث (2843) - وأورده ابن الأثير في جامع الإصول- رقم الحديث (1099) - وإسناده ضعيف. (¬5) الْأَدِلَّاءُ: جمع دليل وهو الذي يعرف الطريق. انظر لسان العرب (4/ 394). (¬6) الْعُيون: الجواسيس. انظر النهاية (3/ 299). (¬7) الطَّلائِعُ: هم القوم الذين يُبعثون ليطلعوا طِلْعَ العدو، كالجواسيس، واحدهم طليعة. انظر النهاية (3/ 121). (¬8) انظر الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 345) - سيرة ابن هشام (4/ 262).

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ بَدَأَ بِالنَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَعُهُ الذِي قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- لِوَاءً بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: "اغْزُ بِسْمِ اللَّهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتِلْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ"، فَخَرَجَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه- بِلِوَائِهِ مَعْقُودًا، فَدَفَعَهُ إِلَى بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيِّ -رضي اللَّه عنه-، وَعَسْكَرَ بِالْجُرْفِ (¬1). وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ وُجُوهِ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَّا انْتُدِبَ في تِلْكَ السَّرِيَّةِ، فَكَانَ فِيهِمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَسَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ (¬2). وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إِمْرَةِ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا بَلَغَ ¬

_ (¬1) الجُرْفُ: بضم الجيم موضع قريب من المدينة. انظر النهاية (1/ 254). وانظر التفاصيل في: طبقات ابن سعد (2/ 345). (¬2) قلت: وقع عند ابن سعد في طبقاته (2/ 345): أن أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- كان معهم، وهذا فيه نظر؛ لأن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره أن يُصلي بالناس. قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (5/ 234): ومن قال: إن أبا بكر كان فيهم فقد غلط فإن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اشتد به المرض وجيش أسامة -رضي اللَّه عنه- مخيم بالجرف، وقد أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا بكر أن يُصلي بالناس كما سيأتي، فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من رب العالمين، ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للإمامة في الصلاة التي هي أكبر أركان الإِسلام.

رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَلِكَ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَبَيَّنَ فَضْلَ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- وَأَنَّهُ خَلِيقٌ بِالْإِمَارَةِ كَمَا سَيَأْتِي. إِلَّا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمُقْلِقَةَ عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَعَلَتْ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- يَتَرَيَّثُ فِي مُعَسْكَرِهِ بِالجُرْفِ، حَتَّى يَعْرِفَ مَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا -وَهُوَ جَيْشُ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- أَوَّلُ بَعْثٍ يَنْفُذُ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-. * * *

دنو أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

دُنُوُّ أَجَلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَمَّا تَكَامَلَتِ الدَّعْوَةُ، وَسَيْطَرَ الْإِسْلَامُ عَلَى كُلِّ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَبَدَتْ طَلَائِعُ انْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ، وَظَهَرَتْ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، أَحَسَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِدُنُوِّ أَجَلِهِ، فَأَخَذَ يَتَهَيَّأُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ، وَظَهَرَ مِنْهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا يَدلُّ عَلَى اقْتِرَابِ الرَّحِيلِ عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ. * عَلَامَاتُ دُنُوِّ أَجَلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَأَوَّلُ مَا عَرَّفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ: 1 - نُزُولُ سُورَةِ النَّصْرِ: رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَنَّ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- سَأَلهُمْ (¬1) عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قَالُوا: فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ، قَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ . قَالَ: أَجَلْ، أَوْ مَثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم-، نُعِيَتْ لَهُ نَفْسُهُ (¬2). وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْهُ -رضي اللَّه عنه-: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، دَعَاهُ مَعَ أَشْيَاخِ ¬

_ (¬1) أي سأل كبار الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كما سيأتي واضحًا في الحديث التالي. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} - رقم الحديث (4969).

* فوائد الحديث

بَدْرٍ (¬1)، فَسَأَلهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا نَحْمَدُ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَقَالَ لِي عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَكَذَلِكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قَالَ -رضي اللَّه عنه-: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَعْلَمَهُ لَهُ، قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، وَذَلِكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: 1 - فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَتَأْثِيرٌ لِإِجَابَةِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ، وَيُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ. 2 - وَفِيهِ جَوَازُ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ بِمَا يُفْهَمُ مِنَ الْإِشَارَاتِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ فِي الْعِلْمِ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيهِ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 760): أي من شهد بدرًا من المهاجرين والأنصار، وكانت عادة عمر -رضي اللَّه عنه- إذا جلس للناس أن يدخلوا على قدر منازلهم في السابقة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب قوله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} رقم الحديث (4970).

اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ (¬1). وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَأَنَّهُ -رضي اللَّه عنه- أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْهُ}؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الِاسْتِغْفَارَ فِي خَوَاتِمِ الْأُمُورِ، فَيَقُولُ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ: "أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ" ثَلَاثًا (¬2)، وَإِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: "غُفْرَانَكَ" (¬3)، وإذا فرغ من مجلسه قال: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ" (¬4). وَوَرَدَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَنَاسِكِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} (¬5). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَلَاةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: "سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرج قول علي -رضي اللَّه عنه-: البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب كتابة العلم - رقم الحديث (111) - وانظر كلام الحافظ في فتح الباري (9/ 762). (¬2) أخرج ذلك مسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب استحباب الذكر بعد الصلاة - رقم الحديث (591) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22365). (¬3) أخرج ذلك أبو داود في سننه - كتاب الطهارة - باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء - رقم الحديث (30) - والترمذي في جامعه - كتاب الطهارة - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء - رقم الحديث (7) - وإسناده حسن. (¬4) أخرج ذلك الإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (10415) - والترمذي في جامعه - كتاب الدعوات - باب ما يقول إذا قام من مجلسه - رقم الحديث (3732) وإسناده صحيح. (¬5) سورة البقرة آية (199). وانظر كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في زاد المعاد. (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ =

2 - مدارسة القرآن

وَسُورَةُ النَّصْرِ هِيَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: صَدَقْتَ (¬1). قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ -وَهِيَ التَّوْبَةُ- (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ آخِرِيَّةَ سُورَةِ النَّصْرِ نُزُولُهَا كَامِلَةً، بِخِلَافِ بَرَاءَةٍ، فَإِنَّ غَالِبهَا نَزَلَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). 2 - مُدَارَسَةُ الْقُرْآنِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْرِضُ (¬4) الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ فِي رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَرَّةً، فَعَرَضَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ الذِي قُبِضَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ¬

_ = وَالْفَتْحُ} - رقم الحديث (4967) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب ما يقال في الركوع والسجود - رقم الحديث (484) (219). (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب التفسير- رقم الحديث (3024). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب التفسير - باب (1) - رقم الحديث (4654). (¬3) انظر فتح الباري (9/ 211 - 759). (¬4) قال ابن الأثير في النهاية (3/ 192): أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن، من المعارضة: المقابلة.

3 - مضاعفة اعتكاف رمضان

الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَسَرَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَخْبَرَهَا: "أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى الْأَجَلَ إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي، فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أنَّا لَكِ" (¬1). 3 - مُضَاعَفَةُ اعْتِكَافِ رَمَضَانَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا (¬2). 4 - الِاجْتهَادُ فِي الْعِبادَة: وَاجْتَهَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي الْعَامِ الذِي قُبِضَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَأَكْثَرَ مِنَ الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، نُعِيَتْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاستئذان - باب من ناجى بين يدي الناس - رقم الحديث (6285) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2450) (98) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (144). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الاعتكاف - باب الاعتكاف في العشر الأوسط في رمضان - رقم الحديث (2044) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8435).

5 - تلميح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باقتراب أجله

لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- نَفْسُهُ حِينَ أُنْزِلَتْ، فَأَخَذَ فِي أَشَدِّ مَا كَانَ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ (¬1). 5 - تَلْمِيحُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعَرِّضُ (¬2) لِأَصْحَابِهِ بِاقْتِرَابِ أَجَلِهِ، وَيُلَمِّحُ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ لِلنَّاسِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الْمُسْنَدِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لِتَأْخُذْ أُمَّتِي مَنْسِكَهَا، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاهُمْ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا" (¬4). رَوَى الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا (¬5) بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّر، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ! فَإِنَّمَا أنَّا بَشَرٌ يُوشِكٌ أَنْ يَأْتِي رَسُولُ رَبِّي (¬6) فَأُجِيبُ. . " (¬7). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي، ثُمَّ لَأَنْ ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى - كتاب التفسير - باب سورة النصر - رقم الحديث (11648). (¬2) عَرّض لي بالشيء: لم يُبينه. انظر لسان الرب (9/ 149). (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا - رقم الحديث (1297) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14419). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (14553) - وإسناده صحيح على شرط مسلم. (¬5) خُمّ: بضم الخاء موضع بين مكة والمدينة، تصب فيه عين هناك. انظر النهاية (2/ 77). (¬6) قال السندي في حاشيته على المسند (11/ 361): قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رسول ربي": يعني ملك الموت. (¬7) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2408) (36).

6 - صلاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على شهداء أحد

يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ" (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَقَالَ: "تَزْعُمُونَ (¬2) أَنِّي مِنْ آخِرِكُمْ وَفَاةً، إِنِّي مِنْ أَوَّلِكُمْ وَفَاةً، وَتَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا (¬3) يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" (¬4). 6 - صَلَاةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، فَصَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَطَلَبَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: "إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ (¬5)، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا". قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ -رضي اللَّه عنه- رَاوِي الْحَدِيثِ: فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب فضل النظر إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (2364). (¬2) في رواية الإِمام أحمد: "أتزعمون". (¬3) أفنادًا: أي جماعات متفرقين قومًا بعد قوم. انظر النهاية (3/ 427). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (16978) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عما يكون في أمته من الفتن - رقم الحديث (6646). (¬5) فرطكم: أي متقدمكم. انظر النهاية (3/ 388). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة أحد - رقم الحديث =

7 - استغفاره -صلى الله عليه وسلم- لأهل البقيع

7 - اسْتِغْفَارُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَهْلِ الْبَقِيعِ: وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ صَفَرٍ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى الْبَقِيعِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، فَاسْتَغْفَرَ لِأَهْلِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ -رضي اللَّه عنه- مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، فَانْطَلِقْ مَعِي"، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعْ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الْأُولَى". قَالَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ" (¬1). قَالَ أَبُو مُوَيْهِبَةَ -رضي اللَّه عنه-: فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ. ¬

_ = (4042) - ومسلم في صحيحه - كتاب الفضائل - باب إثبات حوض نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- وصفاته - رقم الحديث (2296) (31) - والإمام أحمد في مسنده رقم الحديث (17344). (¬1) أمر تخييره -صلى اللَّه عليه وسلم- بين ما عند اللَّه وبين الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، ثابت، أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (4437) - مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2444) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: كان رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول وهو صحيح: "إنه لم يُقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يُخيّر".

* ابتداء شكوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومدة مرضه

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي وَالْجَنَّةَ"، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَجَعِهِ الذِي قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ (¬1). * ابْتِدَاءُ شَكْوَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَمُدَّةُ مَرَضِهِ: ابْتَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَكْوَاهُ، الذِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ، فِي أَوَاخِرِ لَيَالِي شَهْرِ صَفَرٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرَضِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ (¬2). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مُدَّةِ مَرَضِهِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ إِلَى أَنْ ثَقُلَ بِهِ الْمَرَضُ جِدًّا، فَانْقَطَعَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَكَانَ أَوَّلَ مَاُ بدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ وَجَعِهِ الصُّدَاعُ الشَّدِيدُ فِي رَأْسِهِ الشَّرِيفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَجَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ (¬3)، وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهُ، فَقَالَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (15997) - والحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب استغفاره -صلى اللَّه عليه وسلم- لأهل البقيع - رقم الحديث (4440) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 299). (¬2) انظر فتح الباري (8/ 473). (¬3) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 299) قالت عائشة: رجع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من البقيع. وإسناده حسن.

* تمريض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة رضي الله عنها

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ"، ثُمَّ قَالَ: "وَمَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، ثُمَّ دَفَنْتُكِ؟ ". قُلْتُ: لَكَأَنِّي بِكَ أَنْ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي، فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكِ، فتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ بُدِئَ فِي وَجَعِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ. (¬1) * تَمْرِيضُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَزْوَاجِهِ، كَمَا هِيَ عَادَتُهُ فِي تَعَاهُدِهِنَّ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَيْتِ مَيْمَونُةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَأَذِنَّ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ، فَخَرَجَ بَيْنَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25908) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6586) - وابن اسحاق في السيرة (4/ 300) - وأصله في صحيح البخاري - كتاب المرضى - باب ما رُخِّصَ للمريض أن يقول. . . - رقم الحديث (5666) - وكتاب الأحكام - باب الاستخلاف - رقم الحديث (7217).

بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ (¬1)، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُعْتَمِدًا (¬2) عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلَى رَجُلٍ آخَرَ، هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُحِبُّ أَنْ يُطَبَّبَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ يَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ ، أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ " يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَّ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونَ حَيْثَ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنَّ رَسُولَ ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في مسند الإِمام أحمد - رقم الحديث (25841) - بسند حسن: قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: جيئ به -صلى اللَّه عليه وسلم- محمولًا في كساء، فدخل عليّ، وبعث إلى النساء، فقال: "إني قد اشتكيت، وإني لا أستطيع أن أدور بينكن، فائذن لي، فلأكن عند عائشة". (¬2) في رواية أخرى: يُهادى: بضم الياء، وفتح الدال أي يعتمد على الرجلين متمايلًا في مشيه من شدة الضعف. انظر فتح الباري (2/ 375). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة - رقم الحديث (198) - وكتاب الأذان - باب حد المريض أن يشهد الجماعة - رقم الحديث (665) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر - رقم الحديث (418) (91) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24061). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4450) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2443).

* اشتداد الوجع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ جَعَلَ يَدُورُ فِي نِسَائِهِ وَيَقُولُ: "أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ "، حِرْصًا عَلَى بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَلَمَّا كَانَ يَوْمِي سَكَنَ (¬1). * اشْتِدَادُ الْوَجَعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَاشْتَدَّتْ وَطْأَةُ الْمَرَضِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبَدَأَتِ الْحُمَّى تَشْتَدُّ عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَارْتَفَعَتْ حَرَارَةُ جِسْمِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، حَتَّى إِنَّ حَرَارَتَهَا لَتُوجَدُ مِنْ فَوْقِ الثِّيَابِ. رَوَى ابْنُ مَاجَه وَالطَّحَاوِيُّ وَالبُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يُوعَكُ (¬2)، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُ حَرَّهُ (¬3) بَيْنَ يَدِي فَوْقَ اللِّحَافِ (¬4)، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَشَدَّهَا عَلَيْكَ (¬5)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّا كَذَلِكَ، يُضَعَّفُ لَنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَعَّفُ لَنَا الْأَجْرُ" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب فضل عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (3774). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 250): الوعك: بفتح الواو وسكون العين: الحُمى. (¬3) في رواية الطحاوي قال -رضي اللَّه عنه-: فوجدت حرارتها -أي حرارة الحُمى-. (¬4) في رواية الطحاوي: القطيفة. (¬5) في رواية الطحاوي قال -رضي اللَّه عنه-: ما أشد حر حماك يا رَسُول اللَّهِ. (¬6) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الفتن - باب الصبر على البلاء - رقم الحديث (4024) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2210) - والبخاري في الأدب المفرد - رقم الحديث (395).

وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- قاَلَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسَسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ"، فَقُلْتُ: ذَلِكَ، أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَجَلْ"، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ (¬1) فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ وَرَقُ الشَّجَرِ" (¬3). وَرَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ (¬4) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ¬

_ (¬1) في رواية البخاري: شوكة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المرضى - باب أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل - رقم الحديث (5648) - ومسلم في صحيحه - كتاب البر والصلة والآداب - باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن - رقم الحديث (2571) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2209). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المرضى - باب شدة المرض - رقم الحديث (5647). (¬4) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (11/ 249): المراد بالوجع المرض، والعرب تسمي كل وجع مرضًا. (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المرضى - باب شدة المرض - رقم الحديث (5646) - ومسلم في صحيحه - كتاب البر والصلة والآداب - باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن - رقم الحديث (2570).

* قراءة المعوذات على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَاتِ (¬1)، وَتَنْفُثُ (¬2) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهِنَّ، وَتَمْسَحُ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَجَاءَ بَرَكَتِهَا، فَقدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ، كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا (¬3). * لَدُّ (¬4) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ شِدَّةِ وَجَعِهِ يُغْمَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُفِيقُ، وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَخَافُوا عَلَيْهِ، وَظَنُّوا أَنَّ بِهِ ذَاتَ الْجَنْبِ (¬5)، فَلَدُّوهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (11/ 351): المراد بالمعوذات: سورة الفلق، والناس، والإخلاص. (¬2) النفث بالفم: هو شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل؛ لأن التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق. انظر النهاية (5/ 75). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الطب - باب الرقى بالقرآن والمعوذات - رقم الحديث (5735) - ومسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب رقية المريض بالمعوذات والنفث - رقم الحديث (2192) (51). (¬4) اللَّدُود: بفتح اللام وضم الدال الأولى من الأدوية: وهو ما يُسقاه المريض في أحد شقي الفم. انظر النهاية (4/ 211) - وفتح الباري (8/ 496). (¬5) ذات الْجَنْب: بفتح الجيم وسكون النون هي الدُّبَيلَةُ والدُّمَلُ الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب، وتنفجر إلى داخل، وقلما يسلم صاحبها. انظر النهاية (1/ 293).

* وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعثمان -رضي الله عنه-

حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَتَشَاوَرَ نِسَاؤُهُ فِي لَدِّهِ، فَلَدُّوهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: "مَا هَذَا؟ ، أَفِعْلُ نِسَاءٍ يَجِئْنَ مِنْ هَاهُنَا؟ "، وَأَشَارَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ فِيهِنَّ، فَقَالُوا: كُنَّا نَتَّهِمُ بِكَ ذَاتَ الْجَنْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ ذَلِكَ دَاءٌ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَنِي بِهِ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ (¬1)، إِلَّا عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ"، يَعْنِي الْعَبَّاسَ، قَالَتْ: فَلَقَدْ الْتَدَّتْ مَيْمُونَةُ يَوْمَئِذٍ، وَإِنَّهَا لَصَائِمَةٌ لِعَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه-: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، فَجَاءَ، فَخَلَا بِهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُكَلِّمُهُ وَوَجْهُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ، قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلَامٍ كَلَّمَهُ، أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ، وَقَالَ: "يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ (¬3) قَمِيصًا (¬4)، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير في النهاية (4/ 211): فعل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك عقوبة لهم؛ لأنهم لدوه بغير إذنه. (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24870) (27469) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (1935) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6587). وأصل لده -صلى اللَّه عليه وسلم- أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (4458). (¬3) هذه رواية الإِمام أحمد في مسنده - وفي رواية ابن حبان في صحيحه: "يُقمّصك". (¬4) أراد بالقميص: الْخِلَافَة، وهو من أحسن الاستعارات. انظر النهاية (4/ 94).

فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي، يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلقانِي" ثَلَاثًا (¬1). وَكَانَتْ وَصِيَّةُ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هَذِهِ لِعُثْمَانَ -رضي اللَّه عنه- عِنْدَ وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَاءَ ذَلِكَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى التِي أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْعَدْوِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: هَلْ عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ؟ فَقَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي سَأُحَدِّثُكَ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَتْ: يَا حَفْصَةُ نَشَدْتُكِ اللَّهَ أَنْ تُكَذِّبِينِي بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقِينِي بِبَاطِلٍ، قَالَتْ: أَفْعَلُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هَلْ تَعْلَمِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُغْمِيَ عَلَيْهِ؟ فَقُلْتُ: أَفَرَغَ؟ (¬2). قُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَأَفَاقَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: افْتَحُوا عَنْهُ. فَقُلْتُ: أَبِي، فَسَكَتَ، فَقُلْتِ أنتِ: أَبِي، فَسَكَتَ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، أَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24566) - وابن حبان في صحيحه - كتاب إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مناقب الصحابة - باب ذكر عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (6915) - وابن ماجه في سننه - في المقدمة - رقم الحديث (112) (113). (¬2) فرغ: مات. انظر لسان العرب (10/ 241). (¬3) أي قالت: فرغ.

* خطبة مرض الموت

فَقُلْتُ: أَتَعْلَمِينَ أَنَّ عَلَى الْبَابِ لَرَجُلًا مَا هُوَ بِأَبِي وَلَا بِأَبِيكِ، فَانْظُرِي مَنْ هُوَ؟ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي اللَّه عنه-، فَدَخَلَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْنُهْ" ثَلَاثًا، حَتَّى اتَّكَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَدِهِ، فَجَعَلَهَا مِنْ وَرَاءِ عُنُقِهِ، ثُمَّ سَارَّهُ، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ: فَهِمْتُ. قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَوَعَى قَلْبِي حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). * خُطْبَةُ مَرَضِ الْمَوْتِ: وَهِيَ آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَبْلَ وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ اشْتَدَّ الْوَجَعُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَارْتَفَعَتْ حَرَارَتُهُ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَ الْإِغْمَاءِ قَالَ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ سبْعَ (¬2) قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (835). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 489): قيل الحكمة في هذا العدد أن له خاصية في دفع ضرر السم والسحر، وقد ثبت: * في صحيح البخاري - رقم الحديث (5769) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (2047) (155) عن سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من تَصَبَّح بسبع تمرات، عجوة، لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر". * وروى مسلم في صحيحه - رقم الحديث (2202) عن عثمان بن أبي العاص -رضي اللَّه عنه- أنه شكى إلى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضع يدك على الذي تألّم من جسدك، وقيل: باسم اللَّه ثلاثًا، وقيل: سبع مرات: أعوذ باللَّه وقدرته من شر ما أجد وأحاذر". =

أَوْكِيَتُهُنَّ (¬1) مِنْ آبَارٍ شَتَّى، لَعَلِّي أَسْتَرِيحُ، فَأَعْهَدَ إِلَى النَّاسِ". فَجِيءَ بِالْقِرَبِ، فَأَجْلَسُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مِخْضَبٍ (¬2) مِنْ نُحَاسٍ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَصَبُّوا عَلَيْهِ الْمَاءَ، حَتَّى طَفِقَ (¬3) يُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ (¬4). ¬

_ = * وروى الإِمام أحمد في مسنده بسند صحيح - رقم الحديث (2137) عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من عبد مسلم يعود مريضًا لم يحضر أجله، فيقول سبع مرات: أسأل اللَّه العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عوفي". * وروى الترمذي في جامعه - رقم الحديث (2092) - وابن ماجه في سننه - رقم الحديث (2156) بسند صحيح - وأصله في صحيح البخاري - رقم الحديث (2276) عن أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- قال: بعثنا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سرية، فنزلنا بقوم، فسألناهم القِرى -أي الضيافة- فَلُدِغ سيدهم، فأتونا، فقالوا: هل فيكم من يرقى من العقرب؟ قلت: نعم، أنا. . . فقرأت عليه: الحمد للَّه رب العالمين سبع مرات، فبرأ. . . . (¬1) الوِكاء: بكسر الواو هو الخيط الذي تشد به رأس القربة. انظر النهاية (5/ 193). ومعنى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لم تُحْلَلَ أوكيتهن": لأن الماء الذي لم يُحلل عنه الوكاء يكون أطهر لعدم وصول الأيدي إليه. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 402): المِخْضَب: بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الضاد هو الإناء الذي يغسل فيه الثياب. (¬3) طَفِقَ: جعل. انظر النهاية (3/ 118). (¬4) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 306): قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حسبكم حسبكم". ومعنى حسبكم أي كفاكم. انظر لسان العرب (3/ 162). وأخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الوضوء - باب الغسل والوضوء في المخضب - رقم الحديث (198) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4442) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25179) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6596).

فَعِنْدَ ذَلِكَ أَحَسَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخِفَّةٍ، فَخَرَجَ مُتَوَكِّئًا عَلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَاصِبًا رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ (¬1) دَسْمَاءَ (¬2)، وَعَلَيْهِ مَلْحَفَةٌ مُتَعَطِّفًا بِهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ، حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَلَمْ يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ جَلَسَ -وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ-، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لِلشُّهَدَاءِ الذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ (¬3)، ثُمَّ قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وأمهاتنا، فَعَجِبَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ! إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ -رضي اللَّه عنه- رَاوِي الْحَدِيثِ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ الْعَبْدُ (¬4)، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا. ¬

_ (¬1) هذه رواية البخاري في صحيحه - رقم الحديث (3800) - وابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (6593). وفي رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (467) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2432) (3800): خرقة. (¬2) الدسماء: السوداء. انظر النهاية (2/ 110). (¬3) أخرج استغفاره -صلى اللَّه عليه وسلم- لشهداء أُحد: ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6596) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21951) - وإسناده صحيح. (¬4) في رواية أخرى في الصحيح: المخيّر.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صَحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ" (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ (¬2) فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الخوخة والممر في المسجد - رقم الحديث (466) - وأخرجه في كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر" - رقم الحديث (3654) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2382) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2432) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6594) (6860) (6861). (¬2) الْخَوْخَة: باب صغير كالنافذة الكبيرة. انظر النهاية (2/ 81). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب الخوخة والممر في المسجد - رقم الحديث (467) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2382). قال الخطابي وابن بطال وغيرهما فيما نقله عنهم الحافظ في الفتح (7/ 362): في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر -رضي اللَّه عنه-، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر، وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة، والأمر بالسد كناية عن طلبها، كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها، وإلى هذا جنح ابن حبان، فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا دليل على أنه الخليفة بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه حسم بقوله: "سدوا عني كل خوخة في المسجد" أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده.

ثُمَّ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: "أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كُرْشِي (¬1) وَعَيْبَتِي (¬2)، وَقَدْ قَضَوُا الذِي عَلَيْهِمْ (¬3)، وَبَقِي الذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ" (¬4). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَتَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ أَمْرا يَضُرُّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعُهُ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ" (¬5). ثُمَّ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَضْلَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي اللَّه عنه- وَأَنَّهُ خَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتهِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 498): أي بِطَانَتِي وخَاصَّتي الذين أثق بهم، وأعتمدهم في أموري. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 498): الْعَيْبَةُ: بفتح العين: هو المستودع الذي يضع فيه الرجل نفيس ما عنده. (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (7/ 498): يشير -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ما وقع لهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم بايعوا على أن يؤوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وينصروه على أن لهم الجنة، فوفوا بذلك. (¬4) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" - رقم الحديث (3799) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رقم الحديث (2510) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21951). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" - رقم الحديث (3800) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2629).

* رواية غريبة وضعيفة

اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا (¬1) لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ" (¬2). * رِوَايَةٌ غَرِيبَة وَضَعِيفَةٌ: ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ دَنَا مِنِّي خُفُوقٌ (¬3) مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَلَنْ تَرَوْني فِي هَذَا الْمَقَامِ فِيكُمْ، وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّ غَيْرَهُ غَيْرُ مُغْنٍ عَنِّي حَتَّى أَقُومَ فِيكُمْ، أَلَا فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا، فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالًا، فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا، فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ، وَلَا يَقُولَنَّ قَائِلٌ: أَخَافُ الشَّحْنَاءَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِي، وَلَا مِنْ خُلُقِي، وَإِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ مَنْ أَخَذَ حَقًّا، إِنْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ، وَحَلَّلَنِي، فَلَقِيتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ". فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِي عِنْدَكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَعْطِهِ يَا فَضْلُ" (¬4). ¬

_ (¬1) أي أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب مناقب زيد بن حارثة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (3730) - وكتاب المغازي - باب (87) - رقم الحديث (4469) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب فضائل زيد بن حارثة -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (2426) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5300). (¬3) الخفوق: الغياب. انظر لسان العرب (4/ 158). (¬4) أخرج ذلك البيهقي في دلائل النبوة (7/ 179) - وإسناده ضعيف جدًا - وانظر تعليق الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ على كتاب فقه السيرة ص 464 للشيخ محمد الغزالي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

* هم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب كتابا

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ: وَفِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ (¬1). * هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يَكتُبَ كِتَابًا: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ قَبْلَ وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ اشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ: "ائْتُونِي بِكِتَابٍ (¬2) أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ (¬3)، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولَ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ (¬4) وَالِاخْتِلَافَ عِنْدَ ¬

_ (¬1) انظر البداية والنهاية (5/ 243). (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 282): أي بأدوات الكتاب، ففيه مجاز الحذف، وقد صرّح بذلك في رواية مسلم - رقم الحديث (1637) (21) قال: "ائتوني بالكتف والدواة" والمراد بالكتف عظم الكتف؛ لأنهم كانوا يكتبون فيها. (¬3) قال الإِمام النووي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في شرح مسلم (11/ 76): أما كلام عمر -رضي اللَّه عنه- فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح هذا الحديث على أنه من دلائل فقه عمر -رضي اللَّه عنه- وفضائله، ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب -صلى اللَّه عليه وسلم- أمورًا ربما عجزوا عنها، واستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر -رضي اللَّه عنه-: حسبنا كتاب اللَّه، لقوله تَعَالَى في سورة الأنعام آية (38): {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} , وقوله تَعَالَى في سورة المائدة آية (3): {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فعلم أن اللَّه تَعَالَى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة، فكان عمر -رضي اللَّه عنه- أفقه من ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وموافقيه. (¬4) اللَّغَطُ: صوت وضّجَّة لا يفهم معناها. انظر النهاية (4/ 221).

* فوائد الحديث

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قُومُوا عَنِّي، لَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ". فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ (¬1) كُلَّ الرَّزِيَّةِ، مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ، مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ (¬2). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَفِي الْحَدِيثِ: 1 - دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ. 2 - وفَيِهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا فِي حِرْمَانِ الْخَيْرِ، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ الرّجَلْيِن اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا فَرُفِعَ تَعْيِينُ لَيْلَةِ القدْرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ (¬3). * وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: وَأَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِثَلَاثٍ: 1 - إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (1/ 283) الرزية: بفتح الراء وكسر الزاي: معناها المصيبة. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب كتابة العلم - رقم الحديث (114) وأخرجه في كتاب الجهاد والسير - باب جوائز الوفد - رقم الحديث (3053) - ومسلم في صحيحه - كتاب الوصية - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به - رقم الحديث (1637) (20) (22) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1935) (2990). (¬3) انظر فتح الباري (1/ 283). وأخرج حديث إخفاء ليلة القدر بسبب تلاحي الرجلان: البخاري في صحيحه - كتاب فضل ليلة القدر - باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس - رقم الحديث (2023) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (22672).

2 - إِجَازَةُ الْوَفْدِ (¬1) بِنَحْوِ مَا كَانَ يُجِيزُهُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم-. 3 - أَمَّا الثَّالِثَةُ، فَقَدْ نَسِيَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَاوَي الْحَدِيثِ (¬2). قَالَ الدَّاوُدِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ بِالْقُرْآنِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْغَافِقِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) أَنْ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسَتَرْجِعُونَ إِلَى قَوْمٍ يُحِبُّونَ الْحَدِيثَ عَنِّي، فَمَنْ حَفِظَ شَيْئًا فَلْيُحَدِّثْ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ، فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬4). وَقِيلَ الثَّالِثَةُ: تَجْهِيزُ جَيْشِ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه-، وَقَوَّاهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ ¬

_ (¬1) الوفد: الذين يقصدون الملوك في طلب حوائجهم، ويأتونهم في مهماتهم، وإجازتهم: إعطاؤهم الجائزة، وهي ما يعطون من العطاء والصلة. انظر جامع الأصول (11/ 71). (¬2) أخرج ذلك كله: البخاري في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب جوائز الوفد - رقم الحديث (3053) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4431) - ومسلم في صحيحه - كتاب الوصية - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به - رقم الحديث (1637) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1935). (¬3) زاد الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (412): في حجة الوداع. (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18946) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (412) - والحاكم في المستدرك - كتاب العلم - باب آخر ما عهد رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (393).

* تحذير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من اتخاذ قبره وثنا يعبد

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- فِي تَنْفِيذِ جَيْشِ أُسَامَةَ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَ مَوْتهِ. وَقِيلَ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا"، فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُوَطَّأِ مَقْرُونَةً بِالْأَمْرِ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ، وَلَفْظُهُ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ" (¬1). وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّالِثَةُ: مَا وَقَعَ في حَدِيثِ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهَا قَوْلُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" (¬2). * تَحْذِيرُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَثَنًا يُعْبَدُ: وَحَذَّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أُمَّتَهُ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ مَسْجِدًا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ شِرَارَ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام مالك في الموطأ - كتاب الجامع - باب ما جاء في إجلاء اليهود من المدينة - رقم الحديث (17) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (3671) مرسلًا، ووصله الإِمام البخاري في صحيحه - كتاب الصلاة - باب (55) - رقم الحديث (435) (436) - وكتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4443) (4444) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب النهي عن بناء المساجد على القبور - رقم الحديث (531) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4746). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الوصايا - باب هل أوصى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ رقم الحديث (2697) عن أنس -رضي اللَّه عنه- وإسناده صحيح - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26483) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في ذكر مرض رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1625) عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وإسناده صحيح على شرط مسلم - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (585) عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- وإسناده حسن. وانظر فتح الباري (8/ 480).

النَّاسِ الذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَد بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا (¬1)، لعَنَ اللَّهُ قَوْمًا اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ" (¬2). وَفِي لَفْظٍ: "لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا" (¬3). وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ"، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا (¬4). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: أَيْ لَكُشِفَ قَبْرُ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يُتَّخَذْ عَلَيْهِ الْحَائِلُ، وَالْمُرَادُ الدَّفْنُ خَارِجَ بَيْتِهِ، وَهَذَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يُوَسَّعَ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، وَلهَذَا لَمَّا وُسِّعَ الْمَسْجِدُ جُعِلَتْ حُجْرتُهَا مُثَلَّثَةَ الشَّكْلِ ¬

_ (¬1) الْوَثَنُ: الصَّنَمُ. انظر النهاية (5/ 133). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (7358). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8804) - وأبو داود في سننه - كتاب المناسك - باب زيارة القبور - رقم الحديث (2042) - وإسناده حسن. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تهذيب سنن أبي داود (2/ 447): نَهْيٌ لهم أن يجعلوه مجمعًا كالأعياد التي يقصد الناس الاجتماع إليها للصلاة. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور - رقم الحديث (1330) - وباب ما جاء في قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . - رقم الحديث (1390) - ومسلم في صحيحه - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب النهي عن بناء المساجد على القبور - رقم الحديث (529).

* إمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالناس بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

مُحَدَّدَةً حَتَّى لَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جِهَةِ الْقَبْرِ مَعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ (¬1). * إِمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- بِالنَّاسِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مَعَ مَا بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ حَتَّى غَلَبَهُ الْمَرَضُ، وَأَعْجَزَهُ عَنِ الْخُرُوجِ، فَعِنْدَهَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ. فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ثَقُلَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَجَعُهُ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ". قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ". قَالَتْ: فَفَعَلْنَا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ (¬2) فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ". قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضَعُوا لِيَ الْمَاءَ فِي الْمِخْضَبِ". قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ". ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري (3/ 560). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 401): ينوء: بضم النون أي لينهض بجهد.

قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ضَعُوا لِيَ الْمَاءَ فِي الْمِخْضَبِ". قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَصَلَّى النَّاسُ؟ ". قُلْنَا: لَا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِصَلَاةِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ (¬1)، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا-: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ (¬2)، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- تِلْكَ الْأَيَّامِ (¬3). وَفِي رِوَايَةِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيِّ فِي شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثارِ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 374): الرسول الذي أرسله رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أبي بكر -رضي اللَّه عنه-: هو بلال بن رباح، مؤذن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 374): وإنما قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه- لعمر لظبه ذلك لأنه فهم -رضي اللَّه عنه- من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر -رضي اللَّه عنه- على ذلك، فاختاره، ويؤيد ذلك أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه -أي يبايعوا عمر -رضي اللَّه عنه- أو يبايعوا أبا عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه-. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به - رقم الحديث (687) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر - رقم الحديث (418) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26137).

* رواية غير صحيحة

بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الذِي مَاتَ فِيهِ، كَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْعُ لِي عَلِيًّا"، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَلَا نَدْعُو لَكَ أَبَا بَكْرٍ؟ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْعُوهُ"، فَقَالَتْ حَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَلَا نَدْعُو لَكَ عُمَرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْعُوهُ"، فَقَالَتْ أُمُّ الْفَضْلِ: أَلَا نَدْعُو لَكَ الْعَبَّاسَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادْعُوهُ"، فَلَمَّا حَضَرُوا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأْسَهُ، وَقَالَ: "لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ" (¬1). * رِوَايَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (¬2) بْنِ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا اسْتُعِزَ (¬3) بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: دَعَا بِلَالٌ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ". ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3355) - وإسناده صحيح - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5646) وإسناده حسن. (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (9/ 721): عبد اللَّه بن زمعة بن الأسود بن المطلب، صحابي مشهور، وأمه قَريبة -بفتح القاف- أُخت أم سلمة أم المؤمنين، وكان تحته زينب بنت أم سلمة. قلت: وليس عبد اللَّه هذا أخو سودة بنت زمعة زوج رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) استُعِز: بضم التاء وكسر العين: أي اشتد به المرض، وأشرف على الموت. انظر النهاية (3/ 206) - جامع الأصول (8/ 594).

قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَإِذَا عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- فِي النَّاسِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- غَائِبًا، فَقَالَ: قُمْ يَا عُمَرُ، فَصَلِّ بِالنَّاسِ، قَالَ: فَقَامَ، فَلَمَّا كَبَّرَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- صَوْتَهُ، وَكَانَ عُمَرُ رَجُلًا مِجْهَرًا (¬1)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ ، يَأْبَي اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأَبْي اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ". قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَجَاءَ بَعْدَ أَن صَلَّى عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- تِلْكَ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ. فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- لِابْنِ زَمْعَةَ: وَيْحَكَ، مَاذَا صَنَعْتَ بِي يَا ابْنَ زَمْعَةَ، وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ حِينَ أَمَرْتَنِي إِلَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَكَ بِذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ (¬2). فَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَلَمْ يُصَرِّحْ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ وَإِنْ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إِسْنَادِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَصْرِيحُهُ بِالسَّمَاعِ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ إِنَّ فِي مَتْنِهِ مَا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِصِحَّتِهِ (¬3). ¬

_ (¬1) رجل مُجْهِرٌ: أي صاحب جهر ورفع لصوته، يقال: جهر الرجل صوته، وأجهر: إذا عرف بالجهر، فهو جاهر ومجهر. انظر جامع الأصول (8/ 594). وفي رواية الطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4253): وكان رجلًا جهر الصوت. (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18906) (24061) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4253) - وأبو داود في سننه - كتاب السنة - باب في استخلاف أبي بكر -رضي اللَّه عنه- رقم الحديث (4660). (¬3) وانظر الموسوعة الحديثية - رقم الحديث (18906) - (24061).

* السبب الذي من أجله راجعت عائشة رضي الله عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

وَالذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا-: يَا عُمَرُ، صَلِّ بِالنَّاسِ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ، فَصلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1). وَقَدْ رَوَى صَلَاةَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بِالنَّاسِ: الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي اللَّه عنه- (¬2)، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬3)، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رضي اللَّه عنه- (¬4)، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬5). * السَّبَبُ الذِي مِنْ أَجْلِهِ رَاجَعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا دَخَلَ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب إنما جُعل الإِمام ليؤتمَّ به - رقم الحديث (687) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له غدر - رقم الحديث (418) (90). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1784) - وإسناده صحيح لغيره. (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2055) - وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء - باب قول اللَّه تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} - رقم الحديث (3385) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما - رقم الحديث (420) - وأخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (19700) (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب الرجل يأتم بالإمام - رقم الحديث (713) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما - رقم الحديث (418).

رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْتِي، قَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ يَتَشَاءَمَ النَّاسُ بِأَوَّلِ مَنْ يَقُومُ فِي مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا (¬1). فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لِيُصَلِّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفٍ" (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَقَدْ رَاجَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ذَلِكَ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَةِ مُرَاجَعَتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاسُ بَعْدَهُ رَجُلًا، قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا، وَلَا كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ لَنْ يَقُومَ أَحَدٌ مَقَامَهُ إِلَّا ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (716) قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لحفصة بنت عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قولي له: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مه، إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل للناس". (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما - رقم الحديث (418) (94). قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 374): وصواحب جمع صاحبة، والمراد أنهن مثل صواحب يوسف عليه السلام في إظهار حلاف ما في الباطن، . . . ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخا امرأة العزيز استدعت النسوة وأظهرت لهن الإكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف عليه السلام، ويعذرنها في محبته، وأن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن لا يتشاءم الناس به.

* الأمر بحسن الظن بالله تعالى

تَشَاءَمَ النَّاسُ بِهِ، فَأَرَدْتُ أَنْ يَعْدِلَ (¬1) ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ أَبِي بَكْرٍ (¬2). * الأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى: وَقَبْلَ وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، يَقُولُ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (¬3). قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ الْقُنُوطِ، وَحَثٌّ عَلَى الرَّجَاءِ عِنْدَ الْخَاتِمَةِ، وَمَعْنَى حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى، أَنْ يَظُن أَنَّهُ يَرْحَمُهُ، وَيَعْفُوَ عَنْهُ (¬4). * آخِرُ صَلَاةٍ حَضَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَعَ الْمُسْلِمِينَ: وَقَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَوْمَيْنِ، وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً، فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَالْآخَرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي ¬

_ (¬1) يعدل: مال، كأنه يميل عنه. انظر النهاية (3/ 173). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4445) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما - رقم الحديث (418) (93). (¬3) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الجنة وصفة نعيمها - باب الأمر بحسن الظن باللَّه تعالى- رقم الحديث (2877) (82). (¬4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (17/ 172).

طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (¬1)، وَرِجْلَاهُ تَخُطَّانِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْوَجَعِ، وَأَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- يُصَلِّي بِالنَّاسِ الظُّهْرَ (¬2). ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح ابن حبان بسند حسن - رقم الحديث (2118) - عن عائشة رضي اللَّه عنها - وابن ماجه في سننه بسند صحيح - رقم الحديث (1234) - عن سالم بن عبيد -رضي اللَّه عنه- قالا: فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين بريرة ونُوبة. قال النووي فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (3/ 375): ويُجمع بينهما بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثَمَّ إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي رضي اللَّه عنهما، أو يحمل على التعدُّد، كما قال ابن حبّان في صحيحه (5/ 488). فائدة: نوبة هو بضم النون الأسود مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. انظر الإصابة (6/ 377). (¬2) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (2/ 401 - 492): هذا صريح في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، واستدل بقوله في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين جاء، أخذ من القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر -رضي اللَّه عنه-. رواه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3330) - وابن ماجه في سننه - رقم الحديث (1235) - وإسناده حسن، لكن في الاستدلال به نظر لاحتمال أن يكون رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان هو -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسمع الآية أحيانًا في الصلاة السرية، ثم لو سَلّم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح، بل يحتمل أن تكون المغرب، فقد ثبت في صحيح البخاري - رقم الحديث (4429) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (462) عن أم الفضل بنت الحارث زوج العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قالت: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفًا، ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه اللَّه. لكن وجدت بعد في السنن الكبرى للنسائي - رقم الحديث (1059) أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولفظه: صلى بنا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته المغرب، قرأ المرسلات، وما صلى بعدها صلاة حتى قُبض -صلى اللَّه عليه وسلم-. لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ خرج إلينا رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب. رواه الترمذي في جامعه - =

* رجوع أسامة -رضي الله عنه- من معسكره بالجرف

فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬1) أَرَادَ أَنْ يَنْكُصَ (¬2)، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ مَكَانَكَ، وَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ فَأَجْلَسَاهُ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا، وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أَبُو بَكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- (¬3). * رُجُوعُ أُسَامَةَ -رضي اللَّه عنه- مِنْ مُعَسْكَرِهِ بِالْجُرْفِ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ قَبْلَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِيَوْمٍ، اشْتَدَّ بِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْوَجَعُ، فَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إلى جَيْشِ أُسَامَةَ وَهُوَ بِالْجُرْفِ، فَشَاعَ الْحُزْنُ، فَرَجَعَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-، وَرَجَعَ النَّاسُ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَغْمُورٌ (¬4)، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ¬

_ = رقم الحديث (308) وإسناده صحيح، ويمكن حمل قولهما: "خرج إلينا" أي من مكانه الذي كان راقدًا فيه إلى من في البيت، فصلى بهم، فتلتئم الروايات. (¬1) هذه رواية الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2055). وفي رواية ابن ماجه في سننه: فلما رآه الناس، سبحوا بأبي بكر. (¬2) النكوص: الرجوع إلى الوراء. انظر النهاية (5/ 101). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب حد المريض أن يشهد الجماعة - رقم الحديث (664) - وباب إنما جُعل الإِمام ليؤتم به - رقم الحديث (687) - وباب الرجل يأتم بالإمام - رقم الحديث (713) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض أو سفر وغيرهما - رقم الحديث (418) (95) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2055) - وابن ماجه في سننه - كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها - باب ما جاء في صلاة رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرضه - رقم الحديث (1235) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (4206). (¬4) مَغْمُورٌ: أي مُغمى عليه. انظر النهاية (3/ 345).

* إنفاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما عنده

أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-، وَقَدْ أَصْمَتَ (¬1) رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَا يَتَكَلَّمُ، فَجَعَلَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ يَصُبُّهَا (¬2) عَلَى أُسَامَةَ. قَالَ أُسَامَةُ -رضي اللَّه عنه-: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي (¬3). * إِنْفَاقُ رسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا عِنْدَهُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ، مَا فَعَلَتِ الذَّهَبُ"، فَجَاءَتْ مَا بَيْنَ الْخَمْسَةِ إِلَى السَّبْعَةِ أَوِ الثَّمَانِيَةِ أَوِ التِّسْعَةِ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: "مَا ظَنُّ (¬4) مُحَمَّدٍ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ لَقِيَهُ وَهَذِهِ عِنْدَهُ، أَنْفِقِيهَا" (¬5). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- دِينَارًا، وَلَا دِرْهَمًا، وَلَا شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا أَوْصَى بِشيْءٍ (¬6). ¬

_ (¬1) يُقال: صمت العليل: إذا اعتُقِل لسانه. انظر النهاية (3/ 48). (¬2) يَصبُّها: أي يُمِيلُها. انظر النهاية (3/ 4). (¬3) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21755) - والترمذي في جامعه - كتاب المناقب - باب مناقب أسامة بن زيد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رقم الحديث (4152) - وإسناده حسن. (¬4) الظَّنُّ: هنا بمعنى العلم. انظر النهاية (3/ 149). (¬5) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24222) - وإسناده حسن. (¬6) أخرجه الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الوصية - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به - رقم الحديث (1635) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24176) - =

* آخر نظرة نظرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه رضي الله عنهم

* آخِرُ نَظْرَةٍ نَظَرَهَا رَسُولُ اللَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَى أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ دَنِفًا (¬1)، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ أَصْبَحَ مُفِيقًا، فَكَشَفَ سِتْرَ الْحُجْرَةِ، وَنَظَرَ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَتَبَسَّمَ لِمَا رَأَى مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأُلْفَتِهِمْ وَتَآخِيهِمْ. قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: . . . حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، فكشَفَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، يَنْظُرُ إِلَيْنَا، وَهُوَ قَائِمٌ، كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَهُ مُصْحَفٍ (¬2)، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَك، فَهَمَمْنَا أن نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَارجٌ إلى الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى السَّتْرَ، فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ (¬3). * لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ: ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، وَهِيَ ¬

_ = وأخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوصايا - باب الوصايا. . - رقم الحديث (2739) عن عمرو بن الحارث -رضي اللَّه عنه-. (¬1) رجل دَنِفٌ: اشتد مرضه حتى أشفى على الموت. انظر لسان العرب (4/ 417). (¬2) قال الإِمام النووي في شرح مسلم (4/ 118): أي عبارة عن الجمال البارع، وحسن البشرة، وصفاء الوجه، واستنارته. (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة - رقم الحديث (680) - ومسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب استخلاف الإِمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما - رقم الحديث (419).

الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- السِّتَارَةَ، وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبِشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ (¬1) يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ (¬2) أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" (¬3). فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَصْبَحَ مُفِيقًا ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ بَرَأَ مِنْ وَجَعِهِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ . فَقَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا (¬4)، فَانْصَرَفُوا إلى مَنَازِلهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ مُسْتَبْشِرِينَ (¬5). ¬

_ (¬1) ورد في قوله تعالى في سورة يونس، آية (64): {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .} أنها الرؤيا الصالحة. فقد أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح لغيره - رقم الحديث (2428) عن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .} فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له". (¬2) فقمن: أي خليق وجدير. انظر النهاية (4/ 97). (¬3) أخرج ذلك الإِمام مسلم في صحيحه - كتاب الصلاة - باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود - رقم الحديث (479). (¬4) بارئًا: أي معافى. انظر النهاية (1/ 111). (¬5) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4447) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2374).

* إحساس العباس -رضي الله عنه- بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

* إِحْسَاسُ الْعَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه- بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أَمَّا الْعَبَّاسُ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ عَرَفَ الْمَوْتَ يَوْمَئِذٍ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ وَاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثٍ عَبْدُ الْعَصَا (¬1)، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوْفَ يُتَوَفَّى مِنْ وَجَعِهِ هَذَا، إِنِّي لَأَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ، اذْهَبْ بِنَا إلى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ، إِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا عَلِمْنَاهُ، فَأَوْصَى بِنَا، فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). * اسْتِئْذَانُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدَيقِ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيَ الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِهِ: وَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها في الْخُرُوجِ إلى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ (¬3)، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أَرَاكَ قَدْ أَصْبَحْتَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ كَمَا نُحِبُّ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ بِنْتِ خَارِجَةَ أَفَآتِيهَا؟ ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 490): هو كناية عمن يصير تابعًا لغيره، والمعنى أنه يموت بعد ثلاث، وتصير أنت مأمور عليك، وهذا من قوة فراسة العباس -رضي اللَّه عنه-. (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4447) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2374). (¬3) السُنح: بضم السين وسكون النون، موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث بن الخزرج. انظر النهاية (2/ 366).

* احتضار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَعَمْ"، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى أَهْلِهِ بِالسُّنْحِ (¬1). * احْتِضَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي: وَاشْتَدَّ الْوَجَعُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ رَجَعَ إِلَى الْحُجْرَةِ أَشَدَّ مَا يَكُونُ، فَاضْطَجَعَ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَجَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ الشَّدِيدُ، حَتَّى تَأَذَّتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، مِنْ شِدَّةِ مَا يَلْقَى، فَقَالَتْ: وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ، إِنَّهُ قَدْ حَضَرَ مِنْ أَبِيكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنْهُ أَحَدًا، الْمُوَافَاةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬2). * انْقِطَاعُ أَبْهُرِ (¬3) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: وَجَعَلَ الْوَجَعُ يَشْتَدُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ السُّمِّ الذِي أَكَلَهُ بِخَيْبَرَ (¬4) حَتَّى انْقَطَعَ مِنْهُ الْأَبْهُرُ بِسَبَبِ السُّمِّ الذِي كَانَ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، فَأَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالشَّهَادَةِ، فَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَهِيدًا. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام (4/ 311). (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4462) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (2158) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1629). (¬3) الْأَبْهُرُ: عرق في الظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. انظر النهاية (1/ 22). (¬4) ذكرنا تفاصيل أكل رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- من الشاة المسمومة في غزوة خيبر، فراجعه.

رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهُرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" (¬1). وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي وَجَعِهِ الذِي قُبِضَ فِيهِ، فَقَالَتْ: بأبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَتَّهِمُ بِنَفْسِكَ؟ فَإِنِّي لَا أَتَّهِمُ إِلَّا الطَّعَامَ الذِي أَكَلَ مَعَكَ بِخَيْبَرَ، وَكَانَ ابْنُهَا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ مَاتَ قَبْلَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ غَيْرَهُ، هَذَا أَوَانُ انْقِطَاع أَبْهُرِي" (¬3). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه- أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللَّهِ تِسْعًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُتِلَ قَتْلًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ نَبِيًّا، وَجَعَلَهُ شَهِيدًا (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4428). (¬2) ذكرنا ذلك في غزوة خيبر، فراجعه. (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (23933) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب بشر بن البراء بن معرور مات قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (5019). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (3617) - والحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب اتخاذه اللَّه نبيًا واتخاذه شهيدًا - رقم الحديث (4450).

* استنان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسواك

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ بَقِيَ أَثَرُهَا -أَيْ أَثَرُ السُّمِّ- مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلِّهَا لَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِكْرَامَهُ بِالشَّهَادَةِ، ظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْكَامِنِ مِنَ السُّمِّ؛ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا (¬1). * اسْتِنَانُ (¬2) رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالسِّوَاكِ: وَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِهَا، دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي يَدِهِ سِوَاكٌ رَطْبٌ يَسْتَنُّ بِهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: أُلِينُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَأَخَذْتُهُ فَقَضَمْتُهُ حَتَّى لَيَّنْتُهُ وَنَفَضْتُهُ وَطَيَّبْتُهُ، ثُمَّ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَنَّ بِهِ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اسْتَنَّ اسْتِنَانًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ (¬3). ¬

_ (¬1) انظر زاد المعاد (4/ 113). (¬2) الِاسْتِنَانُ: استعمال السواك، وهو افتعال من الأسنان، أي يُمره عليها. انظر النهاية (2/ 369). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجمعة - باب من تسوك بسواك غيره - رقم الحديث (890) - وأخرجه في كتاب فرض الخمس - باب ما جاء في بيوت أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (3100) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4438) (4449) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24216).

من وفاته -صلى الله عليه وسلم- إلى دفنه -صلى الله عليه وسلم-

من وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى دفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَفَاتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأَبِي هُوَ وَأُمِّي قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . وَبَيْنَ يَدَيْهَ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَكْوَةٌ (¬1) فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعَلَى" حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ (¬2). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقَدْ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ (¬3): "مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" (¬4). وَفِي صَحِيحِ مُسلِمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ ¬

_ (¬1) الركوة: إناء صغير من جلد يُشرب فيه الماء. انظر النهاية (2/ 237). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4449). (¬3) قَالَ الحَافِظُ فِي الفَتْحِ (8/ 483): البحة: بضم الباء وتشديد الحاء: شيء يعرض في الحلق فيتغير له الصوت فيغلظ. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4435) - ومسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة - باب في فضل عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2444) (86) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25433).

أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَثَقُلَ، أَخَذْتُ بِيَدِهِ لِأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعَلَى". قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي، أَوْ قَالَتْ: حِجْرِي، فَدَعَا بِطَسْتٍ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ (¬2) فِي حِجْرِي، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ مَاتَ (¬3). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: . . . فَبَيْنَمَا رَأْسُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى مَنْكبِي إِذْ مَالَ رَأْسُهُ نَحْوَ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ مِنْ رَأْسِي حَاجَةً، فَخَرَجَتْ مِنْ فِيهِ نُطْفَةٌ بَارِدَةٌ، فَوَقَعَتْ عَلَى ثُغْرَةِ (¬4) نَحْرِي (¬5)، فَاقْشَعَرَّ لهَا جِلْدِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب السلام - باب استحباب رقية المريض - رقم الحديث (2191). (¬2) انْخَنَثَ: مَال وانْثَنَى لاسترخاء أعضائه عند الموت. انظر النهاية (2/ 78). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوصايا - باب الوصايا - رقم الحديث (2741) - ومسلم في صحيحه - كتاب الوصية - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه - رقم الحديث (1636) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24039). (¬4) الثغرة: نقرة النحر فوق الصدر. انظر النهاية (1/ 208). (¬5) النَّحْر: أعلى الصدر. انظر النهاية (5/ 23). (¬6) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25841) - وإسناده حسن.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَأْسُهُ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فَلَمَّا خَرَجَتْ نَفْسُهُ لَمْ أَجِدْ رِيحًا قَطُّ أَطْيَبَ مِنْهَا (¬1). وَقَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَإِنَّهُ لَبَيْنَ حَاقِنَتِي (¬2) وَذَاقِنَتِي (¬3)، فَلَا أَكْرَهُ شِدَّةَ الْمَوْتِ لِأَحَدٍ أَبَدًا بَعْدَمَا رَأَيْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ (¬5). وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ حَسَن قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَفِي دَوْلَتِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا، فَمِنْ سَفَهِي وَحَدَاثَةِ سِنِّي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُبِضَ وَهُوَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ وَضَعْتُ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24905). (¬2) الْحَاقِنَةُ: الوَهْدَةُ المنخفضة بين التَّرْقُوَتَيْن من الْحَلْقِ. انظر النهاية (1/ 400). (¬3) الذَّاقِنَةُ: الذقن. انظر النهاية (2/ 150). (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4446) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24354). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4449).

* الوقت الذي توفي فيه -صلى الله عليه وسلم- وعمره يومئذ

رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَقُمْتُ أَلْتَدِمُ (¬1) مَعَ النِّسَاءَ، وَأَضْرِبُ وَجْهِي (¬2). وَفَاضَتْ أَطْهَرُ رُوحٍ فِي الدُّنْيَا مِنْ جَسَدِهَا، وَصَعَدَتْ إلى بَارِئِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، وَخَرَجَ أَكْرَمُ إِنْسَانٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْوُجُودِ مِنَ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا وَلَا دِينَارًا وَلَا دِرْهَما، وَلَا وَلَدًا إِلَّا فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا ترَكَ هِدَايَةً وَإِيمَانًا، وَشَرِيعَةً عَامَّةً خَالِدَةً، وَمِيراثًا رُوحِيًّا عَظِيمًا، وَأُمَّةً هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَوْسَطُهَا (¬3). * الْوَقْتُ الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ: كَانَتْ وَفَاتُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ (¬4)، وَعُمْرُهُ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّ وَقْتٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ آخِرِ ذَلِكَ ¬

_ (¬1) الِالْتِدَامُ: ضرب النساء وجوههن في النياحة. انظر النهاية (4/ 212). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26348). وفي قولها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي. قال محققو المسند: فيه نكارة ولم نجده إلا في هذه السياقة، والسيدة عائشة زوجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يخفى عليها قول رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي أخرجه البخاري في صحيحه - رقم الحديث (1294): "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية". (¬3) انظر السِّيرة النَّبوِيَّة في ضوء القرآن والسنة (2/ 594) للدكتور محمَّد أبو شهبة رَحِمَهُ اللَّهُ. (¬4) انظر فتح الباري (8/ 473).

الْيَوْمِ -أَيْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ- (¬1). وَجَزَمَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ فَقَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ -أَيْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ- (¬2). قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: وَقَوْلُ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- يَخْدِشُ فِي جَزْمِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَاتَ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْآخَرِ بِمَعْنَى ابْتِدَاءِ الدُّخُولِ فِي أَوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ النَّهَارِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الزَّوَالِ، وَاشْتِدَادِ الضُّحَى يَقَعُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى يَتَحَقَّقَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وَقَدْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَاتَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، وَكَذَا لِأَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، فَهَذَا يُؤَيِّدُ الْجَمْعُ الذِي أَشَرْتُ إِلَيْهِ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الأذان - باب هل يلتفت لأمر ينزل به - رقم الحديث (754). (¬2) انظر سيرة ابن هشام (4/ 312). (¬3) انظر فتح الباري (8/ 491).

هول الفاجعة التي أصابت الصحابة رضي الله عنهم

هَوْلُ الْفَاجِعَةِ التِي أَصَابَتِ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَشَاعَ خَبَرُ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَنَزَلَ خَبَرُ وَفَاتِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَالصَّاعِقَةِ؛ لِشِدَّةِ حبّهِمْ لَهُ، وَمَا تَعَوَّدُوهُ مِنَ الْعَيْشِ في كَنَفِهِ، وَدَخَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَمُوتُ، وَهُوَ شَهِيدٌ عَلَيْنَا وَنَحْنُ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ. * مَوْقِفُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه-: وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- وَمَعَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَاسْتَأْذَنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَذِنَتْ لَهُمَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَجَذَبْتُ إِلَيَّ الْحِجَابَ، فنَظَرَ عُمَرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَاغَشَيَاهُ، مَا أَشَدَّ غَشْيَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمَّ قَامَا، فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْبَابِ، قَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا عُمَرُ، مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. قَالَ: كَذَبْتَ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ تَحُوسُكَ (¬1) فِتْنَةٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَا يَمُوتُ حَتَّى يُفْنِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُنَافِقِينَ (¬2). ¬

_ (¬1) تَحُوسُكَ: أي تخالطك وتحثك على ركوبها. انظر النهاية (1/ 442). (¬2) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25841) - وإسناده حسن.

فَلَمَّا خَرَجَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- سَلَّ سَيْفَهُ، وَتَوَعَّدَ النَّاسَ، وَقَالَ: لَا أَسْمَعُ أَحَدًا يَقُولُ: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِلَّا ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ قَامَ في الْمَسْجِدِ خَطِيبًا، وَقَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ تُوُفِّيَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَاللَّهِ مَا مَاتَ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إلى رَبِّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَغَابَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ قِيلَ قَدْ مَاتَ، وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-, كَمَا رَجَعَ مُوسَى، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ مَاتَ (¬1). * * * ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا" - رقم الحديث (3667) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25841) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6620) - والنسائي في السنن الكبرى - كتاب الوفاة - باب كيف صُلي على رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (7081) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2074) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 312).

موقف أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

مَوقِفُ أَبِي بَكرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، حَتَّى نَزَلَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَعُمَرُ -رضي اللَّه عنه- يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فتَيَمَّمَ (¬1) رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ مُسَجًّى (¬2) بِبُرْدٍ (¬3) حِبَرَةٍ (¬4)، فكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيْتًّا، وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا الْمَوْتَةُ التِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا (¬5)، ثُمَّ لَنْ تُصِيبَكَ بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا، ثُمَّ رَدَّ الْبُرْدَ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ خَرَجَ -رضي اللَّه عنه- إلى النَّاسِ، وَهُمْ مَا بَيْنَ مُنْكِرٍ، وَمُصَدِّقٍ؛ لِهَوْلِ الْأَمْرِ، فَرَأَى عُمَرَ -رضي اللَّه عنه- يُكَلِّمُ النَّاسَ، وَيَتَوَعَّدُ وَيُهَدِّدُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَاتَ. ¬

_ (¬1) أَمَّهُ: أي قصد. انظر النهاية (1/ 70). (¬2) مُسَجًّى: أي مُغطى. انظر النهاية (2/ 310). (¬3) الْبُرْدَةُ: نوع من الثياب معروف. انظر النهاية (1/ 116). (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (3/ 451): حِبَرة: بكسر الحاء وفتح الباء بوزن عنبة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. (¬5) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 313): ذقتها.

فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ (¬1)، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَلَمَّا رَآه لَا يُنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، فَحَمِدَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- اللَّه تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللَّه، فَإِنَّ اللَّه حَيٌّ لَا يَمُوتُ، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} " (¬2)، فنَشَجَ (¬3) النَّاسُ يبكُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّه أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فتَلَقَّاهَا النَّاسُ مِنْهُ كُلُّهُمْ، فَمَا أَسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا (¬4). ¬

_ (¬1) في رواية أخرى في صحيح البخاري - رقم الحديث (3667) قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: أيها الحالف على رِسلك. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 313): على رِسلك يا عمر، أنصت، فأبى. والرِسْلُ: بكسر الراء أي تَمهّل. انظر لسان العرب (5/ 212). (¬2) سورة آل عمران آية (144). (¬3) النَّشِيجُ: صوت معه توجع وبكاء. انظر النهاية (5/ 45). (¬4) أخرج ذلك كله البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه - رقم الحديث (1241) (1242) - وأخرجه في كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4452) (4453) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (25841) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6620) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول - رقم الحديث (2074) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 313).

* فوائد الحديث

قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إلى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، وَعَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ مَاتَ (¬1). قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمَا كَانَ مِنْ خُطْبَتِهِمَا (¬2) مِنْ خُطْبَةٍ إِلَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهَا، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ، وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ لَقَدْ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى، وَعَرَّفَهُمُ الْحَقَّ الذِي عَلَيْهِمْ، وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (¬3). * فَوَائِدُ الحَدِيثِ: قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَفِي الْحَدِيثِ قُوَّةُ جَأْشِ (¬4) أبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكَثْرَةُ عِلْمِهِ (¬5). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4454). (¬2) أي خطبة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- هذه، وخطبة عمر -رضي اللَّه عنه- عندما هَدّد من يقول: إن رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مات. (¬3) علقه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا" - رقم الحديث (3669) (3670) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (4/ 88). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (7/ 385): وهذه الطريق لم يوردها البخاري إلا معلقة، ولم يسقها بتمامها، وقد وصلها الطبراني في مسند الشاميين. (¬4) الجأش: القلب، يقال: فلان رابط الجأش: أي ثابت القلب لا يرتاع ولا ينزعج للعظائم والشدائد. انظر النهاية (1/ 225). (¬5) انظر فتح الباري (8/ 495).

هل أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته لأحد بالخلافة

هَلْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَبْلَ وَفَاتِهِ لأَحَدٍ بالْخِلَافَةِ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- كَانَ وَصِيًّا، فَقَالَتْ: مَتَى أَوصَى إِلَيْهِ؟ وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى صَدْرِي، أَوْ قَالَتْ: حِجْرِي، فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدِ انْخَنَثَ في حِجْرِي فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ؟ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَبْدًا مَأْمُورًا، بَلَّغَ وَاللَّهِ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَمَا اخْتَصَّنَا دُونَ النَّاسِ بِشَيْءٍ، إِلَّا ثَلَاثًا: أَمَرَنَا أَنْ نُسْبغَ الْوُضُوءَ، وَأَنْ لَا نَأْكُلَ الصَّدَقَةَ، وَأَنْ لَا نُنْزِيَ (¬2) الْحِمَارَ عَلَى الفرَسِ (¬3). وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الوصايا - باب الوصايا - رقم الحديث (2741) - ومسلم في صحيحه - كتاب الوصية - باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي به - رقم الحديث (1636) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24039). (¬2) نُنزي الحمار: أي نحملها عليها للنسل. انظر النهاية (5/ 37). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (1977) - وأبو داود في سننه - كتاب الصلاة - باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر - رقم الحديث (808) - وأورده ابن الأثير في جامع الأصول (2449) (5200).

-رضي اللَّه عنه-، هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ، فَقَالَ -رضي اللَّه عنه-: لَا، وَالذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ (¬1)، وَبَرَأَ (¬2) النَّسْمَةَ (¬3) مَا عِنْدَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- شَيْءٌ سِوَى الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ عَبْدًا فَهْمًا في القُرْآنِ، وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ -رضي اللَّه عنه-: وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: الْعَقْلُ (¬4)، وَفكاكُ الْأَسِيرِ (¬5)، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ (¬6). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أنَا وَالْأَشْتَرُ إلى عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، فَقُلْنَا: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَهْدًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النَّاسِ؟ . قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: لَا، إِلَّا مَا في كِتَابِي هَذَا، فَأَخْرَج كِتَابًا مِنْ قِرَابِ (¬7) ¬

_ (¬1) الفلق: الشق، والحبة: هي كالحنطة والشعير، وفلقها: شقها للإنبات. انظر النهاية (3/ 423) - جامع الأصول (8/ 29). (¬2) بَرَأَ: خلق. انظر النهاية (1/ 111). (¬3) النَّسْمَةُ: بفتح النون: النفس والروح، وكل دابة فيها روح فهي نسمة. انظر النهاية (5/ 43). (¬4) العقل: الدية. انظر النهاية (3/ 252). (¬5) فكَاكُ الأسير: أي إطلاقه. انظر جامع الأصول (8/ 29). (¬6) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب العلم - باب كتابة العلم - رقم الحديث (111) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5765). (¬7) القِراب: غمد السيف. انظر لسان العرب (11/ 86).

سَيْفِهِ، فَإِذَا فِيهِ: "الْمُؤْمنُونَ تَكَافَؤُ (¬1) دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ، وَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا (¬2)، أَوْ آوى مُحْدِثًا (¬3)، فَعَلَيْهِ لَعْنهُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (¬4). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً، إِلَّا مَا كَانَ في قِرَابِ سَيْفِي هَذَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ (¬5) الْأَرْضِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوى مُحْدِثًا" (¬6). وَرَوَى الشَّيْخَانِ في صَحِيحَيْهِمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ، وَهَذِهِ ¬

_ (¬1) التَّكَافؤُ: التساوي. انظر جامع الأصول (8/ 29). (¬2) الحدث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتاد ولا معروف في السُّنة. انظر النهاية (1/ 338). (¬3) الْمُحْدِثُ: بكسر الدال: هو الفاعل. انظر النهاية (1/ 338). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (993) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (5889). (¬5) الْمَنَارُ: جمع منارة، وهي العلامة تُجعل بين الشيئين من الحدود. انظر النهاية (5/ 111). (¬6) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الأضاحي - باب تحريم الذبح لغير اللَّه تَعَالَى - رقم الحديث (1978) (45) - والإمام أحمد في المسند - رقم الحديث (855).

الصَّحِيفَةَ، فَقَدْ كَذَبَ، قَالَ: وَفيهَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عيرٍ (¬1) إلى ثَورٍ (¬2)، فمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوى مُحْدثًا، فعلَيْه لَعْنهُ اللَّه وَالْملَائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْتلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا (¬3) وَلَا عَدْلًا (¬4)، وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى إلى غيرِ أَبِيهِ، أَوْ انْتَمَى إِلَى غير موالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنةُ اللَّهِ وَالْمَلَائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْتلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا" (¬5). قَالَ الْحَافِظُ في الْفَتْحِ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- أَنَّ الصَّحِيفَةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ، فنَقَلَ كُلُّ رَاوٍ بَعضَهَا (¬6). ¬

_ (¬1) عَيْر: بفتح العين وسكون الياء: جبل معروف بالمدينة. انظر النهاية (3/ 296) - وجامع الأصول (8/ 28). (¬2) ثَوْر: هو أيضًا جبل بالمدينة، وليس هو جبل ثور المعروف بمكة، والذي فيه الغار الذي اختبأ فيه رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر -رضي اللَّه عنه- يوم الهجرة. وانظر فتح الباري (4/ 56). (¬3) الصَّرْفُ: التوبة. انظر النهاية (3/ 173). (¬4) الْعَدْلُ: الفِدْية. انظر النهاية (3/ 173). (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل المدينة - باب حرم المدينة - رقم الحديث (1870) - وأخرجه في كتاب الجزية والموادعة - باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة - رقم الحديث (3172) - وأخرجه مسلم في صحيحه - كتاب الحج - باب فضل المدينة، ودعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها بالبركة - رقم الحديث (1370) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (615). (¬6) انظر فتح الباري (4/ 570).

وَقَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَصْرِيحٌ مِنْ عَلِيٍّ (¬1) -رضي اللَّه عنه- بِإِبْطَالِ مَا تَزعُمُهُ الرَّافِضَةُ وَالشِّيعَةُ، وَيَخْتَرِعُونَهُ مِنْ قَوْلهِمْ إِنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَسْرَارِ الْعِلْمِ، وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَكُنُوزِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- خَصَّ أَهْلَ الْبَيْتِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ وَاخْتِرَاعَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَيَكْفِي في إِبْطَالِهَا قَوْلُ عَلِيُّ -رضي اللَّه عنه- هَذَا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) وابن عباس أيضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. (¬2) انظر صحيح مسلم بشرح النووي (9/ 122).

الاجتماع في سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر -رضي الله عنه- بالخلافة

الاجْتِمَاعُ في سَقيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ وَبَيعَةُ أَبي بَكرٍ -رضي اللَّه عنه- بالخِلافَةِ وَفي هَذِهِ الْغَمْرَةِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَى، وَقَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، اجْتَمَعَ الْأَنْصَارُ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِد لحَسْمِ أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَدَعُونَا نَتْرُكُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- يُحَدِّثُنَا عَنْ ذَلِكَ -كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ- قَالَ -رضي اللَّه عنه-: . . . كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ الْأَنْصَارَ خَالَفُونَا (¬1)، وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا (¬2)، فبَيْنَمَا نَحْنُ في مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، إِذْ رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ: اخْرُجْ إِلَيَّ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّا مَشَاغِيلُ عَنْكَ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْر لَابُدَّ مِنْكَ فِيهِ، إِنَّ الْأَنْصَارَ قَدِ اجْتَمَعُوا في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَأَدْرِكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثُوا أَمْرًا، فَيَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ حَرْبٌ. فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ انْطَلِقْ بِنَا إلى إِخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ، ¬

_ (¬1) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 118): أي لم يجتمعوا معنا في بيت رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) هذه رواية البخاري في صحيحه. زاد ابن إسحاق في السيرة (4/ 314): وطلحة بن عبيد اللَّه.

فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ (¬1)، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ (¬2) صَالِحَانِ فَذَكَرَا لَنَا مَا تَمَالَأَ (¬3) عَلَيْهِ الْقَوْمُ، فَقَالَا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ . فَقُلْتُ: نُرْيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَا: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَقْرَبُوهُمْ، يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ اقْضُوا أَمْرَكُمْ (¬4). فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَنَأتِيَنَّهُمْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَإِذَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ (¬5) رَجُلٌ مُزَمَّلٌ (¬6)، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ . قَالُوا: يُوعَكُ (¬7)، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلًا تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ ¬

_ (¬1) في رواية ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (414) بسند صحيح قال عمر -رضي اللَّه عنه-: فانطلقنا نؤمهم، فلقينا أبو عبيدة بن الجراح -رضي اللَّه عنه-، فأخذ أبو بكر بيده، فمشى بيني وبينه. (¬2) سمى ابن إسحاق في السيرة (4/ 317) الرجلان: هما عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وهما من الأنصار، وممن شهد غزوة بدر الكبرى. (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 119): تمالأ: بفتح اللام والهمزة أي اتفق. (¬4) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 119): يؤخذ من هذا أن الأنصار كلها لم تجتمع على سعد بن عبادة -رضي اللَّه عنه-. قلت: سيأتي خبر زيد بن ثابت الأنصاري -رضي اللَّه عنه-، ما يؤيد كلام الحافظ. (¬5) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 119): أي وسطهم. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 119): مُزمَّل: بضم الميم الأولى وتشديد الميم المفتوحة: أي مُلَفَّف. (¬7) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 119): يُوعك: بضم الياء أي يحصل له الوعك، وهو الحمى. وفي رواية الإِمام أحمد في مسنده: وجع.

عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فنَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ، وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ رَهْطٌ مِنَّا، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ (¬1) مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا (¬2) مِنْ أَصْلِنَا، وَيَحْضِنُونَا (¬3) مِنَ الْأَمْرِ. قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا سَكَتَ أَرَدْتُ أَنْ أَتكَلَّمَ، وَكُنْتُ قَدْ زَوَّرْتُ (¬4) مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أَرَدْتُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ (¬5). فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتكَلَّمَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: عَلَى رِسْلِكَ (¬6)، فكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهَ، فتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ هُوَ أَحْلَمَ (¬7) مِنِّي وَأَوْقَرَ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبتْنِي في تَزْوِيرِي إِلَّا قَالَ في بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ. ¬

_ (¬1) الدَّافَّةُ: القوم يسيرون جماعة سيرًا ليس بالشديد. انظر النهاية (2/ 117). قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 120): يريد أنكم قوم غرباء أقبلتم من مكة إلينا، ثم أنتم تريدون أن تستأثروا علينا. (¬2) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 120): يختزلونا: أي يقتطعونا عن الأمر، وينفردوا به دوننا. وفي رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 316): يحتازونا. (¬3) في رواية ابن إسحاق في السيرة (4/ 316): يغصبونا. (¬4) زَوَّرْتُ: أي هَيَّأْتُ وأَصْلَحْتُ. انظر النهاية (2/ 287). (¬5) الحَدُّ والحِدَّةُ سواء: مِنْ الغضبِ، يقال: حّدَّ يَحِدُّ حدًا: إذا غضب. انظر النهاية (1/ 340). وفي رواية ابن حبان في صحيحه - رقم الحديث (414): الحِدَّة. (¬6) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 120): رِسلك: بكسر الراء أي على مهلك. (¬7) هذه رواية البخاري في صحيحه. وفي رواية الإِمام أحمد في مسنده: أعلم.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ أَنْ تَشَهَّدَ، وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْأَنْصَارُ، مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ، فَأَنْتُمْ له أَهْلٌ، وَلَنْ تَعْرِفَ الْعَرَبُ هَذَا الأَمْرَ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ (¬1) الْعَرَبِ نَسَبًا، وَدَارًا (¬2). وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أُنْزِلَ في الْأَنْصَارِ، وَلَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنْ شَأْنِهِمْ، إِلَّا وَذَكَرَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ اَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَاديًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ وَاديًا، سَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ" (¬3)، وَلقدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَ، وَأَنْتَ قَاعِدٌ: "قُريْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرَهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ"، فَقَالَ له سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ -رضي اللَّه عنه-: صَدَقْتَ، نَحْنُ الْوُزَرَاءُ، وَأَنْتُمُ الْأُمَرَاءُ (¬4). فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-: أَنَا جُذَيْلُهَا (¬5) الْمُحَكَّكُ، ¬

_ (¬1) أَوْسَط: أي خيارهم. انظر النهاية (5/ 160). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت - رقم الحديث (6830) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (391) - وابن حبان في صحيحه - كتاب البر والإحسان - باب حق الوالدين - رقم الحديث (414). (¬3) هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه - كتاب مناقب الأنصار - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار" - رقم الحديث (3779) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (8169). (¬4) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (18) - وهو صحيح لغيره. (¬5) الجُذَيْلُ: هو تصغير جِذْلٍ، وهو العود الذي يُنصب للإبل الجربي لتحتك به، وهو تصغير تعظيم؛ أي أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربى بالاحتكاك بهذا العود. انظر النهاية (1/ 243).

* موقف زيد بن ثابت -رضي الله عنه-

وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ (¬1)، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ (¬2). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: لَا، وَلَكِنَّا الْأُمَرَاءُ، وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ (¬3). * مَوْقِفُ زيْدِ بْنِ ثابِتٍ -رضي اللَّه عنه-: فَهُنَا قَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَإِنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ المُهَاجِرِينَ، وَنَحْنُ أَنْصَارُهُ كَمَا كُنَّا أَنْصَارَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: جَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْ حَيٍّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَثَبَّتَ قَائِلَكُمْ، وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ لَمَا صَالَحْنَاكُمْ (¬4). ¬

_ (¬1) عُذَيْقُهَا: تصغير العَذْقِ بفتح العين، وهو النخلة, الْمُرَجَّبُ: هو أن تُعمد النخلة الكريمة ببناء من حجارة أو خشب إذا خيف عليها لطولها وكثرة حملها أن تقع، وقد يكون ترجيبها بأن يُجعل حولها شوك لئلا يُرقى إليها، أراد أنه يستشفى برأيه. انظر النهاية (3/ 181) (2/ 180) - فتح الباري (7/ 382). (¬2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت - رقم الحديث (6830) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (391). (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا" - رقم الحديث (3668). (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (21617) - والطيالسي في مسنده - رقم الحديث (603) - وابن أبي شيبة في مصنفه - رقم الحديث (38195) - والحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر الاختلاف في أمر الخلافة - رقم الحديث (4514) - وإسناده صحيح على شرط مسلم.

* ترشيح عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما للخلافة

* تَرْشِيحُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِلخِلَافَةِ: ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ، فَأَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، وَيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه-، وَهُوَ جَالِسٌ بينهما. قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمْ أَكْرَهُ مِمَّا قَالَ أَبُو بَكْرٍ غَيْرَهَا، وَاللَّهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتَضْرَبَ عُنقِي لَا يَقْرَبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ. قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: وَكَثُرَ اللَّغَطُ (¬1)، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ حَتَّى فَرِقْتُ (¬2) مِنَ الِاخْتِلَافِ. فَقُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعْتُهُ، وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ (¬3)، ثُمَّ بَايَعَتْهُ الْأَنْصَارُ (¬4). وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَؤُمَّ النَّاسَ؟ فَأَيّكُمْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ؟ ¬

_ (¬1) اللَّغَطُ: الضجة واختلاف الأصوات. انظر جامع الأصول (11/ 71). (¬2) الفرَقَ: الخوف. انظر النهاية (3/ 392). (¬3) قَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (14/ 122): كأنهم تلاحقوا بهم لما بلغهم أنهم توجهوا إلى الأنصار. (¬4) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب الحدود - باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت - رقم الحديث (6830) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (391).

* عدم حرص أبي بكر -رضي الله عنه- على الخلافة

فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَتَقَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ (¬1). * عَدَمُ حِرْصِ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْخِلَافَةِ: وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- حَرِيصًا عَلَى الخلافةِ، وَإِنَّمَا لَمَّا خَافَ الِاخْتِلَافَ قَبِلَ بِهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ رَافِعٍ الطَّائِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَمَّا قِيلَ مِنْ بَيْعَتِهِمْ، فَقَالَ وَهُوَ يُحَدِّثه عَمَّا تَكَلَّمَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ، وَمَا كَلَّمَهُمْ بِهِ، وَمَا كَلَّمَ بِهِ عُمَر بن الْخَطَّابِ -رضي اللَّه عنه- الْأَنْصَارِ، وَمَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ مِنْ إِمَامَتِي إِيَّاهُمْ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في مَرَضِهِ، فَبَايَعُونِي لِذَلِكَ، وَقَبِلْتُهَا مِنْهُمْ، وَتَخَوَّفْتُ أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَتَكُوَنَ بَعدَهَا رِدَّةٌ (¬2). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى: وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ -رضي اللَّه عنه-، إِنَّمَا قَبِلَ الإِمَامَةَ تَخَوُّفًا أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ أَرْبَى (¬3) مِنْ تَرْكِهِ قَبُولَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأرْضَاهُ (¬4). وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ في مَغَازِيهِ بِسَندٍ جيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: . . . ثُمَّ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَقَالَ: مَا كُنْتُ حِرِيصًا عَلَى ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (133). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (42). (¬3) أَرْبَى: أعظم. انظر لسان العرب (5/ 126). (¬4) انظر البداية والنهاية (5/ 262).

* البيعة العامة

الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً، وَلَا سَأَلْتُهَا في سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ (¬1). * الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ: تَمَّتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءَ، اجْتَمَعَ النَّاسُ في الْمَسْجِدِ، فَكَانَتِ الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ. قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: لَمَّا بُويع أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- في السَّقِيفَةِ، وَكَانَ الْغَدُ جَلَسَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَامَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه- فتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي كُنْتُ قُلْتُ لَكُمْ بِالْأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ، وَمَا وَجَدْتُهَا في كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَكِنِّي قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى يدَبرنَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الذِي بِهِ هَدَى اللَّهُ رَسُوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَإِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمُ اللَّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ، وَإِنَّ اللَّه قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ، صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثَانيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الْغَارِ (¬2)، فَإِنَّهُ أَوْلَى النَّاسِ بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ، فَبَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ ¬

_ (¬1) أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 262) - وجود إسناده. (¬2) قال ابن التين فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (15/ 123): قدم الصحبة لشرفها, ولما كان غيره قد يشاركه فيها عطف عليها ما انفرد به أبو بكر -رضي اللَّه عنه-، وهو كونه "ثاني اثنين"، وهي أعظم فضائله التي استحق بها أن يكون الخليفة من بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-.

* خطبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-

بَيْعَةً عَامَّةً، بَعْدَ بَيْعَةِ السَّقِيفَةِ (¬1). * خُطْبَةُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَخَطَبَ في النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّه تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالذِي هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ (¬2)، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي، الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ، وَالضَّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيٌّ عِنْدِي حَتَّى أَرُدَّ له حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِيَ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يَدَع قَوْمٌ الْجِهَادَ في سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالذُّلِّ، وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ، أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّه وَرَسُولَهُ، فَإِنْ عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ (¬3). وَهَكَذَا تَمَّتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عن قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: إِنِّي ¬

_ (¬1) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الأم - باب الاستخلاف - رقم الحديث (7219) - وابن إسحاق في السيرة (4/ 318). (¬2) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ في البداية والنهاية (5/ 261): وهذا من باب الهضم والتواضع، فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أجمعين. (¬3) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (4/ 318) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 261) - وقال: إسناده صحيح.

* بيعة علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام رضي الله عنهما

لَجَالِسٌ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِشَهْرٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً، فَنُودِيَ في النَّاسِ: أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ في الْمُسْلِمِينَ نُودِيَ بِهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَة، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، شَيْئًا صُنِعَ له كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ، وَهِيَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا في الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ هَذَا كَفَانِيهِ غَيْرِي، وَلَئِنْ أَخَذْتُمُونِي بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا أُطِيقُهَا، إِنْ كَانَ لَمَعْصُومًا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنْ كَانَ لَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءَ (¬1). فَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ في سَنَدِهِ عِيسَى بْنُ الْمُسَيِّبِ الْبَجَلِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلفاظِهِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا في الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهَا: 1 - قَوْلُهُ: وَهِيَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا في الْإِسْلَامِ -أَيْ بَعْدَ شَهْرٍ مِنْ خِلَافَتِهِ- وَالصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ خَطَبَ في ثَانِي يَوْمٍ مِنْ بَيْعَتِهِ -رضي اللَّه عنه-. 2 - قَوْلُه: إِنَّهُ صُنِعَ لَهُ مِنْبَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَكَذَلِكَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-. * بَيْعَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ بَايَعَا ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (80).

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، أَوْ ثانِي يَوْمٍ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. فَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: . . . لَمَّا قَعَدَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- عَلَى الْمِنْبَرِ نَظَرَ في وُجُوه الْقَوْمِ، فَلَمْ يَرَ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه-، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَامَ نَاس مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: ابْنَ عِّم رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَخَتَنَهُ (¬1)، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ . فَقَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: لَا تَثْرِيبَ (¬2) يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَبَايَعَهُ، ثمَّ لَمْ يَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ -رضي اللَّه عنه-، فَسَأَلَ عَنْهُ حَتَّى جَاؤُوا بِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: ابْنَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَحَوَارِيَّهُ، أَرَدْتَ أَنْ تَشُقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ؟ . فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: لَا تَثْرِيبَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَبَايَعَهُ (¬3). وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ في مَغَازِيهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ -رضي اللَّه عنه- كَانَ مَعَ ¬

_ (¬1) الْخَتَنُ: أي زوج ابنته. انظر النهاية (2/ 11). (¬2) لا تَثْرِيبَ: أي لا لوم، ولا تأنيب، ولا عتب عليك. انظر لسان العرب (2/ 89). ومنه قوله تَعَالَى في سورة يوسف آية (92): {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر الاختلاف في أمر الخلافة - رقم الحديث (4514) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية - رقم الحديث (5/ 261) - وقال: إسناده صحيح.

* رواية الصحيحين

عُمَرَ -رضي اللَّه عنه-، قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، وَاعْتَذَرَ إلى النَّاسِ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ حِرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً، وَلَا سَأَلتهَا في سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مَقَالَتَهُ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا أُخِّرْنَا عَنِ الْمَشُورَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ الْغَارِ، وَإِنَّا لَنَعْرِفُ شَرَفَهُ وَخَبَرَهُ، وَلَقَدْ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- إِنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا بُوبع لِأَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَانَ عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدْخُلَانِ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَيُشَاوِرَانِهَا، فبلَغَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-، فَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- مَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَبِيكِ، وَمَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ بَعْدَ أَبِيكِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْكِ، وَكَلَّمَهَا، فَدَخَلَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: انْصَرِفَا رَاشِدَيْنِ، فَمَا رَجَعَا إِلَيْهَا حَتَّى بَايَعَا (¬2). * رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ: قُلْتُ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ في الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- بَايَعَ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ حِينَ توُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية - رقم الحديث (5/ 262) - وجود إسناده. (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في فضائل الصحابة - رقم الحديث (532) - بإسناد رجاله ثقات غير محمَّد بن إبراهيم، فقد سكت عنه أبو نعيم، والخطيب.

-صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (¬1)، فَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ بَيْنَ ذَلِكَ (¬2) فَقَالَ: . . . أَنَّ عَلِيًّا -رضي اللَّه عنه- بَايَعَ أَوَّلًا مَعَ النَّاسِ الْبَيْعَةَ الْعَامَّةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلَمَّا حَصَلَ مِنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَتْبٌ عَلَى الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- بِسَبَبِ مَا كَانَتْ مُتَوَهِّمَةً أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ مِيرَاثَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ تَعْلَمْ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-، أَنَّهُ قاَلَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا نورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ"، فَحَجَبَهَا وَغَيْرَهَا مِنْ أَزْوَاجِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) وَعَمَّهُ مِنْ مِيرَاثِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِهَذَا النَّصِّ الصَّرِيحِ، وَهُوَ الصَّادِقُ البَارُّ، الرَّاشِدُ، التَّابعُ لِلْحَقِّ -رضي اللَّه عنه-، فَحَصَلَ لَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنَ الْبَشَرِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ الْعِصْمَةِ- عَتْبٌ وَتَغَضُّبٌ، وَلَمْ تُكَلِّمِ الصِّدِّيقَ -رضي اللَّه عنه- حَتَّى مَاتَتْ، وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- أَن يُرَاعِيَ خَاطِرَهَا بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا مَاتَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَفَاةِ أَبِيهَا -صلى اللَّه عليه وسلم- رَأَى عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- أَنْ يجَدِّدَ البيعة لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-. وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- مِنْ مبايَعَتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- فِي أَوَّلِ أَوْ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب غزوة خيبر - رقم الحديث (4240) (4241) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجهاد والسير - باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" - رقم الحديث (1759). (¬2) وَقَالَ الحَافِظُ في الفَتْحِ (8/ 280): وأما بيعة علي -رضي اللَّه عنه- لأبي بكر -رضي اللَّه عنه- بعد وفاة فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فكانت بيعة ثانية مؤكدة للأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث. (¬3) روى البخاري في صحيحه - رقم الحديث (6730) - ومسلم في صحيحه - رقم الحديث (1758) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: أن أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين توفي رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان -رضي اللَّه عنه- إلى أبي بكر -رضي اللَّه عنه-، يسألنه ميراثهن من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لهن: أليس قال رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"؟ .

ثَانِي يَوْمٍ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ الذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآثارُ مِنْ شُهُودِهِ مَعَهُ الصَّلَوَاتِ، وَخُرُوجِهِ مَعَهُ إلى ذِي الْقَصَّةِ (¬1) لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَبَذْلِهِ النَّصِيحَةَ وَالْمَشُورَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ (¬2). وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ في دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-: أَلَا تَسْتَخْلِفُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: مَا اسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَسْتَخْلِفُ، وَلَكِنْ إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِالنَّاسِ خَيْرًا، فَسَيَجْمَعُهُمْ بَعْدِي عَلَى خَيْرِهِمْ، كَمَا جَمَعَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ عَلَى خَيْرِهِمْ (¬3). وَيَظْهَرُ لَنَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ وَالْأَنْصَارِ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه-. وَيَظْهَرُ لَنَا أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْخِلَافَةِ عَيْنًا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، لَا لِأَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، كَمَا قَدْ زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، كَمَا يَقُولهُ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ، وَلَكِنْ أَشَارَ إِشَارَةً قَوِيَّةً يَفْهَمُهَا كُلُّ ذِي لُبٍّ، وَعَقْلٍ إلى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- (¬4). ¬

_ (¬1) ذِي الْقَصَّةِ: بفتح القاف وفتح الصاد المشددة، موضع قريب من المدينة. انظر النهاية (4/ 64). (¬2) انظر البداية والنهاية (5/ 262) (6/ 693). (¬3) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (7/ 223) - وأورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 263) - وجود إسناده. (¬4) انظر البداية والنهاية (5/ 262).

جهاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغسله

جَهَازُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَغَسْلُهُ فَلَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه- بِالْخِلَافَةِ، أَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى جَهَازِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَذَلِكَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ (¬1). وَلَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي كَيْفَ نَصْنَعُ، أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نَغْسِله وَعَلَيْهِ ثِيَاُبهُ؟ . قَالَتْ: فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّنَةَ (¬2) حَتَّى وَاللَّهِ مَا مِنَ القوْمِ مِنْ رَجُلٍ إِلَّا ذَقْنُهُ في صَدْرِهِ نَائِمًا، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: أَنِ اغْسِلُوا النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَعَلَيْهِ ثِيَابهُ. قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَثَارُوا إِلَيْهِ، فَغَسَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَهُوَ فِي قَمِيصِهِ (¬3) يُفاضُ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَالسِّدْرُ، وَيَدْلِكُهُ الرِّجَالُ بالْقَمِيصِ (¬4). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن إسحاق في السيرة (4/ 321) - وإسناده حسن. (¬2) السِّنَةُ: بكسر السين، وهو النُّعَاسُ. (¬3) في رواية ابن حبان: وعليه قميصه. (¬4) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (26306) - وابن حبان في صحيحه =

* تأسف عائشة رضي الله عنها في غسل الرسول -صلى الله عليه وسلم-

وَكَانَ الذِينَ وَلُوا غَسْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبْنَاؤُهُ: الْفَضْلُ، وَقُثَمُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَشُقْرَانُ (¬1) مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَأَمَّا أَوْسُ بْنُ خَوْلي الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَقَدْ قَالَ لِعَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَلِيُّ نَشَدْتُكَ اللَّه، وَحَظَّنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ له عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: ادْخُلْ، فَدَخَلَ فَحَضَرَ غَسْلَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَمْ يَلِ مِنْ غَسْلِهِ شَيْئًا (¬2). فَكَانَ الْعَبَّاسُ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ يُقَلِّبُونَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مَعَ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَشُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَصُبَّانِ الْمَاءَ، وَعَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه- يَغْسِلُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي وَأُمِّي، مَا أَطْيبكَ حَيًّا وَمَيْتًا (¬3). * تَأَسُّفُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها في غُسْلِ الرَّسُولِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ¬

_ = كتاب التاريخ - باب وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6627) - وأبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في ستر الميت عند غسله- رقم الحديث (3141). (¬1) وقع ذكره -رضي اللَّه عنه- في مسند الإِمام أحمد بلفظ "صالح مولاه" -أي مولى رَسُول اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو اسمه، ولقبه شقران -رضي اللَّه عنه-. وانظر الإصابة (3/ 284). (¬2) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2357) وإسناده حسن لغيره. (¬3) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2357) - وإسناده حسن لغيره، وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1467) - وإسناده صحيح.

* حديث ضعيف

لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَهُ (¬1) إِلَّا نِسَاؤُهُ (¬2). * حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: وَأَمَّا مَا رَوَاه ابْنُ مَاجَه في سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِذَا أنَّا مِتُّ فَاغْسِلُوني بِسَبْعِ قِربٍ، مِنْ بِئْرِي بِئْرِ غَرْسٍ" (¬3). فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، في إِسْنَادِهِ عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. * * * ¬

_ (¬1) أي: ما غسَّل الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) أخرجه أبو داود في سننه - كتاب الجنائز - باب في ستر الميت عند غسله - رقم الحديث (3141) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها - رقم الحديث (1464). (¬3) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1468)، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني رَحِمَهُ اللَّهُ - رقم الحديث (1237).

تكفين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

تَكْفِينُ رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ غَسْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- كُفِّنَ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُوليَّةٍ (¬1) مِنْ كُرْسُفٍ (¬2)، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ (¬3). قَالَ الْإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ في جَامِعِهِ: وَقَدْ رُوِيَ في كَفَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَصَحُّ الْأَحَادِيثِ التِي رُوِيَتْ في كَفَنِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَغَيْرِهِمْ (¬4). * * * ¬

_ (¬1) سَحُوليَّة: بفتح السين نسبة إلى قرية باليمن تنسب إليها الثياب، وروي بضم السين، وهو جمع سَحْل، وهو الثوب الأبيض النقي. انظر النهاية (2/ 313) - جامع الأصول (11/ 781). (¬2) الْكُرْسُفُ: الْقُطْنُ. انظر النهاية (4/ 142) - جامع الأصول (11/ 791). (¬3) أخرج ذلك البخاري في صحيحه - كتاب الجنائز - باب الثياب البيض للكفن - رقم الحديث (1264) - ومسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب في كفن الميت - رقم الحديث (941) - عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. (¬4) انظر جامع الترمذي (2/ 485).

الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

الصَّلاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَلَمَّا كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ في بَيْتِهِ -بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- ثُمَّ أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرْسَالًا (¬1)، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَلَا يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ (¬2). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذَا الصَّنِيعُ، وَهُوَ صَلَاتُهُمْ عَلَيْهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فُرَادَى لَمْ يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ عَلَيْهِ، أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ في تَعْلِيلِهِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا لَمْ يَؤُمُّهُمْ أَحَدٌ لِيباشِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَلتُكَرَّرَ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ حَتَّى الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءَ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) أَرْسَالًا: أي أَفْوَاجًا وفِرَقًا مُتَقَطِّعَة، يتبع بعضهم بعضًا. انظر النهاية (2/ 202). (¬2) أخرج ذلك الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20766) - وإسناده صحيح. (¬3) انظر البداية والنهاية (5/ 278).

دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

دَفْنُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَشَاوَرُونَ أَيْنَ يَدْفِنُونَهُ؟ فَقَالَ قَائِلٌ: نَدْفِنُهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَقَالَ آخَرُونَ نَدْفِنُهُ بِالْبَقِيعِ، فَاخْتَلفوا، فَأَرْسَلُوا إلى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رضي اللَّه عنه- فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقُولُ: "مَا قُبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا في الْمَوْضعِ الذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ" (¬1)، ادْفِنُوهُ في مَوْضِعِ فِرَاشِهِ. وَرَوَى الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: رَأَيْتُ -أَيْ في الْمَنَامِ- كَأَنَّ ثَلَاثَةَ أَقْمَارٍ سَقَطَتْ في حُجْرَتِي، فَسَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ إِنْ تَصْدُقْ رُؤْيَاكِ يدْفَنُ في بَيْتِكِ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةٌ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَدُفِنَ، قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-: يَا عَائِشَةُ هَذَا خَيْرُ أَقْمَارِكِ، وَهُوَ أَحَدُهَا (¬2). ¬

_ (¬1) أخرج هذا الحديث: الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (27) - والترمذي في جامعه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في دفن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1039) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1628) وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده. (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب المغازي والسرايا - باب رؤيا عائشة ثلاثة أقمار - رقم الحديث (4456) (8253).

ثُمَّ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ في حَفْرِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، هَلْ يُجْعَلُ له لَحْدٌ (¬1)، أَوْ يُجْعَلُ له شَقٌّ؟ . وَكَانَ في الْمَدِينَةِ رَجُلَانِ يَحْفِرَانِ الْقُبُورَ، هُمَا: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يَضْرِحُ (¬2) كَحَفْرَ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالآخَرُ هُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-، وَكَانَ يَلْحِدُ، وَكَانَ يَحْفِرُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَرْسَلُوا رَجُلَيْنِ أَحدَهُمَا إلى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ -رضي اللَّه عنه-، وَالْآخَرَ لِأَبِي طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالُوا: أَيُّهَا جَاءَ أَوَّلًا حَفَرْنَا عَلَى طَرِيقَتِهِ، فَجَاءَ أَوَّلًا أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ -رضي اللَّه عنه-، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَذَهَبَ الرَّجُلَانِ، فَلَمْ يَجْدْ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدَةَ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَوَجَدَ صَاحِبُ أَبِي طَلْحَةَ أَبَا طَلْحَةَ، فَجَاءَ بِهِ، فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَه في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- اخْتَلَفُوا في اللَّحْدِ وَالشَّقِّ، حَتَّى تَكَلَّمُوا في ¬

_ (¬1) اللَّحْدُ: الشِّقُّ الذي يُعمل في جانب القبر لموضع الميت؛ لأنه قد أُميل عن وسط القبر إلى جانبه. انظر النهاية (4/ 204). (¬2) الضَّرِيحُ: أي يعمل الضريح، وهو القبر. انظر النهاية (3/ 75). (¬3) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الشق - رقم الحديث (1557) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2832) - والإمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (39) (2357) - وإسناده حسن. (¬4) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (2357) - وإسناده حسن لغيره.

ذَلِكَ، وَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي اللَّه عنه-: لَا تَصْخَبُوا (¬1) عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَيًّا وَلَا مَيْتًا، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، فَأَرْسَلُوا إلى الشَّقَّاقِ وَاللَّاحِدِ جَمِيعًا، فَجَاءَ اللَّاحِدُ فَلَحَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثُمَّ دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). وَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ -رضي اللَّه عنه-، خَطَّ حَوْلَ الْفِرَاشِ، ثُمَّ حُوِّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِالْفِرَاشِ في نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، وَحَفَرَ أَبُو طَلْحَةَ الْقَبْرَ، وَصَنَعَ لَهُ لَحْدًا، وَدَخَلَ قَبْرَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ، وَوَضَعَ شُقْرَانُ مَولَى رَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فِي قَبْرِهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَطِيفَةً (¬3) حَمْرَاءَ (¬4)، ثُمَّ أَنْزَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- في قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (¬5). * * * ¬

_ (¬1) الصخب: الضجة: واضطراب الأصوات للخصام. انظر النهاية (3/ 14). (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الشق - رقم الحديث (1558) - وله شاهدٌ عند مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- كتاب الجنائز - باب في اللحد ونصب اللبن على الميت - رقم الحديث (966). (¬3) القطيفة: هي كساء له خمل. انظر النهاية (4/ 75). (¬4) أخرج وضع القطيفة في قبره -صلى اللَّه عليه وسلم-: مسلم في صحيحه - كتاب الجنائز - باب جعل القطيفة في القبر - رقم الحديث (967). (¬5) أخرج ذلك ابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6633) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2843) وإسناده جيد.

من كان آخر العهد برسول الله -صلى الله عليه وسلم-

مَنْ كَانَ آخْرَ الْعَهْدِ برَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَّا مَنْ كَانَ آخِرَ عَهْدِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَدِ اخْتُلِفَ في ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه-، فَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الآثارِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عَسِيبٍ قَالَ: . . . فَلَمَّا وُضِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، في لَحْدِهِ، قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رضي اللَّه عنه-: قَدْ بَقِيَ مِنْ رِجْلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يُصْلِحُوهُ، قَالُوا: فُادْخُلْ فَأَصْلِحْهُ، فَدَخَلَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ، فَمَسَّ قَدَمَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، فَقَالَ: أَهِيلُوا عَلَيَّ التُّرَابَ، فَأَهَالُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ حَتَّى بَلَغَ أَنْصَافَ سَاقَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أُحْدَثُكُمْ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). وَرَوَى الْحَاكِمُ في الْمُسْتَدْرَكِ وَالطَّحَاوِيُّ في مُشْكِلِ الآثار بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ الْمُغِيرَةَ أَلْقَى خَاتَمَهُ في قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَكُونَ هُوَ آخِرَ مَنْ مَسَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَ له عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّكَ نَزَلْتَ في قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَا تُحَدِّثُ أَنْتَ النَّاسَ إِنَّ خَاتَمَكَ فِي قَبْرِهِ، فنَزَلَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، أَوْ أَمَرَ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (20766) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2836). (¬2) أخرجه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب ذكر مناقب =

وَقِيلَ: قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَالطَّحَاوِيُّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي اللَّه عنه-، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرٍ نُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ، قَالَ: أَظُنُّ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يُحَدِّثُكُمْ أَنَّهُ كَانَ أَحْدَثَ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قَالُوا: أَجَلْ، عَنْ ذَلِكَ جِئْنَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه-. وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ في شَرْحِ مُشْكِلِ الْآثَارِ، قَالَ عَلِيٌّ -رضي اللَّه عنه-: كَذَبَ، آخِرُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ -رضي اللَّه عنه- (¬1). وَالصَّحِيحُ أَنَّ آخِرَ الْعَهْدِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- هُوَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُمَا. * * * ¬

_ = المغيرة بن شعبة - رقم الحديث (5947) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2839). (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (786) - والطحاوي في شرح مشكل الآثار - رقم الحديث (2840).

متى دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

مَتَى دُفِنَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَكَانَ دَفْنُهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدفْنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ (¬1). وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى في الْمُسْنَدِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ قَالَتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي (¬2) مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ (¬3). قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكَثَ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَقِيَّةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمِ الثُّلَاثَاءِ بِكَمَالِهِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ (¬4). قُلْتُ: إِنَّا للَّهِ وَإِنَّا إِليْهِ رَاجِعُونَ! ! ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24790). (¬2) الْمَسَاحِي: جمع مِسْحَاة، وهي الْمَجْرَفَةُ من الحديد. انظر النهاية (4/ 280). (¬3) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (24333). (¬4) انظر البداية والنهاية (5/ 284).

وَنُشْهِدُ اللَّهَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَنَصَحَ الْأُمَّةَ، وَترَكَهَا عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ. * * *

حزن الصحابة رضي الله عنهم

حُزْنُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلقدْ حَزِنَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- حُزْنًا عَظِيمًا، فَقَدْ أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه-. قال: ما رأيت يومًا قَطُّ أَنْوَرَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ يَوْم دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- وَأَبُوَ بَكْرٍ الْمَدِينَةَ، وَشَهِدْتُ وَفَاتَهُ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَظْلَمَ وَلَا أَقْبَحَ مِنَ الْيَوْمِ الذِي تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فِيهِ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ وَابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الذِي مَاتَ فِيهِ، أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَمَا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- الْأَيْدِي، وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ، حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا (¬2). وَرَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (12234). (¬2) أخرجه الإِمام أحمد في مسنده - رقم الحديث (13830) - وابن حبان في صحيحه - كتاب التاريخ - باب وفاته -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (6634) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1631).

-صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دُعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، يَا أَبَتَا إلى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ. قَالَ أَنَسٌ -رضي اللَّه عنه-: فَلَمَّا دُفِنَ -صلى اللَّه عليه وسلم- قَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أَنَسٌ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- التُّرَابَ (¬1). وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ -رضي اللَّه عنه- قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه- بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- لِعُمَرَ -رضي اللَّه عنه-: انْطَلِقْ بِنَا إلى أُمِّ أَيْمَنَ نَزورُهَا، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- يَزُورُهَا، فَلَمَّا انتهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ، فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ . مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قَالَتْ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَلَكِنِّي أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءَ، فهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءَ، فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا (¬2). وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ -رضي اللَّه عنه-: فَابْكِي رَسُولَ اللَّهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً ... وَلَا أَعْرِفَنْكِ الدَّهْرَ دَمْعَكِ يَجمَدُ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب المغازي - باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته - رقم الحديث (4462) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1629) (1630). (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه - كتاب فضائل الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - باب من فضائل أم أيمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رقم الحديث (2454) - وابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ذكر وفاته ودفنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم الحديث (1635).

وَمَالَكِ لَا تَبْكِينَ ذَا النَّعْمَةِ التِي ... عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابغٌ يَتَغَمَّدُ فَجُودِي عَلَيْهِ بِالدُمُوعِ وَأَعْوِلِي ... لِفَقْدِ الذِي لَا مِثْلُهُ الدَّهرَ يُوجَدُ وَمَا فَقَدَ الْمَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ ... وَلَا مِثلُهُ حَتَّى القِيامَةِ يُفقَدُ (¬1) وَرَوَى ابْنُ مَاجَه في سُنَنِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، أَوْ كَشَفَ سِتْرًا، فَإِذَا النَّاسُ يُصَلُّونَ وَرَاءَ أَبِي بَكْرٍ -رضي اللَّه عنه-، فَحَمِدَ اللَّه عَلَى مَا رَأَى مِنْ حُسْنِ حَالِهِمْ، وَرَجَا أَنْ يَخْلفهُ اللَّهُ فِيهِمْ بِالذِي رَآهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّمَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنَ الْمُؤْمنِينَ، أُصِيبَ بِمُصيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنِ الْمُصيبَةِ التِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي، فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي" (¬2). * * * ¬

_ (¬1) انظر ديوان حسان بن ثابت -رضي اللَّه عنه- ص 63. (¬2) أخرجه ابن ماجه في سننه - كتاب الجنائز - باب ما جاء في الصبر على المصيبة - رقم الحديث (1599).

الخاتمة

الخَاتِمَةُ خِتَامًا أَسْأَلُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ عَمَلِي هَذَا خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ المُسْلِمِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ صَوَابٍ وَتَوْفِيقٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَطَأٍ وَزَلَلٍ فَمِنْ نَفْسِي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَأَرْجُو مِنْ كُلِّ مَنْ قَرَأَ كِتَابِي هَذَا أَنْ لَا يَنْسَانِي مِنْ خَالِصِ دُعَائِهِ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موسى بن راشد العازمي الكويت 21/ جمادى الآخرة / 1432 هـ 24/ 5/ 2011 م

فهرس المراجع

فهرس المراجع أولًا: القرآن الكريم وعلومه: اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة جامع البيان في تأويل القرآن ... الإِمام محمد بن جرير الطبري ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1412 هـ - 1992 م) تفسير القرآن العظيم ... الحافظ ابن كثير ... دار طيبة للنشر والتوزيع - تحقيق سامي سلامة - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1997 م) الجامع لأحكام القرآن ... الإِمام محمد بن أبي بكر القرطبي ... مؤسسة الرسالة - تحقيق د. عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي - الطبعة الأولى (1427 هـ - 2006 م) معالم التنزيل ... الإِمام الحسين بن محمد البغوي ... دار طيبة للنشر والتوزيع - تحقيق محمد النمر - د. عثمان ضميزية - سليمان الحرش - الطبعة الأولى (1423 هـ -2002 م)

ثانيا: كتب المعاجم واللغة

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة في ظلال القرآن ... سيد قطب ... دار الشروق - الطبعة الثانية عشرة (1406 هـ - 1986 م) العجاب في بيان الأسباب ... الحافظ ابن حجر العسقلاني ... دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع - تحقيق: عبد الحكيم الأنيس - الطبعة الثانية (1426 هـ) الاستيعاب في بيان الأسباب ... سليم الهلالي - محمد آل نصر ... دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى (1425 هـ) المفردات في غريب القرآن ... الإِمام الراغب الأصفهاني ... دار المعرفة للطباعة والنشر - تحقيق: محمدخليل عيتاني - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1998 م) ثانيًا: كتب المعاجم واللغة: لسان العرب ... الإِمام ابن منظور ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الثانية (1417 هـ - 1997 م) القاموس المحيط ... الإِمام مجد الدين الفيروزآبادي ... مؤسسة الرسالة - الطبعة السادسة (1419 هـ - 1998 م)

ثالثا: كتب الحديث وشروحها

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة معجم البلدان ... الإِمام ياقوت الحموي ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الأولى (1417 هـ - 1998 م) المعجم الوسيط ... مجموعة من المؤلفين ... المكتبة الإِسلامية للطباعة والنشر - تركيا - الطبعة الأولى ثالثًا: كتب الحديث وشروحها: صحيح البخاري ... الإِمام عبد اللَّه بن إسماعيل البخاري ... المكتبة السلفية - الطبعة الأولى (1400 هـ) صحيح مسلم ... الإِمام مسلم بن حجاج القُشيري ... دار السلام للنشر والتوزيع - الطبعة الثانية (1421 هـ - 2000 م) سنن أبي داود ... الإِمام أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ... مؤسسة الرسالة - تحقيق شعيب الأرناؤوط - الطبعة الأولى (1430 هـ - 2009 م) جامع الترمذي ... الإِمام محمد بن عيسى الترمذي ... مؤسسة الرسالة - تحقيق شعيب الأرناؤوط - الطبعة الأولى (1430 هـ - 2009 م) السنن الكبرى ... الإِمام أحمد بن شعيب النسائي ... مؤسسة الرسالة - تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي - الطبعة الأولى (1421 هـ - 2001 م)

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة سنن ابن ماجه ... الإِمام محمد بن يزيد بن ماجه القزويني ... مؤسسة الرسالة - تحقيق شعيب الأرناؤوط الطبعة الأولى (1430 هـ - 2009 م) صحيح ابن حبان ... الإِمام محمد بن حبان أبو حاتم البُستي ... مؤسسة الرسالة - تحقيق: شعيب الأرناؤوط - الطبعة الثالثة (1418 هـ - 1997 م) مسند الإِمام أحمد ... الإِمام أحمد بن حنبل الشيباني ... مؤسسة الرسالة - تحقيق: شعيب الأرناؤوط - الطبعة الثالثة (1414 هـ - 1994 م) مسند الطيالسي ... الإِمام سليمان بن داود الطيالسي ... دار هجر للطباعة والنشر - تحقيق: محمد بن عبد المحسن التركي - الطبعة الأولى (1419 هـ - 1999 م) شرح مشكل الآثار ... الإِمام أبو جعفر أحمد الطحاوي ... مؤسسة الرسالة - تحقيق: شعيب الأرناؤوط - الطبعة الثالثة (1415 هـ - 1994 م) الموطأ ... الإِمام مالك بن أنس ... دار الحديث - القاهرة - تخريج وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي (1421 هـ - 2001 م) الأدب المفرد ... الإِمام عبد اللَّه بن إسماعيل البخاري ... دار الدليل الأثرية - تحقيق: ناصر الدين الألباني - الطبعة الرابعة (1428 هـ - 2007 م)

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة المستدرك على الصحيحين ... الإِمام محمد بن عبد اللَّه الحاكم النيسابوري ... دار المعرفة للطباعة والنشر - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1998 م) جامع الأصول في أحاديث الرسول ... الإِمام أبو السعادات ابن الأثير الجزري ... دار الفكر للطباعة والنشر - تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط (1412 هـ - 1991 م) فضائل الصحابة ... الإِمام أحمد بن حنبل الشيباني ... دار ابن كثير للطباعة والنشر - تحقيق: وصي اللَّه بن محمد عباس - الطبعة الثانية (1425 هـ - 1999 م) الترغيب والترهيب ... الإِمام زكي الدين المنذري ... دار ابن كثير للطباعة والنشر - تحقيق: محيي الدين مستو - سمير العطار - يوسف بديوي - الطبعة الثانية (1417 هـ - 1996 م) مصنف ابن أبي شيبة ... الإِمام أبو بكر بن أبي شيبة ... دار قرطبة للطباعة والنشر - تحقيق: محمد عوامة - الطبعة الأولى (1427 هـ - 2006 م) مصنف عبد الرزاق الصنعاني ... الإِمام عبد الرزاق بن همّام الصنعاني ... المكتب الإِسلامي - تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي - الطبعة الثانية (1403 هـ - 1983 م)

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة كشف الخفاء ... الإِمام إسماعيل بن محمد العجلوني ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الثانية (1351 هـ) سلسلة الأحاديث الصحيحة ... ناصر الدين الألباني ... مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - (1415 هـ - 1995 م) سلسلة الأحاديث الضعيفة ... ناصر الدين الألباني ... مكتبة المعارف للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى (1422 هـ - 2001 م) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ... الحافظ ابن حجر العسقلاني ... دار الفكر للطباعة والنشر - تحقيق: الشيخ عبد العزيز بن باز (1416 هـ - 1996 م) صحيح مسلم بشرح النووي ... الإِمام يحيى بن شرف النووي ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1415 هـ - 1995 م) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ... الإِمام أبو العلا محمد المباركفوري ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الأولى (1419 هـ - 1998 م) إهداء الديباجة بشرح سنن ابن ماجه ... صفاء الضوي أحمد العدوي ... مكتبة دار اليقين - الطبعة الأولى (1422 هـ - 2001 م) شرح السنة ... الإِمام الحسين بن مسعود البغوي ... المكتب الإِسلامي - تحقيق: شعيب الأرناؤوط - زهير الشاويش - الطبعة الثانية (1403 هـ - 1983 م)

رابعا: كتب السيرة النبوية

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة حاشية مسند الإِمام أحمد ... الإِمام نور الدين السندي ... وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية - دولة قطر - تحقيق نور الدين طالب - الطبعة الأولى (1428 هـ - 2008 م) النهاية في شرح غريب الحديث والأثر ... الإِمام أبو السعادات ابن الأثير الجزري ... دار الكتب العلمية - تحقيق: صلاح بن محمد عويضة - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1997 م) رابعًا: كتب السيرة النبوية: السيرة النبوية ... الإِمام محمد ابن إسحاق المطلبي ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الثالثة (1421 هـ - 2000 م) الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية ... الإِمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد اللَّه السهيلي ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1997 م) الطبقات الكبرى ... الإِمام محمد بن سعد ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الأولى (1417 هـ - 1996 م) الشمائل المحمدية ... الإِمام محمد بن عيسى الترمذي ... دار ابن حزم - تحقيق: حسن أحمد إسبر - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1997 م)

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة دلائل النبوة ... الإِمام الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ... دار النفائس - تحقيق: د. محمد رواس قلعه جي - عبد البر عباس - الطبعة الرابعة (1419 هـ - 1999 م) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ... الإِمام أبو بكر أحمد البيهقي ... دار الكتب العلمية - تحقيق: د. عبد المعطي قلعه جي - الطبعة الأولى (1455 هـ - 1985 م) زاد المعاد في هدي خير العباد ... الإِمام ابن قيم الجوزية ... مؤسسة الرسالة - تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط - الطبعة الأولى (1417 هـ - 1996 م) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ... القاضي عياض ... دار الأرقم بن أبي الأرقم - تحقيق: حسين عبد الحميد عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير ... ابن سيد الناس ... مكتبة التراث - تحقيق: د. محمد العيد الخطرواي - محيي الدين مستو - الطبعة الأولى (1413 هـ - 1992 م) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ... الإِمام محمد يوسف الصالحين ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1414 هـ - 1993 م) شرح المواهب اللدنية ... الإِمام محمد الزرقاني المالكي ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1417 هـ - 1996 م)

خامسا: كتب التراجم

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ... د. محمد أبو شهبة ... دار القلم - الطبعة الرابعة (1418 هـ - 1998 م) فقه السيرة ... الشيخ محمد الغزالي ... دار القلم - الطبعة الخامسة (1414 هـ - 1994 م) فقه السيرة ... د. محمد سعيد رمضان البوطي ... دار الفكر - الطبعة السابعة (1398 هـ - 1978 م) الرحيق المختوم ... الشيخ صفي الرحمن المباركوري ... دار المؤيد للنشر والتوزيع (1418 هـ - 1998 م) السيرة النبوية الصحيحة ... د. أكرم ضياء العمري ... مكتبة العبيكان - الطبعة السادسة (1426 هـ - 2005 م) السيرة النبوية ... الشيخ أبو الحسن الندوي ... دار القلم - الطبعة الأولى (1422 هـ - 2001 م) خامسًا: كتب التراجم: الإصابة في تمييز الصحابة ... الحافظ ابن حجر العسقلاني ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1415 هـ - 1995 م) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ... الإِمام يوسف بن عبد البر القرطبي ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1415 هـ - 1995 م) أسد الغابة في معرفة الصحابة ... الإِمام عز الدين ابن الأثير الجزري ... دار المعرفة للطباعة والنشر - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1997 م)

سادسا: كتب التاريخ

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة تهذيب التهذيب ... الحافظ ابن حجر العسقلاني ... مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى (1421 هـ - 2001 م) سير أعلام النبلاء ... الإِمام الحافظ الذهبي ... مؤسسة الرسالة - الطبعة العاشرة (1414 هـ - 1994 م) تذكرة الحفاظ ... الإِمام الحافظ الذهبي ... دار الكتب العلمية حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ... الإِمام أبو نعيم الأصفهاني ... دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى (1418 هـ - 1997 م) لسان الميزان ... الحافظ ابن حجر العسقلاني ... دار إحياء التراث العربي - الطبعة الأولى (1416 هـ - 1996 م) الأعلام ... خير الدين الزركلي ... دار العلم للملايين - الطبعة الحادية عشرة (1995 م) رجال من التاريخ ... الشيخ علي الطنطاوي ... دار المنارة للنشر والتوزيع - الطبعة الثامنة (1411 هـ - 1990 م) سادسًا: كتب التاريخ: تاريخ الأمم والملوك ... الإِمام أبو جعفر بن جرير الطبري ... دار الكتب العلمية

اسم الكتاب ... المؤلف ... التحقيق والطبعة الكامل في التاريخ ... الإِمام عز الدين علي ابن الأثير ... دار الكتاب العربي - تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري - الطبعة الأولى (1417 هـ - 1997 م) البداية والنهاية ... الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير ... دار المعرفة للطباعة والنشر - الطبعة الرابعة (1419 هـ - 1998 م) شذرات الذهب في أخبار من ذهب ... الإِمام ابن العماد الحنبلي ... دار ابن كثير - تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - محمود الأرناؤوط - الطبعة الأولى (1406 هـ - 1986 م) الذكريات ... الشيخ علي الطنطاوي ... دار المنارة للنشر - الطبعة الثانية (1409 هـ - 1989 م) * * *

§1/1