الكلمات الحسان في بيان علو الرحمن

عبد الهادي بن حسن وهبي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المُقَدِِّّمَةُ إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]. {يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وب منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1]. {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أمَّا بعدُ .. فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأُمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار. أمَّا بعدُ: فإنَّ أولى ما يتنافسُ به المتنافسونَ، وأَحْرَى ما يتسابقُ في حَلْبةِ سباقهِ المتسابقونَ، ما كانَ بسعادةِ العبدِ في معاشهِ ومعادهِ كفيلًا، وعلى طريقِ هذهِ السعادةِ دليلًا، وذلكَ العلمُ النَّافعُ، والعملُ الصَّالحُ اللَّذَانِ لا سعادةَ للعبدِ إلَّا بهما، ولا نجاةَ له إلَّا بالتَّعَلُّقِ بسببهما، فمنْ رُزِقَهُمَا فقدْ فازَ وغَنِمَ، ومنْ حُرِمَهُما فالخيرَ كلَّه حُرِمَ. ولمَّا كانَ العلْمُ للعملِ قرينًا وشافعًا، وشرفهُ لشرفِ معلومهِ تابعًا، كانَ أَجَلَّ العلومِ وأفْضلَها وأشرفَها وأَسْماها على الإطلاقِ: العِلْمُ بالله وأسْمائِه وصفاتِه وأفْعالِه.

ولقدْ شهدَ الله سبحانه وتعالى - وشهادتهُ أَجَلُّ شهادةٍ وأعْظمُهَا وأعْدَلُهَا وأصْدَقُهَا - لنفسِه بأنَّهُ استوى على العرشِ، وبأنَّهُ القاهرُ فوقَ عبادهِ، وبأنَّ ملائكتَهُ يخافونهُ منْ فوقهم، وأنَّ الملائكةَ تَعْرُجُ إليه بالأمْرِ، وتَنْزِلُ مِنْ عندهِ، وأنَّ العملَ الصالحَ يصْعَدُ إليهِ. وشَهِدَتْ له الجَهْمِيَّةُ بضدِّ ذلكَ، وقالوا: إنَّ الله منزَّهٌ عن العلوِّ والفوقيَّةِ. يظنُّونَ أنَّ الحقَّ معهم؛ ولكنَّ الحقَّ وراءَهم. فسمُّوا علوَّ الله على خلقهِ، واستواءَهُ على عرشه: جهةً ومكانًا وقالوا: «منزهٌ عن الجهة والمكان» ومقصودهم بذلك: أنّهُ ليسَ فوق السموات ربٌّ؛ ولا على العرشِ إلهٌ يُصلَّى له ويُسجَدُ، وأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم لم يُعرَج بهِ إليه. يفترون على الله الكذب: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} [النحل: 116]. {وقد خاب من افترى} [طه: 61]. فشهادةُ الرَّبِّ تعالى (¬1): تكذِّبُ هؤلاءِ أشدَّ التَّكْذيبِ، وتتضمَّنُ أنَّ الذي شهدَ بهِ قدْ بَيَّنهُ وأوْضحهُ وأظهرهُ، حتَّى جعلهُ في أعلى مراتبِ الظُّهورِ والبيانِ، وأنَّه لو كانَ الحقُّ فيما يقولهُ المعطِّلةُ والجهميَّةُ - الذينَ يقولونَ: ليسَ فوقَ السَّمواتِ رَبٌّ يُعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ يُصَلَّى له ويُسْجَدُ - لمْ يَكُنِ العبادُ قد انتفعوا بما شهدَ بهِ سبحانه وتعالى؛ فإنَّ الحقَّ في نفسِ الأمْرِ - عندهم - لمْ يَشْهَدْ بهِ لنفسهِ، والذي شهدَ بهِ لنفسهِ، وأظْهرهُ وأوضحهُ: فليسَ بحقٍّ، ولا يجوزُ أنْ يُسْتفادَ منهُ الحقُّ واليقينُ. ¬

_ (¬1) اعلَمْ - بارك الله فيك - بأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى: أعظمُ شيءٍ شهادةً، كما قال سبحانه وتعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله} [الأنعام: 19]، فإن شهادتَه سبحانه وتعالى لا غلطَ فيها ولا ظلمَ، تعالى اللهُ عزَّ وجلَّ عن ذلك.

ولقد وفَّقني اللهُ تعالى للكتابةِ في صفةٍ عظيمةٍ منْ صفاتِ ربِّ العالمينَ تباركَ وتعالى، ألاَ وهيَ «العُلُوُّ والفَوْقِيَّةُ» ليزدادَ الذينَ آمنوا إيمانًا، وليعلمَ الذينَ عَقَدُوا ألويةَ البدعِ وأطلقوا عقالَ الفتنةِ أَنَّهم ليسوا على شيءٍ في هذا البابِ. «فَهُمْ مختلفونَ في الكتابِ (¬1)، مُخالِفونَ للكتابِ (¬2)، مُجمِعونَ على مفارقةِ الكتابِ، يقولونُ على اللهِ، وفي اللهِ، وفي كتابِ اللهِ بغيرِ علمٍ، يَتكلَّمونَ بالمُتَشَابَهِ مِنَ الكلامِ، ويَخْدَعونَ جُهَّالَ النَّاسِ بما يُشَبِّهونَ عليهم. فنعوذُ باللهِ مِنْ فتنِ الضَّالِّينَ» (¬3). أسألُ اللهَ تعالى «أنْ يوفِّقَنا لما يُرضيهِ مِنَ القولِ والعملِ والنِّيةِ، وأَنْ يُحْيِيَنَا على الطريقةِ التي يرضاها، ويَتَوفَّانا عليها، وأنْ يُلْحِقَنا بنبيِّهِ وخيرتهِ مِنْ خلقهِ محمَّدٍ المصطفى وآلهِ وصحْبهِ، ويجْمعَنا معهم في دارِ كرامتهِ، إنَّهُ سميعٌ قريبٌ مجيبٌ» (¬4). الراجي عفو ربِّه عبد الهادي بن حسن وهبي (¬5) * * * ¬

_ (¬1) وهذا يتضمنُ الاختلافَ المذمومَ المذكورَ في قوله تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: 176]. (¬2) فهذا إشارةٌ إلى تقديمِ غيرِ الكتابِ على الكتابِ، كتقديم معقولهم وأذواقهم وآرائهم ونحو ذلك على الكتاب، فإنَّ هذا اتفاقٌ منهم على مخالفة الكتاب. ومتى تركوا الاعتصام بالكتاب والسنَّة، فلا بُدَّ أن يختلفوا، فإنَّ النَّاسَ لا يفصل بينهم إلَّا كتاب منزَّلٌ من السماء. (¬3) درء تعارض العقل والنقل (5/ 282 - 284). (¬4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص223 - 224)، للحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله. (¬5) بيروت - لبنان - ص. ب 6093/ 13 شوران. هاتف: 626787/ 03 - فاكس: 791051/ 01.

أدلة علو الله على العرش

أَدِلَّةُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى العَرْشِ اعلمْ - وفَّقنا اللهُ وإيَّاكَ لما يُرضيهِ منَ القولِ والنِّيةِ والعملِ، وأعاذنا وإيَّاكَ منَ الزَّيغِ والزَّللِ - أنَّ صالحَ السَّلفِ، وخيارَ الخلفِ، وسادةَ الأئمَّةِ، وعلماءَ الأمَّةِ، اتفقَتْ أقوالُهمْ، وتَطابقَتْ آراؤهُمْ عَلَى أنَّ اللهَ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، ونعوتِ الجلالِ، التي جاءَ بِهَا الكتابُ والسنَّةُ؛ يُثبتونَ للهِ مَا أثبتهُ لنفسهِ المقدَّسةِ، وما وصفهُ بِهِ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم، مِنْ غيرِ تَمثيلٍ، وَلاَ تَعطيلٍ، ومِنْ غيرِ تَكييفٍ، وَلاَ تَشبيهٍ؛ ولا يَبتدِعونَ للهِ وصفًا لم يَرِدْ بِهِ كتابٌ وَلاَ سُنَّةٌ. فإنَّ اللهَ تَعَالَى: أعظمُ، وأَجَلُّ، وأكبرُ، وأعلى، وأكملُ فِي صدورِ أوليائهِ المؤمنينَ، منْ أنْ يَتجاسَرُوا عَلَى وصفهِ، ونعتهِ، بمجرَّدِ عقولهمْ وآرائهمْ، وخيالاتِ أوهامهم. فَهُمْ كما يقولُ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَكَلاَمُ رَبِّ العَالَمِينَ وَعَبْدِه ... فِي قَلْبهِ أعْلى وَأَكْبَرُ شَانِ مِنْ أنْ يُحَرَّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَأَنْ ... يُقْضَى لَهُ بِالعَزْلِ عَنْ إيقَانِ (¬1) فآمَنُوا بما قالَ اللهُ سبحانهُ في كتابهِ، وصحَّ عنْ نبيِّهِ، وأمَرُّوهُ كما وَرَدَ منْ غيرِ تعرُّضٍ لكيفيَّةٍ، أو اعتقادِ شبهةٍ أو مِثْلِيَّةٍ، أو تأويلٍ يؤدِّي إلى تعطيلٍ (¬2)، ووَسِعَتْهُمُ السنَّةُ المحمَّديةُ، والطريقةُ المرضيَّةُ، ولم يَتعدَّوها إلى البدعةِ المُرْدِيَةِ الرَّدِيَّة، فحازُوا بذلكَ الرُّتبةَ السَّنِيَّةَ، والمنزلةَ العَلِيَّةَ (¬3). ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص181 - 182). (¬2) الاقتصاد في الاعتقاد (ص78 - 82). (¬3) الاقتصاد في الاعتقاد (ص80).

التصريح بالفوقية مقرونا بأداة «من» المعينة للفوقية بالذات

ومِنَ الصِّفاتِ العظيمةِ الثابتةِ فِي الكتابِ والسنَّةِ: «صفةُ العلوِّ والفوقيَّة»، والأدلَّةُ على إثباتها كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ، هذا أوانُ سَرْدِهَا فَألْقِ سَمْعَكَ، وَأحْضِرْ قلبَكَ، وتأمَّلْهَا تأمُّلَ طالبٍ للحقِّ لا نافرٍ عنهُ، وكنُْ مِنَ الذينَ يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَهُ، وإيَّاكَ وسوءَ الظنِّ بكلامِ اللهِ وكلامِ رسولهِ فذلكَ الهَلَكَةُ، وما ضلَّ مَنْ ضلَّ، وهلكَ منْ هلكَ، إلَّا لسوءِ ظنِّهِ بالكتابِ والسنَّةِ. واللهُ المستعانُ وعليهِ التُّكلانُ، ولاَ حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ (¬1). أحدُها: التَّصريحُ بالفوقيَّةِ مقرونًا بأداة «مِنْ» المعيِّنةِ للفوقيَّةِ بالذَّاتِ. قال اللهُ سبحانه وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. قالَ ابنُ خزيمةَ رحمه الله: فأعْلمَنا الجليلُ جلَّ وعلا في هذهِ الآيةِ أنَّ ربَّنا فوقَ ملائكتهِ، وفوقَ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ مِنْ دَابَّةٍ، وأَعْلَمَنا أنَّ ملائكتَهُ يخافونَ ربَّهم الذي فوقهم (¬2). الثاني: ذِكْرُها مُجَرَّدَةً عَنِ الأداةِ. قال اللهُ سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]. وعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال: لمَّا حكمَ سعدُ بنُ معاذٍ في بني قُرَيْظَةَ أنْ يُقتلَ منْ جَرَتْ عليهِ المُوسُ، وأنْ تُقْسَمَ أموالُهم وذَراريهِم، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لقدْ حَكَمَ فيهمُ اليومَ بحُكْمِ اللهِ الذي حَكمَ بهِ مِنْ فوقِ سبعِ سماواتٍ» (¬3). ¬

_ (¬1) معارج القبول (1/ 306). (¬2) التوحيد (ص111) لابن خزيمة. (¬3) رواه النسائي في «السنن الكبرى» (5/ 62 - 63) (8223) وغيره، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2745).

التصريح بالعروج إليه سبحانه وتعالى

الثالثُ: التَّصريحُ بالعروجِ إليهِ سبحانه وتعالى. قالَ الله سبحانه وتعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقالَ عزَّ وجلَّ: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:3 - 4]. قالَ مجاهدٌ رحمه الله: يقالُ: ذي المعارجِ: الملائكةُ تعرجُ إلى الله (¬1). وقالَ الطبريُّ رحمه الله: يقولُ تعالى ذكرهُ: تصعدُ الملائكةُ والرُّوحُ - وهوَ جبريلُ عليه السلام - إليهِ يعني: إلى الله جلَّ وعزَّ، والهاءُ في قولهِ «إليهِ» عائدةٌ على اسمِ اللهِ (¬2). وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ وَصَلاَةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِم - فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» (¬3). قالَ ابنُ خزيمةَ رحمه الله: وفي الخبرِ ما بانَ وثبتَ وصحَّ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ في السَّماءِ، وأنَّ الملائكةَ تصعدُ إليهِ مِنَ الدُّنيا، لاَ كمَا زعمتِ الجَهْمِيَّةُ (¬4) المُعَطِّلَةُ (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (13/ 426) تعليقًا مجزومًا به. (¬2) جامع البيان (م14/ج29/ص87). (¬3) رواه البخاري (555) و (3223) و (7429) و (7486)، ومسلم (632). (¬4) قال الحافظُ الذهبيُّ في «تاريخ الاسلام» (ص68)، حوادث ووفيات 121هـ 140هـ: «كان الناسُ في عافيةٍ وسلامةِ فطرةٍ حتى نَبغَ جهمٌ فتكلَّمَ في الباري تعالى وفي صفاته بخلافِ ما أَتَتْ به الرسلُ، وأُنزلت به الكتبُ، نسألُ اللهَ السلامةَ في الدِّينِ». (¬5) التوحيد (ص381) لابن خزيمة.

التصريح بالصعود إليه سبحانه وتعالى

الرابعُ: التَّصْرِيحُ بالصُّعودِ إليهِ سبحانه وتعالى. قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. قالَ الطبريُّ رحمه الله: «يقولُ تعالى ذِكْرُهُ: إلى اللهِ يَصْعَدُ ذِكْرُ العبدِ إيَّاهُ وثناؤهُ عليهِ» (¬1). وقالَ صدِّيق حسن خان رحمه الله - في الآيةِ -: وفيهِ دليلٌ على علوِّهِ تعالى فوقَ الخلقِ وكونِه بائنًا عنهُ بذاتهِ الكريمةِ، كما تدلُّ لهُ الآياتُ الأخرى الصَّريحةُ والأحاديثُ المستفيضةُ الصَّحيحةُ (¬2). وقال ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: وإلَيْهِ يَصْعَدُ كُلُّ قَولٍ طَيِّبٍ ... وإلَيهِ يُرْفَعُ سَعْيُ ذِي الشُّكْرَانِ (¬3) وتَأَمَّلِ الأحاديثَ التاليةَ: 1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (¬4). فلِلَّهِ ما أَحْلَى هذا اللَّفْظَ وأوجزَهُ وأَدَلَّهُ على علوِّ اللهِ سبحانه وتعالى. 2 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا بَعْدَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَقَالَ: «إِنَّهَا سَاعَةٌ تُفْتَحُ فِيهَا أَبوَابُ السَّمَاءِ، وَأُحِبُّ أَنْ يَصْعَدَ لِي فِيهَا عَمَلٌ صَالِحٌ» (¬5). ¬

_ (¬1) جامع البيان (م12/ج22/ص144). (¬2) فتح البيان (11/ 227). (¬3) الكافية الشافية (ص54). (¬4) أخرجه البخاري (7430)، ومسلم (1014). (¬5) رواه الترمذي (478)، وصححه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (396).

3 - عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ، مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» (¬1). 4 - عَنْ رِفَاعَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَطَسْتُ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى. فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ فَقَالَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلاَةِ؟» فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلاَةِ؟» فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ ثمَّ قَالَهَا الثَّالِثَةَ: «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصَّلاَةِ؟» فَقَالَ رِفاعَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «كيْفَ قُلْتَ؟» قَالَ: قُلْتُ: الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَقَد ابْتَدَرَهَا بِضْعَةٌ وَثَلاَثُونَ مَلَكًا أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه النسائي (2357)، وحسنه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (2221). (¬2) رواه أبو داود (770)، وصححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (700).

5 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: « ... واتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» (¬1). 6 - عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ (¬2)، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (¬3). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَحِجَابُهُ نُورٌ فَلَوْ كُشِفَ الحِجَا ... بُ لأحْرَقَ السُّبُحَاتُ للأكْوَانِ (¬4) فإذا كانتْ سُبُحَاتُ وجْههِ الأعْلى لا يقومُ لها شيءٌ منْ خلقهِ، ولو كشفَ حجابُ النُّورِ تلكَ السُّبحات، لاحْترقَ العالمُ العلويُّ والسفْليُّ، فمَا الظنُّ بجلالِ ذلكَ الوجهِ الكريمِ وعظمتهِ وكبريائهِ وكمالهِ وجلالهِ؟! (¬5). ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه البخاري (1496) و (2448)، ومسلم (19). (¬2) عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: هل رأيتَ ربَّكَ؟ قال: «رَأَيْتُ نُورًا». وفي رواية: «نُورٌ أَنَّى أَراهُ» رواه مسلم (179). قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في «شرح الطحاوية» (1/ 224): فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر: «رأيت نورًا» أنَّه رأى الحجاب، ومعنى قوله: «نُورٌ أَنَّى أَراهُ»: النور هو الحجابُ يمنعُ من رؤيته، فأَنّى أراه: أي: فكيفَ أراه والنورُ حجابٌ بيني وبينه يمنعُني من رؤيته! (¬3) أخرجه مسلم (293). (¬4) الكافية الشافية (ص249). (¬5) الصواعق (ص1083).

7 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلاَئِكَةً سَيَّارَةً فُضُلًا يَتَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ حَتَّى يملؤوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا وَصَعدُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عزَّ وجلّ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ -: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ. قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لاَ، أَيْ رَبِّ! قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ. قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ: فَكَيْفَ لوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ. فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلاَنٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» (¬1). هذا حديثٌ صحيحٌ جليلُ القدْرِ وكثيرُ الفائدةِ، وهوَ حسنُ الألفاظِ لطيفُ المعاني، و «فيهِ إثباتُ جهةِ العلوِّ والفوقِ، للهِ تعالى» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2689). (¬2) السراج الوهاج (10/ 567).

التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه سبحانه وتعالى

8 - عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مكثَ المنيُّ في الرَّحِمِ أربعينَ ليلةً، أتاهُ مَلَكُ النُّفوسِ، فعَرَجَ بهِ إلى الرَّبِّ في رَاحتهِ، فيقولُ: أَيْ ربِّ! عبدُكَ هذا ذكرٌ أم أنثى؟ فيقضي اللهُ إليه ما هو قاضٍ، ثمَّ يقول: أَيْ ربِّ! أشقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيكتبُ بين عينَيْهِ ما هُوَ لاقٍ» وتلا أبو ذرٍّ منْ فاتحةِ التغابنِ خمسَ آياتٍ (¬1). الخامسُ: التَّصْرِيحُ برفعهِ بعضَ المخلوقاتِ إليهِ سبحانه وتعالى. قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقالَ عزَّ وجلَّ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. السادسُ: التَّصْرِيحُ بالعلوِّ المطلقِ الدَّالِّ على جميعِ مراتبِ العلوِّ، ذاتًا وقَدْرًا وقَهْرًا. قالَ سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ *} [الرعد: 9]. {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]. قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله: تعالى: الذي هوَ دالٌّ على كمالِ العلوِّ ونهايتِهِ (¬2). وفسَّرَ الطبريُّ (العليَّ): بالعلوِّ والارتفاعِ (¬3). وقالَ ابنُ خُزيمةَ رحمه الله: الأعلى: مفهومٌ في اللُّغةِ أنَّهُ أعلى كلِّ شيءٍ، وفوقَ كلِّ شيءٍ. والله قدْ وصفَ نفسهُ في غيرِ موضعٍ منْ تنزيلهِ، وأَعْلَمَنا أنَّهُ العليُّ العظيمُ. أفليسَ العليُّ - يا ذوي الحِجَى - ما يكونُ عاليًا؟! (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الدّارميُّ في «الرد على الجهمية» (94)، وابن جرير (26489) بسند صحيح. (¬2) بدائع الفوائد (2/ 411) [مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى]. (¬3) جامع البيان (م3/ج2/ص19) و (م13/ج25/ص59). (¬4) التوحيد (ص112).

التصريح بتنزيل الكتاب منه سبحانه وتعالى

قال ابنُ القيِّم رحمه الله: ولهُ العلوُّ من الوجوهِ جميعِها ... ذاتًا وقهرًا مع عُلوِّ الشَّانِ لكنْ نُفَاةُ عُلُوِّهِ سَلَبُوهُ إكـ ... ـمالَ العلوِّ فصارَ ذا نُقْصَانِ حَاشَاهُ من إفكِ النُّفَاةِ وسَلْبِهِم ... فلَهُ الكمالُ المطلقُ الرَّبَّاني (¬1) فعلوُّ الذَّاتِ: هو أنَّه مستوٍ على عرشهِ، فوقَ جميعِ خلقهِ، مباينٌ لهم، وهوَ معَ هذا مطَّلِعٌ على أحوالِهم، مُشَاهِدٌ لهم، مُدَبِّرٌ لأمورهم الظَّاهرةِ والباطنةِ، مُتَكَلِّمٌ بأحكامهِ القدريَّةِ وتدبيراتهِ الكونيَّةِ وبأحكامهِ الشَّرْعيَّةِ. وأمَّا علوُّ القَدْرِ: فهو أنَّ صفاتَهُ كلَّها صفاتُ كمالٍ، ولهُ منْ كلِّ وصفٍ ونعتٍ أكملُهُ وغايتُهُ. وأمَّا علوُّ القَهْرِ: فهوَ قهرهُ تعالى لجميعِ المخلوقاتِ، فالعالمُ العلويُّ والسُّفليُّ كلُّهم خاضعونَ لعظمتهِ مفتقرونَ إليهِ في كلِّ شؤونهم (¬2). السابعُ: التَّصريحُ بتنزيلِ الكتابِ منهُ سبحانه وتعالى. قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ *} [الزمر: 1]. {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} [فصلت: 2]. {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [السجدة: 2]. {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]. {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ *} [غافر: 2]. {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الواقعة: 80]. {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]. وأفادَ كونهُ تنزيلًا مِنْ ربِّ العالمينَ مطلوبَينِ عظيمينِ مِنْ أَجَلِّ مطالبِ الدِّينِ: ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص104). (¬2) توضيح الكافية الشافية (ص180 - 181)، طبعة أضواء السلف.

التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض

(أحدُهما): أنَّهُ المتكلِّمُ، وأنَّهُ منهُ نزلَ، ومنهُ بدأ وَهُوَ الَّذِي تكلَّم بِهِ. (والثاني): علوُّ اللهِ سبْحَانَهُ فَوْقَ خلقهِ، فإنَّ النزولَ والتنزيلَ الذِي تعقلهُ العقولُ، وتعرفهُ الفِطَرُ: هُوَ وصولُ الشيءِ مِنْ أعلى إِلَى أسفلَ. والرَّبُّ تَعَالَى إنَّما يخاطِبُ عبادَهُ بِمَا تعرِفُهُ فِطَرُهُم، وتَشْهَدُ بِهِ عقولُهم. قال ابنُ القيِّم رحمه الله: واللهُ أخبرَنَا بأنَّ كتابَهُ ... تنزيلُه بالحقِّ والبُرهَانِ أيكونُ تنزيلًا وليسَ كلامَ مَنْ ... فوقَ العبادِ أذاكَ ذو إمْكَانِ أيكونُ تنزيلًا من الرَّحمنِ والرَّ ... حمنُ لَيسَ مباينَ الأَكوَانِ (¬1) الثامنُ: التَّصْرِيحُ باختصاصِ بعضِ المخلوقاتِ بأنَّهَا عندهُ، وأنَّ بعضَها أقربُ إليهِ منْ بعضٍ. قال سبحانه وتعالى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ *} [الأنبياء: 19]. {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ *} [القمر: 54 - 55]. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 21]. {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ *} [الأعراف: 206]. ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص109 - 110).

فدلَّتْ هذهِ الآيةُ على أنَّ الذينَ عندهُ همْ قريبونَ إليهِ و «لو كانَ موجبُ العنديةِ معنًى عامًا، كدخولهمْ تحتَ قدرتهِ ومشيئتهِ وأمثالِ ذلكَ: لكانَ كلُّ مخلوقٍ عندهُ؛ ولم يكنْ أحدٌ مستكبرًا عنْ عبادتهِ، بلْ مسبِّحًا لهُ ساجدًا، وقدْ قالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] وهوَ سبحانهُ وصفَ الملائكةَ بذلكَ ردًّا على الكفَّارِ المستكبرينَ عنْ عبادتهِ» (¬1). قال ابنُ القيِّم رحمه الله: لَوْ لَمْ يَكُنْ سُبْحَانَه فَوقَ الوَرَى ... كَانُوا جَمِيعًا عِنْدَ ذِي السُّلْطَانِ وَيَكُونُ عِنْدَ اللهِ إبْليسُ وَجِبـ ... ـرِيلُ هُمَا في العِنْد مُسْتَوِيَانِ (¬2) وقالَ تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران: 169]. قَالَ مَسْرُوقٌ رحمه الله: سَأَلْنَا عَبْدَ اللهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران: 169]. قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ - يَعْنِي: النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم -: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُم اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟» (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 165 - 166). (¬2) الكافية الشافية (ص112). (¬3) رواه مسلم (1887).

وقالَ ابنُ خُزيمةَ رحمه الله: فكلُّ منْ لهُ فهمٌ بلغةِ العربِ، يعلمُ أنَّ اطِّلاعَهُ إلى الشَّيءِ لا يكونُ إلَّا مِنْ أعلى إلى أسفلَ. ولو كانَ كما زعمَتِ الجهميَّةُ أنَّ اللهَ مَعَ الإنسانِ وأسفلُ منهُ، وفي الأرضِ السابعةِ السفلى كما هوَ في السَّماءِ السَّابعةِ، لمْ يكنْ لقولهِ: «فَيَطَّلِعُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلاعَةً» معنًى (¬1). وَتَدبَّرِ الأحاديثَ التاليةَ: 1 - عَنْ جَابِرِ بنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَلاَ تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟»، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأولَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» (¬2). 2 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللهَ عزَّ وجلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» (¬3). 3 - عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزولُ قَدَمُ ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ مِنْ عِنْدِ ربِّهِ حتَّى يُسألَ عنْ خمسٍ: عنْ عُمُرهِ فيمَ أفناهُ، وعنْ شبابهِ فِيمَ أبلاهُ، ومالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفِيمَ أَنْفَقَهُ، وماذا عَمِلَ فِيما عَلِمَ» (¬4). ¬

_ (¬1) التوحيد (ص381). (¬2) رواه مسلم (430). (¬3) رواه مسلم (2700). (¬4) رواه الترمذي (2416)، وحسنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (1969).

4 - عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ الله، إنِّي رأيتُني الليلةَ وأنا نائمٌ، كأنِّي أصلِّي خلفَ شجرةٍ، فسجَدَتُ فسجدتِ الشجرةُ لسجودي، فسمعتُها وهي تقولُ: «اللَّهمَّ اكتُبْ لي بها عندكَ أجْرًا، وضَعْ عنِّي بها وِزْرًا، واجْعَلْها لي عندكَ ذُخْرًا، وتَقَبَّلْها منِّي كما تَقَبَّلْتَها منْ عبدِكَ داودَ» (¬1). 5 - عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «كانَ رَجُلاَنِ في بني إسرائيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فكانَ أحدُهمَا يُذْنِبُ، والآخرُ مجتهد في العبادةِ، فكانَ لا يزالُ المجتهدُ يرى الآخَرَ على الذَّنْبِ فيقولُ: أَقْصِر. فوجَدَهُ يومًا على ذنبٍ فقالَ لهُ: أَقْصِرْ. فقالَ خَلِّني ورَبِّي أَبُعِثْتَ عليَّ رقيبًا؟ فقالَ: واللهِ! لا يغفرُ اللهُ لكَ - أو لا يُدْخِلُكَ اللهُ الجنَّةَ! - فقبضَ أرواحَهُما، فاجْتَمَعا عندَ رَبِّ العالمينَ، فقالَ لهذا المجتهدِ: أَكنتَ بي عالِمًا، أو كنتَ عَلَى ما فِي يَدَيَّ قادرًا؟ وقالَ للمُذنبِ: اذْهَبْ فادخُلِ الجنَّةَ بِرحمتي، وقالَ للآخَرِ: اذْهَبُوا بهِ إلى النَّارِ». قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لتكلَّم بكلمة أَوْبَقَتْ دنياه وآخرتَه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (584)، وحسّنه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (473). (¬2) رواهُ أبو داود (4901)، وصححهُ المحدث الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (4097).

6 - عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ جَلاَلِ اللهِ مِمَّا تَذْكُرُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ لَيَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرنَّ بِصَاحِبِهَنَّ. أَفلاَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِندَ اللهِ مَنْ يُذَكِّرُ بِهِ؟!» (¬1). فانظرْ ما تضمَّنه هذا الكلامُ الوجيزُ البليغُ المشتملُ على هذا المعنى العظيمِ الجليلِ الذي لا يجدُ سامعُهُ مَغْمَزًا لهُ ولا مَطْعَنًا فيهِ ولا تَشْكِيكًا ولا سُؤالًا يوردهُ عليهِ، بلْ يأخذُ بقلبهِ وسمعهِ (¬2). 7 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» (¬3). قالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: فالخبرُ دالٌّ على أنَّ ربَّنا جلَّ وعلا فوقَ عرشهِ الذي كتابهُ - أنَّ رحمتهُ غلبتْ غضبهُ - عندهُ (¬4). وقالَ صدِّيق حسن خان رحمه الله: وهذا يَدُلُّ على العِنْدِيَّةِ والعلوِّ والفَوْقِيَّةِ. ونحنُ نُؤْمنُ بهِ، بلا كيفٍ ولا تمثيلٍ، ولا نُنْكِرُه، ولا نُؤَوِّلُهُ كأهلِ الكلامِ. وهذا هوَ سبيلُ السَّلفِ في مسائلِ الصِّفاتِ. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (3809)، والحاكم (1/ 503) وصححه على شرط مسلم. ووافقه الذهبيُّ. وصححه المحدِّث الألباني رحمه الله في «صحيح سنن ابن ماجه» (3071). (¬2) الصواعق (ص483). (¬3) أخرجه البخاري (3194) و (7404) و (7422) و (7453) و (7553) و (7554)، ومسلم (2751). (¬4) التوحيد (ص105).

والحديثُ: دليلٌ على سبقِ الرحمةِ وغلبتهَا على الغضبِ والسُّخطِ. وهذا هو اللائقُ بشأنِ أرحمِ الراحمينَ. ولولا ذلكَ لكنَّا جميعًا خاسرينَ هالكينَ. نعوذُ بالله منْ غضبِ الله ونتوبُ إليهِ منْ سخطهِ. ونرجو رحمتَه وكَرَمَه وفضلَهُ ولُطْفَهُ. وما أحقَّهُ بذلكَ (¬1). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَاذْكُرْ حَدِيثًا فِي الصَّحِيحِ تَضَمَّنَتْ ... كَلِمَاتُهُ تَكْذِيبَ ذِي البُهْتَانِ لَمَّا قَضَى الله الخَلِيقَةَ ربُّنَا ... كَتَبتْ يَدَاهُ كِتَابَ ذِي الإِحْسَانِ وَكِتَابُهُ هُوَ عِنْدَهُ وَضْعٌ عَلى الـ ... ـعَرْشِ المجِيدِ الثَّابِتِ الأرْكَانِ إنِّي أنَا الرَّحمنُ تَسْبِقُ رَحْمَتِي ... غَضَبِي وَذَاكَ لرأفتِي وَحَنَانِي (¬2). قالَ الشيخُ الغنيمانُ حفظهُ الرحمنُ: والحقُّ أنَّ قولَهُ: «عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ» على ظاهرهِ، وأنَّ كلَّ تأويلٍ لهُ عنْ ظاهرهِ، تبديلٌ للمعنى الذي أرادهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ونحنُ نؤمنُ إيمانًا يقينًا قاطعًا وكلُّ المؤمنينَ أنَّ الرسولَ أحرصُ على عقيدةِ المسلمينَ، وعلى تنزيهِ الله - تعالى - منْ هؤلاءِ المحرِّفينَ لكلامهِ. وهوَ كذلكَ أقدرُ على البيانِ والإيضاحِ منهم، وهوَ كذلكَ أعلمُ بالله، وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منْ هؤلاءِ المُتَخَبِّطِينَ. فهذا كتابٌ خاصٌّ، وضعَهُ عندهُ فوقَ عرشهِ، مُثبتًا فيهِ ما ذكرَ، لزيادةِ الاهتمامِ به، ولا ينافي ذلكَ أنْ يكونَ مكتوبًا أيضًا فى اللَّوحِ المحفوظِ. وهوَ كتابٌ حقيقةً، كتبهُ - تعالى - كما ذكرَ لنَا رسولُنا حقيقةً، وهو عندَ الله حقيقةً، فوقَ عرشِهِ حقيقةً (¬3). ¬

_ (¬1) السراج الوهاج (11/ 62 - 63). (¬2) الكافية الشافية (ص142). (¬3) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري (1/ 391).

التصريح بأنه تعالى في السماء

التَّاسِعُ: التَّصريحُ بأنَّهُ تعالى في السَّماءِ. قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16 - 17]. والمرادُ بقولهِ عزَّ وجلَّ: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]: اللهُ عزَّ وجلَّ (¬1)، لقولهِ سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء: 68]، ولقولهِ عزَّ وجلَّ: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ *} [النحل: 45]. قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَلَقَدْ أتَى فِي سُورَةِ المُلْكِ التِي ... تُنْجِي لِقَارِئِهَا مِنَ النِّيرَانِ نَصَّانِ أنَّ الله فَوْقَ سَمَائِهِ ... عِنْدَ المُحرِّفِ مَا هُمَا نَصَّانِ (¬2) وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: وقولهُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *} [الملك: 16]، منْ تَوَهَّم أنَّ مقتضى هذهِ الآيةِ أنْ يكونَ اللهُ في داخلِ السَّمواتِ فهو جاهلٌ بالاتِّفاقِ، وإنْ كنَّا إذا قلنَا: إنَّ الشَّمسَ والقمرَ في السَّماءِ يقتضي ذلكَ، فإنَّ حرفَ «في» متعلِّقٌ بما قبلهُ وما بعدهُ فهو بحسبِ المضافِ والمضافِ إليهِ. فلو قالَ قائلٌ: العرشُ في السَّماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقيلَ: في السَّماءِ. ولو قيلَ: الجنَّةُ في السَّماءِ أمْ في الأرضِ؟ لقيلِ: الجنَّةُ في السَّماءِ، ولا يلزمُ منْ ذلكَ أنْ يكونَ العرشُ داخلَ السَّمواتِ بلْ ولا الجنَّةِ. ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الطبري (29/ 7)، طبعة دار الفكر - بيروت. (¬2) الكافية الشافية (ص140).

فهذهِ الجنَّةُ سَقْفُها الذي هوَ العرشُ فوقَ الأفلاكِ مع أنَّ الجنَّةَ في السَّماءِ، والسَّماءُ يُرادُ بهِ العُلُوُّ. ولمَّا كانَ قَدِ استقرَّ في نفوسِ المُخاطَبينَ أنَّ اللهَ هوَ العليُّ الأعلى وأنَّهُ فوقَ كلِّ شيءٍ كانَ المفهومُ منْ قولهِ: «مَنْ فِي السَّماءِ»، أنَّهُ في العُلُوِّ وأنَّهُ فوقَ كُلِّ شيءٍ. وإذا قيلَ: «العلوُّ» فإنَّهُ يتناولُ ما فوقَ المخلوقاتِ كلِّهَا، فمَا فوقهَا كلِّهَا هو في السَّماءِ، ولا يقتضي هذا أنْ يكونَ هناكَ ظرفٌ وجوديٌّ يحيطُ بهِ، إذْ ليسَ فوقَ العالَمِ شيءٌ موجودٌ إلَّا اللهُ، كمَا لو قيلَ: إنَّ العرشَ في السَّماء فإنَّهُ لا يقتضي أنْ يكونَ العرشُ في شيءٍ آخرَ موجودٍ مخلوقٍ. وإذا قُدِّرَ أنَّ السَّماءَ المرادُ بها الأفلاكُ، كانَ المرادُ أنَّهُ عليهَا كما قالَ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وقالَ: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 137] {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]. ويقالُ: فلانٌ في الجبلِ وفي السَّطحِ، وإنْ كانَ على أعلى شيءٍ فيهِ (¬1). قال الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: وكونهُ - عزَّ وجلَّ - في السماءِ متواترٌ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تواترًا لفظيًا، فَمِنْ ذلكَ (¬2): ¬

_ (¬1) الرسالة التدمرية (ص85 - 89)، تحقيق محمد بن عودة السعوي. (¬2) الأربعين في صفات ربِّ العالمين (ص53 - 54) للذهبي، طبعة مكتبة العلوم والحكم - المدينة النبوية - الأولى.

1 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ. فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلاَ أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا». فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤمِنَةٌ» (¬1). قالَ الشيخُ الهرَّاسُ رحمه الله: هذا حديثٌ يَتَأَلَّقُ نَصَاعَةً ووضوحًا وهو صاعقةٌ على رؤوسِ أهلِ التَّعطيلِ. فهذا رجلٌ أخطأ في حقِّ جاريتهِ بضربها فأرادَ أنْ يكفِّرَ عنْ خطيئتهِ بعتقهَا، فاستمهلهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم حتَّى يمتحنَ إيمانَها، فكانَ السؤالُ الذي اختارهُ لهذا الامتحانِ هوَ (أينَ الله؟) ولمَّا أجابتْ بأنَّهُ في السَّماءِ، رضيَ جوابَها وشهدَ لها بالإيمانِ، ولوْ أنَّكَ قلتَ لمعطِّلٍ: أينَ الله؟ لحكمَ عليكَ بالكفرانِ (¬2). ويُستفادُ منْ حديثِ الجاريةِ ما يلي: أولًا: شَرعيَّةُ قولِ المسلمِ: أينَ الله؟ (¬3). ومَنْ أجهلُ جهلًا، وأَسْخَفُ عقلًا، وأَضَلُّ سبيلًا، ممَّن يقولُ: إنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُقالَ: أينَ الله!! بعدَ تصريحِ صاحبِ الشَّريعةِ بقولهِ: «أينَ اللهُ؟!» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (537). (¬2) تعليقات الشيخ الهراس على كتاب «التوحيد» لابن خزيمة، (ص121 - 122). (¬3) العلو (1/ 332) للحافظ الذهبي، تحقيق: الشيخ عبد الله بن صالح البراك. (¬4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص89)، للحافظ: تقي الدين عبد الغني المقدسي.

ثانيًا: شَرعيَّةُ قولِ المسؤولِ: في السَّماءِ. فأقَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجاريةَ على ذلكَ، فلو كانَ لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ الله في السَّمَاء، لبيَّنَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لأنَّهُ لا يجوزُ لهُ الإقرارُ على الخطأ، لا سيَّما وكانَ ذلكَ بحضورِ جماعةٍ مِنَ النَّاسِ (¬1). قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنَزَّهٌ أنْ يَسألَ سؤالًا فاسدًا، وسمعَ الجوابَ عنْ ذلكَ، وهوَ مُنَزَّهٌ أنْ يُقِرَّ على جوابٍ فاسدٍ (¬2). ثالثًا: وفيهِ دليلٌ على أنَّ مَنْ لمْ يَعْلَمْ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ في السَّماءِ فليسَ بمؤمنٍ. ألا ترى أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حكمَ بإيمانِ الجاريةِ لمَّا أقرَّتْ بأنَّ ربَّهَا في السَّمَاء، وَعَرفَتْ ربَّهَا بصفةِ العلوِّ والفوقيَّةِ (¬3). رابعًا: وفيهِ دليلٌ على أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ على عرشهِ فوقَ السَّماءِ (¬4). ¬

_ (¬1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدريّة الأشرار (2/ 624)، للعلاّمة: يحيى بن أبي الخير العمراني. (¬2) درء تعارض العقل والنقل (3/ 315). (¬3) انظر: الرد على الجهمية (ص39)، للدارمي. (¬4) انظر: الإبانة (ص76)، وعقيدة السلف أصحاب الحديث (ص30)، والحجة في بيان المحجة (2/ 115).

وقالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رحمه الله - في معنى حديثِ الجاريةِ -: وأمَّا قولهُ في هذا الحديثِ للجاريةِ: «أينَ الله؟»، فعلى ذلكَ جماعةُ أهلِ السنَّةِ، وهمْ أهلُ الحديثِ، ورواتهُ المتفقِّهونَ فيهِ، وسائرُ نقلتهِ، كلُّهم يقولُ مَا قَالَ الله تعالى فِي كتابهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ فِي السَّمَاء وعلمهُ في كلِّ مكانٍ، وهوَ ظاهرُ القرآنِ في قولهِ عزَّ وجلَّ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، وبقولهِ عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقولهِ: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. ومثلُ هذا كثيرٌ في القرآنِ .. وليسَ في الحديثِ معنًى يُشْكِلُ غيرُ ما وصفنَا. ولمْ يَزَلِ المسلمونَ إذا دَهَمَهُم أمرٌ يُقلقهم فَزَعوا إلى ربِّهم، فرفَعُوا أيديَهم وأَوْجُهَهُم نحوَ السَّمَاءِ يدعونَهُ، ومخالفونَا ينسبونَا في ذلكَ إلى التَّشبيهِ، واللهُ المستعانُ. ومَنْ قالَ بما نطقَ بهِ القرآنُ، فلا عيبَ عليهِ عندَ ذوي الألبابِ (¬1). وقالَ شيخُ الاسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: والجاريةُ التي قالَ لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّماءِ. قَالَ: «أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ». وإنَّما أخبرتْ عَنِ الفطرةِ التي فطرهَا الله تعالى عليهَا، وأقرَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلكَ، وشهدَ لها بالإيمانِ. فليتأمَّلِ العاقلُ ذلكَ يَجِدهُ هاديًا لهُ على معرفةِ ربِّهِ، والإقرارِ بهِ كما ينبغي، لا ما أَحْدَثَهُ المتعمِّقونَ والمتشدِّقونَ ممَّنْ سوَّلَ لهمُ الشيطانُ وأمْلَى لهم (¬2). ¬

_ (¬1) الاستذكار (23/ 167 - 168). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 62).

وقالَ رحمه الله: والجاريةُ لمَّا قالَ لهَا: «أَيْنَ اللهُ؟» قالتْ: «فِي السَّمَاءِ»، إنَّما أرادت العُلُوَّ مع عدمِ تَخْصِيصِهِ بالأجسامِ المخلوقةِ وحُلُولِهِ فيهَا (¬1). 2 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ! مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا، فَتَأْبَى عَلَيْهِ، إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا» (¬2). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَاذْكُرْ حَدِيثًا فِي الصَّحِيحِ وفيه تَحْـ ... ـذِيرٌ لِذَاتِ البَعْلِ مِنْ هِجْرَانِ مِنْ سُخْطِ رَبٍّ في السَّمَاءِ عَلَى التِي ... هَجَرَتْ بِلاَ ذَنْبٍ وَلاَ عُدْوَانِ (¬3) وقالَ العلامةُ ابنُ عُثَيمين رحمه الله: وفي هذا الحديثِ دليلٌ صريحٌ لما ذهبَ إليهِ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ وسلفُ الأمَّةِ منْ أنَّ الله عزَّ وجلَّ في السماءِ هو نفسهُ جلَّ وعلا، فوقَ عرشهِ، فوقَ سبعِ سمواتٍ، وليسَ المرادُ بقولهِ: «في السماءِ» أي ملكهُ في السَّماءِ، بلْ هذا تحريفٌ للكَلِمِ عنْ مواضعهِ. وتحريفُ الكَلِمِ عنْ مواضعهِ منْ صفاتِ اليهودِ والعياذُ بالله، الذينَ حرَّفوا التوراةَ عنْ مواضعهَا وعمَّا أرادَ الله بهَا، فإنَّ مُلْكَ الله سبحانه وتعالى في السماءِ وفي الأرضِ، كما قالَ تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 189] (¬4). 3 - عَنْ أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ! يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً؟!» (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 53). (¬2) رواه مسلم (1436). (¬3) الكافية الشافية (ص145). (¬4) شرح رياض الصالحين (5/ 165). (¬5) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064).

فتأمَّل هذا البرهانَ الباهرَ بهذا اللَّفظِ الوجيزِ البيِّنِ (¬1) الدَّالِّ على عُلُوِّ اللهِ سبحانه وتعالى. 4 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلاَئِكَةُ، فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا، قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ. اخْرُجِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَان. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ، حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَيُفْتَحُ لَهَا فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنٌ. فَيُقَالُ: مَرْحَبًا بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ. ادْخُلِي حَمِيدَةً وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ. فَلاَ يَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يُنْتَهَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي فِيهَا اللهُ عزَّ وجلَّ» (¬2). قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله تعليقًا على هذا الحديثِ: قولُهُ: «فِيهَا اللهُ»، بمنزلةِ قولهِ تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16 - 17]. وبمنزلةِ ما ثبتَ في الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لجاريةِ معاويةَ بنِ الحكمِ: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. ¬

_ (¬1) الصواعق (ص463). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 364)، وابن ماجه (4262) وقال البُوصيري في «زوائد ابن ماجه» (1451): «إسناد صحيح، رجاله ثقات». وصححه المحدِّث الألباني رحمه الله في «صحيح سنن ابن ماجه» (3437).

وليسَ المرادُ بذلكَ: أنَّ السَّمَاءَ تَحْصُرُ الرَّبَّ وتحويهِ، كما تحوي الشَّمسَ والقمرَ وغيرَهُما، فإنَّ هذا لا يقولهُ مسلمٌ، ولا يعتقدهُ عاقلٌ - فقدْ قالَ سبحانه وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، والسَّماواتُ في الكرسيِّ كحَلْقَةٍ مُلقاةٍ في أرضِ فَلاةٍ، والكرسيُّ في العرشِ كحَلْقَةٍ مُلقاةٍ في أرضِ فَلاةٍ، والرَّبُّ سبحانهُ فوقَ سمواتهِ، على عرشهِ، بائنٌ منْ خلقهِ، ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ، ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ - بلْ معنى ذلكَ: أنَّه فوقَ السَّماواتِ، وعليهَا، بائنٌ مِنَ المخلوقاتِ، كمَا أخبرَ في كتابهِ عنْ نفسهِ أنَّهُ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] وقالَ: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. وقالَ تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. وقالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. وأمثالُ ذلكَ في الكتابِ والسنَّةِ (¬1). 5 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» (¬2). فإنَّ المرادَ بقولهِ: «يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»، هو اللهُ سبحانه وتعالى وهوَ أرحمُ الرَّاحمينَ لقولهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ لاَ يَرحمهُ اللهُ عزَّ وجلَّ» (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (4/ 271 - 272). (¬2) رواه الترمذي (1924)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (1569). (¬3) أخرجه البخاري (7376)، ومسلم (2319).

شهادته صلى الله عليه وسلم التي هي أصدق شهادة عند الله وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: «إن ربه في السماء» بالإيمان

فإنْ قالَ قائلٌ: فقدْ جاءَ الحديثُ بلفظِ: «ارحَمُوا أهلَ الأرضِ يرحَمْكُم أهلُ السَّماءِ» (¬1). والجوابُ أنْ يقالَ: الروايةُ الأولى أولى بالصَّوابِ كمَا قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ في «الإمتاعِ» (ص66). وقالَ في معنى الحديثِ: إنَّ مَنْ يرحَمْ مَنْ في الأرضِ قد ... آنَ أنْ يرحمَهُ مَنْ في السَّمَا فارحَمِ الخَلْقَ جميعًا إنَّما ... يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ فينا الرُّحَمَا العاشرُ: شهادَتُهُ صلى الله عليه وسلم التي هيَ أصدقُ شهادةٍ عند اللهِ وملائكتِهِ وجميعِ المؤمنينَ لمنْ قالَ: «إنَّ ربَّهُ في السَّماءِ» بالإيمانِ، وشهدَ عليهِ أفراخُ جهمٍ بالكفرِ. وصرَّحَ الشَّافعيُّ بأنَّ هذا الذي وصفتهُ منْ أنَّ ربَّهَا في السَّماءِ إيمانٌ، فقالَ في كتابهِ (¬2) في «بابِ عتقِ الرقبةِ المؤمنةِ»، وذكرَ حديثَ الأمةِ السَّوداءِ التي سوَّدتْ وجوهَ الجهميَّةِ، وبيَّضتْ وجوهَ المحمَّديَّةِ، فلمَّا وصفتِ الإيمانَ قالَ: «أَعْتِقْهَا فإنَّهَا مُؤمِنَةٌ»، وهي إنَّمَا وصفتْ كونَ ربِّهَا في السَّماءِ، وأنَّ محمَّدًا عبدهُ ورسولهُ، فَقَرَنَتْ بينهما في الذِّكرِ، فجعلَ الصَّادقُ المصدوقُ مجموعَهُما هو الإيمانُ (¬3). قالَ شيخُ الاسلامِ الصَّابونيُّ رحمه الله: وإنَّما احتجَّ الشَّافعيُّ - رحمةُ الله عليهِ - على المخالفينَ ... بهذا الخبرِ لاعتقادهِ أنَّ اللهَ سبحانهُ فوقَ خلقهِ وفوقَ سبعِ سمواتهِ على عرشهِ كمَا هوَ معتقدُ المسلمينَ أَهلِ السنَّةِ والجماعةِ سلفِهِم وخَلَفِهِم، إذْ كانَ رحمه الله لا يروي خبرًا صحيحًا لا يقولُ بهِ (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في «المسند» (2/ 160) (6494) - بترقيم أحمد شاكر وقال: إسناده صحيح. راجع: «السلسلة الصحيحة» (925). (¬2) الأم (5/ 298). (¬3) إعلام الموقعين (2/ 316). (¬4) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص43).

وقال الحافظُ إسماعيلُ بنُ محمدٍ التيميُّ رحمه الله: فحكمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإيمانها حينَ قالتْ: إنَّ اللهَ في السماءِ، وتحكمُ الجهميَّةُ بكفرِ منْ يقولُ ذلكَ (¬1). وقالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَاذْكُرْ شَهَادَتَهُ لِمَنْ قَدْ قَالَ رَبـ ... ـي فِي السّمَا بحَقِيقَةِ الإيمَانِ وَشَهَادَةَ العَدْلِ المعَطِّل للذِي ... قَدْ قَالَ ذَا بِحَقِيقَةِ الكُفْرَانِ وَاحْكُمْ بأيِّهِمَا تَشَاءُ وإنَّنِي ... لأَراكَ تَقْبَلُ شَاهِدَ البُطْلاَنِ إنْ كُنْتَ مِنْ أتْبَاعِ جَهْمٍ صَاحِب التَّـ ... ـعْطِيلِ والبُهْتَانِ وَالعُدْوَانِ (¬2) ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 115). (¬2) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص143).

التصريح بالاستواء على العرش

الحادي عَشَرَ: التَّصريحُ بالاستواءِ مقرونًا بأداة «على» مختصًّا بالعرشِ - الذي هو أعلى المخلوقاتِ وأنْزَهِهَا وأطْهَرِهَا وأنْوَرِهَا وأشْرَفِهَا ذاتًا وقَدْرًا وأوسَعِهَا - مصاحبًا في الأكثرِ لأداةِ «ثمَّ» الدَّالَّةِ على الترتيبِ والمهلةِ. قالَ سبحانه وتعالى - ومَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حديثًا؟ -: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] (¬1). وقالَ سبحانه وتعالى في وصفِ كتابهِ العزيزِ: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّماواتِ العُلَى * الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 4 - 5]. ¬

_ (¬1) قال ابنُ القيِّم رحمه الله في «مدارج السالكين» (1/ 42 - 43): «الرحمنُ: الذي الرحمةُ وصفُه. والرحيمُ: الراحمُ لعباده. ولهذا يقولُ تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولم يجىء رحمنٌ بعباده، ولا رحمنٌ بالمؤمنين، مع ما في اسم «الرحمن» الذي هو على وزن فَعْلاَن من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه الموصوف به. ألا ترى أنَّهم يقولون: غضبان، للممتلئ غضبًا، ونَدْمَان وحَيْران وسَكْران ولَهْفان لمن مُلىء بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول. ولهذا يقرن استواؤه على العرش بهذا الاسم كثيرًا فاستوى على عرشه باسم الرحمن، لأنَّ العرش محيط بالمخلوقات، وقد وسعها. والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات. فلذلك وسعت رحمته كلَّ شيء. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا قضَى اللهُ الخلقَ كتبَ في كتابٍ، فهو عنده موضوعٌ على العرشِ. إنّ رحمَتِي تَغْلِبُ غَضِبي». فتأمَّلِ اختصاصَ هذا الكتابِ بذكرِ الرحمةِ، ووَضْعَهُ عنده على العرشِ، وطابِقْ بين ذلك وبين قوله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، يَنْفَتِحْ لك بابٌ عظيمٌ من معرفةِ الربِّ تبارك وتعالى».

وقدْ فسَّرَ الطبريُّ رحمه الله الاستواءَ: بالعلوِّ والارتفاعِ (¬1). وقالَ مجاهدٌ رحمه الله: «استوى: عَلاَ على العرشِ» (¬2). وقالَ سفيانُ الثوريُّ: كنتُ عندَ ربيعةَ بنِ أبي عبد الرحمن فسألهُ رجلٌ فقالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، كيفَ استوى؟ فقالَ: «الاستواءُ غيرُ مجهولٍ، الكيفُ غيرُ معقولٍ، ومِنَ الله الرسالةُ، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التَّصديقُ» (¬3). وقالَ رجلٌ للإمامِ مالكٍ: يا أبا عبدِ الله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، كيفَ استوى؟ قالَ: «الكيفُ غيرُ معقولٍ، الاستواءُ منهُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنهُ بدعةٌ، وإنِّي أخافُ أنْ تكونَ ضَالًّا، وأمرَ بهِ فأُخرج» (¬4). قالَ الإمامُ الذهبيُّ معقِّبًا: «هذا ثابتٌ عنْ مالكٍ، وهوَ قولُ أهلِ السنَّةِ قاطبةً: أنَّ كيفيَّةَ الاستواءِ لا نَعْقِلُهَا، بلْ نَجْهَلُهَا، وأنَّ استواءَهُ معلومٌ كمَا أخبرَ في كتابهِ، وأنَّهُ كمَا يليقُ بهِ، لا نتعمَّقُ ولا نَتَحَذْلَقُ، ولا نخوضُ في لوازمِ ذلكَ نفيًا ولا إثباتًا، بلْ نسكتُ ونقفُ كما وقفَ السَّلفُ، ونعلمُ أنَّهُ لو كانَ لهُ تأويلٌ لبادرَ إلى بيانهِ الصَّحابةُ، والتَّابعونُ، ولما وسعهم إقرارهُ وإمرارهُ والسُّكوتُ عنهُ، ونعلمُ يقينًا مَعَ ذلكَ أنَّ اللهَ جلّ جلاله لا مِثْلَ لهُ في صفاتهِ، ولا في استوائهِ، ولا في نزولهِ، سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًّا كبيرًا» (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: جامع البيان (1/ 191). (¬2) أخرجه البخاري (13/ 414) معلَّقًا، وصحح إسناده ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 3455). (¬3) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص911)، وصححه. (¬4) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص954) وقال: «هذا ثابتٌ عن مالك». (¬5) العلو (ص954).

وقالَ بِشْر بنُ عمر رحمه الله (207هـ): «سمعتُ غيرَ واحدٍ منَ المفسِّرينَ يقولونَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، على العرشِ ارتفع» (¬1). وقالَ يزيدُ بنُ هارون رحمه الله (206هـ) وقيلَ لهُ: مَنِ الجهميَّةُ؟ قالَ: «منْ زعمَ أنَّ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] على خلافِ ما يَقِرُ في قلوبِ العامَّةِ فهوَ جهميٌّ» (¬2). قالَ الإمامُ الذهبيُّ رحمه الله معقِّبًا: «(يَقِرُ): مخففٌ، و (العامَّةُ): مرادهُ بهم جمهورُ الأمَّةِ وأهلُ العلمِ، والذي وقرَ في قلوبهم مِنَ الآيةِ هوَ ما دلَّ عليهِ الخطابُ معَ يقينهم بأنَّ المستوي ليسَ كمثلهِ شيءٌ. هذا الذي وقرَ في فِطَرِهِم السَّليمةِ، وأذهانهم الصَّحيحةِ، ولوْ كانَ له معنًى وراءَ ذلكَ، لَتَفَوَّهُوا بهِ ولما أهملوهُ، ولو تأوَّلَ أحدٌ منهم الاستواءَ، لتوفَّرتِ الهِمَمُ على نقلهِ، ولو نُقِلَ لاشتهرَ. فإنْ كانَ في بعضِ جَهَلَةِ الأغبياءِ منْ يفهمُ مِنَ الاستواءِ ما يوجبُ نقصًا أو قياسًا للشاهدِ على الغائبِ؛ وللمخلوقِ على الخالقِ، فهذا نادرٌ، فمنْ نطقَ بذلكَ زُجِرَ وعُلِّم، وما أظنُّ أنَّ أحدًا مِنَ العامَّةِ يَقِرُ في نفسهِ ذلكَ، واللهُ أعلمُ» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الذهبي في العلو (ص1011)، وقال الألباني في «مختصر العلو» (ص160): «وهذا إسناد صحيح مسلسل بالثقات الحفاظ». (¬2) أخرجه أبو داود في «المسائل» (ص268) بسند جيد. (¬3) العلو (2/ 1031).

وقالَ إمامُ الأئمَّةِ ابن خزيمة رحمه الله (311هـ): «فنحنُ نؤمنُ بخبرِ الله جلَّ وعلا أنَّ خالقَنا مستوٍ على عرشهِ، لا نبدِّلُ كلامَ الله ولا نقولُ قولًا غيرَ الذي قيلَ لنا، كمَا قالتِ المعطِّلةُ والجهميَّةُ: إنَّهُ استولى على عرشهِ لا استوى، فبدَّلوا قولًا غيرَ الذي قيلَ لهم كفعلِ اليهودِ لمَّا أمِرُوا أنْ يقولوا: حِطَّةٌ، فقالوا: حِنْطَةٌ، مخالفينَ لأمرِ الله جلَّ وعلا، كذلكَ الجهميَّة» (¬1). وقالَ العلَّامةُ الشنقيطيُّ رحمه الله: «وقدْ أشارَ تعالى في سورةِ الفرقانِ أنَّ وصفَ الله بالاستواءِ صادرٌ عنْ خبيرٍ بالله وبصفاتهِ، عالمٌ بما يليقُ بهِ، وبما لا يليقُ وذلكَ في قولهِ تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا *} [الفرقان: 59]. فتأمَّلْ قولَهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، بعدَ قولهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} [الفرقان: 59]، تعلم أنَّ منْ وصفَ الرحمنَ بالاستواءِ على العرشِ خبيرٌ بالرحمنِ وبصفاتهِ لا يخفى عليهِ اللائقُ مِنَ الصِّفاتِ وغيرِ اللائقِ. فالذي نبَّأنا بأنَّهُ استوى على عرشهِ هو العليمُ الخبيرُ الذي هو الرحمنُ، وقدْ قالَ تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. وبذلكَ تعلم أنَّ منْ يدَّعي أنَّ الاستواءَ يستلزمُ التَّشبيهَ، وأنَّهُ غيرُ لائقٍ غيرُ خبيرٍ، نعمْ واللهِ هوَ غيرُ خبيرٍ» (¬2). ¬

_ (¬1) كتاب التوحيد (ص101)، طبعة دار الكتب العلمية - بيروت. (¬2) أضواء البيان (7/ 468).

الإشارة إليه سبحانه وتعالى حسا إلى العلو

الثاني عَشَرَ: الإشارةُ إليه سبحانه وتعالى حسًّا إلى العلوِّ. وهي واقعةٌ على أعلى جزءٍ مِنَ الكون، وتقعُ على عظمةِ الإلهِ، على ما يليقُ بهِ. فلقدْ أشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم - الذي هوَ أعلمُ باللهِ وبما يجبُ لهُ، ويمتنعُ عليهِ منْ جميعِ البشرِ - إلى الله سبحانه وتعالى لمَّا كانَ بالمجمعِ الأعظمِ الذي لم يجتمعْ لأحدٍ مثلهُ، في اليومِ الأعظمِ، في المكانِ الأعظمِ، قالَ لهم: «وأَنْتُم تُسْأَلُونَ عنِّي، فمَاذَا أَنْتُم قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهدُ أنَّكَ قَدْ بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ (¬1). فرفعَ أصبعهُ الكريمةَ إلى السَّماءِ، رافعًا لها إلى منْ هوَ فوقهَا وفوقَ كلِّ شيءٍ، قائلًا: «اللَّهمَّ اشْهَدْ» (¬2). فكأنَّا نشاهدُ تلكَ الأصبعَ الكريمةَ وهي مرفوعةٌ إلى الله، وذلكَ اللِّسانَ الكريمَ وهو يقولُ لمنْ رفع أصبعهُ إليهِ: «اللَّهمَّ اشْهَدْ»، تحقيقًا لإثْباتِ صفةِ العلوِّ، وأنَّ الرَّبَّ الذي اسْتشهدهُ فوقَ العالمِ مستوٍ على عرشهِ، ونشهدُ أنَّهُ بلَّغَ البلاغَ المبينَ، وأدَّى رسالةَ ربِّهِ كما أمرَ، ونصحَ أمَّتهُ غايةَ النَّصيحةِ، فلا يُحْتَاجُ مَعَ بيانهِ وتبليغهِ وكشفهِ وإيضاحهِ إلى تَنَطُّعِ المُتَنَطِّعِينَ، وحَذْلَقَةِ المُتَحَذْلِقِينَ! والحمدُ لله ربِّ العالمينَ (¬3). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: واللهُ أكبرُ من أشارَ رسولُه ... حقًا إليه بأصبعٍ وبنانِ ¬

_ (¬1) قال ابنُ القيِّم رحمه الله في «الصواعق» (ص733 - 734): «فلو لمْ يكنْ قدْ عرف المسْلمون وتيقّنوا ما أرْسل به، وحصل لهم منه العلمُ اليقين، لمْ يكنْ قدْ حصل منه البلاغُ المبين، ولما رفع اللهُ عنه اللومَ، ولما شهد له أعْقلُ الأمّة بأنّه قدْ بلّغ وبيّن. وغاية ما عند النُّفاة أنّه بلّغهمْ ألْفاظًا لا تفيدهم علمًا ولا يقينًا، وأحالهم في طلب العلم واليقين على عقولهم، ونظرهم وأبْحاثهم، لا على ما أوحي إليه، وهذا معلومُ البطْلان بالضرورة». (¬2) قطعة من حديث جابر المطول في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم (1218). (¬3) شرح الطحاوية (2/ 384 - 385).

التصريح برفع الأيدي والأبصار إليه سبحانه وتعالى

في مجمعِ الحقِ العظيمِ بموقفٍ ... دون المعرَّفِ موقفَ الغفرانِ منْ قالَ منكمْ منْ أشارَ بأصْبُعٍ ... قُطِعَتْ فعندَ اللهِ يجتمعانِ (¬1). وقال رحمه الله: وَلَقَدْ أشَارَ رَسُولُهُ فِي مَجْمَعِ الـ ... ـحَجِّ العَظِيمِ بِمَوْقِفِ الغُفْرَانِ نَحْوَ السَّمَاءِ بأصْبُعٍ قَدْ كُرِّمَتْ ... مُسْتَشْهِدًا للوَاحِدِ الرَّحمنِ يا رَبُّ فاشْهَدْ أنَّنِي بَلَّغْتُهُم ... وَيُشِيرُ نَحْوَهُمُ لِقَصْدِ بَيَانِ فَغَدَا البَنَانُ مُرَفَّعًا وَمُصَوَّبًا ... صَلَّى عَلَيْكَ الله ذُو الغُفْرانِ أدَّيْتَ ثُمَّ نَصَحْتَ إذْ بَلَّغْتَنَا ... حقَّ البَلاَغِ الوَاجِبِ الشُّكْرَانِ (¬2). الثالثُ عَشَرَ: التَّصرِيحُ برَفْعِ الأيدي والأبصارِ إليه سبحانه وتعالى. 1 - عنْ سلمانَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله حَيِيٌّ كريمٌ، يَسْتَحْيِي إذا رَفَعَ الرَّجُلُ إليهِ يَدَيْهِ أن يَرُدَّهُما صُفْرًا خَائِبَتَيْنِ» (¬3). 2 - عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ... اسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» (¬4). 3 - عَنِ الْمِقْدَادِ رضي الله عنه - فِي حديثهِ الطَّويلِ - قَالَ: «فَرَفَعَ [النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم] رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ... فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي واسْقِ مَنْ سقَانِي» (¬5). ¬

_ (¬1) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص335). (¬2) الكافية الشافية (ص113). (¬3) رواه الترمذي (3556)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن الترمذي» (2819). (¬4) رواه مسلم (1763). (¬5) رواه مسلم (2055).

4 - عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *} [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» (¬1). 5 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ اللهَ لَنَا! فَرَفَعَ يَدَيْهِ (¬2). 6 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ صاحِبَ الصُّورِ مُنْذُ وُكِّلَ بهِ مُسْتَعِدٌّ يَنْظُرُ نَحْوَ العَرْشِ؛ مَخَافَةَ أَنْ يُؤمَرَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ، كَأَنَّ عَيْنَيْهِ كَوْكَبَانِ دُرِّيَّانِ» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1015). (¬2) رواه البخاري (933). (¬3) رواه الحاكم (4/ 558 - 559)، وحسّنه الحافظ فِي «الفتح» (11/ 376).

قالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله (463هـ): «ومِنَ الحجَّةِ: في أنَّهُ عزَّ وجلَّ على العرشِ، فوقَ السَّماواتِ السَّبعِ، أنَّ الموحِّدينَ أجمعينَ، مِنَ العربَ والعجمِ، إذا كَربهم أمرٌ، أو نَزلتْ بهم شدَّةٌ، رَفَعُوا وجوهَهُم إلى السَّماءِ، يَستغيثونَ ربَّهم تبارك وتعالى؛ وهذا أشهرُ وأعرفُ، عندَ الخاصَّةِ والعامَّةِ، منْ أنْ يحتاجَ فيهِ إِلَى أكثرِ منْ حكايتهِ؛ لأنَّهُ اضطرارٌ لمْ يُؤَنِّبْهم عليهِ أحدٌ، ولا أنكرهُ عليهمْ مسلمٌ» (¬1). وقالَ ابنُ أبي شيبةَ رحمه الله (297هـ): «وأجمعَ الخلقُ جميعًا أنَّهم إذا دعوا الله جميعًا، رفعوا أيديهمْ إلى السَّماءِ، فلوْ كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ في الأرضِ السُّفلى، ما كانوا يرفعونَ أيديهمْ إلى السَّماءِ وهو معهم في الأرضِ» (¬2). وقالَ أبو الحسن الأشعريُّ رحمه الله (324هـ): «ورأينا المسلمينَ جميعًا يرفعونَ أيديهم إذا دَعَوْا نحوَ السماءِ، لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مستوٍ على العرشِ الذي هو فوقَ السَّموات. فلولا أنَّ الله عزَّ وجلَّ على العرشِ، لم يرفعُوا أيديَهم نحو العرشِ، كما لا يحطُّونها إذا دَعَوْا إلى الأرضِ» (¬3). ¬

_ (¬1) التمهيد (7/ 134). (¬2) كتاب العرش (ص51) [مكتبة المُعَلَّا - الكويت، الطبعة الأولى]. (¬3) الإبانة عن أصولِ الديانة (ص97 - 98)، طبعة مكتبة البيان - دمشق، الطبعة الرابعة.

النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى من الكتاب والسنة

وقالَ ابنُ قدامةَ رحمه الله (620هـ): «إنَّ الله تعالى وصفَ نفسهُ بالعلوِّ في السَّماءِ، ووصفهُ بذلكَ محمَّدٌ خاتمُ الأنبياءِ، وأجمعَ على ذلكَ جميعُ العلماءِ مِنَ الصَّحابةِ الأتقياءِ والأئمَّةِ مِنَ الفقهاءِ، وتواترتِ الأخبارُ بذلكَ على وجهٍ حصلَ بهِ اليقينُ، وجمعَ الله تعالى عليهِ قلوبَ المسلمينَ، وجعلهُ مغروزًا في طباعِ الخلقِ أجمعينَ، فتراهم عندَ نزولِ الكربِ بهم يَلْحَظُونَ السَّماءَ بأعينهم، ويرفعونَ نحوها للدعاءِ أيديهم، وينتظرونَ مجيءَ الفرجِ منْ ربِّهم، وينطقونَ بذلكَ بألسنتهمْ، لا ينكرُ ذلكَ إلَّا مبتدعٌ غالٍ في بدعتهِ، أو مفتونٌ بتقليدهِ واتِّباعهِ على ضلالتهِ» (¬1). الرابعُ عَشَرَ: النُّصوصُ الدَّالةُ على رؤيةِ أهلِ الجنَّةِ لهُ تعالى مِنَ الكتابِ والسنَّةِ، وإخبارُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم يرونهُ كرؤيةِ الشمسِ والقمرِ (¬2) ليلةَ البدرِ ليسَ دونهُ سحابٌ، ولا يرونهُ إلَّا منْ فوقهم (¬3). ¬

_ (¬1) إثبات صفة العلو (ص63)، لابن قدامة. (¬2) وجوهُ الشَّبَهِ بين رؤيةِ اللهِ ورؤيةِ الشمسِ والقمرِ: أ - أنها رؤيةٌ من أسفلَ إلى أعلى. ب - أنها واضحةٌ جَلِيَّةٌ. ج - أنها بَصَرِيَّةٌ عَيانِيَّةٌ. د - أنها رؤيةٌ بلا إِحَاطَةٍ. (¬3) شرح الطحّاوية (2/ 386).

وهذهِ المسألةُ منْ أشرفِ مسائلِ أصولِ الدينِ، «وأجلِّها قدْرًا، وأعْلاها خطرًا، وأقرِّها لعيونِ أهْلِ السنَّةِ والجماعةِ، وأشدِّها على أهْلِ البدْعةِ والفرقةِ، وهي الغايةُ التي شمَّرَ إليهَا المشمِّرونَ، وتنافسَ فيهَا المتنافسونَ، وتسابقَ إليهَا المتسابقونَ، ولِمِثْلِهَا فليعْملِ العاملونَ، اتَّفقَ عليهَا الأنبياءُ والمرسلونَ، وجميعُ الصَّحابةِ والتَّابعونَ، وأئمَّةُ الإسلامِ على تتابعِ القرونِ، وأنْكرهَا أهْلُ البدعِ المارقونَ، والجهميَّةُ المُتَهَوِّكونَ، والفرعونيَّةُ المعطِّلونَ، والباطنيةُ الذينَ همْ منْ جميعِ الأدْيانِ مُنْسَلِخُونَ، وبحبائلِ الشيطانِ مُتَمَسِّكونَ، ومنْ حبْلِ الله منقطعونَ، وعلى مَسَبَّةِ أصْحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عاكفونَ، وللسنَّةِ وأهْلهَا محاربونَ، ولكلِّ عدوٍّ للهِ ورسولهِ ودينهِ مُسَالِمُونَ، وكلُّ هؤلاءِ عنْ ربِّهمْ مَحْجُوبُونَ، وعنْ بابهِ مَطْرُودُونَ» (¬1). قالَ سبحانه وتعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} [القيامة: 22، 23] (¬2). ¬

_ (¬1) حادي الأرْواح إلى بلاد الأفْراح (ص361)، طبعة مؤسسة الرسالة. (¬2) لِيَتَأَمَّلِ القارئُ اللبيبُ موقفًا جمعَ بين الإمامِ أحمدَ بنِ نَصْرٍ الخزاعيِّ (المتوفى سنة 231هـ)، وبين الواثق الخليفة الجهمي وقاضيه أحمد بن أبي دؤاد. ذكر الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (10/ 317 - 318): «أنَّ أحمد بن نصر حُمل مقيَّدًا إلى الواثق وفي مجلسه أحمد بن أبي دؤاد وأتباعه. فقال له الواثقُ: ما تقولُ في القرآن؟ فقال: هو كلامُ الله. قال: أمخلوقٌ هو؟ قال: هو كلامُ الله. فقال له: فما تقولُ في ربك؟ أتراهُ يومَ القيامةِ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين قد جاءَ القرآنُ والأخبارُ بذلك، قال الله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} [القيامة: 22 - 23]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ترونَ ربَّكم كما ترونَ هذا القمرَ لا تُضامون في رؤيته»، فنحن على الخبر. قال الواثق: ويَحَك! أيُرى كما يُرى المحدودُ المتجسِّمُ ويحويه مكانٌ ويحصره الناظرُ؟ أنا أكفرُ برَبٍّ هذه صِفَتُهُ. ثم قامَ إليه فلما انتهى عليه ضرَبهُ بالسَّيفِ على عاتِقِهِ وهو مربوطٌ بحبلٍ قد أُوقِفَ على نِطْعٍ، ثم ضرَبَهُ أخرى على رأسِهِ، ثم طَعَنَهُ في بَطْنِهِ فَسَقَطَ صريعًا رحمه الله، فإنّا لله وإنا إليه راجعون. رحمه الله وعفا عنه. قال ابنُ كثير معقبًا على قياس الواثق: وما قاله الواثقُ لا يجوزُ ولا يلزمُ ولا يُرَدُّ به هذا الخبرُ الصحيحُ، والله أعلم».

قالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: «أحاديثُ رؤيةِ اللهِ في الآخرةِ متواترةٌ، والقرآنُ مصدِّقٌ لها» (¬1). وفيما يلي أوردُ بعضَ الأحاديثِ الدَّالَّة على رؤيةِ الله في الجنَّةِ. 1 - عنْ عمّارِ بْنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « ... وأسألكَ لذَّةَ النَّظرِ إلى وجهكَ والشوقَ إلى لقائكَ» (¬2). قال الحافظُ إسماعيلُ بنُ محمَّدٍ التيميُّ رحمه الله: والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يسألُ سؤالًا يستحيلُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يبعثُ نبيًَّا إلَّا وهوَ عالمٌ بما يجري عليهِ (¬3). وقالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: أوَ مَا سَمِعْتَ سُؤالَ أَعْرَفِ خَلْقِهِ ... بِجلاَلِهِ المَبْعُوثِ بِالقُرْآنِ شَوْقًا إلَيْهِ وَلَذَّةَ النَّظَرِ الذِي ... بِجَلاَلِ وَجْهِ الرَّبِّ ذِي السُّلْطَانِ الشَّوْقُ لَذَّةُ رُوحِهِ فِي هَذِهِ الدُّ ... نْيا وَيَوْمَ قِيَامَةِ الأبْدَانِ تَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ الَّذي فَازَتْ بِهِ ... دُونَ الجَوَارِحِ هَذِهِ العَيْنَانِ واللهِ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ألَذُّ ... مِنَ اشْتِيَاقِ العَبْدِ لِلرَّحْمَنِ وَكَذَاكَ رُؤيَةُ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ ... هِيَ أكْمَلُ اللَّذَّاتِ للإِنْسَانِ لَكِنَّمَا الجَهْمِيَّ يُنْكِرُ ذَا وَذَا ... وَالوَجْهَ أيْضًا خَشْيَةَ الحِدْثَانِ تَبًّا لَهُ المَخْدُوع أنْكَرَ وَجْهَهُ ... وَلِقَاءَهُ وَمَحَبَّةَ الدَّيَّانِ وَكَلاَمَهُ وَصِفَاتِهِ وَعُلُوَّهُ ... وَالعَرْشَ عَطَّلَهُ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَرَاهُ فِي وَادٍ وَرُسْلُ الله فِي ... وَادٍ وَذَا مِنْ أعْظَمِ الكُفْرَانِ (¬4) ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (10/ 455). (¬2) قطعةٌ من حديث أخرجه النسائي (1305 و1306)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن النسائي» (1237 و1238). (¬3) الحجة في بيان المحجة (2/ 250). (¬4) الكافية الشافية (ص387).

2 - عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ (¬1) مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ». ثُمَّ تلاَ هَذِهِ الآيَةَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] (¬2). قالَ صدِّيق حسن خان رحمه الله: «وتفسيرُ الزيادةِ النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ سبحانهُ، وقد ثَبَتَ التفسيرُ بذلكَ منْ قولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلمْ يبقَ حينئذٍ لقائلٍ مقالٌ ولا التفاتٌ إلى المُجَادَلاتِ الواقعةِ بينَ المُتَمَذْهِبَةِ الذين لا يعرفونَ مِنَ السنَّةِ المُطَهَّرَةِ ما ينتفعونَ بهِ، فإنَّهم لو عرفوا ذلكَ لَكَفُّوا عنْ كثيرٍ منْ هَذَيَانِهِمْ. واللهُ المستعانُ» (¬3). ¬

_ (¬1) قال شيخُ الإسلام رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (8/ 143): «فأخبرَ أنَّ النَّظرَ إليهِ أحبُّ إليهمْ منْ كلِّ ما يتنعمونَ بهِ، ومحبَّةُ النَّظرِ إليهِ تبعٌ لمحبتهِ، فإنِّما أحبوا النَّظرَ إليهِ لمحبتهم إيَّاه، ومَا منْ مؤمنٍ إلَّا ويجدُ في قلبهِ محبةَ الله، وطمأنينةً بذكرهِ وتنعمًا بمعرفته، ولذَّةً وسرورًا بذكْرهِ ومناجاتهِ، وذلك يقوى ويضعفُ ويزيدُ وينقصُ بحسبِ إيمانِ الخلقِ. فكلُّ منْ كانَ إيمانهُ أكملَ كانَ تنعمهُ بهذا أكْملَ». (¬2) أخرجه مسلم (181). (¬3) فتح البيان (6/ 50).

3 - عَنْ أَبِي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِياءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» (¬1). قَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «فهذا يدلُّ أنَّ رداءَ الكبرياءِ عَلَى وجههِ - تبارك وتعالى - هُوَ المانعُ مِنْ رؤيةِ الذَّاتِ، وَلاَ يمنعُ مِن أصلِ الرؤيةِ؛ فإنَّ الكبرياءَ والعظمةَ أمرٌ لازمٌ لذاتهِ تَعَالَى، فَإِذَا تجلَّى سُبْحَانَهُ لعبادهِ يومَ القيامةِ، وكشفَ الحجابَ بينهم وبينهُ، فَهُوَ الحجابُ المخلوقُ. وأمَّا أنوارُ الذَّاتِ الَّذِي يحجبُ عنْ إدراكهَا فذاكَ صفةٌ للذَّاتِ، لاَ تفارقُ ذاتَ الرَّبِّ جلّ جلاله. ولو كشفَ ذَلِكَ الحجابَ لأحرقتْ سبحاتُ وجههِ مَا أدركهُ بصرهُ مِنْ خلقهِ. وتكفي هَذِهِ الإشارةُ فِي هَذَا المقامِ للمصدِّقِ الموقِنِ، وأمَّا المعطِّلُ الجهميُّ فكلُّ هَذَا عندهُ باطلٌ ومحالٌ» (¬2). 4 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4878) و (4880) و (7444)، ومسلم (180). (¬2) التبيان فِي أقسام القرآن (ص189). (¬3) أخرجه البخاري (7437)، ومسلم (182).

قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «والمخاطبونَ بهذا قومٌ عربٌ يعلمونَ المرادَ منهُ، ولا يقعُ في قلوبهم تشبيههُ سبحانه [بالشمسِ والقمرِ] بلْ هم أشرفُ عقولًا، وأصحُّ أذْهانًا، وأسلمُ قلوبًا منْ ذلكَ، وحقَّقَ صلى الله عليه وسلم وقوعَ الرؤيةِ عيانًا برؤيةِ الشمسِ والقمرِ تحقيقًا لها، ونفيًا لتوهُّمِ المجازِ الذي يظنُّهُ المعطِّلونَ» (¬1). وقالَ رحمه الله: مَا بَعْدَ تِبْيَانِ الرَّسولِ لنَاظِرٍ ... إِلَّا العَمَى وَالعيْبُ فِي العُمْيَانِ فَانْظُرْ إلَى قَولِ الرَّسُولِ لِسَائِلٍ ... مِنْ صَحْبِهِ عَنْ رُؤيَةِ الرَّحْمَنِ حَقًّا تَرَوْنَ إلَهَكُمْ يَومَ اللِّقَا ... رُؤيَا العِيَانِ كَمَا يُرَى القَمَرَانِ كَالبَدْرِ لَيْلَ تَمامِهِ وَالشَّمْسِ فِي ... نَحْرِ الظَّهِيرَةِ مَا هُمَا مِثْلاَنِ بَلْ قَصْدُه تَحْقِيقُ رُؤيَتِنَا لَهُ ... فَأتَى بأظْهَرِ مَا يُرَى بِعِيَانِ وَنَفَى السَّحَابَ وَذَاكَ أمرٌ مَانِعٌ ... مِنْ رُؤيَةِ القَمَرَينِ فِي ذَا الآنِ فَإذَا أتَى بالمُقْتضِي وَنَفَى المَوَا ... نِعَ خَشْيَةَ التقْصِيرِ فِي التِّبْيَانِ صَلَّى عَلَيهِ الله مَا هَذَا الذِي ... يَأتِي بِهِ مِنْ بَعْدِ ذَا التِّبْيَانِ مَاذَا يَقُولُ القَاصِدُ التبيَانَ يَا ... أهْلَ العَمَى مِنْ بَعْدِ ذَا التِّبْيَانِ (¬2). ¬

_ (¬1) زاد المعاد (3/ 681 - 682). (¬2) الكافية الشافية (ص197).

5 - عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجليِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ ليلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هذَا لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] (¬1). قالَ الإمامُ البغويُّ رحمه الله: «وقولُه: «كما ترونَ» ليسَ كافُ التَّشبيهِ للمرئيِّ بالمرئيِّ، بلْ كافُ التَّشبيهِ للرؤيةِ التي هي فعلُ الرائي بالرؤيةِ، ومعناهُ: تَرَوْنَ ربَّكم رؤيةً لا شكَّ فيها، كما تَرونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا مريةَ فيها» (¬2). وقالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: «ومعلومٌ أنَّا نرى الشمسَ والقمرَ عيانًا مواجهةً، فيجبُ أنْ نراهُ كذلكَ، وأمَّا رؤيةُ ما لا نُعَايِنُ ولا نُواجِهُهُ فهذهِ غيرُ مُتَصَوَّرَةٍ في العقلِ، فَضْلًا عنْ أنْ تكونَ كرؤيةِ الشَّمسِ والقمرِ. وأمَّا قولُه «لا تُضَامُونَ» يُروى بالتَّخفيفِ. أي: لا يَلْحَقُكُمْ ضَيْمٌ في رؤيتهِ كما يلحقُ النَّاسَ عندَ رؤيةِ الشَّيءِ الحسنِ كالهلالِ. فإنَّهُ قدْ يَلْحَقُهُمْ ضَيْمٌ في طلبِ رؤيتهِ حينَ يُرى؛ وهوَ سبحانهُ يتجلَّى تجليًّا ظاهرًا فيرونَهُ كما تُرى الشمسُ والقمرُ بلا ضَيْمٍ يَلْحَقُكُمْ في رؤيتهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183). (¬2) شرح السنة (2/ 226) للبغوي.

وقيلَ: «لا تَضَامُّون» بالتَّشديدِ، أي: لا ينضمُّ بعضُكمْ إلى بعضٍ كمَا يتضامُّ النَّاسُ عندَ رؤيةِ الشيءِ الخفيِّ كالهلالِ، وهذا كُلُّه بيانٌ لرؤيتهِ في غايةِ التَّجَلِّي والظُّهورِ بحيثُ لا يَلْحَقُ الرائي ضررٌ ولا ضيمٌ كما يلحقهُ عندَ رؤيةِ الشَّيءِ الخفيِّ والبعيدِ والمحجوبِ ونحو ذلكَ» (¬1). 6 - عَنْ أَبِي رَزِينٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَرَى اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: «يَا أَبَا رَزِينٍ! أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ مُخْلِيًا بِهِ؟» قلْتُ: بَلَى! قَالَ: «فَاللهُ أَعْظَمُ وَذَلِكَ آيَةٌ فِي خَلْقِهِ» (¬2). وإثباتُهُ صلى الله عليه وسلم جوازَ الرؤيةِ لجميعِ الخلقِ في وقتٍ واحدٍ وكلُّ منهم يكونُ مُخْليًا بهِ بالقياسِ على رؤيةِ القمرِ مَعَ قولهِ: «اللهُ أَعْظَمُ» دليلٌ واضحٌ على أنَّ النَّاسَ يرونهُ مواجهةً عيانًا يكونُ بجهةٍ منهم. وأنهُ إذا أمكنَ في بعضِ مخلوقاتهِ أنَّهُ يراهُ النَّاسُ في وقتٍ واحدٍ كلُّهم يكونَ مخليًا بهِ، فالله أولى أنْ يمكنَ ذلكَ فيهِ فإنَّهُ أعظمُ وأجلُّ (¬3) وأكْبرُ منْ كلِّ شيءٍ. فهذا يُزيلُ كلَّ إشْكالٍ، ويبْطلُ كلَّ خيالٍ (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (16/ 85 - 86). (¬2) رواه ابن ماجه (180)، وحسنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (150). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (4/ 444) طبعة مجمع الملك فهد. (¬4) شرح الطحاوية (ص375).

قالَ ابنُ أبي العزِّ الحنفيُّ رحمه الله: «وليسَ تشبيهُ رؤيةِ الله تعالى برؤيةِ الشمسِ والقمرِ تشبيهًا لله، بلْ هوَ تشبيهُ الرؤيةِ بالرؤيةِ، لا تشبيهُ المرئي [وهو الله] بالمرئي [وهو الشمسُ والقمرُ]، ولكنْ فيه دليلٌ على علوِّ الله على خلقهِ، وإلَّا فهلْ تعقلُ رؤيةٌ بلا مقابلةٍ! ومنْ قالَ: يُرى لا في جهةٍ (¬1)، ¬

_ (¬1) قال النوويُّ رحمه الله في «شرح مسلم» (3/ 16): «يراه المؤمنون؛ لا في جهةٍ». وردَّ عليه صديق حسن خان رحمه الله في «السراج الوهاج» (1/ 347) بقوله: «هذا الذي قاله؛ سلك فيهِ مسلك المتكلِّمة. ومذهب أهلِ الحقِّ في ذلك وما ضاهاه: إمرارهُ على ظاهره من غير تأويلٍ ولا تعطيلٍ؛ وقدْ ثبت في الأحاديث الصحيحة قوله صلى الله عليه وسلم للجارية «أَيْنَ اللهُ؟»، وفي أخرى «الإشارة بالإصبع إلى السماء» والأخبار في ذلك كثيرة جدًّا. وكذلك آيات الكتاب العزيز تدلُّ عليه دلالةً واضحةً، وتفيدُ الفوق، والعلو، والاستواء على العرش، والكون في السماء، فأين هذا من ذاك؟ رحم الله امرءًا أنصفَ، ولم يتأوَّل ولم يتعسَّف». وقال العلامة يحيى بن أبي الخير العمراني (558هـ) في «الانتصار» (2/ 647 - 648): «وأما الدليل على إبطال قول الأشعرية فهو: أنَّ الشرع ورد بثبوت الرؤية لله تعالى بالأبصار فحُمِلَ ذلك على الرؤية المعهودة، وهو ما كان عن مقابلة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ»، ولا يقتضي ذلك تحديدًا ولا تجسيمًا لله، كما لا يقتضي العلم به تحديدًا له ولا تجسيمًا. وإنْ قالوا: إنَّ الرؤيةَ لا تختصُّ بالأبصارِ، رَجَعُوا إلى قول المعتزلة، في نفي الرؤية، وأنَّ المرادَ بالرؤية العلمُ به ضروريًا، وقد حُكي عن بعض متأخري الأشعرية أنَّه قال: لولا الحياءُ من مخالفة شيوخنا، لقلتُ: إنَّ الرؤيةَ العلمُ لا غير».

فليراجع عقلهُ!! فإمَّا أنْ يكونَ مكابرًا لعقلهِ، أو في عقلهِ شيءٌ، وإلَّا فإذا قالَ: يُرى لا أمامَ الرائي، ولا خلفهُ، ولا عنْ يمينهِ ولا عنْ يسارهِ ولا فوقهُ ولا تحتهُ ردَّ عليهِ كلُّ منْ سمعهُ بفطرتهِ السليمةِ. ولهذا ألزمَ المعتزلةُ مَنْ نفى العلوَّ بالذَّاتِ بنفي الرؤيةِ، وقالوا: كيفَ تُعْقَلُ رؤيةٌ بغيرِ جهةٍ» (¬1). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: فَسَلِ المُعَطِّلَ هَلْ يُرى مِنْ تَحْتِنَا ... أمْ عَنْ شَمَائِلِنَا وَعَنْ أيْمَانِ أَمْ خَلْفَنَا وَأمَامَنَا سُبْحَانَهُ ... أمْ هَلْ يُرَى مِنْ فَوقِنَا بِبَيَانِ يَا قَومُ مَا فِي الأمرِ شَيْءٌ غَيْرَ ذَا ... أوْ أنَّ رُؤيَتَهُ بِلاَ إمْكَانِ إذْ رُؤيَةٌ لاَ فِي مُقَابَلَةٍ مِنَ الرَّ ... ائِى مُحَالٌ لَيْسَ فِي الإِمْكَانِ وَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا سِوَى ذَا كَانَ دَعـ ... ـوَاهُ مُكَابَرَةً عَلَى الأَذْهَانِ (¬2). وقالَ رحمه الله: «والذي تفهمهُ الأممُ على اختلافِ لغاتِها وأوهامِها منْ هذهِ الرؤيةِ رؤيةُ المقَابَلَةِ والمُوَاجَهَةِ التي تكونُ بينَ الرائي والمرئي فيهَا مسافةٌ محدودةٌ غيرُ مُفْرِطةٍ في البعدِ، فتمتنعُ الرؤيةُ، ولا في القربِ، فلا تمكنُ الرؤيةُ، لا تعقلُ الأممُ غيرَ هذا، فإمَّا أنْ يَرَوْهُ سبحانهُ منْ تحتهم - تعالى الله - أو منْ خلفهم، أو منْ أمامهمْ، أو عنْ أيمانهم، أو عنْ شمائلهم، أو منْ فوقهم، ولا بدَّ منْ قسمٍ منْ هذهِ الأقسامِ إنْ كانتِ الرؤيةُ حقًّا، وكلُّها باطلٌ سوى رؤيتهم لهُ منْ فوقهم. ¬

_ (¬1) شرح الطحاوية (1/ 219 - 220). (¬2) الكافية الشافية (ص114).

التصريح بنزوله سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا

ولا يتمُّ إنكارُ الفوقيَّةِ إلَّا بإنكارِ الرؤيةِ، ولهذا طَرَدَ الجهميَّةُ أَصْلَهُم، وصرَّحوا بذلكَ، وركَّبوا النَفْيَيْنِ معًا، وصدَّقَ أهلُ السنَّةِ بالأمرينِ معًا، وأقرُّوا بهما، وصارَ مَنْ أثبتَ الرؤيةَ، ونفى علوَّ الرَّبِّ على خلقهِ واسْتِوَاءَهُ على عرشهِ مُذَبْذَبًا بينَ ذلكَ لا إلى هؤلاءِ، ولا إلى هؤلاءِ» (¬1). الخامسُ عَشرَ: التصريحُ بنزوله سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدنيا، والنُّزولُ المعقولُ عندَ جميعِ الأممِ إنَّما يكونُ من العُلُوِّ إلى أَسْفَلَ (¬2). عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» (¬3). اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ حديثَ النزولِ «حديثٌ كبيرٌ جليلٌ، تنادي جلالتهُ وفخامتهُ وعظمتهُ على أنَّهُ قدْ خرجَ منْ مشكاةِ النبوةِ» (¬4)، و «هو قرَّةٌ لعيونِ أهلِ الإيمانِ، وشجىً في حلوقِ أهلِ التَّعطيلِ والبهتانِ» (¬5)، يجبُ الأخذُ بظاهرهِ منْ غيرِ تأويلٍ ولا يجبُ أنْ يستوحشَ منْ إطلاقِ مثلِ ذلكَ. قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله (204هـ): «القولُ فِي السنَّةِ التي أنَا عليهَا ورأيتُ أصحابَنا عليها، أهلَ الحديثِ الذينَ رأيتهم فأخذتُ عنهم، مثلُ سفيانَ [بن عيينة] ومالكٍ وغيرهما: ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (2/ 317 - 318). (¬2) إعلام الموقعين (2/ 301). (¬3) رواه البخاري (1145 و 6321 و 7494)، ومسلم (758) وهو حديث متواتر. (¬4) زاد المعاد (3/ 677). (¬5) مختصر الصواعق (2/ 237).

الإقرارُ بشهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله .. وأنَّ اللهَ على عرشه في سمائهِ يقربُ منْ خلقهِ كيفَ شاء. وأنَّ الله تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا كيفَ شاءَ» (¬1). وقالَ الدَّارِمِيُّ رحمه الله (280هـ): «والآثارُ التي جاءتْ عنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي نزولِ الرَّبِّ تبارك وتعالى تدلُّ عَلَى أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ فوقَ السَّماواتِ عَلَى عرشهِ، بائنٌ منْ خلقهِ» (¬2). وقالَ الإمامُ الطبريُّ رحمه الله (310هـ): «وأنَّهُ سبحانه وتعالى يهبطُ كلَّ ليلةٍ وينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، لخبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (¬3). عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْبَاقِي يَهْبِطُ اللهُ عزَّ وجلَّ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يَبْسُطُ يَدَهُ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى سُؤْلَهُ؟ فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ» (¬4). وعقدَ الإمامُ ابنُ خزيمة رحمه الله (311هـ) بابًا في كتابِ «التوحيدِ» افتتحهُ بقولهِ: بابُ ذكرِ أخبارٍ ثابتةِ السَّندِ، صحيحةِ القوامِ، رواها علماءُ الحجازِ والعراقِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في نزول الرَّبِّ جلَّ وعلا إلى السَّماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ. ¬

_ (¬1) الوصية (ص54)، تحقيق: الشيخ سعد الدين الكبي حفظه الله تعالى - طبعة المكتب الإسلامي. (¬2) الرد على الجهمية (ص73) [طبعة دار ابن الأثير - الكويت، الطبعة الثانية]. (¬3) التبصير في معالم الدين (ص136). (¬4) رواه ابن خزيمة (89)، وأحمد (1/ 388 و403 و446)، والآجُرِّيُّ (312) بسند صحيح.

نشهدُ شهادةَ مقرٍّ بلسانهِ، مصدِّقٍ بقلبهِ، مستيقنٍ بما في هذهِ الأخبارِ منْ ذكرِ نزولِ الرَّبِّ منْ غيرِ أنْ يصفَ الكيفيَّةَ لأنَّ نبيَّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم لمْ يصفْ لنا كيفيَّةَ نزولِ خالقنَا إلى السَّماءِ الدنيا وأعلمنا أنَّهُ ينزلُ، والله جلَّ وعلا لمْ يتركْ ولا نبيَّهُ عليه السلام بيانَ ما بالمسلمينَ إليهِ الحاجة منْ أمرِ دينهم، فنحنُ قائلونَ مصدِّقونَ بما في هذهِ الأخبارِ منْ ذكرِ النزولِ غيرُ متكلِّفينَ القولَ بصفتهِ أو بصفةِ الكيفيَّةِ، إذِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمْ يصفْ لنا كيفيَّةَ النزولِ. وفي هذهِ الأخبارِ ما بانَ وثبتَ وصحَّ أنَّ الله جلَّ وعلا فوقَ سماء الدُّنيا - الذي أخبرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ينزلُ إليها - إذْ محالٌ في لغةِ العربِ أنْ يقولَ: ينزلُ منْ أسفلَ إلى أعلى، ومفهومُ الخطابِ أنَّ النزولَ منْ أعلى إلى أسفلَ (¬1). وقالَ أبو العبَّاس السرَّاج رحمه الله (313هـ): «منْ لم يُقِرَّ ويؤمنْ بأنَّ اللهَ تعالى يعجَبُ، ويضحَكُ، وينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيقولُ: «منْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيه؟» فهو زنديقٌ كافرٌ، يستتابُ، فإنْ تابَ وإلَّا ضُرِبَتْ عنقهُ، ولا يُصَلَّى عليهِ ولا يُدْفنُ في مقابرِ المسْلمينَ» (¬2). قالَ الذهبيُّ معقِّبًا عَلَى هَذَا الأثرِ: «قلتُ: إنَّما يكفرُ بعدَ علمهِ بأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قالَ ذلكَ، ثمَّ إنَّهُ جحدَ ذلكَ ولمْ يؤمنْ بهِ» (¬3). وقالَ أبو بكرٍ بن أبي داودَ محدِّثُ بغدادَ (316هـ): تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الله واتّبع الهُدى ... وَلاَ تَكُ بِدْعيًّا لَعَلَّكَ تُفْلِحُ وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ وَالسُّنَنِ الّتِي ... أَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ تَنْجُووَتَرْبَحُ ¬

_ (¬1) التوحيد (ص125 - 126). (¬2) العلوّ (ص534). (¬3) العلوّ (ص214). وانظر: «سير أعلام النبلاء» (14/ 396).

وَقُلْ: يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ... بِلا كَيْفَ، جَلَّ الْوَاحِدُ الْمُتَمَدَّحُ إِلَى طَبَقِ الْدُّنْيَا يمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ يَقُولُ: أَلا مُسْتَغْفرٌ يَلْقَ غَافِرًا ... وَمُسْتَمْنِحُ خَيْرًَا وَرِزْقًَا فَيُمْنَحُ رَوَى ذَاكَ قَوْمٌ لاَ يُرَدُّ حَديثُهُم ... ألاَ خَابَ قَوْمٌ كَذَّبُوهُم وَقُبِّحُوا (¬1) وقالَ أبو الحسن الأشعريُّ (324هـ): «ونصدِّقُ بجميعِ الرواياتِ التي يثبتهَا أهلُ النَّقلِ مِنَ النزولِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وأنَّ الرَّبَّ عزَّ وجلَّ يقولُ: هلْ منْ سائلٍ؟ هلْ منْ مستغفرٍ؟ وسائر ما نقلوهُ وأثبتوهُ خلافًا لما قالهُ أهلُ الزَّيغِ والتَّضليلِ. ونعوِّلُ فيمَا اختلفنَا فيهِ على كتابِ ربِّنا وسنِّةِ نبيِّنا وإجماعِ المسلمينَ ومَا كانَ في معناه. ولا نبتدعُ في دينِ الله ما لمْ يأذنْ بهِ لنا، ولا نقولُ على الله ما لا نعلم» (¬2). وقالَ رحمه الله: «وممَّا يؤكِّدُ أنَّ الله عزَّ وجلَّ مستوٍ على عرشهِ دونَ الأشياءِ كلِّها ما نقلهُ أهلُ الروايةِ عنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وذكرَ حديثَ النزولِ بالسندِ عنْ ثلاثةٍ منَ الصحابةِ وهم: جبيرُ بنُ مطعمٍ وأبو هريرة ورفاعةُ الجهنيُّ رضي الله عنهم» (¬3). وقالَ الإمامُ المشهورُ ابنُ أبي زمنين رحمه الله (399هـ) تعليقًا علَى حديثِ النزولِ: «هذا الحديثُ بيِّنٌ أنَّ الله عزَّ وجلَّ على عرشهِ في السَّماءِ دونَ الأرضِ، وهو أيضًا بيِّنٌ في كتابِ الله، وفي غيرِ ما حديثٍ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ثمَّ ذكرَ آياتٍ دالَّةً على علوِّ الله تعالى» (¬4). ¬

_ (¬1) السير (13/ 233 - 234). (¬2) الإبانة (ص29 - 30) [طبعة دار الأنصار - القاهرة، الطبعة الأولى]. (¬3) الإبانة (ص110 - 112). (¬4) أصول السنة (ص113 - 114)، طبعة مكتبة الغرباء الأثرية - المدينة النبوية - الطبعة الأولى.

وقالَ الإمامُ أبو عمرو الداني رحمه الله (444هـ): «ومنْ قولهم: إنَّ الله جلّ جلاله وتقدَّست أسماؤهُ: ينزلُ في كلِّ ليلةٍ إلى السَّماء الدنيا في الثلثِ الباقي مِنَ الليلِ، فيقولُ: «هَلْ مِنْ دَاعٍ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، وهلْ منْ سَائِلٍ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ، وهلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» حتَّى ينفجرَ الصُّبْحُ، على ما صحَّتْ بهِ الأخبارُ، وتواترتْ بهِ الآثارُ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. نزولهُ تبارك وتعالى كيفَ شاءَ، بلا حَدٍّ، ولا تكييفٍ. وهذا دينُ الأُمَّةِ، وقولُ أهلِ السُّنَّةِ في هذه الصِّفاتِ أنْ تُمَرَّ كما جاءتْ بغيرِ تكييفٍ، ولا تحديدٍ، فمنْ تجاوزَ المَرْوِيَّ فيها وكَيَّفَ شيئًا منها ومَثَّلَها بشيءٍ منْ جوارحِنا وآلَتِنا فقدْ ضلَّ واعْتَدَى، وابتدعَ في الدينِ ما ليسَ منهُ، وخَرَقَ إجماعَ المسلمينَ، وفارقَ أئمَّةَ الدِّينِ» (¬1). وقالَ رحمه الله: فمِنْ صَحِيح ما أَتَى به الأثر ... وَشَاعَ فِي النَّاسِ قَدِيمًَا وانْتَشَرْ نُزُولُ رَبِّنَا بلا امْتِراء ... فِي كلِّ ليلةٍ إِلى السّماءِ مِنْ غَيرِ مَا حَدٍّ وَلاَ تَكْيِيفِ ... سُبْحَانَهُ مِنْ قَادرٍ لَطيف (¬2). وقالَ ابنُ عبد البرِّ رحمه الله (463هـ) تعليقًا على حديثِ النزولِ: «هَذَا حديثٌ ثابتٌ منْ جهةِ النَّقلِ، صحيحُ الإسنادِ، لا يختلفُ أهلُ الحديثِ في صحَّتهِ، وفيهِ (¬3) دليلٌ على أنَّ الله عزَّ وجلَّ في السَّماءِ على العرشِ منْ فوقِ سبعِ سماواتٍ، وعلمهُ في كلِّ مكانٍ كمَا قالتِ الجماعةُ أهلُ السنَّةِ أهلُ الفقهِ والأثرِ (¬4)، ثمَّ ذكرَ آياتٍ دالَّةً على علوِّ الله تعالى (¬5). ¬

_ (¬1) الرسالة الوافية (ص134 - 138). (¬2) الأرجوزة المنبِّهة (ص194)، للحافظ: أبي عمرو الداني رحمه الله. (¬3) التمهيد (7/ 128). (¬4) الاستذكار (8/ 148). (¬5) التمهيد (7/ 129).

قال: وأمَّا قولهُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ: «يَنْزِلُ رَبُّنا»، فالذي عليهِ أهلُ العلمِ منْ أهلِ السنَّةِ والحقِّ الإيمانُ بمثلِ هذا وشِبْهِهِ مِنَ القرآنِ والسُّننِ دونَ كيفيَّةٍ فيقولونَ: ينزلُ ولا يقولونَ كيفَ النزولُ ولا يقولونَ كيفَ الاستواءُ ولا كيفَ المجيءُ في قولهِ عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]، ولا كيفَ التجلِّي في قولهِ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]» (¬1). وقالَ الإمامُ أبو إسماعيل الصابوني رحمه الله (449هـ) «ويثبتُ أصحابُ الحديثِ نزولَ الرَّبِّ سبحانه وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدنيا، منْ غيرِ تشبيهٍ لهُ بنزولِ المخلوقينَ، ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ، بلْ يثبتونَ ما أثبتهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وينتهونَ فيهِ إليهِ، ويُمِرُّونَ الخبرَ الصحيحَ الواردَ بذكرهِ على ظاهرهِ» (¬2) - إلى أنْ قالَ: «فلمَّا صحَّ خبرُ النزولِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أقرَّ بهِ أهلُ السنَّةِ، وقبلوا الخبرَ، وأثبتوا النزولَ على مَا قالهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولمْ يعتقدوا تشبيهًا لهُ بنزولِ خلقهِ، ولمْ يبحثوا عنْ كيفيَّتهِ إذْ لا سبيلَ إليها بحالٍ، وعلموا وتحقَّقوا واعتقدوا أنَّ صفاتِ الله سبحانه وتعالى لا تشبهُ صفاتِ الخلقِ كما أنَّ ذاتَهُ لا تشبهُ ذواتَ الخلقِ، تعالى الله عمَّا يقولُ المشبِّهةُ والمعطِّلةُ علوًّا كبيرًا، ولعنهم لعنًا كثيرًا» (¬3). وقالَ الإمامُ الإسماعيليُّ رحمه الله (469هـ): «وأنَّه عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّماء الدنيا على ما صحَّ بهِ الخبرُ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بلا اعتقادِ كيفيَّةٍ» (¬4). ¬

_ (¬1) الاستذكار (8/ 151 - 152). (¬2) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص32). (¬3) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص46). (¬4) اعتقاد أئمة أهل الحديث (ص62).

وقالَ أبو الخطَّاب الكلْواذَاني رحمه الله (510هـ) في عقيدتهِ: قالوا: النزولُ؟ فقلتُ: ناقلُه لنا ... قومٌ تَمَسُّكُهُمْ بشرعِ محمَّدٍ قالوا: فكيفَ نزولٌ؟ فأَجَبْتُهُم ... لم يُنْقَلِ التكييفُ لي فِي مُسْنَدٍ (¬1) وقَالَ الشيخ عبدُ الله بن محمد الأندلسي القحطاني المالكي رحمه الله: وَاللهُ يَنْزِلُ كُلَّ آخِرَ لَيْلَةٍ ... لِسَمَائِهِ الدُنْيَا بِلا كِتْمَانِ فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُجِيبهُ ... فَأَنَا القَرِيبُ أُجِيبُ مَنْ نَادَانِي حَاشَا الإِلَهَ بِأَنْ تُكَيَّفَ ذَاتُهُ ... فَالْكَيفُ وَالتَّمْثِيلُ مُنْتَفِيَانِ وَالأَصْلُ أَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ ... شَيءٌ تَعَالَى الرَّبُّ ذُو الإِحْسَانِ (¬2) وقال أبو الطيِّبُ: حضرتُ عندَ أبي جعفرٍ الترمذيِّ (295هـ) فسألهُ سائلٌ عنْ حديثِ نزولِ الرَّبِّ، فالنزولُ كيفَ هو يبقى فوقُه علوٌّ؟ فقالَ: «النزولُ معقولٌ، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسؤالُ عنهُ بدعةٌ» (¬3). قالَ الإمامُ الذهبيُّ معقِّبًا: «صدقَ فقيهُ بغدادَ وعالمها في زمانهِ، إذِ السُّؤالُ عَنِ النزولِ ما هوَ؟ عِيٌّ، لأنَّهُ إنَّمَا يكونُ السؤالُ عنْ كلمةٍ غريبةٍ في اللُّغةِ، وإلَّا فالنزولُ والكلامُ والسمعُ والبصرُ والعلمُ والاستواءُ عباراتٌ جليةٌ واضحةٌ للسَّامعِ، فإذا اتَّصفَ بها منْ ليسَ كمثلهِ شيءٌ، فالصِّفةُ تابعةٌ للموصوفِ، وكيفيَّةُ ذلكَ مجهولةٌ عندَ البشرِ» (¬4). وقالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَكَذَا نُزُولِ الرَّبِّ جلَّ جلاله ... فِي النِّصْفِ مِن لَيْل وَذَاكَ الثَّاني ¬

_ (¬1) إتمام المنَّة بشرح اعتقاد أهل السنَّة (ص71)، دار السنة - الخبر - الطبعة الأولى. (¬2) نونية القحطاني (ص96 - 97)، دار الهجرة - القاهرة - الطبعة الأولى. (¬3) رواه الذهبي في «العلو» (ص1229)، وصححه الألباني رحمه الله في «مختصر العلو» (ص231). (¬4) العلو (ص1229).

إخباره صلى الله عليه وسلم أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب الصلاة

فَيَقُولُ لَسْتُ بِسَائِلٍ غَيْرِي بِأحْـ ... ـوَالِ العِبَادِ أنَا العَظِيمُ الشَّانِ من ذاكَ يَسْألُنِي فَيُعْطى سُؤْلَهُ ... مَنْ ذَا يَتُوبُ إلَيَّ مِنْ عِصْيَانِ من ذاكَ يَسْألُنِي فَأغْفِر ذَنْبَهُ ... فَأَنَا الوَدُودُ الوَاسِعُ الغُفْرَانِ مَنْ ذَا يُريدُ شِفَاءَهُ مِنْ سُقْمِهِ ... فَأَنَا القَرِيبُ مُجِيبُ مَنْ نَادَانِ ذَا شَأنُهُ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ ... حَتَّى يَكُونَ الفَجْرُ فَجْرًا ثَانِ يَا قَومُ لَيْسَ نُزُولُهُ وَعُلوُّهُ ... حَقًّا لَدَيْكُمْ بَلْ هُمَا عَدَمَانِ وَكَذَاكَ يَقُولُ لَيْسَ شَيْئًا عِنْدَكُمْ ... لاَ ذَا وَلاَ قَوْلًا سِوَاهُ ثانِ كلٌّ مَجَازٌ لاَ حَقِيقَةَ تَحْتَهُ ... أوِّلْ وَزِدْ وَانْقُصْ بِلاَ بُرْهَانِ (¬1) السادسُ عَشَرَ: إخبارُهُ صلى الله عليه وسلم أنَّه تردَّد بينَ موسى عليه السلام وبينَ ربِّه ليلةَ المعراجِ بسببِ الصَّلاةِ، فيصعدُ إلى ربِّهِ، ثمَّ يعودُ إلى موسى عليه السلام عدَّةَ مرَّاتٍ (¬2). ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص110). (¬2) شرح الطحاوية (ص287) [طبعة المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة التاسعة].

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: « ... أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ. فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي. فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ. فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً ... قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ. فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ» (¬1). قالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: «وفي الأخبارِ - أي أخبارُ المعراجِ - دلالةٌ واضحةٌ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عرجَ بهِ مِنَ الدُّنيا إلى السَّماءِ السابعةِ وأنَّ الله تعالى فرضَ عليهِ الصَّلواتِ على ما جاءَ في الأخبارِ. فتلكَ الأخبارُ كلُّها دالَّةٌ على أنَّ اللهَ الخالقَ الباري فوقَ سبعِ سماواتٍ» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3887)، ومسلم (259) واللفظ له. (¬2) التوحيد (ص119).

النصوص الواردة في ذكر العرش وصفته وإضافته غالبا إلى خالقه تبارك وتعالى وأنه تعالى فوقه

وقالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: «ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لمَّا عرجَ بهِ إلى ربِّهِ وفرضَ عليهِ الصَّلواتِ الخمسِ، ذكرَ أنَّهُ رجعَ إلى موسى، وأنَّ موسى قالَ لهُ: ارجعْ إلى ربِّكَ فسلهُ التَّخفيفَ إلى أمَّتكَ، كما تواترَ في أحاديثِ المعراجِ (¬1). فمحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم صدَّق موسى في أنَّ ربَّهُ فوق السَّمواتِ (¬2)، وفرعونُ كذَّبَ موسى في أنَّ ربَّهُ فوق. فالمقرُّونَ بذلكَ متَّبعونَ لموسى ومحمَّدٍ، والمكذِّبونَ بذلكَ موافقونَ لفرعونَ» (¬3). وقالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَاللهُ أكْبَرُ مَنْ رَقَا فَوْقَ الطِّبَا ... ق رَسُولُهُ فَدَنَا مِنَ الدَّيَّانِ وَإلَيْهِ قَدْ عَرَجَ الرَّسُولُ حَقِيقَةً ... لاَ تُنْكِرُوا المِعْرَاجَ بِالبُهْتَانِ وَدَنَا مِنَ الجَبَّارِ جلَّ جلاله ... ودَنَا إلَيْهِ الرَّبُّ ذُو الإحْسَانِ (¬4). السابعُ عَشَرَ: النُّصوصُ الواردةُ فِي ذكرِ العرشِ وصفتهِ وإضافتهِ غالبًا إِلَى خالقهِ تبارك وتعالى وأنَّه تَعَالَى فوقهُ. قَالَ الله سبحانه وتعالى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26]. {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]. {إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 55]. {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] أي: لَهُ مكانةٌ ووجاهةٌ عندهُ، وَهُوَ أقربُ الملائكةِ إِلَيْهِ، وفي قولهِ: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} [التكوير: 20] إشارةٌ إِلى علوِّ منزلةِ جبريلَ، إذْ كَانَ قريبًا مِنْ ذي العرشِ سُبْحَانَهُ (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (13/ 173). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 351). (¬3) مجموع الفتاوى (13/ 174). (¬4) الكافية الشافية (ص335). (¬5) التبيان فِي أقسام القرآن (ص89).

وقالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *} [البروج: 14 - 15]، فأضافَ العرشَ إِلَى نفسهِ، كَمَا تضافُ إِلَيْهِ الأشياءُ العظيمةُ الشريفةُ، وهذا يدلُّ عَلَى عظمةِ العرشِ، وقربهِ منهُ سُبْحَانَهُ واختصاصهِ بهِ؛ بلْ يدلُّ عَلَى غايةِ القربِ والاختصاصِ، كَمَا يضيفُ إِلَى نفسهِ بـ «ذو» صفاتهِ القائمةِ بِهِ، كقولهِ: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]. {ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرَّحْمن: 27] (¬1). ويقالُ: ذو العزَّةِ، وذو الملكِ، وذو الرَّحمةِ ونظائرُ ذَلِكَ. فلوْ كَانَ حظُّ العرشِ منهُ حظَّ الأرضِ السَّابعةِ، لكانَ لاَ فرقَ أَنْ يقالَ: ذو العرشِ، وذو الأرضِ (¬2). وقال تعالى: {ويحملُ عرش ربك} [الحاقة: 17]، وإضافةُ العرشِ إلى اللهِ تقتضي «إضافةً تخصُّهُ كما في سائرِ المضافاتِ إلى اللهِ، كقولهِ: بيتُ اللهِ، وناقةُ اللهِ، ونحوِ ذلك. وإذا كانَ العرشُ مضافًا إلى الله في هذه الآية إضافة اختصاصٍ، وذلك يوجبُ أن يكونَ بينهُ وبين اللهِ من النسبةِ ما ليس لغيرهِ، فما يذكرهُ الجهمية منَ الإستيلاء والقدرة وغيرِ ذلك أمرٌ مشتركٌ بين العرش وسائرِ المخلوقاتِ، وهذه الآية تنفي أن يكونَ الثابتُ منَ الإضافةِ هو القدر المشترك، وتوجبُ اختصاصًا للعرش بالله ليس لغيره» (¬3). وتدبَّر - رحمك الله - الأحاديثَ التاليةَ الواردةَ في ذكرِ العرشِ: ¬

_ (¬1) قال شيخ الاسلام رحمه الله في «المجموع» (16/ 296): «وهو سبحانه ذو الجلال والاكرام. فهو المستحِقُّ لأنْ يُجَلَّ، ولأنْ يُكرمَ. والإجلالُ يتضمَّنُ التعظيمَ، والإكرامُ يتضمَّنُ الحمدَ والمحبةَ». (¬2) التبيان فِي أقسام القرآن (ص68). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (3/ 279) طبعة مجمع الملك فهد.

1 - عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما منْ عبدٍ أتى أخًا لهُ يَزُورُه فِي اللهِ إلَّا نادى منادٍ منَ السَّماءِ: أَنْ طِبْتَ وَطَابَتْ لكَ الجَنَّةُ، وإلَّا قالَ اللهُ فِي ملكوتِ عَرْشِهِ: عبدي زَارَ فِيَّ، وعَلَيَّ قِراهُ، فلمْ أَرْضَ لهُ بِقِرًى دُونَ الجَنَّةِ» (¬1). 2 - عنْ جابرٍ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أُذنَ لي أنْ أُحَدِّثَ عنْ مَلَكٍ منْ ملائكةِ اللهِ، منْ حَمَلَةِ العَرْشِ: إنَّ ما بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ، مَسِيرَةَ سَبْعمَائَةِ عَامٍ» (¬2). 3 - عَنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بلالٍ وعندهُ صبرةٌ منْ تمرٍ، فقالَ: «مَا هَذَا يَا بلالُ؟» قَالَ: أُعِدُّ ذَلِكَ لأضيافكَ. قَالَ: «أَمَا تَخْشَى أنْ يكونَ لَكَ دُخَانٌ فِي نارِ جهنَّمَ؟! أَنْفِقْ بلالُ! وَلاَ تَخْشَى منْ ذِي العَرْشِ إِقْلاَلًا» (¬3). 4 - عنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوسَ فإنَّهُ أوسطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفوقَهُ عرشُ الرَّحْمنِ» (¬4). قَالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: «فالخبرُ يصرِّحُ أنَّ عرشَ ربِّنا جلَّ وعلاَ فَوْقَ جنَّتهِ، وقدْ أعلمنَا جلَّ وعلاَ أنَّهُ مستوٍ عَلَى عرشهِ، فخَالِقُنا عالٍ فَوْقَ عَرْشِهِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ جنَّتهِ» (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أبو يعلى فِي مسنده (7/ 166) (4140)، والبزّار «كشف الأستار» (2/ 388 - 389) (1918)، وجوَّد إسناده الحافظ المنذري فِي «الترغيب» (3/ 239). (¬2) رواه أبو داود (4727)، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (3953). (¬3) رواه البزّار (3653) «كشف الأستار»، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1512). (¬4) رواه البخاري (7423). (¬5) كتاب التوحيد (ص104).

إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى، فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات

5 - عنْ جويريةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجَ منْ عندهَا بكرةً حينَ صلَّى الصبحَ، وهي في مسجدها. ثمَّ رجعَ بعدَ أنْ أضحى، وهيَ جالسةٌ. فقالَ: «ما زِلْتِ على الحالِ التي فَارَقْتُكِ عليهَا؟» قالتْ: نعمْ. قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلاَثَ مرَّاتٍ. لَوْ وُزِنَتْ بما قُلْتِ مُنْذُ اليَوْمَ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ ورِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» (¬1). قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «المقصودُ بالحديثِ نهايةُ ما يمكنُ منَ المعدودِ، وغايةُ ما يمكنُ منَ القولِ. والمحبوبُ هوَ كلامُ الرَّبِّ ورِضَاهُ، وذِكْرُ عددِ خلقِهِ، وزِنَةِ عَرْشِهِ (¬2). فهذا يُبَيِّنُ أنَّ زنةَ العرشِ أثقلُ الأوزانِ» (¬3). الثامنُ عَشَرَ: إخبارهُ تعالى عنْ فرعونَ أنَّهُ رامَ الصُّعودَ إلى السَّمَاء ليطِّلع إلى إله موسى، فيكذِّبهُ فيما أخبرهُ منْ أنَّهُ سبحانهُ فوقَ السَّماوات. قالَ الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ *} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2726). (¬2) بيان تلبيس الجهمية (1/ 575). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 553).

ففي هذهِ الآيةِ بيانٌ بيِّنٌ، ودلالةٌ ظاهرةٌ، على أنَّ موسى قدْ كانَ أعلمَ فرعونَ أنَّ ربَّهُ - جلَّ وعلا - أعلى وفوق، فمنْ أجلِ ذلكَ أمرَ ببناءِ الصَّرحِ، ورامَ الاطِّلاعَ إليه، واتَّهمَ موسى بالكذبِ في ذلكَ. والجهميَّةُ لا تعلمُ أنَّ الله فوقَها بوجودِ ذاتهِ فهمْ أعْجزُ فهمًا منْ فرعونَ (¬1). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «فكذَّبَ فرعونُ موسى في إخْباره إيَّاهُ بأنَّ ربَّهُ فوقَ السَّماءِ. وعندَ الجهميَّةِ: لا فرقَ بينَ الإخْبارِ بذلكَ، وبينَ الإخبارِ بأنَّهُ يأكلُ ويشْربُ، وعلى زعمهمْ يكونُ فرعونُ قدْ نزَّهَ الرَّبَّ عمَّا لا يليقُ بهِ، وكَذَبَ موسى في إخْبارهِ بذلكَ إذْ مَنْ قالَ عندهم: إنَّ ربَّهُ فوقَ السَّمواتِ فهوَ كاذبٌ. فهمْ في هذا التَّكذيبِ موافقونَ لفرعونَ، مخالفونَ لموسى ولجميعِ الأنبياءِ، ولذلكَ سمَّاهم أئمَّةُ السنَّة فرْعونيَّة، قالوا: وهمْ شرٌّ مِنَ الجهميَّةِ؛ فإنَّ الجهميَّةَ يقولونَ: إنَّ الله في كلِّ مكانٍ بذاتهِ، وهؤلاءِ عطَّلوهُ بالكليِّةِ، وأوقعوا عليهِ الوصفَ المطابقَ للعدمِ المحضِ. فأيُّ طائفةٍ منْ طوائفِ بني آدمَ أثبتتِ الصانعَ على أيِّ وجهٍ كانَ قولُهم خيرًا منْ قولِهم» (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير الآية في «جامع البيان» (م12/ج24/ص82 - 83)، والرد على الجهمية (ص21) للدارمي، والتمهيد (7/ 133)، والإبانة (ص106)، والحجة في بيان المحجة (2/ 115)، والتوحيد (ص114 - 115) لابن خزيمة. (¬2) إعلام الموقعين (2/ 317).

وقالَ ابنُ قدامة رحمه الله: «والمخالفُ في هذهِ المسألةِ قدْ أنكرَ هذا يزعمُ أنَّ موسى كاذبٌ في هذا بطريقِ القطعِ واليقينِ، مع مخالفتهِ لرَبِّ العالمينَ، وتخطئتهِ لنبيِّهِ الصَّادقِ الأمينِ، وتركهِ منهجَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، والأئمَّةِ السَّالفينَ، وسائرِ الخلقِ أجمعينَ. ونسألُ الله تعالى أنْ يعصمَنا مِنَ البدعِ برحمتهِ، ويوفِّقَنا لاتِّباعِ سنَّتهِ» (¬1). وقالَ السَّعديُ رحمه الله في قولهِ تعالى: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]: «فهذا صريحٌ في تكذيبهِ لموسى في قولهِ إنَّ الله فوقَ السَّماواتِ والخلقِ كلِّهم، وتبعَ فرعونَ على قولهِ هذا جميعُ «الجهميَّةِ الفرعونيَّةِ»، ورموا ببلائهم «أهلَ السنَّةِ والجماعةِ» وقالوا: إنَّ مذهبَهم مذهبُ فرعونَ الذي اعتقدَ علوَّ الله على خلقهِ، وهذا منَ العجائبِ وقلبِ الحقائقِ (¬2). ومِنَ المعلومِ أنَّ «الجهميَّةَ» أولى بفرعونَ في هذهِ الحالةِ، لأنَّهُ قالها إنكارًا، وهو نفسُ مذهبِ «الجهميَّةِ»، فإنَّهم أنكروا كلامَ اللهِ وعلوَّهُ على خلقهِ، كمَا أنكرَ فرعونُ ذلكَ بتكذيبهِ لرسالةِ موسى ولعلوِّ الله، وليسَ بينهم فرقٌ، إلَّا أنَّ فرعونَ صرَّحَ بالإنكارِ وهمْ موَّهوا العباراتِ وزخرفوا الألفاظَ، وقبَّحوا الحسنَ وحسَّنوا القبيحَ، وسَمَّوا أنفسهم أهلَ الحقِّ، وسَمَّوا غيرهم أهلَ الباطلِ، فانخدعوا لهذهِ الزخارفِ وخدعوا غيرهُم» (¬3). وقالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَمِنَ المَصَائِبِ قَولُهُمْ إنَّ اعتِقَا ... دَ الفوقِ مِنْ فِرْعَونَ ذِي الكُفرانِ ¬

_ (¬1) إثبات صفة العلوّ (ص65). (¬2) توضيح الكافية الشافية (ص107). (¬3) توضيح الكافية الشافية (ص118)، تحقيق: أشرف عبد المقصود.

تنزيه الله سبحانه وتعالى نفسه عن موجب النقصان، وعما يوجب التمثيل والتشبيه

فَإذَا اعتقَدْتُم هَذَا فأشْيَاعٌ لَهُ ... أنْتُمْ وَذَا مِنْ أعظَمِ البُهْتَانِ فاسْمَعْ إذًا مَنْ ذَا الذِي أوْلَى بِفِرْ ... عَوْنَ المعطِّلِ جَاحِدِ الرَّحمنِ وَانظُرْ إلَى مَا جَاءَ فِي القَصَصِ التِي ... تَحْكِي مَقَالَ إِمَامِهِمْ بِبَيَانِ واللهُ قَدْ جَعَلَ الضَّلاَلَةَ قُدْوةً ... بِأئِمَّةٍ تَدْعُو إلَى النِّيرانِ فإِمَامُ كُلِّ مُعَطِّلٍ فِي نَفْيِهِ ... فِرْعَونُ مَعْ نَمْرُودَ مَعْ هَامَانِ طَلَبَ الصُّعُودَ إلَى السَّمَاءِ مُكَذِّبًا ... مُوسَى وَرَامَ الصَّرْحَ بالبُنْيَانِ بَلْ قَالَ مُوسَى كَاذِبٌ فِي زَعْمِهِ ... فَوْقَ السَّمَاءِ الرَّبُّ ذُو السُّلْطانِ فَابْنُوا لِيَ الصَّرْحَ الرَّفِيعَ لَعَلَّنِي ... أرْقى إليْهِ بِحِيلَةِ الإِنْسَانِ وأظنُّ مُوسَى كَاذِبًا فِي قَولِهِ ... اللهُ فَوقَ العَرْشِ ذُو السُّلطَانِ وكذاك كذَّبهُ بأنَّ إلهَهُ ... نَادَاهُ بالتَّكليمِ دُونَ عِيَانِ هُوَ أنْكَرَ التَّكْلِيمَ وَالفَوقِيَّةَ الـ ... ـعُلْيَا كَقَولِ الجَهْمِ ذِي صَفْوَانِ فَمَنِ الذِي أوْلَى بِفِرْعَون إذًا ... مِنَّا ومِنْكُمْ بَعْدَ ذَا التِّبْيَانِ (¬1). التاسعُ عَشَرَ: تنزيهُ اللهِ سبحانه وتعالى نفسَهُ عن موجبِ النُّقصانِ، وعمَّا يوجبُ التمثيلَ والتشبيهَ. فنزَّهَ اللهُ نفسَهُ عَنِ الوالدِ والولدِ والزوجةِ والكفؤ، قالَ سبحانه وتعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص:3 - 4]، وقالَ عزَّ وجلَّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا *} [الجن: 3]. ونزَّهَ نفسهُ عَنِ اللُّغوبِ قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] لكمالِ قدرتهِ، وأنَّهُ لا يلحقهُ اللُّغوبُ في الأعمالِ العظيمةِ مثلَ خلقهِ السَّمواتِ والأرضَ، كما يلحقُ المخلوق اللغوب إذا عَمِلَ عملًا عظيمًا. ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص130 - 131).

ونزَّهَ نفسَهُ عمَّا لمْ يقلْهُ أحدٌ ولمْ ينسبهُ إليهِ، تحذيرًا منْ وقوعهَا حتَّى لا تقع بخاطرِ أحدٍ. فنزَّهَ نفسهُ عَنِ الطعمِ مع أنَّ أحدًا لمْ يصفهُ بهِ، قالَ الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]. ونزَّهَ نفسهُ عَنِ الموتِ، فقالَ سبحانه وتعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] لكمالِ حياتهِ. ونَزَّهَ نفسهُ عَنِ السنةِ والنَّومِ، فقالَ سبحانه وتعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] لكمالِ حياتهِ وقيوميَّتهِ، إذِ النَّوْمُ أخو الموتِ. ولهذا كانَ أهلُ الجنَّةِ لا ينامونَ مَعَ كمالِ الراحةِ، كمَا لا يموتونَ. ونَزَّه نفسهُ عَنِ النِّسيانِ مع أنَّ أحدًا لمْ ينْسبهُ إلى شيءٍ منْ ذلكَ، قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، لكمالِ علمهِ وحفظهِ. ونَزَّهَ نفسهُ عَنِ الظُّلمِ فقالَ سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] لكمالِ عدلهِ وغناه ورحمتهِ. ونَزَّه نفسهُ عَنِ العبثِ والباطلِ، قالَسبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الدخان: 38 - 39] لكمالِ حكمتهِ. ونزَّهَ نفسهُ عنْ مقالةٍ قالها بعضُ طوائفِ اليهودِ أنَّ العُزَيْرَ ابنُ الله.

فإذا كانَ الله سبحانه وتعالى قدْ نَزَّهَ نفسهُ عمَّا تقدَّمَ منَ العيوبِ والنَّقائصِ، فلأي شيءٍ إذًا لمْ ينزِّه نفسهُ عنْ تلكَ المقالةِ - وهي كونهُ تعالى فوقَ عرشهِ - إذا كانتْ متضمنةً لمعنًى فاسدٍ لا يجوزُ اعتقادهُ في حقِّ الله تعالى، مَعَ شهرةِ هذهِ المقالةِ، وتفاقمِ أمْرِهَا، فكانتْ هي أحقَّ منْ هذا كلِّهِ للتنبيهِ على فسادهَا والتحذيرِ منهَا. فكيفَ والأمرُ بالعكسِ فهوَ دائمًا يبدي ويعيدُ في ذكرِ علوِّهِ وفوقيَّتهِ ويقرِّرُ ذلكَ بكلِّ دليلٍ وبرهانٍ، بأوجزِ العباراتِ وأدلِّهَا وأبسطهَا وأقطعهَا للعذرِ وألزمهَا للحجَّةِ. فلو فرضَ أنَّ النُّصوصَ خاليةٌ منْ تقريرِ العلوِّ والاستواءِ على العرشِ لكانَ تركهُ تنزيهه عَنِ العلوِّ أكبرَ دليلٍ على تقريرِ ذلكَ، ورضاهُ بهِ والعِلم بأنَّهُ غيرُ منافٍ لكمالهِ، فكيفَ وهوَ معَ ذَلِكَ والأدلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كلُّها على خلافِ قولِ «الجهميَّةِ» (¬1). قالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله: «إنَّهُ عندَ المعطِّلةِ النُّفاةِ كونُ الله سبحانهُ فوقَ العالمِ مستوٍ على عرشهِ بمنزلةِ كونهِ يأكلُ ويشربُ وينامُ، بلْ هوَ بمنزلةِ إثباتِ الزوجةِ والولدِ لهُ في كونِ هذا منافيًا لإلهيتهِ وربوبيتهِ وقدمهِ وكون علوِّهِ على خلقهِ واستوائهِ على عرشهِ منافيًا لذلكَ. وهذا منْ أعظمِ القدحِ في العقولِ والفطرِ والشرائعِ والنبواتِ والكتبِ المنزلةِ، فإنَّها فرَّقتْ بيَن الأمرينِ تفرقةً معلومةً بالاضطرارِ، لكلِّ منْ لهُ أدنى مسكةٍ منْ عقلٍ. فمنْ سوَّى بينَ الأمرينِ، وجعلَ تنزيهَ الرَّبِّ عنهَا منْ لوازمِ الإقرارِ بهِ فليبكِ على عقلهِ وإيمانهِ» (¬2). ¬

_ (¬1) توضيح الكافية الشافية (ص107 - 108). (¬2) الصواعق (ص1313).

من البراهين الدالة على علو الله على خلقه واستوائه على عرشه الدليل العظيم والبرهان القاطع

العشرون: مِنَ البراهين الدَّالَّةِ على علوِّ الله على خلقهِ واستوائهِ على عرشهِ الدليلُ العظيمُ والبرهانُ القاطعُ، وهو ما يحصلُ منْ مجموعِ الأدلَّةِ السابقةِ وغيرها. فإنَّهُ يحصلُ منْ سردِ أنواعهَا وأفرادهَا ونصوصهَا وقواطعهَا ما يوصلُ إلى اليقينِ الاضطراريِّ والعلمِ الضروريِّ الذي لا يمكنُ دفعهُ ويحصلُ الجزمُ التَّامُ الذي لا ريبَ فيهِ بعلوِّ الله وارتفاعهِ واستوائهِ على عرشهِ. وذلكَ أنَّ واحدًا مِنَ الأدلَّةِ يفيدُ العلمَ بالمقصودِ، ثمَّ الآخرُ كذلكَ، ثمَّ يستفادُ من انْضمامِ أحدهما للآخرِ دلالةٌ أخْرى، ثمَّ منْ مجموعِ الجميعِ دلالةٌ هي أقْوى أنواعِ الدلالاتِ، فتتزايدُ شواهدُ الإيمانِ، وتتعاونُ أدلَّتهُ حتى يكونَ الإيمانُ في القلبِ أرْسخَ مِنَ الجبالِ (¬1). فأيُّ بيانٍ للمقصودِ أعظمُ منْ هذا؟ (¬2). أيَرُدُّ ذُو عقْلٍ سَليمٍ قَطُّ ذَا ... بَعْدَ التَّصَوُّرِ يَا أولِي الأذْهَانِ واللهِ مَا رَدَّ امرُؤ هَذَا بِغَيْـ ... ـرِ الجَهْلِ أوْ بِحَميَّةِ الشَّيطَانِ (¬3) وهذهِ الأنواعُ مِنَ الأدلَّةِ لو بسطتْ أفرادهَا لبلغتْ نحوَ ألفِ دليلٍ (¬4). ونحنُ نطالبُ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «بجوابٍ صحيحٍ عنْ دليلٍ واحدٍ ونعلمُ قبلَ المطالبةِ أنَّهُ لو اجتمعَ كلُّ جهميٍّ على وجهِ الأرضِ لما أجابوا عنهُ بغير المكابرةِ والتَّشنيعِ على أهلِ الإثباتِ بالتَّجسيمِ والتنفيرِ والسَّبِّ» (¬5) والطعنِ والافتراءِ والتكفيرِ. وَاللهِ مَا لَكُمُ جَوَابٌ غَيْرُ تَكْـ ... ـفِيرٍ بِلاَ عِلْمٍ وَلاَ إيقَانِ (¬6) وهذهِ وظيفةُ كلِّ مبطلٍ قامتْ عليهِ حجةُ الله. * * * ¬

_ (¬1) توضيح الكافية الشافية (ص338). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (5/ 55). (¬3) الكافية الشافية (ص112). (¬4) شرح الطحّاوية (2/ 386). (¬5) الصواعق (ص294 - 295). (¬6) الكافية الشافية (ص320).

أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم في العلو والفوقية

أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي العُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لمَّا كانَ الكلامُ في أسماءِ اللهِ وصفاتهِ وأفعالهِ وخلقهِ وأمرهِ نفيًا وإثباتًا، مدارهُ على الوحي، كانَ أسعدَ النَّاسِ بالصَّوابِ فيهِ مَنْ تلقَّى ذلكَ منْ مشكاةِ الوحي المبين، ورغبَ بعقلهِ وفطرتهِ وإيمانهِ عن آراءِ المتهوِّكينَ، وتشكيكاتِ المتكلِّمينَ، وتكلُّفاتِ المتنطِّعينَ، واستمطرَ ديمَ الهدايةِ مِنْ كلماتِ أعلمِ الخلقِ بربِّ العالمينَ، فإنَّ كلماتهِ الجوامع النَّوافعِ في هذا البابِ وفي غيرهِ كَفَتْ وشَفَتْ، وجمَّعت وفرَّقتْ، وأوضحتْ وبيَّنتْ، وحلَّتْ محلَّ التفسيرِ والبيانِ لما تضمَّنهُ القرآنُ. ثمَّ تلاهُ أصحابهُ منْ بعدهِ على نهجهِ المستقيمِ، وطريقِهِ القويمِ، فجاءتْ كلماتهم كافيةً شافيةً، مختصرةً نافعةً، لقربِ العهدِ ومباشرةِ التلقِّي مِنْ تلكَ المشكاةِ، التي هيَ مظهرُ كلِّ نورٍ، ومنبعُ كلِّ خيرٍ، وأساسُ كلِّ هدًى، ثمَّ سلكَ على آثارهم التابعونَ لهم بإحسانٍ، فاقتفوا طريقَهُم، ورَكِبوا منهاجَهُمْ، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليهِ (¬1). وفيما يلي أوردُ أقوالهم في العلوِّ والفوقيَّةِ مستعينًا بالله تباركَ وتعالى. 1 - حُمَيدُ بنُ ثوَرٍ أبو المثنى الهلالي، شاعرٌ مشهورٌ إسلاميٌّ، أدركَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالسنّ ... روى الزُبيرُ بنُ بكارٍ عنْ أبيهِ، أنَّ حميدَ بنَ ثورٍ وفدَ على بعضِ بني أميّة، فقالَ: ما جاءَ بكَ! فقال: أتاكَ بي اللهُ الذي فوقَ عَرْشِهِ ... وخيرٌ ومعروفٌ عليك دليلُ (¬2) ¬

_ (¬1) شفاء العليل (1/ 45 - 46). (¬2) تاريخ الإسلام - حوادث ووفيات (61 - 80هـ) (ص111).

2 - ابن عباس

2 - ابنُ عَبّاسٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّه دخلَ على عائشةَ رضي الله عنها وهيَ تموتُ، فقالَ لهَا: «كنتِ أحبَّ نساءِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولمْ يكُنْ يُحِبُّ إلَّا طيِّبًا، وأنزلَ اللهُ براءَتَكِ منْ فَوْقِ سَبْعِ سماواتٍ» (¬1). وقال رضي الله عنه فِي قولهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]: لم يستطعْ أنْ يقولَ: منْ فوقهم؛ عَلِمَ أنَّ الله منْ فوقهم (¬2). 3 - زينبُ بنتُ جَحْشٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ زَيْنَبَ بِنت جَحْشٍ كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقُولُ: «زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سماوات» وفي لفظٍ: كانتْ تقولُ: «إِنَّ اللهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ» (¬3). 4 - ابنُ مَسْعُودٍ قالَ ابنُ مسعود رضي الله عنه: «العَرْشُ فَوْقَ المَاءِ، واللهُ فَوْقَ العَرْشِ لا يَخْفَى عليهِ شيءٌ منْ أَعْمَالِكُم» (¬4). 5 - عَائِشَةُ قالتْ رضي الله عنها: «وأيمُ اللهِ إنِّي لأَخْشَى لو كُنْتُ أُحِبُّ قَتْلَهُ لَقَتَلْتُ - تعني عثمان ـ، وَلَكِنْ عَلِمَ اللهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ أَنِّي لَمْ أُحِبَّ قَتْلَهُ» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (84) بسند حسن. (¬2) رواه اللالكائيّ فِي «شرح أصول السنّة» (661) بسند حسن. (¬3) أخرجه البخاري (7420 و7421). (¬4) أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص401) بسند حسن. (¬5) أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (83) بسند صحيح.

6 - أبو ذر

6 - أَبو ذَرٍّ عَنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: «لمَّا بَلغَ أبا ذرٍّ مَبعثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأخيهِ: ارْكَبْ إلى هذا الوادِي فاعْلَمْ لي عِلْمَ هذا الرَّجُلِ الذي يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ» (¬1). قولهُ: (يأتيهِ الخبرُ مِنَ السَّماءِ) المرادُ بهِ الوحيُ. وهلْ يوحي إلَّا الله سبحانه وتعالى. فهوَ كغيرهِ مِنَ الأحاديثِ الدَّالَّةِ على العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ. 7 - ابنُ عُمَرَ عن زيدِ بنِ أَسْلَمٍ قالَ: مَرَّ ابنُ عمرُ براعٍ فقال: هلْ منْ جَزَرَةٍ؟ فقالَ: ليسَ هاهنا ربُّها، قالَ ابنُ عمر: تقولُ لهُ: أكلَهَا الذئبُ. قالَ: فرفَعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ وقالَ: فَأَيْنَ اللهُ؟ فقالَ ابنُ عمر: أنا واللهُ أحقُّ أنْ أقولَ: أَيْنَ اللهُ؟ واشترى الراعي والغنمَ، فأعتقهُ، وأعطاهُ الغنمَ (¬2). 8 - مَسروقٌ كَانَ مسروقٌ إِذَا حَدَّثَ عنْ عائشةَ قَالَ: حدَّثتني الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ، حبيبةُ حبيبِ اللهِ، المُبَرَّأَةُ منْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ (¬3). 9 - أيوبُ السُّخْتِيَانِيُّ قالَ أيُّوبُ السُّخْتِيَانِيُّ - وذكرَ المعتزلةَ -: «إِنَّما مدارُ القومِ على أنْ يَقُولوا ليسَ في السَّماءِ شيءٌ» (¬4). 10 - سليمان التِّيميُّ قَالَ سليمانٌ التِّيمِيُّ رحمه الله: «لَوْ سُئِلتُ أينَ اللهُ؟ لقلتُ: فِي السَّمَاءِ» (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3522 و3861)، ومسلم (2474). (¬2) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص860)، وجوّد إسناده المحدّث الألباني رحمه الله في «مختصر العلو» (ص127). (¬3) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص868) وقال: إسناده صحيح. (¬4) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص914) وقال: «هذا إسناد كالشمس وضوحًا، وكالأسطوانة ثبوتًا عن سيِّد أهل البصرة وعالمهم». (¬5) أخرجه الذهبي في العلو (ص919) بسند صحيح.

11 - مقاتل بن حيان (قبل150هـ)

11 - مقاتلُ بنُ حِيَّانَ (قبل150هـ) قالَ عالمُ خراسانَ مقاتلُ بن حِيَّانَ رحمه الله في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]: «هُوَ على عَرْشِهِ وعِلْمُهُ مَعَهُمْ» (¬1). 12 - الأَوزاعيُّ (157هـ) قالَ عالمُ الشَّامِ الأوزاعيُّ رحمه الله: كُنَّا - والتَّابعونَ متوافرونَ - نقولُ: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ على عرشهِ، ونؤمنُ بما وَرَدَتْ بهِ السُّنَّةُ منْ صِفَاتِهِ» (¬2). قالَ شيخُ الاسلامِ ابنُ تيميَّةَ معلِّقًا: «فقدْ حكى الأوزاعيُّ - وهوَ أحدُ الأئمَّةِ الأربعةِ في عصرِ تابعي التابعينَ الذين همْ مالكٌ، إمامُ أهلِ الحجازِ، والأوزاعيُّ إمامُ أهلِ الشَّامِ، والليثُ إمامُ أهلِ مصرَ، والثَّوريُّ إمامُ أهلِ العراقِ - حكىَ شُهْرَةَ القولِ في زمنِ التَّابعينَ بالإيمانِ بأنَّ الله فوقَ العرشِ، وبصفاتهِ السَّمعية (¬3)؛ وإنَّما قالَ الأوزاعيُّ هذَا بعدَ ظهورِ مذهبِ جهمٍ، المنكِرِ لكونِ اللهِ فوقَ عرشهِ، والنَّافي لصفاتهِ، ليعرفَ النَّاسُ أنَّ مذهبَ السَّلف كانَ خلافَ ذلكَ» (¬4). فقد تبيَّنَ للقارئ اللَّبيبِ أنَّ نفيَ علوِّ الله على العرشِ، مقولةُ جهمِ بنِ صفوانَ الضالُّ المبتدعُ، رأسُ الجهميَّةِ، الذي زرَعَ شرًّا عظيمًا. فكيفَ تطيبُ نفسُ مؤمنٍ، بلْ نفسُ عاقلٍ: أن يسلكَ سبيلَ الجهميَّةِ، ويَدَعَ سبيلَ الذين أنعمَ الله عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصالحينَ؟! فبعدًا لمن كان جهمٌ سلفَهُ، واستبدلَ سبيلَهُ بسبيلِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وصحابتِهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في «مسائله» (ص263) بسند حسن. (¬2) أخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص408)، وصححه الذهبي فِي «تذكرة الحفّاظ» (1/ 182). (¬3) والمراد بالصفاتِ السمعيةِ: هي الصفاتُ التي ثَبتت عن طريق السَّمع فقط كالاستواء والنزول. (¬4) الفتوى الحموية الكبرى (ص300 - 302)، تحقيق: حمد بن عبد المحسن التويجري.

13 - سفيان الثوري عالم زمانه (161هـ)

وما عوضٌ لنا منهاجُ جهمٍ ... بمنهاجِ ابنِ آمنةَ الأمينِ فرحمَ الله من قال بقولِ أهل الحديث الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وتركَ دينَ جهمٍ وشيعتَهُ. جعلنا الله سبحانه وتعالى ممن هُديَ إلى صراطه المستقيم، ووفَّقنا لاتباع رضى ربِّ العالمين، والاقتداء بنبيه محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، والسلف الصالحين. 13 - سفيانُ الثوريُّ عالمُ زمانهِ (161هـ) قَالَ معدانُ: سألتُ سفيانَ الثوريَّ عنْ قولهِ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] قَالَ: عِلْمُهُ (¬1). 14 - مالك إمام دار الهجرة (179هـ) قالَ الإمامُ مالك رحمه الله: «اللهُ في السَّمَاءِ، وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكَانٍ لا يَخْلُو منهُ شَيءٌ» (¬2). 15 - حمَّادُ بنُ زيدٍ البصريّ (179هـ) قال حمَّادُ بنُ زيدٍ رحمه الله: «إنَّما يَدُورُونَ على أنْ يقولوا ليسَ في السَّمَاءِ إلهٌ. يعني الجهميَّة» (¬3). قال الذهبيُّ رحمه الله معقِّبًا: «مقالةُ السَّلفِ وأئمَّةِ السنَّةِ؛ بلْ والصَّحابةُ واللهُ ورسولهُ والمؤمنونَ، أنَّ الله عزَّ وجلَّ فِي السَّمَاءِ، وأنَّ اللهَ عَلَى العرشِ، وأنَّ اللهَ فَوْقَ سماواته، وأنَّه ينزلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيا، وحُجَّتهم على ذلكَ النُّصوصُ والآثارُ. ومقالةُ الجهميَّةِ: أنَّ الله تباركَ وتعالى في جميعِ الأمكنةِ، تعالى الله عنْ قولهم، بلْ هوَ معنا أينمَا كنَّا بعلمهِ. ¬

_ (¬1) أخرجه الذهبي في «السير» (7/ 274) وإسناده صحيح. (¬2) أخرجه أبو داود في «مسائله» (ص263) بسند صحيح. (¬3) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص970)، وصحح إسناده شيخ الإسلام في الحموية (ص337).

16 - عبد الله بن المبارك، شيخ الإسلام (181هـ)

ومقالةُ مُتَأَخِّري المتكلِّمينَ [مِنَ المعتزلةِ والماتريديةِ والأشعريةِ]: أنَّ الله تعالى ليسَ في السَّمَاءِ، ولا على العرشِ، ولا على السَّمَاوَاتِ، ولا في الأرضِ، ولا داخلَ العالمِ، ولا خارجَ العالمِ، ولا هوَ بائنٌ عنْ خلقهِ ولا متَّصلٌ بهم! وقالوا: جميعُ هذهِ الأشياءِ صفاتٌ للأجسامِ والله تعالى فمنزَّهٌ عَنِ الجسمِ!. قالَ لهم أهلُ السنَّةِ والأثرِ: نحنُ لاَ نخوضُ في ذلكَ، ونقولُ ما ذكرناهُ اتِّباعًا للنُّصوصِ، وإنْ زعمتم ... ولا نقولُ بقولكمْ، فإنَّ هذهِ السلوبَ نعوتُ المعدومِ، تعالى الله جلّ جلاله عَنِ العدمِ، بلْ هوَ موجودٌ متميِّزٌ عنْ خلقهِ، موصوفٌ بما وصفَ بهِ نفسَهُ، منْ أنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ بِلاَ كَيْفٍ» (¬1). أقولُ: أرجو أنْ يتدبَّرَ كلامُ هذا الإمامِ. فقدْ ذكرَ في مسألةِ علوِّ الله تعالى ثلاثةَ مذاهبَ: الأولُ: مذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ أصحابِ الحديثِ: وهو أنَّ الله فوقَ العالَمِ بائنٌ منْ خَلْقِهِ عَالٍ على العَرْشٍ، وأنَّ هذا هو قولُ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم وجميعِ المؤمنين. والثاني: قولُ أصحابِ جَهْم بنِ صَفْوانَ: وهو أنَّ الله تعالى في كلِّ مكانٍ، وهو قولُ الحُلوليةِ. والثالثُ: قولُ المُعَطِّلةِ كالمعتزلةِ والماتريديةِ والأشعريةِ: وهو أنَّ الله تعالى لا فوقَ العالَمِ ولا تحتهُ ولا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ ولا مُتَّصِلٌ بالعالَمِ ولا منفصلٌ عنهُ (¬2). 16 - عبدُ الله بنُ المباركِ، شيخُ الإسلامِ (181هـ) قالَ عليُّ بنُ الحسنِ بن شقيق: قلتُ لعبدِ الله بنِ المبارك: كيفَ نعرفُ ربَّنا عزَّ وجلَّ؟ قَالَ: «بِأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى العَرْشِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ» (¬3). ¬

_ (¬1) العلو (ص970). (¬2) التنبيهات السنية على الهفوات العقدية (ص378). (¬3) أخرجه الدارمي في «الرد على الجهمية» (67) بسند صحيح.

17 - جرير الضبي، محدث الري (188هـ)

فرحم الله ابن المبارك، لقد أتى بأصل المعرفة التي لا يصلح لأحدٍ معرفةٌ ولا إقرارٌ بالله سبحانه إلَّا بها، وهو المباينة لخلقه جلَّ وعلا، والعلو على العرش (¬1). فمن لم يعرفه بذلك، لم يعرف إلهه الذي يعبده. قالَ الذهبيُّ معقِّبًا: قلتُ: الجهميَّةُ يقولونَ: إنَّ الباري تعالى في كلِّ مكانٍ، والسَّلفُ يقولونَ: إنَّ عِلْمَ الباري في كلِّ مكانٍ، ويحتجُّونَ بقولهِ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، يعني بالعلمِ، ويقولونَ: إنَّهُ على عَرْشِهِ اسْتَوَى كمَا نطقَ بهِ القرآنُ والسنَّةُ ... ومعلومٌ عندَ أهلِ العلمِ مِنَ الطوائفِ أنَّ مذهبَ السَّلفِ إمرارُ آياتِ الصِّفاتِ وأحاديثهَا كمَا جاءتْ منْ غيرِ تأويلٍ ولا تحريفٍ، ولا تشبيهٍ ولا تكييفٍ، فإنَّ الكلامَ في الصِّفاتِ فرعٌ على الكلامِ في الذَّاتِ المقدَّسةِ. وقدْ عَلِمَ المسلمونَ أنَّ ذاتَ الباري موجودةٌ حقيقةً، لا مِثْلَ لها، وكذلكَ صفاتهُ تعالى موجودةٌ، لا مِثْلَ لها (¬2). 17 - جرير الضبيُّ، محدِّث الري (188هـ) قال جريرُ بنُ عبدِ الحميد رحمه الله: «كلامُ الجهميَّةِ أَوَّلهُ عَسَلٌ وآخِرُهُ سُمٌّ، وإنَّما يحاولونَ أنْ يقولوا: ليسَ في السَّمَاءِ إلهٌ» (¬3). 18 - عبدُ الرحمنِ بنُ مهدي (198هـ) قال الذهبيُّ رحمه الله: نقلَ غيرُ واحدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عنْ عبدِ الرحمنِ - الذي يقولُ فيهِ عليُّ بنُ المديني: حافظُ الأمَّةِ، لو حلفتُ بينَ الركنِ والمقامِ لحلفتُ أنِّي ما رأيتُ أعلمَ منْ ابنِ مهدي - قال: ¬

_ (¬1) فتح المجيد في شرح التوحيد (4/ 2107). (¬2) السير (8/ 402). (¬3) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص985)، وجوَّد إسناده المحدِّث الألباني رحمه الله في «مختصر العلو» (ص151).

19 - أبو معاذ البلخي الفقيه (199هـ)

«إنَّ الجهميَّةَ أرادوا أنْ يَنْفُوا أن يكونَ اللهُ كَلَّمَ موسى؛ وأنْ يكونَ على العَرْشِ، أرى أنْ يُسْتَتابُوا، فإنْ تابوا وإلا ضُرِبَتْ أعناقُهُمْ» (¬1). 19 - أبو معاذ البلخي الفقيه (199هـ) قال أبو قُدامةَ السرخسيُّ: سمعتُ أبا معاذٍ خالدَ بنَ سليمانَ بفرغانةَ يقولُ: «كانَ جهمٌ على معبرِ ترمذ، وكانَ فصيحَ اللِّسانِ، ولمْ يكنْ لهُ علمٌ ولا مجالسةٌ لأهلِ العلمِ، فكلَّم السمنية، فقالوا لهُ: صفْ لنَا ربَّكَ عزَّ وجلَّ الذي تعبدهُ، فدخلَ البيتَ لا يخرجُ منهُ، ثمَّ خرجَ إليهم بعدَ أيَّامٍ، فقالَ: هوَ هذا الهواءُ مَعَ كلِّ شيءٍ، وفي كلِّ شيءٍ، ولا يخلو منهُ شيءٌ، فقالَ أبو معاذ البلخيُّ الفقيهُ: كذَبَ عدوُّ اللهِ، بل اللهُ جلّ جلاله على العَرْشِ كمَا وَصَفَ نَفْسَهُ» (¬2). وقال يحيى بنُ أيوب: سمعتُ أبا نُعيمٍ البلخيَّ قالَ: «كَانَ رجلٌ منْ أهلِ مرو صديقًا لجهمٍ ثمَّ قطعهُ وجفاهُ فقيلَ لهُ: لِمَ جفوتهُ؟ فقالَ: جاء منهُ ما لا يحتملُ، قرأتُ يومًا آيةَ كذاَ وكذَا - نسيهَا يحيى - فقالَ: ما كانَ أظرف محمَّدًا، فاحتملتهَا، ثمَّ قرأ سورةَ طه، فلمَّا قالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] قالَ: أمَا واللهِ لو وجدتُ سبيلًا إلى حَكِّها لَحَكَكْتُهَا مِنَ المصحفِ، فاحتملتهَا. ثمَّ قرأَ سورةَ القصصِ، فلمَّا انتهى إلى ذكرِ موسى قالَ: ما هذا؟ ذكر قصةً في موضعٍ فلم يُتِمَّها ثمَّ ذكرَ ههنا فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ رمى بالمصحفِ من حِجْرِهِ برجليهِ!!! فَوَثَبْتُ عليهِ» (¬3). فهذا شيخُ النَّافينَ لعلوِّ الربِّ عَلَى عرشهِ ومُبَايَنَتِهِ منْ خَلْقِهِ. ¬

_ (¬1) العلو (ص1038). (¬2) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1017) بسند صحيح. (¬3) رواه البخاري في «خلق أفعال العباد» (رقم70) بسند صحيح.

20 - منصور بن عمار (200هـ)

وذكرَ ابنُ أبي حاتم عنهُ بإسنادهِ عَنِ الأصمعيِّ قَالَ: قَدِمَتِ امرأةُ جَهْمٍ فقالَ رجلٌ عندهَا: اللهُ عَلَى عَرْشِهِ. فقالتْ: محدودٌ عَلَى محدودٍ. قَالَ الأصمعيُّ: هي كافرةٌ بهذهِ المقالةِ. فهذهِ المقالةُ إِمَامَاهَا هَذَا الرجلُ وامرأتهُ وما أَوْلاهُ بأنْ {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *} {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *} [المسد: 4 - 5] (¬1). 20 - منصورُ بن عمار (200هـ) كتبَ بِشْرٌ المرِّيسيُّ إلى منصور بن عمَّار يسألهُ عنْ قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] كيفَ استوى؟ فكتبَ إليهِ: «اسْتِوَاؤُهُ غيرُ محدودٍ، والجوابُ فيه تَكَلُّفٌ، مُسَاءَلَتُكَ عنهُ بِدْعَةٌ، والإيمانُ بِجُمْلَةِ ذَلِكَ وَاجِبٌ» (¬2). 21 - الإمامُ الشافعيُّ (204هـ) قال رحمه الله: «القولُ فِي السنَّةِ التي أنا عليهَا، ورأيتُ أصحابَنا عليهَا، أهلَ الحديثِ الذينَ رأيتهم فأخذتُ عنهم، مثلُ سفيانَ ومالكٍ وغيرهمَا: الإقرارُ بشهادةِ أنْ لاَ إلهَ إلَّا الله وأنَّ محمدًا رَسُولُ الله، وأنَّ اللهَ عَلَى عرشِهِ فِي سمائِهِ يقربُ منْ خَلْقِهِ كيفَ شاءَ» (¬3). «وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يُرى فِي الآخرةِ يَنْظُرُ إليهِ المؤمنونَ عيانًا جهارًا، ويسمعونَ كلامَهُ. وأَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ» (¬4). وقال رحمه الله في «الرسالةِ»: «الحمدُ للهِ الذي هوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ وفَوْقَ ما يَصِفُهُ خَلْقُهُ» (¬5). ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص224 - 225). (¬2) تاريخ الإسلام - حوادث ووفيات 191 - 200هـ (ص413). (¬3) وصيّة الإمام الشافعي (ص53 - 54). (¬4) وصية الإمام الشافعي (ص38 - 39). (¬5) الرسالة (ص8)، تحقيق: أحمد محمد شاكر.

22 - يزيد بن هارون الواسطي (206هـ)

قال ابنُ القيِّمُ رحمه الله: «فأثبتَ في هذهِ الكلمةِ أنَّ صفاتهِ إنَّما تُتلقَّى بالسَّمعِ، لا بآراءِ الخلقِ، وأنَّ أوصافَهُ فوقَ ما يصفهُ بهِ الخلقُ، فتضمَّنتْ هذهِ الكلمةُ، إثباتَ صفاتِ الكمالِ الذي أثبتهُ لنفسهِ، وتنزيهَهُ عَنِ العيوبِ والنَّقائصِ والتَّمثيلِ، وأنَّ ما وصفَ بهِ نَفْسَهُ فهوَ الذي يُوصَفُ بهِ، لا مَا وَصَفَهُ به الخلقُ» (¬1). 22 - يزيدُ بنُ هارونَ الواسطيُّ (206هـ) قال يزيدُ بنُ هارون رحمه الله: «مَنْ زَعَمَ أنَّ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} على خِلاَفِ ما يَقِرُ في قُلُوبِ العَامَّةِ فهوَ جَهْمِيٌّ» (¬2). قال الذهبيُّ معقِّبًا: «وهذا الذي قالهُ هوَ الحقُّ؛ لأنَّهُ لو كانَ معناهُ على خلافِ ما يَقِرُ فى القلوبِ السَّليمةِ مِنَ الأهواءِ، والفطرةِ الصَّحيحةِ مِنَ الأدواءِ، لوجبَ على الصَّحَّابةِ والتَّابعينَ أنْ يُبَيِّنوا أنَّ استواءَ الله على عرشِهِ على خلافِ ما فَطَرَ اللهُ عليهِ خَلْقَهُ، وَجَبَلَهُم على اعتقادِهِ، اللهمَّ إلَّا أنْ يكونَ في بعضِ الأغبياءِ منْ يفهمُ مِنْ أنَّ الله في السَّماء، أو على العرشِ [أنَّه محيِّزٌ وأنَّهما حَيِّزٌ له]، وأنَّ العرشَ محيطٌ بهِ، فكيَّفَ ذلكَ في ذهنهِ وبفهمهِ، كمَا بدر في الشَّاهدِ من أيِّ جسمٍ كانَ، على أيِّ جسمٍ، فهذا حالُ جاهلٍ و [مَا] أظنُّ أنَّ أحدًا اعتقدَ ذلكَ مِنَ العامَّةِ ولا قالهُ، وحاشَا يزيدَ بنَ هارونَ أنْ يكونَ مرادُهُ هذا وإنَّما مرادهُ ما تقدَّمَ» (¬3). ¬

_ (¬1) الصواعق (ص153 - 154). (¬2) أخرجه أبو داود في «المسائل» (ص268) بسند جيد. (¬3) كتاب العرش (2/ 206 - 207)، للحافظ الذهبي.

23 - سعيد بن عامر الضبعي عالم البصرة (208هـ)

وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: والذي تقرَّرَ في قلوبِ العامَّةِ هوَ ما فطرَ الله تعالى عليهِ الخليقةَ منْ توجُّههَا إلى ربِّها تعالى عنْدَ النوازلِ والشدائدِ والدُّعَاءِ والرغباتِ إليهِ تعالى نحوَ العُلُوِّ، لا يلْتفتُ يُمْنَةً ولا يُسْرَةً منْ غيرِ موقفٍ وقفهم عليه، ولكن فطرةَ الله التي فطَرَ النَّاسَ عليهَا، وما منْ مولودٍ إلَّا هوَ يولدُ على هذهِ الفطرةِ يجهِّمهُ وينقلهُ إلى التَّعْطيلِ منْ يقيَّض لهُ. 23 - سعيدُ بن عامر الضبعيُّ عالِمُ البصرة (208هـ) ذكرَ سعيدُ بنُ عامرٍ الضبعيُّ الجهميَّةَ فقالَ: همْ شرٌّ قولًا مِنَ اليهودِ والنَّصارى، قَدِ اجتمعَ اليهودُ والنَّصارى، وأهلُ الأديانِ مَعَ المسلمينَ، عَلَى أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عَلَى العَرْشِ. وقالوا هم: لَيْسَ عَلَى شيءٍ (¬1). 24 - عبدُ الله بن أبي جعفر الرازيُّ قالَ صالحُ بنُ الضريسِ: «جعلَ عبدُ الله بنُ أبي جعفرٍ الرازيُّ يضربُ رأسَ قرابةٍ لهُ يرى برأيِّ جهمٍ، فرأيتهُ يضربُ بالنَّعلِ على رأسهِ ويقولُ: لا، حتَّى تقول: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] بائِنٌ منْ خَلْقِهِ» (¬2). 25 - القعنبيُّ (221هـ) قَالَ بنانُ بنُ أحمدَ: كنَّا عند القعنبيِّ رحمه الله، فسمعَ رجلًا مِنَ الجهميَّةِ يقولُ: الرَّحْمنُ عَلَى العرشِ استولى. فقال القعنبيُّ: «مَنْ لا يُوقِن أنَّ الرَّحْمن عَلَى العرش استوى كَمَا يَقِرُ فِي قلوبِ العامَّةِ، فهو جَهْمِيٌّ» (¬3). 26 - عاصمُ بن علي شيخ البخاري (221هـ) قَالَ رحمه الله: «ناظرتُ جهمًا فتبيَّنَ مِنْ كلامهِ أنَّه لاَ يؤمنُ أنَّ فِي السَّمَاء ربًّا» (¬4). ¬

_ (¬1) العلوّ (ص1033). (¬2) العلو (ص1048). (¬3) العلوّ (ص1065). (¬4) العلوّ (ص1069).

27 - هشام بن عبيد الله الرازي (221هـ)

27 - هشام بن عبيد الله الرَّازيُّ (221هـ) قَالَ ابنُ أبي حاتم: حدَّثنا عليُّ بنُ الحسنِ بنِ يزيدَ السُّلميُّ: سمعتُ أبي يقولُ: «سمعتُ هشامَ بنَ عبيدِ الله الرَّازيَّ - وحبسَ رجلًا فِي التَّجَهُّم فتابَ فجيءَ بِهِ إليهِ ليمتحنهُ - فقالَ لهُ: أَتَشْهَدُ أنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ بائنٌ منْ خَلْقِهِ؟ فقالَ: لاَ أدري مَا بائنٌ منْ خَلْقِهِ. فقالَ: رُدُّوهُ فإنَّهُ لَمْ يَتُبْ بَعْدُ» (¬1). 28 - بِشْر الحافي، زاهدُ العصرِ (227هـ) قال حمزةُ بنُ دَهْقَانَ: «قلتُ لبشرِ بنِ الحارث: أحبُّ أنْ أخلوَ معكَ. قال: إذا شئتَ فيكونُ يومًا. فرأيتهُ قدْ دخلَ قُبةً، فصلَّى فيهَا أربعَ رَكَعَاتٍ لا أحْسِنُ أصلِّي مثلَهَا، فسمعتُهُ يقولُ في سجودهِ: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ فَوْقَ عَرْشِكَ أنَّ الذُّلَّ أحبُّ إليَّ مِنَ الشَّرَفِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ فَوْقَ عَرْشِكَ أنَّ الفقرَ أَحبُّ إليَّ مِنَ الغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّك تَعْلَمُ فَوْقَ عَرْشِكَ أنِّي لا أُوثِرُ عَلى حُبِّكَ شيئًا. فلمَّا سمعتهُ، أخذني الشهيقُ والبكاءُ، فقالَ: اللهمَّ إنَّك تعلمُ أنِّي لو أعلمُ أنَّ هذا هاهنا، لم أتكلَّمْ» (¬2). 29 - محمدُ بن مصعب العابدُ: شيخُ بغداد (228هـ) قالَ محمَّدُ بنُ مصعب العابد رحمه الله: «مَنْ زَعَمَ أنَّكَ لا تتكَلَّمُ ولا تُرى في الآخرةِ، فهوَ كافرٌ بوجهكَ، أَشْهَدُ أنَّكَ فَوْقَ العَرْشِ، فَوْقَ سَبعِ سَمَاوَاتٍ، ليسَ كمَا تقولُ أعداءُ اللهِ الزنادقةُ» (¬3). ¬

_ (¬1) العلوّ (ص1076). (¬2) السير (10/ 473). (¬3) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1080) بسند صحيح.

30 - نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ (228هـ)

30 - نُعَيمُ بن حمَّاد الخزاعيُّ الحافظ (228هـ) قال الرماديُّ: سألتُ نعيمَ بنَ حمَّادٍ عنْ قولِ اللهِ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] قالَ: «معناهُ أنَّهُ لا يَخْفَى عليهِ خافيةٌ بِعِلْمِهِ، ألا تَرَى قولَهُ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]» (¬1). وقالَ رحمه الله: «منْ شَبَّهَ اللهَ بِخَلْقِهِ، فقدْ كَفَرَ، ومنْ أنكرَ ما وَصَفَ بهِ نفسَهُ، فقدْ كَفَرَ، وليسَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ وَلاَ رسولُهُ تشبيهًا» (¬2). وعقَّبَ الذهبيُّ عَلَى هذا الكلامِ بقولهِ: «قلتُ: هذاَ الكلامُ حقٌّ، نعوذُ باللهِ مِنَ التَّشبيهِ ومنْ إنكارِ أحاديثِ الصِّفاتِ، فما يُنْكِرُ الثَابتَ منهَا مَنْ فَقُهَ، وإنَّما بعدَ الإيمانِ بها هنا مقامانِ مذمومانِ: تأويلُهَا وصرفُهَا عنْ موضوعِ الخِطابِ، فمَا أَوَّلَها السَّلفُ وَلاَ حَرَّفوا ألفاظَهَا عنْ مواضعِهَا؛ بلْ آمنوا بهَا، وأَمَرُّوهَا كَمَا جاءتْ. المقامُ الثاني: المبالغةُ فِي إثباتها، وتصوُّرُهَا منْ جنسِ صفاتِ البشرِ، وتشكُّلهَا فِي الذِّهنِ، فهذا جهلٌ وضلالٌ، وإنَّما الصِّفةُ تابعةٌ للموصوفِ؛ فإذا كانَ الموصوفُ عزَّ وجلَّ لمْ نرَهُ، وَلاَ أخبرنَا أحدٌ أنَّهُ عاينهُ مَعَ قولهِ لنَا فِي تنزيلهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فكيفَ بقيَ لأذهاننا مجالٌ فِي إثباتِ كيفيَّةِ الباري، تعالى الله عنْ ذلكَ، فكذلكَ صفاتُهُ المُقَدَّسَةُ، نُقِرُّ بهَا ونعتقدُ أنَّها حقٌّ، وَلاَ نُمَثِّلها أصلًا وَلاَ نَتَشَكَّلُهَا» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الذهبي فِي «العلو» (ص1092)، وصححه الألباني رحمه الله في «مختصر العلو» (ص184). (¬2) رواه الذهبي فِي «العلو» (ص1092)، وصححه الألباني رحمه الله في «مختصر العلو» (ص184). (¬3) السير (10/ 610 - 611).

31 - أبو عبد الله بن الأعرابي، لغوي زمانه (231هـ)

31 - أبو عبد الله بن الأعرابي، لغوي زمانه (231هـ) قَالَ داودُ بنُ عليٍّ: كنَّا عندَ ابنِ الأعرابيِّ، فأتاهُ رجلٌ فقالَ: يا أبَا عبدِ الله، ما معنى قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، قالَ: هُوَ على عَرْشِهِ كمَا أَخْبَرَ، فقالَ الرجلُ: ليسَ كذلكَ! إنَّما معناهُ استولى، فقالَ: اسكُتْ، ما يدريكَ ما هذا؟ العربُ لا تقولُ للرجلِ استولى على الشيءِ حتَّى يكونَ لهُ فيهِ مضادٌّ، فأيُّهما غلبَ، قيلَ: استولى، والله تعالى لا مضادَّ لهُ، وهُوَ على عَرْشِهِ كمَا أَخْبرَ. ثمَّ قالَ: الاستيلاءُ بعدَ المُغالبةِ، قال النَّابغةُ: ألا لمثلِكَ أو من أنتَ سابقُه ... سبقَ الجوادُ إذا استولَى على الأَمَدِ (¬1) 32 - أبو معمر القطيعي (236هـ) قال رحمه الله: «آخرُ كلامِ الجهميَّةِ أنَّه ليسَ في السَّماءِ إلهٌ» (¬2). قال الإمامُ الذهبيُّ معقِّبًا على هذا الأثرِ: «قلتُ: بلْ قولهم: إنَّه عزَّ وجلَّ في السَّماءِ وفي الأرضِ، لا امتيازَ للسَّماءِ. وقولُ عمومِ أمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللهَ في السَّمَاءِ، يُطلقونَ ذلكَ وِفْقَ ما جاءتِ النُّصوصُ بإطلاقهِ، ولا يخوضونَ في تأويلاتِ المتكلِّمينَ، مَعَ جَزْمِ الكُلِّ بأنَّه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]» (¬3). 33 - إسحاق بن راهويه عالم خراسان (238هـ) قَالَ إسحاقُ بنُ راهويه رحمه الله: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] إجماعُ أهلِ العِلْمِ أَنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ اسْتَوَى، ويعلمُ كلَّ شيءٍ فِي أسفلِ الأرضِ السَّابعةِ. قال الذهبيُّ معلِّقًا: اسمع وَيْحَكَ إِلَى هَذَا الإمامِ كيفَ نقلَ الإجماعَ عَلَى هذهِ المسألةِ الشَّريفةِ» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1132)، وصححه الألباني في «مختصر العلو» (ص196). (¬2) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1105)، وهو في «مختصر العلو» (ص188). (¬3) السير (11/ 70 - 71). (¬4) العلوّ (ص1128).

34 - قتيبة بن سعيد: شيخ خراسان (240هـ)

34 - قُتَيْبَةُ بنُ سعيدٍ: شيخُ خراسانَ (240هـ) قال قُتَيْبَةُ بنُ سعيد رحمه الله: هذا قولُ الأئمَّةِ في الإسلامِ السنَّةِ والجماعةِ: نَعْرِفُ ربَّنا في السَّمَاءِ السَّابعةِ على عَرْشِهِ، كمَا قالَ جلّ جلاله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. فهذا قتيبةُ في إمامتهِ وصدقهِ قدْ نقلَ الإجماعَ على المسألةِ، وقدْ لقيَ مالكًا والليثَ وحمَّادَ بنَ زيدٍ والكبارَ، وعمَّرَ دهرًا وازدحمَ الحفَّاظُ على بابهِ (¬1). 35 - أحمدُ بن حنبل شيخُ الإسلام (241هـ) قالَ الإمامُ أحمد رحمه الله في «الردِّ على الزنادقةِ والجهميَّةِ» (ص48 - 49): «أَنْكَرْتُم أن يكونَ اللهُ على العَرْشِ، وقد قال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، وقدْ أخبرنَا أنَّهُ في السَّماءِ فقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17]، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء: 19]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، وقال: {ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج: 3]، وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. فهذا خبرُ اللهِ أخبرنَا أنَّهُ في السَّماءِ. ¬

_ (¬1) العلو (ص1103).

36 - الإمام الرباني محمد بن أسلم الطوسي (242هـ)

وإنَّما معنى قولهِ جلَّ ثناؤه: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]، يقولُ: هوَ إلهُ مَنْ في السَّماواتِ وإلهُ مَنْ في الأرضِ، وهُوَ على العَرْشِ وقدْ أحاطَ عِلْمُهُ بما دونَ العرشِ، ولا يخلو منْ علمِ الله مكانٌ، ولا يكونُ علمُ الله في مكانٍ دونَ مكانٍ، فذلكَ قولُه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]» (¬1). وقال يوسفُ بن موسى القطان شيخُ أبي بكرٍ الخلال: «قيلَ لأبي عبد الله: اللهُ فَوْق السَّمَاءِ السَّابِعَةِ على عَرْشِهِ بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ، وقُدْرَتُهُ وعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؟ قالَ: نعمْ هوَ على عرشهِ ولا يخلو شيءٌ منْ علمهِ» (¬2). وقال حنبلُ بنُ إسحاقَ: قلتُ لأبي عبدِ الله: ما معنى قولهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} و {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}؟ قال: عِلْمُهُ عِلْمُهُ. وقال أبو بكرٍ المروزيُّ: حدثني محمدُ بن إبراهيم القيسيُّ قالَ: قلتُ لأحمدَ بنَ حنبلٍ: يُحكى عَنِ ابنِ المباركَ أنَّه قيلَ لهُ: كيفَ نعرفُ ربَّنَا؟ قالَ: في السَّماءِ السَّابِعَةِ على عَرْشِهِ. قال أحمدُ: هكذا هوَ عندنَا (¬3). 36 - الإمام الربانيُّ محمدُ بن أسلم الطوسيُّ (242هـ) قالَ محمَّدُ بنُ أسلم رحمه الله: قال لي عبدُ الله بنُ طاهرٍ: بلغني أنَّكَ ترفعُ رأسَكَ إلى السَّماءِ، فقلتُ: ولِمَ؟ وهَلْ أَرْجُو الخَيْرَ إلَّا مِمَّنْ هُوَ فِي السَّمَاءِ (¬4)؟ ¬

_ (¬1) الرد على الجهمية (ص39) [المطبعة السلفية - القاهرة، الطبعة الأولى]. (¬2) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1113)، وصححه الألباني في «مختصر العلو» (ص190). (¬3) تاريخ الإسلام - حوادث ووفيات 241 - 250هـ (ص87 - 88). (¬4) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1167)، وجوَّد إسناده الألباني في «مختصر العلو» (ص210).

37 - الحارث بن أسد المحاسبي (243هـ)

37 - الحارثُ بن أسد المحاسبيُّ (243هـ) قال الزاهدُ المشهورُ الحارثُ بنُ أسدٍ المحاسبيُّ رحمه الله في «فهمِ القرآنِ»: «وأمَّا قوله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، و {إِذًا لاَبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]. فهذهِ وغيرُهَا مثلُ قولِهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقولهُ: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]. فهذا مَقْطَعٌ يوجبُ أنَّهُ فوقَ العرشِ، فوقَ الأشياءِ، منزَّهٌ عَنِ الدُّخولِ في خلقهِ، لا يخفى عليهِ منهم خافية، لأنَّهُ أبانَ في هذهِ الآياتِ أنَّ ذاتَهُ بنفسهِ فوقَ عبادهِ لأنَّهُ قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، يعني: فوقَ العرشِ، والعرشُ على السَّمَاءِ، لأنَّ مَنْ كانَ فوقَ شيء على السَّمَاءِ فهوَ في السَّمَاءِ، وقدْ قالَ مثلَ ذلكَ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]، يعني: على الأرضِ لا يريدُ الدخولَ في جوفِها، وكذلكَ قولُهُ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، يعني: فوقهُ. وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، ثمَّ فصَّلَ فقالَ: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] ولم يصلهُ بمعنًى فَيشْتبهُ ذلكَ، فلم يكنْ لذلكَ معنًى إذ فصَّلَ بقولهِ: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]- ثمَّ اسْتَأْنَفَ التخويفَ بالخسْفِ - إلَّا أنَّهُ عَلَى العَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ.

وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، فبيَّنَ عروجَ الأمرِ، وعروجَ الملائكةِ، ثمَّ وصفَ صعودَهَا بالارتفاعِ صاعدةً إليهِ ... فإذا صَعَدُوا إلى العرشِ فقدْ صَعَدُوا إلى الله جلَّ وعزَّ، وإنْ كانوا لمْ يَرَوْهُ، ولم يُسَاووهُ في الارتفاعِ في عُلُوِّهِ، فإنَّهم قدْ صَعَدُوا مِنَ الأرضِ، وعَرَجُوا بالأمرِ إلى العُلُوِّ الذي اللهُ عزَّ وجلَّ فوقَهُ ... وقالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. وكلامُ الملائكةِ أكثرُ وأطيبُ منْ كلامِ الآدميينَ، فلمْ يَقُلْ ينزلُ إليهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ. وقال عنْ عيسى عليه السلام: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، ولمْ يقلْ عندَهُ. وقالَ عنْ فرعونَ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 36 - 37]، ثمَّ استأنفَ فقالَ: {وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]، فيمَا قالَ لي إنَّهُ في السَّماءِ، فطلبهُ حيثُ قال لهُ موسى مَعَ الظَّنِّ منهُ بموسى عليه السلام أنَّهُ كاذبٌ، ولوْ أنَّ موسى عليه السلام، أخبرهُ أنَّه في كلِّ مكانٍ بذاتهِ، لطلبهُ في الأرضِ أو في بيتهِ وبَدَنِهِ ولمْ يَتَعَنَّ بِبُنْيَانِ الصَّرْحِ» (¬1). وكذلكَ قولهُ: {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فلمْ يقلْ في السَّمَاءِ ثمَّ قطعَ كمَا قالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، فقال: {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، فأخبرَ أنَّهُ إلهُ أهلِ السَّماءِ وإلهُ أهلِ الأرضِ. ¬

_ (¬1) العقل وفهم القرآن (ص349 - 352)، تحقيق: د. حسين القوتلي.

38 - عبد الوهاب الوراق (250هـ)

وذلكَ موجودٌ في اللُّغةِ إذْ يقولُ القائلُ: مَنْ بِخُراسان؟ فيقالُ: ابنُ طاهرٍ. وإنَّما هوَ في موضعٍ. فجايزٌ أنْ يقالَ: ابنُ طاهرٍ أميرٌ في خراسانَ، فيكونُ أميرًا في بلْخ وسَمَرْقَند وكلِّ مدنها. هذا وإنَّما هوَ في موضعٍ واحدٍ، يخفى عليهِ مَا وراءَ بيتهِ، ولو كانَ على ظاهرِ اللَّفظِ وفي معنى الكونِ، ما جازَ أنْ يقالَ أميرٌ في البلدِ الذي هو فيهِ لأنَّهُ في موضعٍ واحدٍ منْ بيتهِ، أو حيثُ كانَ، إنَّما هوَ في موضعِ جلوسِهِ، وليسَ هوَ في دارهِ أميرٌ ولا في بيتهِ كلِّهِ، وإنَّما هو في موضعٍ منهُ، لو كانَ هذَا معنى الكونِ، فكيفَ العالي فوقَ كلِّ شيء؟! لا يخفى عليهِ شيءٌ مِنَ الأشياءِ يُدَبِّرُهُ، فهو إلهُ أهلِ السَّماءِ، وإلهُ أهلِ الأرضِ لا إلهَ فيهما سواهُ، فهوَ فيهمَا إلهٌ إذْ كانَ مدبِّرًا لهما وما فيهما وهُوَ على عَرْشِهِ فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ بَاقٍ (¬1). 38 - عبدُ الوهاب الوراق ُ (250هـ) قال رحمه الله: «مَنْ زَعَمَ أنَّ اللهَ هاهنا فهو جَهْمِيٌّ خَبِيثٌ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ فَوْقَ العَرْشِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بالدُّنيا والآخِرَةِ» (¬2). ¬

_ (¬1) العقل وفهم القرآن (ص355 - 356). (¬2) العلو (ص1177).

39 - خشيش بن أصرم (253هـ)

39 - خَشَيْشُ بن أصرم (253هـ) قال أبو عاصم خَشيشُ بن أصرم رحمه الله: «وقدْ أنكرَ جهمٌ أنْ يكونَ اللهُ على العَرْشِ، وقالَ الله تباركَ وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقالَ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] وقالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]. قالَ أبو عاصم: منْ كفرَ بآيةٍ منْ كتابِ الله؛ فقدْ كفرَ بهِ أجمع، فمنْ أنكرَ العرشَ؛ فقدْ كفرَ بالله. وجاءتِ الآثارُ بأنَّ لله عرشًا، وأنَّهُ على عرشهِ» (¬1). قالَ أبو عاصم: وأنكرَ جهمٌ أنْ يكونَ اللهُ في السَّماءِ دونَ الأرضِ ... وقدْ دلَّ في كتابهِ أنَّهُ في السَّماءِ دونَ الأرضِ ... ثمَّ ذكرَ الآياتِ الدَّالَّةِ على عُلوِّ الله إلى أنْ قالَ: لوْ كانَ في الأرضِ كمَا هوَ في السَّماء لم ينزلْ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ شيءٌ، ولكانَ يصعدُ مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ كما ينزلُ مِنَ السَّماءِ إلى الأرضِ، وقدْ جاءتِ الآثارُ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله عزَّ وجلَّ في السَّماء دونَ الأرضِ (¬2). ¬

_ (¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص113 - 114). (¬2) التنبيه والرد (ص118 - 121).

40 - الذهلي (258هـ)

40 - الذهلي ُّ (258هـ) قال الحاكمُ: قرأتُ بخطِ أبي عمرو المستملي: سئلَ محمدُ بنُ يحيى عنْ حديثِ عبدِ الله بن معاوية عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لِيَعْلَمِ العَبْدُ أنَّ اللهَ معهُ حيثُ كانَ» (¬1)، فقالَ: يريدُ أنَّ اللهَ عِلْمُهُ محيطٌ بكلِّ مكانٍ، واللهُ على العَرْشِ (¬2). 41 - إسماعيل بن يحيى المزنيُّ (264هـ) قالَ محمَّدُ بنُ إسماعيل الترمذي: سمعتُ المزنيَّ يقولُ: «لا يَصِحُّ لأحدٍ توحيدٌ حتىَّ يعلمَ أنَّ اللهَ تعالى على العَرْشِ بصفاتهِ. قلتُ لهُ: مثلُ أيِّ شيءٍ؟ قالَ: سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ» (¬3). وقَالَ رحمه الله فِي «شرحِ السنَّةِ»: «(عالٍ) عَلَى عرشهِ (فِي مجدهِ بذاتِهِ) ... عَالٍ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ» (¬4). قال العلامةُ الألبانيُّ رحمه الله: «واعلمْ أنَّ لفظةَ (بائنٌ) كَثُرَ ورودُهَا فِي عقيدةِ السَّلفِ فِي قولهم: «هَوَ تَعَالى عَلَى عَرْشِهِ، بائِنٌ من خَلْقِهِ» وحكاها أبو زرعة وأبو حاتم الرّازيانِ عَنِ العلماءِ فِي جميعِ الأمصارِ، وإنَّما نطقَ العلماءُ بهاتَيْنِ اللفظَتَيْنِ: «بذاتهِ» و «بائنٌ» - بعدَ أنْ لم تكونَا معروفتينِ فِي عهدِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم - لمَّا ابتدعَ الجهمُ (¬5) وأتباعهُ القولَ بأنَّ الله فِي كلِّ مكانٍ، فاقتضت ضرورةُ البيانِ أنْ يتلفَّظَ هؤلاءِ الأئمَّةِ الأعلامِ بلفظِ «بائنٌ» دونَ أنْ ينكرهُ أحدٌ منهم» (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 334) (555) بلفظ: «أَنْ يَعْلَمَ أنّ اللهَ عزَّ وجلَّ مَعَهُ حيثُ كَانَ»، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1046). (¬2) العلو (ص1147)، وهو في «مختصر العلو» (ص201). (¬3) السير (12/ 494). (¬4) شرح السنّة (ص79 - 80). (¬5) جَهْمُ بنُ صَفْوَانَ، قال عنه الذهبيُّ: الضَّالُّ المُبْتَدِعُ، رأسُ الجهمية هَلَكَ في زمان صغار التابعين، وما علمتُه روى شيئًا لكنه زَرَعَ شَرًّا عظيمًا. (¬6) مختصر العلو (ص17).

42 - أبو زرعة الرازي (264هـ)

42 - أبو زُرعة الرازيُّ (264هـ) قَالَ عبدُ الرَّحْمن بن أبي حاتم: سألتُ أبي وأبا زرعةَ عَن مذاهبِ أهلِ السنَّةِ فِي أصولِ الدِّينِ، وما أدركا عَلَيهِ العلماءُ فِي جميعِ الأمصارِ ومَا يعتقدانِ فِي ذلكَ؟ فقالا: «أدركنَا العلماءَ فِي جميعِ الأمصارِ - حجازًا وعراقًا وشامًا ويَمَنًا - فكانَ منْ مذهبهم: وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ كَمَا وصفَ نفسَهُ فِي كتابهِ وعلى لسانِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم بلا كيفٍ، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]» (¬1). وقال أبو زرعة الرازي رحمه الله: «المعطِّلةُ النَّافيةُ الذينَ ينكرونَ صفاتِ الله عزَّ وجلَّ التي وصفَ بها نفسَهُ في كتابهِ وعلى لسانِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، ويكذِّبونَ بالأخبارِ الصحاحِ التي جاءتْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصفاتِ ويتأوَّلونها بآرائهم المنكوسةِ على موافقةِ ما اعتقدوا منَ الضلالةِ وينسبونَ رواتها إلى التشبيهِ، فمنْ نسبَ الواصفينَ ربَّهم تبارك وتعالى بما وصفَ بهِ نفسهُ في كتابهِ وعلى لسانِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ تمثيلٍ ولا تشبيهٍ إلى التشبيهِ فهو معطِّلٌ نافٍ، ويستدلُّ عليهم بنسبتهم إيَّاهم إلى التشبيه أنَّهم معطِّلةٌ نافيةٌ، كذلكَ كانَ أهلُ العلمِ يقولونَ منهم: عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح» (¬2). ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (1/ 198). (¬2) الحجة في بيان المحجة (1/ 187).

43 - أبو حاتم الرازي (277هـ)

43 - أبو حَاتِمٍ الرازيُّ (277هـ) قال الحافظُ أبو القاسم الطبريُّ: وجدتُ في كتابِ أبي حاتمٍ محمدِ ابن إدريس بن المنذر الحنظليِّ ممَّا سُمِعَ منهُ يقولُ: «مذهبنا واختيارنا اتِّباعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ والتَّابعينَ منْ بعدهم، والتَّمسُّكُ بمذاهبِ أهلِ الأثرِ مثلُ الشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي عبيدٍ رحمهمُ الله تعالى، ولزومُ الكتابِ والسنَّةِ، ونعتقدُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ على عَرْشِهِ، بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]» (¬1). 44 - حَرْب الكَرْمَانِيُّ (280هـ) قال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني فِي «مسائلهِ المعروفةِ» التي نقلهَا عَنْ أحمدَ وإسحاقَ وغيرهمَا: «وهو سبحانه بائنٌ من خلقهِ لا يخلو منْ علمه مكانٌ، وللهُ عرشٌ، وللعرشِ حَمَلَةٌ يحملونهُ ... واللهُ عَلَى عَرْشِهِ عزَّ ذِكْرُهُ وتعالى جَدُّهُ وَلاَ إلهَ غيرهُ ... ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، كيفَ شَاءَ وكمَا شاءَ، ليسَ كمثلهِ شيءٌ وهوَ السَّميعُ البصيرُ» (¬2). 45 - ابنُ قُتَيْبَةَ (276هـ) قَالَ الإمامُ العالمُ ابنُ قُتَيْبَةَ رحمه الله: «نحنُ نقولُ فِي قولهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]: إنَّهُ معهم بالعلمِ بمَا هم عَلَيهِ، كَمَا تقولُ للرجلِ وجهتهُ إِلَى بلدٍ شاسعٍ، ووكلتهُ بأمرٍ من أموركَ: احذرِ التقصيرَ والإغفالَ لشيءٍ ممَّا تقدَّمتُ فيهِ إليكَ فإنِّي معكَ. تريدُ أنَّهُ لاَ يخفى عليَّ تقصيركَ أَوْ جدُّكَ للإشرافِ عليكَ والبحثِ عنْ أموركَ ... ¬

_ (¬1) العلوّ (ص1162). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (2/ 22 - 23).

46 - أبو عيسى الترمذي (279هـ)

وكيفَ يسوغُ لأحدٍ أنْ يقولَ: إنَّهُ بكلِّ مكانٍ عَلَى الحلولِ مَعَ قولهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] وقولهِ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وكيفَ يصعدُ إليهِ شيءٌ هُوَ معهُ؟ أَوْ يرفعُ إليهِ عملٌ وَهُوَ عندهُ؟ وكيفَ تعرجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليهِ يومَ القيامة؟» (¬1). 46 - أبو عيسى الترمذيُّ (279هـ) قالَ الحافظُ أبو عيسى الترمذيُّ رحمه الله: «وهُوَ عَلَى العَرْشِ كمَا وَصَفَ نَفْسَهُ في كِتَابِهِ» (¬2). 47 - عثمانُ بنُ سعيد الدّارِمِيُّ الحافظُ (280هـ) قالَ رحمه الله: «قد اتَّفقتِ الكلمةُ مِنَ المسلمينَ أنَّ اللهَ فَوْقَ عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ» (¬3). قَالَ الذهبيُّ معقِّبًا: «قلتُ: أوضحُ شيءٍ فِي هَذَا البابِ قوله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. فَلْيُمَرَّ كَمَا جاءَ، كَمَا هُوَ معلومٌ منْ مذهبِ السَّلفِ، ويُنهى الشَّخصُ عَنْ المراقبةِ والجدالِ، وتأويلاتِ المعتزلةِ، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} [آل عمران: 53]» (¬4). وقال الذهبي رحمه الله: «كان عثمانُ الدارميُّ جِذْعًا في أَعْيُنِ المُبْتَدِعَةِ» (¬5). ¬

_ (¬1) تأويل مختلف الحديث (ص327 - 328). (¬2) جامع الترمذي (5/ 403) (3298) [طبعة دار إحياء التراث العربي - بيروت]. (¬3) نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد (ص154)، تحقيق: منصور بن عبد العزيز السِّماري. (¬4) السير (13/ 325). (¬5) السير (13/ 322).

48 - ثعلب إمام العربية (291هـ)

48 - ثَعْلَب إمامُ العربية (291هـ) قَالَ الحافظُ أبو القاسمِ اللالكائيُّ فِي كتابِ «السنَّةِ»: وجدتُ بخطِّ الدارقطنيِّ عنْ إسحاقَ الكاذي قَالَ: سمعتُ أبا العبَّاسِ ثعلبَ يقولُ: «استوى: أقبلَ عَلَيهِ وإنْ لَمْ يكن معوَّجًا. {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] أقبلَ. و {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] عَلاَ. واستوى وجهه: اتَّصلَ. واستوى القمرُ: امتلأَ. واستوى زيدٌ وعمرو: تشابها فِي فعلهما وإنْ لَمْ تتشابه شخوصهما. هَذَا الَّذِي نعرفُ منْ كلامِ العرب» (¬1). 49 - أبو مُسْلِمٍ الكجيُّ الحافظُ (292هـ) قال أبو مسلم الكجي: خرجتُ فإذا الحمامُ قد فُتحَ سَحَرًا، فقلتُ للحمامي: أدخلَ أحدٌ؟ قَالَ: لا، فدخلتُ، فساعةَ فتحتُ البابَ قَالَ لي قائلٌ: أبو مسلم! أسلمْ تسلمُ، ثمَّ أنشأ يقولُ: لَكَ الحَمْدُ إمَّا عَلَى نِعْمَةٍ ... وإمَّا عَلَى نِقْمَةٍ تُدْفَعُ تشاءُ فتفعل مَا شِئْتَهُ ... وتَسْمَعُ من حَيْثُ لا نَسْمَعُ قالَ: فبادرتُ وخرجتُ وأنا جَزِعٌ، فقلتُ للحماميِّ: أليسَ زعمتَ أنَّهُ ليسَ في الحمَّامِ أحدٌ؟ قَالَ: ذاك جنيٌّ يترايا لنا فِي كلِّ حينٍ ينشدنا، فقلتُ: هلْ عندكَ منْ شعرهِ شيءٌ؟ قالَ: نعم وأنشدني: أَيُّها المُذْنِبُ المُفَرِّطُ مَهْلًا ... كم تَمَادَى وَتَكْسِبُ الذَّنْبَ جَهْلًا كَمْ وكَمْ تُسْخِطُ الجِلِيلَ ... بفعلٍ سَمْجٍ وهوَ يُحْسِنُ الصُنْعَ فِعْلًا كيفَ تَهْدَا جُفُونُ مَنْ لَيْسَ يدري ... أَرَضِي عنهُ مَنْ عَلَى العَرْشِ أَمْ لاَ (¬2) ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (3/ 443). (¬2) العلو (ص1201)، وصحح إسناده الألباني في «مختصر العلو» (ص222).

50 - عمرو بن عثمان المكي (297هـ)

50 - عَمْرُو بنُ عثمانَ المكيُّ (297هـ) صنَّف كتابًا سمَّاه «التعرُّفُ بأحوالِ العبّادِ والمتعبدينَ» قال: «باب ما يجيءُ بهِ الشَّيطانُ للتائبينَ» وذكر أنَّهُ يدفعهم في القنوطِ، ثمَّ في الغرورِ وطولِ الأمدِ، ثمَّ في التَّوحيدِ. فقالَ: «منْ أعظمِ ما يوسوسُ في «التَّوحيدِ» بالتشكل أو في صفاتِ الربِّ بالتمثيلِ والتَّشبيهِ، أو بالجحودِ لها والتَّعطيلِ. فلا تذهبْ في أحدِ الجانبينِ، لا معطِّلًا ولا مشبِّهًا، وارضَ لله بما رضيَ بهِ لنفسهِ، وقفْ عندَ خبرهِ لنفسهِ مسلمًا، مستسلمًا، مصدِّقًا، بلا مباحثةِ التنفيرِ ولا مناسبةِ التنقيرِ. فهو تباركَ وتعالى المستوي على عرشهِ بعظمةِ جلالهِ فوقَ كلِّ مكانٍ - تبارك وتعالى - النَّازلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّمَاءِ الدنيا ليتقرَّبَ إليهِ خلقهُ بالعبادةِ، وليرغبوا إليهِ بالوسيلةِ. إلى أنْ قالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. القائل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16 - 17]. تعالى وتقدَّسَ أنْ يكونَ في الأرضِ كمَا هوَ في السَّمَاءِ، جلَّ عنْ ذلكَ علوًّا كبيرًا» (¬1). 51 - ابنُ أبي شَيْبَةَ (297هـ) قال رحمه الله في «كتاب العرش»: «ذكروا أنَّ الجهميَّةَ يقولون: أنْ ليسَ بينَ اللهِ عزَّ وجلَّ وبينَ خلقهِ حجابٌ، وأنكروا العرشَ، وأَنْ يكونَ هو فوقهُ وفوقَ السَّماواتِ، وقالوا: إنَّه في كلِّ مكانٍ ... ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 62 - 65).

وقدْ علمَ العالِمُونَ، أنَّ اللهَ قبلَ أنْ يخلقَ خلقَهُ قدْ كانَ متخلِّصًا منْ خلقهِ، بائنًا منهم، فكيفَ دخلَ فيهم؟! تبارك وتعالى أنْ يوصفَ بهذهِ الصِّفةِ، بلْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ كمَا قالَ، محيطٌ بالعرشِ، متخلِّصٌ منْ خلقهِ بيِّنٌ منهم، علمهُ في خلقهِ لا يخرجونَ منْ علمهِ ... قال عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4]، ففسَّرَ العلماءُ قولَهُ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] يعني: عِلْمَهُ، وقالَ عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، فاللهُ تعالى استوى على العرشِ يرى كلَّ شيءٍ في السَّماواتِ والأرضينَ، ويعلمُ ويسمعُ كلَّ ذلكَ بعينهِ وهُوَ فَوْقَ العَرْشِ، يرى ويسمعُ ما في الأرضِ السفلى، ولكنَّهُ خلقَ العرشَ كما خلقَ الخلقَ لمَّا شاءَ، وكيفَ شاءَ، وما يحملهُ إلَّا عظمتهُ فقالَ: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ *} [السجدة: 5]، وقال عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال عزَّ وجلَّ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55]، وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157، 158] وأجمعَ الخلقُ جميعًا أنَّهم إذا دَعَوْا اللهَ جميعًا، رفعوا

52 - زكريا الساجي (307هـ)

أيديهمْ إلى السَّماءِ، فلو كانَ اللهُ عزَّ وجلَّ في الأرضِ السُّفلى، ما كانوا يرفعونَ أيديهمْ إلى السَّماءِ وهو معهم في الأرضِ. ثمَّ تواترتِ الأخبارُ أنَّ الله تعالى خلقَ العرشَ فاسْتَوَى عليهِ بذاتِهِ ... فَهُوَ فَوْقَ السَّماواتِ وفَوْقَ العَرْشِ بِذَاتِهِ مُتَخَلِّصًا منْ خلقهِ، بائنًا منهم، علمهُ في خلقهِ، لا يخرجونَ من علمهِ» (¬1). 52 - زكريا السَّاجيُّ (307هـ) قَالَ الإمامُ الحافظُ محدِّثُ البصرةِ السَّاجيُّ: «القولُ فِي السنُّةِ الَّتِي رأيتُ عَلَيْهَا أهلَ الحديثِ الَّذِينَ لقيتهم أنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ فِي سمائِهِ يَقْرُبُ منْ خَلْقِهِ كَيْفَ شاءَ - وذكرَ سائرَ الاعتقادِ» (¬2). 53 - محمدُ بن جرير الطبريُّ (310هـ) قَالَ الطبريُّ رحمه الله: «وحسبُ امرئٍ أنْ يعلمَ أنَّ ربَّهُ هوَ الّذي عَلَى العَرْشِ استوى، لهُ مَا فِي السَّماواتِ وما فِي الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الثَّرى، فمنْ تجاوزَ ذلكَ فقدْ خابَ وخَسِرَ وضَلَّ وهَلَكَ» (¬3). وقالَ رحمه الله في تفسيرِ قولهِ تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]: «وعَنَى بقوله: {هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] بمعنى أنَّهُ مُشَاهِدُهم بعلمهِ، وَهُوَ على عَرْشِهِ» (¬4). وقالَ رحمه الله في تفسيرِ قولهِ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، يقولُ: «وهو شاهدٌ لكم أيُّها النَّاسُ أينما كنتم يعلمكم، ويعلمُ أعمالَكُم، ومُتَقَلَّبَكمْ ومَثْوَاكُمْ، وهُوَ على عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ السَّبْعِ» (¬5). ¬

_ (¬1) كتاب العرش (ص49 - 51). (¬2) تذكرة الحفاظ (ص710). (¬3) صريح السنّة (ص26 - 27). (¬4) جامع البيان (28/ 12) [طبعة دار الفكر - بيروت]. (¬5) جامع البيان (27/ 216).

54 - ابن الأخرم (311هـ)

وقالَ رحمه الله: «وأولى المعاني بقولِ الله جلَّ ثناؤهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة: 29] عَلاَ عليهنَّ وارتفعَ فَدَبَّرَهُنَّ بقدْرتهِ وخَلَقَهُنَّ سبعَ سمواتٍ» (¬1). 54 - ابنُ الأخرم (311هـ) قالَ رحمه الله: «واللهُ تعالى على العَرْشِ وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بالدُّنيا والآخرةِ» (¬2). 55 - إمام الأئمة ابنُ خُزَيْمَةَ (311هـ) قالَ رحمه الله: «مَنْ لمْ يُقِرَّ بأنَّ اللهَ تعالى على عَرْشِهِ قَدِ اسْتَوَى فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّه، يُسْتَتَابُ فإِنْ تَابَ وإلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وأُلْقِيَ على بَعْضِ المَزَابِلِ حَيْثُ لا يَتَأَذَّى المُسْلِمُونَ والمُعَاهَدُونَ بنَتَنِ رِيْحِ جِيْفَتِهِ، وكَانَ مَالُهُ فَيْئًا لا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ إِذِ «المُسْلِمُ لا يَرِثُ الكَافِرَ»، كمَا قال صلى الله عليه وسلم» (¬3). 56 - نِفْطَوَيْه شيخُ العربية (323هـ) صنَّفَ الإمامُ النَّحويُّ نفطويه كتابًا في «الردِّ على الجهميَّةِ» وذكرَ فيه أشياء منهَا: قولُ ابنِ الأعرابيِّ الذي مضى ثمَّ قالَ: وسمعتُ داودَ بنَ عليٍّ يقولُ: كانَ المريسيُّ - لا رحمه الله - يقولُ: سبحانَ ربِّي الأسفل. قال: وهذا جهلٌ منْ قائلهِ، وردٌّ لنصِّ كتابِ اللهِ إذْ يقولُ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] (¬4). ¬

_ (¬1) جامع البيان (1/ 192). (¬2) تذكرة الحفاظ (ص747). (¬3) معرفة علوم الحديث (ص84) للحاكم النيسابوري، وصححه شيخ الاسلام في «الحموية». والحديث المذكور رواه البخاري (4283 و6764)، ومسلم (1614). (¬4) العلو (ص1239).

57 - أبو الحسن الأشعري (324هـ)

57 - أبو الحسن الأشعريُّ (324هـ) قالَ الإمامُ أبو الحسن الأشعريُّ رحمه الله فِي كتابِ «الإبانةِ فِي أصولِ الدِّيانةِ» فِي بابِ الاسْتِوَاءِ: إنْ قالَ قائلٌ: «ما تقولونَ في الاستواءِ؟ قِيلَ لهُ: نقولُ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ مستوٍ عَلَى عرشهِ، كَمَا قَالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقدْ قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقالَ عزَّ وجلَّ: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقالَ حكايةً عنْ فرعونَ: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]، كذَّبَ موسى عليه السلام فِي قولهِ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ. وقال عزَّ وجلَّ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، فالسَّماواتُ فوقَهَا العرشُ. فلمَّا كَانَ العرشُ فَوْقَ السَّمَاوَات قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، لأنَّهُ مستوٍ عَلَى العرشِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وكُلُّ مَا عَلا فهو سماء. فالعرشُ أعلى السَّماوات وليسَ إِذَا قَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، يعني جميعَ السَّمَاوَاتِ، وإنَّما أرادَ العرشَ الَّذِي هُوَ أعلى السَّمَاوَاتِ. ألاَ ترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ ذكرَ السَّمَاوَاتِ فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]، ولم يُرِدْ أنَّ القمرَ يملأهنَّ جميعًا وأنَّهُ فيهنَّ جميعًا.

58 - البربهاري (329هـ)

وقدْ قالَ قائلونَ من المعتزلةِ والجهميَّةِ والحروريةِ: إنَّ قولَ الله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، إنَّه استولى وملكَ وقهرَ، وإنَّهُ عزَّ وجلَّ في كلِّ مكانٍ، وجحدوا أنْ يكونَ الله عزَّ وجلَّ على عرشهِ كمَا قالَ أهلُ الحقِّ، وذهبوا في «الاستواءِ» إلى القدرةِ، ولو كانَ هذا كما ذكروهُ كانَ لا فرقَ بينَ العرشِ والأرضِ، فالله سبحانهُ قادرٌ عليها وعلى الحشوشِ وعلى كلِّ ما في العالمِ. فلو كانَ الله مستويًا على العرشِ بمعنى الاستيلاءِ - وهو سبحانهُ مُسْتَوْلٍ على الأشياءِ كلِّها - لكانَ مستويًا على العرشِ وعلى الأرضِ وعلى السَّمَاءِ وعلى الحشوشِ والأقذارِ، لأنَّه قادرٌ على الأشياءِ مُسْتَوْلٍ عليهَا، وإذا كانَ قادرًا على الأشياءِ كلِّها - ولم يَجِزْ عندَ أحدٍ منَ المسلمينَ أنْ يقولَ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ مستوٍ على الحشوشِ والأخليةِ - لم يَجِزْ أنْ يكونَ الاستواءُ على العرشِ الاستيلاءَ الذي هو عامٌّ في الأشياءِ كلِّها، ووجبَ أنْ يكونَ معناهُ استواءً يختصُّ العرشَ دونَ الأشياءِ كلِّها» (¬1). قَالَ الذهبيُّ رحمه الله: «لو انتهى أصحابُنا المتكلِّمونَ إِلَى مقالةِ أبي الحسنِ هذهِ ولَزِمُوهَا لأحسنوا، ولكنَّهم خاضُوا كخوضِ حكماءِ الأوائلِ فِي الأشياءِ، ومَشَوْا خلفَ المنطقِ، فلا قُوَّةَ إلَّا بالله» (¬2). 58 - البَرْبَهَارِيُّ (329هـ) قالَ رحمه الله: «اعلمْ رحمكَ الله: أنَّ الكلامَ في الرَّبِّ تعالى مُحْدَثٌ، وهو بدعةٌ وضلالةٌ، ولا يُتكلَّمُ في الرَّبِّ إلا بما وصفَ بهِ نفسَهُ عزَّ وجلَّ في القرآنِ، وما بيَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ، فهوَ جلَّ ثناؤهُ واحدٌ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. ¬

_ (¬1) الإبانة (ص69 - 71). (¬2) العلوّ (ص1254 - 1255).

59 - الوزير علي بن عيسى (334هـ)

ربُّنا أوَّلٌ بلا مَتَى، وآخرٌ بلا مُنتهى، يعلمُ السِّرَّ وأخفى، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ اسْتَوَى، وعِلْمُهُ بكلِّ مكانٍ، ولا يخلو منْ علمِهِ مكانٌ» (¬1). 59 - الوزير عليُّ بنُ عيسى (334هـ) قال محمَّدُ بنُ عليِّ بن حبيش: دخلَ أبو بكرٍ الشبليُّ رحمه الله دارَ المرضى ليعالجَ، فدخلَ عليهِ الوزيرُ عليُّ بنُ عيسى عائدًا، فقال الشِّبليُّ: ما فعلَ ربُّكَ؟ قَالَ: «الربُّ عزَّ وجلّ فِي السَّمَاءِ يَقْضِي ويُمْضِي» (¬2). 60 - العلَّامة أبو بكر الضِّبْعِيُّ (342هـ) قالَ رحمه الله: «قَدْ تضعُ العربُ «فِي» موضع «عَلَى» قَالَ الله تَعَالَى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]، وقالَ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] ومعناهُ عَلَى الأرضِ وعلى النَّخلِ، فكذلكَ قولهُ: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أيْ مَنْ عَلَى العرشِ، كَمَا صَحَّتِ الأخبارُ عنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم» (¬3). 61 - ابنُ شعبان (355هـ) قال الذهبيُّ رحمه الله: «رأيتُ له (¬4) تأليفًا في تسميةِ الرواةِ عنْ مالكٍ، أولهُ: الحمدُ لله الحميدِ، ذي الرُّشدِ والتسديدِ، والحمدُ لله أحقُّ ما بُدِي، وأولى منْ شكر، الواحدِ الصَّمدِ، جَلَّ عَنِ المَثَلِ فلا شَبَهَ لهُ ولا عَدْلَ، عَالٍ على عَرْشِهِ، فهوَ دَانٍ بِعِلْمِهِ، وذكرَ باقي الخطبة» (¬5). ¬

_ (¬1) شرح السنة (ص24)، للبربهاري. (¬2) العلوّ (ص1258)، وصححه الألباني في «مختصر العلو» (ص244). (¬3) العلوّ (ص1264). (¬4) أي: العلامة ابن شعبان، أبو إسحاق شيخ المالكية، محمد بن القاسم بن شعبان بن محمد بن ربيعة العماري المصري، من ولد عمّار بن ياسر. (¬5) السير (16/ 79).

62 - الإمام أبو بكر الآجري (360هـ)

62 - الإمام أبو بكر الآجُرِّيُّ (360هـ) صنَّفَ الحافظُ الزَّاهدُ الآجُرِّيُّ المجاورُ بحرمِ الله كتابَ «الشَّريعةِ» فمنْ أبوابهِ: «بابُ التحذيرِ منْ مذاهبِ الحلوليَّةِ» ثمَّ قَالَ: أمَّا بعدُ: فإنِّي أحذِّرُ إخواني مِنَ المؤمنينَ مذهبَ الحلوليَّةِ: الذينَ لَعِبَ بهمُ الشَّيطانُ، فخرجوا بسوءِ مذهبهم عنْ طريقِ أهلِ العلمِ. مذاهبهم قبيحةٌ، لاَ تكونُ إلَّا فِي كلِّ مفتونٍ هالكٍ، زعموا أنَّ الله عزَّ وجلَّ حالٌّ فِي كلِّ شيءٍ، حتَّى أخرجهم سوءُ مذهبهم إِلَى أنْ تكلَّموا فِي الله عزَّ وجلَّ بِمَا ينكرهُ العلماءُ العقلاءُ. لاَ يوافقُ قولَهم كتابٌ وَلاَ سنَّةٌ، وَلاَ قولُ الصَّحابةِ، وَلاَ قولُ أئمَّةِ المسلمينَ، وإنِّي لأستوحشُ أنْ أذكرَ قبيحَ أفعالهم تنزيهًا منِّي لجلالِ اللهِ عزَّ وجلَّ وعظمتهِ، كَمَا قَالَ ابنُ المبارك رَحمةُ الله عليهِ: «إنَّا لنستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ اليهودِ والنَّصارى، وَلاَ نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجهميَّةِ». ثمَّ إنَّهم إِذَا أنكرَ عليهمْ سوءُ مذهبهم، قالوا: لنا حجَّةٌ منْ كتابِ الله عزَّ وجلَّ. فإذا قِيلَ لهم: مَا الحجَّةُ؟! قالوا: قَالَ الله عزَّ وجلَّ فِي كتابهِ فِي سورةِ المجادلة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] وبقولهِ عزَّ وجلَّ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} - إِلَى قوله - {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد 3 - 4]. فلبَّسوا عَلَى السَّامعِ منهم بِمَا تَأَوَّلوهُ، وفَسَّروا القرآنَ عَلَى مَا تهوى نفوسهم، فضلُّوا وأضلُّوا. فمنْ سمعهم ممَّنْ جهلَ العلمَ، ظنَّ أنَّ القولَ كَمَا قالوه، وليسَ هُوَ كَمَا تأوَّلوهُ عندَ أهلِ العلمِ.

والذي يذهبُ إليهِ أهلُ العلمِ: أنَّ الله عزَّ وجلَّ سبحانَهُ عَلَى عرشهِ فَوْقَ سماواتهِ، وعلمهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، قَدْ أحاطَ علمهُ فِي جميعِ مَا خلقَ فِي السَّمَاوَاتِ العلا، وبجميعِ مَا فِي سبعِ أرضينَ وما بينهما، وما تحتَ الثَّرى وما بينهما، يعلمُ السِّرَّ وأخفى، ويعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصُّدور، ويعلمُ الخطرةَ والهمَّةَ، ويعلمُ مَا توسوسُ بِهِ النُّفوسُ، يسمعُ ويرى، لاَ يعزبُ عَنِ الله عزَّ وجلَّ مثقالُ ذرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ والأرضينَ وما بينهنَّ، إلَّا وقدْ أحاطَ عِلْمُهُ بهِ، وهوَ عَلَى عَرْشِهِ سُبْحَانهُ العَلِيُّ الأَعْلَى، تُرفعُ إليه أعمالُ العبادِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنَ الملائكةِ الذينَ يَرْفَعُونها باللَّيلِ والنَّهارِ. فإنْ قَالَ قائلٌ: فإيش معنى قولِهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية ... التي بِهَا يحتجُّون؟ قِيلَ لهُ: عِلْمُهُ عزَّ وجلَّ، واللهُ عزَّ وجلَّ عَلَى عرشهِ، وعِلْمُهُ محيطٌ بهم، وبكلِّ شيءٍ منْ خلقهِ، كذا فسَّرهُ أهلُ العلمِ، والآيةُ يدلُّ أوَّلها وآخرهَا عَلَى أنَّهُ العلمُ. فإنْ قَالَ قائلٌ: كيفَ؟! قِيلَ: قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} ... } [المجادلة: 7] إلى آخرِ الآيةِ قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]. فابتدأَ الله عزَّ وجلَّ الآيةَ بالعلمِ، وختمهَا بالعلمِ، فعِلْمُهُ عزَّ وجلَّ محيطٌ بجميعِ خلقهِ، وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وهذا قولُ المسلمينَ.

وفي كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ آياتٌ تَدُلُّ عَلَى أنَّ اللهَ تبارك وتعالى فِي السَّمَاءِ عَلَى عرشهِ، وعِلْمُهُ محيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ. ثمَّ ذكرَ آياتٍ دالَّةً عَلَى العُلُوِّ، وذكرَ جُمْلَةً مِنَ الأحاديثِ إِلَى أنْ قَالَ: فهذه السننُ قَدِ اتَّفقتْ معانيها، ويُصَدِّقُ بعضُهَا بعضًا، وكلُّها تَدُلُّ عَلَى مَا قلنا، أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عَلَى عَرْشِهِ، فَوْقَ سماواتِهِ، وقدْ أحاطَ عِلْمُهُ بكلِّ شيءٍ، وأنَّهُ سميعٌ بصيرٌ، عليمٌ خبيرٌ. وقدْ قَالَ جلَّ ذِكْرُهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. وقدْ علَّمَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّتهُ أنْ يقولوا فِي السُّجودِ: «سبحان ربِّيَ الأعلى» ثلاثًا. وهذا كُلُّهُ يُقَوِّي مَا قلنا: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ العَلِيُّ الأعلى، عَلَى عرشهِ، فَوْقَ السَّمَاوَاتِ العلا، وعِلْمُهُ محيطٌ بكلِّ شيءٍ، خلافَ مَا قالتهُ الحُلولِيَّةُ، نعوذُ باللهِ منْ سوءِ مذهبهم ... وممَّا يُلَبِّسونَ بهِ على منْ لا عِلْمَ معهُ احْتَجُّوا بقولهِ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] وبقولهِ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. وهذا كلُّهُ إنَّما يطلبونَ بهِ الفتنةَ، كمَا قالَ الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. وعندَ أهلِ العلمِ مِنْ أهلِ الحقِّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *} [الأنعام: 3] فهوَ كمَا قالَ أهلُ العلمِ ممَّا جاءتْ بهِ السننُ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ على عَرْشِهِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ، يعلمُ ما تُسِرُّونَ وما تُعْلِنُونَ، يعلمُ الجهرَ مِنَ القولِ ويعلمُ ما تَكْتُمُونَ.

63 - الحافظ أبو الشيخ (369هـ)

وقولهُ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فمعناهُ: أنَّهُ جلَّ ذكرهُ إلهُ مَنْ في السَّمواتِ، وإلهُ منْ في الأرضِ، إلهٌ يُعبدُ في السَّمواتِ، وإلهٌ يُعبدُ في الأرضِ، هكذا فسَّرهُ العلماءُ (¬1). 63 - الحافظُ أبو الشيخ (369هـ) قَالَ محدِّثُ أصبهانَ أبو محمد ابن حيَّان رحمه الله فِي كتاب «العظمة» (¬2) له: ذِكْرُ عَرْشِ الرَّبِّ تباركَ وتعالى وكُرْسِيِّهِ، وعِظَمِ خَلْقِهِما، وعُلُوِّ الرَّبِّ فَوْقَ عَرْشِهِ. ثمَّ ساقَ جملةً مِنَ الأحاديثِ فِي ذَلِكَ. 64 - العلاّمة أبو بكر الإسماعيليُّ (371هـ) قَالَ رحمه الله فِي كتابِ «اعتقادِ أئمَّةِ الحديثِ» (ص50): «ويعتقدونَ أنَّ الله تَعَالَى ... اسْتَوى عَلَى العرشِ، بلا كيفٍ. فإنَّ الله تَعَالَى انتهى منْ ذَلِكَ إِلَى أنَّهُ استوى عَلَى العرشِ، ولمْ يذكرْ كيفَ كَانَ اسْتِوَاؤُهُ». 65 - أبو الحسن بنُ مهدي المتكلِّمُ (380هـ) قالَ في كتابِ «مشكل الآياتِ» لهُ في بابِ قولهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]: «اعلمْ - عصمنا الله وإيَّاكَ مِنَ الزيغِ برحمته - أنَّ الله سبحانه في السَّمَاء فوقَ كلِّ شيءٍ، مستوٍ على عرشهِ، بمعنى أنَّه عَالٍ عليه، ومعنى الاستواءِ: الاعتلاءُ، كمَا تقولُ: استويتُ على ظهرِ الدَّابةِ، واستويتُ على السَّطحِ، يعني: عَلَوْتُهُ، واستوتِ الشَّمسُ على رأسي، واستوى الطيرُ على قمَّةِ رأسي، بمعنى علا في الجوِّ، فوجدَ فوقَ رأسي. ¬

_ (¬1) الشريعة (ص1072 - 1105)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي. (¬2) (2/ 543).

والقديمُ جلّ جلاله، عالٍ على عرشهِ، يَدُلُّكَ أنَّه في السَّماء عالٍ على عرشهِ، قولُه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وقولهُ: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وزعمَ البلخيُّ: أنَّ استواءَ الله على العرشِ، هو الاستيلاءُ عليهِ، مأخوذٌ منْ قولِ العربِ: استوى بشرٌ على العراقِ، أي: استولى عليها. قالَ: ممَّا يدلُّ على أنَّ الاستواءَ - هاهنا - ليسَ بالاستيلاءِ، أنَّه لو كانَ كذلكَ، لم يكنْ ينبغي أنْ يخُصَّ العرشَ بالاستيلاءِ عليهِ، دونَ سائرِ خَلقهِ، إذْ هوَ مُسْتَوْلٍ على العرشِ، وعلى سائرِ خلقهِ، ليسَ للعرشِ مَزِيَّةٌ على مَا وصفْتهُ، فبَانَ بذلكَ فسادُ قولهِ. ثمَّ يقالُ لهُ أيضًا: إنَّ الاستواءَ، ليسَ هوَ الاستيلاءَ، الذي هوَ مِنْ قولِ العربِ: استوى فلانٌ على كذا، أي: استولى، إذ تَمَكَّنَ منهُ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مُتَمَكِّنًا، فلمَّا كانَ الباري عزَّ وجلَّ لا يوصفُ بالتَّمَكُّنِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مُتَمَكِّنًا، لمْ يُصْرفُ معنى الاستواءِ إلى الاستيلاءِ. ثمَّ قالَ: فإنْ قيلَ: ما تقولونَ في قولهِ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]؟ قيلَ لهُ: معنى ذلكَ أنَّهُ فوقَ السَّماءِ على العَرْشِ، كمَا قالَ: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 20]، بمعنى على الأرضِ، وقال: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] يعني على جذوعِ النَّخْلِ، فكذلكَ قولهُ: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] بمعنى: فَوْقَ السَّمَاءِ على العَرْشِ.

فإنِ استدلُّوا بقولهِم على أنَّه في كلِّ مكانٍ بقولهِ سبحانهُ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] قيلَ لهُ: ليسَ الأمرُ في ذلكَ على ما سبقَ إلى قلوبكم، إنَّما أرادَ بذلكَ أنَّه إلهٌ عندَ أهلِ الأرضِ وإلهٌ عندَ أهلِ السَّماءِ، كقولكَ: زيدٌ نبيلٌ عندَ أهلِ العراقِ وعندَ أهلِ الحجازِ، وليسُ يوجبُ هذا أنَّ ذاتهُ بالعراقِ والحجازِ. فإنْ قيلَ: فمَا تقولونَ في قولهِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]؟ قيلَ لهُ: إنَّ بعضَ القرَّاءِ يجعلُ الوقفَ في {السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3] ثمَّ يبتدئُ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} [الأنعام: 3]، وكيفما كانَ، فلو أنَّ قائلًا قالَ: فلانٌ بالشَّامِ والعراقِ ملكٌ، لدلَّ على أنَّ ملكهُ بالشَّامِ والعراقِ، لا أنَّ ذاتهُ فيهما. فإنْ قيلَ: فما يقولُ في قولهِ سبحانهُ: {يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7]. قيلَ لهُ: كونُ الشَّيءِ مَعَ الشَّيءِ على وجوهٍ: منها بالنُّصرةِ، ومنهَا بالصحبةِ، ومنهَا بالمماسةِ، ومنها بالعلمِ. فمعنى هذا القولِ عندنا: أنَّه مَعَ كلِّ الخلقِ بالعلمِ، بمعنى أنَّه يعلمهم ولا يخفى عليه منهم شيءٌ سبحانَهُ ... وإنَّما أمرنَا الله تعالى برفعِ أيدينا قاصدينَ إليهِ برفعهمَا نحوَ العرشِ الذي هوَ مستوٍ عليهِ كمَا قالَ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]» (¬1). ¬

_ (¬1) تأويل الآيات المشكلة - ورقة 132/أ - 135/أ (مخطوط في مكتبة طلعت، ضمن دار الكتب في القاهرة).

66 - ابن بطة (387هـ)

66 - ابنُ بطَّة (387هـ) قَالَ الإمامُ الزاهدُ أبو عبد الله بن بطّة العكبري شيخُ الحنابلةِ فِي «الإبانة»: «بابُ الإيمانُ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ على عَرْشِهِ بائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ. أجمعَ المسلمونَ مِنَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ، وجميعُ أهلِ العلمِ مِنَ المؤمنينَ أنَّ الله تباركَ وتعالى على عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاواتِهِ، بائِنٌ منْ خَلْقَهِ، وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بجميعِ خَلْقِهِ، لا يأبى ذلكَ، ولا يُنْكِرُهُ إلَّا مَنِ انْتَحَلَ مذاهبَ الحُلوليَّةِ: وهمْ قومٌ زاغتْ قلوبهم، واسْتَهْوَتْهُمُ الشَّياطينُ فمَرَقُوا مِنَ الدِّينِ. وقالوا: إنَّ الله ذاته لا يخلو منهُ مكانٌ. فقالوا: إنَّهُ في الأرضِ كمَا هو في السَّماءِ، وهو بذاتهِ حَالٌّ في جميعِ الأشياءِ. وقدْ أكذبهمُ القرآنُ والسُّنَّةُ وأقاويلُ الصَّحابةِ والتَّابعينَ مِنْ علماءِ المسلمينَ. فقيلَ للحلوليِّةِ: لِمَ أنكرتمْ أنْ يكونَ اللهُ تعالى على العرشِ؟ وقال اللهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]. فهذا خبرُ الله أَخْبَرَ بهِ عنْ نَفْسِهِ، وأنَّهُ على العَرْشِ. وقال: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: 3]، ثمَّ قالَ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} [الأنعام: 3]، فأخبرَ أنَّهُ في السَّماءِ، وأنَّهُ بِعِلْمِهِ في الأرضِ. وقَالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، فهلْ يكونُ الصُّعودُ إلَّا إلى ما علا؟. وقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1] فَأَخْبَرَ أنَّهُ أعلى مِنْ خلقِهِ. وقَالَ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، فأخبرَ أنَّهُ فوقَ الملائكةِ. وقدْ أخبرنَا اللهُ تعالى أنَّهُ في السَّمَاءِ على العرشِ.

أَوَ مَا سَمِعَ الحُلوليُّ قولَ الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16 - 17]. وقولَه لعيسى عليه السلام: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. وقَالَ: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. وقَالَ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18 و61]. وقَالَ: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ *} {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 3 - 4]. وقَالَ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [الأنبياء: 19]. وقَالَ: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15]، ومِثْلُ هذا كثيرٌ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ. فأمَّا قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فهوَ كمَا قالَ العلماءُ: عِلْمُهُ. وأمَّا قولُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]، كمَا قالَ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} [الأنعام: 3]، ومعناهُ أيضًا: أنَّهُ هوَ اللهُ في السَّماواتِ، وهوَ اللهُ في الأرضِ. وتصديقُ ذلكَ في كتابِ الله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. واحْتَجَّ الجَهْمِيُّ بقولِ الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. فقالوا: إنَّ الله معنا وفينا.

وقدْ فسَّر العلماءُ هذهِ الآية: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ} [المجادلة: 7] إلى قولهِ: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، إنَّما عنى بذلكَ: عِلْمُهُ، ألاَ ترى أنَّهُ قالَ في أوَّلِ الآيةِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]، فرجعتِ الهاءُ والواوُ منْ هو على عِلْمِهِ لا على ذَاتِهِ. ثمَّ قالَ في آخرِ الآيةِ: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، فعادَ الوصفُ إلى العلمِ، وبَيَّنَ أنَّهُ إنَّما أرادَ بذلكَ العِلْمَ، وأنَّهُ عليمٌ بأمورِهم كُلِّها» (¬1). وقالَ رحمه الله: «بابُ ذِكْرِ العَرْشِ والإيمانِ بأنَّ لله تعالى عَرْشًا فوقَ السَّمواتِ السَّبْعِ. اعلموا - رحمكمُ الله -: أنَّ الجهميةَ تجحدُ أنَّ لله عرشًا، وقالوا: لا نقولُ إنَّ اللهَ على العَرْشِ؛ لأنَّهُ أعظمُ مِنَ العرشِ، ومتىَ اعترفنا أنَّه على العرشِ؛ فقدْ حَدَّدْناهُ، وقدْ خَلَتْ منهُ أماكنُ كثيرةٌ غيرُ العرشِ؛ فرَدُّوا نصَّ التنزيلِ، وكذَّبوا أخبارَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. قال اللهُ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} [الفرقان: 59].وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]. وجاءتِ الأخبارُ، وصحيحُ الآثارِ منْ جهةِ النَّقلِ عَنْ أهلِ العدالةِ، وأئمَّةِ المسلمينَ عَنِ المصطفى صلى الله عليه وسلم منْ ذِكْرِ العرشِ ما لا يُنْكِرُهُ إلا المُلْحِدَةُ الضَّالَّةُ» (¬2). ¬

_ (¬1) راجع: المختار من الإبانة (3/ 136 - 144). (¬2) المصدر السابق (ص168).

67 - ابن أبي زيد (386هـ)

67 - ابنُ أبي زيدٍ (386هـ) قالَ الإمامُ أبو محمد بن أبي زيد المغربي شيخُ المالكية في كتابهِ «الجامع»: «ممَّا اجتمعتِ الأئمةُ عليهِ منْ أمورِ الديانةِ ومِنَ السننِ التي خلافُهَا بدعةٌ وضلالةٌ أنَّ الله - تبارك وتعالى - فوقَ سماواتِهِ على عَرْشِهِ دونَ أرضِهِ وأنَّهُ في كُلِّ مكانٍ بِعِلْمِهِ» (¬1). وقال رحمه الله في أوَّلِ رسالتهِ المشهورةِ في مذهبِ مالكٍ الإمام: «وأنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ المَجِيدُ بِذَاتِهِ، وهُوَ في كُلِّ مَكِانٍ بِعِلْمِهِ» (¬2). قالَ الإمامُ الذهبيُّ معقِّبًا: ... واللهُ تعالى خالقُ كلِّ شيءٍ بذاتهِ، ومُدَبِّرُ الخلائقِ بذاتهِ، بِلاَ مُعينٍ، ولا مُؤازِرٍ؛ وإنَّما أرادَ ابنُ أبي زيدٍ وغيرهُ التَّفرقةَ بينَ كونه تعالى معنَا، وبينَ كونهِ تعالى فوقَ العرشِ، فهوَ كمَا قالَ: ومعنَا بالعلمِ، وأنَّهُ على العرشِ كما أعلمنا حيثُ يقولُ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقدْ تلفَّظَ بالكلمةِ المذكورةِ جماعةٌ مِنَ العلماءِ كمَا قدَّمناه (¬3). وكانَ رحمه الله عَلَى طريقةِ السَّلفِ فِي الأصولِ، لاَ يدري الكلامَ، وَلاَ يتأوَّلُ، فنسألُ الله التَّوفيقَ (¬4). 68 - ابنُ مَنْدَه (395هـ) قالَ رحمه الله في «كتابِ التَّوحيدِ»: «ذِكْرُ الآيِ المَتْلُوَّةِ والأخبارِ المأثورةِ في أنَّ الله عزَّ وجلَّ على العَرْشِ فَوْقَ خَلْقِهِ بَائِنًا عنهم وبدءِ خلقِ العرشِ والماءِ، ثمَّ ذكرَ ثلاثَ آياتٍ في استواءِ الرَّحمنِ على العَرْشِ» (¬5). ¬

_ (¬1) كتاب الجامع (ص139 - 141). (¬2) مقدمة ابن أبي زيد القيرواني لكتابه الرسالة (ص56). (¬3) مختصر العلوّ (ص255). (¬4) السير (12/ 17). (¬5) كتاب التوحيد (3/ 185).

69 - ابن أبي زمنين (399هـ)

وقالَ رحمه الله: ذِكْرُ الآياتِ المَتْلوَّةِ والأخبارِ المأثورةِ بنقلِ الرواةِ المقبولةِ التي تَدُلُّ على أنَّ الله تعالى فوقَ سماواتِهِ وعَرْشِهِ وخَلْقِهِ قاهرًا لهم عالمًا بهم. ثمَّ ذكرَ آياتٍ دالَّةً على العُلُوِّ. وساقَ جُمْلةً مِنَ الأحاديثِ في ذلكَ (¬1). 69 - ابنُ أبي زمْنِين (399هـ) قالَ رحمه الله: «ومنْ قولِ أهلِ السُّنَّةِ: أنَّ الله عزَّ وجلَّ خَلَقَ العَرْشَ واختصَّهُ بالعُلُوِّ والارتفاعِ فوقَ جميعِ ما خلقَ، ثمَّ استوى عليهِ كيفَ شاءَ، كمَا أخبرَ عنْ نفسهِ ... فسبحانَ مَنْ بَعُدَ فلا يُرى، وقرُبَ بِعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ فسَمِعَ النَّجْوَى» (¬2). 70 - القَصّابُ (400هـ) قال الحافظُ الإمامُ أبو أحمد بن علي بن محمد المجاهد في «كتابِ السنَّةِ»: كلُّ صفةٍ وصفَ اللهُ بها نفسهُ، أو وصفهُ بها نبيُّهُ، فهيَ صفةٌ حقيقيَّةٌ لا مجازًا» (¬3). 71 - ابنُ الباقلانيُّ (403هـ) قال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب البصري الباقلاني في كتابِ «التمهيدِ» منْ تأليفهِ: «فإنْ قالوا: فهلْ تقولونَ إنَّه فِي كلِّ مكانٍ؟ ¬

_ (¬1) انظر: كتاب التوحيد (3/ 185 - 190). (¬2) أصول السنَّة (ص88). (¬3) تذكرة الحفاظ (3/ 338 - 339).

قِيلَ: مَعاذَ الله! بلْ هُوَ مستوٍ عَلَى العرشِ، كَمَا أخبرَ فِي كتابهِ فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. ولوْ كَانَ فِي كلِّ مكانٍ، لكانَ فِي جوفِ الإنسانِ وفمهِ وفي الحشوشِ والمواضعِ التي يُرْغَبُ عنْ ذكرهَا - تَعَالَى اللهُ عنْ ذَلِكَ! ـ ولوجبَ أن يزيدَ بزيادةِ الأماكنِ إِذَا خلقَ منها مَا لَمْ يكن خلقهُ، وينقصُ بنقصانها إِذَا بطلَ منها مَا كَانَ؛ ولصحَّ أنْ يرْغبَ إليهِ إِلَى نحو الأرضِ وإلى وراءِ ظهورنَا وعنْ أيماننا وشمائلنَا. وهذا مَا قَدْ أجمعَ المسلمونَ عَلَى خلافهِ وتخطئةِ قائلهِ. فإنْ قالوا: أَفَلَيْسَ قَدْ قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]- فأخبرَ أنَّهُ فِي السَّمَاءِ وفي الأرضِ - وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128]، وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] فِي نظائر لهذهِ الآياتِ. فمَا أنكرتم أنَّهُ فِي كلِّ مكانٍ؟

يقالُ لهم: قولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] المرادُ بِهِ أنَّه إلهٌ عندَ أهلِ السَّمَاءِ وإلهٌ عندَ أهلِ الأرضِ، كَمَا تقولُ العربُ: «فلانٌ نبيلٌ مطاعٌ بالعراقِ ونبيلٌ مطاعٌ بالحجازِ» يعنونَ بذلكَ أنَّهُ مطاعٌ فِي المِصْرَيْنِ وعندَ أهلهمَا، وليسَ يَعْنُونَ أنَّ ذاتَ المذكورِ بالحجازِ والعراقِ موجودةٌ. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128]، يعني: بالحفظِ والنَّصرِ والتّأييدِ، ولم يردْ أنَّ ذاتهُ معهم - تَعَالَى عنْ ذَلِكَ! وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] محمولٌ عَلَى هَذَا التأويلِ. وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] يعني: أنَّه عالمٌ بهم وبمَا خفيَ منْ سرائرهم ونجواهم. وهذا إنَّما يُستعملُ كَمَا وردَ بِهِ القرآنُ. فلذلكَ لاَ يجوزُ أنْ يقالَ - قياسًا عَلَى هَذَا -: إنَّ الله سبحانهُ بالبردانِ وبمدينةِ السَّلامِ، وإنَّه تَعَالَى مَعَ الثَّورِ ومَعَ الحمارِ؛ وَلاَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ مَعَ الفسَّاقِ والمُجَّان ومَعَ المصعدينِ إِلَى حلوانَ، قياسًا عَلَى قولهِ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] فوجبَ أنْ يكونَ التأويلُ عَلَى مَا وصفناهُ. وَلاَ يجوزُ أن يكونَ معنى استوائِهِ عَلَى العرشِ هُوَ استيلاؤهُ عَلَيهِ كَمَا قَالَ الشَّاعرُ: قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العراقِ ... من غيرِ سَيْفٍ ودَمٍ مِهْرَاقِ لأنَّ الاستيلاءَ هُوَ القدرةُ والقهرُ، والله تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قادرًا قاهرًا عزيزًا مقتدرًا. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يقتضي استفتاحَ هَذَا الوصفِ بعدَ أنْ لَمْ يكنْ؛ فَبَطَلَ مَا قالوهُ» (¬1). ¬

_ (¬1) التمهيد (ص260 - 262).

72 - ابن موهب (406هـ)

قال الذهبي رحمه الله: «فهذا النفس نفس هذا الإمامِ، وأينَ مثلُهُ في تبحُّرهِ وذكائهِ وبصرهِ بالمللِ فلقد امتلأ الوجودُ بقومٍ لا يدرونَ ما السلفَ، ولا يعرفونَ إلَّا السلبَ، ونفيَ الصفاتِ وردَّهَا، صمٌّ بكمٌّ عتمٌّ عجمٌّ، يدعونَ إلى العقلِ، ولا يكونونَ على النَّقلِ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون» (¬1). 72 - ابنُ موهب (406هـ) قَالَ العلَّامةُ أبو بكرٍ محمَّدُ بنُ موهب المالكيُّ فِي شرحهِ لرسالةِ الإمامِ محمَّد بن أبي زيد: «أمَّا قولهُ: (إِنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ المَجِيدِ بِذَاتِهِ) فمعنى (فَوْقَ) و (على) عندَ جميعِ العربِ واحدٌ. وفي الكتابِ والسنَّةِ تصديقُ ذلكَ، وَهُوَ قوله تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. وساقَ حديثَ الجاريةِ والمعراجِ إِلَى سدرةِ المنتهى، إِلَى أنْ قَالَ: «وقدْ تأتي لفظةُ (فِي) فِي لغةِ العربِ بمعنى فوق، كقولهِ تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] و {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]. قَالَ أهلُ التَّأويلِ: يريدُ فوقهَا، وَهُوَ قولُ مالكٍ ممَّا فهمهُ عمَّنْ أدركَ مِنَ التَّابعينَ ممَّا فَهِمُوهُ عَنِ الصَّحابةِ، ممَّا فهموهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ فِي السَّماءِ، يعني فَوْقَها وعَلَيْهَا، فلذلكَ قَالَ الشيخُ أبو محمَّد: (إنَّهُ فَوْقَ عَرْشِه) ثمَّ بيَّنَ أنَّ عُلُوَّهُ فَوْقَ عرشِهِ إنَّما هُوَ بذاتهِ لأنَّه تَعَالَى بائنٌ عنْ جميعِ خلقهِ بلا كيفٍ، وَهُوَ فِي كُلِّ مكانٍ بِعِلْمِهِ لاَ بِذَاتِهِ. إِذْ لاَ تحويهِ الأماكنُ، لأنَّهُ أعظمُ منهَا، قَدْ كَانَ وَلاَ مكانَ». ¬

_ (¬1) مختصر العلو (ص259).

73 - معمر بن زياد (418هـ)

ثمَّ سردَ كلامًا طويلًا إِلَى أنْ قَالَ: «فلمَّا أيقنَ المنصفونَ إفرادَ ذِكْرِهِ بالاستواءِ عَلَى عَرْشِهِ بعدَ خلقِ سماواتِهِ وأرضِهِ، وتخصيصِهِ بصفةِ الاستواءِ، عَلِمُوا أنَّ الاسْتِوَاءَ هنا غيرُ الاستيلاءِ ونحوِهِ، فأَقَرُّوا بوصفِهِ بالاستواءِ عَلَى عرشهِ، وأنَّهُ عَلَى الحقيقةِ لاَ عَلَى المَجازِ، لأنَّهُ الصَّادقُ فِي قِيْلِهِ، وَوَقَفُوا عنْ تكييفِ ذَلِكَ وتمثيلِهِ، إذْ لَيْسَ كمثلِهِ شيءٌ» (¬1). 73 - مَعْمَرُ بنُ زيادٍ (418هـ) قالَ الإمامُ العارفُ أبو منصور مَعْمَرُ بن أحمد بن زياد الأصبهاني رحمه الله: «أحببتُ أنْ أوصيَ أصحابي بوصيةٍ مِنَ السنَّةِ، وأجمعُ ما كانَ عليهِ أهلُ الحديثِ والأثرِ، وأهلُ المعرفةِ والتَّصوفِ»، فذكرَ أشياءَ إلى أنْ قالَ فيهَا: «وأنَّ الله استوى على عَرْشِهِ بلا كَيْفٍ ولا تَشْبِيهٍ ولا تأويلٍ، والاستواءُ معقولٌ والكيفُ فيهِ مجهولٌ، وأنَّهُ عزَّ وجلَّ بائنٌ منْ خلقهِ، والخلقُ منهُ بائنونَ بلا حلولٍ ولا مُمَازَجَةٍ، ولا اختلاطٍ ولا مُلاَصَقَةٍ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدُّنيا كيفَ يشاءُ فيقولُ: «هَلْ منْ دَاعٍ فأستجيبَ لهُ؟ حتىَّ يَطْلُعَ الفَجْرُ»، ونزولُ الرَّبِّ إلى السَّماءِ بلا كَيْفٍ ولا تَشْبِيهٍ، ولا تَأْوِيلٍ، فمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أو تَأَوَّلَ فهوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ» (¬2). 74 - أبو القاسم اللاَلكَائِيُّ (418هـ) قَالَ الإمامُ الحافظُ أبو القاسم هبةُ الله بن الحسن الطبري الشافعي مصنِّف كتاب «شرح اعتقاد أهل السنّة» وَهُوَ مجلَّدٌ ضخمٌ: «سياقُ مَا رُوي فِي قوله تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] وأنَّ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ فِي السَّمَاءِ: ¬

_ (¬1) مختصر العلوّ (ص282 - 283). (¬2) الفتوى الحموية (ص377 - 378).

75 - السلطان (421هـ)

قَالَ عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 16]. فدلَّتْ هذهِ الآيةُ أنَّهُ تَعَالَى فِي السَّمَاءِ وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكلِّ مكانٍ مِنْ أرضهِ وسمائهِ. ورُوي ذَلِكَ مِنَ الصَّحابة: عنْ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ وأمِّ سلمة رضي الله عنهم. ومِنَ التَّابعين: ربيعة بن أبي عبد الرَّحْمن وسليمان التيمي ومقاتل بن حيَّان. وبهِ قَالَ مِنَ الفقهاءِ: مالكُ بنُ أنسٍ وسفيانُ الثوريُّ وأحمدُ بنُ حنبل» (¬1). 75 - السُّلطانُ (421هـ) قال أبو علي بن البنَّاء: «حكى عليُّ بن الحسين العكبري أنَّهُ سمعَ أبا مسعودٍ أحمدَ بنَ محمد البجلي قال: دخلَ ابنُ فورك على السُّلطانِ محمود (¬2)، فقالَ: لا يجوزُ أنْ يُوصفَ اللهُ بالفوقيَّةِ لأنَّ لازمَ ذلكَ وصفُهُ بالتَّحتيَّةِ، فمنْ جازَ أنْ يكونَ لهُ فوقٌ، جازَ أن يكونَ له تحتٌ. فقال السُّلطانُ: ما أنا وصفتُهُ حتَّى يُلْزِمَنِي، بلْ هوَ وَصَفَ نَفْسَهُ. فبُهتَ ابنُ فورك، فلمَّا خرجَ مِنْ عندهِ ماتَ. فيقالُ: انشقَّتْ مَرارَتُه» (¬3). ¬

_ (¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة (3/ 429 - 430). (¬2) هو الملك يمين الدولة، فاتح الهند، أبو القاسم، محمود بن سيد الأمراء ناصر الدولة سُبُكْتِكين، التركيّ، صاحب خراسان والهند وغير ذلك. (¬3) السير (17/ 487).

76 - يحيى بن عمار (422هـ)

76 - يحيى بنُ عمَّارٍ (422هـ) قال المفسِّرُ الحنبليُّ يحيى بنُ عمَّارٍ رحمه الله: «كلُّ مسلمٍ منْ أوَّلِ العصرِ إلى عصرنَا هذا إذا دعَا اللهَ سبحانهُ رفعَ يدَيْهِ إلى السَّماءِ. والمسلمونَ منْ عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، يقولونَ في الصَّلاةِ ما أمرهمُ الله تعالى بهِ في قولهِ تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. ولا حاجةَ لله سبحانه وتعالى إلى العرشِ، لكنَّ المؤمنينَ كانوا محتاجينَ إلى معرفةِ ربِّهم عزَّ وجلَّ. وكلُّ منْ عبدَ شيئًا أشارَ إلى موضعٍ، أوْ ذكرَ مِنْ معبودهِ علامةً. فجبَّارُنَا وخالِقُنا، إنَّما خَلَقَ عرشَهُ ليقولَ عبدهُ المؤمنُ، إذا سُئلَ عنْ ربِّهِ عزَّ وجلَّ أينَ هوَ الرحمنُ؟ عَلَى العَرْشِ اسْتَوىَ، معناه فوقَ كُلِّ مُحْدَثٍ عَلَى عَرْشِهِ العظيمِ، وَلاَ كيفيَّةَ وَلاَ شَبَهَ. ولا نحتاجُ في هذا البابِ إلى قولٍ أكثرَ منْ هذا أنْ نؤمنَ بهِ، وننفيَ الكيفيَّةَ عنهُ، ونتَّقيَ الشَّكَّ فيهِ، ونوقنَ بأنَّ ما قالهُ اللهُ سبحانه وتعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، ولا نتفكَّرُ في ذلكَ، ولا نسلِّطُ عليهِ الوهمَ والخاطرَ والوسواسَ. وتعلمُ حقًّا يقينًا أنَّ كلَّ ما تُصُوِّر في همِّكَ ووهمكَ منْ كيفيَّةٍ أو تشبيهٍ، فاللهُ بخلافهِ وغيرهِ. نقولُ: هُوَ بِذَاتِهِ على العَرْشِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكُلِّ شَيءٍ» (¬1). وقال رحمه الله: لا نقولُ كمَا قالتِ الجهميَّةُ: إنَّهُ تعالى مداخلٌ للأمكنةِ وممازجٌ بكلِّ شيءٍ ولا نعلمُ أينَ هوَ؟ بلْ نقولُ هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى العَرْشِ وعِلْمُهُ مُحِيطٌ بكلِّ شَيءٍ، وعلمهُ وسمعهُ وبصرهُ وقدرتهُ مُدْرِكَةٌ لكلِّ شيءٍ. وذلكَ معنى قولهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، فهذَا الذي قلناهُ هوَ كمَا قالَ اللهُ وقالهُ رسولهُ. ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 106 - 107).

77 - القادر بالله أمير المؤمنين (422هـ)

77 - القادرُ بالله أميرُ المؤمنين (422هـ) لهُ معتقدٌ مشهورٌ، قرئَ ببغدادَ بمشهدٍ منْ علمائها وأئمَّتها، وأنَّهُ قولُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ، وفيهِ أشياء حسنة. منْ ذلكَ: «وأنَّهُ خَلَقَ العرشَ لا لحاجةٍ، واسْتَوَى عليهِ كيفَ شاءَ لا استواءَ راحةٍ، وكلُّ صفةٍ وصفَ بها نفسَهُ، أو وصفَهُ بها رسولُهُ فهي صفةٌ حقيقيةٌ لا صفةُ مجازٍ، وكلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ أنزَلَهُ على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم» (¬1). 78 - أبو عمر الطلمنكيُّ (429هـ) قالَ في كتابِ «الوصولِ إلى معرفةِ الأصولِ» وهوَ مجلدانِ: «أجمعَ المسلمونَ منْ أهلِ السنَّةِ على أنَّ معنى قولِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، ونحو ذلكَ مِنَ القرآنِ أنَّهُ عِلْمُهُ، وأنَّ اللهَ تعالى فوقَ السَّماواتِ بذَاتِهِ، مستوٍ على عَرْشِهِ كَيْفَ شَاءَ. وقالَ أهلُ السُّنَّةِ في قولِهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]: إنَّ الاستواءَ مِنَ اللهِ على عَرْشِهِ على الحَقِيقَةِ لا على المَجَازِ» (¬2). 79 - أبو نُعيم الأصبهانيُّ (430هـ) قَالَ الحافظُ أبو نُعيم الأصبهاني صاحبُ «الحلية» فِي عقيدةٍ لهُ قَالَ فِي أوَّلها: «طريقتُنا طريقةُ المتَّبعينَ للكتابِ والسُّنَّةِ، وإجماعِ الأمَّةِ. فممَّا اعتقدوهُ أنَّ الأحاديثَ التي ثبتَتْ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي العرشِ واستواءِ اللهِ يقولونَ بِهَا، ويُثْبتونهَا منْ غيرِ تكييفٍ، وَلاَ تمثيلٍ، وَلاَ تشبيهٍ. وأنَّ اللهَ بائنٌ مِنْ خَلْقِهِ والخلقُ بَائِنُونَ منهُ. لاَ يَحِلُّ فيهمْ وَلاَ يَمْتَزِجُ بهم وَهُوَ مستوٍ عَلَى عرشِهِ فِي سمائِهِ، دونَ أرضِهِ وخَلْقِهِ» (¬3). ¬

_ (¬1) مختصر العلو (ص263). (¬2) مختصر العلو (ص264). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 60).

80 - عبد الله بن يوسف الجويني (438هـ)

وقالَ فِي كتابهِ «محجَّةُ الواثقينَ ومدرجةُ الوامقينَ»: «وأجمعوا أنَّ اللهَ فَوْقَ سماواتِهِ، عالٍ عَلَى عرشِهِ، مُسْتَوٍ عليهِ، لاَ مُسْتَولٍ عَلَيهِ كَمَا تقولُ الجهميَّةُ: إنَّهُ بكلِّ مكانٍ، خلافًا لما نزلَ فِي كتابهِ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]» (¬1). 80 - عبدُ الله بن يوسف الجوينيُّ (438هـ) قَالَ الشَّيخُ العالمُ العلَّامةُ أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والدُ إمامِ الحرمينِ رحمه الله فِي «رسالةٍ فِي إثباتِ الاسْتِوَاءِ والفوقيَّةِ» (¬2): ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 60). (¬2) طبعة دار طويق - الرياض، الطبعة الأولى: 1419هـ.

كنتُ أخافُ مِنْ إطلاقِ القولِ بإثباتِ العلوِّ، والاستواءِ، والنزولِ، مخافةَ الحصرِ والتَّشبيهِ، ومَعَ ذلكَ فإذا طالعتُ النُّصوصَ الواردةَ فِي كتابِ الله وسنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، أجدهَا نصوصًا تشيرُ إِلَى حقائقِ هذهِ المعاني، وأجدُ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم، قدْ صرَّحَ بهَا مخبرًا عنْ ربِّهِ، واصفًا لهُ بها، وأَعلمُ بالاضطرارِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يحضرُ فِي مجلسهِ الشريفِ العالمُ والجاهلُ، والذكيُّ والبليدُ، والأعرابيُّ والجافي، ثمَّ لا أجدُ شيئًا يعقِّبُ تلكَ النُّصوصَ، التي كانَ يصفُ ربَّهُ بها، لا نصًّا وَلاَ ظاهرًا، ممَّا يصرفُها عنْ حقائقها، ويؤوِّلها كَمَا تأوَّلها ... مشايخي الفقهاءِ المتكلِّمينَ مثلُ تأويلهم الاستواءَ بالاستيلاءِ، وللنزولِ بنزولِ الأمرِ وغيرِ ذلكَ. ولم أجدْ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كانَ يحذِّرُ النَّاسَ مِنَ الإيمان بما يظهرُ مِنْ كلامهِ فِي صفتهِ لربِّهِ مِنَ الفوقيَّةِ واليدين وغيرها، ولم ينقلْ عنهُ مقالة تدلُّ عَلَى أنَّ لهذهِ الصِّفاتِ معاني أُخَرَ باطنة، غير مَا يظهرُ منْ مدلُولِها، مثلُ فوقيَّةِ المرتبةِ، .. وغيرِ ذلكَ.

وأجدُ اللهُ عزَّ وجلَّ يقول: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16 - 17]. {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]. {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]. وهذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ موسى أخبرهُ بأنَّ ربَّهُ تعالى فوقَ السَّماءِ ولهذا قالَ {وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 37]. وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ *} [المعارج: 4] الآية. ثمَّ ساقَ جُمْلَةً مِنَ الأحاديثِ الدَّالةِ عَلَى عُلُوِّ الرحمنِ - إِلَى أنْ قَالَ: إِذَا علمنا ذلكَ واعتقدناهُ، تخلَّصنا منْ شبهِ التَّأويلِ، وعماوةِ التَّعطيلِ، وحماقةِ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ، وأثبتنا علوَّ ربِّنا سُبْحَانهُ وفوقيَّته، واستواءَهُ عَلَى عرشهِ، كَمَا يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ، والحقُّ واضحٌ فِي ذلكَ والصُّدورُ تنشرحُ لهُ.

فإنَّ التَّحريفَ تأباهُ العقولُ الصَّحيحةُ، مثلُ تحريفِ الاسْتِوَاءِ: بالاستيلاءِ وغيرهِ، والوقوفُ فِي ذلكَ جهلٌ وعيٌّ، مع كونِ أنَّ الرَّبَّ تعالى وصفَ لنا نفسَهُ بهذهِ الصِّفاتِ لنعرفَهُ بها، فوقوفنا عنْ إثباتها ونفيهَا، عدولٌ عَنِ المقصودِ منهُ فِي تعريفنا إيَّاها، فما وصفَ لَنا نفسَهُ بها إلَّا لنثبتَ مَا وصفَ بِهِ نفسَهُ لنا، وَلاَ نقفُ فِي ذلكَ. وكذلكَ التَّشبيهُ والتَّمثيلُ حماقةٌ وجهالةٌ، فمنْ وفَّقهُ الله تعالى للإثباتِ بلا تحريفٍ، وَلاَ تكييفٍ، وَلاَ وقوفٍ، فقدْ وقعَ عَلَى الأمرِ المطلوبِ منهُ، إنْ شاءَ الله تعالى. والذي شرحَ الله صدري، فِي حالِ هؤلاءِ الشيوخِ، الذين أوَّلوا الاسْتِوَاءَ: بالاستيلاءِ، والنزولَ: بنزولِ الأمرِ، واليدين بالنعمتين والقدرتينِ هو علمي بأنَّهم مَا فهموا فِي صفاتِ الرَّبِّ تعالى إلَّا مَا يليقُ بالمخلوقينَ، فما فهموا عَنِ الله استواءً يليقُ بهِ، وَلاَ نزولًا يليقُ به ولا يدينِ تليقُ بعظمتهِ بلا تكييفٍ وَلاَ تشبيهٍ، فلذلكَ حرَّفوا الكَلِمَ عنْ مواضعهِ، وعطَّلُوا مَا وصفَ الله تعالى نفسهُ بِهِ. ونذكرُ بيانَ ذلكَ إنْ شاءَ الله تعالى. لا ريبَ إنَّا نحنُ وإيَّاهم متَّفقونَ عَلَى إثباتِ صفاتِ الحياةِ، والسَّمعِ، والبصرِ، والعلمِ، والقدرةِ، والإرادةِ، والكلامِ لله. ونحن قطعًا لا نعقلُ مِنَ الحياةِ إلَّا هَذَا العَرَض الّذي يقومُ بأجسامنا، وكذلكَ لا نعقلُ مِنَ السَّمعِ والبَّصرِ إلَّا أعراضًا تقومُ بجوارحنَا. فكمَا أنَّهم يقولونَ: حياتُه ليستْ بِعَرَضٍ، وعلمهُ كذلكَ، وبصرهُ كذلكَ، هي صفاتٌ كَمَا تليقُ بهِ، لا كَمَا تليقُ بنا. فكذلكَ نقولُ نحنُ: حياتهُ معلومةٌ وليستْ مُكيَّفةً، وعلمهُ معلومٌ وليسَ مُكيَّفًا، وكذلكَ سمعهُ وبصرهُ معلومانِ، لَيْسَ جميعُ ذلكَ أعراضًا بلْ هوَ كَمَا يليقُ بِهِ.

ومثلُ ذلكَ بعينهِ فوقيَّتهُ واستواؤهُ ونزولهُ، ففوقيَّته معلومةٌ، أعني ثابتة كثبوتِ حقيقةِ السَّمعِ وحقيقةِ البصرِ فإنَّهما معلومانِ وَلاَ يُكيَّفانِ، كذلكَ فوقيَّتهُ معلومةٌ ثابتةٌ، غيرُ مكيَّفةٍ كَمَا يليقُ بهِ، واستواؤهُ عَلَى عرشهِ معلومٌ غيرُ مُكيَّفٍ بحركةٍ أو انتقالٍ يليقُ بالمخلوقِ، بلْ كَمَا يليقُ بعظمتهِ وجلالهِ. صفاتهُ معلومةٌ منْ حيثُ الجملةِ والثبوتِ، غيرُ معقولةٍ منْ حيثُ التكييفِ والتحديدِ، فيكونُ المؤمنُ بِها مبصرًا منْ وجهٍ، أعمى منْ وجهٍ، مبصرًا منْ حيثُ الإثباتِ والوجودِ، أعمى منْ حيثُ التكييفِ والتحديدِ، وبهذا يحصلُ الجمعُ بينَ الإثباتِ لما وصفَ الله تعالى نفسَهُ بهِ، وبينَ نفيِ التَّحريفِ والتَّشبيهِ والوقوفِ، وذلكَ هو مرادُ الرَّبِّ تعالى منَّا فِي إبرازِ صفاتهِ لنا لنعرفهُ بها، ونؤمنُ بحقائقها وننفيَ عنهَا التَّشبيهَ، وَلاَ نعطِّلها بالتَّحريفِ والتَّأويلِ، وَلاَ فرقَ بينَ الاسْتِوَاءِ والسمعِ، وَلاَ بينَ النزولِ والبصرِ، الكلُّ وردَ فِي النَّصِّ. فإنْ قالوا لنا: فِي الاسْتِوَاءِ شبَّهتم. نقولُ لهم: فِي السَّمعِ شبَّهتم، ووصفتم ربَّكم بالعَرَض!! فإنْ قالوا: لا عرض، بل كَمَا يليقُ بِهِ. قلنا: فِي الاسْتِوَاءِ والفوقيَّةِ لا حَصْرَ، بلْ كَمَا يليقُ بهِ، فجميعُ مَا يلزمونَا بِهِ فِي الاستواءِ، والنزولِ، واليدِ، والوجهِ، والقدمِ والضحكِ، والتعجُّبِ مِنَ التَّشبيه، نلزمهمْ بِهِ فِي الحياةِ والسَّمعِ، فكمَا لا يجعلونها همْ أعراضًا، كذلكَ نحنُ لا نجعلهَا جوارحَ، وَلاَ مَا يوصفُ بِهِ المخلوقُ. وليسَ مِنَ الإنصافِ أنْ يفهموا فِي الاسْتِوَاءِ والنزولِ، والوجهِ، واليد صفاتِ المخلوقينَ فيحتاجوا إِلَى التَّأويلِ والتَّحريفِ. فإنْ فهموا فِي هذه الصِّفاتِ ذلكَ فيلزمهم أنْ يفهموا فِي الصِّفاتِ السبعِ، صفاتِ المخلوقينَ مِنَ الأعراضِ!!

فما يلزمونَا فِي تلكَ الصِّفاتِ، مِنَ التَّشبيهِ والجِسْمِيَّةِ، نلزمهمْ بِهِ فِي هذهِ الصِّفاتِ مِنَ العرضيةِ، وما ينزَّهونَ ربَّهم بِهِ فِي الصِّفاتِ السَّبعِ، وينفونَ عنهُ عوارضَ الجسمِ فيها، فكذلكَ نحنُ نعملُ فِي تلكَ الصِّفاتِ، التي ينسبونا فِيهَا إِلَى التَّشبيهِ سواءٌ بسواءٍ. ومنْ أنصفَ، عرفَ مَا قلنا واعتقدهُ، وقبلَ نصيحتنَا، ودانَ لله بإثباتِ جميعِ صفاتهِ هذهِ وتلكَ، ونفى عنْ جميعهَا التَّشبيهَ، والتَّعطيلَ، والتَّأويلَ، والوقوفَ. وهذا مرادُ الله تعالى منَّا فِي ذلكَ، لأنَّ هذه الصِّفاتِ وتلكَ، جاءتْ فِي موضعٍ واحدٍ، وهو الكتابُ والسنَّةُ، فإذا أثبتنا تلكَ بلا تأويلٍ، وحرَّفنا هذهِ وأوَّلناها، كنَّا كمنْ آمنَ ببعضِ الكتابِ وكفرَ ببعضٍ، وفي هَذَا بلاغٌ وكفايةٌ إنْ شاءَ الله تعالى ... ثمَّ قَالَ رحمه الله مبيِّنًا أثرَ هذهِ العقيدةِ فِي قلبِ المؤمنِ بها:

العبدُ إِذَا أيقنَ أنَّ الله تعالى فوقَ السَّماءِ، عالٍ عَلَى عرشهِ بلا حصرٍ وَلاَ كيفيَّةٍ، وأنَّهُ الآن فِي صفاتهِ كَمَا كانَ فِي قِدَمِهِ، صارَ لقلبهِ قبلة فِي صلاتهِ وتوجههِ ودعائهِ، ومنْ لا يعرفُ ربَّهُ بأنَّهُ فوقَ سماواتهِ عَلَى عرشهِ، فإنَّهُ يبقى ضائعًا لا يعرفُ وجهةَ معبودهِ، ... بخلافِ منْ عرفَ أنَّ إلههُ الَّذي يعبدهُ فوقَ الأشياءِ، فإذا دخلَ فِي الصَّلاةِ وكبَّرَ، توجه قلبهُ إِلَى جهةِ العرشِ، منزِّهًا ربَّهُ تعالى عَنِ الحصرِ مفردًا لهُ، كَمَا أفردهُ فِي قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ، عالمًا أنَّ هذهِ الجهاتِ منْ حدودنا ولوازمنا، وَلاَ يمكننَا الإشارةُ إِلَى ربِّنا فِي قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ إلَّا بِهَا؛ لأنَّا مُحْدَثونَ، والمُحْدَثُ لاَ بدَّ لهُ فِي إشارتهِ إِلَى جهةٍ، فتقعُ تلكَ الإشارةُ إِلَى ربِّهِ، كَمَا يليقُ بعظمتهِ، لاَ كَمَا يتوهَّمهُ هُوَ منْ نفسهِ، ويعتقدُ أنَّهُ فِي علوِّهِ قريبٌ منْ خلقهِ، هُوَ معهم بعلمهِ وسمعهِ وبصرهِ، وإحاطتهُ وقدرتهُ ومشيئتهُ، وذاتُهُ فَوْقَ الأشياءِ، فَوْقَ العرشِ، ومتىَ شعرَ قلبهُ بذلكَ فِي الصَّلاةِ أَوْ التوجُّهِ أشرقَ قلبهُ، واستنارَ، وأضاءَ ... وقويَ إيمانُهُ، ونزَّهَ ربَّهُ عَنْ صفاتِ خلقهِ مِنَ الحصرِ والحلولِ، وذاقَ حينئذٍ شيئًا منْ أذواقِ السَّابقينَ المقرَّبينَ، بخلافِ منْ لاَ يعرف وجهةَ معبودهِ، وتكونُ الجاريةُ راعيةُ الغنمِ أعلمَ باللهِ منهُ، فإنَّها قالتْ: «فِي السَّمَاءِ» عرفتهُ بأنَّهُ عَلَى السَّمَاءِ.

فإنَّ «فِي» تأتي بمعنى «عَلَى» كقولهِ تَعَالَى: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26] أي عَلَى الأرضِ: وقوله: {ط ظ ع غ {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي عَلَى جذوعِ النَّخلِ. فمنْ تكونُ الراعيةُ أعلمَ بالله منهُ، لكونهِ لاَ يعرفُ وجهةَ معبودهِ، فإنَّهُ لاَ يزالُ مظلمَ القلبِ، لاَ يستنيرُ بأنوارِ المعرفةِ والإيمانِ. ومنْ أنكرَ هَذَا القولَ، فليؤمنُ بهِ، وليجرِّب، ولينظر إِلَى مولاه مِنْ فوقِ عرشهِ بقلبهِ، مبصرًا منْ وجهٍ، أعمى منْ وجهٍ كَمَا سبقَ، مبصرًا منْ جهةِ الإثباتِ والوجودِ والتَّحقيقِ، أعمى منْ جهةِ التَّحديدِ، والحصرِ، والتكييفِ، فإنَّهُ إِذَا عملَ ذلكَ وجدَ ثمرتهُ إنْ شاءَ الله تعالى، ووجدَ نورهُ وبركتهُ عاجلًا وآجلًا، {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] والله سُبْحَانهُ المُوَفِّقُ والمُعِينُ. ثمَّ عقدَ فصلًا فِي تقريبِ مسألةِ الفوقيَّةِ إِلَى الأفهامِ، بمعنًى منْ علمِ الهيئةِ والفلكِ لمنْ عرفهُ قَالَ: لا ريبَ أنَّ أهلَ هَذَا العلمِ حكموا بما اقتضتهُ الهندسةُ، وحكمهَا صحيحٌ لأنَّهُ ببرهانٍ، لا يكابرُ الحسُّ فيهِ بأنَّ الأرضَ فِي جوفِ العالمِ العلويِّ، وأنَّ كرةَ الأرضِ فِي وسطِ السَّمَاءِ كبطيخةٍ فِي جوفِ بطيخةٍ، والسَّماءُ محيطةٌ بهَا منْ جميعِ جوانبهَا، وأنَّ سُفلَ العالمِ هو جوفُ كُرَةِ الأرضِ، وهو المركزُ، ... وهوَ منتهى السفلِ والتحتِ، وما دونهُ لا يسمَّى تحتًا، بل لا يكونُ تحتًا ويكونُ فوقًا، بحيثُ لَوْ فرضنا خرقَ المركزُ وهو سفلُ العالمِ إِلَى تلكَ الجهةِ لكانَ الخرقُ إِلَى جهةِ فوقَ، ولو نفذ الخرقُ جهةَ السَّمَاءِ منْ تلكَ الجهةِ الأخرى لصعدَ إِلَى جهةِ فوقَ.

وبرهانُ ذلكَ أنَّا لَوْ فرضنَا مسافرًا سافرَ عَلَى كرَةِ الأرضِ منْ جهةِ المشرقِ إِلَى جهةِ المغربِ، وامتدَّ مسافرَ المشيِ عَلَى كرةِ الأرضِ إِلَى حيثُ ابتدأ بالسَّيرِ وقطعَ الكرةَ مما يراهُ النَّاظرُ أسفلَ منهُ، وهو فِي سفرهِ هَذَا لم تبرح الأرضُ تحتهُ، والسَّمَاءُ فوقهُ، فالسَّماءُ التي يشهدهَا الحسُّ تحتَ الأرضِ هي فوقَ الأرضِ، لا تحتهَا، لأنَّ السَّمَاءَ فوقَ الأرضِ بالذَّاتِ، فكيفَ كانتِ السَّمَاءُ كانتْ فوقَ الأرضِ، منْ أيِّ جهةٍ فرضتهَا ... وإذا كانَ هَذَا جسمٌ - وهو السَّمَاءُ - علُوُّهَا عَلَى الأرضِ بالذَّاتِ فكيفَ منْ لَيْسَ كمثلهِ شيءٌ وعلُوُّه عَلَى كلِّ شيءٍ بالذَّاتِ كَمَا قَالَ تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]، وقدْ تكرَّر فِي القرآنِ المجيدِ ذكرُ الفوقيَّة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]. لأنَّ فوقيَّتهُ سُبْحَانهُ وعلوَّهُ عَلَى كلِّ شيءٍ ذاتيٌّ لهُ، فهو العليُّ بالذَّاتِ، والعلوُّ صفتهُ اللائقةُ بِهِ كَمَا أنَّ السُّفولَ والرسوبَ والانحطاطَ ذاتيٌّ للأكوانِ عنْ رتبةِ ربوبيَّته، وعظمتهِ، وعلوِّهِ. والعلوُّ والسُّفولُ حدٌّ بينَ الخالقِ والمخلوقِ يتميَّزُ بِهِ عنهُ. هو سُبْحَانهُ عليٌّ بالذَّاتِ، وهوَ كَمَا كانَ قبلَ خلقِ الأكوانِ، ومَا سواهُ مستقلٌ عنهُ بالذَّاتِ. وهوَ سُبْحَانهُ العليُّ عَلَى عرشهِ، يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرضِ، ثمَّ يعرجُ الأمرُ إليهِ، فيحيي هذا، ويميتُ هذا، ويمرضُ هذا، ويشفي هذا، ويعزُّ هذا، ويذلُّ هذا، وهو الحيُّ القيُّومُ القائمُ بنفسهِ، وكلُّ شيءٍ قائمٌ بِهِ (¬1). ¬

_ (¬1) رسالة فِي «إثبات الاسْتِوَاء والفوقية» (ص32 - 84).

81 - أبو عمرو الداني (440هـ)

81 - أبو عَمْرٍو الدّانِيُّ (440هـ) قَالَ عالمُ الأندلس عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّاني رحمه الله فِي «الرسالة الوافية» (ص129 - 132): «ومنْ قولهم: إنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سماواتهِ مستوٍ عَلَى عرشه، ومُسْتَوْلٍ على جميعِ خلقهِ، وبائنٌ منهم بذاتهِ، غيرُ بائنٍ بعلمهِ، بلْ علمهُ محيطٌ بهم، يعلمُ سرَّهم وجهرهم، ويعلمُ ما يكسبونَ عَلَى ما وردَ بِهِ خبرهُ الصَّادقُ، وكتابهُ النَّاطقُ فقالَ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، واستواؤه جلّ جلاله عُلُوُّه بغير كيفيةٍ، ولا تحديدٍ، ولا مجاورةٍ ولا مماسةٍ ... قالَ جلّ جلاله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد: 4]. يعني أَنَّ علمَهُ محيطٌ بهم حيثما كانوا، بدليلِ قولهِ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وقال عزَّ وجلَّ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة: 5] وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقال: {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقال مخبرًا عَنْ فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] الآية.

وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] الآية. المعنى: وَهُوَ المعبودُ فِي السَّمَاوَاتِ وفي الأرضِ ... وقوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] يعني: أَنَّهُ إلهُ أهلِ السَّمَاءِ، وإلهُ أهلِ الأرضِ. وقولُهُ سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128]: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] و: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] يعني: أنَّه يحفظهم وينصرهم ويؤيدهم، لا أنَّ ذاته معهم، تعالى الله عنْ ذلكَ علوًا كبيرًا، وقوله عزَّ وجلَّ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية. يعني: أنَّه تبارك وتعالى عالمٌ بهم وبما خَفِيَ منْ سرِّهم ونجواهم بدليلِ قولهِ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة: 7]، وقوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] فابتدأَ الآيةَ بالعِلْمِ، وختمها بالعِلْمِ» (¬1). وقال في «أرجوزته» التي في عقودِ الدِّيانةِ: كَلَّمَ مُوسى عبدَهُ تكليمًا ... ولم يَزَلْ مُدَبِّرًا حَكِيمًا كلامُهُ وقولُهُ قديمٌ ... وهو فوقَ عَرْشِهِ العَظِيمُ والقولُ في كتابِهِ المُفَضَّلُ ... بأنَّهُ كلامُهُ المُنَزَّلُ على رَسُولِهِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ ... ليسَ بمخلوقٍ ولا بِخَالِقٍ (¬2) ¬

_ (¬1) الرسالة الوافية (ص129 - 132)، طبعة دار الإمام أحمد - الكويت - تحقيق: دغش بن شبيب العجمي. (¬2) الأرجوزة المنبِّهة (ص180)، لأبي عمرو الداني.

82 - علي بن عمر الحربي (442هـ)

82 - عليُّ بنُ عمر الحربيُّ (442هـ) قال علي بن عمر الحربي رحمه الله في «كتاب السنَّة»: ... «وممَّا نعتقدُ: أنَّ للهِ عزَّ وجلَّ عَرشًْا، وهو على العَرْشِ، وعِلْمُهُ تعالى محيطٌ بكلِّ مكانٍ، ما تسقطُ منْ ورقةٍ إلَّا يعلمهَا، ولا حبَّةٍ في ظلماتِ الأرضِ، ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلَّا في كتابٍ مبينٍ. والعرشُ فوقَ السَّماءِ السابعةِ، واللهُ تَعَالَى على العَرْشِ، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال عزَّ وجلَّ: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]. وللعرشِ حَمَلَةٌ يحملونهُ على ما شاءَ الله منْ غيرِ تكييفٍ والاستواءُ معلومٌ والكيفُ مجهولٌ» (¬1). 83 - أبو عثمانَ الصابونيُّ (449هـ) قال رحمه الله: «ويعتقدُ أهلُ الحديثِ ويشْهدونَ أنَّ الله سبحانه وتعالى فوقَ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ على عَرْشِهِ كمَا نطقَ بهِ كتابُهُ، ثمَّ ذكرَ الآياتِ الدَّالَّةَ عَلَى العلوِّ إِلَى أنْ قَالَ: وعلماءُ الأمَّةِ وأعيانُ الأئمَّةِ مِنَ السَّلفِ رحمهمُ الله لم يختلفوا في أنَّ اللهَ تعالى على عَرْشِهِ، وعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، يُثْبتونَ لهُ منْ ذلكَ ما أثبتهُ الله تعالى ويؤمنونَ بهِ ويُصدِّقونَ الرَّبَّ جلّ جلاله في خبرهِ، ويُطْلقونَ ما أَطْلقهُ سبحانه وتعالى من استوائهِ على العرشِ ويُمرُّونهُ على ظاهِرِهِ» (¬2). ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (1/ 248 - 250). (¬2) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص36 - 37).

84 - أبو نصر السجزي (444هـ)

84 - أبو نَصْرٍ السجزيُّ (444هـ) قال في كتاب «الإبانة» الذي ألَّفهُ في السنَّةِ: «أئمَّتنا كسفيانَ الثوريِّ، ومالكٍ، وحمَّادِ بن سلمةَ، وحمَّادِ بنِ زيدٍ، وسفيانَ بنِ عيينة، والفضيلِ، وابنِ المباركِ، وأحمدَ، وإسحاقَ، متَّفقونَ على أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ العَرْشِ، وعِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وأنَّهُ يَنْزِلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وأنَّهُ يَغْضَبُ، ويَرْضَى، وَيَتَكَلَّمُ بما شَاءَ» (¬1). وقال رحمه الله: «لاَ يجوزُ أنْ يُوصفَ الله سُبْحَانهُ إلَّا بما وصفَ بِهِ نفسَهُ أو وصفهُ بِهِ رسولهُ صلى الله عليه وسلم ... قَالَ اللهُ سُبْحَانه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [النحل: 50] وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5] وقال: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 3، 4] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *} [الملك: 16] الآية والآيةُ التي بعدَهَا» (¬2). وعندَ أهلِ الحقِّ أنَّ اللهَ سُبْحَانهُ مُبَايِنٌ لِخَلْقِهِ بذاتِهِ فَوْقَ العَرْشِ بلا كَيْفِيَّةٍ بحيثُ لاَ مَكَانَ. ثمَّ ذكرَ حديثَ الجاريةِ إِلَى أنْ قَالَ: ولقدْ قَالَ الأوسُ بنُ حارثة بن ثعلبة عندَ موتهِ قصيدةً يوصي فِيهَا إِلَى ابنهِ مالكٍ وذلكَ قبلَ الإسلامِ فيها: فَإِنْ تَكُنِ الأيَّامُ أَبْلَيْنَ أَعْظُمِي ... وَشَيَّبْنَ رَأْسِي والمَشِيبُ مَعَ العُمُرِ فإنَّ لنا رَبًّا عَلِيٌّ فَوْقَ عَرْشِهِ ... عَلِيمًا بما نَأْتِي من الخَيْرِ والشَّرِّ ¬

_ (¬1) مختصر العلو (ص266 - 267). (¬2) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص123).

85 - القاضي أبو يعلى (458هـ)

وليسَ فِي قولنا: إنَّ الله سُبْحَانهُ فَوقَ العرشِ تحديدٌ؛ وإنَّما التَّحديدُ يقعُ للمحدثاتِ. فَمِنَ العرشِ إِلَى مَا تحتَ الثَّرى محدودٌ، واللهُ سُبْحَانهُ فوقَ ذَلِكَ بحيثُ لاَ مكانَ وَلاَ حدَّ ... وقدْ ذكرَ الله سُبْحَانهُ فِي القرآنِ مَا يَشفي العَلِيلَ وَهُوَ قولُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *} [طه: 5، 6] فخَصَّ العرشَ بالاستواءِ، وذَكَرَ مُلْكَهُ لسائرِ الأشياءِ فعُلِمَ أنَّ المرادَ بِهِ غيرُ الاستيلاءِ (¬1). 85 - القاضي أبو يعلى (458هـ) قال في كتابِ «المعتمدِ في أصولِ الدِّينِ» عَنِ الاستواءِ: «وقدْ وصفَ نفسَهُ سبحانهُ بالاستواءِ على العرشِ فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقال سبحانهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. والواجبُ إطلاقُ هذه الصِّفةِ منْ غيرِ تأويلٍ وأنَّهُ استواءُ الذَّاتِ على العرشِ لا على معنى القعودِ والمماسةِ، ولا على معنى العلوِّ والرفعةِ، ولا على معنى الاستيلاءِ والغلبةِ، خلافًا للمعتزلةِ في قولهم: معناهُ الاستيلاءُ والغلبةُ، وخلافًا للأشعريةِ في قولهم: معناه العلوُّ منْ طريقِ الرتبةِ والمنزلةِ والعظمةِ والقدرةِ، وخلافًا للكرَّاميَّةِ والمجسِّمةِ أنَّ معناهُ المماسَّةُ للعرشِ بالجلوسِ عليهِ. ثمَّ قالَ بعدَ الردِّ على المخالفينَ: فلمْ يبقَ إلَّا أنْ نحملَ هذهِ الصِّفةِ على إطلاقها» (¬2). ¬

_ (¬1) الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص129 - 131). (¬2) المعتمد في أصول الدين (ص54 - 55).

وقالَ رحمه الله في كتابِ «إبطالِ التَّأويلاتِ» لهُ: «لا يجوزُ ردُّ هذهِ الأخبارِ على ما ذهبَ إليه جماعةٌ مِنَ المعتزلةِ، ولا التَّشاغلُ بتأويلها على ما ذهبَ إليه الأَشْعَرِيَّةُ. والواجبُ حملُها على ظاهرهَا، وأنَّها صفاتٌ لله تعالى لا تشبهُ سائرَ الموصوفينَ بها من الخلقِ، ولا نعتقدُ التَّشبيهَ فيها» (¬1). قالَ: «دليلٌ آخرُ على إبطالِ التَّأويلِ: أنَّ الصَّحابةَ ومنْ بعدهمْ مِنَ التابعينَ حملوهَا على ظاهرهَا ولمْ يتعرَّضُوا لتأويلِهَا، ولا صَرْفِهَا عنْ ظاهِرِهَا، فلو كانَ التأويلُ سائغًا لكانوا أسبقَ لما فيهِ من إزالةِ التَّشبيهِ، ورفعِ الشُّبهةِ» (¬2). قال الذهبيُّ معقّبًا: «قلتُ: المتأخرونَ منْ أهلِ النَّظرِ قالوا مقالةً مولَّدةً، ما علمتُ أحدًا سبقهم بها. قالوا: هذه الصفاتُ تمرُّ كما جاءتْ ولا تؤولُ، مع اعتقادِ أنَّ ظاهرهَا غيرُ مرادٍ، فتفرَّعَ منْ هذا أنَّ الظاهرَ يُعْنَى بهِ أمرانِ: أحدُهما: أنَّهُ لا تأويلَ لها غيرُ دلالةِ الخطابِ كما قالَ السَّلفُ: الاستواءُ معلومٌ، وكما قالَ سفيانُ وغيرُهُ: قراءتُهَا تفْسيرُهَا، يعني أنَّها بيِّنةٌ واضحةٌ في اللغةِ لا يُبْتَغَى لها مضايقُ التأويلِ والتَّحريفِ، وهذا هوَ مذهبُ السَّلفِ مع اتفاقهم أيضًا أنَّها لا تُشْبِهُ صفاتِ البشرِ بوجهٍ، إذِ الباري لا مثلَ لهُ لا في ذاتهِ ولا في صفاتهِ. ¬

_ (¬1) إبطال التأويلات (ص43). (¬2) إبطال التأويلات (ص71).

الثاني: أنَّ ظاهرها هَو الذي يتشكَّلُ في الخيالِ منَ الصفةِ كما يتشكَّلُ في الذهنِ منْ وصفِ البشرِ، فهذا غيرُ مرادٍ، فإنَّ الله تعالى فردٌ صمدٌ ليسَ لهُ نظيرٌ، وإنْ تعددت صفاتهُ فإنَّها حقٌّ، ولكن ما لها مثلٌ ولا نظيرٌ، فمنْ ذا الذي عاينهُ ونعتهُ لنا؟ ومنْ ذا الذي يستطيعُ أنْ ينعتَ لنا كيفَ سُمِعَ كلامهُ؟ واللهِ إنَّا لعاجزونَ كالُّونَ حائرونَ باهتونَ في حدِّ الروحِ التي فينا؛ وكيفَ تَعْرُجُ كلَّ ليلةٍ إذا توفاها بارئها؛ وكيفَ يرسلها، وكيفَ تستقلُّ بعدَ الموتِ، وكيفَ حياةُ الشهيدِ المرزوقِ عندَ ربِّه بعدَ قتلهِ، وكيف حياةُ النبيينَ الآن؟ وكيفَ شاهدَ النبي صلى الله عليه وسلم أخاهُ موسى يصلي في قبرِه قائمًا؟ ثمَّ رآهُ في السماءِ السادسةِ وحاورهُ وأشارَ عليهِ بمراجعةِ ربِّ العالمينَ وطلبَ التخفيفَ منهُ على أمَّتهِ (¬1)؟ ¬

_ (¬1) فالجوابُ: أنَّه مُثِّلَ لهُ، فرآهُ غيرَ مرَّةٍ فرأى موسى في مسيرهِ قائمًا يصلي في قبرهِ، ثمَّ رآه في بيتِ المقدس، ثمَّ رآهُ في السماءِ السادسةِ هوَ وغيرهُ، فعرجَ بهم، كما عرجَ بنبينا صلوات الله على الجميع وسلامه، والأنبياء أحياءٌ عند ربِّهم كحياة الشهداء عندَ ربِّهم، وليستْ حياتهم كحياةِ أهلِ الدنيا، ولا حياة أهل الآخرة، بلْ لونٌ آخر، كما وردَ أنَّ حياة الشهداء بأنْ جعلَ الله أرواحهم في أجوافِ طيرٍ خُضْرٍ، تسرح في الجنَّةِ وتأوي إلى قناديل معلَّقة تحت العرشِ فهم أحياءٌ عند ربِّهم بهذا الاعتبار كما أخبر سبحانه وتعالى، وأجسادهم في قبورهم. وهذه الأشياء أكبر من عقول البشر، والإيمانُ بها واجبٌ كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]. انظر: تاريخ الإسلام - السيرة النبوية - (ص269 - 270).

86 - البيهقي (458هـ)

وكذلكَ نعجزُ عنْ وصفِ هيأتنا في الجنَّةِ ووصفِ الحورِ العينِ، فكيفَ بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيَّتها ... فاللهُ أعلى وأعظمُ، ولهُ المثلُ الأعلى والكمالُ المطلقُ ولا مثلَ له أصلًا، {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]» (¬1). 86 - البيهقيُّ (458هـ) قال الحافظُ البيهقيُّ رحمه الله في «كتابِ الاعتقادِ» له: بابُ القولِ في الاستواءِ: قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2]، وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59]، وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18، 61]، وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [النحل: 50]، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، وأرادَ مَنْ فوقَ السَّماءِ كمَا قالَ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، يعني: على جذوعِ النَّخلِ. وقال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة: 2]، يعني: على الأرضِ، وكلُّ ما علا فهو سماء، والعرشُ أعلى السَّماواتِ، فمعنى الآيةِ - واللهُ أعلمُ -: أأمنتم مَنْ على العرشِ، كما صرَّحَ بهِ في سائرِ الآياتِ. ¬

_ (¬1) العلو (2/ 1329 - 1330)، تحقيق: الشيخ عبد الله البراك.

87 - ابن عبد البر (463هـ)

وفيمَا كتبناهُ من الآياتِ دلالةٌ على إبطالِ قولِ مَنْ زعمَ مِنَ الجهميَّةِ بأنَّ الله سبحانه وتعالى بذاتهِ في كلِّ مكانٍ. وقوله عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، إنَّما أرادَ بهِ: بعلمهِ لا بذاتهِ (¬1). 87 - ابنُ عبد البر (463هـ) قالَ ابنُ عبد البر رحمه الله تعليقًا عَلَى حديثِ النزولِ: «هذا الحديثُ ثابتٌ منْ جهةِ النقلِ، صحيحُ الإسنادِ، لا يختلفُ أهلُ الحديثِ في صحَّتهِ. وهوَ حديثٌ منقولٌ منْ طرقٍ متواترةٍ، ووجوهٍ كثيرةٍ منْ أخبارِ العدولِ، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفيه دليلٌ على أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ في السَّماءِ على العَرْشِ، مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، كما قالتِ الجماعةُ، وهوَ منْ حجَّتهم على المعتزلةِ، والجهميَّةِ، في قولهم: إنَّ الله عزَّ وجلَّ في كلِّ مكانٍ، وليسَ على العرشِ. ثمَّ ذكرَ الآياتِ الدَّالَّةَ عَلَى علوِّ الرَّحْمنِ إِلَى أنْ قَالَ: وأمَّا ادِّعاؤهم المجاز في الاسْتِوَاءِ، وقولهم في تأويلِ استوى: استولى، فلا معنى لهُ، لأنَّهُ غيرُ ظاهرٍ في اللُّغةِ، ومعنى الاستيلاءِ، في اللغةِ: المغالبةُ، والله لا يغالبهُ ولا يعلوهُ أحدٌ. وهوَ الواحدُ الصَّمدُ. ومنْ حقِّ الكلامِ أنْ يحملَ على حقيقتهِ، حتَّى تتفقَ الأمَّةُ أنَّهُ أريدَ بهِ المجاز. إذْ لا سبيلَ إلى اتِّباعِ ما أنزلَ إلينا مِنْ ربِّنا، إلَّا على ذلكَ، وإنَّما يوجَّهُ كلامُ الله عزَّ وجلَّ إلى الأشهرِ والأظهرِ منْ وجوههِ، ما لمْ يمنعْ منْ ذلكَ ما يجبُ لهُ التسليمُ، ولو ساغَ ادِّعاءُ المجازِ لكلِّ مدَّعٍ، ما ثبتَ شيءٌ مِنَ العباراتِ، وجلَّ الله عزَّ وجلَّ عنْ أنْ يخاطبَ الأمَّةَ إلَّا بما تفهمهُ العربُ في معهودِ مخاطباتها، ممَّا يصحُّ معناهُ عندَ السَّامعينَ. ¬

_ (¬1) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (ص116 - 118)، تحقيق: أحمد بن إبراهيم أبو العينين.

والاستواءُ معلومٌ في اللُّغةِ ومفهومٌ، وهوَ العُلُوُّ والارْتِفَاعُ على الشَّيءِ ... وبهذا خاطبنَا اللهُ عزَّ وجلَّ وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13]. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]. وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]. وقال الشاعرُ: فَأَوْرَدْتُهم ماءً بِفَيْفَاءَ قَفِرَةٍ ... وقد حَلَّقَ النَّجْم اليَمَانِيُّ فَاسْتَوَى وهذا لا يجوزُ أنْ يتأوَّلَ فيهِ أحدٌ: استولى، لأنَّ النَّجمَ لا يستولي. وقدْ ذكرَ النَّضرُ بنُ شميل وكانَ ثقةً مأمونًا جليلًا في علمِ الدِّيانةِ واللُّغة، قال: حدثني الخليلُ، وحسبكَ بالخليلِ، قال: أتيتُ أبا ربيعةَ الأعرابيَّ، وكان من أعلمِ منْ رأيتُ، فإذا هو على سطحٍ، فسلَّمنا فردَّ علينا السَّلامَ وقالَ لنَا: استووا، فبقينا متحيرينَ، ولم نَدْرِ ما قالَ؟ قال: فقال لنا أعرابيٌّ إلى جنبهِ: إنَّهُ أمركم أنْ ترتفعوا، قال الخليلُ: هو منْ قولِ الله عزَّ وجلَّ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11]. فصعدنَا إليه. فإنِ احتجُّوا بقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. وبقولهِ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]. وزعموا: أنَّ الله تبارك وتعالى في كلِّ مكانٍ بنفسهِ وذاتهِ تبارك وتعالى.

قيلَ لهم: لا خلافَ بيننا وبينكم، وبينَ سائرِ الأمَّةِ: أنَّهُ ليسَ في الأرضِ دونَ السَّماءِ بذاتهِ، فوجبَ حملُ هذهِ الآياتِ، على المعنى الصَّحيحِ المجمعِ عليهِ، وذلكَ: أنَّهُ في السَّماءِ إلهٌ معبودٌ منْ أهلِ السَّماءِ، وفي الأرضِ إلهٌ معبودٌ منْ أهلِ الأرضِ، وكذلكَ قالَ أهلُ العلمِ بالتفسيرِ، فظاهرُ التنزيلِ، يشهدُ أنَّهُ على العرشِ؛ والاختلافُ فِي ذَلِكَ بيننا فقط، وأسعدُ النَّاسِ بِهِ، مَنْ ساعدهُ الظَّاهرُ؛ وأمَّا قولهُ فِي الآيةِ الأخرى: {وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، فالإجماعُ والاتِّفاقُ، قدْ بيَّنَ المرادَ بأنَّهُ معبودٌ منْ أهلِ الأرضِ، فتدبَّر هذا، فإنَّهُ قاطعٌ إنْ شاءَ الله. ومِنَ الحجَّةِ أيضًا: في أنَّه عزَّ وجلَّ على العَرْشِ، فوق السَّماواتِ السَّبْعِ، أنَّ المُوَحِّدِينَ أجمعينَ، مِنَ العربَ والعجمِ، إذا كربهم أمرٌ، أو نزلتْ بهم شدَّةٌ، رَفَعُوا وجوهَهُم إلى السَّماءِ، يَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُم تبارك وتعالى؛ وهذا أشهرُ وأعرفُ، عندَ الخاصَّةِ والعامَّةِ، منْ أنْ يحتاجَ فيهِ إِلَى أكثر من حكايتهِ؛ لأنَّهُ اضطرارٌ لم يُؤَنِّبْهُم عليه أحدٌ، ولا أنكرَهُ عليهمْ مسلمٌ. فإنْ قالَ: إنَّه لا يكونُ مستويًا على مكانٍ إلَّا مقرونًا بالتكييفِ، قيلَ: قدْ يكونُ الاستواءُ واجبًا، والتكييفُ مرتفعٌ، وليسَ رفعُ التكييفِ يوجبُ رفعَ الاسْتِوَاءِ. وقدْ عقلنَا وأدركنا بحواسنا أنَّ لنا أرواحًا في أبداننا، ولا نعلمُ كيفيَّةَ ذلكَ، وليسَ جهلنا بكيفيَّةِ الأرواحِ، يوجبُ أنْ ليسَ لنَا أرواحٌ، وكذلكَ ليس جهلنا بكيفيَّةٍ على العرشِ، يوجبُ أنَّهُ ليسَ على عرشهِ.

وأمَّا احتجاجهم بقوله عزَّ وجلَّ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. فلا حجَّةَ لهم في ظاهرِ هذهِ الآيةِ، لأنَّ علماءَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ الذين حملت عنهم التآويلُ في القرآنِ قالوا في تأويلِ هذهِ الآيةِ: هُوَ عَلَى العَرْشِ وعِلْمُهُ في كُلِّ مَكَانٍ، وما خالفهم في ذلكَ أحدٌ يحتجُّ بقولهِ ... وأمَّا قولهُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» (¬1) فقدْ أكثرَ النَّاسُ التنازعَ فيهِ، والذي عليهِ جمهورُ أئمةِ أهلِ السُّنَّةِ، أنَّهم يقولونَ: ينزلُ كمَا قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ويصدِّقونَ بهذا الحديثِ، ولا يكيِّفون، والقولُ في كيفيَّةِ النزولِ، كالقولِ في كيفيَّةِ الاستواءِ والمجيءِ، والحجَّةُ في ذلكَ واحدةٌ. وأمَّا احتجاجهم [أي الجهمية]: لو كانَ في مكانٍ لأشبهَ المخلوقاتِ، لأنَّ ما أحاطت بهِ الأمكنةُ واحتوته مخلوقٌ، فشيءٌ لا يلزمُ، ولا معنى لهُ، لأنَّه عزَّ وجلَّ ليسَ كمثلهِ شيءٌ منْ خلقهِ، ولا يقاسُ بشيءٍ منْ بريتهِ، لا يُدركُ بقياسٍ ولا يقاسُ بالنَّاسِ، لا إلهَ إلَّا هو» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1145 و6321 و7494)، ومسلم (758). (¬2) التمهيد (7/ 135).

قالَ أبو عمر: «أهلُ السُّنَّةِ مجمعونَ على الإقرارِ بالصِّفاتِ الواردةِ كلِّها في القرآنِ والسنّةِ والإيمانِ بها، وحملهَا على الحقيقةِ لا على المجازِ إلَّا أنَّهم لا يكيِّفونَ شيئًا منْ ذلكَ ولا يحدُّون فيهِ صفةً محصورةً. وأمَّا أهلُ البدعِ والجهميَّةِ والمعتزلةِ والخوارج، فكلُّهم ينكرهَا، ولا يحملُ شيئًا منها على الحقيقةِ، ويزعمونَ أنَّ مَنْ أقرَّ بها مشبِّهٌ، وهم عندَ منْ أثبتَها نافونَ للمعبودِ، والحقُّ فيما قالهُ القائلونَ بما نطقَ بهِ كتابُ الله، وسنَّةُ رسولهِ، وهم أئمَّةُ الجماعةِ والحمدُ لله» (¬1). قالَ أبو عمر: «الذي أقولُ: إنَّهُ منْ نَظَرَ إلى إسلامِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وطلحةَ وسعدٍ وعبدِ الرحمن، وسائرِ المهاجرينَ والأنصارِ، وجميعِ الوفودِ الذينَ دخلوا في دينِ الله أفواجًا، علمَ أنَّ الله عزَّ وجلَّ، لم يعرفهُ واحدٌ منهم إلَّا بتصديقِ النبيينَ بأعلامِ النبوةِ، ودلائلِ الرسالةِ، لا مِنْ قِبَلِ حركةٍ ولا منْ بابِ الكلِّ والبعضِ، ولا منْ بابِ كانَ ويكونُ، ولو كانَ النَّظرُ في الحركةِ والسكونِ عليهم واجبًا في الجسم ونفيهِ، والتَّشبيهِ ونفيهِ لازمًا، ما أضاعوهُ ولو أضاعوا الواجبَ ما نطقَ القرآنُ بتزكيتهم، وتقديمهم ولا أطنبَ في مدحهم وتعظيمهم، ولو كانَ ذلكَ منْ عملهم مشهورًا، أو منْ أخلاقهم معروفًا، لاستفاضَ عنهم ولشهروا بهِ كما شهروا بالقرآنِ والرواياتِ» (¬2). ¬

_ (¬1) التمهيد (7/ 145). (¬2) التمهيد (7/ 152).

قال أبو عمر: «وقولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا» عندهم مثلُ قول الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143]، ومثلُ قولِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]، كلُّهم يقولُ: ينزلُ ويتجلَّى ويجيءُ بلا كيفٍ، لا يقولونَ كيفَ يجيءُ؟ وكيفَ يتجلَّى؟ وكيفَ ينزلُ؟ ولا منْ أينَ جاءَ؟ ولا منْ أينَ يتجلَّى؟ ولا منْ أينَ ينزلُ؟ لأنَّهُ ليسَ كشيءٍ منْ خلقهِ، وتعالى عَنِ الأشياءِ، ولا شريكَ لهُ. وفي قولِ الله عزَّ وجلَّ: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] دلالةٌ واضحةٌ أنَّهُ لمْ يكنْ قبلَ ذلكَ متجلِّيًا للجبلِ، وفي ذلكَ ما يفسِّرُ معنى حديثِ التنزيلِ» (¬1). وقال رحمه الله تعليقًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ قَالَ لِجِبْرِيلَ: يا جبريلُ: قَدْ أَحْبَبْتُ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاء: إِنَّ اللهَ قَدْ أَحَّبَ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرْضِ» (¬2). «في هذا الحديثِ مِنَ العلمِ والفقهِ: أنَّ الله عزَّ وجلَّ في السَّماءِ ليسَ في الأَرْضِ، وأنَّ جبريلَ أقربُ الملائكةِ إليهِ وأَحْظَاهُم عندهُ .... وفيهِ أنَّ الوُدَّ والمحبَّةَ بينَ النَّاسِ اللهُ يَبتدِئُهَا ويَبْسُطُهَا، والقرآنُ يشهدُ بذلكَ. قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا *} [مريم: 96]. قال المفسِّرونَ: يحبهم ويحببهم إلى النَّاس» (¬3). ¬

_ (¬1) التمهيد (7/ 153). (¬2) رواه البخاري (3209 و 6040 و7485)، ومسلم (2637). (¬3) التمهيد (21/ 238 - 239).

88 - الخطيب (463هـ)

فتدبَّرْ كلامَ هذا الإمامِ وما فيهِ مِنَ المعرفةِ والبيانِ. 88 - الخطيب ُ (463هـ) نقلَ الذهبيُّ في «السيرِ» (¬1) قولَ الخطيبِ فِي مدحِ الإمامِ الشافعيِّ رحمه الله: أبىَ الله إلَّا رَفْعهُ وعُلُوَّهُ ... وليسَ لما يُعْلِيْهِ ذو العرشِ واضِعُ. 89 - سعدٌ الزنجانيُّ (471هـ) قَالَ إمامُ الشَّافعيَّةِ فِي وقتهِ سعدُ بنُ عَليٍّ الزنجانيُّ رحمه الله: «وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ بوُجُودِ ذَاتِهِ» (¬2). قَالَ الحافظ الذهبيُّ رحمه الله: «وقد كَانَ الحافظُ سعدُ بنُ عليٍّ هَذَا منْ رؤوسِ أهلِ السنَّةِ، وأئمَّةِ الأثرِ، وممَّنْ يعادي الكلامَ وأهلَهُ، ويذمُّ الآراءَ والأهواءَ. فنسألُ الله أنْ يختمَ لنا بخيرٍ، وأنْ يتوفَّانا عَلَى الإيمانِ والسنَّةِ. فلقدْ قلَّ منْ يتمسَّكُ بمحضِ السنَّةِ؛ بل تراهُ يثني عَلَى السنَّةِ وأهلهَا وقدْ تلطَّخَ ببدعِ الكلامِ ويجسرُ عَلَى الخوضِ فِي أسماءِ الله وصفاتهِ وبادرَ إِلَى نفيهَا وبالغَ بزعمهِ فِي التنزيهِ؛ وإنَّما كمالُ التنزيهِ تعظيمُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ ونعتهُ بِمَا وصفَ بِهِ نفسَهُ تَعَالَى» (¬3). 90 - إمامُ الحرمَيْنِ (478هـ) قَالَ الحافظ الحجّة عبد القادر الرهاوي: سمعت عبد الرحيم بن أبي الوفا الحاجي يقول: سمعت محمد بن طاهر المقدسي يقول: سمعت الأديب أبا الحسن القيرواني بنيسابور يقول: - وكان يختلف إِلَى دروس الأستاذ أبي المعالي الجويني يقرأ عَلَيهِ الكلام - يقول: «يَا أصحابنا لاَ تشتغلوا بالكلامِ، فلو عرفتُ أنَّ الكلامَ يبلغُ بي مَا بلغَ مَا اشتغلتُ بِهِ». ¬

_ (¬1) (10/ 95). (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص197). (¬3) تذكرة الحفاظ (3/ 1178).

91 - شيخ الإسلام الهروي (481هـ)

وقال الإمام أبو الفتح محمد بن علي الفقيه: دخلنا عَلَى الإمام أبي المعالي ابن الجويني نعوده فِي مرضِ موتهِ فأقعدَ، فقال لنا: «اشهدوا عليَّ أنِّي قَدْ رجعتُ عنْ كلِّ مقالةٍ قلتها أخالفُ فِيهَا مَا قَالَ السَّلفُ الصَّالحُ، وأنِّي أموتُ عَلَى مَا تموتُ عَلَيهِ عجائزُ نيسابور» (¬1). قال شيخُ الإسلام: فإنَّ تلكَ العقيدةَ الفطريةَ التي للعجائزِ خيرٌ منْ هذهِ الأباطيلِ التي هي من شُعَبِ الكفرِ والنِّفاقِ، وهمْ يجعلونَها منْ بابِ التَّحقيقِ والتَّدقيقِ (¬2). وقَالَ الذهبيُّ رحمه الله: «هَذَا معنى قول بعض الأئمَّةِ: عليكم بدينِ العجائزِ. يعني أنهنَّ مؤمناتٌ بالله عَلَى فطرةِ الإسلامِ، لَمْ يدرينَ مَا علمُ الكلامِ» (¬3). 91 - شيخُ الإسلام الهرويُّ (481هـ) قَالَ الذهبيُّ رحمه الله: «غالبُ مَا رواهُ فِي كتابِ «الفاروق» صحاحٌ وحسانٌ، وفيهِ بابُ إثباتِ استواءِ اللهِ عَلَى عرشهِ فَوْقَ السَّمَاءِ السابعةِ بائنًا منْ خلقهِ مِنَ الكتابِ والسنَّةِ، فساقَ دلائلَ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ والأحاديثِ إِلَى أَنْ قَالَ: وفي أخبارٍ شتَّى أنَّ الله فِي السَّمَاءِ السَّابعةِ على العَرْشِ، وعِلْمُهُ وقُدْرَتُهُ واسْتِمَاعُهُ ونَظَرُهُ ورَحْمَتُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ» (¬4). وقال رحمه الله: إلَهُنا مَرْئِيٌّ على العَرْشِ مُسْتَوٍ ... كَلاَمُهُ أَزَلِيٌّ رَسُولُهُ عَرَبِيٌّ كُلُّ مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا أَشْعَرِيٌّ ... مَذْهَبُنَا مَذْهَبٌ حَنْبَلِيٌّ (¬5) ¬

_ (¬1) مختصر العلو (275). (¬2) بيان تلبيس الجهمية (1/ 122). (¬3) العلو (ص1345). (¬4) السير (18/ 514). (¬5) الذيل على طبقات الحنابلة (3/ 52).

92 - القيرواني (489هـ)

92 - القيرواني ُّ (489هـ) قَالَ الإمامُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ الحسنِ الحضرميُّ القيروانيُّ المتكلِّم صاحب رسالة «الإيماء إِلَى مسألة الاسْتِوَاء» فساقَ فِيهَا قولَ أبي جعفرٍ محمدِ بنِ جريرٍ، وأبي محمد بن أبي زيد، والقاضي عبد الوهَّاب، وجماعةٍ مِنْ شيوخِ الفقهِ والحديثِ أنَّ اللهَ سُبْحَانهُ مُسْتَوٍ عَلَى العَرْشِ بِذَاتِهِ: قَالَ: «وأطلقوا فِي بعضِ الأماكنِ أنَّهُ فَوْقَ عرشهِ. ثمَّ قَالَ: وهذا هُوَ الصَّحيحُ الَّذِي أقولُ بِهِ مِنْ غيرِ تحديدٍ، وَلاَ تمكُّنٍ فِي مكانٍ، وَلاَ كون فيه وَلاَ مماسة». قَالَ الذهبيُّ رحمه الله: «سلبُ هذه الأشياءِ وإثباتهُا مدارهُ عَلَى النَّقلِ، فلو وردَ شيءٌ بذلكَ نطقنَا بِهِ وإلَّا فالسُّكوتُ والكفُّ أشبهُ بشمائلِ السَّلفِ، إذِ التَّعَرُّضُ لذلكَ نوعٌ مِنَ الكيفِ وَهُوَ مجهولٌ، وكذلكَ نعوذُ بالله أنْ نثبتَ استواءَهُ بمماسةٍ أَوْ تمكُّنٍ بلا توقيفٍ وَلاَ أثرٍ، بَلْ نَعْلَمُ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةِ أَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ كَمَا وَرَدَ النَّصُّ» (¬1). وقالَ العلَّامَةُ ابنُ عثيمين رحمه الله: يخطيءُ بعضُ العلماءِ الذينَ قالوا: إنَّ الله استوى على العرشِ بدونِ مماسةٍ!! نقولُ: ليسَ لكَ الحقُّ أنْ تقولَ: بدونِ مماسةٍ، ولا أنْ تقولَ: بمماسَّةٍ .. دعْ هذا! يسعكَ ما وسِعَ الصَّحابةُ، الذين همْ أحْرصُ منكَ على العلمِ، وأشدُّ منكَ تعظيمًا لله عزَّ وجلَّ. فكلمةُ بمماسةٍ أو غيرِ مماسةٍ يجبُ أنْ تلغى وتحْذف» اهـ. من «شرحه للسفارينية». 93 - الفقيهُ نَصْر المقدسيُّ (490هـ) قَالَ رحمه الله فِي كتابِ «الحجَّة» له - وَهُوَ مجلَّدٌ فِي السُّنَّةِ: - «وأنَّ الله تعَالَى مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ فِي كِتَابِهِ» (¬2). ¬

_ (¬1) مختصر العلوّ (ص279). (¬2) مختصر العلوّ (ص274).

94 - ابن الحداد (517هـ)

94 - ابن الحدَّاد (517هـ) قَالَ رحمه الله: «وأَنَّهُ سُبْحَانهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ وفَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ وعلى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ صَلَّى الله عليهم وسَلَّمَ منْ غيرِ تَشْبِيهٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَلاَ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَأْوِيلٍ» (¬1). 95 - أبو الحسن بنُ الزاغونيِّ (527هـ) قالَ رحمه الله في قصيدةٍ له: منها: عَالٍ على العَرْشِ الرَّفِيع بِذَاتِهِ ... سُبْحَانَهُ عن قَوْلِ غَاوٍ مُلْحِدِ (¬2). 96 - الحسنُ الكرجيُّ (532هـ) قَالَ رحمه الله فِي عقيدتهِ المشهورةِ، أوَّلها: عَقِيدَةُ أَصْحَابِ الحَدِيثِ فَقَدْ سَمَتْ ... بِأَرْبَابَ دينِ اللهِ أَسْنَى المَرَاتِبِ عَقَائِدُهُم أنَّ الإِلَهَ بِذَاتِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالغَوَائِبِ أنَّ استواءَ الرَّبِّ يُعْقَلُ كَوْنُهُ ... ويُجْهَلُ فِيْهِ الكَيْفُ جَهْلَ الشَّهَارِبِ (¬3) 97 - إسماعيلُ بنُ محمد التيميُّ الأصبهاني ُّ (535هـ) قال رحمه الله في «كتاب الحجّة في بيان المحجَّة»: «بابٌ في بيانِ استواءِ الله عزَّ وجلَّ على العرشِ. قال الله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقالَ في آيةٍ أخرى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، وقال: {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1] ... قالَ أهلُ السنَّةِ: اللهُ فوقَ السَّماواتِ لا يَعْلُوهُ خَلْقٌ منْ خَلْقِهِ، ومِنَ الدَّليلِ على ذلكَ: أنَّ الخلقَ يُشِيرونَ إلى السَّماءِ بأصابِعِهِم، ويَدْعُونَهُ ويَرفَعُونَ إليه أبصارَهُم. ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص175 - 176). (¬2) سير أعلام النبلاء (19/ 606). (¬3) مختصر العلو (ص281). ومعنى الشهرب: العجوز الكبير.

وقال عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقال عزَّ وجلَّ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ *} [الملك: 16، 17]. والدليلُ على ذلكَ الآياتُ التي فيها ذكرُ إنزالِ الوحيِ. ثمَّ عقدَ فصلًا في بيانِ أنَّ العرشَ فوقَ السَّماواتِ، وأنَّ الله عزَّ وجلَّ فَوْقَ العَرْشِ، ثمَّ ذكرَ آياتٍ وأحاديثَ دالَّةً على عُلُوِّ اللهِ ثمَّ قالَ: قالَ علماءُ أهلِ السنَّةِ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ على عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خلقهِ، وقالتِ المعتزلةُ: هوَ بذاتهِ في كلِّ مكانٍ، وقالتِ الأشعريةُ: الاستواءُ عائدٌ على العرشِ. ولو كانَ كما قالوا، لكانتِ القراءةُ برفعِ العرشِ، فلمَّا كانتْ بخفضِ العرشِ دلَّ على أنَّهُ عائدٌ إلى الله تعالى. وقالَ بعضُهم: استوى بمعنى استولى، قالَ الشاعرُ: استوى بِشْرٌ على العراقِ ... منْ غيرِ سيفٍ ودمٍ مهراق (¬1) والاستيلاءُ لا يُوصَفُ بهِ إلَّا منْ قدرَ على الشَّيءِ بعدَ العجزِ عنهُ. واللهُ تعالى لم يَزَلْ قادرًا على الأشياءِ ومستوليًا عليها. ألا ترى أنَّهُ لا يُوصَفُ بِشْرٌ بالاستيلاءِ على العراقِ إلَّا وهوَ عاجزٌ عنهُ قبلَ ذلكَ (¬2). وزعمَ هؤلاءِ: أنَّ معنى قولهِ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، أي مَلَكَهُ، وأنَّه لا اختصاصَ لهُ بالعرشِ، أكثر ممَّا لهُ بالأماكنِ، وهذا إلغاءٌ لتخصيصِ العرشِ وتشريفهِ. ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 109 - 110). (¬2) وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه على العرش؟!

قالَ أهلُ السنَّةِ: خلقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ، وكانَ عرشُهُ على الماءِ مخلوقًا قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، ثمَّ استوى على العرشِ، بعدَ خلقِ السَّماوات والأرضِ، على ما وردَ بهِ النَّصُّ، وليسَ معناهُ: المماسَّة، بل هوَ مُسْتَوٍ على عَرْشِهِ بلا كَيْفٍ، كمَا أخبرَ عنْ نفسهِ. وزعمَ هؤلاءِ: أنَّهُ لا يجوزُ الإشارةُ إلى الله سبحانهُ بالرؤوسِ والأصابعِ إلى فوق، فإنَّ ذلكَ يوجبُ التَّحديدَ. وقدْ أجمعَ المسلمونَ أنَّ الله هوَ العليُّ الأعلى، ونطقَ بذلكَ القرآنُ في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. وزعموا أنَّ ذلكَ بمعنى: علوِّ الغلبةِ، لا علوِّ الذَّاتِ. وعندَ المسلمينَ: أنَّ لله عزَّ وجلَّ عُلُوَّ الغَلَبَةِ، والعُلُوَّ منْ سائرِ وجوهِ العُلُوِّ، لأنَّ العلوَّ صفةُ مدحٍ، فثبتَ أنَّ لله تعالى علوَّ الذَّاتِ، وعُلُوَّ الصِّفاتِ، وعُلُوَّ القَهْرِ والغَلَبَةِ. وفي منعهم الإشارةَ إلى الله سبحانهُ مِنْ جهةِ فوق، خلافٌ منهم لسائرِ المللِ؛ لأنَّ جماهيرَ المسلمينَ وسائرَ المللِ، قدْ وقعَ منهمُ الإجماعُ عَلَى الإشارةِ إِلَى اللهِ جَلَّ ثناؤهُ، منْ جهةِ الفوقِ فِي الدُّعاءِ والسؤالِ. فاتِّفاقهمُ بأجمعهمْ على ذلكَ حُجَّةٌ، ولمْ يَسْتَجِزْ أحدٌ الإشارةَ إليهِ منْ جهةِ الأسفلِ، ولا منْ سائرِ الجهاتِ، سوى جهةِ الفَوْقِ. وقالَ الله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، وقالَ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]» (¬1). ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 113 - 115).

98 - عدي بن مسافر الأموي الهكاري (555هـ)

98 - عديُّ بنُ مسافر الأمويُّ الهكاريُّ (555هـ) قال رحمه الله في «اعتقاد أهل السنة والجماعة» له: «وأنَّ اللهَ على عَرْشِهِ بَائِنٌ منْ خَلْقِهِ، كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ في كِتَابِهِ وعلى لِسَانِ نَبِيِّهِ بلا كَيْفٍ، أحاطَ بكُلِّ شيءٍ علمًا وهو بِكُلِّ شيءٍ عليمٌ» (¬1). 99 - العلامةُ يحيى بنُ أبي الخير العمرانُّي (558هـ) قال في كتابهِ: الانتصارُ في الردِّ على المعتزلةِ القدريةِ الأشرارِ: «قدْ ذكرنَا في أوَّلِ الكتابِ أنَّ عندَ أصحابِ الحديثِ والسُّنةِ أنَّ الله سبحانهُ بذاتهِ، بائنٌ عَنْ خَلْقِهِ، على العرشِ استوى فوقَ السَّمواتِ، غيرَ مماسٍ لهُ، وعِلْمُهُ محيطٌ بالأشياءِ كلِّها. وقالتِ الكرَّاميةُ: إنَّهُ مماسٌّ للعرشِ. وقالتِ المعتزلةُ: إنَّ ذاتَ الله بكلِّ مكانٍ حتى بالحشوشِ وأجوافِ الحيوانِ. قيلَ لبشرٍ المريسيِّ: فهوَ في جوفِ حماركَ هذا؟ قالَ: نعمَ، وهذا قولُ الحلوليَّةِ وهوَ كفرٌ صريحٌ لا إشكالَ فيهِ. وقالتِ الأشعريةُ: لا يجوزُ وصفهُ بأنَّهُ على العَرْشِ ولا في السَّماءِ. ثمَّ ذكرَ آياتٍ وأحاديثَ دالَّةً على عُلُوِّ اللهِ إلى أنْ قالَ: ولأنَّ المسلمينَ مُجْمِعُونَ عندَ الدُّعاءِ على رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ وأَكُفِّهِمْ إلى نَحْوِ السَّماءِ؛ فَدَلَّ على صَحَّةِ ما قلناهُ. ويقالُ لهم: إذا لم يَكُنِ اللهُ فوقَ العَرْشِ بمعنًى يختصُّ بالعرشِ كمَا قالَ أصحابُ الحديثِ، وكانَ بكلِّ مكانٍ، فقولوا: إنَّهُ تحتَ الأرضِ والسَّماءُ فوقهَا فهوَ تحتَ التَّحْتِ وأنَّهُ فَوْقَ الفَوْقِ والأشياءُ تحتَهُ وهذا متناقضٌ. فإنِ احتَجُّوا بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، وبقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. ¬

_ (¬1) اعتقاد أهل السنة والجماعة (ص30).

فالجوابُ: أنَّ المرادَ بالآية {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ} [المجادلة: 7] أي منْ حديثٍ بَيْنَ ثلاثةٍ إلا هوَ رابعُهم بالإِحَاطَةِ والعِلْمِ لا في العَدَدِ لأنَّهُ واحدٌ لا منْ عَدَدٍ، ولا واحدٌ في معناه (¬1)، وكذلك المعنى في قوله تعالى: {وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7]. إلى قوله {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، يريدُ بالإحاطةِ والعِلْمِ لا بالذَّاتِ والحُلُولِ. يَدُلُّ على صحةِ هذا التأويلِ قولهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ} [المجادلة: 7] الآية .. إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] فبدأَ الآيةَ بالعِلْمِ وختمهَا بالعِلْمِ، فَدَلَّ على أنَّ المرادَ بذلك كُلِّهِ الإخبارُ عنْ عِلْمِهِ وإِحَاطَتِهِ بهم في جميعِ هذهِ الحالاتِ. فإن احْتَجُّوا بقولهِ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فأخبرَ أنَّه إلهٌ بكلِّ واحدٍ منهما. فالجوابُ: أنَّ المرادَ بالآيةِ أنهُ عندَ أهلِ السَّماءِ إلهٌ وعندَ أهلِ الأرضِ إلهٌ كمَا يقالُ: فلانٌ نبيلٌ مطاعٌ في العراقِ ونبيلٌ مطاعٌ في الحجازِ، يَعْنُونَ أنَّهُ نبيلٌ مطاعٌ فيهما وليس يَعْنُونَ أنَّ ذاتَهُ في العراقِ وفي الحجازِ. فإن احْتَجُّوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا} [النحل: 128] وبقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. ¬

_ (¬1) أي: لا يُشركه جلَّ وعلا في صفة الوحدانية أحدٌ.

فالجوابُ: أنَّ المرادَ على أنَّهُ أرادَ بالحفظِ والرعايةِ والنَّصرِ والتأييدِ مَعَ الذين اتقوا ومَعَ المحسنينَ ومَعَ موسى وهارون عليهما السلام، فلا يُقَاسُ على هذا أنَّه معَ الفسَّاقِ والكفَّارِ، ولا مَعَ الكلابِ والخنازيرِ تعالى الله عنْ ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا. وَتَأَوَّلَتِ المعتزلةُ ومَنْ تَابَعَهُم قولَ الله سبحانه: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] على أنَّ الاستواءَ هو الاستيلاءُ والقهرُ واحتَجُّوا بقولِ الشَّاعرِ: قَدِ استوى بِشْرٌ على العِرَاقِ ... مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ ولا دَمٍ مِهْرَاقِ والجوابُ: أنَّهُ لا يُقَالُ هذا إلَّا لمنْ كان عاجزًا عن قهرِ شيءٍ ثمَّ قهرهُ واستولى عليهِ، واللهُ سبحانه قاهرٌ ومُسْتَولٍ على كلِّ شيءٍ. ثمَّ نقلَ كلامَ ابنِ الأعرابيِّ في إبطالِ تفسيرِ الاستواءِ بالاستيلاءِ ثمَّ قالَ: ولو كانَ ما ذكروهُ صحيحًا لجازَ أنْ يُقالَ: إنَّ الله مُسْتَوٍ على الحشوشِ والأمكنةِ التي يرغبُ عنْ ذكرِهَا لأنَّهُ مُسْتَولٍ عليهَا، ولو كانَ كذلكَ لم يَكُنْ لذكرهِ للعرشِ معنًى. وأمَّا الأشعريةُ فقالوا: إذا قلتم إنَّه على العرشِ أفضى إلى أنَّهُ يكونُ محدودًا أو أنَّهُ يفتقرُ إلى مكانٍ وجهةٍ تحيطُ بهِ، وتعالى الله عنْ ذلكَ.

100 - الشيخ عبد القادر (562هـ)

والجوابُ: أنَّا وإنْ قلنا إنَّهُ على العرشِ كمَا أخبرَ بكتابهِ وأخبرَ بهِ نبيُّه صلى الله عليه وسلم فلا نقولُ إنَّهُ محدودٌ، ولا إنَّهُ يفتقرُ إلى مكانٍ، ولا تحيطُ بهِ جهةٌ ولا مكانٌ، بل كانَ ولا مكانَ ولا زمانَ ثمَّ خلقَ المكانَ والزمانَ، واستوى على العرشِ بلا كيفيَّةٍ، ولم يخلقِ العرشَ لحاجتهِ إليهِ، بلْ كما حُكِيَ عنْ ذي النونِ المصريِّ لمَّا قيل لهُ: ما أرادَ اللهُ بخلقِ العرشِ؟ فقالَ: أرادَ اللهُ أنْ لا تتيهَ قلوبُ العارفينَ ولم يَخْلُقْهُ لحاجتهِ إليهِ، فإذا قيلَ للعبدِ المؤمنِ أينَ اللهُ؟ قال: عَلَى العَرْشِ» (¬1). 100 - الشيخُ عبدُ القادر (562هـ) قَالَ شيخُ الإسلامِ سيِّدُ الوعَّاظِ عبد القادر الجيلي الحنبلي شيخ العراق فِي كتاب «الغنية»: «وَهُوَ بِجِهَةِ العُلُوِّ، مُسْتَو عَلَى العَرْشِ، محتوٍ عَلَى الملكِ محيطٌ عِلْمُهُ بالأشياءِ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ *} [السجدة: 5]. واللهُ تَعَالَى عَلَى العَرْشِ وَلاَ يَخْلُو منْ عِلْمِهِ مكانٌ، وَلاَ يجوزُ وصفهُ بأنَّهُ فِي كلِّ مكانٍ، بلْ يقالُ: إنَّهُ فِي السَّمَاءِ عَلَى العَرْشِ، كَمَا قَالَ جلَّ ثناؤهُ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، وقال تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. ¬

_ (¬1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 607 - 622).

وينبغي إطلاقُ صفةِ الاسْتِوَاءِ منْ غيرِ تأويلٍ، وأنَّهُ اسْتِوَاءُ الذَّاتِ عَلَى العَرْشِ لاَ عَلَى معنى القعودِ والمماسةِ كَمَا قالتِ المجسِّمَةُ والكرَّاميةُ، وَلاَ عَلَى معنى العُلُوِّ والرِّفْعَةِ كَمَا قالتِ الأشعريَّةُ، وَلاَ عَلَى معنى الاستيلاءِ والغَلَبَةِ كَمَا قالتِ المُعْتَزِلَةُ، لأنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بذلكَ وَلاَ نُقلَ عنْ أحدٍ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ مِنَ السَّلفِ الصَّالحِ مِنْ أصحابِ الحديثِ ذلكَ، بلِ المنقولُ عنهم حَمْلُهُ عَلَى الإطْلاَقِ. وكَوْنُهُ عزَّ وجلَّ عَلَى العَرْشِ مذكورٌ فِي كلِّ كتابٍ أُنزلَ عَلَى كلِّ نبيٍّ أُرسلَ بلا كَيْفٍ، ولأنَّ اللهَ تَعَالَى فيما لَمْ يَزَلْ موصوفٌ بالعلوِّ والقدرةِ، والاستيلاءِ والغَلَبَةِ عَلَى جميعِ خلقهِ مِنَ العرشِ وغيرهِ، فلا يحملُ الاسْتِوَاءُ عَلَى ذلكَ، فالاستواءُ منْ صفاتِ الذَّاتِ بعدَ مَا أخبرنا بِهِ ونصَّ عَلَيهِ وأكَّده فِي سبعِ آياتٍ من كتابهِ، والسنَّةُ المأثورةُ بِهِ وَهُوَ صفةٌ لازمةٌ لهُ وَلاَئقةٌ بِهِ كاليدِ والوجهِ والعينِ والسَّمعِ والبصرِ والحياةِ والقدرةِ، وكونهُ خالقًا ورازقًا ومحييًا ومميتًا موصوفٌ بِهَا، وَلاَ نخرجُ مِنَ الكتابِ والسنَّةِ. نقرأُ الآيةَ والخبرَ ونؤمنُ بِمَا فيهما، ونكلُ الكيفيَّةَ فِي الصِّفاتِ إِلَى علمِ الله عزَّ وجلَّ. ولمْ نتكلَّف غيرَ ذلكَ، فإنَّهُ غيبٌ لاَ مجالَ للعقلِ فِي إدراكهِ، ونسألُ الله تَعَالَى العفوَ والعافيةَ، ونعوذُ بِهِ مِنْ أنْ نقولَ فيهِ وفي صفاتهِ مَا لَمْ يخبرنَا بِهِ هُوَ أَوْ رسولهُ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ» (¬1). ¬

_ (¬1) الغنية (1/ 54 - 57).

وقالَ فِي ذكرِ مقالةِ السالميَّة: «ومنْ قولهم إنَّ الله تَعَالَى فِي كلِّ مكانٍ، وَلاَ فرقَ بينَ العرشِ وغيرهِ مِنَ الأمكنةِ. قَالَ: وفي القرآنِ تكذيبهم، قَالَ الله عزَّ وجلَّ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] وَلاَ يُقَالُ عَلَى الأرضِ استوى، وَلاَ عَلَى بطونِ الجبالِ وغيرِ ذَلِكَ مِنَ الأمكنةِ» (¬1). تنبيه: قال ابنُ حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية (1/ 145): وإياك أن تغتر أيضاً بما وقع في [الغُنْية] لإمام العارفين وقطب الإسلام والمسلمين الأستاذ عبد القادر الجيلاني، فإنه دسَّه عليه فيها مَنْ سينتقم اللَّهُ منه وإلا فهو برىء من ذلك. وهذا الكلامُ أوهى من خيوط العنكبوت وعارٍ من الصحةِ وقائمٍ على جرفٍ هارٍ. وكلامُ الجيلاني في إثبات الجهةِ والعلو لله تعالى ذكرهُ ابنُ تيمية في أكثر من موضع من كتبهِ (¬2)، والذهبي في «العلو»، وابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية»، وابن رجب في «الذيل على طبقات الحنابلة». فهل تواطأ هؤلاء الأمة الكبار على الكذب على هذا الإمام؟! سبحانك هذا بهتانٌ مبين. ¬

_ (¬1) الغنية (1/ 94 - 95). (¬2) مجموع الفتاوى، ودرء تعارض العقل والنقل.

101 - ابن رشد المالكي (595هـ)

101 - ابنُ رشد المالكيُّ (595هـ) قالَ ابنُ رشدٍ رحمه الله: «القولُ بالجهةِ: وأمَّا هذهِ الصِّفَةُ فلمْ يزل أهلُ الشَّريعةِ منْ أولِ الأمرِ يثبتونها لله سبحانه وتعالى، حتَّى نَفَتْها المعتزلةُ ثمَّ تبعهم على نفيِّها متأخرو الأشعريةِ، ... وظواهرُ الشَّرعِ كلُّها تقتضي إثباتَ الجهةِ مثلُ قولهِ تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ *} [السجدة: 5]، ومثل قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] ومثلُ قولهِ تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ *} [الملك: 16]، إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ، التي إنْ سُلِّطَ عليها التأويلُ عادَ الشَّرعُ كلُّهُ مُؤَوَّلًا، وإنْ قيلَ فيهَا إنَّها من المتشابهاتِ عادَ الشَّرْعُ كُلُّهُ مُتَشَابِهًا؛ لأنَّ الشرائعَ كلَّها مَبْنِيَّةٌ على أنَّ اللهَ في السَّماءِ، وأنَّ منهُ تنزلُ الملائكةُ بالوحي إلى النبيينَ، وأنَّ مِنَ السماءِ نزلتِ الكتبُ، وإليهَا كانَ الإسراءُ بالنبيِّ، حتَّى قربَ من سدرةِ المنتهى. وجميعُ الحكماءِ قَدِ اتَّفقوا أنَّ اللهَ والملائكةَ في السَّماءِ، كما اتَّفَقَتْ جميعُ الشرائعِ على ذلكَ» (¬1). 102 - المقدسيُّ (600هـ) قال الإمامُ الحافظُ عبدُ الغنيِّ بنُ عبد الواحد المقدسيُّ في كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد»: «مِنْ صفاتِ الله تعالى التي وصفَ بها نفسَهُ، ونطقَ بهَا كتابهُ، وأخبرَ بها نبيُّه: أنَّهُ مُسْتَوٍ على عَرْشِهِ كما أخبرَ عنْ نفسهِ، ثمَّ ذكرَ آياتِ الاسْتِوَاءِ السبعِ إِلَى أنْ قَالَ: فهذهِ سبعةُ مواضعَ أخبرَ الله فيهَا سبحانهُ أنَّهُ على العرشِ. ثمَّ ساقَ جملةً مِنَ الأحاديثِ في ذلكَ إلى أنْ قالَ: ¬

_ (¬1) مناهج الأدلة في عقائد الملة (ص176)، لابن رشد.

103 - القرطبي (677هـ)

وفي هذهِ المسألةِ أدلَّةٌ مِنَ الكتابِ والسنَّةِ يطولُ بذكرهَا الكتاب. ومُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللهُ في جِهَةِ العُلُوِّ بعدَ هذهِ الآياتِ والأحاديثِ مُخَالِفٌ لكتابِ اللهِ، مُنْكِرٌ لِسنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» (¬1). 103 - القرطبيُّ (677هـ) قالَ الإمامُ القرطبيُّ رحمه الله في تفسيرِ قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]: «هذهِ مسألةُ الاستواءِ، وللعلماءِ فيها كلامٌ وإجراءٌ .. والأكثرُ مِنَ المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ أنَّه إذا وجبَ تنزيهُ الباري سبحانهُ عَنِ الجهةِ و [التحيزِ] فمنْ ضرورةِ ذلكَ ولواحقهِ اللازمةِ عليهِ عندَ عامةِ العلماءِ المتقدمينَ وقادتهم مِنَ المتأخرينَ تنزيههُ تبارك وتعالى عَنِ الجهةِ، فليسَ بجهةِ فوق عندهم، لأنَّه يلزمُ منْ ذلكَ عندهم متَّى اختصَّ بجهةٍ أنْ يكونَ في مكانٍ أو حَيِّزٍ، ويلزمُ على المكانِ والحَيِّزِ الحركةُ والسكونُ للمُتَحَيِّزِ، والتغيرُ والحدوثُ. هذا قول المُتَكَلِّمِينَ. وقدْ كانَ السَّلفُ الأولُ رضي الله عنهم لا يقولونَ بنفيِّ الجهةِ ولا ينطقونَ بذلكَ، بلْ نطقوا هم والكآفَّةُ بإثباتها لله تعالى كمَا نطقَ كتابهُ وأخبرتْ رسلهُ. ولم ينكرْ أحدٌ مِنَ السَّلفِ الصَّالحِ أنَّه استوى على عرشهِ حقيقةً وخصَّ العرشَ بذلكَ لأنَّه أعظمُ مخلوقاتهِ، وإنَّما جهلوا كيفيةَ الاستواءِ فإنَّه لا تُعلم حقيقتهُ» (¬2). وقالَ فِي «الأسنى» - بعد أن حكى أربعةَ عَشَرَ قولًا فِي معنى الاسْتِوَاءِ -: ¬

_ (¬1) الاقتصاد فِي الاعتقاد (ص80 - 94). (¬2) الجامع لأحكام القرآن (7/ 219).

104 - الشيخ الفقيه الصالح تقي الدين المقدسي (608 - ؟)

«وأظهرُ هذهِ الأقوالِ - وإنْ كنتُ لاَ أقولُ بِهِ وَلاَ أختارهُ (¬1) - مَا تظاهرت عَلَيهِ الآيُ والأخبارُ أنَّ الله سُبْحَانهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أخبرَ فِي كتابهِ وعلى لسانِ نبيِّهِ بلا كَيْفٍ، بائنٌ منْ جميعِ خَلْقِهِ. هَذَا جُمْلَةُ مذهبِ السَّلفِ الصَّالحِ فيما نَقَلَ عنهمُ الثِّقَاتُ» (¬2). وفي قولهِ رحمه الله: «وإنْ كنتُ لا أقولُ بهِ»، غايةُ العجبِ؛ لأنَّهُ اعترفَ بتظافرِ الآياتِ القرآنيةِ عليهِ ودلالةِ الأخبارِ النبويةِ إليهِ وتعويلِ السَّلف الصالحِ الأخيارِ عليهِ، فكيفَ يليقُ مِنْ مثلهِ أنْ يقولَ: وإنْ كنتُ لا أقولُ بهِ ولا أختارهُ، مَعَ الدلالاتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويةِ وكونهِ معتقدَ الرَّعيلِ الأوَّلِ؟! 104 - الشيخ الفقيهُ الصالحُ تقيُّ الدين المقدسي ُّ (608 - ؟) قال الذهبي رحمه الله: «رأيت له مُصَنَّفًا في الصِّفاتِ، ولمْ يصحَّ عنهُ ما كانَ يلطخ بهِ مِنَ التَّجسيمِ، فإنَّ الرجلَ كانَ أتقى لله وأخوفَ منْ أنْ يقولَ على الله ذلكَ، ولا ينبغي أنْ يُسْمَعَ فيهِ قولُ الخصومِ. وكانَ الواقعُ بينهُ وبينَ شيخنا العلامة شمس الدين ابن أبي عمر وأصحابه، وهو فكانَ حنبليًّا خشنًا متحزقًا على الأشعريةِ. وبلغني أنَّ بعضَ المتكلِّمينَ قالَ لهُ: أنتَ تقولُ إنَّ الله استوى على العرشِ؟ فقالَ: لا والله ما قلتهُ، لكنَّ الله قالهُ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم بلَّغَ، وأنا صَدَّقتُ، وأنتَ كَذَّبْتَ. فأَفْحَمَ الرَّجلَ» (¬3). ¬

_ (¬1) وأهلُ الحديثِ الفرقةُ الناجيةُ يقولون به. (¬2) الأسنى فِي شرح أسماء الله الحسنى (2/ 132). (¬3) تاريخ الإسلام - حوادث ووفيات 671 - 680هـ (ص324).

105 - العلامة الشوكاني (1255هـ)

105 - العلاّمةُ الشَّوكانِيُّ (1255هـ) قال رحمه الله: «الاستواءُ على العرش، والكونُ في تلكَ الجهةِ، قد صرَّح به القرآنُ الكريمُ في مواطنَ يكثرُ حصرهَا، ويطولُ نشرها. وكذلكَ صرَّح بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غيرِ حديثٍ، بل هذا ممَّا يجده كلُّ فردٍ منْ أفرادِ النَّاسِ في نفسهِ، وتحِسه في فطرته وتجذبه إليه طبيعتهُ كما نراه في كلِّ مَنِ استغاثَ بالله سبحانه وتعالى، والتجأَ إليهِ، ووجَّهَ أدعيتهُ إلى جانبهِ الرفيعِ وعزِّهِ المنيعِ، فإنَّهُ يشيرُ عندَ ذلكَ بكفهِ أو يرمي إلى السَّماءِ بطرفهِ، ويستوي في ذلكَ عندَ عروضِ أسبابِ الدعاءِ وحدوثِ بواعثِ الاستغاثةِ ووجودِ مقتضياتِ الإزعاجِ، وظهورِ دواعي الالتجاءِ، عالمُ الناس وجاهلهم. والماشي على طريقِ السَّلفِ والمقتدي بأهلِ التأويلِ القائلينَ بأنَّ الاستواءَ هو الاستيلاءُ، فالسلامةُ والنجاةُ في إمرارِ ذلكَ على الظاهرِ والإذعان بأنَّ الاستواءَ والكون على ما نطقَ بهِ الكتابُ والسنةُ منْ دونِ تكييفٍ ولا تكلُّفٍ، ولا قيل ولا قال، ولا قصورٍ في شيءٍ منَ المقالِ. فمنْ جاوزَ هذا المقدارَ بإفراطٍ أو تفريطٍ فهو غيرُ مقتدٍ بالسَّلفِ، ولا واقفٍ في طريقِ النَّجاةِ، ولا معتصمٍ عَنِ الخطأ ولا سالكٍ في طريقِ السلامة والاستقامة» (¬1). فقدْ تبينَ بهذا الكلامِ أنَّ مثلَ هذهِ المسألةِ «العظيمةِ التي هي منْ أعظمِ مسائلِ الدينِ لم يكن السَّلفُ جاهلينَ بها ولا معرضينَ عنها، بلْ منْ لمْ يعرف ما قالوه فهو الجاهلُ بالحقِّ فيها، وبأقوالِ السلفِ، وبمَا دَلَّ عليه الكتابُ والسنةُ، والصَّوابُ في جميع مسائلِ النزاعِ ما كانَ عليهِ السلفُ مِنَ الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ، وقولهم هو الذي يدلُّ عليهِ الكتابُ والسنةُ والعقلُ الصريحُ» (¬2). ¬

_ (¬1) التحف في مذاهب السلف (ص35 - 37). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 205).

ومنْ تدبَّرَ كلامَ أئمَّةِ السنَّةِ المشاهيرِ في هذا البابِ علمَ أنَّهم كانوا أدقَّ النَّاسِ نظرًا، وأعلمَ النَّاسِ في هذا البابِ بصحيحِ المنقولِ وصريحِ المعقولِ، وأنَّ أقوالهم هي الموافقةُ للمنصوصِ والمعقولِ، ولهذا تأتلفُ ولا تختلفُ، وتتوافقُ ولا تتناقضُ. والذينَ خالفوهم لم يفهموا حقيقةَ أقوال السَّلفِ والأئمةِ، فلمْ يعرفوا حقيقةَ المنصوصِ والمعقولِ، فتشعَّبتْ بهم الطرقُ، وصاروا مختلفينَ في الكتابِ، مخالفينَ للكتابِ وقدْ قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقِ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] (¬1). وقدْ طوَّلنا في هذا المكان، ولو ذكرنا كلَّ منْ لهُ كلامٌ في إثباتِ علوِّ الله على العرشِ مِنَ الأئمةِ لاتسعَ الخرقُ، وإذا كان المخالفُ لا يهتدي بمن ذكرنا فلا هداه الله. ولا خيرَ - والله - فيمن ردَّ على الأئمةِ المذكورين الذين هم لُبُّ اللُّبَابِ ونقاوةُ الأمَّةِ في كلِّ عصرٍ، وهو مُتَّبِعٌ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ (¬2). ¬

_ (¬1) درءُ تعارض العقل والنقل (2/ 301). (¬2) انظر: الأربعين في صفات ربِّ العالمين (ص118 - 120) للذهبي، بتصرف وزيادة.

الدليل من الفطرة

الدَّلِيلُ مِنَ الفِطْرَةِ إنَّ عُلُوَّه «سبحانه وتعالى على العالمِ وأنَّهُ فوقَ السَّماواتِ كلِّها وأنَّهُ فوقَ عَرْشِهِ أمرٌ مُسْتَقِرٌ في فِطَرِ العبادِ معلومٌ لهم بالضَّرورةِ كمَا اتَّفقَ عليهِ جميعُ الأممِ إقرارًا بذلكَ وتصديقًا منْ غيرِ تَوَاطئٍ منهم على ذلكَ ولا تشاعرٍ، وهم يخبرونَ عنْ أنفسهم أنَّهم مضطَّرون إلى توجيهِ قلوبهم إلى العلوِّ كما أنَّهم مضطَّرونَ إلى دعائهِ وقصدهِ وسؤالهِ كما أنَّهم يضطَّرونَ إلى الإقرارِ بهِ وأنَّهُ ربُّهم وخالقهم ومليكهم ولا يجدون فرقًا بينَ هذا الاضطِّرارِ وهذا، فكما لا تتوجَّهُ قلوبهم إلى ربٍّ غيرهِ ولا إلى إلهٍ سواهُ فكذلكَ لا يجدونَ في قلوبهم توجُّهًا إلى جهةٍ أخرى غيرِ العلوِّ، بلْ يجدونَ قلوبهم مضطرةً إلى قصدِ جهةِ العلوِّ دونَ سائرِ الجهاتِ وهذا يتضمَّنُ اضطرارهم إلى قصدهِ سبحانهُ في العلوِّ، وإقرارهم وإيمانهم بذلكَ» (¬1) إلَّا مَنِ اجتالتهُ الشياطينُ فأخرجتهُ عنْ فطرتهِ التي فُطِرَ عليها (¬2). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وإليْهِ أيدِي السَّائِلينَ تَوجَّهَتْ ... نَحْوَ العُلُوِّ بِفِطْرَةِ الرَّحْمَنِ وإليْه آمالُ العِبَادِ توجَّهَتْ ... نَحْوَ العُلُوِّ بِلاَ تَواصٍ ثَانِ بَلْ فِطْرةُ اللهِ التيِ لَمْ يُفْطرُوا ... إلَّا عَلَيْهَا الخلْقُ والثَّقَلاَنِ ونَظِيرُ هَذَا أنَّهُمْ فُطِرُوا عَلَى ... إقرَارِهِمْ لاَ شَكَّ بالدَّيَّانِ لَكِنْ أولُو التعْطِيلِ مِنْهُمْ أصْبَحُوا ... مَرْضَى بدَاءِ الجَهْلِ والخُذْلاَنِ (¬3) ¬

_ (¬1) الصواعق المرسلة (ص1306). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 569). (¬3) الكافية الشافية (ص54 - 55).

وجميعُ الطوائفِ تنكرُ قولَ المُعَطِّلةِ إلَّا منْ تلقَّاهُ منهم، وأمَّا العامَّةُ منْ جميعِ الأممِ ففِطَرُهُمْ جميعهم مُقِرَّةٌ بأنَّ الله فَوْقَ العَالَمِ، وإذا قيلَ لهم لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ ولا فوقَهُ ولا تحتَهُ، ولا تُرفعُ إليهِ الأيدي ولا تتوجَّهُ إليهِ القلوبُ نحوَ العلوِّ أنكرتْ فطرهُمْ ذلكَ غايةَ الإنكارِ ودفعتهُ غايةَ الدفعِ (¬1). ومنهمْ منْ لا يصدِّقُ أنَّ عاقلًا يقولُ ذلكَ، لظهورِ هذه القضيةِ عندهم، واستقرارِهَا في أنفسهم، فينسبونَ منْ خالفها إلى الجنونِ (¬2). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: وَعُلُوُّهُ فَوْقَ الخَلِيقَةِ كُلِّهَا ... فُطِرَتْ عَلَيْهِ الخَلقُ والثَّقلانِ لاَ يَسْتَطيعُ مُعَطِّلٌ تَبْدِيلَهَا ... أبَدًا وَذَلِكَ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ كُلٌّ إذَا مَا نَابَهُ أمْرٌ يُرَى ... مُتَوجِّهًا بِضَرُورَةِ الإِنْسَانِ نَحْوَ العُلُوِّ فَلَيْسَ يَطْلُبُ خَلْفَهُ ... وَأمَامَهُ أوْ جَانِبَ الإِنْسَانِ (¬3) يقولُ شيخُ الإسلامِ رحمه الله في تقريرِ ذلكَ: « ... وأنَّ الخلقَ كلَّهم إذا حزبهمْ شدَّةٌ أو حاجةٌ في أمرٍ، وجَّهوا قلوبهمْ إلى الله يدْعونهُ ويسألونهُ؛ وأنَّ هذا أمرٌ متَّفقٌ عليهِ بينَ الأمم التي لمْ تغيَّر فطرتها، لم يحْصل بينهم بتواطىءٍ واتفاقٍ. ولهذا يوجدُ هذا في فطرةِ الأعْرابِ والعجائزِ والصِّبيانِ مِنَ المسْلمينَ واليهودِ والنَّصارى والمشْركينَ، ومنْ لمْ يقرأ كتابًا، ولمْ يتلقَّ مثلَ هذا عنْ معلِّمٍ ولا أسْتاذٍ ... » (¬4). ¬

_ (¬1) الصواعق المرسلة (ص1281). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (6/ 243). (¬3) الكافية الشافية (ص104 - 105). (¬4) درء تعارض العقل والنقل (6/ 12).

وليتأمَّل القاريءُ اللبيبُ القصَّةَ التاليةَ: «قَالَ أبو جعفر بن أبي علي الحافظ: سمعت أبا المعالي الجوينيَّ وقدْ سُئِلَ عنْ قولهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]؟ فقالَ: كَانَ الله وَلاَ عرش - وجعلَ يتخبَّطُ فِي الكلامِ - فقلتُ: قَدْ علمنا مَا أشرتَ إِلَيْهِ، فهلْ عندكَ للضَّروراتِ منْ حيلةٍ؟ [أي: كيفَ تصنع بهذه الضرورة الموجودة في قلوبنا؟] (¬1) فقالَ: مَا تريدُ بهذا القولِ وما تعني بهذهِ الإشارةِ؟ فقلتُ: مَا قَالَ عارفُ قطُّ يَا ربَّاهُ إلَّا قبلَ أنْ يتحرَّكَ لسانهُ، قامَ منْ باطنهِ قصدٌ لاَ يلتفتُ يمنةً وَلاَ يسرةً يقصدُ الفوقَ، فهلْ لهذا القصدِ الضروريِّ عندكَ منْ حيلةٍ؟ فنبئنا نتخلَّصُ مِنَ الفوقِ والتَّحتِ، وبكيتُ وبكى الخلقُ، فضربَ الأستاذُ بكُمِّهِ عَلَى السريرِ وصاحَ: يَا للحيرةِ، وخرق مَا كَانَ عَلَيهِ وانخلعَ، وصارتْ قيامةٌ فِي المسجدِ، ونزلَ، ولم يجبني إلَّا: يَا حبيبي الحيرةَ الحيرةَ، والدهشةَ الدهشةَ. فسمعتُ بعدَ ذَلِكَ أصحابهُ يقولون: سمعناه يقولُ: حيَّرني الهمدانيُّ» (¬2). قَالَ شيخُ الإسلامِ تعليقًا عَلَى هَذَا الكلام: «فهذا الشَّيخُ تكلَّمَ بلسانِ جميعِ بني آدمَ، فأخبرَ أنَّ العرشَ والعلمَ باستواءِ الله عَلَيهِ إنِّما أُخِذَ منْ جهةِ الشَّرعِ وخبرِ الكتابِ والسنَّةِ، بخلافِ الإقرارِ بعلوِّ اللهِ عَلَى الخلقِ مِنْ غيرِ تعيينِ عرشٍ وَلاَ استواءٍ؛ فإنَّ هَذا أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ نجدهُ فِي قلوبنا نحنُ وجميعُ منْ يدعو الله تعالى، فكيفَ ندفعُ هذهِ الضَّرورةَ عنْ قلوبنا؟!» (¬3). ¬

_ (¬1) بيان تلبيس الجهمية (1/ 54) طبعة مجمع الملك فهد. (¬2) العلو (ص1347)، وقال العلامة الألباني رحمه الله في «مختصر العلو» (ص277): «وإسناد هذه القصة صحيحٌ مسلسلٌ بالحفاظ». (¬3) مجموع الفتاوى (4/ 61).

ونذكرُ في هذا المقامِ: ما جرى بينَ شيخِ الإسلامِ وبينَ أحدِ المشايخِ النَّافينَ للعلوِّ، يقولُ شيخُ الإسلامِ مخبرًا عنْ ذلكَ: «ولقدْ كانَ عندي منْ هؤلاءِ النَّافينَ لهذا - يعني صفةَ العلوِّ - منْ هوَ منْ مشايخهم، وهوَ يطلبُ منِّي حاجةً، وأنا أُخاطبهُ في هذا المذهبِ كأنِّي غيرُ منكرٍ لهُ، وأخَّرتُ قضاءَ حاجتِهِ حتَّى ضاقَ صدرهُ، فرفعَ طرفهُ ورأسهُ إلى السَّماءِ، وقالَ: يا الله. فقلتُ لهُ: أنتَ محققٌ لمنْ ترفعُ طرفكَ ورأسكَ؟! وهل فوقَ عندكَ أحدٌ؟ فقالَ: أستغفرُ الله، ورجعَ عنْ ذلكَ لمَّا تبيَّنَ لهُ أنَّ اعتقادَهُ يخالفُ فطرَتهُ، ثمَّ بيَّنتُ لهُ فسادَ هذا القولِ، فتابَ منْ ذلكَ، ورجعَ إلى قولِ المسلمينَ المستقرِّ في فِطْرَتِهم» (¬1). وقدْ اعترضَ على الدَّليلِ الفطريِّ: أنَّ ذلكَ إنَّما لكونِ السَّماءِ قبلةَ الدعاءِ، كمَا أنَّ الكعبةَ قبلةٌ للصَّلاةِ، ثمَّ هوَ منْقوضٌ بوضعِ الجبْهةِ على الأرضِ معَ أنَّهُ ليسَ في جهةِ الأرضِ. وهذا الكلامُ باطلٌ معلومٌ بالاضطرارِ بطلانُهُ، مخالفٌ لصريحِ المعقولِ، وصحيحِ المنقولِ عنْ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. وذلكَ يظهرُ بوجوهٍ: أحدُها: أنَّ قولَكُم: إنَّ السَّماءَ قبْلَةُ الدُّعاءِ لمْ يقلْهُ أحدٌ منْ سلفِ الأمَّةِ، ولا أنْزلَ اللهُ بهِ منْ سُلطانٍ، وهوَ قولٌ مُحْدَثٌ، ومخالفٌ لإجماعِ المسلمينَ، ولما عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ، فيكونُ منْ أبطلِ الباطلِ. الوجهُ الثاني: أنَّ توجُّهَ الخلائقِ بقلوبهم وأيديهم وأبصارهم إلى السَّمَاءِ حالَ الدُّعاءِ أمرٌ فطريٌّ ضروريٌّ لا يختصُّ بهِ أهلُ المللِ والشرائعِ؛ والمسْتقبلُ للكعبةِ يعْلمُ أنَّ الله تعالى ليسَ هناكَ، بخلافِ الدَّاعي، فإنَّه يتوجَّهُ إلى ربِّهِ وخالقهِ، ويرجو الرَّحمةَ أنْ تَنْزِلَ منْ عندهِ. ¬

_ (¬1) درءُ تعارض العقل والنقل (6/ 343 - 344).

الوجهُ الثالثُ: أنَّ قبلةَ الدُّعاءِ هي قبْلةُ الصَّلاةِ، فإنَّهُ يسْتحبُّ للدَّاعي أنْ يسْتقْبلَ القِبْلَةَ، وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسْتقبلُ القبْلةَ في دعائهِ في مواطنَ كثيرةٍ، فمنْ قالَ: إنَّ للدُّعاءِ قبْلةً غيْرُ قبْلةِ الصَّلاةِ، أو إنَّ لهُ قبْلتينِ: إحْداهما الكعْبةُ، والأخْرى السَّماءُ، فقدِ ابْتدعَ في الدِّينِ، وخالفَ جماعةَ المسْلمينَ. الوجهُ الرابعُ: أنَّ القبلةَ تقبلُ النَّسخَ، كما نُسِخَتْ منْ بيتِ المقْدِسِ إلى المسجدِ الحرامِ، أمَّا التَّوجُّهُ إلى السَّماءِ حالَ الدُّعاءِ فهوَ أمْرٌ مركوزٌ في الفطرِ، لا يتوجَّهونَ إلى غيرِ جهةِ العلوِّ، يفعلهُ العالمُ والجاهلُ. وإذا كانتِ القبلةُ أمرًا يقبلُ النَّسخَ والتبديلَ فيجبُ على هذا التقديرِ إذا كانتِ السَّماء قدْ جعلتْ قبلةً للدعاءِ أنْ يجوز تغييرُ ذلكَ وتبديلُه؛ حتىَّ يجوز أنْ يُدْعا الله إلى نحو الأرضِ، ويجوزُ أنْ يدعوهُ الإنسانُ مِنَ الجهاتِ السِتِّ، ويمدُّ يدَهُ وعينيهِ إلى سائرِ جهاتهِ، وأنْ يكونَ ذلكَ قبلةً لبعضِ الدَّاعينَ دونَ بعضٍ (¬1). الوجهُ الخامسُ: أنَّ القبلةَ: مَا يستقبلهُ العابدُ بوجههِ، كما تُسْتَقْبَلُ الكعبةُ في الصَّلاةِ والدُّعاءِ والذِّكرِ والذَّبْحِ، ولذلك سمِّيتْ وُجْهَةً، والاسْتقْبالُ خلافُ الاسْتدْبارِ، فالاسْتقْبالُ بالوجْهِ، والاستدْبارُ بالدُّبرِ، فأمَّا مَا حاذاهُ الإنْسانُ برأسهِ أو يديهِ أو جنْبهِ، فهذا لا يسمَّى قبْلةً، لا حقيقةً ولا مجازًا، فلو كانتِ السَّماءُ قبلةَ الدُّعاءِ، لكانَ المشروعُ أنْ يوجِّهَ الدَّاعي وجههُ إليها، وهذا لمْ يشْرعْ. الوجهُ السادسُ: أنَّ القبلةَ لا يجدُ النَّاسُ فِي أنفسهم معنًى يطلب تعيينها، وَلاَ فرقَ بين قبلةٍ وقبلةٍ، بخلافِ التَّوجُّهِ في الدُّعاءِ نحوَ السَّماءِ، فالنَّاسُ يجدونَ في أنْفسهم طلبًا ضروريًّا لما فوق. ¬

_ (¬1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 461) بتصرف يسير.

الوجهُ السابعُ: عندما كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَلِّبُ وجههُ (في السَّماء) يسألُ الله عزَّ وجلَّ - وهوَ أعلمُ بهِ - عن القبلةِ، استجابَ لهُ ربُّه وحدَّد لهُ المسجدَ الحرامَ، كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] والنصُّ هنا يشيرُ بوضوحٍ إلى أنَّ الله عزَّ وجلَّ أبدلَ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم قبلةً جديدةً يرضاها هي المسجدُ الحرامُ بدلًا منْ بيتِ المقدسِ، ولم يسمِّ تَقَلُّبَ وجهِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في السَّماءِ توجُّهًا نحو القبلةِ، بلْ إنَّ النَّصَّ يشيرُ إلى أنَّ تَقَلُّبَ وجههِ في السَّماءِ إنَّما كانَ ينتظرُ الأمرَ مِنَ الله في السَّماء، الذي استجابَ لهُ وعيَّن لهُ قبلةً في الأرضِ لا في السَّماء (¬1). الوجهُ الثامنُ: رفعُ الأيدي بالدعاءِ «يتضمنُ ثلاثةَ أشياء: الرفعُ الذي فيهِ الإشارة الحسية الظاهرة، والقصدُ والإرادة التي يقصدُ بها الصمدُ الأعلى، والاعتقاد الذي هو أصلُ القصدِ الذي هو أصلُ العمل. [والجهمية يزعمون] أن الثلاثة فاسدة. فيقال: لو كانَ الأمرُ كذلك لكانَ النهيُ عن ذلك من أعظمِ الواجباتِ في الدينِ، إذ ذاكَ من أعظمِ المنكراتِ لتضمنهِ اعتقادًا فاسدًا في حقِّ اللهِ تعالى، ودعًا فاسدًا متعلقًا بهِ، وعبادةً غير صالحة لهُ. ¬

_ (¬1) الرحمن على العرش استوى (ص69 - 70)، تأليف: الدكتور عوض منصور.

ومِنَ المعلومِ أنَّ اللهَ قد بعثَ الأولينَ والآخرينَ مِنَ النبيِّين مبشرين ومنذرين، ولم ينه أحدٌ من الأنبياء والمرسلين لبني آدمَ عن شيء من ذلك، لا عن هذا الرفعِ ولا عن هذا القصدِ ولا عن هذا الاعتقاد، بل كانَ الأنبياءُ موافقين لهم على هذا العمل، وذلك يوجب العلم الضروري من دين النبيين: أن ذلك عندهم ليس من المنكر بل من المعروف، وذلك يبطلُ كونهُ مبنيًّا على اعتقادٍ فاسدٍ في حقِّ الله تعالى مستلزمًا له ودالًّا عليهِ، فإن كلَّ ما كانَ متفرعًا عن الاعتقاد الفاسد أو كانَ مستلزمًا له مثل أن يكونَ دليلًا عليه فإنهُ يجبُ النهي عنهُ، فإن العقائدَ الفاسدةَ، والمقاصدَ الفاسدةَ، في حقِّ الله تعالى تجبُ إزالتها وإزالةُ فروعها وأصولها التي توجبها. وإذا كان كذلك فالجهمية تنهى عن هذا الاعتقادِ وهذه الإرادةِ، فهم ناهونَ عن معرفةِ اللهِ تعالى وعبادتهِ» (¬1). فتبيَّنَ منْ هذا الكلامِ: أنَّ القولَ بأنَّ السَّماءَ قبلةُ الدُّعاءِ منْ أعْظمِ الفريةِ على الله، وأنَّهُ منْ جملةِ افْتراءاتِ الجهميَّةِ ونحوهم على اللهِ وعلى رسلهِ ودينهِ. وأمَّا النَّقْضُ بوضْعِ الجبهة، فما أفْسَدَهُ منْ نقْضٍ، وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ: أحدُها: أن يُقالَ: وضعُ الجبهةِ على الأرضِ لم يتضمَّنْ قصدَهُمْ لأحدٍ في السُّفلِ، بل السُّجودُ بها يُعقلُ أنَّهُ تواضعٌ وخضوعٌ للمسجودِ لهُ، لا طلبٌ وقصدٌ ممَّنْ هو في السُّفلِ، بخلافِ رفعِ الأيدي إلى العلوِّ عندَ الدعاءِ، فإنَّهم يقصدونَ بهِ الطلبَ ممنْ هوَ في العلوِّ. ¬

_ (¬1) بيان تلبيس الجهمية (4/ 603 - 604) طبعة مجمع الملك الفهد.

والاستدلالُ هوَ بقصدهم القائمِ بقلوبهم، وما يتبعهُ منْ حركاتِ أبدانهم، والداعي يجدُ منْ قلبهِ معنًى يطلبُ العلوَّ، والساجدُ لا يجدُ منْ قلبهِ معنًى يطلبُ السُّفلَ، بلِ السَّاجدُ أيضًا يقصدُ في دعائهِ العلوَّ، فقصدُ العلوِّ عندَ الدعاءِ يتناولُ القائمَ والقاعدَ والراكعَ والسَّاجدَ (¬1). الوجهُ الثاني: أنَّ وضعَ الجبهةِ على الأرضِ يفعلهُ النَّاسُ لكلِّ منْ تواضعوا لهُ منْ أهلِ الأرضِ والسَّماء، ولهذا يسجدُ المشركونَ للأصنامِ والشَّمْسِ والقمرِ سجودَ عبادةٍ، وقدْ سجدَ ليوسفَ أبواهُ وإخوتهُ سجودَ تحيةٍ لا عبادةٍ، لكونِ ذلكَ كانَ جائزًا في شرعهم، وأمرَ الله الملائكةَ بالسُّجودِ لآدمَ، والسُّجودُ لا يختصُّ بمنْ هو في الأرضِ، بلْ لاَ يكادُ يُفْعَلُ لمنْ هو في بطنها، بلْ لمنْ هو على ظهرهَا عالٍ عليها، وأمَّا توجيهُ القلوبِ والأبصارِ والأيدي عندَ الدعاءِ إلى السَّماء فيفعلونهُ إذا كان المَدْعُوُّ في العُلُوِّ، فإذا دَعَوُا اللهَ فَعَلُوا ذلكَ، وإنْ قُدِّرَ منهم منْ يدعو الكواكبَ ويسألها، أو يدعو الملائكةَ، فإنَّهُ يفعلُ ذلكَ. ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 21 - 22).

فعُلمَ أنَّ قصدَهم بذلكَ التوجُّهِ إلى جهةِ المدعوِّ المسؤولِ الذي يسألونهُ ويدعونهُ، حتى لو قُدِّرَ أنَّ أحدهم يدعو صنمًا أو غيرهُ ممَّا يكونُ على الأرضِ لكانَ توجُّهُ قلبهِ ووجههِ وبدنهِ إلى جهةِ معبودهِ الذي يسألهُ ويدعوهُ، كما يفعلهُ النَّصارى في كنائسهم فإنَّهم يوجِّهونَ قلوبهم وأبصارهم وأيديهم إلى الصُّوَرِ المصوَّرةِ في الحيطانِ وإنْ كانَ قصدهم صاحبَ الصُّورةِ، وكذلكَ مَنْ قصدَ الموتى في قبورهم، فإنَّه يوجِّهُ قصدَهُ وعينَهُ إلى منْ في القبرِ، فإذا قَدَّرَ أنَّ القبرَ أسفلُ منهُ توجَّهَ إلى أسفلَ، وكذلكَ عابدُ الصَّنمِ إذا كان فوقَ المكانِ الذي فيهِ الصنمُ، فإنَّهُ يُوَجِّهُ قَلْبَهُ وطَرْفَهُ إلى أسفلَ، لكونِ معبودهِ هناكَ. فعُلمَ بذلكَ أنَّ الخلقَ متَّفقونَ على أنَّ توجيهَ القلبِ والعينِ واليدِ عندَ الدُّعاءِ إلى جهةِ المدعوِّ، فلما كانوا يُوَجِّهون ذلكَ إلى جهةِ السَّماءِ عندَ الله، عُلم إطباقُهم على أنَّ اللهَ في جِهَةِ السَّمَاءِ. الوجهُ الثالث: أنَّ الواحدَ منهم إذا اجتهدَ في الدُّعاءِ حالَ سجودِهِ يجدُ قلبَهُ يَقْصِدُ العُلُوَّ، مع أنَّ وجههُ يلي الأرضَ، بل كلَّما ازدادَ وجههُ ذُلًّا وتواضعًا، ازدادَ قلبهُ قصدًا للعلوِّ، كمَا قالَ تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ من رَبِّهِ وهو سَاجِدٌ» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (482).

فعلمَ أنَّهم يفرِّقونَ بين توجُّهِ وجوههم في حالِ السُّجودِ إلى الأرضِ، وتوجيهِ القلوبِ في حالِ الدُّعاء إلى منْ في السَّماءِ. والقلوبُ حالَ الدُّعاءِ لا تقصدُ إلَّا العُلُوَّ، وأمَّا الوجوهُ والأيدي فيتنوعُ حالها: تارةً تكونُ في حالِ السُّجودِ إلى جهةِ الأرضِ، لكونِ ذلكَ غايةُ الخضوعِ، وتارةً تكونُ حالَ القيامِ مطرقةً، لكونِ ذلكَ أقربُ إلى الخشوعِ، وتارةً تتوجَّهُ إلى السَّماءِ لتوجُّهِ القلبِ. وقد صحَّ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عَنْ رفعِ البصرِ في الصَّلاةِ إلى السَّماءِ، وقال: «لَيَنْتَهِيَنَّ أقوامٌ من رَفْعِ أَبْصَارِهِمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلاَةِ أو لا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُم» (¬1). وإنما نُهِيَ عنْ رفعِ البصرِ في الصَّلاة لأنَّهُ يُنافي الخشوعَ المأمورَ به في الصَّلاةِ. قال تبارك وتعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 6 - 7]. وقال عزَّ وجلَّ: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [المعارج: 43 - 44]. وقال جلَّ وعَلا: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]. ولهذا يوجدُ منْ يخاطبُ المعظَّمَ عنده لا يرفع بصرهُ إليهِ. ومعلومٌ أنَّهُ لو كانت الجهاتُ بالنسبةِ إلى الله سواء لم نؤمرْ بهذا. الوجهُ الرابعُ: أنَّ السجودَ من بابِ العبادةِ والخضوعِ للمسجودِ لهُ، كالرُّكوعِ والطَّوافِ بالبيتِ. وأمَّا السؤالُ والدُّعاءُ ففيهِ قصدُ المسؤولِ المدعوِّ، وتوجيهُ القلبِ نحوهُ، لا سيَّما عندَ الضَّرورةِ! فإنَّ السائلَ الداعي يقصدُ بقلبهِ جهةَ المدعوِّ المسؤولِ بحسب ضرورتِهِ واحتياجِهِ إليهِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (750).

هل نجزم بإثبات العلو على العرش، أو نفوض؟

وإذا كانَ كذلكَ، كانَ رفعُ رأسِهِ وطَرْفِهِ ويديهِ إلى جهةٍ، متضمِّنًا لقصدهِ إيَّاهُ في تلكَ الجهةِ، بخلافِ السَّاجدِ فإنَّهُ عابدٌ ذليلٌ خاشعٌ، وذلكَ يقتضي الذُّلَّ والخُضُوعَ، ليسَ فيهِ ما يقتضي توجيهَ الوَجْهِ واليَدِ نَحْوَهُ، لكن إنْ كان داعيًا وَجَّهَ قَلْبَهُ إليهِ. الوجهُ الخامسُ: أنْ يُقالَ: قصدُ القلوبِ للمَدْعُوِّ في العلوِّ أمرٌ فِطْرِيٌّ عَقْلِيٌّ اتفقت عليهِ الأممُ منْ غيرِ مُوَاطَأَةٍ، وأمَّا السُّجودُ فأمرٌ شرعيٌّ يُفعلُ طاعةً للآمرِ، كما تُستقبلُ الكعبةُ حالَ العبادةِ طاعةً للآمرِ (¬1). وهكذا الحقُّ ينتصرُ على الباطلِ، فيتركهُ صريعًا زهوقًا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا *} [الإسراء: 81]. فاحْمَدْ إِلَهَكَ أيُّهَا السُّنِّيُّ إِذْ ... عَافَاكَ مِنْ تَحْريفِ ذِي بُهْتَانِ (¬2) * * * هل نَجْزِمُ بِإِثْبَاتِ العُلُوِّ على العَرْشِ، أو نُفَوِّضُ؟ اعلم رحمكَ الله بأنَّ أهلَ الحديثِ يجزمونَ بإثباتِ علوِّ الرحمنِ عَلَى العرشِ وذلكَ يتبيَّنُ منْ وجوهٍ: أحدُها: أنْ يقالَ: إنَّ القرآنَ والسُّننَ المستفيضةَ المتواترةَ وغيرَ المتواترةِ وكلامَ السَّابقينَ والتَّابعينَ، وسائرَ القرونِ الثلاثةِ: مملوءٌ بما فيهِ إثباتُ العلوِّ للهِ تعالى عَلَى عَرْشِهِ بأنواعٍ مِنَ الدلالاتِ، ووجوهٍ مِنَ الصِّفاتِ، وأصنافٍ مِنَ العباراتِ. بما تعجزُ عنهُ الأقلامُ وتضعفُ عنْ حصرهِ الأوهامُ. فلا يخلو إمَّا أنْ يكونَ مَا اشتركتْ فيهِ هذهِ النُّصوصُ منْ إثباتِ علوِّ اللهِ نفسَهُ عَلَى خلقهِ هو الحقُّ، أو الحقُّ نقيضهُ؛ إذ الحقُّ لا يخرجُ عن النقيضينِ؛ وإمَّا أنْ يكونَ نفسهُ فوقَ الخلقِ؛ أوْ لاَ يكونُ فوقَ الخلقِ كَمَا تقولُ الجهميَّةُ. فإمَّا أنْ يكونَ الحقُّ إثباتَ ذلكَ؛ أو نفيهُ. ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 21 - 25). (¬2) الكافية الشافية (ص53).

فإنْ كانَ نفيُ ذلكَ هو الحقَّ، فمعلومٌ أنَّ القرآنَ لم يبيِّن هَذَا قطُّ - لا نصًّا وَلاَ ظاهرًا - وَلاَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ أحدٌ مِنَ الصَّحابةِ - الذينَ كانوا أعمقَ النَّاس علمًا، وأنصحَهم للأمَّةِ، وأبينَهم للسنَّةِ - والتابعينَ وأئمةِ المسلمينَ؛ لا أئمَّةُ المذاهبِ الأربعةِ، وَلاَ غيرهم، وَلاَ يمكنُ أحدٌ أن ينقلَ عنْ واحدٍ من هؤلاءِ أنَّه نفى ذلكَ أو أخبرَ بهِ. وأمَّا مَا نُقِلَ من الإثباتِ عنْ هؤلاءِ: فأكثرُ منْ أنْ يحصى أو يحصرَ. فإنْ كان الحقُّ هو النفيَ دونَ الإثباتِ، لزمَ منْ ذلكَ لوازمُ باطلة: (الأولى): أنْ لا يُسْتفادَ منْ خبرِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الله في هذا البابِ علمٌ ولا هدًى ولا بيانٌ للحقِّ في نفسهِ. فعندَ النُّفاةِ كلامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ لا يشفي عليلًا، ولا يروي غليلًا، ولا يبيِّنُ الحقَّ مِنَ الباطلِ ولا الهدى مِنَ الضَّلالِ. (الثانيةُ): القَدْحُ في علمهِ ومعْرفتهِ، أو في فصاحتهِ وبيانهِ، أو في نصْحهِ وإرادتهِ. (الثالثةُ): أنْ يكونَ المعطِّلةُ النُّفاةُ أعْلمَ باللهِ منهُ، أو أفْصحَ أو أنْصحَ.

(الرابعةُ): أن يكونَ أشْرفُ الكتبِ (¬1) وأشْرفُ الرسلِ قدْ قصَّرَ في هذا البابِ غايةَ التَّقْصيرِ، بلْ أفْرطَ في التَّجسيمِ والتَّشبيهِ غايةَ الإفْراطِ، وتنوَّعَ فيهِ غايةَ التنوعِ بأنْواعٍ متنوعةٍ مِنَ الخطابِ، تارةً بأنَّهُ استوى على عرْشهِ، وتارةً بأنَّه فوقَ عبادهِ، وتارةً بأنَّهُ العليُّ الأعْلى، وتارةً بأنَّ الملائكةَ تعْرجُ إليهِ، وتارةً بأنَّ الأعْمالَ الصَّالحةَ ترْفعُ إليهِ، وتارةً بأنَّ الملائكةَ في نزولها مِنَ العلوِّ إلى أسفلَ تنْزلُ منْ عندهِ، وتارةً بأنَّهُ رفيعُ الدرجاتِ، وتارةً بأنَّهُ في السَّماءِ، وتارةً بأنَّ الكتابَ نزلَ منْ عنْدهِ، وأضْعافُ ذلكَ ممَّا إذا سمعهُ المعطِّلةُ سَبَّحوا اللهَ ونزَّهوهُ جحودًا وإنْكارًا لا إيمانًا وتصديقًا، فما ضحكَ منهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصْديقًا لقائلهِ يعبسُ منهُ هؤلاءِ إنْكارًا وتكْذيبًا، وما شهدَ لقائلهِ بالإيمانِ شهدَ هؤلاءِ لهُ بالكفرِ والضَّلالِ، وما أطْلقهُ على ربِّهِ يطْلقُ عليهِ هؤلاءِ ضِدَّهُ ونقيضَهُ، وما نزَّهَ ربَّهُ عنهُ مِنَ العيوبِ والنَّقائصِ يمسكونَ عنْ تنزيههِ عنهُ - وإن اعْتقدوا أنَّه منزَّهٌ عنهُ - ويبالغونَ في تنزيههِ عنْ ما وصفَ به نفسَهُ، فتراهم يبالغونَ أعْظمَ المبالغةِ في تنْزيههِ عنْ علوِّهِ على خلقهِ، واسْتوائهِ على عرشهِ، وتكلُّمهِ بالقرآنِ حقيقةً، ما لا يبالغونَ مثلهُ ولا قريبًا منهُ في تنْزيههِ عَنِ الظُّلمِ والعيبِ. ¬

_ (¬1) إنّ الله تعالى قال وهو أصدقُ القائلين: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فلو صحَّ قولُ نفاةِ العُلُوِّ لما كان الكتابُ تبيانًا لكلِّ شيءٍ، ولكان اللهُ مفرطًا في الكتاب، وكلُّ ذلكَ تكذيبُ الله تعالى بعدَ وجوبِ تصديقهِ.

فهذا وأضْعافهُ وأضْعافُ أضْعافِهِ منْ لوازمِ قولِ المعطِّلةِ (¬1). (الخامسةُ): أنْ يكونَ قدْ نزَّلَ بيانَ الحقِّ والصَّوابِ لهم ولمْ يفصحْ بهِ، بل رمزَ إليهِ رمزًا وألغزهُ إلغازًا لا يفهمُ منهُ ذلكَ إلَّا بعدَ الجهدِ الجهيدِ. وهذا ينافي ما وصفَ الله بهِ كتابهُ مِنَ التيسيرِ والبيانِ. (السادسةُ): أنْ يكونَ قدْ كلَّفَ عبادهُ أنْ لا يفهموا منْ تلكَ الألفاظِ حقائقهَا وظواهرهَا، وكلَّفهم أنْ يفهموا منها مَا لا تدلُّ عَلَيهِ ولمْ يجعلْ معها قرينةً تفهمُ ذلكَ. فأيُّ تيسيرٍ يكونُ هناكَ وأيُّ تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصلْ بذلكَ. وهذا تدْليسٌ وتلبيسٌ، ونقيضُ البيانِ وضدُّ الهدى، وهو بالألْغازِ أشْبهُ منه بالهدى والبيانِ. وكانَ بمنزلةِ مَنْ أرادَ أنْ يصفَ لعليلٍ دواءً قاتلًا، وأخبرهُ أنَّ فيهِ الشفاءَ والعافيةَ، وأرادَ منهُ أنْ يأخذَ من ألفاظِ ذلكَ الدواءِ ما لا يدلُّ عليهِ، بلْ على خلافهِ، فهلْ يكونُ (¬2) مثلُ هذا المداوي إلَّا في غايةِ الجهلِ والضَّلالِ، أو في غايةِ الإفكِ والبهتانِ والإضلالِ والتَّلبيسِ والتَّدليسِ؟! فلا بدَّ لكمْ منْ هذهِ اللوازمِ المذْكورةِ. (السابعةُ): أنْ يكونَ خيرُ الأمَّةِ، وأفضلُها، وأعلمُها، وأسبقُها إلى كلِّ فضلٍ، وهدًى، ومعرفةٍ، وخيرُ القرونِ، قدْ أمسكوا منْ أوَّلهم إِلَى آخرهم عنْ قولِ الحقِّ فِي «الأمورِ الإلهيَّةِ، والحقائقِ الربَّانيَّةِ، التي هيَ أجلُّ المطالبِ العالية، وأعظمُ المقاصدِ السامية» (¬3)، وذلكَ إمَّا جهلٌ ينافي العلمَ، وإمَّا كتمانٌ ينافي البيانَ. ولقدْ أساء الظنَّ بخيارِ الأمَّةِ مَنْ نسبهمْ إِلَى ذلكَ، ومعلومٌ أنَّه إِذَا ازدوجَ التكلُّمُ بالباطلِ والسكوتُ عن بيانِ الحقِّ، تولَّدَ منْ بينهما جهلُ الحقِّ وإضلالُ الخلقِ. ¬

_ (¬1) الصواعق (ص1152). (¬2) الصواعق (ص1508). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (5/ 370).

(الثامنةُ): أنَّهم التزموا لذلكَ تجهيلَ السَّلف وأنَّهم كانوا أُمِّيِّينَ مقبلينَ عَلَى الزُّهدِ والعبادةِ والورعِ والتسبيحِ وقيامِ الليلِ (¬1) ولم تكن الحقائقُ مِنْ شأنهم (¬2). (التاسعةُ): أنَّ تركَ النَّاسِ مِنْ إنزالِ هذهِ النُّصوصِ كانَ أنفعَ لهمْ وأقربَ إِلَى الصَّوابِ، وخيرًا «لهم منْ إنزالها إليهم؛ فإنَّها أوهمتهمْ وأفْهمتهمْ غيرَ المرادِ، وأوقعتهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، ولمْ يتبيَّنْ لهمْ ما هو الحقُّ في نفسهِ؛ بلْ أُحيلوا فيهِ على ما يستخرجونهُ بعقولهمْ وأفْكارهمْ ومقايسهم» (¬3). قَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: لَوْ كَانَ حَقًّا مَا يَقُولُ مُعَطِّلٌ ... لعُلُوِّهِ وَصِفَاتِهِ الرَّحْمنِ لَزِمَتْكُمُ شُنَعٌ ثَلاَثٌ فَارْتَؤوا ... أَوْ خُلَّةٌ مِنْهُنَّ أَوْ ثِنْتَانِ تَقْدِيمُهُمْ فِي العِلْمِ أَوْ فِي نُصْحِهِمْ ... أَوْ فِي البَيَانِ أَذَاكَ ذُو إِمْكَانِ إِنْ كَانَ مَا قَدْ قُلْتُمُ حَقًّا فَقَدْ ... ضَلَّ الوَرَى بالوَحْي والقُرْآنِ إِذْ فِيهِمَا ضِدُّ الَّذِي قُلْتُمُ وَمَا ... ضِدَّانِ فِي المَعْقُولِ يَجْتَمِعَانِ بَلْ كَانَ أَوْلى أَنْ يُعَطَّلَ مِنْهُمَا ... وَيُحَالَ فِي عِلْمٍ وَفِي عُرْفَانِ إِمَّا عَلَى جَهْمٍ وَجَعْدٍ أَوْ عَلَى النّـ ... ظَّامِ أَوْ ذِي المذْهَبِ اليُونَانِ وَكَذَاكَ أَتْباعٌ لَهُمْ فَقْعُ الفَلاَ ... صُمٌّ وبكْمٌ تَابعو العُمْيَانِ ¬

_ (¬1) قال شيخ الاسلام رحمه الله في «الفتاوى الكبرى» (6/ 626): «فمن ادَّعى أنه حقق من العلم بأصول الدين أو من الجهاد ما لم يحققوه، كان من أجهلِ الناس وأضلَّهم، وهو بمنزلةِ مَنْ يدَّعي مِنْ أهل الزهد والعبادة والنسك أنهم حقَّقُوا من العباداتِ والمعارفِ والمقاماتِ والأحوالِ ما لم يحقِّقْه الصحابةُ». (¬2) الصواعق (ص314 - 318). (¬3) إعلام الموقعين (2/ 318).

وَكَذَاكَ أَفْرَاخُ القَرَامِطَةِ الأَلى ... قدْ جَاهَرْوا بِعَداوَةِ الرَّحْمن (¬1) قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «فلئنْ كانَ الحقُّ ما يقولهُ هؤلاءِ السالبونَ النَّافونَ للصِّفاتِ الثابتةِ في الكتابِ والسنَّةِ؛ فكيفَ يجوزُ على الله تعالى، ثمَّ على رسولهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ على خيرِ الأمَّةِ: أنَّهم يتكلَّمونَ دائمًا بما هو إمَّا نصٌّ وإمَّا ظاهرٌ في خلافِ الحقِّ؟! ثمَّ الحقُّ الذي يجبُ اعتقادهُ لا يبوحونَ بهِ قطُّ، ولا يدلُّونَ عليهِ لا نصًّا ولا ظاهرًا؛ حتَّى يجيء أنباطُ الفرسِ والرومِ، وفروخُ اليهودِ والنَّصارى والفلاسفةِ يبيِّنونَ للأمَّةِ العقيدةَ الصحيحةَ، التي يجبُ على كَلِّ مكلَّفٍ أو كلِّ فاضلٍ أنْ يعتقدَهَا!! ولازمُ هذهِ المقالةِ: أنْ لا يكون الكتابُ هدًى للنَّاس ولا بيانًا، ولا شفاءً لما في الصُّدورِ، ولا نورًا، ولا مردًّا عند التنازع، لأنَّا نعلمُ بالاضطرارِ أنَّ ما يقولهُ هؤلاء المتكَلِّفونَ: أنَّهُ الحقُّ الذي يجبُ اعتقادَهُ: لم يدلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ؛ لا نصًَّا ولا ظاهرًا. ولازمُ هذهِ المقالةِ: أنْ يكونَ تركُ النَّاسِ بلا رسالةٍ: خيرًا لهم في أصلِ دينهم، لأنَّ مردَّهم قبل الرسالةِ وبعدهَا واحدٌ؛ وإنَّما الرسالةُ زادتهم عمى وضلالةً» (¬2). الوجهُ الثاني: فِي تبيينِ وجوبِ الإقرارِ بالإثباتِ، وعلوِّ الله عَلَى السَّماواتِ أنْ يقالَ: ¬

_ (¬1) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص138). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 15 - 19).

مِنَ المعلومِ أنَّ الله تعالى أَكْمَلَ الدِّينَ، وأتمَّ النِّعمةَ؛ وأنزلَ الكتابَ تبيانًا لكلِّ شيءٍ؛ وأنَّ معرفةَ مَا يستحقُّهُ الله وما ينزَّهُ عنهُ هوَ منْ أجلِّ أمورِ الدِّينِ، وأعظمِ أصولهِ؛ وأفْضلِ وأوجبِ ما اكْتسبتهُ النُّفوسُ، وأجلُّ ما حصَّلتْهُ القلوبُ، وأدْركتْهُ العقولُ، وأنَّ بيانَ هَذَا وتفصيلَهُ أولى منْ كلِّ شيءٍ. فكيفَ يجوزُ أنْ يكونَ هَذَا البابُ لم يبيِّنهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ولمْ يفصِّلهُ ولم يعلِّمْ أمَّتهُ مَا يقولونَ فِي هَذَا البابِ؟! وكيفَ يكونُ الدِّينُ قد كَمُلَ وقدْ تركوا عَلَى الطريقةِ البيضاءِ، وهمْ لا يدرونَ بماذا يعرفونَ ربَّهم: أبما تقولهُ النُّفاةُ، أو بأقوالِ أهلِ الإثباتِ؟! مِنَ المحال أنْ يكونَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد علمَ أمَّتهُ كلَّ شيءٍ حتَّى الخِراءَةَ، وقالَ: «لَقَدْ تَرَكْتُكُم على مِثْلِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ» (¬1). وقالَ فيمَا صحَّ عنهُ أيضًا: «ما بَعَثَ اللهُ من نَبِيٍّ إلَّا كانَ حَقًّا عليهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ على خَيْرِ ما يَعْلَمُه لَهُمْ وَيَنْهَاهُم عن شَرِّ ما يَعْلَمُهُ لَهُمْ» (¬2). وقال أبو ذر رضي الله عنه: «تَرَكَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طَائِرٌ يقلِّبُ جَنَاحَيْهِ في الهواء إلاّ وهو يذكرنَا منه عِلْمًا» (¬3). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (43)، وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (41). (¬2) رواه مسلم (1844). (¬3) رواه الطبراني في «الكبير» (1647)، وصححه الألباني في «الصحيحه» (1803).

ومحالٌ مَعَ تعليمهم كلَّ شيءٍ لهمْ فيهِ منفعةٌ في الدِّينِ - وإنْ دقَّت - أنْ يتركَ تعليمهم ما يقولونهُ بألسنتهم، ويعتقدونهُ في قلوبهم، في ربِّهم ومعبودهم ربِّ العالمينَ - الذي معْرفتهُ غايةُ المعارفِ، وعبادتهُ أشْرفُ المقاصدِ، والوصولُ إليهِ غايةُ المطالبِ ـ؛ بل هذا خلاصةُ الدعوةِ النبويَّةِ، وزبدةُ الرسالةِ الإلهيَّةِ. فكيفَ يتوهَّمُ منْ في قلبهِ أدنى مسكةٍ منْ إيمانٍ وحكمةٍ أنْ لا يكون هذا البابُ قد وقعَ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم على غايةِ التمامِ؟! (¬1). فكيفَ يصحُّ مَعَ كمالِ الدِّينِ وتمامهِ، ومَعَ كونِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بلَّغَ البلاغَ المبينَ، أنْ يكونَ نفيُ العلوِّ مِنَ الدِّينِ والإيمانِ ثمَّ لا يذكرهُ الله سبحانه وتعالى ولا رسولُه صلى الله عليه وسلم قطُّ. وكيفَ يجوزُ أنْ يُدْعى النَّاسُ ويؤمرونَ باعتقادٍ في أصولِ الدِّينِ ليسَ لهُ أصلٌ عمَّنْ جاءَ بالدِّينِ؟! هلْ هذا إلَّا صريحُ تبديلِ الدِّينِ (¬2). الوجهُ الثالث: ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 7). (¬2) الفتاوى الكبرى (6/ 345).

أنْ يقالَ: كلُّ منْ فيهِ أدنى محبَّةٍ للعلمِ أو أدنى محبَّةٍ للعبادةِ: لا بدَّ أنْ يكونَ البحثُ عنْ هذا البابِ والسؤالُ عنهُ، ومعْرفةُ الحقِّ فيهِ، أكبرَ مقاصدهِ، وأعْظمَ مطالبهِ، وأجلَّ غاياته أعني بيانُ ما ينْبغي اعْتقادهُ في الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، - الذي معرفتهُ أجلُّ المقاصدِ، وأرفعُ المواهبِ، وأعظمُ المطالبِ ـ، فلا يُتصوَّرُ أنْ يكونَ الصَّحابةُ - الذين هممهمْ أشْرفُ الهممِ، ومطالبهمْ أجلُّ المطالبِ، ونفوسهمْ أزكى النُّفوسِ - والتَّابعونَ كلُّهم كانوا معرضينَ عنْ هَذَا لا يسألونَ عنهُ، وَلاَ يشتاقونَ إلى معرفتهِ، وَلاَ تطلبُ قلوبهم الحقَّ، وهمْ ليلًا ونهارًا يتوجَّهونَ بقلوبهمْ إليهِ، ويدْعونهُ تضرُّعًا وخيفةً، ورغبًا ورهبًا، والقلوبُ مجبولةٌ مفطورةٌ عَلَى طلبِ العلمِ بهذا، ومعرفةِ الحقِّ فيه، وهي مشتاقةٌ إليهِ أكثرَ منْ شوقهَا إلى كثيرٍ مِنَ الأمورِ، ومَعَ الإرادةِ الجازمةِ والقدرةِ يجبُ حصولُ المرادِ، وهم قادرونَ عَلَى سؤالِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وسؤالِ بعضهم بعضًا. وقد سألوهُ عمَّا هوَ دونَ هَذَا: سألوهُ هل نرى ربَّنا يومَ القيامةِ؟ فأجابهم. وسألهُ أبو رزين: أيضحكُ ربُّنا؟ فقالَ: «نعمْ». فقال: «لَنْ نُعْدَمَ من ربٍّ يضحكُ خيرًا» (¬1). «فجعلَ الأعْرابيُّ العاقل - بصحةِ فطْرتهِ - ضَحِكَهُ دليلًا على إحْسانهِ وإنْعَامهِ؛ فدلَّ على أنَّ هذا الوصفَ مقرونٌ بالإحسانِ المحمودِ، وأنَّهُ منْ صفاتِ الكمالِ» (¬2). ولو لمْ يفهمْ منْ ضحكه سبحانه وتعالى معنًى لمْ يقلْ ما قال. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (181) وغيره، وقال الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (6/ 736): «والخلاصة أن الحديث بمجموع الطريقين حسن عندي». (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 121).

والمقصودُ هنا: أنَّهم لا بدَّ أنْ يسألوهُ عنْ ربِّهم الَّذي يعبدونهُ، وإذا سألوهُ فلا بدَّ أنْ يجيبهم. ومِنَ المعلومِ بالاضطرارِ أنَّ مَا تقولهُ الجهميَّةُ النُّفاةُ لمْ يُنْقَلْ عنْ أحدٍ منْ أهلِ التَّبليغِ عنهُ، وإنَّما نقلوا عنهُ مَا يوافقُ قولَ أهلِ الإثباتِ. الوجهُ الرابعُ: أنْ يقالَ: إمَّا أنْ يكونَ الله يحبُّ منَّا أنْ نعتقدَ قولَ النُّفاةِ، أو نعتقدَ قولَ أهلِ الإثباتِ، أو لا نعتقدُ واحدًا منهما. فإنْ كان مطلوبهُ منَّا اعتقادَ قولِ النُّفاةِ: وهو أنَّهُ لا داخلَ العالمِ وَلاَ خارجهُ؛ وأنَّهُ ليسَ فوقَ السَّماواتِ ربٌّ، وَلاَ عَلَى العرشِ إلهٌ، فالصَّحابةُ والتَّابعونَ أفضلُ منَّا، فقدْ كانوا يعتقدونَ هَذَا النَّفيَ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم كانَ يعتقدهُ، وإذا كانَ اللهُ ورسولهُ يرضاهُ لنا وهوَ إمَّا واجبٌ علينا أو مستحبٌّ لنا؛ فلا بدَّ أنْ يأمرنا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بما هو واجبٌ علينا، ويندبنَا إلى مَا هوَ مستحبٌّ لنَا، وَلاَ بدَّ أن يظهر عنهُ وعنِ المؤمنينَ مَا فيهِ إثباتٌ لمحبوبِ الله ومرضيهِ وما يقرِّبُ إليهِ؛ لا سيَّما مَعَ قولهِ عزَّ وجلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]. وإذا كانَ كذلكَ: كانَ مِنَ المعلومِ أنَّهُ لا بدَّ أن يبيِّنَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم؛ وقدْ عُلمَ بالاضطرارِ أنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ لم يتكلَّموا بمذهبِ النُّفاةِ. فعُلمَ أنَّهُ ليسَ بواجبٍ وَلاَ مستحبٍّ؛ بلْ علمَ أنَّهُ ليسَ مِنَ «التوحيدِ» الّذي شرعهُ الله تعالى لعبادهِ.

وإنْ كانَ يحبُّ منَّا مذهبَ الإثباتِ؛ وهو الَّذي أمرنَا بهِ؛ فلا بدَّ أيضًا أنْ يبيِّنَ ذلكَ لنا. ومعلومٌ أنَّ فِي الكتابِ والسنَّةِ منْ إثباتِ «العلوِّ والصِّفاتِ» أعظم ممَّا فيهما منْ إثباتِ الوضوءِ والتَّيمُّمِ، والصِّيامِ، وتحريمِ ذواتِ المحارمِ؛ وخبيثِ المطاعمِ؛ ونحو ذلكَ مِنَ «الشَّرائعِ». فعلى قولِ أهلِ الإثباتِ يكونُ الدِّينُ كاملًا، والرسولُ صلى الله عليه وسلم مبلِّغًا مبيِّنًا؛ والتوحيدُ عَنِ السَّلفِ مشهورًا معروفًا، والكتابُ والسنَّةُ يُصَدِّقُ بعضُهُ بعضًا؛ والسّلفُ خيرُ هذهِ الأمَّةِ وطريقهم أفضلُ الطُّرقِ، والقرآنُ كلُّهُ حقٌّ ليسَ فيه إضلالٌ، وَلاَ دلَّ عَلَى كفرٍ ومحالٍ؛ بل هو الشِّفاءُ والهدى والنُّورُ. وهذه كلُّها لوازمٌ ملتزمةٌ ونتائجٌ مقبولةٌ؛ فقولهم مؤتلفٌ غيرُ مختلفٍ، ومقبولٌ غيرُ مردودٍ. وإنْ كانَ الَّذي يحبُّهُ الله منَّا أنْ لا نثبتَ وَلاَ ننفي؛ بل نَبْقَى فِي الجهلِ البسيطِ، وفي ظلماتٍ بعضُهَا فوقَ بعضٍ، لا نعرفُ الحقَّ مِنَ الباطلِ وَلاَ الهدى مِنَ الضَّلالِ، وَلاَ الصِّدقَ من الكذبِ؛ بل نقفُ بينَ المثبتةِ والنُّفاةِ موقفَ الشَّاكينَ الحَيَارى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ} [النساء: 143]؛ لا مصدِّقينَ وَلاَ مكذِّبينَ: لزمَ مِنْ ذلكَ أنْ يكونَ الله يحبُّ منَّا عدمَ العلمِ بما جاءَ بهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وعدمَ العلمِ بما يستحقُّهُ الله سبحانه وتعالى مِنَ الصِّفاتِ التَّاماتِ، وعدمَ العلمِ بالحقِّ مِنَ الباطلِ، ويحبُّ منَّا الحَيْرةَ والشَّكَّ. ومِنَ المعلومِ أنَّ الله لا يحبُّ الجهلَ، وَلاَ الشكَّ، وَلاَ الحيرةَ، وَلاَ الضَّلالَ؛ وإنَّما يحبُّ الدِّينَ والعلمَ واليقينَ.

وقدْ ذمَّ «الحيرةَ» بقولهِ تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71]. وقال سبحانه وتعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]. فأخبرَ سبحانهُ أنَّه هدى عبادهُ لما اختلفَ فيهِ المختلفونَ (¬1). وقدْ أمرَنا الله تعالى أنْ نقولَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} [الفاتحة: 6 - 7]. وفي صحيحِ مسلمٍ (¬2) وغيرهِ عنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إِذَا قامَ من الليل يصلِّي يقولُ: «اللهمَّ ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ؛ فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، أنتَ تَحْكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانُوا فيه يَخْتَلِفُون. اهْدِنِي لما اخْتُلِفَ فيه من الحَقِّ بإِذْنِكَ إنَّكَ تَهْدِي من تَشَاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ». فهوَ صلى الله عليه وسلم يسألُ ربَّهُ أنْ يهديَهُ لما اخْتُلفَ فيهِ مِنَ الحقِّ، فكيفَ يكونُ محبوبُ الله عدمَ الهدى فِي مسائلِ الخلافِ؟! وقدْ قَالَ الله تعالى لهُ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. وقولُ هؤلاءِ الواقفةِ الذينَ لا يثبتونَ وَلاَ ينفونَ، وينكرونَ الجزمَ بأحدِ القولينِ: يلزمُ عَلَيهِ أمورٌ: ¬

_ (¬1) الصواعق (ص516). (¬2) رواه مسلم (770).

(أحدها): أنَّ منْ قَالَ هَذَا: فعليهِ أنْ ينكرَ عَلَى النُّفاةِ؛ فإنَّهم ابتدعوا ألفاظًا ومعاني لا أصلَ لها فِي الكتابِ، وَلاَ فِي السنَّةِ. وأمَّا المثبتةُ إِذَا اقتصروا عَلَى النُّصوصِ؛ فليسَ له الإنكارُ عليهم، وهؤلاءِ الواقفةِ هم فِي الباطنِ يوافقونَ النُّفاةَ أو يقرُّونهم، وإنَّما يعارضون المثبتةَ، فعلمَ أنَّهم أقرُّوا أهلَ البدعةِ، وعادوا أهلَ السنَّةِ. (الثاني): أنْ يقالَ: عدمُ العلمِ بمعاني القرآنِ والحديثِ ليسَ ممَّا يحبُّه اللهُ ورسولُهُ، فهذا القولُ باطلٌ. (الثالثُ): أنْ يقالَ: الشَّكُّ والحيرةُ ليستْ محمودةً فِي نفسهَا باتِّفاقِ المسلمينَ. غايةُ مَا فِي البابِ أنَّ منْ لم يكنْ عندهُ علمٌ بالنَّفيِ وَلاَ الإثباتِ يسكتُ. فأمَّا منْ علمَ الحقَّ بدليلهِ الموافقِ لبيانِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، فليسَ للواقفِ الشَّاكِ الحائرِ أنْ ينكرَ عَلى هَذَا العالمِ الجازمِ المستبصرِ المتَّبعِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، العالمِ بالمنقولِ والمعقولِ.

(الرابعُ): أنْ يقالَ: السَّلفُ كلُّهم أنكروا عَلَى الجهميَّةِ النُّفاةِ، وقالوا بالإثباتِ وأفصحوا بِهِ، وكلامهم فِي الإثباتِ والإنكارِ عَلَى الواقفةِ والنُّفاةِ أكثرُ منْ أنْ يمكنُ إثباتُهُ في هذا المكانِ ... كلُّهم مطبقونَ على الذمِّ والرَّدِّ على منْ نفى أنْ يكونَ اللهُ فوقَ العرشِ، كلُّهم متَّفقونَ على وصفهِ بذلكَ، وعلى ذمِّ الجهميَّةِ الذينْ ينكرونَ ذلكَ؛ وليسَ بينهم في ذلكَ خلافٌ، ولا يقدرُ أحدٌ أن ينقلَ عنْ أحدٍ منْ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها في القرونِ الثلاثةِ حرفًا واحدًا يخالفُ ذلكَ؛ لم يقولوا شيئًا منْ عباراتِ النُّفاةِ، إنَّ الله ليسَ في السَّماءِ، والله ليسَ فوقَ العرشِ، ولا أنَّهُ لا داخلَ العالمِ ولا خارجَهُ، ولا أنَّ جميعَ الأمكنةِ بالنسبةِ إليه سواء، أو أنَّهُ لا تجوزُ الإشارةُ الحسيَّةُ إليهِ، ونحو ذلكَ مِنَ العباراتِ التي تطلقُهَا النُّفاةُ: لا نصًّا ولا ظاهرًا؛ بلْ همْ مطبقونَ متَّفِقُونَ على أنَّهُ نفسهُ فوقَ العرشِ، وعلى ذمِّ منْ ينكرُ ذلكَ. فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ «الحقَّ الحقيقَ بالقبولِ، هو إثباتُ علوِّ الله على العرشِ، الخالصُ منْ شوبِ التَّشبيهِ، المصفَّى منْ قذراتِ التعطيلِ. والمسيرُ إلى توحيدِ الله تعالى، ومعرفةِ صفاته العليا وأسمائه الحسنى بالصُّعودِ على سلالمِ أهلِ الكلام نقيصةٌ واضحةٌ في الدِّينِ، وثلمةٌ بارزةٌ في حصنِ اليقينِ، بلْ ردٌّ للتَّوحيدِ الذي دعا إليهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وندبَ إليهِ سبحانه وتعالى كلَّ جيلٍ مِنَ النَّاس. فمَنْ زَعَمَ أنَّ الحقَّ في كلامِ عُلَمَاءِ الكَلامِ، والتَّوحيدُ هو الذي جاءَ بهِ هؤلاءِ، والقرآنُ لا يكفي في ذَلِكَ، والحديثُ لا يغني عمَّا هُنَالِكَ، فقد خَرَجَ عن دائرةِ الإسلامِ، وعليه دائرةُ السَّوْءِ من اللهِ العزيزِ العَلَّامِ» (¬1). * * * ¬

_ (¬1) الدين الخالص (1/ 153 - 154)، لصديق حسن خان.

شبهات والرد عليها

شُبُهَاتٌ والرَّدُّ عَلَيْهَا اعلمْ رحمكَ اللهُ بأنَّ النُّصوصَ الدَّالَّةَ على علوِّ الله على العرشِ: لا تخفى على ذي عيانٍ؛ بل أجلى منْ ضياءِ الشمسِ في البيانِ، لكنْ لمن له فهمٌ ثاقبٌ، وعقلٌ كاملٌ، وبصرٌ ناقدٌ. وهذه النُّصوصُ الدَّالَّةُ على علوِّ الله على العرش «لمْ يعارضْهَا قطُّ صريحٌ معقولٌ، فضلًا عنْ أنْ يكونَ مقدَّمًا عليهَا، وإنَّما الذي يعارضُهَا «جهليَّاتٌ»، و «ضلالاتٌ»، و «خيالاتٌ»، و «شبهاتٌ مكذوباتٌ»، و «أوهامٌ فاسدةٌ»، وأنَّ تلك الأسماء ليستْ مطابقةً لمسمَّاها، بلْ هي منْ جنسِ تسميةِ الأوثانِ «آلهةً» و «أربابًا»، وتسميةِ «مسيلمةَ الكذَّاب» وأمثاله «أنبياء»: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى *} [النجم: 23]» (¬1)، مبناهَا عَلَى معانٍ متشابهةٍ وألفاظٍ مجملةٍ، فمتى وقعَ الاستفسارُ والبيانُ ظهرَ أنَّ ما عارضهَا شبهٌ سوفسطائيةٌ (¬2)، لا براهين عقلية. قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: فَأَدِلَّةُ الإِثْبَاتِ حَقًّا لاَ يَقْو ... مُ لَهَا الجِبَالُ وَسَائِرُ الأكْوَانِ تَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ وَوَحْيُهُ ... مَعْ فِطْرَةِ الرَّحمنِ وَالبُرْهَانِ أنَّى يُعَارضُها كِنَاسَةُ هَذِهِ الـ ... أذْهَانِ بِالشُّبُهَاتِ وَالهَذَيَانِ وَجَعَاجِعٌ وَفَرَاقِعٌ مَا تَحْتَهَا ... إلَّا السَّرابُ لوَارِدٍ ظَمْآنِ (¬3) ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 255 - 256). (¬2) بين شيخ الاسلام رحمه الله في «بيان تلبيس الجهمية» 1/ 324): أنَّ كلمةَ السَّفْسَطَةِ تتضمن إنكارَ الحقِّ، وتمويهَهُ بالباطل؛ فكُلُّ من جحد حقًا معلومًا، ومَوَّهَ ذلك بباطل فهو مُسَفْسِطٌ. (¬3) الكافية الشافية (ص154).

وإنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ جعلوا أقْوالهم التي ابتدعوهَا، أصولَ دينهمْ - وإن سمُّوها «أصولَ العلم والدِّين» فهي «تَرْتِيبُ الأُصُولِ في مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ والمَعقُولِ» - ومعتقدهمْ في ربِّ العالمينَ هيَ المحكمةُ، وجعلوا قولَ الله ورسولهِ هو المتشابهُ الذي لا يستفادُ منهُ علمٌ ولا يقينٌ، ثمَّ ردُّوا تشابهَ الوحيِ إلى محكمِ كلامهم وقواعدهم. وهذا كمَا أحدثوهُ مِنَ الأصولِ التي نفوا بها صفاتِ الرَّبِّ جلّ جلاله، ونعوتِ كمالهِ، ونفوا بها كلامهُ، وتكليمَهُ، وعلوَّهُ على عرشهِ، محكمًا، وجعلوا النُّصوصَ الدَّالَّةِ على خلافِ تلكِ القواعدِ والأصولِ متشابهةً يقضي بتلكَ القواعدِ عليها وتردُّ النُّصوصُ إليها. وأمَّا أهلُ العلمِ والإيمانِ فطريقهم عكسُ هذهِ الطريقةِ منْ كلِّ وجهٍ، يجعلونَ كلامَ اللهِ ورسولهِ هو الأصلُ الذي يُعْتَمَدُ عليهِ، ويردُّ ما يتنازعُ النَّاسُ فيهِ إليهِ، فمَا وافقهُ كانَ حقًّا، وما خالفهُ كانَ باطلًا، وإذا وردَ عليهم لفظٌ مشتبهٌ ليسَ في القرآنِ ولا في السنَّةِ [كالحيِّزِ والجهةِ والمكانِ والجسمِ والحركةِ] لمْ يتلقَّوهُ بالقبولِ، ولمْ يردُّوهُ بالإنكارِ حتَّى يسْتفصلوا قائلهُ عنْ مرادهِ، فإنْ كانَ حقًّا موافقًا للعقلِ والنَّقلِ قبلوهُ، وإنْ كانَ باطلًا مخالفًا للعقلِ والنَّقلِ ردُّوهُ، ونصوصُ الوحيِ عندهم أعْظمُ وأكْبَرُ في صدورهم مِنْ أنْ يقدِّموا عليها ألْفاظًا مجملةً، لها معانٍ مشْتبهةٍ (¬1). ¬

_ (¬1) الصواعق (ص991 - 992)، وانظر: «فتح الباري» (7/ 239 - 241) لابن رجب الحنبلي.

وهذا أصلٌ مهمٌّ، منْ تصوَّرهُ وتدبَّرهُ انتفعَ بهِ غايةَ النَّفعِ وتخلَّصَ بهِ منْ ضلالِ المتفلسفينَ، وحيرةِ المتكلِّمينَ، «وعرفَ حقيقةَ الأقوالِ الباطلةِ، وما يلزمها مِنَ اللَّوازمِ، وعرفَ الحقَّ الذي دلَّ عليهِ صحيحُ المنقولِ، وصريحُ المعقولِ لا سيَّما في هذهِ الأصولِ التي هي أصولُ كلِّ الأصولِ، والضَّالُّونَ فيها لما ضيَّعوا الأصولَ حُرِموا الوصول» (¬1). والأصولُ اتِّباعُ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (¬2). كما قيل: أيُّها المُغْتَدِي لِتَطْلُبَ عِلْمًا ... كُلُّ عِلْمٍ عَبْدٌ لِعِلْمِ الرَّسُولِ تَطْلُبُ الفِرْعَ كي تُصَحِّحَ حكمًا ... ثُمَّ أَغْفَلْتَ أَصْلَ أَصْلِ الأُصُولِ (¬3) قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: الرسولُ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ الأصولَ الموصلةَ إلى الحقِّ أحسنَ بيانٍ، وبيَّنَ الآياتِ الدَّالةَ على الخالقِ سبحانُه، وأسمائهِ الحسنى، وصفاتهِ العليا، ووحدانيتهِ، على أحسنِ وجهٍ. وأمَّا أهلُ البدعِ منْ أهلِ الكلامِ والفلسفةِ ونحوهم فهمْ لم يثبتوا الحقَّ، بلْ أصَّلوا أصولًا تناقضُ الحقَّ، فلمْ يكفهم أنَّهم لم يهتدوا ولم يدلُّوا على الحقِّ، حتَّى أصَّلوا أصولًا تناقضُ الحقَّ، ورأوا أنَّها تناقضُ ما جاء بهِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدَّموها على ما جاءَ بهِ الرسولُ (¬4) صلى الله عليه وسلم فيا بئسَ ما أصَّلوا وما فرَّعوا. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (8/ 27). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 157). (¬3) مجموع الفتاوى (13/ 158). (¬4) مجموع الفتاوى (16/ 439 - 440).

الشبهة الأولى يستلزم من إثبات الفوقية لله تعالى أن يكون في مكان وحيز وجهة

وإذا تأمَّلتَ تعمُّقهم في التَّأويلاتِ المخالفةِ لظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ، وعدولَهم عنهما إلى زخرفِ القولِ والغرورِ لتقويةِ باطلهم، وتقريبهِ إلى القلوبِ الضعيفةِ لاحَ لكَ الحقُّ، وبانَ الصدقُ، فلا تلتفتْ إلى ما أسسوهُ، ولا تبالِ بما زخرفوهُ، والزمْ نصَّ الكتابِ، وظاهرَ الحديثِ الصحيحِ اللَّذينِ هما أصولُ الشرعياتِ، تقفُ على الهدى المستقيمِ (¬1). وبعدَ هذا البيانِ نذكرُ شبهاتِ المتكلِّمينَ - التي عارضوا بها نصوصَ الوحي - ثمَّ نأتي عليهَا مِنَ القواعدِ بإذن الله سبحانه وتعالى. الشُّبْهَةُ الأولى يستلزمُ منْ إثباتِ الفوقيَّةِ لله تعالى أنْ يكونَ في مكانٍ وحيِّزٍ وجهةٍ (¬2). ينبغي أنْ يُعلمَ بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلام إذا قالوا: «إنَّ الله منزَّهٌ عَنِ الحيِّز والجهةِ والمكانِ» أوهموا النَّاسَ أنَّ مقصودهم بذلكَ أنَّهُ لا تحصرهُ المخلوقاتُ، ولا تحوزه المصنوعاتُ، وهذا المعنى صحيحٌ، ومقصودهم: أنَّهُ ليسَ مباينًا للخلقِ ولا منفصلًا عنهم، وأنَّهُ ليس فوق السَّمواتِ ربٌّ يعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ يصلَّى لهُ ويسجدُ، وأنَّ محمَّدًا لم يُعْرَجْ بهِ إليهِ، ولا ترفعُ إليهِ الأيدي في الدُّعاءِ، ونحو ذلك منْ كلامِ الجهميَّةِ الفرعونيَّة. تَالله قَدْ ضَلَّتْ عُقُولُ القَوْمِ إذْ ... قَالُوا بِهَذَا القَوْلِ ذِي البُطْلاَنِ (¬3) ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 295). (¬2) قال شيخ الاسلام في «منهاج السنة» (2/ 246 - 248): «هؤلاء أخذوا لفظ «الجهة» بالاشتراك، وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره، كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء، ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجًا إلى غيره، والله تعالى غنيٌّ عن كل ما سواه، وهذه مقدِّماتٌ كلها باطلةٌ». (¬3) الكافية الشافية (ص90).

والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ أنْ يقالَ: الأصلُ في هذا البابِ أنَّ كلَّ ما ثبتَ في كتابِ الله تعالى، أو سنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم وجبَ التَّصديقُ بهِ، مثلُ علوِّ الرَّبِّ، واستوائهِ على عرشهِ ونحو ذلكَ. وأمَّا الألفاظُ المبتدعةُ في النَّفيِ والإثباتِ، مثلُ قولِ القائلِ: هوَ في جهةٍ أو ليسَ في جهةٍ، وهو متحيِّزٌ أو ليسَ بمتحيِّزٍ، ونحو ذلكَ مِنَ الألفاظِ التي تنازعَ فيهَا النَّاسُ، وليسَ مع أحدهمْ نصٌّ لا عَنِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ولا عَنِ الصَّحابةِ رضي الله عنهم، والتابعينَ لهمْ بإحسانٍ، ولا أئمَّةِ المسلمين. هؤلاءِ لمْ يقلْ أحدٌ منهم: إنَّ الله تعالى في جهةٍ، ولا قالَ ليسَ هوَ في جهةٍ، ولا قالَ: هوَ متحيِّزٌ، ولا قالَ: ليسَ بمتحيِّزٍ، بلْ ولا قالَ: هو جسمٌ أو جوهرٌ، ولا قالَ: ليسَ بجسمٍ ولا جوهرٍ. فهذهِ الألفاظُ ليستْ منصوصةً في الكتابِ، ولا السنَّةِ، ولا الإجماعِ، والنَّاطقونَ بها قدْ يريدونَ معنًى صحيحًا وقدْ يريدونَ معنًى فاسدًا، فإنْ أرادوا معنًى صحيحًا يوافقُ الكتابَ والسنَّةَ، كانَ ذلكَ مقبولًا منهمْ. وإنْ أرادوا معنًى فاسدًا يخالفُ الكتابَ والسنَّةَ، كانَ ذلكَ المعنى مردودًا عليهم.

فإذا قالَ القائلُ: إنَّ الله تعالى في جهةٍ، قيلَ ما تريدُ بذلكَ؟ أتريدُ بذلكَ أنَّهُ سبحانهُ في جهةٍ موجودةٍ تحصرهُ وتحيطُ بهِ وتعلو عليهِ، أو يحتاجُ إليها بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، مثلَ أنْ يكونَ في جوفِ السَّمواتِ، أمْ تريدُ بالجهةِ أمرًا عدميًّا وهوَ ما فوقَ العالمِ، فإنَّه ليسَ فوقَ العالمِ شيءٌ مِنَ المخلوقاتِ، فإنْ أردتَ الجهةَ الوجوديَّةَ، وجعلتَ الله تعالى محصورًا في المخلوقاتِ فهذا باطلٌ. فكلُّ موجودٍ سوى الله فهو مخلوقٌ، والله خالقُ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواه فهو فقيرٌ إليه، وهو غنيٌّ عمَّا سواهُ. وإنْ أردتَ الجهةَ العدميَّةَ، وأردتَ الله تعالى وحدَهُ فوقَ المخلوقاتِ بائنٌ عنها، فهذا حقٌّ، وليسَ في ذلكَ أنَّ شيئًا مِنَ المخلوقاتِ حصرهُ ولا أحاطَ بهِ ولا علاَ عليهِ، بلْ هوَ العالي عليهَا المحيطُ بها، وقدْ قالَ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] الآية. وقدْ ثبتَ في الصَّحيحِ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَقْبِضُ الأَرْضَ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَطْوِي السَّمواتِ بِيَمِينِهِ، ثمَّ يَهُزُّهُنَّ فيقولُ: أنا المَلِكُ أينَ ملوكُ الأَرْضِ» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4812 و6519 و7382 و7412)، ومسلم (2787 و2788) عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم.

ومنْ قالَ: إنَّ الله تعالى ليسَ في جهةٍ. قيلَ لهُ ما تريدُ بذلكَ؟ فإنْ أرادَ بذلكَ أنَّه ليسَ فوقَ السَّمواتِ ربٌّ يعبدُ، ولا على العرشِ إلهٌ، ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لمْ يعرجْ بهِ إلى الله تعالى، والأيدي لا ترفعُ إلى الله تعالى في الدُّعاءِ، ولا تتوجَّهُ القلوبُ إليهِ، ولا تصعدُ الملائكةُ إليهِ، ولا تنزلُ الكتبُ منهُ، ولا يقربُ منهُ شيءٌ، ولا يدنو إلى شيءٍ، فهذا فرعونيٌّ معطِّلٌ، جاحدٌ لربِّ العالمينَ. ومنْ نفى الجهةَ وأراد بالنَّفي كون المخلوقات محيطةً بهِ أو كونه مفتقرًا إليها فهذا حقٌّ. وكذلكَ منْ قال: إنَّ الله تعالى متحيِّزٌ، أو قالَ ليس بمتحيِّزٍ، إنْ أرادَ بقولهِ متحيِّزٌ أنَّ المخلوقاتِ تحوزهُ وتحيطُ بهِ، وليسَ هو بقدرتهِ يحملُ العرشَ وحملتهُ، وليسَ هو العليٌّ الأعلى الكبيرُ العظيمُ الذي لا تدركهُ الأبصارُ وهوَ يدركُ الأبصارَ، فقدْ أخطأَ. وإنْ أرادَ بهِ أنه منحازٌ عَنِ المخلوقاتِ مباينٌ لها عالٍ عليهَا فوق سمواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، فقدْ أصابَ. ومنْ قالَ: ليس بمتحيِّزٍ؛ إنْ أرادَ المخلوقاتُ لا تحوزهُ فقدْ أصابَ. وإنْ أرادَ ليسَ ببائنٍ عنهَا بلْ هوَ لا داخلٌ فيها ولا خارجٌ عنها فقدْ أخطأ. ومنْ قالَ بنفي المكانِ عَنِ الله عزَّ وجلَّ، فقد يُراد بالمكانِ ما يحوي الشيءَ ويحيطُ به، وقد يرادُ بهِ ما يستقرُّ الشَّيءُ عليه بحيثُ يكونُ محتاجًا إليهِ، وقدْ يرادُ بهِ ما كانَ الشيءُ فوقَهُ وإن لم يكنْ محتاجًا إليهِ، وقدْ يرادُ بهِ ما فوق العالم وإن لم يكن شيئًا موجودًا. فإنْ قيلَ: هو في مكانٍ بمعنى إحاطة غيرهِ بهِ وافتقارهُ إلى غيرهِ؛ فالله منزَّهٌ عَنِ الحاجةِ إلى الغيرِ وإحاطةِ الغيرِ بهِ ونحو ذلكَ. وإنْ أريدَ بالمكانِ ما فوق العالمِ وما هو الرَّبُّ فوقهُ.

قيلَ: إذا لم يكنْ إلَّا خالقٌ أو مخلوقٌ، والخالقُ بائنٌ مِنَ المخلوقِ، كانَ هو الظاهرُ الذي ليسَ فوقهُ شيءٌ. وإذا قالَ القائلُ: هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ؛ فهذا المعنى حقٌّ سواء سمَّيتَ ذلكَ مكانًا أوْ لمْ تسمِّه. وإذا عُرف المقصودُ فمذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ واتَّفقَ عليه سلفُ الأمَّةِ، وهو القول المطابقُ لصحيحِ المنقولِ وصريحِ المعقول (¬1). قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: «وحقيقةُ الأمرِ في المعنى أنْ يُنظرَ إلى المقصودِ، فَمَنِ اعتقدَ أنَّ المكانَ لا يكونُ إلَّا ما يفتقرُ إليهِ المتمكنُ، سواءُ كانَ محيطًا به، أو كانَ تحتهُ، فمعلومٌ أنَّ الله سبحانه ليسَ في مكانٍ بهذا الاعتبارِ، ومَنِ اعتقدَ أنَّ العرشَ هو المكانُ، وأنَّ الله فوقهُ، مع غناه عنهُ، فلا ريبَ أنَّهُ في مكانٍ بهذا الاعتبارِ. فممَّا يجبُ نفيهُ بلا ريبٍ افتقارُ الله تعالى إلى ما سواه، فإنَّهُ سبحانهُ غنيٌّ عنْ ما سواهُ، وكلُّ شيءٍ فقيرٌ إليهِ، فلا يجوزُ أن يُوصفَ بصفةٍ تتضمَّنُ افتقارَهُ إلى ما سواه» (¬2). ثمَّ نقولُ: لا نسلِّمُ كونَ الباري على عرشهِ فوقَ السَّماواتِ يلزمُ منهُ أنَّهُ في حيِّزٍ وجهةٍ، لأنَّ العرشَ سقفُ جميعِ المخلوقاتِ، فما فوقهُ لا يسمَّى جهةً، وما دونَ العرشِ يقالُ فيهِ حيِّزٌ وجهاتٌ، وما فوقهُ فليسَ هوَ كذلكَ، والله فَوْقَ عَرْشِهِ كما أجمعَ عليهِ الصَّدرُ الأوَّلُ ونقلهُ عنهم الأئمَّةُ. ولو سلَّمنا أنَّه يلزمُ منْ إثباتِ العلوِّ إثباتُ الجهةِ، فلازمُ الحقِّ حقٌّ، فما استلزمهُ صريحُ الآياتِ والأحاديثِ فهوَ حقٌّ بلا خلافٍ عندَ أهلِ السنَّةِ. ¬

_ (¬1) منهاج السنة (2/ 144 - 145). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (6/ 249).

الشبهة الثانية لو كان الخالق فوق العرش لكان حامل العرش حاملا لمن فوق العرش فيلزم احتياج الخالق إلى المخلوق

أمَّا القولُ المتولِّدُ أخيرًا مِنْ أنَّهُ تعالى ليسَ فوقَ العرشِ، فهذا شيءٌ لا يعقلُ ولا يفهمُ، مع ما فيهِ منْ مخالفةِ الآياتِ والأخبارِ. ففرَّ بدينكَ، وإيَّاكَ وآراءَ المتكلِّمينَ، وآمنْ باللهِ وما جاءَ عَنِ الله على مرادِ الله، وفوِّض أمركَ إلى الله، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله (¬1). ومنْ تدبَّر هذا كلَّهُ وتأمَّلهُ، تبيَّنَ لهُ أنَّ ما جاءَ بهِ القرآنُ منْ [إثباتِ علوِّ الله على خلقهِ] هو الحقُّ المعلومُ بصريحِ المعقولِ، وأنَّ هؤلاءِ خالفوا القرآنَ في أصولِ الدينِ: في دلائلِ المسائلِ، وفي نفسِ المسائلِ، خلافًا خالفوا بهِ القرآنَ والإيمانَ، وخالفوا به صريحَ عقلِ الإنسانِ، وكانوا في قضاياهم التي يذكرونها في خلافِ ذلكَ أهلَ كذبٍ وبهتانٍ، وإنْ لمْ يكونوا متعمِّدينَ الكذبَ، بل التبسَ عليهم ما ابتدعوهُ مِنَ الهَذَيَانِ (¬2). الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لو كانَ الخالقُ فوقَ العرشِ لكانَ حاملُ العرشِ حاملًا لمنْ فوقَ العرشِ فيلزمْ احتياجُ الخالقِ إلى المخلوقِ. اعلمْ باركَ اللهُ فيكَ بأنَّ «غايةَ ما عندَ هؤلاءِ المتقعِّرينَ مِنَ العلمِ، عباراتٌ وشقاشقُ لا يعبأ الله بها، يحرِّفونَ بها الكلمَ عنْ مواضعهِ قديمًا وحديثًا، فنعوذُ باللهِ مِنَ الكلامِ وأهلهِ» (¬3). والكلامُ المذكورُ فيه من الافتراء على تعالى ووصفهِ بالنقَائصِ ما يعلم بطلانهُ بصريح المعقولِ وصحيح المنقول. والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ: الوجهُ الأولُ: ¬

_ (¬1) العلو (ص1378)، ومعارج القبول (1/ 202 - 203). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (5/ 203). (¬3) سير أعلام النبلاء (10/ 547).

هؤلاءِ النُّفاةِ كثيرًا ما يتكلَّمونَ بالأوهامِ والخيالاتِ الفاسدةِ، ويصفونَ الله بالنَّقائصِ والآفاتِ، ويمثِّلونهُ بالمخلوقاتِ، بلْ بالنَّاقصاتِ، بلْ بالمعدوماتِ، بلْ بالممتنعاتِ، فكلُّ ما يضيفونهُ إلى أهلِ الإثباتِ الذينَ يصفونهُ بصفاتِ الكمالِ وينزِّهونهُ عَنِ النَّقائصِ والعيوبِ، وأنْ يكونَ لهُ في شيءٍ منْ صفاتهِ كُفوٌ أوْ سَمِيٌّ، فما يضيفونهُ إلى هؤلاءِ منْ زعمهم أنَّهم يحكِّمونَ بموجبِ الوهمِ والخيالِ الفاسدِ، أو أنَّهم يصفونَ الله بالنَّقائصِ والعيوبِ، أو أنَّهم يشبِّهونهُ بالمخلوقاتِ، هو بهم أَخْلَقُ، وهو بهم أعلقُ، وهمْ بهِ أحقُّ، فإنَّكَ لا تجدُ أحدًا سلبَ الله ما وصفَ بهِ نفسَهُ منْ صفاتِ الكمالِ، إلَّا وقولهُ يتضمَّنُ لوصفهِ بما يستلزمُ ذلكَ مِنَ النَّقائصِ والعيوبِ ولمثيلهِ بالمخلوقاتِ، وتجدهُ قد توهَّمَ وتخيَّلَ أوهامًا وخيالاتٍ فاسدةٍ غير مطابقةٍ بنى عليها قولَهُ منْ جنسِ هذا الوهمِ والخيالِ، وأنَّهم يتوهَّمون ويتخيَّلون أنَّهُ إذا كانَ فوقَ العرشِ كانَ محتاجًا إلى العرشِ، كما أنَّ الملكَ إذا كانَ فوقَ كرسيِّهِ كان محتاجًا إلى كرسيِّه (¬1)، وكمَا يحتاجُ الإنسانُ إلى السَّطحِ أو السريرِ. وهذا «تشبيهٌ لهُ بالمخلوقِ الضعيفِ العاجزِ الفقيرِ» (¬2) وقياسٌ فاسدٌ؛ لأنَّ «قياسَ الله الخالقُ لكلِّ شيءٍ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، الصمدُ الذي يفتقرُ إليهِ كلُّ شيءٍ بالمخلوقاتِ الضعيفةِ المحتاجةِ عدلٌ لها بربِّ العالمينَ، ومنْ عدلها بربِّ العالمينَ فإنَّهُ في ضلالٍ مبينٍ» (¬3). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 19). (¬2) بيان تلبيس الجهمية (2/ 126). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (2/ 125).

وهؤلاءِ الجهميَّةِ دائمًا يشركونَ بالله، ويعدلونَ بهِ، ويضربونَ لهُ الأمثالَ (¬1). فإنَّ كلامهم هذا وأمثالَهُ عدلٌ بالله، وإشراكٌ بهِ، وجعلُ أندادٍ لهُ، وضربُ أمثالٍ لهُ: فكلامهم في علوِّ الله يوجبُ لهم أنَّهم جعلوا مثلَ هذا العلوِّ: يجمعُ مِنَ التمثيلِ لله والعدلِ بهِ ابتداءً، ومِنْ جحدِ علوِّهِ المستلزمِ لجحودِ ذاتهِ انتهاءً؛ ظانِّينَ أنَّ هذا تنزيهٌ لله وتقديسٌ (¬2). أوَلا يعلمونَ أنَّ الله يحبُّ أنْ نثبتَ لهُ صفاتِ الكمالِ وننفي عنهُ مماثلةَ المخلوقاتِ؟ وأنَّهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، لا في ذاتهِ ولا في صفاتهِ ولا أفعالهِ؟ فلا بدَّ منْ تنزيههِ عَنِ النَّقائصِ والآفاتِ ومماثلةِ شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ، وذلكَ يستلزمُ إثباتَ صفاتِ الكمالِ والتمامِ، التي ليسَ فيهَا كفوٌ لذي الجلالِ والإكرامِ. وبيانُ ذلكَ هنا: أنَّ الله مستغنٍ عنْ كلِّ ما سواهُ، وهوَ خالقُ كلِّ مخلوقٍ، ولم يصرْ عاليًا على الخلقِ بشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ، بل هوَ سبحانهُ خلقَ المخلوقاتِ، وهو بنفسهِ عالٍ عليهَا، لا يفتقرُ في علوِّهِ عليهَا إلى شيءٍ منهَا كمَا يفتقرُ المخلوقُ إلى ما يعلو عليهِ مِنَ المخلوقات، وهو سبحانهُ حاملٌ بقدرتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ. فإنَّما أطاقوا حملَ العرشِ بقوَّته تعالى، والله إذا جعلَ في مخلوقٍ قوَّةً أطاقَ المخلوقُ حملَ ما شاءَ أن يحملهُ منْ عظمتهِ وغيرهَا، فهو بقوَّته وقدرتهِ الحاملُ للحاملِ والمحمولِ، فكيفَ يكونُ مفتقرًا إلى شيءٍ؟ وأيضًا فالمحمولُ مِنَ العبادِ بشيءٍ عالٍ، لو سقطَ ذلكَ العالي سقطَ هوَ، واللهُ أغنى وأجلُّ وأعظمُ منْ أنْ يوصفَ بشيءٍ منْ ذلكَ (¬3). ¬

_ (¬1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 126). (¬2) بيان تلبيس الجهمية (2/ 283) بتصرف يسير. (¬3) درء تعارض العقل والنقل (7/ 19 - 20).

قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «واستواؤهُ وعلوُّهُ على عرشهِ سلامٌ منْ أنْ يكونَ محتاجًا إلى ما يحملهُ أو يستوي عليهِ، بَلِ العرشُ محتاجٌ إليهِ، وحملتهُ محتاجونَ إليه. فهوَ الغنيُّ عَنِ العرشِ وعَنْ حملتهِ وعنْ كلِّ ما سواه. فهو استواءٌ وعلوٌّ لا يشوبهُ حصرٌ ولا حاجةٌ إلى عرشٍ ولا غيرهِ، ولا إحاطةٌ شيءٍ بهِ سبحانه وتعالى، بلْ كانَ سبحانهُ ولا عرش، ولم يكنْ بهِ حاجةٌ إليهِ، وهو الغنيُّ الحميدُ، بل استواؤهُ على عرشهِ واستيلاؤهُ على خلقهِ منْ موجباتِ ملكهِ وقهرهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى عرشٍ ولا غيرهِ بوجهٍ ما» (¬1). وهَوَ السَّلامُ على الحَقِيقَةِ سَالِمٌ ... مِنْ كُلِّ نَقْصٍ وتَمْثِيْلِ (¬2). الوَجْهُ الثاني: ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (2/ 136). (¬2) الكافية الشافية (ص247).

لا نسلِّمُ أنَّ مَنْ حملَ العرشَ يجبُ أنْ يحملَ مَا فوقهُ إلَّا أنْ يكونَ مَا فوقهُ معتمدًا عليهِ، وإلَّا فالهواءُ فوقَ الأرضِ وليسَ محتاجًا إليهَا، وكذلكَ السَّحابُ فوقهَا وليس محتاجًا إليهَا، وكذلكَ السَّماواتُ فوقَ الأرضِ وليستْ الأرضُ حاملةً السَّماواتِ، وكلُّ سماءٍ فوقها سماءٌ، وليسَ السفلى حاملةً للعليا، وكذلكَ السَّمواتُ فوقَ السَّحابِ والهواءِ والأرضِ، وليستْ محتاجةً إلى ذلكَ، وكذلكَ العرشُ فوقَ السَّمواتِ وليسَ محتاجًا إليهَا، فإذا كانَ كثيرٌ مِنَ الأمورِ العاليةِ فوقَ غيرهَا ليسَ محتاجًا إليها فكيفَ يجبُ أنْ يكونَ «العليُّ الأعلى» خالقُ الخلقِ الغنيُّ الصَّمدُ محتاجًا إلى ما هو عالٍ عليهِ وهو فوقهُ، مَعَ أنَّهُ هوَ خالقهُ وربُّهُ ومليكُهُ، وذلكَ المخلوقُ بعضُ مخلوقاتهِ، مفتقرٌ في كلِّ أمورهِ إليهِ. فإذا كان المخلوقُ إذا علا على كلِّ شيءٍ غنيٌّ عنهُ لمْ يجبْ أنْ يكونَ محتاجًا إليهِ فكيفَ يجبُ على الرَّبِّ إذا علا على كلِّ شيءٍ منْ مخلوقاتهِ وذلكَ الشيءُ مفتقرٌ إليه أنْ يكونَ الله محتاجًا إليهِ (¬1)؟! وأصحابُ التلبيسِ واللَّبسِ لا يميِّزونَ هذا التمييزَ، ولا يفصِّلونَ هذا التفصيلَ، ولو ميَّزوا وفصَّلوا لهدوا إلى سواءِ السَّبيلِ، وعلموا مطابقةَ العقلِ الصَّريحِ للتنزيلِ ولسلكوا خلفَ الدليلِ، ولكنْ فارقوا الدليلَ وضلُّوا سواءَ السَّبيلِ (¬2). ¬

_ (¬1) تلبيس الجهمية (2/ 144) بتصرف يسير. (¬2) لمزيد من التفصيل، انظر: الجواب الصحيح (3/ 491 - 492)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 520 - 566)، ومنهاج السنة (2/ 647)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 19 - 20)، والصواعق (4/ 1219 - 1220).

الشبهة الثالثة لو كان الله في السماء لكان محصورا

الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ لَوْ كانَ اللهُ فِي السَّمَاءِ لكانَ محصورًا. هؤلاءِ النُّفاةِ يوهمونَ عامَّةَ المسلمينَ أنَّ مقصودَهم تنزيهُ الله عنْ أنْ يكونَ محصورًا في بعضِ المخلوقاتِ، [أو مفتقرًا إلى مخلوق]، ويفترونَ الكذبَ على أهلِ الإثباتِ أنَّهم يقولونَ ذلكَ، كقولِ بعضهم أنَّهم يقولونَ إنَّ الله في جوفِ السَّمواتِ، إلى أمثالِ هذهِ الأكاذيبِ التي يفترونها على أهلِ الإثباتِ، فيخدعونَ بذلكَ جهَّالَ النَّاسِ، فإذا وقعَ الاستفصالُ والاستفسارُ، انكشفتِ الأسرارُ، وتبيَّنَ الليلُ مِنَ النَّهارِ، وتميَّزَ أهلُ الإيمانِ واليقينِ منْ أهلِ النِّفاقِ المُدَلِّسِينَ، الذين لَبَّسُوا الحقَّ بالباطلِ، وكتموا الحقَّ وهمْ يعلمون (¬1). والردُّ على الشبهةِ المذكورةِ أنْ يقالَ: من توهَّمَ أنَّ كونَ اللهِ في السَّمَاءِ بمعنى أنَّ السَّمَاءَ تحيطُ بهِ وتحويهِ فهوَ كاذبٌ - إنْ نقلهُ عنْ غيرهِ - وضالٌّ - إن اعتقدهُ في ربِّهِ - ومَا سمعنا أحدًا يفهمُ هذا مِنَ اللَّفظِ، ولا رأينَا أحدًا نقلهُ عنْ واحدٍ، ولوْ سئلَ سائرُ المسلمينَ هل تفهمونَ مِنْ قولِ اللهِ ورسولهِ «إنَّ الله في السَّماء» أنَّ السَّماءَ تحويهِ لبادرَ كلُّ واحدٍ منهم إلى أنْ يقولَ: هذا شيءٌ لعلَّهُ لمْ يخطرْ ببالنَا. وإذا كانَ الأمرُ هكذا: فَمِنَ التكلُّفِ أنْ يُجعلَ ظاهرُ اللَّفظِ شيئًا محالًا لا يفهمهُ النَّاسُ منهُ، ثمَّ يريدُ أنْ يتأوَّلهُ، بلْ عندَ النَّاسِ «إنَّ الله في السَّماء» «وهو على العرشِ» واحدٌ، إذِ السَّماءُ إنَّما يرادُ بهِ العلوُّ، وكلُّ مَا علا فهوَ سماء. يقال: سما، يسمو، سموًّا، أي: علا، يعلو، علوًّا. فإذا قيلَ: نزلَ المطرُ مِنَ السَّماءِ، كانَ نزولهُ مِنَ السَّحابِ. وإذا قيلَ: العرشُ والجنَّةُ في السَّماءِ، لا يلزمُ منْ ذلكَ أنْ يكونَ العرشُ داخلَ السَّمواتِ، بلْ ولا الجنَّةِ. ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى (6/ 353).

والسَّلفُ والأئمَّةُ وسائرُ علماءِ السُّنَّةِ إذا قالوا: «اللهُ في السَّمَاءِ»، فالمرادُ بالسَّماءِ ما فوقَ المخلوقاتِ كلِّها، والمعنى: أنَّ اللهَ في العلوِّ لا في السُّفلِ، وهوَ العليُّ الأعلى، فله أعْلى العلوِّ، وهوَ مَا فوقَ العرشِ، وليسَ هناكَ غيرهُ - العليُّ الأعلى سبحانه وتعالى - «لا يقولونَ إنَّ هناك شيئًا يحويهِ أو يحصرهُ، أو يكونُ محلًا لهُ أو ظرفًا ووعاءً سبحانه وتعالى عنْ ذلكَ بلْ هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وهو مستغنٍ عنْ كلِّ شيءٍ وكلُّ شيءٍ مفتقرٌ إليهِ، وهو عالٍ على كلِّ شيءٍ، وهو الحاملُ للعرشِ ولحملةِ العرشِ بقوَّتهِ وقدرتهِ، وكلُّ مخلوقٍ مفتقرٌ إليه وهو غنيٌّ عَنِ العرشِ وعنْ كلِّ مخلوقٍ» (¬1). فأمَّا أنْ يكونَ في جوفِ السمواتِ فليسَ هذا قولُ أهلِ الإثباتِ، أهلِ العلمِ والسنَّةِ، ومنْ قالَ بذلكَ فهو جاهلٌ، كمنْ يقولُ: إنَّ اللهَ ينزلُ ويبقى العرشُ فوقَهُ، أو يقولُ: إنَّهُ يحصرهُ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ، فهؤلاءِ ضُلَّالٌ: كما أنَّ أهلَ النَّفيِ ضُلَّالٌ (¬2). قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: وليس معنى قولهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أنَّهُ مختلطٌ بالخلقِ؛ فإنَّ هذا لا توجبهُ اللُّغةُ، وهو خلافُ ما أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ، وخلافُ ما فطرَ الله عليهِ الخلقَ، بلِ القمرُ آيةٌ منْ آياتِ الله منْ أصغرِ مخلوقاتهِ، وهوَ موضوعٌ في السَّماء، وهوَ مَعَ المسافرِ وغيرِ المسافرِ أينمَا كانَ. وهوَ سبحانهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رقيبٌ على خلقهِ، مهيمنٌ عليهمْ، مطَّلعٌ عليهم ... إلى غيرِ ذلكَ منْ معاني ربوبِيَّتهِ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (16/ 100 - 101). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 15 - 16).

وكلُّ هذا الكلام الذي ذكرهُ الله - من أنَّه فوق العرشِ وأنَّهُ معنا - حقٌّ على حقيقتهِ، لا يحتاجُ إلى تحريفٍ، ولكنْ يصانُ عَنِ الظُّنونِ الكاذبةِ، مثلَ أنْ يُظنَّ أنَّ ظاهرَ قولهِ: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 14]، أنَّ السَّماءَ تظلُّهُ أو تقلُّهُ، وهذا باطلٌ بإجماعِ أهلِ العلمِ والإيمانِ؛ فإنَّ الله قدْ وسعَ كرسيُّهُ السَّماواتِ والأرضَ، وهوَ يمسكُ السَّماواتِ والأرضَ أنْ تزولا، ويمسكُ السَّماءَ أنْ تقعَ على الأرضِ، إلَّا بإذنهِ، ومنْ آياتهِ أنْ تقومَ السَّماءُ والأرضُ بأمرهِ (¬1). فمنْ يمسكُ السَّمواتِ والأرضَ؟ وبأمرهِ تقومُ السَّماءُ والأرضُ، وهوَ الذي يمسكهما أنْ تزولا، أيكونُ محتاجًا إليهما مفتقرًا إليهما؟. وإذا كان المسلمونَ يكفِّرونَ منْ يقولُ: إنَّ السَّمواتِ تقلُّهُ أو تظلُّهُ؛ لما في ذلكَ من احتياجهِ إلى مخلوقاتهِ، فمنْ قالَ: إنَّهُ في استوائهِ على العرشِ محتاجٌ إلى العرشِ كاحتياجِ المحمولِ إلى حاملهِ فإنَّهُ كافرٌ؟ لأنَّ الله غنيٌّ عَنِ العالمينَ حيٌّ قيُّومٌ، هو الغنيُّ المطلقُ وما سواهُ فقيرٌ إليهِ. فكيفَ بمنْ يقولُ إنَّهُ مفتقرٌ إلى السَّمواتِ والأرضِ؟ فأينَ حاجتهُ في الحملِ إلى العرشِ، منْ حاجةِ ذاتهِ إلى ما هو دونَ العرشِ (¬2)؟! ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الواسطية (ص194 - 195). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 187 - 188).

الشبهة الرابعة قال الرازي: العالم كرة ... فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر

فكيفَ يُتوهَّمُ بعدَ هذا أنَّ خلقًا يحصرهُ ويحويهِ؟! وقدْ قالَ سبحانهُ: {وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، أي «على جذوعِ النَّخلِ» {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 137]، بمعنى «على الأرضِ» ونحو ذلكَ، وهوَ كلامٌ عربيٌّ حقيقةً لا مجازًا وهذا يعلمهُ منْ عرفَ حقائقَ معاني الحروفِ، وأنَّها متواطئةٌ في الغالبِ لا مشتركةٌ (¬1). الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ قال الرازيُّ: العالمُ كُرَةٌ ... فلو كانَ الله في جهةِ فوق لكانَ أسفلَ بالنِّسبةِ إلى سكَّانِ الوجهِ الآخر. وهذا الكلامُ «إذا تدبَّرهُ العاقلُ تبيَّن لهُ أنَّ القومَ يقولونَ على الله ما لا يعلمونَ ويقولونَ على الله غيرَ الحقِّ» (¬2). وهذه الشُّبهةُ وأمثالها «مِنَ الخيالاتِ والأوهامِ الباطلةِ، التي تُعَارَضُ بها فطرةَ الله التي فطرَ النَّاسَ عليها، والعلومَ الضروريَّةَ، والقصودَ الضروريَّةَ، والعلومَ البرهانيةَ القياسيَّةَ، والكتبَ الإلهيَّةَ، والسننَ النبويَّةَ، وإجماعَ أهلِ العلمِ والإيمانِ منْ سائرِ البرية» (¬3). ¬

_ (¬1) الرسالة التدمريّة (ص85 - 89) تحقيق: محمود عودة السعودي، وانظر: مجموع الفتاوى (5/ 106) و (16/ 100 - 101)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 16)، والجواب الصحيح (4/ 316 - 317). (¬2) الفتاوى الكبرى (6/ 555). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (7/ 21).

والجوابُ عَنِ الشُّبهة المذكورةِ منْ وجهين: أحدُها: أنْ يقالَ: القائلونَ بأنَّ العالمَ كرةٌ يقولونَ: إنَّ السَّماءَ عاليةٌ على الأرضِ منْ جميعِ الجهاتِ، والأرضُ تحتها منْ جميعِ الجهاتِ، والجهاتُ قسمان: حقيقيَّةٌ ولها جهتان: العلوُّ والسُّفلُ فقط، فالأفلاكُ وما فوقهَا هو العالي مطلقًا، وما في جوفهَا هوَ السَّافلُ مطلقًا، وإضافية: وهي الجهاتُ الست بالنِّسبةِ للحيوانِ، فما أمامهُ يقالُ لهُ أمامٌ، وما خلفهُ يقالُ له خلفٌ، وما عنْ يمينهِ يقالُ لهُ اليمينُ، وما عنْ يسارهِ يقالُ لهُ اليسارُ، وما فوقَ رأسهِ يقالُ لهُ فوقُ، وما تحتَ قدميهِ يقالُ لهُ تحتُ. أرأيتَ لوْ أنَّ رجلًا علَّقَ رجليهِ إلى السَّماءِ ورأسهُ إلى الأرضِ أليستِ السماءُ فوقَهُ وإنْ قابلهَا برجليهِ؟! (¬1). وإذا كانَ كذلكَ، فالملائكةُ الذينَ في السَّماءِ، هم باعتبارِ الحقيقةِ كلُّهم فوقَ الأرضِ، وليسَ بعضهمْ تحتَ شيءٍ مِنَ الأرضِ، وكذلكَ السَّحابُ وطيرُ الهواءِ، هوَ منْ جميعِ الجوانبِ فوقَ الأرضِ وتحتَ السَّماءِ، ليسَ شيءٌ منهُ تحتَ الأرضِ. وكذلكَ ما على ظهرِ الأرضِ مِنَ الجبالِ والنَّباتِ والحيوانِ والأناسيِّ وغيرهم، همْ منْ جميعِ جوانبِ الأرضِ فوقَها، وهمْ تحتَ السَّماءِ، وليسَ أهلُ هذهِ النَّاحيةِ تحتَ أهلِ هذهِ الناحيَّةِ، ولا أحدٌ منهم تحتَ الأرضِ ولا فوقَ السَّماءِ البتةَ. وإذا كانتْ هذهِ المخلوقاتُ لا يلزمُ منْ علوِّها على ما تحتَها أنْ تكونَ تحتَ ما في الجانبِ الآخرِ مِنَ العالمِ، فالعليُّ الأعلى سبحانه أولى أنْ لا يلزم منْ علوِّه على العالمِ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ منهُ. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (25/ 196 - 197).

وكانَ مَنِ احتجَّ بمثلِ هذهِ الحجَّةِ إنَّما احتجَّ بالخيالِ الباطلِ الذي لا حقيقةَ لهُ، مَعَ دعواهُ أنَّهُ مِنَ البراهينِ العقليةِ، فإنْ كانَ يتصوَّرُ حقيقةَ الأمرِ فهوَ معاندٌ جاحدٌ محتجٌّ بما يعلمُ أنَّهُ باطلٌ، وإنْ كانَ لمْ يتصوَّر حقيقةَ الأمرِ، فهوَ منْ أجهلِ النَّاسِ بهذهِ الأمورِ العقليةِ، التي هيَ موافقةٌ لما أخبرتْ بهِ الرُّسلُ، وهو يزعمُ أنَّها تناقضُ الأدلَّةَ السمعيةَ، فهوَ كمَا قيلَ: فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... وإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيْبَةُ أَعْظَمُ (¬1) ومِنَ العجبَ أنَّ هؤلاءِ النُّفاةِ يعتمدونَ في إبطالِ كتابِ الله، وسنَّةِ أنبيائهِ ورسلهِ، وما اتَّفقَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، وما فطرَ الله عليهِ عبادَهُ، وجعلهم مضطرينَ إليهِ عندَ قصدهِ ودعائهِ، ونصب عليه البراهينَ العقليَّةَ الضروريَّةَ، على مثلِ هذه الحجَّةِ التي لا يعتمدونَ فيها إلَّا على مجرَّدِ خيالٍ ووهمٍ باطلٍ، مَعَ دعواهم أنهَّم هم الذينَ يقولونَ بموجبِ العقلِ، ويدفعونَ موجبَ الوهمِ والخيالِ (¬2). الوجهُ الثاني: أنْ يقالَ: أنَّهُ سبحانه وتعالى محيطٌ بكلِّ شيء، وفوقَ كلِّ شيءٍ. قالَ سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ *} [البروج: 20] وقال عزَّ وجلَّ: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]. وقال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126]. ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (6/ 329). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (6/ 332).

وليس المرادُ مِنْ إحاطتهِ بخلقهِ أنَّ المخلوقاتِ داخلَ ذاتهِ المقدَّسةِ، تعالى اللهُ عنْ ذلكَ علوًّا كبيرًا؛ فإنَّه العظيمُ الذي لا أعظمَ منهُ. ألا ترى أنَّ السماءَ لمَّا كانتْ «محيطةً بالأرضِ كانتْ عاليةً عليها، ولا يستلزمُ ذلكَ ممَّا هوَ محيطٌ بهِ، مماثلتهُ ومشابهتهُ لهُ، فإذا كانتِ السَّماءُ محيطةً بالأرضِ، وليستْ مماثلةً لهَا فالتَّفاوتُ الذي بين العالمِ وربُّ العالمِ أعظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ الأرضِ والسَّماءِ» (¬1). ويجبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ العالمَ العلويَّ والسفليَّ بالنِّسبةِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى في غايةِ الصِّغَرِ. قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وقدْ ثبتَ في الصحيحين (¬2) منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذهِ الآيةَ، لمَّا ذكرَ لهُ بعضُ اليهودِ أنَّ الله يحملُ السَّمواتِ على أصبعٍ، والأرضينَ على أصبعٍ، والجبالَ على أصبعٍ، والشَّجرَ والثرى على أصبعٍ، وسائرَ الخلقِ على أصبعٍ؛ فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصديقًا لقولِ الحبر (¬3)، وقرأ هذهِ الآية. وهذا يقتضي أنَّ عظمتهُ أعظمُ ممَّا وصفَ ذلكَ الحبرُ، فإنَّ الذي في الآيةِ أبلغُ (¬4). قال الشيخ علي بن إبراهيم بن مشيقح رحمه الله: ¬

_ (¬1) الصواعق المرسلة (ص1308). (¬2) رواه البخاري (4811 و7414 و7415 و7451 و7513)، ومسلم (2786). (¬3) وما ذهب إليه بعض المتكلمين: أنَّ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتعجبه، وتلاوته الآية ليس تصديقًا لقول الحبر؛ بل هو ردٌّ عليه، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده أنَّ مذهب اليهود التجسيم. وأنَّه فهم منه ذلك. وهذا القول، يأباه النظم السني، ويخالفه واضح هذا الكلام. (¬4) مجموع الفتاوى (13/ 162).

وَفِي الصَّحيحَيْنِ أَيْضًا إقْرَارُ نَبِيِّنَا ... مُصَدِّقًا لِقَوْل الْحَبْرِ وَالنَّبيُّ يَسْمَعُ يَجْعَلُ اللهُ السَّمَوَاتِ على أَصْبُعٍ ... واْلأَرضِيْنَ على أصبُعٍ والمَاء يَحمله أصْبُعُ والشَّجر على أصْبُعَ وَالثَّرىَ عَلَى أَصْبُعٍ ... وَسَائر الْخَلْقِ تَحْمِلْهَا أَصْبُعُ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلًا ... أَنَا الْمَلِكُ يُكَرِّرُهَا فَبالْحَقِّ فَاقْنَعُوْا قَالوُا ضِحْكُ النَّبِيِّ مِنْهُ تَعَجُّبًا ... وَلَيْسَ تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ قلنا لَهُمُ اسْمَعُوْا هَلْ يُقِرُّه المُصْطَفَى عَلَى مَقَالٍ مُخَالِفٍ ... هذَا مُحالٌ حَيْثُ الإِقْرارُ مِنْهُ سُنَّةٌ تُتْبَعُ بَلْ أَيَّد قَوْلَ الْحَبْرِ مُصَدِّقًا لِمَقَالِه ... بِتِلاوَةِ آيَةٍ تُطابِقُ قَوْلَ الحبْرِ تَصْدَعُ فهذِه أَدِلَّةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةٍ ... عَلَى مُرَادِ ظَاهِرِ لَفْظِهَا دَلاَلَةً تَقْطَعُ بِلاَ تَشْبيهٍ لَهَا قَطْعًا وَلاَ نُكَيِّفُهَا ... بَلْنَنْتَهِي حَيْثُ انْتَهَى الْوَحْيَان بِنَا وَنَقْنَعُ (¬1) فقد تبيَّنَ بهذا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما بالنسبةِ إلى عظمةِ الله تعالى أصغرُ منْ أنْ تكونَ مع قبضهِ لها إلَّا كالشيءِ الصغيرِ في يدِ أحدنَا، حتَّى يدحوها كما تُدحى الكرة (¬2). والمقصودُ أنَّه إذا كانَ اللهُ أعظمَ وأكبرَ وأجلَّ منْ أن يُقدِّرَ العبادُ قدرهُ، أو تدركهُ أبصارهمْ، أو يحيطونَ به علمًا، وأمكنَ أن تكونَ السماواتُ والأرضُ في قبضتهِ لم يجبْ - والحالُ هذهِ - أنْ يكونَ تحتَ العالمِ، أو تحتَ شيءٍ منهُ، فإنَّ الواحدَ مِنَ الآدميينَ إذا قبضَ قبضةً أو بندقةً أو حمصةً أو حبَّةَ خردلٍ، وأحاطَ بها، لم يجزْ أنْ يُقالَ: إنَّ أحدَ جانبيها فوقهُ. ¬

_ (¬1) العقيدة الجامعة الكافية (1/ 42). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 562).

وكذلكَ أمثالُ ذلكَ منْ إحاطةِ المخلوقِ ببعضِ المخلوقاتِ، كإحاطةِ الإنسانِ بما في جوفهِ، وإحاطةِ البيتِ بما فيهِ، وإحاطةِ السَّماءِ بما فيهَا مِنَ الشَّمسِ والقمرِ والكواكبِ، فإذا كانتْ هذهِ المحيطاتُ لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها تحتَ المحاطِ، وأنَّ ذلك نقصٌ، مَعَ كونِ المحيطِ يحيطُ بهِ غيرُهُ، فالعليُّ الأعلى المحيطُ بكلِّ شيءٍ، الذي تكونُ الأرضُ جميعًا قبضتهُ يومَ القيامةِ والسَّماواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، كيفَ يجبُ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ ممَّا هوَ عالٍ عليهِ أو محيطٌ بهِ، ويكونُ ذلكَ نقصًا ممتنعًا؟! وقدْ ذكرَ أنَّ بعضَ المشايخِ سُئِلَ عنْ تقريبِ ذَلِكَ إِلَى العقلِ، فقالَ للسَّائلِ: إِذَا كَانَ باشقٌ كبيرٌ، وقدْ أمسكَ برجلهِ حمصةً أليسَ يكونُ ممسكًا لها فِي حالِ طيرانهِ، وَهُوَ فوقهَا ومحيطٌ بِهَا؟ فإذا كانَ مثلُ هذا ممكنًا في المخلوقِ، فكيفَ يتعذَّرُ في الخالقِ؟! (¬1). فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ «أنَّ ما يدَّعونهُ مِنَ العقلياتِ المخالفةِ للنُّصوصِ لا حقيقةَ لهَا عندَ الاعتبارِ الصَّحيحِ، وإنَّما هي منْ بابِ القعقعةِ بالشنانِ لمن يفزعهُ ذلكَ مِنَ الصبيانِ ومنْ هوَ شبيهٌ بالصبيانِ وإذا أُعْطيَ النَّظرُ في المعقولاتِ حقَّهُ مِنَ التَّمامِ، وجدهَا براهينَ ناطقةً بصدقِ ما أخبرَ بهِ الرَّسولُ، وأنَّ لوازمَ ما أخبرَ بهِ لازمٌ صحيحٌ، وأنَّ منْ نفاهُ نفاهُ لجهلهِ بحقيقةِ الأمرِ» (¬2). ¬

_ (¬1) راجع: درء تعارض العقل والنقل (6/ 327 - 329)، ومجموع الفتاوى (6/ 564) و (6/ 581 - 583). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (4/ 181).

الشبهة الخامسة لو كان موصوفا بالعلو لكان جسما، ولو كان جسما لكان مماثلا لسائر الأجسام، والله قد نفى عنه المثل

الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ لو كانَ مَوْصُوفًا بالعُلُوِّ لكانَ جسمًا، ولو كانَ جسمًا لكان مماثلًا لِسَائِرِ الأَجْسَامِ، واللهُ قد نَفَى عنه المِثْلَ (¬1). أقول وبالله التوفيق: هنا ثلاثُ مقدِّماتٍ حصلَ فيها التَّلبيسُ: أحدُها: كونُ كلِّ عالٍ جسمًا. والثاني: كونُ الأجسامِ متماثلةٌ. والثالثُ: كونُ هذا التماثلِ هو المرادُ بالمثلِ في لغةِ العربِ التي نزلَ بها القرآن (¬2). والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ: الأولُ: قَدِ ادَّعيتَ أيُّها الجهميُّ أنَّ ظاهرَ القرآنِ، الذي هوَ حجَّةُ الله على عبادهِ، والذي هو خيرُ الكلامِ، وأصْدقُهُ، وأحْسنُهُ، وأفْصحُهُ، وهوَ الذي هدى الله بهِ عبادَهُ، وجعلَهُ شفاءً لما في الصُّدورِ، وهدًى ورحمةً للمؤمنينَ، ولمْ ينزلْ كتابٌ مِنَ السَّماءِ أهدى منهُ، ولا أحْسنَ ولا أكْملَ، فانتهكْتَ حرمتَهُ، وادَّعيتَ أنَّ ظاهرَهُ يستلزمُ التَّشبيهَ والتَّجسيم (¬3). وهذا الإلزامُ إنَّما هوَ لمنْ جاءَ بالنُّصوصِ الدَّالةِ على علوِّ الله على العرشِ، وتكلَّم بهَا، ودعَا الأمَّةَ إلى الإيمانِ بهَا ومعْرفتِهَا، ونهاهم عنْ تحْريفِهَا وتبديلِهَا. يَا قَوْمُ واللهِ العَظِيمِ أَسَأْتُمُ ... بِأَئِمَّةِ الإسْلاَمِ ظَنَّ الشَّانِ مَا ذَنْبُهُمْ وَنَبِيُّهُمْ قَدْ قَالَ مَا ... قَالوا كَذَلكَ مُنْزِلُ الفُرْقَانِ مَا الذَّنبُ إلاّ للنصُوصِ لَديكمُ ... إِذْ جَسَّمَتْ بَلْ شَبَّهتْ صِنْفَانِ ¬

_ (¬1) قال شيخ الاسلام رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (5/ 214): «لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون جسدًا، وهو الجسم اللغوي. فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد؛ والجسد هو الجسم اللغوي. فقول القائل: لو كان مستويًا على العرش لكان جسمًا. والجسم هو الجسد والجسد منتف بالشرع: كلام ملبِّس». (¬2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 11 - 112). (¬3) راجع: الصواعق (ص239).

مَا ذنْبُ مَنْ قَدْ قَالَ مَا نَطَقَتْ بِهِ ... مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ عُدْوَان (¬1) الثاني: نحنُ أثبتنا لله غايةَ الكمالِ، ونعوتَ الجلالِ، ووصفناهُ بكلِّ صفةِ كمالٍ فإنْ لزمَ منْ هذا تجسيمٌ، أو تشبيهٌ لم يكنْ هذا نقصًا، ولا عيبًا، ولا ذمًَّا، بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، فإنَّ لازمَ الحقِّ حقٌ، وما لزمَ منْ إثباتِ كمالِ الرَّبِّ ليسَ بنقصٍ، وأمَّا أنتم فنفيتم عنهُ صفاتِ الكمالِ، ولا ريبَ أنَّ لازمَ هذا النَّفيِّ وصفهُ بأضدادها مِنَ العيوبِ، والنَّقائصِ، فما سوَّى الله ولا رسولهُ ولا عقلاءُ عبادهِ بينَ منْ نفى كمالَهُ المقدَّسَ حذرًا مِنَ التجسيمِ، وبينَ منْ أثبتَ كمالَهُ الأعظمَ وصفاته العلى بلوازمِ ذلكَ كائنةً ما كانت (¬2). لاَ تَجْعَلُوا الإِثْبَاتَ تَشْبِيهًا لَهُ ... يَا فِرْقَةَ التَّشْبِيهِ وَالطُّغْيَانِ كَمْ تَرْتَقُونَ بِسُلَّمِ التَّنْزِيهِ لِلْتَّـ ... ـعْطِيلِ تَرْوِيجًا عَلَى العُمْيَانِ فَاللهُ أكْبَرُ أنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ ... كِصِفَاتِنَا جَلَّ العَظِيمُ الشَّانِ هَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ لاَ إثْبَاتُ أوْ ... صَافِ كَمَالٍ فَمَا هُمَا سِيَّانِ (¬3) سَمَّيْتُمُ التَّحْرِيفَ تَأوِيلًا كَذَا التَّـ ... ـعْطِيلَ تَنْزِيهًا هُمَا لَقَبَانِ وَأضَفتُم أمرًا إلَى ذَا ثَالِثًا ... شَرًّا وَأَقْبَحَ مِنْهُ ذَا بُهْتَانِ فَجَعَلْتُم الإِثْبَاتَ تَجْسِيمًا وَتَشْـ ... بيهًا وَذَا مِنْ أقْبَحِ العُدْوَانِ فَقَلَبْتُمُ تِلْكَ الحَقَائِقَ مِثْلَ مَا ... قُلِبَتْ قُلُوبُكُمُ عَنِ الإِيمَانِ وَجَعَلْتُمُ الممدُوحَ مَذْمُومًا كَذَا ... بالعكْس حَتَّى اسْتَكْمَلَ اللَّبْسَانِ (¬4) الثالثُ: ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص129). (¬2) الصواعق (ص263 - 264). (¬3) الكافية الشافية (ص336). (¬4) الكافية الشافية (ص155).

ماذا تعنونَ بقولكم «لو كانَ فوقَ العرشِ لكانَ جسمًا»؟ أتعنونَ بهِ أنَّهُ ما يتضمَّنُ مماثلةَ الله لشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ في شيءٍ منْ صفاتهِ؛ فاللهُ سبحانهُ منزَّهٌ عنْ أنْ يوصفَ بشيءٍ مِنَ الصِّفاتِ المختصَّةِ بالمخلوقينَ، وكلُّ ما اختصَّ بالمخلوقِ فهوَ صفةُ نقصٍ، والله تعالى منزَّهٌ عَنْ كلِّ نقصٍ ومستحقٌّ لغايةِ الكمالِ، وليسَ لهُ مثلٌ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ فهوَ منزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ مطلقًا، ومنزَّهٌ في الكمالِ أنْ يكونَ لهُ مثلٌ، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * َلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص 1 - 4]، فبيَّنَ أنَّهُ أحدٌ صمدٌ، واسمهُ الأحدُ يتضمَّنُ نفيَّ المثلِ، واسمهُ الصَّمدُ يتضمَّنُ جميعَ صفاتِ الكمالِ (¬1). وإذا كانَ اللهُ ليسَ منْ جنسِ الماءِ والهواءِ، ولا الرُّوحِ المنفوخةِ فينا، ولا منْ جنسِ الملائكةِ، ولا الأفلاكِ، فلأن لا يكونَ منْ جنسِ بدنِ الإنسانِ ولحمهِ وعصبهِ وعظامهِ، ويدهِ ورجلهِ ووجههِ، وغيرِ ذلكَ منْ أعضائهِ وأبعاضهِ، أولى وأحرى (¬2). وإنْ أردتم بالجسمِ المركَّبِ وهوَ مَا كانَ مفترقًا فركَّبهُ غيرهُ، كمَا تُركَّبُ المصنوعاتُ مِنَ: الأطعمةِ، والثيابِ والأبنيةِ، ونحو ذلكَ منْ أجزائها المفترقةِ. والله تعالى أجلُّ وأعظم منْ أنْ يُوصفَ بذلكَ، بلْ منْ مخلوقاتهِ ما لا يُوصفُ بذلكَ، ومنْ قالَ ذلكَ (¬3) فهوَ منْ أكفرِ النَّاسِ وأضلِّهم وأجهلهم وأشدِّهم محاربةً لله. وإنْ أردتم بهِ «أنَّ الرَّبَّ مركَّبٌ مؤلَّفٌ بمعنى أنَّهُ يقبلُ التفريقَ والانقسامَ والتجزئةَ، فهذا منْ أكفرِ النَّاسِ وأجهلهم» (¬4). ¬

_ (¬1) منهاج السنة (2/ 527 - 530). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (10/ 307). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (5/ 145). (¬4) مجموع الفتاوى (5/ 427 - 428).

وإنْ أردتم بالجسمِ ما يوصفُ بالصِّفاتِ، ويُرى بالأبصارِ، ويتكلَّمُ، ويُكَلَّمُ، ويسمعُ، ويبصرُ، ويرضى، ويغضبُ، فهذه المعاني ثابتةٌ للرَّبِّ تعالى وهوَ موصوفٌ بها، فلا ننفيها عنهُ بتسميتكم للموصوفِ بها جسمًا، ولا نردُّ ما أخبرَ بهِ الصَّادقُ عنِ الله وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ لتسميةِ أعداءِ الحديثِ لنا حشويةٌ. ولا نجحدُ صفاتِ خالقنا وعلوَّهُ على خلقهِ واستواءهُ على عرشهِ؛ لتسميةِ الفرعونيَّةِ المعطِّلةِ لمنْ أثبتَ ذلكَ مجسِّمًا مشبِّهًا. فإن كانَ تجسيمًا ثبوتُ استوائِهِ ... على عَرْشِهِ إني إذًا لَمُجَسِّمُ وإنْ كانَ تشبيهًا ثبوتُ صِفَاتِهِ ... فمن ذلكَ التَّشْبِيهِ لا أَتَكَتَّمُ وإنْ كان تنزيهًا جحودُ استوائِهِ ... وأوصافِهِ أو كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ فعَنْ ذلكَ التَّنْزِيهِ نَزَّهْتُ رَبَّنا ... بِتَوْفِيقِهِ واللهُ أَعْلَى وأَعْلَمُ وإنْ أردتم بالجسمِ ما يُشارُ إليهِ إشارةٌ حيَّةٌ، فقدْ أشارَ إليهِ أعرفُ الخلقِ بهِ بأصبعهِ رافعًا لها إلى السَّماءِ، يُشْهدُ الجمعَ الأعظمَ مشيرًا لهُ. وإنْ أردتم بالجسمِ ما يقالُ أينَ هو؟ فقدْ سألَ أعلمُ الخلقِ بهِ عنهُ بأينَ منبِّهًا على علوِّهِ على عرشهِ. وإنْ أردتم بالجسمِ ما يلحقهُ «مِنْ» و «إِلىَ» فقدْ نزلَ جبريلُ منْ عندهِ، ونزل كلامهُ منْ عندهِ، وعرجَ برسولهِ صلى الله عليه وسلم إليهِ، وإليهِ يصعدُ الكلمُ الطيِّبُ، وعندهُ المسيحُ رفعَ إليهِ. وإنْ أردتم بالجسمِ ما يكونُ فوقَ غيرهِ، ومستويًا على غيرهِ، فهو سبحانه وتعالى فوقَ عبادهِ مستوٍ على عرشهِ. الرابعُ:

لاَ يلزمُ منِ استواءِ الله عَلَى عرشهِ، أنْ يكونَ جسمًا بالمعنى الَّذي اصطلحوا عليهِ، لاَ عقلًا وَلاَ سمعًا إلَّا بالدَّعاوى الكاذبةِ. فدعوى هَذَا اللُّزومِ عينُ البهتِ والكذبِ الصُّراحِ؛ بل العرشُ خلقٌ مِنْ خلقهِ، ولا يلزمُ مِنْ كونِهِ فوقَ السَّمواتِ كلِّها أنْ يكونَ مركَّبًا مِنَ الجواهرِ الفردةِ ولا مِنَ المادَّةِ والصُّورةِ ولا مماثلًا لغيرهِ مِنَ الأجْسامِ، وكذلكَ جبريلُ مخلوقٌ مِنْ مخلوقاتهِ وهوَ ذو قوَّةٍ وحياةٍ وسمعٍ وبصرٍ وأجنحةٍ ويصعدُ وينزلُ ويُرى بالأبصارِ، ولا يلزمُ مِنْ وصفهِ بذلكَ أنْ يكونَ مركَّبًا مِنَ الجواهرِ الفردةِ، ولا مِنَ المادَّةِ والصُّورةِ، ولا أنْ يكونَ جسمهُ مماثلًا لأجْسامِ الشياطينِ، فدعونَا منْ هَذَا الفشرِ (¬1) والهذيانِ، والدَّعاوى الكاذبةِ. والتَّفاوتُ الذي بينَ اللهِ وخلقهِ أعْظمُ مِنَ التَّفاوتِ الذي بينَ جسمِ العرشِ وجسمِ الثرى والهواءِ والماءِ، وأعْظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ أجْسامِ الملائكةِ وأجْسامِ الشياطينِ، والعاقلُ إذا أطلقَ على جسمٍ صفةً مِنْ صفاتِهِ - وعندهُ منْ كلِّ وجهٍ موصوفٌ بتلكَ الصِّفةِ - لمْ يلزمْ منْ ذلكَ تماثلهَا؛ فإذا أطْلقَ على الرجيعِ، الذي قدْ بلغَ غايةَ الخبثِ، أنَّهُ جسمٌ قائمٌ بنفسهِ ذو رائحةٍ ولونٍ، وأطلقَ ذلكَ على المسكِ، لمْ يقلْ ذو حسٍ سليمٍ ولا عقلٍ مستقيمٍ، إنَّهما متماثلانِ، وأينَ التَّفاوتُ الذي بينهمَا مِنَ التَّفاوتِ الذي بين اللهِ وخلقهِ، فكمْ تلبِّسونَ وكمْ تدلِّسونَ وتموِّهونَ؟! ¬

_ (¬1) الفشر: فشر فشرًا كذب وبالغ فِي الكذب والادِّعاء.

فكيفَ يجوزُ بعدَ هذا أنْ يقالَ: إذا كانَ الرحمنُ فوقَ العرشِ أنْ يكونَ مماثلًا لخلقهِ؟! والله تعالى ليسَ كمثلهِ شيءٌ في ذاتهِ ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ. حتَّى لَوْ قدِّرَ لزومُ ذَلِكَ كلِّهِ لكانَ التزامهُ أسهلَ مِنْ تعطيلِ علوِّهِ عَلَى عرشهِ، وجعلهِ بمنزلةِ المعدومِ الممتنعِ، الَّذي لاَ هوَ داخلَ العالمِ وَلاَ خارجهُ (¬1). عطَّلْتُمُ السَّبع السموات العلا ... والعَرْشَ أخْليتُم منَ الرحمن (¬2) قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: قَدْ عَطَّلَ الرَّحْمَنُ أفْئِدَةً لَهُمْ ... مِنْ كُلِّ مَعْرِفَةٍ وَمِنْ إيمَانِ إذْ عَطَّلُوا الرَّحْمَنَ مِنْ أوصَافِهِ ... وَالعَرْشَ أخْلَوْهُ مِنَ الرَّحْمنِ (¬3) أيُّها المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ: إنَّ نفيَكم لعلوِّ الله تعالى على العرشِ بدعوى التَّجسيمِ، خطأٌ فِي اللَّفظِ والمعنى، وجنايةٌ عَلَى ألفاظِ الوحي. أمَّا اللَّفظيُّ: فتسميتكم علوَّ اللهِ على العرشِ تجسيمًا وتشبيهًا وتحيُّزًا. وتواصيتم بهذا المكرِ الكبَّارِ إلى نفيِ ما دلَّ عليهِ الوحيُ، والعقلُ، والفطرةُ؛ فكذبتم عَلَى القرآنِ، وعلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وعلى اللُّغةِ، ووضعتم لصفاتِهِ ألفاظًا منكمْ بدأتْ وإليكمْ تعودُ. وأمَّا خطأكمْ فِي المعنى: فنفيُكم، وتعطيلكم لعلوِّ الرحمنِ بواسطةِ هذهِ التسميةِ والألقابِ، فنفيتم المعنى الحقَّ وسمَّيتموهُ بالاسمِ المنكرِ، وكنتم فِي ذلكَ بمنزلةِ منْ سمعَ أنَّ فِي العسلِ شفاءً ولمْ يرهُ، فسأل عنهُ فقيلَ لهُ: مائعٌ رقيقٌ أصفرٌ يشبهُ العذرةَ تتقيَّأهُ الزنابيرُ، ومنْ لمْ يعرفِ العسلَ ينفرُ عنهُ بهذا التَّعريفِ، ومَنْ عرفهُ وذاقهُ لم يزدهُ هذا التَّعريفُ عندهُ إلَّا محبَّةً لهُ، ورغبةً فيهِ، وما أحسنَ مَا قَالَ القائلُ: ¬

_ (¬1) الصّواعق (ص1016 - 1017). (¬2) نونية القحطاني (ص51)، طبعة مكتبة السوادي. (¬3) الكافية الشافية (ص268).

تَقُولُ هذا جَنْي النَّحْلِ تَمْدَحُهُ ... وإنْ تَشَاءُ قُلْتَ ذا قَيءُ الزَّنَابِيرِ مَدْحًا وذَمًّا وما جَاوَزتَ وَصْفَهُما ... والحقُّ قد يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعْبِيرِ أفيظنُّ الجاهلونَ أنَّا نجحدُ علوَّ اللهِ عَلَى عرشهِ، لأسماءٍ سمُّوها، هم وسلفهم، مَا أنزلَ الله بها منْ سلطانٍ، وألقابٍ وضعوهَا مِنْ تلقاءِ أنفسهم، لمْ يأتِ بها سنَّةٌ وَلاَ قرآنٌ، وشبهاتٍ قذفتْ بها قلوبٌ، مَا استنارتْ بنورِ الوحي، وَلاَ خالطتهَا بشاشةُ الإيمانِ، وخيالاتٍ هي بتخييلاتِ الممرورينَ، وأصحابِ الهوسِ، أشبهُ منها بقضايا العقلِ والبرهانِ، ووهمياتٍ نسبتهَا إلى العقلِ الصَّحيحِ كنسبةِ السَّرابِ إلى الأبصارِ فِي القيعانِ. فدعونَا منْ هذه الدعاوي الباطلةِ، التي لا تفيدُ إلَّا تضييعَ الزمانِ، وإتعابَ الأذهانِ، وكثرةَ الهذيانِ، وحاكمونَا إلى الوحي، لا إلى «نخالةِ الأفكارِ، وزبالةِ الأذْهانِ وعفارةِ الآراءِ، ووساوسِ الصُّدورِ، التي لا حقيقةَ لهَا في التَّحقيقِ، ولا تثبتُ على قدمِ الحقِّ والتَّصْديقِ، فملأتم بها الأوراقَ سوادًا، والقلوبَ شكوكًا، والعالَم فسادًا» (¬1). يَا قَوْمَنَا وَاللهِ إنَّ لِقَوْلِنَا ... ألْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ ألفَانِ عَقْلًا وَنَقْلًا مَعْ صَرِيحِ الفِطْرَةِ الـ ... أولَى وَذَوْقِ حَلاَوَةِ الإِيمَانِ كُلٌّ يَدُلُّ بأنَّهُ سُبْحَانَهُ ... فَوْقَ السَّمَاءِ مُبَاينُ الأكوَانِ أتَرَوْنَ أنَّا تَارِكُو ذَا كُلِّهِ ... لِجَعَاجِع التَّعْطِيلِ والهَذَيَانِ (¬2) وهذهِ الشُّبهةُ قدْ تكلَّمنا عليها «بالاستقصاءِ حتَّى يتبيَّنُ أنَّها مِنَ القولِ الهراءِ فهاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين» (¬3). ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (1/ 105) بتصرف وزيادة. (¬2) الكافية الشافية (ص131). (¬3) الفتاوى الكبرى (6/ 355).

الشبهة السادسة لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا وكل ذلك من المحال

الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ لو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ. اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ «طريقةَ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتها: أنَّهم يصفونَ الله بما وصفَ بهِ نفسهُ وبما وصفهُ بهِ رسولهُ: منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ: إثباتٌ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ، إثباتُ الصفاتِ، ونفيُّ مماثلةِ المخلوقاتِ، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فهذا ردٌّ على الممثِّلةِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ردٌّ على المعطِّلةِ» (¬1). وهذهِ: معالجةٌ: لسقمِ الأوهامِ، ودواءٌ لداءِ الأسقامِ، وشفاءٌ لأوامِ الجهلِ: على وجهِ الكمالِ والتمامِ (¬2). ومنْ فهمَ هذه الآيةَ الكريمةَ حقَّ فهمها، وتدبَّرها حقَّ تدبُّرها مشى بها عندَ اختلافِ المختلفينَ في الصِّفاتِ على طريقةٍ بيضاءَ واضحةٍ، ويزدادُ بصيرةً إذا تأمَّلَ معنى قولهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فإنَّ هذا الإثباتَ بعدَ ذلكَ النَّفيَّ للمثلِ، قَدِ اشتملَ على بردِ اليقينِ، وشفاءِ الصُّدورِ، وانثلاجِ القلوبِ. فاقدرْ يا طالبَ الحقِّ قدرَ هذهِ الحجَّةِ النيِّرةِ، والبرهانِ القويِّ، فإنَّك تحطِّمُ بها كثيرًا مِنَ البدعِ، وتهشِّمُ بها رؤوسًا مِنَ الضلالةِ، وترغِمُ بها آنافَ طوائفَ مِنَ القاصرينَ المتكلِّفينَ، والمتكلِّمينَ المتأوِّلينَ، ولا سيِّما إذا ضممتَ إليهِ قولَ الله سبحانهُ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] فإنَّكَ حينئذٍ قدْ أخذتَ بطرفي حبلِ ما يسمُّونهُ علمُ الكلامِ وعلمُ أصولِ الدِّينِ (¬3). والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ أنْ يقالَ: ¬

_ (¬1) منهاج السنة (2/ 523). (¬2) السراج الوهاج (10/ 525 - 526). (¬3) فتح البيان (12/ 282).

إنَّ الله سبحانه وتعالى الموصوفَ بصفاتِ المجدِ والكبرياءِ والعظمةِ والجلالِ، «أكْبرُ منْ كلِّ شيءٍ ذاتًا وقدْرًا ومعنًى وعزَّةً وجلالةً، فهوَ أكْبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ في ذاتهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ كمَا هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعالٍ على كلِّ شيءٍ، وأعظمُ مِنْ كلِّ شيءٍ، وأجلُّ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ (¬1). فهوَ الحيُّ القيُّومُ الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ في حياتهِ وقيُّوميَّتهِ، العليُّ الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ في علوِّهِ بلْ هوَ منفردٌ بذاتهِ وصفاتهِ عنْ مماثلةِ مخلوقاتهِ، فلهُ أعظمُ المباينةِ وأجلُّها وأكملُها كما لهُ منْ كلِّ صفةِ كمالٍ أعظمُها وأكملُها» (¬2). والقائلُ الذي قالَ: لو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا، وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ، ونحو ذلكَ مِنَ الكلامِ: فإنَّه لمْ يفهمْ منْ كونِ الله على العرشِ إلَّا ما يثبتُ لأيِّ جسمٍ كانَ على أيِّ جسمٍ كانَ، وهذا اللازمُ تابعٌ لهذا المفهومِ، أمَّا استواءٌ يليقُ بجلالِ الله تعالى ويختصُّ بهِ، فلا يلزمهُ شيءٌ مِنَ اللَّوازمِ الباطلةِ، التي يجبُ نفيهَا، كما يلزمُ منْ سائرِ الأجسامِ. وصارَ هذا مثلُ قولِ الممثِّلِ: إذا كان مستويًا على العرشِ فهوَ مماثلٌ لاستواءِ الإنسانِ على السريرِ أو الفلكِ، إذْ لا يُعلمُ الاستواءُ إلَّا هكذا فإنَّ كليهما مثَّلَ وكليهما عطَّلَ حقيقةَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ، وامتازَ الأوَّلُ بتعطيلِ كلِّ اسمٍ للاستواء الحقيقيِّ، وامتازَ الثاني بإثباتِ استواءٍ هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ (¬3). ¬

_ (¬1) الصواعق (ص1379). (¬2) الصواعق المرسلة (ص1338). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 27 - 28).

«وحينئذٍ فنفاةُ العلوِّ همْ بينَ أمرينِ: إنْ سلَّموا أنَّه على العرشِ مَعَ أنَّهُ ليسَ بجسمٍ ولا متحيِّزٍ بطلَ كلُّ دليلٍ لهم على نفي علوِّه على عرشهِ؛ فإنَّهم إنَّما بنوا ذلكَ على أنَّ علوَّهُ على العرشِ مستلزمٌ لكونهِ جسمًا متحيِّزًا، واللازمُ منتفٍ فينتفي الملزومُ؛ فإذا لم تثبت الملازمةُ لم يكنْ لهم دليلٌ على النفي، ولا يبقى للنُّصوصِ الواردةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ بإثباتِ علوِّهِ على العالمِ ما يعارضهَا، وهذا هوَ المطلوبُ» (¬1). واعلمْ أنَّهُ ليسَ في العقلِ الصَّريحِ ولا في شيءٍ مِنَ النَّقلِ الصَّحيحِ ما يوجبُ مخالفةَ الطريقَ السَّلفيةَ أصلًا. ثمَّ المخالفونَ للكتابِ والسُّنَّةِ وسلفِ الأمَّةِ - مِنَ المتأوِّلينَ لهذا البابِ - في أمرٍ مريجٍ؛ فإنَّ منْ أنكرَ الرؤيةَ يزعمُ أنَّ العقلَ يحيلُهَا، وأنَّهُ مضطرٌ فيهَا إلى التأويلِ، ... ومنْ يزعمُ أنَّ الله ليسَ فوقَ العرشِ؛ يزعمُ أنَّ العقلَ أحالَ ذلكَ وأنَّهُ مضطرٌ إلى التأويلِ. ويكفيكَ دليلًا على فسادِ قولِ هؤلاءِ: أنَّه ليسَ لواحدٍ منهم قاعدةٌ مستمرةٌ فيما يحيلهُ العقلُ، بلْ منهمْ منْ يزعمُ أنَّ العقلَ جوَّزَ وأوجبَ، ما يدَّعي الآخرُ أنَّ العقلَ أحالهُ (¬2). يعرفُ هذا كلُّ منصفٍ، ومنْ أنكرهُ فليصفِّ فهمهُ وعقلهُ عنْ شوائبِ التعصُّبِ والتمذهُّبِ؛ فإنَّهُ إنْ فعلَ ذلك أسفرَ الصبحُ لعينيهِ (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 285). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 28 - 29). (¬3) فتح البيان (4/ 305).

والعجبُ أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ يصرِّحُ بأنَّ عقلَهُ إذا عارضَهُ الحديثُ - لا سيَّما في أخبارِ الصِّفاتِ - حملَ الحديثَ على عقلهِ وصرَّحَ بتقديمهِ على الحديثِ، وجعلَ عقلهُ ميزانًا للحديثِ. فليتَ شعري هلْ عقلهُ هذا كان مصرَّحًا بتقديمهِ في الشَّريعةِ المحمَّديةِ، فيكونُ من السبيلِ المأمورِ باتباعهِ، أمْ هوَ عقلٌ مبتدعٌ جاهلٌ ضالٌ حائرٌ خارجٌ عَنِ السَّبيلِ؟! (¬1). و «إنَّ عقلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أكملُ عقولِ أهلِ الأرضِ على الإطلاقِ، فلوْ وزنَ عقلهُ بعقولهم، لرجحَ بها كلِّها، وقدْ أخبر - سبحانهُ - أنَّهُ قبلَ الوحيِ لمْ يكنْ يدري الإيمانَ، كمَا لمْ يكنْ يدري الكتابَ. فقالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فإذا كانَ أعقلُ خلقِ اللهِ على الإطلاقِ إنَّما حصلَ لهُ الهدى بالوحيِ، كمَا قالَ تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]. فكيفَ يحصلُ لسفهاءِ العقولِ وأخفاءِ الأحلامِ وفراشِ الألبابِ، الاهتداءُ إلى حقائقِ الإيمانِ بمجرَّدِ عقولهم دونَ نصوصِ الأنبياءِ: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *} [مريم: 89، 90]» (¬2). ثمَّ نقولُ للجميعِ: بعقلِ مَنْ منكم يوزنُ كلامُ الله ورسولهِ؟! وأيُّ عقولكم تُجعلُ معيارًا لهُ؟! فما وافقهُ قُبِلَ وأُقِرَّ عَلَى ظاهرهِ وما خالفَه رُدَّ أو أوِّلَ أو فُوِّض (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (4/ 57 - 58). (¬2) الصواعق (ص734 - 735). (¬3) الصواعق (ص783).

ونحنُ نقولُ: إذا تعارضَ النَّقلُ وهذه العقولُ أُخِذَ بالنَّقلِ الصَّريحِ ورُمِيَ بهذهِ العقولِ تحتَ الأقدامِ وحطَّتْ حيثُ حَطَّها الله وحَطَّ أصحابها (¬1). فقبحًا لهاتيك العقولِ فإنَّها ... عقالٌ على أصْحابها ووبال (¬2) ورحمَ اللهُ الإمامَ مالكَ بنَ أنسٍ حيثُ قالَ: «كلَّما جاءنا رجلٌ أجدلَ منْ رجلٍ تركنا ما نزلَ به جبرائيلُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لجدلهِ» (¬3). ¬

_ (¬1) الصواعق (ص791). (¬2) شفاء العليل (2/ 821)، طبعة مكتبة العبيكان. (¬3) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص950) بسند صحيح.

وفي ختام الردِّ على الشُّبهةِ المذكورةِ نقولُ للمشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «إذا علمَ الإنسانُ بالعقلِ أنَّ هذا رسولُ الله وعلمَ أنَّهُ أخبرَ بشيءٍ، ووجدَ في عقلهِ ما ينافي خبرهُ، كان الواجبُ عليه أنْ يسلِّم لما أخبر بهِ الصَّادقُ الذي هو أعلمُ منهُ، وينقادُ لهُ ويتَّهمُ عقلَهُ، ويعلَمُ أنَّ عقلَهُ بالنِّسبةِ إليهِ أقلُّ منْ عقلِ أجهلِ الخلقِ بالنسبةِ إليهِ هوَ، وأنَّ التَّفاوتَ الذي بينهما في العلمِ والمعرفةِ بالله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ ودينهِ أعظمُ بكثيرٍ كثيرٍ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ منْ لا خبرةَ لهُ بصناعةِ الطبِّ، ومنْ هو أعلمُ أهلِ زمانهِ بها. فيالله العجبُ إذا كان عقلهُ يوجبُ عليهِ أنْ ينقادَ لطبيبٍ يهوديٍّ فيما يخبرُ بهِ منْ قوى الأدويةِ والأغذيةِ والأشربةِ والأضمدةِ والمسهِّلاتِ وصفاتهَا وكميَّاتها ودرجاتها، مَعَ ما عليهِ في ذلكَ من الكَلَفَة والألمِ ومقاساةِ المكروهاتِ، لظنِّه أنَّ هذا أعلمُ بهذا الشَّأنِ منهُ، وأنَّهُ إذا صدَّقهُ كانَ في تصديقهِ حصولُ الشِّفاءِ والعافيةِ، مَعَ علمهِ بأنَّه يخطىءُ كثيرًا، وأنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يشفى بما يصفهُ الطبيبُ، بلْ يكونُ استعمالهُ لما يصفهُ سببًا منْ أسبابِ هلاكهِ، وأنَّ أسبابَ الموتِ أغلاطُ الأطباءِ، فكمْ لهمْ منْ قتيلٍ أسكنوهُ المقابرَ بغلطهم وخطئهم؟ وإنْ كان خطأُ الطبيبِ إصابةَ المقاديرِ، وكيفَ لا يسلكُ هذا المسلكَ مَعَ الرسل «صلواتُ الله وسلامهُ عليهم» وهمُ الصَّادقونَ المصْدقون؟ ولا يجوزُ أن يكونَ خبرهم على خلافِ ما أخبروا بهِ والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم مِنَ الجهلِ والضَّلالِ المركَّبِ والبسيطِ ما لا يحصيهِ إلَّا منْ هوَ بكلِّ شيءٍ محيط (¬1). ¬

_ (¬1) الصواعق (ص822 - 823).

الشبهة السابعة يستدل المشتغلون بعلم الكلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه»، على نفي العلو

الشُّبْهَةُ السَّابِعَةُ يستدلُّ المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ بقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَامَ أَحَدُكمْ إِلَى الصَّلاَةِ، فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، فَلاَ يَبْصُق قِبَلَ وَجْهِهِ» (¬1)، على نفي العلوِّ. قَالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله تعليقًا عَلَى هذا الحديث: وقد نزعَ بهذا الحديثِ بعضُ مَنْ ذهبَ مذهبَ المعتزلةِ فِي أنَّ الله عزَّ وجلَّ فِي كلِّ مكانٍ، وليس عَلَى العرشِ، وهذا جدلٌ منْ قائلهِ (¬2). وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: الحديثُ حقٌّ على ظاهرهِ، وهوَ سبحانهُ فَوْقَ العَرْشِ وهوَ قِبَلَ وجهِ المصلِّي، بل هذا الوصفُ يثبتُ للمخلوقاتِ. فإنَّ الإنسانَ لو أنَّهُ يناجي السَّماءَ أو يناجي الشَّمسَ والقمرَ لكانت السَّماءُ والشمسُ والقمرُ فوقهُ، وكانتْ أيضًا قبلَ وجههِ؛ مَعَ أنَّ الشمسَ قدْ تشرقُ وقدْ تغربُ، فتنحرفُ عنْ سمتِ الرأسِ، فكيفَ بمنْ هوَ فوق كلِّ شيءٍ دائمًا لا يأفلُ ولا يغيبُ سبحانه وتعالى!! وقد ضربَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المثلَ بذلكَ - ولله المثلُ الأعلى - ولكن المقصودَ بالتمثيلِ بيانُ جوازِ هذا وإمكانهُ، لا تشبيهَ الخالقِ بالمخلوقِ - فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْكُم من أحدٍ إلا سيرى رَبَّهُ مَخْلِيًّا به» فقال له أبو رزين العقيلي: كيفَ يا رسول الله وهو واحدٌ ونحنُ جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سأنبِّئُكَ بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمرُ كُلُّكُم يراه مَخْلِيًّا به، وهو آيةٌ من آياتِ الله، فاللهُ أكبرُ» (¬3). وقال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (406 و753 و1213 و6111)، ومسلم (547). (¬2) التمهيد (14/ 157). (¬3) رواه ابن ماجه (180)، وحسَّنه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (150). (¬4) رواه البخاري (554 و573 و4851 و7434 و7435 و7436)، ومسلم (633).

الشبهة الثامنة يستدل المشتغلون بعلم الكلام بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء» على نفي العلو

فشبَّهَ الرؤيةَ بالرؤيةِ، وإنْ لم يكنْ المرئيُّ مشابهًا للمرئيِّ؛ فالمؤمنونَ إذا رأوا ربَّهم يومَ القيامةِ وناجوهُ كلٌّ يراهُ فوقهُ قِبَلَ وجههِ، كما يُرى الشمسُ والقمرُ، ولا منافاةَ أصلًا. ومنْ كانَ لهُ نصيبٌ مِنَ المعرفةِ بالله، والرسوخِ في العلمِ بالله: يكونُ إقرارهُ للكتابِ والسنَّةِ على ما هما عليهِ أوكد (¬1). فقدْ تبيَّن بهذا الكلامِ «أنَّ ما جاءَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ وغيرهِ، كلُّهُ حقٌّ يصدِّقُ بعضهُ بعضًا، وهو موافقٌ لفطرةِ الخلائقِ، وما جعلَ فيهِ مِنَ العقولِ الصَّريحةِ، والقصودِ الصَّحيحةِ، لا يخالفُ العقلَ الصَّريحَ، ولا القصدَ الصَّحيحَ، ولا الفطرةَ المستقيمةَ، ولا النَّقلَ الصحيحَ الثَّابتَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وإنَّما يظنُّ تعارضها: منْ صدَّقَ بباطلٍ، مِنَ النقولِ، أو فهمَ منهُ ما لم يدلَّ عليهِ؛ أو اعتقدَ شيئًا ظنَّهُ مِنَ العقلياتِ وهوَ مِنَ الجهلياتِ. أو مِنَ الكشوفاتِ وهوَ مِنَ الكسوفاتِ» (¬2). الشبهة الثامنة يستدلُّ المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ بقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الظّاهِرُ فَلَيسَ فَوْقَكَ شيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ» (¬3) عَلَى نفيِ العلوِّ. وهذا الاستدلالُ باطلٌ منْ وجهينِ: الوجهُ الأوَّلُ: قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الظّاهر فَلَيسَ فَوْقَكَ شيءٌ» إثباتٌ صريحٌ لفوقيَّةِ اللهِ عَلَى كلِّ شيءٍ، ونفيُها عنْ كلِّ شيءٍ؛ فإنَّ الظاهرَ معناه: هو العالي فوقَ كلِّ شيءٍ فلا شيءَ أعلى منهُ. وهذا غايةُ الكمالِ في العلوِّ أنْ لا يكون فوقَ العالي شيءٌ موجودٌ، واللهُ موصوفٌ بذلكَ (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 107، 577) و (6/ 569). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 580). (¬3) رواه مسلم (2713). (¬4) درء تعارض العقل والنقل (7/ 11).

وكلُّ شيءٍ علا شيئًا فقدْ ظهرَ، قال الله عزَّ وجلَّ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا *} [الكهف: 97] أي يعلوا عليهِ (¬1). ومنهُ قولهُ تعالى: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 23] أي: يرتفعونَ ويصعدونَ ويعلونَ عَلَيهِ (أي عَلَى الدُّرجِ). وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليهُ، ومنهُ ظهرُ الدَّابةِ، لأنَّه عالي عَلَيهَا. ويُقالُ: ظهرَ الخطيبُ عَلَى المنبرِ، وظاهرُ الثَّوبِ أعلاهُ، بخلافِ بطانتهِ. وكذلكَ ظاهرُ البيتِ أعلاهُ، وظاهرُ القولِ مَا ظهرَ منهُ وبانَ. وظاهرُ الإنسانِ خلافُ باطنهِ، فكلَّمَا عَلاَ الشيءُ ظهرَ (¬2). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: والظَّاهرُ العَالِي الَّذِي مَا فَوقَهُ ... شَيءٌ كَمَا قَدْ قَالَ ذُو البُرْهَانِ حَقًّا رَسُولُ الله ذَا تَفْسِيرُهُ ... وَلَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِضَمَانِ فَاقْبَلْهُ لاَ تَقْبَلْ سِوَاهُ مِنَ التَّفَا ... سِيرِ التِي قِيلَتْ بِلاَ بُرْهَانِ والشَّيءُ حِينَ يَتِمُّ مِنْه عُلُوُّهُ ... فَظُهورُهُ فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ أوَ مَا تَرَى هَذِي السَّمَا وَعُلُوَّهَا ... وَظُهُورَهَا وَكَذَلِكَ القَمَرَانِ (¬3) الوَجْهُ الثاني: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «وَأَنْتَ البَاطِن فَلَيْسَ دُونَكَ شيءٌ» ولمْ يقلْ: «فليسَ تحتكَ شيءٌ». ¬

_ (¬1) التمهيد (8/ 97). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 244)، وانظر: شرح الواسطية (1/ 181) لابن عثيمين رحمه الله، وفتح الباري (4/ 276 - 277) لابن رجب، وجامع البيان (م11/ج25/ص43) و (م11/ج27/ص124 - 125). (¬3) الكافية الشافية (ص113 - 114).

الشبهة التاسعة: الاستدلال بمعنى المعية على تأويل الاستواء بالقهر والغلبة

والمعنى: لَيْسَ دونَ الله شيءٌ، لا أحدٌ يدبِّر دونَ الله، لا أحدٌ ينفردُ بشيءٍ دونَ الله، وَلاَ أحدٌ يخفى عَلَى الله، كلُّ شيء فاللهُ محيطٌ بهِ، ولهذا قَالَ: «لَيْسَ دُونَكَ شيء» يعني: لا يحولُ دونَكَ شيءٌ، وَلاَ يمنعُ دونكَ شيءٌ، وَلاَ ينفعُ ذا الجدِّ منكَ الجدُّ ... وهكذا (¬1). الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ قال الجويني: «فإن استدلوا - يعني أهلُ السنَّةِ - بظاهرِ قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] فالوجهُ معارضتهم بآي يساعدوننَا على تأويلها: منها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ... فنسألهم عنْ معنى ذلكَ، فإنْ حملوهُ على كونهِ معنا بالإحاطةِ والعلمِ، لم يمتنعْ حملُ الاستواءِ على القهرِ والغلبةِ» (¬2). قال ابنُ قدامة رحمه الله: قلنَا: نحنُ لم نتأوَّل شيئًا، وحملُ هذه اللَّفظاتِ عَلَى هذهِ المعاني ليسَ بتأويلٍ، لأنَّ التأويلَ صرفُ اللَّفظ عنْ ظاهرهِ، وهذهِ المعاني هي الظاهرُ منْ هذهِ الألفاظِ بدليلِ أنَّهُ المتبادرُ إلى الأفهامِ منهَا. وإذا تقرَّرَ هَذَا فالمتبادرُ إلى الفهمِ منْ قولهم: «اللهُ معكَ» أي بالحفظِ والكلاءةِ، ولذلكَ قَالَ اللهُ تعالى - فيما أخبرَ عنْ نبيِّهِ -: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وقال لموسى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ولوْ أرادَ أنَّهُ بذاتهِ مَعَ كلِّ أحدٍ لمْ يكنْ لهمُ بذلكَ اختصاصٌ لوجودهِ فِي حقِّ غيرهم كوجودهِ فيهم، ولم يكنْ ذلك موجبًا لنفيِ الحزنِ عن أبي بكرٍ وَلاَ علَّةَ لهُ. فعُلمَ أنَّ ظاهرَ هذهِ الألفاظِ هوَ مَا حُملتْ عَلَيهِ فلمْ يكنْ تأويلًا. ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الواسطية (2/ 51)، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله. (¬2) الإرشاد للجويني (ص40).

ثمَّ لَوْ كانَ تأويلًا فمَا نحنُ تأوَّلنا، وإنَّما السَّلفُ رحمةُ الله عليهم الّذي ثبتَ صوابهم ووجبَ اتِّباعهم هم الذين تأوَّلوه، فإنَّ ابنَ عبّاسٍ والضحاكَ ومالكًا وسفيانَ وكثيرًا مِنَ العلماءِ قالوا فِي قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] أي علمهُ. ثمَّ قدْ ثبتَ بكتابِ اللهِ والمتواترِ عنْ رسولِ اللهِ وإجماعِ السَّلفِ أنَّ الله تعالى فِي السَّمَاءِ عَلَى عرشهِ، وجاءتْ هذهِ اللَّفظةُ مَعَ قرائنَ محفوفةٍ بها دالَّةً عَلَى إرادةِ العلمِ منهَا وهوَ قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة: 7] ثمَّ قَالَ فِي آخرهَا: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] فبدأهَا بالعلمِ وختمهَا بهِ، ثمَّ سياقهَا لتخويفهم بعلمِ الله تعالى بحالهمْ، وأنَّهُ ينبئهم بما عملوا يومَ القيامةِ ويجازيهم عَلَيهِ. وهذهِ قرائنُ كلُّها دالَّةٌ عَلَى إرادةِ العلمِ. فقد اتَّفقَ فيهَا هذهِ القرائنُ ودلالةُ الأخبارِ عَلَى معناها ومقالةُ السَّلفِ وتأويلهم فكيفَ يلحقُ بها مَا يخالفُ الكتابَ والأخبارَ ومقالاتِ السَّلفِ؟!! فهذا لا يخفى عَلَى عاقلٍ إنْ شاءَ الله تعالى، وإنْ خفيَ فقدْ كشفناهُ وبيَّنَّاهُ بحمدِ الله تعالى (¬1). وقال العلامةُ يحيى بن أبي الخير العمراني: فإنْ قال قائلٌ: فلمَ تأوَّلتم قولَ الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية. ¬

_ (¬1) ذم التأويل (ص45 - 46).

قلنا لهُ: لأنَّ القرآنَ يعاضدُ بعضُهُ بعضًا، وقدْ أخبرَ الله تعالى أنَّهُ على العرشِ استوى، وأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. فعلمنَا أنَّ هناك معنًى يختصُّ بهِ العرشُ دونهُ، فقلنَا هو على العرشِ استوى، ولا نكيِّفُ الاستواءَ؛ بلْ نصدِّقُ ونؤمنُ بهِ إيمانًا مجملًا، وأنَّهُ تعالى الله أنْ يكونَ في الحشوشِ والأمكنةِ الدنيئةِ فنزَّهناهُ عنهَا، وحملنا هذهِ الآيةِ على الإحاطةِ والعلمِ لذكرهِ العلمَ في ابتداءِ الآيةِ وآخرهَا، كما حملنا قولهُ تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] على النَّصرِ والتأييدِ وإنْ كانَ يسمعُ كلامَ فرعونَ ويراهُ كما يسمعُ كلامهمَا ويراهما، وليس كذلكَ هذهِ الآياتُ والأخبارُ التي وردتْ بصفاتِ الذَّاتِ فإنَّ العقولَ تقصرُ عنْ معرفةِ المرادِ بها فلزمنَا بالضَّرورةِ التَّصديقُ بها والإمساكُ عنها (¬1). وقالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة رحمه الله: إنَّ الكتابَ والسنَّةَ يحصلُ منهما كمالُ الهدى والنُّورِ لمنْ تدبَّر كتابَ الله وسنَّةَ نبيِّهِ، وقصدَ اتِّباعَ الحقِّ، وأعرضَ عنْ تحريفِ الكلمِ عنْ مواضعهِ، والإلحادِ في أسماءِ اللهِ وآياتهِ. ولا يحسبُ الحاسبُ أنَّ شيئًا منْ ذلكَ يناقضُ بعضهُ بعضًا البتّةَ، مثل أنْ يقولَ القائلُ: ما في الكتابِ والسنَّةِ منْ أنَّ الله فوقَ العرشِ يخالفُ الظاهرَ منْ قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ونحو ذلكَ، فإنَّ هذا غلطٌ. ¬

_ (¬1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 634 - 635).

وذلكَ أنَّ الله معنا حقيقةً، وهوَ فوقَ العرشِ حقيقةً، كمَا جمعَ اللهُ بينهمَا في قولهِ سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. فأخبرَ أنَّه فوقَ العرشِ يعلمُ كلَّ شيءٍ، وهوَ معنا أينما كنَّا. وذلكَ أنَّ كلمةَ (مع) في اللُّغةِ إذا أطلقتْ فليسَ ظاهرهَا في اللُّغةِ إلَّا المقارنةَ المطلقةَ؛ منْ غيرِ وجوبِ مماسةٍ أو محاذاةٍ عنْ يمينٍ أو شمالٍ؛ فإذا قيِّدتْ بمعنًى مِنَ المعاني دلَّتْ على المقارنةِ في ذلكَ المعنى. فإنَّه يقالُ: ما زلنا نسيرُ والقمرُ معنَا أو والنَّجمُ معنا. فاللهُ مَعَ خلقهِ حقيقةً، وهو فوقَ عرشهِ حقيقةً. ثمَّ هذهِ «المعيةُ» تختلفُ أحكامُهَا بحسبِ المواردِ فلمَّا قالَ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد: 4] إلى قولِه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. دلَّ ظاهرُ الخطابِ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ ومقتضاهَا أنَّه مطَّلعٌ عليكمْ؛ شهيدٌ عليكم ومهيمنٌ عالمٌ بكمْ، وهذا معنى قولِ السَّلفِ: إنَّه معهم بعلمهِ، وهذا ظاهرُ الخطابِ وحقيقتهُ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأهْلِ» (¬1). فهو سبحانهُ مَعَ المسافرِ في سفرهِ ومع أهلهِ في وطنهِ، ولا يلزمُ منْ هذا أن تكونَ ذاتهُ مختلطةً بذواتهم، كمَا قالَ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] أي: معهُ على الإيمانِ، لا أنَّ ذاتهم في ذاتهِ، بل همْ مصاحبونَ لهُ، وقوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] يدلُّ على موافقتهم في الإيمانِ وموالاتهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1342).

فاللهُ تعالى عالمٌ بعبادهِ وهوَ معهم أينما كانوا، وعلمهُ بهم منْ لوازمِ المعيَّةِ (¬1). وكذلكَ في قولهِ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]. فإنَّهُ افتتحَ الآيةَ بالعلمِ وختمهَا بالعلمِ، فكانَ السِّياقُ يدلُّ على أنَّه أرادَ أنَّهُ عالمٌ بهم (¬2). ولمَّا قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لصاحبهِ في الغارِ: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] كانَ هذا أيضًا حقًّا على ظاهرهِ، ودلَّتِ الحالُ على أنَّ حكمَ هذهِ المعيَّةِ هنا معيةُ الاطِّلاعِ، والنَّصرِ والتأييدِ. وكذلكَ قولهُ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] وكذلك قولهُ لموسى وهارونَ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 4]. هنا المعيةُ على ظاهرهَا، وحكمهَا في هذهِ المواطنِ النَّصرُ والتأييدُ (¬3). فلفظُ «المعيَّةِ» قد استعملَ في الكتابِ والسنَّةِ في مواضعَ، يقتضي في كلِّ موضعٍ أُمورًا لا يقتضيهَا في الموضعِ الآخرِ، فإمَّا أنْ تختلفَ دلالتها بحسبِ المواضعِ، أو تدلُّ على قدرٍ مشتركٍ بينَ جميعِ مواردهَا - وإن امتازَ كلُّ موضعٍ بخاصيَّةٍ - فعلى التقديرينِ ليسَ مقتضاها أنْ تكونَ ذاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ مختلطةً بالخلقِ، حتَّى يقال قدْ صرفتْ عن ظاهرهَا. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 231). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 495). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 104).

الشبهة العاشرة: تأويل النسفي لقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء بالتأويل الفاسد والرد عليه

ومنْ علمَ أنَّ «المعيةَ» تضافُ إلى كلِّ نوعٍ منْ أنواعِ المخلوقاتِ - كإضافةِ الربوبيةِ مثلًا - وأنَّ الاستواءَ على الشيءِ ليسَ إلَّا للعرشِ، وأنَّ الله يوصفُ بالعلوِّ والفوقيَّةِ الحقيقيةِ، ولا يوصفُ بالسُّفولِ ولا بالتحتيَّةِ قطُّ، لا حقيقةً ولا مجازًا: عُلِمَ أنَّ القرآنَ على مَا هوَ عليهِ مِنْ غيرِ تحريفٍ (¬1). الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ قالَ النَّسفي في قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] أي: من ملكوته في السَّماءِ؛ لأنَّها مسكنُ ملائكتهِ، ومنها منزلُ قضاياه وكتبهِ وأوامرهِ ونواهيهِ، فكأنَّهُ قالَ: أأمنتم خالقَ السَّماءِ وملكَهُ؛ أو لأنَّهم [أي المشركين] كانوا يعتقدونَ التَّشبيهَ، وأنَّه في السَّماء، وأنَّ الرحمةَ والعذابَ ينزلانِ منهُ؛ فقيل لهمْ على حسبِ اعتقادهم: أأمنتمْ منْ تزعمونَ أنَّه في السَّماءِ وهو متعالٍ عَنِ المكانِ (¬2). أقولُ وبالله التوفيق: هذا تحريفٌ لكتابِ الله تعالى؛ فقدْ حرَّف هذهِ الآيةَ بتحريفينِ فاضحينِ: أمَّا التَّحريفُ الأوَّلُ: فهوَ تأويلُ قولهِ تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] بمنْ ملكوتهُ في السَّماءِ، يعني أنَّ الله تعالى ليسَ في السَّماءِ بلْ ملكوتهُ في السَّماءِ، وهذا تحريفٌ محضٌ؛ لأَنَّهُ خارجٌ عنْ لغةِ العربِ ولا يقتضيهِ سياقُ هذهِ الآيةِ البتةَ؛ فإنَّ كلمةَ «من» اسمُ موصولٍ بمعنى «الذي» والمرادُ هوَ الله تعالى وكلمةُ «في» بمعنى «على» و «السَّماء» هو «العلوُّ» فكلُّ ما علا فهو سماء، فكلمةُ «في» ليستْ للظرفيَّةِ، و «السَّماء» ليسَ المرادُ منهَا الفلكَ والجسمَ، بل المرادُ جهة العلوِّ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 102 - 106). (¬2) مدارك التنزيل وحقائق التأويل (4/ 222) للنسفي.

فمعنى هذه الآيةِ الكريمةِ عندَ سلفِ هذهِ الأمَّةِ وأئمَّةِ السنةِ: أمَا تخافونَ الله الذي هوَ على السَّماءِ العالي على خلقهِ وفوقَ عبادهِ أنْ يرسلَ عليكمْ حاصبًا، وأنْ يخسفَ بكمُ الأرضَ. ثمَّ سياقُ هذهِ الآيةِ وكلمةُ «منْ» الموصولةُ، وكلمةُ «يرسل» وكلمةُ «يخسف» معَ كثرةِ تلكَ الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويَّةِ وفطرةِ جميعِ بني آدمَ كلِّها تدلُّ دلالةً قاطعةً على أنَّ تأويلَ النَّسفيِّ لهذهِ الآيةِ تحريفٌ وهميٌ، كما تدلُّ على أنَّ الصحيحَ الحقَّ الصريحَ هو أنَّ الله تعالى في جهةِ العلوِّ فوقَ العالمِ عالٍ على خلقهِ أجمعين. وأمَّا التَّحريفُ الثاني: وهوَ قولُ النَّسفيِّ: إنَّ هذهِ الآيةَ محمولةٌ على زعمِ المشركينَ من المشبِّهةِ: أنَّ الله تعالى فوقَ السَّماءِ، فقالَ الله تعالى لهم: أنتم أيُّها المشركونَ المشبِّهونَ تعتقدونَ أنَّ الله تعالى في السَّماءِ، فلمَ لا تخافونهُ. أقولُ: قصدَ النَّسفيُّ أنَّ عقيدةَ كونِ الله تعالى في السَّماءِ، مِنَ العقائدِ الفاسدةِ للمشبِّهةِ المشركينَ، وليستْ هذهِ العقيدةُ مِنَ العقائدِ الصحيحةِ للموحِّدينَ المسلمينَ!!. وانظرْ أيُّها المسلمُ كيفَ حرَّفَ المصنِّفُ معنى هذهِ الآيةِ!! حتَّى جعلَ العقيدةَ السَّلفيةَ - أي العلوُّ لله تعالى - عقيدةً للمشبِّهةِ المشركينَ، فقدْ حكمَ على عقيدةِ جميعِ الأنبياءِ والمرسلينَ والصَّحابةِ والتَّابعينَ وأئمَّةِ هذا الدِّينِ - وهي عقيدةُ علوِّ الله تعالى على خلقهِ - بأنَّها عقيدةُ المشبِّهةِ المشركينَ. وقدْ ردَّ عليه علامةُ العراقِ الألوسيُّ المفسِّرُ حيثُ قالَ:

الشبهة الحادية عشرة لو كان تعالى فوق العرش لما صح القول بأنه تعالى قريب من عباده

«وقيلَ هو مبنيٌّ على زعمِ العربِ حيثُ كانوا يزعمونَ أنَّهُ سبحانهُ في السَّماءِ؛ فكأنَّهُ قيلَ: أأمنتم منْ تزعمونَ أنَّهُ في السَّماءِ. وهو متعالٍ عَنِ المكانِ!! وهذا في غايةِ السَّخافةِ، فكيفَ يناسبُ بناءُ الكلامِ في مثلِ هذا المقامِ على زعمِ بعضِ الجهلةِ، كما لا يخفى على المنصفِ» (¬1). ثمَّ ذكرَ الألوسيُّ عدةَ نصوصٍ لأئمَّةِ الإسلامِ على إقرارِ الصِّفاتِ لله تعالى ولا سيَّما صفةُ العلوِّ لهُ تعالى، وقالَ: «وأئمَّةُ السَّلفِ لم يذهبوا إلى غيرهِ تعالى». أقولُ: يعني الألوسيُّ: أنَّ معنى الآية عندَ السَّلفِ أأمنتم الله الذي في السَّماءِ أي في العلوِّ، بأنَّ المرادَ منْ قولهِ «من» هو اللهُ تعالى لا غيرُ. ثمَّ قالَ الألوسيُّ أيضًا: «وحديثُ الجاريةِ منْ أقوى الأدلَّةِ لهم في هذا البابِ، وتأويلهُ بما أوَّلَ بهِ الخلفُ خروجٌ عن دائرةِ الإنصافِ عندَ أولي الألبابِ» (¬2). وهذا كلامٌ في غايةِ الإنصافِ لمنْ فهمهُ (¬3). الشُّبْهَةُ الحَادِيَةُ عَشْرَةَ لوْ كانَ تعالى فوقَ العرشِ لما صحَّ القولُ بأنَّهُ تعالى قريبٌ منْ عبادهِ. والجوابُ على هذهِ الشُّبهةِ أنْ يقالَ: ليسَ فِي القرآنِ وصفُ الرَّبِّ بالقربِ منْ كلِّ شيءٍ أصلًا؛ بلْ قربهُ الّذي فِي القرآنِ خاصٌّ لا عامٌّ، كقولهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، فهوَ سُبْحَانهُ قريبٌ ممَّنْ دعاهُ. وهذا القربُ من الدَّاعي هوَ قربٌ خاصٌّ، لَيْسَ قربًا عامًّا منْ كلِّ أحدٍ؛ فهوَ قريبٌ منْ داعيهِ وقريبٌ منْ عابدهِ. ¬

_ (¬1) روح المعاني (29/ 15). (¬2) التنبيهات السنية (ص108 - 111). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (2/ 75).

عنْ أبي موسى الأشْعري رضي الله عنه قالَ: كنَّا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فارتفعت أصْواتنا بالتكبيرِ فقالَ: «أيُّها الناسُ ارْبَعُوا على أنْفُسِكم! إنكمْ ليسَ تدْعُونَ أصمَّ ولا غائبًا إنَّكم تدْعون سميعًا قريبًا وهو معكم أقْربُ إلى أحَدِكُم من عُنُقِ رَاحِلَتِهِ» (¬1). وذلكَ لأنَّ الله سبحانهُ قريبٌ منْ قلبِ الدَّاعي فهوَ أقربُ إليهِ منْ عنقِ راحلتهِ. فالمعنى يكونُ بتقريبهِ قلبِ الدَّاعي إليهِ، كما يقربُ إليهِ قلبُ السَّاجدِ؛ كما ثبتَ في «الصَّحيحِ»: «أَقْرَبُ ما يَكُونُ العَبْدُ من رَبِّهِ وهو سَاجِدٌ» (¬2). فالساجدُ إذا سجدَ يتقربُ قلبهُ وروحهُ إلى اللهِ تعالى، والسجودُ هو نهايةُ خضوعِ العبدِ وتواضعهُ، والعبد كلما تواضع رفعهُ الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» (¬3). فالمتواضُع للهِ: الَّذِي ذلَّ واستكان للهِ تعالى لا لخلقه يكون قلبه قريبًا من الله، فيرفعه اللهُ بذلكَ، فهو في الظاهرِ هابطٌ نازلٌ، وفي الباطن - وهوَ فِي الحَقِيقَةِ - صاعِدٌ عالٍ (¬4) كَما قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأسِهِ حَكَمَةٌ (¬5) بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلمَلَكِ: ارفَع حَكَمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلمَلَكِ: ضَع حَكَمَتَهُ» (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2992 و4202 و6384 و6409 و6610 و7386)، ومسلم (2704). (¬2) رواه مسلم (482). (¬3) قطعة من حديث رواه مسلم (2588). (¬4) بيان تلبس الجهمية (6/ 67 - 68) طبعة مجمع الملك فهد. (¬5) الحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه، وفيها العِذاران؛ وهما من الفرس كالعارضين من وجه الإنسان. (¬6) رواه الطبراني (12939)، وحسنه لغيره الألباني? في صحيح الترغيب والترهيب (2895).

فالسَّاجدُ يقربُ الرَّبُّ إليه فيدنو قلبهُ منْ ربِّهِ، وإنْ كانَ بدنهُ على الأرضِ. ومتى قربَ أحدُ الشيئينِ منَ الآخرِ صارَ الآخرُ إليهِ قريبًا بالضَّرورةِ. وإنْ قدِّرَ أنَّهُ لمْ يصدرْ منَ الآخرِ تحرُّكٌ بذاتهِ، كما أنَّ منْ قرُبَ منْ مكةَ قربتْ مكةُ منهُ. وقَالَ صلى الله عليه وسلم فيما يروي عنْ ربِّهِ عزَّ وجلَّ: «مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (¬1). فكلَّما تقرَّبَ العبدُ باختيارهِ قدرَ شبرٍ زادهُ الرَّبُّ قربًا إليهِ حتَّى يكون كالمتقرِّبِ بذراعٍ. فكذلكَ قربُ الرَّبِّ منْ قلبِ العابدِ، وهو ما يحصلُ في قلبِ العبدِ منْ معرفةِ الرَّبِّ والإيمانِ بهِ، وهوَ المثلُ الأعلى؛ وذلكَ أنَّ العبدَ يصيُر محبًّا لما أحبَّ الرَّبُّ، مبغضًا لما أبغضَ، مواليًا لمنْ يوالي؛ معاديًا لمنْ يعادي؛ فيتحدُ مرادهُ معَ المرادِ المأمورِ بهِ الذي يحبُّهُ الله ويرضاهُ (¬2). وقالَ صلى الله عليه وسلم: «أقربُ مَا يكونُ الرَّبُّ من العبدِ فِي جوفِ الليلِ الآخِرِ، فَإِنِ استطَعْتَ أن تكونَ ممن يذكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» (¬3). وليسَ هذا القربُ كقربِ الخلقِ المعْهودِ منهم، كما ظنَّهُ منْ ظنَّهُ مِنْ أهلِ الضَّلالِ؛ وإنَّما هوَ قربٌ ليسَ يشبهُ قربَ المخْلوقينَ، كما أنَّ الموصوفَ بهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬4)؛ بَلِ الرَّبُّ تعالى فوقَ سمواتهِ على عرشهِ، والعبدُ في الأرضِ (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2687). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 503 - 513). (¬3) رواه النسائي (572)، وصححه الألباني في «صحيح سنن النسائي» (557). (¬4) فتح الباري (3/ 116 - 117)، لابن رجب الحنبلي. (¬5) مدارج السالكين (3/ 272) [دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثانية].

وقال سبحانه وتعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقال عزَّ وجلَّ: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ *} [هود: 90]. ومعلومٌ أنَّ قولَهُ سبحانه وتعالى: {قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61] مقرونٌ بالتوبةِ والاستغفارِ، أرادَ بِهِ قريبٌ مجيبٌ لاستغفارِ المستغفرينَ التائبينَ إليهِ، كَمَا أنَّه رحيمٌ ودودٌ بهم، وقدْ قرنَ القريبُ بالمجيبِ. ومعلومٌ أنَّهُ لا يقالُ إنَّهُ مجيبٌ لكلِّ موجودٍ، وإنَّما الإجابةُ لمنْ سألهُ ودعاهُ، فكذلكَ قربهُ سبحانه وتعالى. وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. فذكَّر الخبرَ وهوَ «قريبٌ» عن لفظِ «الرَّحمةِ» وهيَ مؤنثةٌ، إيذانًا بقربهِ تَعَالَى مِنَ المحسنينَ؛ فكأنَّهُ قَالَ: إنَّ الله برحمتهِ قريبٌ مِنَ المحسنينَ. ويوضِّحُ ذَلِكَ: أنَّ الرَّحمةَ لمَّا كانتْ صفةً منْ صفاتِ الله تَعَالَى، وصفاتهُ قائمةٌ بذاتهِ؛ فإذا كانتْ قريبةً مِنَ المحسنينَ، فهوَ قريبٌ سُبْحَانهُ منهم قطعًا. فالرَّبُّ تبارك وتعالى قريبٌ مِنَ المحسنينَ ورحمتهُ قريبةٌ منهمْ وقربهُ يستلزمُ قربَ رحمتهِ. ففي حذفِ التَّاءِ هاهنا تنبيهٌ عَلَى هذهِ الفائدةِ العظيمةِ الجليلةِ وإنَّ الله تَعَالَى قريبٌ مِنَ المحسنينَ وذلكَ يستلزمُ القربينِ قربهُ وقربَ رحمتهِ. ولو قَالَ: إنَّ رحمةَ الله قريبةٌ مِنَ المحسنينَ، لم يدلَّ عَلَى قربهِ تَعَالَى منهم. وإنْ شئتَ قلتَ: قربهُ تباركَ وتعالى مِنَ المحسنينَ، وقربُ رحمتهِ منهم متلازمانِ لا ينفكُّ أحدهما عَنِ الآخرِ؛ فإذا كانتْ رحمتهُ قريبةً منهم، فهوَ أيضًا قريبٌ منهم، وإذا كان المعنيانِ متلازمينِ صحَّ إرادةُ كلِّ واحدٍ منهما.

الشبهة الثانية عشرة: كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان

فكانَ فِي بيانِ قربهِ سبحانه وتعالى مِنَ المحسنينَ مِنَ التَّحريضِ عَلَى الإحسانِ واستدعائهِ مِنَ النُّفوسِ وترغيبها فيه، غايةُ حظٍّ لها، وأشرفهُ، وأجلُّهُ عَلَى الإطلاقِ. وهو أفضلُ إعطاءٍ أعطيهُ العبدُ، وهو قربهُ تبارك وتعالى منْ عبدهِ. الّذي هو غايةُ الأماني، ونهايةُ الآمالِ، وقرَّةُ العيونِ، وحياةُ القلوبِ وسعادةُ العبدِ كلُّها. فكانَ فِي العدولِ عنْ قريبةٍ إِلَى قريبٍ من استدعاءِ الإحسانِ وترغيبِ النُّفوسِ فيهِ، مَا لا يتخلَّفُ بعدَهُ إلَّا منْ غلبتْ عَلَيهِ شقاوتهُ. وَلاَ قوَّةَ إلَّا بالله. فتبيَّنَ منْ هَذَا: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قريبٌ مِنَ المحسنينَ بذاتهِ ورحمتهِ قربًا لَيْسَ لهُ نظيرٌ وهوَ مَعَ ذَلِكَ فوقَ سماواتهِ عَلَى عرشهِ كَمَا أنَّهُ سُبْحَانهُ يقربُ منْ عبادهِ فِي آخرِ الليلِ وهوَ فوقَ عرشهِ ويدنو منْ أهلِ عرفةَ عشيّةَ عرفةَ وهوَ عَلَى عرشهِ؛ فإنَّ علوَّهُ سُبْحَانهُ عَلَى سماواتِهِ مِنْ لوازمِ ذاتهِ فلا يكونُ قطُّ إلَّا عاليًا، وَلاَ يكونُ فوقهُ شيءٌ البتّةَ كَمَا قَالَ أعلمُ الخلقِ: «وأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ» (¬1). الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ عَشْرَةَ قال عبدُ القاهر البغداديُّ: قال عليٌّ: كانَ اللهُ ولا مكانَ، وهوَ الآنَ على ما عليهِ كانَ (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 493)، وبدائع الفوائد (3/ 17 - 32)، ومختصر الصواعق (2/ 268 - 271). والجملة المذكورة قطعة من حديث: رواه مسلم (2713). (¬2) الفرق بين الفرق (ص321) [طبعة دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة الثانية].

الشبهة الثالثة عشرة: نقل القشيري عن جعفر الصادق قوله: من زعم أن الله في شيء أو على شيء فقد أشرك

والكلامُ المذكورُ كذبٌ مفترًى على عليٍّ رضي الله عنه، وقد اتَّفقَ أهلُ العلمِ بالحديثِ أنَّهُ موضوعٌ مختلقٌ مفترى، وليسَ هو في شيءٍ منْ دواوينِ الحديثِ لا كبارهَا ولا صغارهَا، ولا رواهُ أحدٌ منْ أهلِ العلمِ بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ، ولا بإسنادٍ مجهولٍ، وإنَّما تكلَّمَ بهذهِ الكلمةِ متأخرو الجهميَّةِ، فتلقَّاهُ مِنْ هؤلاءِ الذينَ وصلوا إلى آخرِ التجهُّمِ، وهوَ التَّعطيلُ والإلحادُ ... وهذهِ المقولةُ قصدَ بها المتكلِّمةُ الجهميَّةُ نفيَ الصِّفاتِ التي وصفَ بهَا نفسهُ منْ استواءهِ على العرشِ وغيرِ ذلكَ ... وهمْ دائمًا يهذونَ بهذهِ الكلمةِ في مجالسهمْ، وهي أجلُّ عندهمْ منْ قولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] ومنْ حديثِ الجاريةِ. الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ عَشْرَةَ قال القشيريُّ: «قال جعفرُ الصَّادقُ: مَنْ زعمَ أنَّ الله في شيءٍ أو منْ شيءٍ أو على شيءٍ فقدْ أشركَ؛ إذ لو كانَ على شيءٍ لكانَ محمولًا، أو كانَ في شيءٍ لكانَ محصورًا، أو كانَ من شيءٍ لكانَ محدثًا» (¬1). سبحانَ الله!! كيفَ قوبلَ هذَا الكلامُ بأعظمِ القبولِ، وقدِّمَ على الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويةِ الدَّالةِ على علوِّ الله على العرشِ. فليسَ الدينُ بكثرةِ الكلامِ ولكنْ بالهدى والسدادِ. والكلامُ على الأثرِ المذكورِ منْ وجهينِ: الأوَّلُ: هذَا الكلامُ وأشباهُه ممَّا اتَّفَقَ أهلُ المعرفةِ على أنَّهُ مكذوبٌ عنْ جعفرٍ، والكذبُ على جعفر كثيرٌ منتشرٌ. والذي نقلهُ العلماءُ الثقاتُ عنهُ معروفٌ، يخالفُ روايةَ المفترينَ عليهِ (¬2). الثاني: ¬

_ (¬1) الرسالة القشيرية (1/ 40 - 41). (¬2) الاستقامة (1/ 191).

الشبهة الرابعة عشرة: كلام للزرقاني في مناهل العرفان والرد عليه

أنَّ المعاني المذكورةَ فيهِ صحيحةٌ إلَّا قولهُ «أو على شيءٍ» ففيهِ مصادمةٌ لقولهِ تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] فإنَّ استواءَ الرَّبِّ سبحانه بغيرِ كيفيَّةٍ كما قالَ الإمامُ مالكٍ وغيرهُ. وجلَّ الله سبحانهُ أنْ يكونَ محمولًا أو محصورًا؛ بلْ جميعُ الخلقِ محمولونَ بقدرتهِ محصورونَ في قبضتهِ. تعالى الله عمَّا يقولُ المعطِّلة والمشبِّهةُ علوًّا كبيرًا (¬1). الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ عَشْرَةَ قال الزرقانيُّ: إذا كنتم تأخذونَ بظواهرِ النُّصوصِ على حقيقتها، فماذا تفعلونَ بمثلِ قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، مَعَ قولهِ تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3]؟ أتقولونَ: إنَّهُ في السَّماءِ حقيقةً؟ أم في الأرضِ حقيقةً؟ أمْ فيهما معًا حقيقةً؟ وإذا كانَ في الأرضِ وحدهَا حقيقةً فكيفَ تكونُ لهُ جهةُ فوق ولا يقالُ: لهُ جهةُ تحت؟ ولماذا يشارُ إليهِ فوق ولا يشارُ إليهِ تحت؟ (¬2). إنَّ هذا الكلامَ أشبهُ بكلامِ أهلِ الجهلِ والضَّلالِ، ومنْ لا يدري ما يخرجُ منهُ منَ المقالِ، منْ كلامِ أهلِ العقلِ والعلمِ والبيانِ، وهوَ أشبهُ بكلامِ جهَّالِ القصَّاصِ والمغالطينَ، منْ كلامِ العلماءِ المجادلينَ بالحقِّ (¬3). ¬

_ (¬1) تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدارسي والحلبي (ص28 - 29). (¬2) مناهل العرفان (2/ 316)، طبعة دار الكتب العلمية - الأولى. (¬3) بيان تلبيس الجهمية (1/ 369 - 370).

فهوَ يحاولُ إثباتَ التناقضِ في آياتِ القرآنِ ليدعمَ بتعطيلهِ وإنكارهِ لصفَّةِ علوِّ الله تعالى، وإلَّا فالجوابُ واضحٌ، ولا تناقضٌ ولا اضطرابٌ في كلامِ الله تعالى، لأننا نقولُ: إنَّهُ لا شكَّ: أنَّ الله تعالى في السماء، أي على السماء، ولا نقول: إنَّه في الأرض. كما لا نقول: إنَّهُ فيهما. ولا نقول أيضًا: إنَّه يشارُ إليهِ إلى التحتِ. كما لا نقولُ: إنَّهُ يشارُ إليهِ إلى التحتِ والفوق جميعًا. بل نقولُ: إنَّهُ فوقَ العالمِ عالٍ على خلقهِ، ويشارُ إليهِ إلى جهةِ الفوقِ سبحانه وتعالى. ولا يناقضُ ذلكَ قولهُ تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] (¬1). فإنَّ معنى الآيةِ كما قالَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله: هوَ إلهُ منْ في السّماواتِ وإلهُ منْ في الأرضِ، وهو على العرشِ وقدْ أحاطَ علمهُ بما دونَ العرشِ، ولا يخلو منْ علمِ الله مكانٌ. ولا يكونُ علمُ الله في مكانٍ دونَ مكانٍ، فذلكَ قولهُ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] (¬2). قالَ الآجُرِيُّ رحمه الله: ومما يُلبِّسونَ بهِ على منْ لا علمَ معهُ احتجوا بقولهِ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] وبقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. وهذا كلُّهُ إنَّما يطلبونَ بهِ الفتنةَ، كمَا قالَ الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. ¬

_ (¬1) التنبيهات السنية (ص200 - 201). (¬2) الرد على الجهمية (ص39) [المطبعة السلفية - القاهرة، الطبعة الأولى].

الشبهة الخامسة عشرة: كلام في كتاب حسن المحاججة والرد عليه

وعندَ أهلِ العلمِ منْ أهلِ الحقِّ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ *} [الأنعام: 3] فهوَ كما قالَ أهلُ العلمِ ممَّا جاءتْ بهِ السُّننُ: إنَّ الله عزَّ وجلَّ على عرشهِ، وعلمهُ محيطٌ بجميعِ خلقهِ، يعلمُ ما تسرُّونَ وما تعلنونَ، يعلمُ الجهرَ منَ القولِ ويعلمُ ما تكتمونَ. وقولهُ عزَّ وجلَّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] فمعناه: أنَّه جلَّ ذكرهُ إلهُ منْ في السَّمواتِ، وإلهُ منْ في الأرضِ، إلهٌ يعبدُ في السَّموات، وإلهٌ يعبدُ في الأرضِ، هكذا فسَّرهُ العلماءُ (¬1). الشُبْهَةُ الخَامِسَةُ عَشْرَةَ قالَ صاحبُ كتابِ حسن المُحَاجَجَة (¬2): إذا كانَ الله تعالى - عندكم - فوقَ العالمِ بائنًا منهُ خارجًا منهُ فهوَ - إذًا - إمَّا أنْ يكونَ مماسًّا للعالمِ أو منفصلًا عنهُ، فإنْ قلتم: إنَّهُ مماسُّ للعالمِ فأنتم مبتدعةٌ مجسمةٌ. وإنْ قلتم: إنَّهُ منفصلٌ عَنِ العالمِ - فيقالُ - إذن - توجدُ المسافةُ بيَن العالمِ وبيَن الله تعالى فهذهِ المسافةُ إنْ كانتْ عدميَّةً فصارَ الله مماسًّا بالعالمِ، وإنْ كانتْ وجوديَّةً فهي جزءٌ مِنَ العالمِ، فيلزم أنَّ الله منفصلٌ عَنِ العالمِ بجزءٍ مِنَ العالم. والجوابُ أنْ يقالَ: إنَّ السَّلفَ قالوا: إنَّ اللهَ تعالى فَوْقَ العالَمِ بائنٌ عنهُ وهذا القدرُ كافٍ في العقيدةِ، ولم يخوضوا في المسافةِ، هلْ بينَ الله وبيَن العالمِ مسافةٌ أمْ لا، وكمْ مقدارُ هذهِ المسافةِ وهلْ تلكَ المسافةُ جزءٌ منَ العالمِ أمْ لا؟ وذلكَ لوجهينِ: الأولُ: خشيةَ الدخولِ في الكيفِ. والثاني: خشيةَ الدخولِ في دائرةِ الغيبِ بدونِ خبرٍ منَ الله تعالى. ¬

_ (¬1) الشريعة (ص1072 - 1105)، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي. (¬2) (ص14).

فالواجبُ على المسلمِ أنْ يعتقدَ أنَّ الله تعالى فوقَ العرشِ وقاهرٌ فوقَ عبادهِ عالٍ على الكونِ بائنٌ عنْ خلقهِ، ولا يدخلُ في الكيفِ. وإننا نعلمُ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ: أنَّ الموجودَ موجودانِ: خالقٌ ومخلوقٌ. فالله تعالى بذاتهِ وصفاتهِ خالقٌ، وما سواهٌ عالمٌ - وهوَ الكونُ - وهوَ مخلوقٌ والله تعالى فوقَ الكونِ بائنٌ عنْ خلقهِ. فليسَ وراءَ هذا الكونِ شيءٌ موجودٌ غير الله تعالى لا المسافةُ ولا غيرهَا. فالذي يُنْكِرُ علوَّ الله تعالى على خلقهِ بشبهةِ المسافةِ. فهُوَ المُشَبِّهُ في الحَقِيقَةِ أَوَّلًا؛ لأنَّهُ قدْ شبَّهَ فوقيَّةَ الله تعالى، بفوقيَّةِ رجلٍ على سطحِ بيتهِ، ولذلكَ دخلَ في المسافةِ وكيفيَّتها. ثُمَّ هُوَ المُعَطِّلُ ثَانِيًا؛ لأنَّهُ عطَّلَ صفةَ علوِّ الله تعالى خشيةَ المسافةِ. ثُمَّ هُوَ المُشَبِّهُ ثَالِثًا؛ لأنَّهُ قدْ وقعَ في أشنعِ ممَّا فرَّ منهُ وهو خوفُ الوقوعِ في التَّشبيهِ. لأنَّهُ لمَّا عطَّلَ صفةَ علوِّ الله تعالى خشيةَ التَّشبيهِ وقالَ: إنَّ الله لا داخلَ العالمِ ولا خارجهُ ولا فوقهُ ولا تحتهُ؛ شبَّهَ الله تعالى بالمعدومِ بل بالممتنعِ (¬1). فتبًّا لذوي العقولِ الخائضةِ، والقلوب المعطِّلةِ، والنَّفوسِ الجاحدةِ، فما قدروا الله حقَ قدرهِ، والأرضُ جميعًا قبضتهُ يومَ القيامةِ، والسماواتُ مطوياتٌ بيمينهِ سبحانه وتعالى عمَّا يشركون. فاسمعْ وتعقَّلْ ما يقالُ لكَ وتدبَّرْ ما يلقى إليكَ، والجأ إلى الإيمانِ بالغيبِ، فليسَ الخبرُ كالمعاينة. ودعِ المكابرةَ والمراءَ، فإنَّ المراءَ في القرآنِ كفرٌ، ما أنا قلتهُ بلِ المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله (¬2). ¬

_ (¬1) التنبيهات السنية (ص395 - 400). (¬2) انظر: مختصر العلو (ص100).

الشبهة السادسة عشرة: الاستواء فعل حادث - كان بعد أن لم يكن - فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث، وإن قيام الحوادث بذاته تغير والله منزه عن التغير

الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ عَشْرَةَ كان في الأزلِ ليسَ مستويًا على العرشِ، وهو الآن على ما عليه كانَ، فلا يكونُ على العرش؛ لأنَّ الاستواءَ فعلٌ حادثٌ - كانَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ - فلو قامَ بهِ الاستواءُ لقامتْ بهِ الحوادثُ، وإنَّ قيامَ الحوادثِ بذاتهِ تغيُّرٌ والله منزَّهٌ عنِ التغيُّرِ. ينبغي أن يعلمَ بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ إذا قالوا: «لا تحلُّهُ الحوادثُ» أوهموا النَّاسَ أنَّ مرادهم أنَّهُ لا يكونُ محلًا للتغيراتِ والاستحالاتِ ونحو ذلكَ منَ الأحداثِ التي تحدثُ للمخلوقينَ فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلكَ أنَّهُ لا ينزلُ إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يأتي يومَ القيامةِ ولا يجيءُ، ولا يغضبُ بعدَ أنْ كانَ راضيًا، ولا يرضى بعدَ أنْ كانَ غضبانَ، ولا يقومُ بهِ فعلٌ البتةَ، ولا أمرٌ مجددٌ بعدَ أنْ لمْ يكنْ، ولا استوى على عرشهِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مستويًا عليهِ، ولا يغضبُ يومَ القيامةِ غضبًا لمْ يغضبْ قبلهُ مثلهُ، ولنْ يغضبَ بعدهُ مثلهُ، ولا ينادي عبادهُ يومَ القيامةِ بعدَ أنْ لمْ يكنْ مناديًا لهم، فإنَّ هذهِ كلَّها حوادثُ، وهو منزَّهٌ عنْ حلولِ الحوادثِ (¬1)؛ فإنَّ هذا مِنَ اللبسِ والتلبيسِ، وتسميةِ المعاني الصحيحةِ الثابتةِ بالأسماءِ القبيحةِ المنفِّرةِ، وتلكَ طريقةٌ للنُّفاةِ مألوفةٌ وسجيةٌ معروفةٌ (¬2). والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ - التي هيَ أوهنُ منْ بيتِ العنكبوتِ - منْ وجوهٍ: الأولُ: ¬

_ (¬1) الصواعق المرسلة (ص935 - 936). (¬2) الصواعق المرسلة (ص1500).

منْ قالَ لكم إنَّ الحادثَ لا يقومُ إلَّا بحادثٍ. منْ أينَ جاءتْ هذهِ القاعدةُ؟ هلْ هيَ في القرآنِ الكريمِ؟ هلْ هيَ في السنَّةِ المطهَّرةِ؟ هلْ هيَ في العقلِ؟ وكلُّ منْ أمعنَ النَّظرَ وفهمَ حقيقةَ الأمرِ علمَ أنَّ السَّلفَ كانوا أعمقَ منْ هؤلاءِ علمًا، وأبرَّ قلوبًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأنَّهم فهموا منْ حقائقِ الأمورِ ما لمْ يفهمهُ هؤلاءِ، الذين خالفوهم، وقبلوا الحقَّ وردُّوا الباطلَ ومنْ هداهُ الله سبحانه وتعالى أيقنَ فسادَ هذا الكلامِ (¬1). الوجهُ الثاني: إننا نقابلُ هذهِ القاعدةِ الفاسدةِ بقاعدةٍ أكملَ منهَا وأوضحَ وهوَ: أنَّ الفعَّالَ لما يريدُ أكملُ منَ الذي لا يفعلُ. والله سبحانه وتعالى يفعلُ ما يشاءُ، والله يحدثُ ما يشاءُ، لا معقِّبَ لحكمهِ، فمَا منْ فعلٍ يفعلهُ إلَّا وقدْ حدثَ بعدَ أنْ لمْ يكنْ. وأنتم إذا عطَّلتم الله عزَّ وجلَّ عنِ الأفعالِ الإختياريةِ - كالاستواءِ والنزولِ والضحكِ والفرحِ والغضبِ - معنى ذلك: وصفتموهُ بأنقص ما يكونُ «والكَمَالُ في اتِّصَافِهِ بهذه الصِّفَاتِ؛ لا في نَفْي اتِّصَافِهِ بها» (¬2). قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «اللهُ سبحانهُ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، منزَّهٌ عنِ النَّقائصِ، وكلُّ كمالٍ وُصِف بهِ المخلوقُ منْ غيرِ استلزامهِ لنقصٍ فالخالقُ أحقُّ بهِ، وكلُّ نقصٍ نُزِّهَ عنهُ المخلوقُ فالخالقُ أحقُّ بأنْ ينزَّهَ عنهُ، والفعلُ صفةُ كمالٍ لا صفةَ نقصٍ، كالكلامِ والقدرَةِ، وعدمُ الفعلِ صفةُ نقصٍ، كعدمِ الكلامِ وعدمِ القدرةِ، فدلَّ العقلُ على صحةِ ما دلَّ عليهِ الشَّرعُ، وهوَ المطلوبُ» (¬3). وقال ابنُ القيِّم رحمه الله: ¬

_ (¬1) انظر: النبوات (ص79)، وشرح حديث النزول (ص417)، ودرء التعارض (1/ 39، 40، 98) و (3/ 454). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 242). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (2/ 6).

وَالرَّبُّ لَيْسَ مُعَطَّلًا عَنْ فِعْلِهِ ... بَلْ كُل يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَانِ (¬1) الوجهُ الثالثُ: «لفظُ التغيُّرِ لفظٌ مجملٌ. فالتغيُّر في اللغةِ المعروفةِ لا يرادُ بهِ مجرَّد كون المحلِّ قامتْ بهِ الحوادثُ» (¬2)؛ بلْ إنَّ لفظَ التغيُّرِ في كلامِ النَّاس المعروفِ: يتضمَّنُ استحالةَ الشيءِ. والنَّاسُ إنَّما يقولونَ تغيَّر: لمنِ استحالَ منْ صفةٍ إلى صفةٍ. فالإنسانُ مثلًا: إذا مرضَ، وتغيَّرَ في مرضهِ؛ كأن اصفرَّ لونهُ أو شحبَ، أو نحلَ جسمهُ: يقالُ: غيَّرهُ المرضُ. وكذا إذا تغيَّر جسمهُ بجوعٍ أو تعبٍ، قيلَ قد تغير. وكذا إذا غيَّرَ لونَ شعرِ رأسهِ ولحيته؛ قيلَ قد غير ذلكَ. وكذا إذا تغيَّر خلقهُ ودينهُ؛ مثل أنْ يكونَ فاجرًا فيتوبُ، ويصيرُ برًّا. أو يكون برًا، فينقلبُ فاجرًا. فهذا يقالُ عنهُ: إنَّهُ قد تغيَّر. ومنْ هذا البابِ، قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما أُتيَ بأبي قحافةَ، ورأسهُ ولحيتهُ كالثَّغامة: «غيِّروا هذا بشيءٍ، واجْتَنِبُوا السَّوادَ» (¬3). وكذا الشمسُ إذا اصفرَّت، قيلَ: تغيَّرت. ويقالُ: وقتُ العصرِ ما لم يتغيَّر لونُ الشمسِ. والأطعمةُ إذا استحالَ لونها أو ريحهَا؛ يقالُ: تغيَّرت أيضًا. يقولُ الله سبحانه وتعالى عَنِ الجنَّةِ ونعيمهَا: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]. فاللبنُ يتغيَّر طعمهُ منَ الحلاوةِ إلى الحموضةِ، ونحو ذلكَ. والماءُ الكثيرُ إذا وقعت النجاسةُ فيهِ لم ينجس، إلَّا أنْ يتغيَّر طعمهُ أو لونهُ أو ريحهُ، وقولهم: إذا نجسَ الماءُ بالتغيُّر زالَ بزوالِ التغير. ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص90). (¬2) جامع الرسائل (2/ 44)، وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 249). (¬3) أخرجه مسلم (1663).

«وكذلكَ يقالُ: فلانٌ قد تغيَّر على فلانٍ إذا صارَ يبغضهُ بعدَ المحبةِ، فإذا كان ثابتًا على مودتهِ لمْ يسم هشتهُ إليهِ وخطابهُ لهُ تغيُّرًا. وإذا جرى على عادتهِ في أقوالهِ وأفعالهِ فلا يقالُ أنَّهُ قدْ تغيَّر، قالَ الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ومعلومٌ أنَّهم إذا كانوا على عادتهم الموجودةِ يقولونَ ويفعلونَ ما هو خيرٌ لم يكونوا قد غيَّروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عنْ ذلكَ فاستبدلُّوا بقصدِ الخيِر قصدَ الشرِّ، وباعتقادِ الحقِّ اعتقادَ الباطلِ، قيلَ: قدْ غيَّروا بأنفسهم، مثل منْ كانَ يحبُّ الله ورسولَهُ والدَّارَ الآخرةَ فتغيَّر قلبهُ وصارَ لا يحبُّ الله ورسولهُ والدَّارَ الآخرة، فهذا قد غيَّر ما في نفسه» (¬1). والمقصودُ أنَّ مثلَ هذهِ الأمور يقالُ لها تغيُّرٌ. أمَّا ما يقومُ بالإنسانِ منْ أفعالٍ: كتكلمهِ، ومشيهِ، وقيامهِ، وقعودهِ، وطوافهِ، وصلاتهِ، وركوبهِ، وأمرهِ، ونهيهِ، فلا يقالُ إنَّ هذا تغيُّرٌ. فالنَّاسُ لا يقولونَ للإنسان إذا كانتْ عادتهُ أنْ يقرأ القرآنَ ويصلِّي الخمسَ أنَّهُ كلَّما قرأ وصلَّى: قدْ تغيَّر، وإنِّما يقولونَ ذلكَ لمنْ لمْ تكنْ عادتهُ هذهِ الأفعال، فإذا تغيَّرت صفتهُ وعادتهُ قيلَ: إنَّهُ قدْ تغيَّر. وكذلكَ النَّاسُ لا يقولونَ للشمسِ والكواكبِ إذا كانتْ ذاهبةً مِنَ المشرقِ إلى المغربِ: إنَّها متغيَّرةٌ. ولا يقولونَ: للماءِ إذا جرى معَ بقاءِ صفائهِ أنَّهُ تغيَّرَ. ¬

_ (¬1) جامع الرسائل (2/ 45)، وانظر: مجموع الفتاوى (6/ 249 - 250)، ودرء تعارض العقل والنقل (3/ 74 - 75).

ولا يقالُ عندَ الإطلاقِ للفاكهةِ والطعامِ إذا حُوِّلَ منْ مكانٍ إلى مكانٍ: أنَّهُ تغيَّرَ. ويقولونَ: تغيَّرَ الهواءُ، إذا بردَ بعدَ السخونةِ، ولا يكادونَ يسمُّونَ مجرَّدَ هبوبهِ تغيُّرًا، وإنْ سمِّي بذلكَ فهم يفرِّقونَ بينَ هذا وهذا. ولهذا لمْ يطلقْ على الصفةِ الملازمةِ للموصوفِ أنَّها مغايرةٌ لهُ، لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يستحيلَ عنهَا ولا يزايل. والنَّاسُ إذا قيلَ لهم: التغيُّرُ على الله ممتنعٌ، فهموا منْ ذلكَ الاستحالةَ والفسادَ، مثلَ انقلابِ صفاتِ الكمالِ إلى صفاتِ نقصٍ، أو تفرُّقِ الذاتِ، ونحو ذلكَ ممَّا يجبُ تنزيهُ الله عنهُ. واللهُ أَجَلُّ وأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَخْطُرَ بِقُلُوبِ المُؤْمِنِينَ قيامُ القَبَائِحِ والآفَّاتِ والعُيوبِ به سبحانه وتعالى (¬1). وأمَّا كونهُ سبحانهُ يتصرَّفُ بقدرتهِ، فيخلقُ، ويستوي، ويفعلُ ما يشاءُ بنفسهِ، ويتكلَّمُ إذا شاءَ، ونحو هذا، فهذا لا يسمُّونهُ تغيُّرًا. فإنَّ صفةَ الموصوفِ اللازمةِ لهُ لا تُسمَّى تغيُّرًا. فالرَّبُّ تعالى لمْ يزلْ ولا يزالُ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، منعوتًا بنعوتِ الجلالِ والاكرامِ، وكمالهُ منْ لوازمِ ذاتهِ، فيمتنعُ أنْ يزولَ عنهُ شيءٌ منْ صفاتِ كمالهِ، ويمتنعُ أن يصيَر ناقصًا بعدَ كمالهِ. و «هذا الأصلُ» عليهِ قولُ السلفِ، وأهلُ السنَّةِ: أنَّهُ لمْ يزلْ موصوفًا بصفاتِ الكمالِ، ولا يزالُ كذلكَ، فلا يكونُ متغيِّرًا، وهذا معنى قولِ منْ يقولُ: يا مَنْ يغيِّر، ولا يتغيَّر! (¬2). وذكرَ البخاريُّ عنْ نُعيم بنِ حَمَّاد أنَّهُ قالَ: إنَّ العَرَبَ لا تعرف الحَيَّ من المَيِّتِ إلَّا بالفِعْلِ، فَمَنْ كان له فعلٌ فهو حَيٌّ، ومَنْ لم يَكُنْ له فِعْلٌ فهو مَيِّتٌ (¬3). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (2/ 239). (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 249 - 250). (¬3) خلق أفعال العباد (ص117)، تحقيق: بدر البدر.

ولكن حججَ النُّفاةِ مبناها على ألفاظٍ مجملةٍ موهمة، كما قالَ الإمامُ أحمدُ: يَتَكَلَّمُونَ بالمُتَشَابَهِ من الكَلاَمِ، ويلَبِّسونَ على جُهَّالِ النَّاسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، حتى يَتَوَهَّمَ الجاهلُ أنهم يُعَظِّمونَ اللهَ، وهم إنَّما يقودهم قولُهم إلى فِرْيَةٍ على اللهِ (¬1). فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ أنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «قدْ خالفوا صريحَ المعقولِ، وسلبوا الكمالَ عمَّنْ هوَ أحقُّ بالكمالِ منْ كلِّ ما سواهُ، ولمْ يكفهمْ ذلكَ حتَّى جعلوا الكمالَ نقصًا، وعدمهُ كمالًا، فعكسوا الأمرَ، وقلبوا الفطرَ، وأفسدوا العقولَ، فتأمَّل شبههم الباطلة، وخيالاتهم الفاسدة التي عارضوا بها الوحي هلْ تقاومُ الأدلَّةَ الدَّالَّةَ على إثباتِ العلوِّ والفوقيَّةِ للرَّبِّ سبحانه وتعالى؟ ثمَّ اخترْ لنفسكَ بعدُ ما شئتَ» (¬2). وفي ختامِ الرّدِّ على الشُّبهاتِ نقولُ: إنَّ النُّصوصَ الدَّالَّةَ على علوِّ الله على خلقهِ كثيرةٌ منتشرةٌ، قد بهرت المتكلِّمين بكثرتها وقوَّتها، وليس معهم في نفي ذلكَ، لا عقلٌ صريحٌ، وَلاَ نقلٌ صحيحٌ. فهم يظنُّون أنَّ معهم عقلياتٍ، وإنَّما معهم جهلياتٌ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [النور: 39] فهمْ لا يرجعونَ في قولهم إلى آيةٍ مِنَ التنزيلِ محكمةٌ، ولا روايةٌ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم صحيحةٌ، فارقوا الدَّليلَ واتَّبعوا أهواءَ قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عنْ سواءِ السَّبيل (¬3). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (4/ 72 - 75). (¬2) انظر: الصواعق (ص917). (¬3) إغاثة اللهفان (ص127).

الرد على من ادعى المجاز بالفوقية بفوقية القدر والرتبة

ونسأله سبحانه وتعالى أنْ لا يبتلينا بما ابتلاهم بهِ منْ مفارقةِ المنقولِ والمعقولِ وتلقِّي العلمِ واليقينِ منْ غيرِ مشكاةِ الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). * * * الردُّ على منِ ادَّعى المجازَ بالفوقيَّةِ بفوقيَّةِ القَدْرِ والرُّتْبَةِ اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ المعطِّلةَ ادَّعوْا أنَّ علوَّ الله سبحانه وتعالى مجازٌ فِي فوقيَّة الرُّتبةِ والقهرِ والقدْرِ كَمَا يقالُ: الذهبُ فوقَ الفضَّة، والأميرُ فوقَ الوزيرِ، والدينارُ فوقَ الدرهمِ، والمسكُ فوقَ العنبرِ أي في القيمةِ والقدرِ. قال ابنُ القيِّم رحمه الله: وَالفَوْقُ وَصفٌ ثَابِتٌ بِالذَّاتِ مِنْ ... كُلِّ الوُجُوهِ لِفَاطِرِ الأكْوَانِ لَكِن نُفَاةَ الفَوْقِ مَا وَافُوا بِهِ ... جَحَدُوا كَمَالَ الفَوْقِ لِلدَّيَّانِ بَلْ فَسَّرُوهُ بِأن قَدْرَ الله أعْـ ... ـلَى لاَ بِفَوْق الذَّات للِرَّحْمَنِ قَالُوا وَهَذَا مِثْل قَوْلِ النَّاسِ فِي ... ذَهَبٍ يُرَى مِن خَالِص العِقْيَانِ هُو فَوْقَ جِنْسِ الفِضةِ البَيْضَاء لاَ ... بِالذَّاتِ بَلْ فِي مُقْتَضَى الأثْمَانِ وَالفَوْقُ أنْوَاع ثَلاَث كُلُّهَا ... لله ثَابِتةٌ بِلاَ نُكْرَانِ هَذَا الذِي قَالُوا وَفَوْقُ القَهْرِ وَالْـ ... فَوْقِيةُ العُلْيَا عَلَى الأكْوَانِ (¬2) وعلوُّ القدرِ والقهرِ وإنْ كان ثابتًا للرَّبِّ سبحانه وتعالى لكنَّ إنكارَ حقيقةِ فوقيَّته سبحانه وتعالى وحملهَا عَلَى المجازِ باطلٌ منْ وجوهٍ عديدةٍ: أحدُها: أنَّ الأصلَ الحقيقةُ والمجازُ على خلافِ الأصْلِ. والقولُ بالمجازِ في الصِّفاتِ، يفضي بصاحبهِ إلى تكذيبِ النُّصوصِ الصَّريحةِ الصَّحيحةِ المحكمةِ، المفهومةِ اللَّفظِ، المعقولةِ المعنى. ¬

_ (¬1) الصواعق (ص1019). (¬2) الكافية الشافية (ص106).

قالَ أبو عمرو الدانيُّ رحمه الله: «كُلُّ ما قالَهُ اللهُ تعالى، فعلى الحقيقةِ، لا على المجازِ، ولا تُحْمَلُ صِفَاتُ اللهِ تعالى على العُقُولِ والمَقَايِيسِ، ولا يُوصَفُ إلَّا بما وَصَفَ به نَفْسَهُ أو وَصَفَهُ به نَبِيُّهُ، أو أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عليهِ» (¬1). وقال ابنُ عبد البرِّ رحمه الله: «أهلُ السُّنةِ مجمعونَ على الإقرارِ بالصِّفاتِ الواردةِ كلِّها في القرآنِ والسُّنَّةِ والإيمانِ بها وحملهَا على الحقيقةِ لا على المجازِ إلَّا أنَّهم لا يكيِّفونَ شيئًا منْ ذلكَ» (¬2). قالَ الذهبيُّ معقبًا: صدقَ والله، فإنَّ منْ تأوَّلَ سائرَ الصفاتِ، وحملَ ما وردَ منها على مجازِ الكلامِ، أدَّاهُ ذلكَ السلبُ إلى تعطيلِ الرَّبِّ، وأنْ يُشابه المعدومَ، كما نُقِلَ عنْ حماد بن زيد أنَّهُ قال: «مثَلُ الجهميَّةِ، كقومٍ قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعفٌ؟ قالوا: لا، قيلَ: فلها كَرَبٌ؟ قالوا: لا، قيل: لها رطبٌ وقِنْوٌ؟ قالوا: لا، قيلَ: فلها ساقٌ؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة» (¬3). (قلت): كذلكَ هؤلاء النُّفاة قالوا: إلهنا الله تعالى، وهو لا في زمانٍ ولا في مكانٍ، ولا يرى ... وقالوا: سبحانَ المنزَّه عن الصفاتِ! بلْ نقولُ: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد، الذي كلَّمَ موسى تكليمًا، واتخذَ إبراهيمَ خليلًا، ويُرى في الآخرة، المتَّصف بما وصفَ بهِ نفسهُ، ووصفه بهِ رسله، المنزَّه عنْ سماتِ المخلوقينَ، وعنْ جحدِ الجاحدينَ، ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميع البصير (¬4). ¬

_ (¬1) الرسالة الوافية (ص254 - 255). (¬2) التمهيد (7/ 145). (¬3) أخرجه ابن شاهين في الكتاب اللطيف (ص79) وذكره الأصبهاني في «الحجة» (1/ 441). (¬4) العلو (2/ 1326 - 1327).

وقالَ الحافظُ الإمامُ أبو أحمد بن علي بن محمد القصَّاب رحمه الله (400هـ): «كلُّ صِفَةٍ وَصَفَ اللهُ بها نفسَه، أو وَصَفَهُ بها نبيُّه، فهي صفةٌ حقيقيةٌ لا مجازًا» (¬1). قال الذهبيُّ رحمه الله معقِّبًا: «نعمْ لوْ كانتْ صفاتُه مجازًا لَتَحَتَّمَ تأويلُهَا ولقيلَ: معنى البصرِ كذا، ومعنى السَّمعِ كذا، ومعنى الحياةِ كذا، ولفُسِّرَت بغيرِ السَّابقِ إلى الأفهامِ، فلمَّا كانَ مذهبُ السَّلفِ إمرارهَا بلا تأويلٍ عُلِمَ أنَّها غيرُ محمولةٍ على المَجَازِ وأنَّها حَقٌّ بَيِّنٌ» (¬2). وقال رحمه الله: «إنَّ النُّصوصَ في الصفاتِ واضحةٌ، ولو كانتِ الصفاتُ تُردُّ إلى المجازِ، لبطلَ أنْ تكونَ صفاتٍ لله، وإنَّما الصفةُ تابعةٌ للموصوفِ، فهو موجودٌ حقيقةً لا مجازًا، وصفاتهُ ليستْ مجازًا، فإذا كانَ لا مثلَ لهُ ولا نظيرَ لزمَ أنْ يكونَ لا مِثْلَ لها» (¬3). ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 338 - 339). (¬2) تذكرة الحفاظ (3/ 338 - 339). (¬3) العلو (2/ 1304).

الوجه الثاني

الثاني: معلومٌ باتِّفاقِ العقلاءِ: أنَّ المخاطبَ المبيِّنَ إذا تكلَّمَ بالمجازِ المخالفِ للحقيقةِ، والباطنِ المخالفِ للظاهرِ، فلا بدَّ أنْ يقرِنَ بخطابهِ ما يدلُّ على إرادةِ المعنى المجازيِّ؛ فإذا كانَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم - الذي بعثَ بأفصحِ اللُّغاتِ وأبينِ الألسنةِ والعباراتِ - المبلِّغُ المبيِّنُ الذي بيَّنَ للنَّاسِ ما نزِّلَ إليهم تكلَّمَ بالكلامِ الذي يفهمُ منهُ معنًى وأعادهُ مرَّاتٍ كثيرةٍ؛ وخاطبَ بهِ الخلقَ كلَّهم وفيهم الذكيُّ والبليدُ، والفقيهُ وغيرُ الفقيهِ، وقدْ أوجبَ عليهم أنْ يتدبَّروا ذلكَ الخطابَ ويعقلوهُ، ويتفكَّروا فيه ويعتقدوا موجبهُ، ثمَّ أوجبَ أنْ لا يعتقدوا بهذا الخطابِ شيئًا منْ ظاهرهِ (¬1)؛ وهو «يعلمُ أنَّ المرادَ بالكلامِ خلافُ مفهومهِ ومقتضاهُ، كانَ عليهِ أنْ يقرِنَ بخطابهِ ما يصرفُ القلوبَ عنْ فهمِ المعنى الذي لم يردْ؛ لا سيَّما إذا كانَ باطلًا لا يجوزُ اعتقادهُ في الله، فإنَّ عليهِ أنْ ينهاهم عنْ أنْ يعتقدوا في الله ما لا يجوزُ اعتقادهُ إذا كان ذلكَ مخوفًا عليهم؛ ولوْ لمْ يخاطبهمْ بما يدلُّ على ذلكَ، فكيفَ إذا كانَ خطابهُ هو الذي يدلُّهم على ذلكَ الاعتقادِ الذي تقولُ النُّفاةُ: هو اعتقادٌ باطلٌ؟!. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 355 - 362).

الوجه الثالث

فكيفَ يجوزُ أنْ يعلِّمنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كلَّ شيءٍ حتَّى «الخراءةَ» ويقولُ: «ما بَقِيَ شَيءٌ يُقَرِّبُ مِنَ الجَنَّةِ، ويُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ، إلَّا وقَدْ بُيِّنَ لَكُم» (¬1) ويقولُ: «لقدْ تَرَكْتُكُم على مِثْلِ البَيْضَاءِ لَيْلُها كَنَهَارِهَا لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ» (¬2) ثمَّ يتركُ الكتابَ المنزلَ عليهِ وسنَّتهُ الغرَّاءَ مملؤةٌ ممَّا يزعمُ الخصمُ أنَّ ظاهرهُ تشبيهٌ وتجسيمٌ، وأنَّ اعتقادَ ظاهرهِ ضلالٌ، وهو لا يبيِّنُ ذلكَ ولا يوضِّحُه؟!» (¬3). الثالثُ: إنَّ لفظَ «العليِّ» و «العلوِّ» لمْ يستعملْ في القرآنِ عندَ الإطلاقِ في مجرَّدِ القدرةِ، ولا في مجرَّدِ الفضيلةِ. ولفظُ «العلوِّ» يتضمنُ الاستعلاءَ، وغيرَ ذلكَ مِنَ الأفعال إذا عديَ بحرفِ الاستعلاء دلَّ على العلوِّ، كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4] فهو يدلُّ على علوِّهِ على العرشِ (¬4). الرابعُ: أنَّ القائلَ إِذَا قالَ: الذهبُ فوقَ الفضَّةِ قدْ أحالَ المخاطَبَ عَلَى مَا يفهَمُ مِنْ هَذَا السِّياقِ والمعتد بأمرينِ عُهِدَ تساويهما فِي المكانِ وتفاوتهما فِي المكانةِ فانصرفَ الخطابُ إلى مَا يعرفهُ السَّامعُ، وَلاَ يلتبسُ عَلَيهِ. فهل لأحدٍ منْ أهلِ الإسلامِ وغيرهم عهدَ بمثلِ ذلكَ فِي فوقيَّةِ الرَّبِّ تعالى حتَّى ينصرفَ فهمُ السَّامعِ إليهَا. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 155 - 156) (1647) بلفظ: وصححه المحدث الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (1803). (¬2) رواه ابن ماجه (43)، وصححه الألباني في «صحيح سنن ابن ماجه» (41). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 367 - 369) بتصرف يسير. (¬4) مجموع الفتاوى (16/ 359).

الوجه الخامس

الخامسُ: أنَّ الفِطَرَ والعقولَ والشَّرائعَ وجميعَ كتبِ الله المنزلةِ عَلَى خلافِ ذلكَ وأنَّه سبحانه وتعالى فوقَ العالمِ بذاتهِ، فالخطابُ بفوقيَّتهِ ينصرفُ إلى مَا استقرَّ فِي الفطرِ والعقولِ والكتبِ السَّماويةِ. السادسُ: أنَّ هَذَا المجازَ لَوْ صُرِّحَ بهِ فِي حقِّ الله كانَ قبيحًا، فإنَّ ذلك إنَّما يقالُ فِي المتقاربينِ فِي المنزلةِ وأحدُهما أفضلُ مِنَ الآخرِ، وأمَّا إِذَا لمْ يتقاربا بوجهٍ فإنَّهُ لا يصحُّ فيهما ذلكَ، وإذا كانَ يقبحُ كلَّ القبحِ أنْ تقولَ: «الجوهرُ فوقَ قشرِ البَصلِ» وإِذَا قلتَ ذلكَ ضحكتْ منكَ العقلاءُ للتَّفاوتِ العظيمِ الَّذي بينهما، فالتَّفاوتُ الَّذي بينَ الخالقِ والمخلوقِ أعظمُ وأعظمُ، وفي مثلِ هَذَا قِيلَ شعرًا: ألم تَرَ أنَّ السيفَ ينْقُصُ قَدْرُهُ ... إ ِذَا قِيلَ إنَّ السيفَ أمضى من العصا

الوجه السابع

السابعُ: ... أنَّ الرَّبَّ سبحانه وتعالى لم يمتدحْ نفسَهُ فِي كتابهِ وَلاَ عَلَى لسانِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم بأنَّه أفضلُ مِنَ العرشِ، وأنَّ رتبتهُ فوقَ رتبةِ العرشِ، وأنَّهُ خيرٌ مِنَ السَّماواتِ والعرشِ. وهذا ممَّا تنفرُ منهُ العقولُ السَّليمةُ، وتشمئزُ منهُ القلوبُ الصَّحيحةُ. فإنَّ قولَ القائلِ ابتداءً: الله خيرٌ منْ عبادهِ، أو خيرٌ منْ عرشهِ، منْ جنسِ قولهِ: الشمسُ أضوأُ مِنَ السِّراجِ، والسَّماءُ أعلى مِنْ سقفِ الدَّارِ، والجبلُ أثقلُ مِنَ الحصى، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ منْ فلانٍ اليهوديِّ، وليسَ في ذلكَ تمجيدٌ، ولا تعظيمٌ، ولا مدحٌ؛ بلْ هوَ منْ أرذلِ الكلامِ، وأسْمجهِ، وأهْجَنِهِ! فكيفَ يليقُ حملُ الكلامِ المجيدِ عليه؟! وحيثُ وردَ ذلكَ فِي الكتابِ فإنَّما هو فِي سياق الرَّدِّ لمنْ سوَّى بينهُ وبينَ غيرهِ في العبادةِ والتألُّهِ، فبيَّن سبحانه وتعالى أنَّه خيرٌ منْ تلكَ الآلهةِ كقولهِ: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] وقولهِ: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] وقولِ السَّحرةِ: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]. فهذا السِّياقُ يقالُ في مثلهِ: إنَّ الله خيرٌ ممَّا سواهُ مِنَ الآلهةِ الباطلةِ، وأمَّا بعدَ أنْ يذكرَ أنَّهُ مالكُ الكائناتِ كما في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ويقالُ مَعَ ذلكَ: هوَ أفضلُ منْ مخلوقاتهِ، وأعظمُ منْ مصنوعاتهِ فهذا ينزَّهُ عنهُ كلامُ الله (¬1). وَلاَ يصحُّ إلحاقُ هَذَا بذلكَ، وَلاَ يُنكرُ هَذَا إلَّا غبيٌّ. ¬

_ (¬1) الصواعق (ص1373).

الوجه الثامن

الثامنُ: أنَّ هَذَا المجازَ محتملٌ إذا كانَ هناكَ مقارنةٌ في الصِّفاتِ بينَ مخلوقٍ ومخلوقٍ، كما في قولهِ تعالى لموسى عليه السلام: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه: 68]، وكما في قولهِ تعالى للمؤمنينَ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *} [آل عمران: 139] وكما في قولهِ تعالى: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] فذلكَ لأنَّه قدْ عُلِمَ أنَّهم جميعًا مستقرُّونَ عَلَى الأرضِ فهيَ فوقيَّةُ قهرٍ وغلبةٍ، لمْ يلزمْ مثلهُ فِي قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18 و16] إذْ قدْ عُلِمَ بالضَّرورةِ أنَّهُ وعبادَهُ ليسوا مستوينِ فِي مكانٍ واحدٍ حتىَّ تكونَ فوقيَّةَ قهرٍ وغلبةٍ. التاسعُ: هبْ أنَّ هَذَا يحتملُ فِي مثلِ قولهِ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] لدلالةِ السِّياقِ والقرائنِ المقترنةِ باللَّفظِ عَلَى فوقيَّةِ الرُّتبةِ،

ولكنْ هَذَا إنَّما يأتي مجرَّدًا عنْ «مِنْ» وَلاَ يستعملُ مقرونًا بـ «مِنْ» فلا يُعْرَفُ فِي اللُّغةِ البتَّة أنْ يقالَ: الذَّهبُ مِنْ فوقِ الفضَّةِ، وَلاَ عالمٌ مِنْ فوقِ الجاهلِ، وقدْ جاءتْ فوقيَّةُ الرَّبِّ مقرونةً بـ «منْ» كقولهِ تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *} [النحل: 50] فهذا صريحٌ فِي فوقيَّةِ الذَّاتِ؛ وَلاَ يصِحُّ حملهُ عَلَى فوقيَّةِ الرتبةِ؛ لأنَّ الظرفَ (فوق) جاءَ في هذهِ الآيةِ مقيَّدًا بحرفِ الجرِّ (مِنْ)، والظُّروفُ المقيَّدةُ في اللُّغةِ العربيةِ مثلُ (منْ فوقِ) و (منْ تحتِ) لا تعني إلَّا معاني الظُّروفِ الحقيقيَّةِ لا المجازيةِ، وتختلفُ عنْ جميعِ الظُّروفِ التي تأتي غيرَ مقيَّدةٍ مثل (فوق) و (تحت) التي قد تعني الحقيقةَ أوالمجازَ أو كليهما معًا، ويحدِّدُ ذلكَ القرآنُ. انظر مثلًا قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 10]، {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]. {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [الزمر: 20]. {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور: 40]. {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]. {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم: 24].

الوجه العاشر

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]. {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. العاشرُ: إذا كان العلوُّ والفوقيَّةُ صفةَ كمالٍ لا نقصَ فيه وَلاَ يستلزمُ نقصًا وَلاَ يوجبُ محذورًا وَلاَ يخالفُ كتابًا وَلاَ سنَّةً وَلاَ إجماعًا فنفيُ حقيقتِهَا عينُ الباطلِ ... فلو لم يقبلِ العلوَّ والفوقيَّةَ لكانَ كلُّ عالٍ عَلَى غيرهِ أكملَ منهُ. فإنَّ في المخلوقاتِ ما يوصفُ بالعلوِّ دونَ السُّفولِ كالسَّمواتِ، وما كان موصوفًا بالعلوِّ دونَ السُّفولِ كانَ أفضلَ ممَّا لا يوصفُ بالعلوِّ (¬1) والخالقُ أكملُ مِنَ المخلوقِ. فكيفَ تكونُ المخلوقاتُ أكملَ مِنَ الخالقِ سبحانه وتعالى؟! (¬2). فأنتم لم ترضوا أنْ تجعلوا علوَّ الله أكملَ منْ علوِّ غيرهِ، ولا جعلتموه مثلَ علوِّهِ؛ بل جعلتم علوَّ الغيرِ أكملَ منْ علوِّهِ، وهو يحتاجُ إلى ذلكَ الغيرِ الذي هو مستغنٍ عنهُ، وكلُّ هذا إفكٌ وبهتانٌ عظيمٌ على ربِّ العالمينَ (¬3). الحادي عَشَرَ: أنَّهُ لَوْ كانتْ فوقيَّتهُ سبحانه وتعالى مجازًا لا حقيقةَ لها، لمْ يُتصرَّف فِي أنواعِهَا وأقسامها ولوازمِهَا، ولم يُتوسَّع فيهَا غايةَ التَّوسُّعِ؛ فإنَّ فوقيَّةَ الرُّتبةِ والفضيلةِ لا يُتصرَّفُ فِي تنويعها إلَّا بما شاكلَ معناهَا نحو قولنا: هَذَا خيرٌ منْ هَذَا وأفضلُ وأجلُّ وأعلى قيمةً ونحو ذلكَ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (16/ 102). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (7/ 18). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (2/ 287).

الوجه الثاني عشر

وأمَّا فوقيَّةُ الذَّاتِ فإنَّها تتنوعُ بحسبِ معناها فيقالُ فيها: استوى، ويعرجُ إليه كذا، ويصعدُ إليه وينزلُ مِنْ عندهِ، ورفيعُ الدرجاتِ، وتُرفعُ إليه الأيدي، وأنَّ عبادهُ يخافونهُ مِنْ فوقهم، وأنَّهُ ينزلُ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا، وأنَّ عبادَهُ المؤمنينَ إِذَا نظروا إليه فِي الجنَّةِ رفعوا رؤوسهم. فهذهِ لوازمُ أنواعِ فوقيَّةِ الذَّاتِ لا أنواع فوقيَّة الفضيلةِ والمرتبةِ. ومنْ تأمَّلَ هَذَا عرفَ أنَّ النُّفاةَ أفسدوا اللُّغةَ والفطرةَ والعقلَ والشَّرعَ. الثاني عَشَرَ: أنَّهُ لَوْ كانتْ فوقيَّةُ الرَّبِّ تبارك وتعالى مجازًا لا حقيقةَ لها، لكانَ إطلاقُ القولِ بأنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ وَلاَ استوى عَلَيهِ وَلاَ هو العليُّ وَلاَ الرفيعُ وَلاَ هو فِي السَّمَاءِ، أصحُّ منْ إطلاقِ ذلكَ، وأدنى الأحوالِ أنْ يصحَّ النَّفيُ كَمَا يصحُّ الإطلاقُ المجازيُّ. ومعلومٌ قطعًا أنَّ إطلاقَ هَذَا النفيَ تكذيبٌ صريحٌ لله ولرسولهِ صلى الله عليه وسلم، ولو كانتْ هذهِ الإطلاقاتُ إنَّما هي عَلَى سبيلِ المجازِ لم يكنْ فِي نفيهَا محذورٌ لا سيَّما ونفيهَا (عندَ المعطِّلةِ) عينُ التنزيهِ والتَّعظيمِ (¬1). قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «كلُّ منْ أنْكَرَ أنْ يكونَ اللَّفظُ حقيقةً لزمهُ جوازُ إطلاقِ نفيهِ. فمنْ أنكرَ أنْ يكونَ استوى على عرشِهِ حقيقةً، فإنَّهُ يقولُ: ليسَ الرحمنُ على العرشِ استوى، كما أنَّ منْ قالَ: إنَّ لفظَ الأسدِ للرَّجلِ الشجاعِ والحمارِ للبليدِ ليسَ بحقيقةٍ، فإنَّهُ يلزمهُ صحةَ نفيِهِ. فيقولُ: هذا ليسَ بأسدٍ، ولا بحمارٍ، ولكنَّهُ آدميٌّ» (¬2). ¬

_ (¬1) مختصر الصواعق (2/ 216). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 219).

الوجه الثالث عشر

الثالثُ عَشَرَ: إنَّ الجهميَّةَ المعطِّلةَ معترفونَ بوصفهِ تَعَالَى بعلوِّ القهرِ وعلوِّ القدرِ، وإنَّ ذَلِكَ كمالٌ لاَ نقصٌ، فإنَّهُ منْ لوازمِ ذاتهِ، فيقالُ: مَا أثبتم بِهِ هذينِ النوعينِ مِنَ العلوِّ والفوقيَّةِ هُوَ بعينهِ حجةُ خصومكم عليكم فِي إثبات علوِّ الذَّاتِ لَهُ سُبْحَانهُ، وَمَا نفيتمْ بِهِ علوَّ الذَّاتِ يلزمكم أَنْ تنفوا بِهِ ذينك الوجهينِ من العلوِّ، فأحدُ الأمرينِ لازمٌ لكم وَلاَ بدَّ، إمَّا أَنْ تثبتوا لَهُ سبحانه وتعالى العلوَّ المطلقَ منْ كلِّ جهةٍ ذاتًا وقهرًا وقدرًا، وإمَّا أَنْ تنفوا ذَلِكَ كلَّهُ، فإنَّكم إنَّما نفيتم علوَّ ذاتهِ سبحانه وتعالى بناءً عَلَى لزومِ التَّجسيمِ، وَهُوَ لازمٌ لكم فيما أثبتموهُ منْ وجهي العلوِّ، فإنَّ الذَّاتَ القاهرةَ لغيرهَا الَّتِي هِيَ أعلى قدرًا منْ غيرهَا إنْ لَمْ يُعْقَلْ كونها غيرُ جسمٍ لزمكم التَّجسيمُ، وإنْ عقلَ كونها غير جسمٍ فكيفَ لاَ يعقل أَنْ تكونَ الذَّاتُ العاليةُ عَلَى سائرِ الذَّواتِ غيرَ جسمٍ؟! وكيفَ لزمَ التَّجسيمُ مِنْ هَذَا العلوِّ ولمْ يلزمْ منْ ذَلِكَ العلوِّ؟! (¬1). الرابعُ عَشَر: لَوْ كانتْ فوقيَّةُ الرَّبِّ تبارك وتعالى مجازًا لا حقيقةَ لها، وأنَّ الحقَّ فِي أقوالِ النُّفاةِ المعطِّلينَ، وأنَّ تأويلاتهم هي المرادةُ منْ هذهِ النُّصوصِ، يلزمُ منْ ذلكَ أحدُ محاذيرَ ثلاثةٍ لا بدَّ منها أو منْ بعضِها وهيَ: القدحُ فِي علمِ المتكلِّمِ بها. أو فِي بيانِهِ. أو فِي نصحِهِ. وتقريرُ ذلكَ أنْ يقالَ: إمَّا أنْ يكونَ المتكلِّمُ بهذه النُّصوصِ عالمًا أنَّ الحقَّ فِي تأويلاتِ النُّفاةِ المعطِّلينَ أوْ لا يعلمُ ذلكَ. فإنْ لم يعلمْ ذلكَ، كانَ قدحًا فِي علمهِ. ¬

_ (¬1) الصواعق (ص1324 - 1325).

وإنْ كانَ عالمًا أنَّ الحقَّ فِيهَا فلا يخلو إمَّا أنْ يكونَ قادرًا عَلَى التعبيرِ بعباراتهم - التي هي تنزيهٌ للهِ بزعمهم عَنِ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ والتَّجسيمِ، وأنَّه لا يعرفُ الله منْ لم ينزِّههُ بها - أو لا يكونُ قادرًا عَلَى تلكَ العباراتِ. فإنْ لمْ يكنْ قادرًا على التعبيرِ بذلكَ، لزمَ القدحُ فِي فصاحتهِ، وكانَ ورثةُ المعتزلةِ والجهميَّةِ، أفصحَ منهُ، وأحسنَ بيانًا وتعبيرًا عَنِ الحقِّ. وإنْ كانَ قادرًا عَلَى ذلكَ، ولمْ يتكلَّمْ بهِ، وتكلَّم دائمًا بخلافهِ وما يناقضهُ، كانَ ذلكَ قدحًا فِي نصحهِ. وقدْ وصفَ اللهُ رسلَهُ بكمالِ النُّصحِ والبيانِ، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وأخبرَ عنْ رسلهِ عليهم السلام بأنَّهم أنصحُ النَّاسِ لأممهم قالَ عزَّ وجلَّ: {ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 93] وقالَ سبحانه وتعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62] وقال عزَّ وجلَّ: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68]. فمع النُّصحِ والبيانِ والمعرفةِ التَّامةِ، كيفَ يكونُ مذهبُ النُّفاةِ المعطِّلةِ أصحابُ التَّحريفِ هوَ الصَّوابُ وقولُ أهلِ الإثباتِ أتباعِ القرآنِ والسنَّةِ باطلًا؟! (¬1). قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: فَسَلِ المُعَطِّلَ عَنْ ثَلاثِ مَسَائِلَ ... تَقْضِي عَلَى التَعْطيلِ بالبُطْلاَنِ مَاذَا تقُولُ أَكَانَ يَعْرِفُ رَبَّهُ ... هَذَا الرَّسُولُ حَقِيقَةَ العُرْفَانِ أَمْ لاَ وَهَلْ كَانَتْ نَصيحَتُهُ لَنَا ... كُلَّ النَّصِيحَةِ لَيْسَ بالخَوَّانِ ¬

_ (¬1) الصواعق (1/ 324 - 326).

أَمْ لاَ وَهَلْ حَازَ البلاغَةَ كلَّهَا ... فَاللَّفْظُ والمَعْنَى لَهُ طَوْعَانِ فَإِذَا انْتَهَتْ هَذي الثلاثَةُ فِيهِ كَا ... مِلَةً مُبرَّأةً مِنَ النُّقْصَانِ فَلأيِّ شَيءٍ عَاشَ فِينَا كَاتمًا ... للنَّفْيِ والتَّعْطِيلِ فِي الأَزْمَانِ بَلْ مُفْصِحًَا بِالضدِّ مِنْهُ حَقِيقَةَ الـ ... إفْصَاحِ مُوَضَّحَةً بِكلِّ بَيَانِ وَلأيِّ شَيْءٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِالَّذِي ... صَرَّحْتُمُ فِي رَبِّنَا الرَّحمَنِ ألِعَجْزِهِ عَنْ ذَاكَ أَمْ تَقْصِيرِهِ ... فِي النُّصْحِ أمْ لِخَفَاءِ هَذَا الشَّانِ حَاشَاهُ بَلْ ذَا وَصْفُكُمْ يَا أُمَّة التَّ ... ـعْطِيلِ لاَ المَبْعُوثِ بالْقُرْآنِ وَلأيِّ شَيْءٍ كَانَ يَذْكُرُ ضِدَّ ذَا ... فِي كُلِّ مُجْتَمَعٍ وَكُلِّ زَمَانِ أَتَرَاهُ أَصْبَحَ عَاجِزًَا عَنْ قَوْلِه اسْـ ... ـتَوْلَى وَيَنْزِلُ أمرُهُ وَفُلاَنِ (¬1) ومعنى هذا الكلامِ: أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ أعلمَ الخلقِ بالحقِّ، و «كانتْ نصيحتهُ لأمَّتهِ كاملةً تامَّةً لا يمكنُ أنْ يساويهُ فيهَا أحدٌ، وكانَ فصيحًا بليغًا مقْتدرًا على التعبيرِ عَنِ المعاني المقْصودةِ بالألفاظِ الجليةِ الفصيحةِ - فمعاني كلامهِ أجلُّ المعاني، وألفاظُه أفْصحُ الألفاظِ - كانَ منْ أعْظمِ المحالِ أنْ يكتمَ ما يجبُ لله مِنَ العلوِّ والفوقيَّةِ وصفاتِ الكمالِ ويفْصحُ بضدِّ ذلكَ. ¬

_ (¬1) الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية (ص137).

الرد على من تأول الاستواء بالاستيلاء

بلْ لمَّا كانَ صلى الله عليه وسلم كاملَ العلمِ برَبِّهِ وبدينهِ فهوَ أعلمُ الخلقِ وأخْشاهم لربِّهِ وكانَ بالمؤمنينَ رحيمًا أرْحمُ بهمْ منْ آبائهم وأمَّهاتهم وأنفسهم وأبلغُ الخلقِ وأقْدرهم على التعبيرِ عَنِ المعاني النافعةِ، علَّمهم صلى الله عليه وسلم ما لمْ يكونوا يعلمونَ، وقدْ بيَّن للنَّاس جميعَ ما يحتاجونَ إليهِ، خصوصًا الأمورَ المهمَّةَ والعقائدَ الدينيَّةَ والأصولَ الإيمانيَّةَ؛ فلو كانَ الحقُّ فيما يقولهُ النُّفاةُ والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمْ يصرِّحْ بشيءٍ منهُ؛ بلْ صرَّحَ بضدِّهِ وجعلَ الأمْرَ موكولًا لعقولِ النَّاس وآرائهمْ الضعيفةِ لزمَ انْتفاءُ هذهِ الأمورِ الثلاثةِ كلِّهَا، وهذا لا يفوهُ بهِ مسْلمٌ يؤمنُ بالله ورسولهِ صلى الله عليه وسلم» (¬1). وفي ذلكَ بلاغٌ لمنْ تدبَّر، وكفايةٌ لمنِ استبصرَ إنْ شاءَ الله تعالى. ومنْ تدبَّرَ ما كتبناهُ، وأعطى منْ قلبهِ النَّصَفَةَ، وأعرضَ عنْ هواه، واستمعَ وأصغى بقلبٍ حاضرٍ، وكانَ مسترشدًا مهتدياَ، ولمْ يكنْ متعنِّتًا، وأمدَّهُ اللهُ بنورِ اليقينِ، عرفَ صحَّةَ جميعِ ما قلناهُ، ولمْ يخف عليهِ شيءٌ منْ ذلكَ، واللهُ الموفِّقُ: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39] (¬2). * * * الرَّدُّ عَلى مَنْ تَأَوَّلَ الاسْتِوَاءَ بالاسْتِيلاءِ اعلمْ رحمكَ الله تعالى بأنَّهُ يجبُ قبولُ ما دلَّ عليهِ الخبرُ، إذا اجتمعت فيهِ أوصافٌ أربعةٌ: الأوَّلُ: أنْ يكونَ صادرًا عنْ عِلمٍ. الثاني: الصِّدْقُ. الثالثُ: البَيَانُ والفَصَاحَةُ. الرابعُ: سلامَةُ القَصْدِ والإرادَةِ؛ بأنْ يريدَ المخبرُ هدايةَ منْ أخبرهم. ¬

_ (¬1) توضيح الكافية الشافية (ص337 - 338). (¬2) الحجة في بيان المحجة (2/ 229 - 230).

فدليلُ الأوَّلِ - وهو العِلْمُ -: قولهُ سبحانه وتعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] وقولُهُ سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *} [النحل: 74]. وقولُهُ عزَّ وجلَّ: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الإسراء: 55]؛ فهوَ أعلمُ بنفسهِ وبغيرهِ منْ غيرهِ؛ فهوَ أعلمُ بكَ منْ نفسكَ؛ لأنَّهُ يعلمُ ما سيكونُ لكَ في المستقبلِ، وأنتَ لا تعلمُ ماذا تكسبُ غدًا؟ ودَليلُ الوصفِ الثاني - الصِّدقُ -: قولُهُ سبحانه وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115] وقولُهُ سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]؛ أي: لا أحد أصدقُ منهُ، فأصدقُ الكلامِ كلامُ الله. والكلامُ الصِّدقُ يتضمَّنُ مطابقةَ الكلامِ للواقعِ أي: الإخبارُ عَنِ الأمورِ على ما هي عليهِ، لا على خلافِ ما هيَ عليهِ (¬1). ولا شيءَ مِنَ الكلامِ يطابقُ الواقعَ كما يطابقهُ كلامُ الله سبحانه وتعالى فكلُّ ما أخبرَ الله بهِ؛ فهو صدقٌ، بلْ أصدقُ منْ كلِّ قولٍ. ودليلُ الوصفِ الثالثِ - البيانُ والفصاحةُ -: قولهُ تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] وحسنُ حديثهِ يتضمَّنُ الحسنَ اللَّفظيَّ والمعنويَّ. ودليلُ الوصفِ الرابعِ - سلامةُ القصدِ والإرادةِ -: قولُه تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]. وقولُه سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [التوبة: 115]. ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 123).

الوجه الأول

فاجتمعَ في كلامِ الله سبحانه وتعالى الأوصافُ الأربعةُ التي توجبُ قبولَ الخبرِ. وإذا كانَ كذلكَ؛ فإنَّهُ يجبُ أنْ نقبلَ كلامهُ على ما هو عليهِ، وأنْ لا يلحقنا شكٌ في مدلولهِ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى لم يتكلَّم بهذا الكلامِ لأجلِ إضلالِ الخلقِ، بلْ ليبيِّنَ لهم ويهديهم، وصدرَ كلامُ الله عزَّ وجلَّ عنْ نفسهِ أو عنْ غيرهِ منْ أعلمِ القائلينَ، ولا يمكنُ أنْ يعتريهُ خلافُ الصِّدقِ، ولا يمكنُ أنْ يكونَ كلامًا عييًّا غيرَ فصيحٍ، وكلامُ الله سبحانه وتعالى لو اجتمعتِ الإنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثلهِ؛ لما استطاعوا؛ فإذا اجتمعت هذه الأمورُ الأربعةُ في الكلامِ؛ وجبَ على المخاطبِ القبولُ بما دلَّ عليه (¬1). وأنْ لا يترك ذلكَ إلى قولِ مَنْ يفترونَ على الله الكذبَ ويقولونَ عليهِ ما لا يعلمونَ؛ فإنَّ هذا هو غايةُ الضَّلاَلِ، ومُنتهى الخُذْلاَنِ (¬2). ومنْ تأوَّلَ الاستواءَ بالاستيلاءِ «فهذا - عندَ السَّلفِ والأئمَّةِ - باطلٌ لا حقيقةَ لهُ؛ بلْ هوَ منْ بابِ تحريفِ الكلمِ عنْ مواضعهِ، والإلحادِ في أسماءِ الله وآياتهِ» (¬3). وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ: أحدُها: أنَّ الاستواءَ فِي اللُّغةِ يُستعملُ على وجوهٍ: الأولُ: أنْ يكونَ مطلقًا غيرَ مقيَّدٍ فيكونُ معناهُ الكمالُ كقولهِ عزَّ وجلَّ: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14]، وهذا معناهُ: كملَ وتمَّ. يقالُ: استوى النباتُ واستوى الطَّعامُ. الثاني: أنْ يكونَ مقرونًا بـ (الواو) فيكونُ بمعنى التساوي كقولهم: استوى الماءُ والخشبةُ. واستوى الليلُ والنَّهارُ. ¬

_ (¬1) انظر: شرح العقيدة الواسطية (ص107 - 108)، للعلامة: ابن عثيمين رحمه الله. (¬2) شرح العقيدة الواسطية (ص75)، للعلامة: محمد خليل هراس رحمه الله. (¬3) درء تعارض العقل والنقل (5/ 382).

الوجه الثاني

الثالثُ: أنْ يكونَ مقرونًا بـ (إلى) فيكون المعنى قصدَ إليهِ علوًّا وارتفاعًا كقولهِ سبحانه وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]. الرابعُ: أنْ يكونَ مقرونًا بـ (على) فيكونُ بمعنى العلوِّ والارتفاعِ كقولهِ سبحانه وتعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقولهِ: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وقولهِ: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]. هذه معاني الاستواءِ المعقولةِ فِي كلامهم، ليسَ فيهَا معنى (استولى) البتةَ، وَلاَ نقلهُ أحدٌ منْ أئمَّةِ اللُّغةِ الذينَ يُعْتَمَدُ قولهم، وإنَّما قالهُ متأخرو النُّفاةِ ممَّنْ سلكَ طريقَ المعتزلةِ والجهميَّةِ. الثاني: أنَّ الذينَ قالوا ذلكَ استدلوا بقولِ الشَّاعرِ: قد استوى بشْرٌ عَلَى العراقِ ... من غير سيْفٍ أو دمٍ مُهْراق قالَ ابنُ كثيرٍرحمه الله: وهذاَ البيتُ تستدلُّ بهِ الجهميَّةُ على أنَّ الاستواءَ على العرشِ بمعنى الاستيلاءِ، وهذا منْ تحريفِ الكلمِ عنْ مواضعهِ، وليستْ في بيتِ هذا النصرانيِّ حجةٌ ولا دليلٌ على ذلكَ، ولا أرادَ الله عزَّ وجلَّ باستوائهِ على عرشهِ استيلاَءهُ عليه - تعالى الله عنْ قولِ الجهميَّةِ علوًّا كبيرًا - فإنَّهُ إنَّما يقالُ: استولى على الشيءِ إذا كانَ ذلكَ الشيءُ عاصيًا عليهِ قبلَ استيلائهِ عليهِ، كاستيلاءِ بشرٍ على العراقِ، واستيلاءِ عبدِ الملكِ على المدينةِ بعدَ عصيانها عليهِ، وعرشُ الرَّبِّ لمْ يكنْ ممتنعًا عليهِ نفسًا واحدًا، حتَّى يقالَ استولى عليهِ، أو معنى الاستواءِ الاستيلاءِ، ولا تجدُ أضعفَ منْ حججِ الجهميَّةِ، حتَّى أدَّاهمُ الافلاسُ مِنَ الحججِ إلى بيتِ هذا النَّصرانيِّ المقبوحِ وليسَ فيه حجةٌ واللهُ أعلمُ (¬1). وقدْ أنْشَدَ فيهمُ المنْشِدُ: ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (9/ 8 و273).

الوجه الثالث

قبْحًا لمنْ نبَذَ القرآنَ وراءهُ ... فإذا استدلَّ يقولُ قال الأخطل (¬1) الثالثُ: أنَّ أهلَ اللُّغةَ لمَّا سمعوا ذلكَ، أنكروهُ غايةَ الإنكارِ، ولمْ يجعلوه منْ لغةِ العربِ. قَالَ ابنُ الأعرابيِّ - وقد سئلَ: هل يصحُّ أنْ يكونَ (استوى) بمعنى استولى؟ - فقالَ: لا تعرفُ العربُ ذلكَ. وهوَ منْ أكابرِ أئمَّةِ اللُّغةِ. الرابعُ: أنَّ هذا تفسيرٌ لكلامِ الله بالرأيِ المجرَّدِ الَّذي لم يذهبْ إليهِ صاحبٌ وَلاَ تابعٌ، وَلاَ قالهُ إمامٌ منْ أئمَّةِ المسلمينَ، وَلاَ أحدٌ منْ أهلِ التفسيرِ الذينَ يحكونَ أقوالَ السَّلفِ. الخامسُ: أنَّ إحداثَ القولِ فِي تفسيرِ كتابِ الله الَّذي كانَ السَّلفُ والأئمَّةُ عَلَى خلافهِ يستلزمُ أحدَ أمرينِ: إمَّا أنْ يكونَ خطأً فِي نفسهِ، أو تكونَ أقوالُ السَّلفِ المخالفةِ لهُ خطأً، وَلاَ يشكُّ عاقلٌ أنَّهُ أولى بالغلطِ والخطأ منْ قولِ السَّلفِ. السادسُ: أنَّه أتى بلفظةِ (ثمَّ) التي حقيقتها الترتيبُ والمهلةُ، ولوْ كانَ معناهُ القدرةَ عَلَى العرشِ والاستيلاءَ عَلَيهِ؛ لمْ يتأخَّر ذلكَ إلى مَا بعد خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، فإنَّ العرشَ كانَ موجودًا قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفِ عام كَمَا ثبتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (¬2). وقالَ سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] فكيفَ يجوزُ أنْ يكونَ غيرَ قادرٍ وَلاَ مستولٍ عَلَى العرشِ إلى أنْ خلقَ السَّماواتِ والأرضَ؟!. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 297). (¬2) رواه مسلم (2653).

الوجه السابع

السابعُ: أنَّ القائلَ بأنَّ معنى (استوى) بمعنى (استولى) شاهدٌ عَلَى الله أنَّه أرادَ بكلامهِ هذا المعنى، وهذهِ شهادةٌ لا علمَ لقائلهَا بمضمونها، بلْ هيَ قولٌ عَلَى الله بلا علمٍ، وقدْ حرَّم الله تعالى الكلامَ بلا علمٍ مطلقًا، وخصَّ القولَ عليهِ بلا علمٍ بالنَّهيِ، وأخبرَ أنَّ الذي يأمرُ بالقولِ بغيرِ علمٍ هو الشيطانُ فقالَ سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقالَ سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [البقرة: 169] وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعراف: 33]. فلوْ كانَ اللَّفظُ محتمِلًا لها فِي اللُّغةِ وهيهات!! لَمْ يجز أَنْ يشهدَ عَلَى الله أنَّهُ أرادَ هذا المعنى، بخلافِ منْ أخبرَ عَنِ الله تعالى أنَّهُ أرادَ الحقيقةَ والظاهرَ، فإنَّهُ شاهدٌ بما أجرى الله سبحانه عادتَهُ مِنَ خطابِ خلقهِ بحقائقِ لغتهم وظواهرها؛ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]. فإذا كان الاستواءُ فِي لغةِ العرب معلومًا؛ كانَ هو المرادُ؛ لكونِ الخطابِ بلسانهم، وهو المقتضي لقيامِ الحجَّةِ عليهم فإذا خاطبهم بغيرِ مَا يعرفونَهُ كانَ بمنزلةِ خطابِ العربيِّ بالعجمية. قالَ ابنُ قدامة رحمه الله: إنَّ المتأوِّلَ يجمعَ بينَ وصفِ الله تعالى بصفةٍ ما وصفَ بها نفسَهُ ولا أضافها إليهِ، وبين نفيِ صفةٍ أضافها الله تعالى إليهِ.

الوجه الثامن

فإذا قالَ: معنى استوى «استولى» فقدْ وصفَ الله تعالى بالاستيلاءِ واللهُ تعالى لم يصفْ بذلكَ نفسَهُ، ونفى صفةَ الاستواءِ مع ذكرِ الله تبارك وتعالى لهَا في القرآنِ في سبعةِ مواضعَ. أفمَا كانَ اللهُ سبحانه وتعالى قادرًا على أنْ يقولَ: «استولى» حتَّى جاءَ المتكلِّفُ المتأوِّلُ فتطرَّف وتحكَّمَ على الله سبحانهُ وعلى رسولهِ؟ تعالى الله عمَّا يقولُ الظَّالمونَ علوًّا كبيرًا! (¬1). الثامنُ: أنَّهُ لا يقالُ لمنِ استولى عَلَى بلدةٍ ولم يدخلْهَا ولمْ يستقرَّ فيها بلْ بينهُ وبينها بعدٌ كثيرٌ: أنَّهُ قَدِ استوى عليها، فلا يقالُ استوى أبو بكرٍ عَلَى الشامِ، وَلاَ استوى عمرُ عَلَى مصرَ والعراقِ، ولا قَالَ أحدٌ قطٌّ استوى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى اليمنِ، مع أنَّهُ استولى خلفاؤهُ عَلَى هذهِ البلادِ، ولم يزلْ الشعراءُ يمدحونَ الملوكَ والخلفاءَ بالفتوحاتِ، فلمْ يسمَعْ عنْ قديمٍ منهم جاهليٍّ وَلاَ إسلاميٍّ وَلاَ محدثٍ أنَّهُ مدحَ أحدًا قطُّ أنَّهُ استوى عَلَى البلدِ الفُلانيِّ الّذي فتحهُ واستولى عَلَيهِ، فهذهِ دواوينهم وأشعارهم موجودةٌ. ¬

_ (¬1) تحريمُ النظر في كتب الكلام (ص53)، للإمام: موفّق الدين ابن قدامة المقدسي رحمه الله.

الوجه التاسع

التاسعُ: أنَّهُ لَوْ كانَ الاستواءُ بمعنى الملكِ والقهرِ؛ لجازَ أنْ يقالَ: استوى عَلَى ابنِ آدمَ وعلى الجبلِ وعلى الشَّمسِ والقمرِ وعلى البحرِ والشجرِ والدَّوابِ، وهذا لا يطلقهُ مسلمٌ. «ولا استعملَ ذلكَ أحدٌ مِنَ المسلِمينَ في كلِّ شيءٍ، ولا يوجدُ في كتابٍ ولا سنةٍ، كما استعملَ لفظُ الربوبيةِ في العرشِ خاصَّةً {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] وفي كلِّ شيءٍ عامَّةً {رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] وكذلكَ لفظُ الخلقِ ونحوه مِنَ الألفاظِ التي تخصُّ، وتعمُّ. كقولهِ سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *} [العلق: 1 - 2] فالاستواءُ مِنَ الألفاظِ المختصَّةِ بالعرشِ، لا تضافُ إلى غيرهِ لا خصوصًا ولا عمومًا» (¬1). العاشرُ: أنَّهُ إِذَا فسِّرَ الاسْتِوَاءُ بالغلبةِ والقهرِ؛ عادَ معنى هذه الآياتِ كلِّها إلى أنَّ الله تعالى أعلمَ عبادهُ بأنَّهُ خلقَ السَّماواتِ والأرضَ ثمَّ غلبَ العرشَ بعدَ ذلكَ وقهرهُ وحكمَ عَلَيهِ، أفلا يستحي مِنَ الله مَنْ فِي قلبهِ أدنى وقارٍ لله ولكلامهِ أنْ ينسبَ ذلكَ إليهِ، وأنَّهُ أرادهُ بقوله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]؛ أي: اعلموا يا عبادي أنِّي بعدَ فراغي منْ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ غلبتُ عرشي وقهرتهُ واستوليتُ عَلَيهِ؟!. الحادي عَشَرَ: أنَّ أئمَّةَ السنَّةِ متَّفقونَ عَلَى أنَّ تفسيرَ الاسْتِوَاءِ بالاستيلاءِ إنَّما هو متلقًّى عَنِ الجهميَّةِ والمعتزلةِ والخوارجِ .. فلا يجوزُ العدولُ عنْ تفسيرِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ إلى تفسيرهمْ. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 376).

الوجه الثاني عشر

الثاني عَشَرَ: أنَّ الاستيلاءَ يكونُ مَعَ مزايلةِ المستولي للمستولى عَلَيهِ ومفارقتهِ؛ كَمَا يقالُ: استولى عثمانُ بنُ عفَّانَ عَلَى خراسانَ، واستولى عبدُ الملكِ بنُ مروانَ عَلَى بلادِ المغربِ، واستولى الجوادُ عَلَى الأمدِ، قَالَ الشاعرُ: ألا لمثلكَ أوْ مَنْ أنتَ سابقُهُ ... سَبْقَ الجَوادِ إذا استولى عَلَى الأمَدِ فجعلهُ مستوليًا عَلَيهِ بعدَ مفارقتهِ لهُ وقطعِ مسافتهِ، والاستواءُ لا يكونُ إلَّا مَعَ مجاورةِ الشَّيءِ الَّذي يستوى عَلَيهِ؛ كَمَا في قولهِ تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقولهِ: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وهكذا فِي جميعِ مواردهِ فِي اللُّغةِ التي خوطبنا بها، وَلاَ يصحُّ أنْ يقالَ: استوى عَلَى الدَّابة والسطحِ إِذَا نزل عنها وفارقها؛ كَمَا يقالُ: استولى عليها، هَذَا عكسُ اللُّغةِ وقلبُ الحقائقِ، وهذا قطعيٌّ بحمدِ الله. الثالثُ عَشَرَ: أنَّ نقلَ معنى الاسْتِوَاءِ وحقيقتهِ كنقلِ لفظهِ، بل أبلغُ فإنَّ الأمَّةَ كلَّها تعلمُ بالضَّرورةِ أنَّ الرسولَ أخبرَ عنْ ربِّهِ بأنَّهُ استوى عَلَى عرشِهِ، منْ يحفظُ القرآنَ منهم ومنْ لا يحفظهُ، وهذا المعنى عندهم كَمَا قَالَ مالكٌ وأئمَّةُ السنَّةِ: الاسْتِوَاءُ غيرُ مجهولٍ، كَمَا أنَّ معنى السَّمعِ والبصرِ والقدرةِ والحياةِ والإرادةِ وسائرِ مَا أخبرَ بهِ عنْ نفسهِ معلومٌ، وإنْ كانتْ كيفيَّتهُ غيرَ معلومةٍ للبشرِ؛ فإنَّهم لم يُخَاطَبُوا بالكيفيَّةِ، ولم يردْ منهم العلمُ بها، فإخراجُ الاسْتِوَاءِ عنْ حقيقتهِ المعلومةِ؛ كإنكارِ ورودِ لفظهِ؛ بل أبلغُ، وهذا ممَّا يعلمُ أنَّهُ مناقضٌ لما أخبرَ الله بهِ ورسولُهُ.

الوجه الرابع عشر

الرابعُ عَشَرَ: أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ نفسَهُ بأنَّهُ بيَّنَ لعبادهِ غايةَ البيانِ - وبيانُ الرَّبِّ تعالى فوقَ كلِّ بيانٍ ـ، وأمرَ رسولَهُ بالبيانِ، وأخْبرَ أنَّهُ أنْزلَ عليهِ كتابهُ ليبيِّنَ للنَّاسِ، وقدْ فعلَ سبحانهُ مَا عليهِ، وفعلَ رسولُهُ ما عليهِ، فماذا نشأَ بعدَ ذلكَ إلَّا أنْ نأتيَ بمَا علينا، كما قال الزهْريُّ: «مِنَ الله الرسالة، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغُ، وعَلَيْنَا التَّسْليمُ» (¬1) فهذا البيانُ الذي تَكَفَّلَ بهِ سبحانهُ، وأمرَ بهِ رسولهُ، إمَّا أنْ يكونَ المرادُ بهِ بيانَ اللَّفظِ وحدهُ، أو المعْنى وحدهُ، أو اللَّفظِ والمعْنى جميعًا، ولا يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بهِ بيانَ اللَّفظِ دونَ المعْنى، فإنَّ هذا لا فائدةَ فيهِ، ولا يحْصلُ به مقْصودُ الرسالةِ (¬2)، بل كانَ ترْكهُ أنْفعَ مِنَ الاتيانِ بهِ؛ فإنَّ الاتيانَ بهِ إنَّما حصلَ منهُ إيهامُ المحالِ والتَّشْبيهِ، وأوْقعَ الأمَّةَ في اعْتقادِ الباطلِ. ولا ريبَ أنَّ هذا إذا نسبَ إلى آحادِ النَّاسِ كانَ ذمُّهُ أقْربَ مِنْ مدْحهِ؛ فكيفَ يليقُ نسبتهُ إلى مَنْ كلامهُ هدًى وشفاءٌ، وبيانٌ ورحمةٌ؟ هذا منْ أمْحلِ المحالِ (¬3)؛ بلْ كانتْ عنايتهُ ببيانِ المعْنى أشدَّ منْ عنايتهِ ببيانِ اللَّفظِ، وهذا هوَ الذي ينْبغي، فإنَّ المعْنى هو المقْصودُ، وأمَّا اللَّفظُ فوسيلةٌ إليهِ ودليلٌ عليهِ، فكيفَ تكونُ عنايتهُ بالوسيلةِ أهمَّ منْ عنايتهِ بالمقْصودِ؟ وكيفَ نتيقنُ بيانَهُ للوسيلةِ، ولا نتيقنُ بيانهُ للمقْصودِ؟ وهلْ هذا إلَّا منْ أبينِ المحال؟! الخامسُ عَشَرَ: أنَّ الله سبحانه وتعالى ذمَّ المحرِّفينَ للكلمِ، والتَّحريفُ نوعان: تحريفُ اللَّفظِ، وتحريفُ المعنى. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6/ 2738) تعليقًا [طبعة دار ابن كثير، الطبعة الثالثة]. (¬2) الصواعق (ص737). (¬3) مختصر الصواعق (2/ 145).

أمَّا في اللَّفظِ، فمثالهُ نصبُ اسمِ الجلالةِ بدلَ رفعهِ في قولهِ تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ليكونَ التكليمُ منْ موسى عليه السلام. وأمَّا في المعنى؛ كتحريفِ معنى الاستواءِ إلى الاستيلاءِ. ولو تدبَّرَ المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ كتابَ الله، لمنعهم ذلكَ منْ تبديلِ الاستواءِ بالاستيلاءِ، لأنَّ الله جلَّ وعلا يقولُ في محكمِ كتابهِ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ *} [البقرة: 59]. ويقولُ: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ *} [الأعراف: 162]، فالقولُ الذي قالهُ الله لهم، هوَ قولهُ حطةٌ، فقالوا حنطةٌ وهي القمحُ. «فَلَقُوا من البلاء ما لَقُوا - وإنَّما زادوا حَرْفًا في الكلمة ـ؛ يُعَرِّفُهُمْ أنَّ الزيادةَ في الدِّين والابتداعَ في الشَّرعِ عظيمُ الخَطَرِ. وإذا كانَ تغييرُ كلمةٍ في بابِ التوبةِ - وذلكَ أمرٌ يرجعُ إلى المخلوقِ - يوجبُ كلَّ ذلكَ العذابِ؛ فما ظنُّكَ بتغييرِ ما هوُ خبرٌ عنْ صفاتِ المعبودِ؟!» (¬1). وأهلُ التَّأويلِ قيلَ لهم: على العرشِ استوى. فزادوا لامًا فقالوا: استولى. وهذهِ اللامُ التي زادوها أشبهُ شيءٍ بالنُّونِ التي زادهَا اليهودُ في قولهِ تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]. قال ابن القيِّمِ رحمه الله: أُمِرَ اليهودُ أن يقولوا حِطَّةٌ ... فَأَبَوْا وقالوا حِنْطَةٌ لِهَوَانِ وكذلكَ الجهميُّ قيل له استوى ... فأَبَى وزادَ الحَرْفَ للنُّقْصَانِ قَالَ اسْتَوَى اسْتَوْلَى وذَا مِنْ جَهْلِهِ ... لغةً وعقلًا مَا هما سيَّانِ ¬

_ (¬1) الحوادث والبدع (ص27 - 28).

نُون اليهودِ ولامُ جَهْمِيٍّ هما ... فِي وَحْيِ رَبِّ العرشِ زَائِدَتَانِ وكذلكَ الجَهْميُّ عَطَّلَ وَصْفَهُ ... وَيَهُودُ قَدْ وَصَفُوهُ بالنُّقْصَانِ فَهُمَا إِذًا فِي نَفْيِهِمْ لِصفَاتِهِ الـ ... عُلْيَا كَمَا بَيَّنْتُهُ أَخَوَانِ (¬1) ولا شكَّ أنَّ منْ بدَّل استوى بـ (استولى) لم يتَّبعْ ما أوحيَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فعليهِ أنْ يجتنبَ التبديلَ ويخافَ العذابَ العظيمَ، الذي خافهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لو عصا الله فبدَّلَ قرآنًا بغيرهِ المذكورُ في قولهِ تبارك وتعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15]. وأهلُ [التَّحريفِ] لم ينكروا أنَّ كلمةَ القرآنِ هي استوى، ولكنْ حرَّفوها وقالوا في معناها استولى وإنَّما أبدلوها بها، لأنَّها أصلحُ في زعمهمْ منْ لفظِ كلمةِ القرآنِ، لأنَّ كلمةَ القرآنِ توهمُ غيرَ اللائقِ، وكلمَةُ استولى في زعمهم هي المنزِّهةُ اللائقةُ بالله مَعَ أنَّهُ لا يعقلُ تشبيهٌ أشنعُ منْ تشبيهِ استيلاءِ اللهِ على عرشهِ المزعومِ، باستيلاءِ بشرٍ على العراقِ. ¬

_ (¬1) الكافية الشافية (ص157).

وليسَ بلائقٍ قطعًا، إلَّا أنَّهُ يقولُ: إنَّ الاستيلاءَ المزعومَ منزَّهٌ، عنْ مشابهةِ استيلاءِ الخلقِ، معْ أنَّهُ ضربَ لهُ المثلَ باستيلاءِ بشرٍ على العراقِ واللهُ يقولُ: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *} [النحل: 74] (¬1). ونحنُ نقولُ: أيُّها المؤوِّلُ هذا التَّأويل، نحنُ نسألكَ إذا علمتَ أنَّهُ لا بدَّ منْ تنزيهِ أحدِ اللَّفظينِ أعنىَ لفظَ (استوى) الذي أنزلَ الله بهِ الملَكَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم قرآنًا يتلى، كلُّ حرفٍ منهُ عشرُ حسناتٍ ومنْ أنكرَ أنَّهُ منْ كتابِ الله كفرَ. ولفظة استولى التي جاءَ بها قومٌ منْ تلقاءِ أنفسهم منْ غيرِ استنادٍ إلى نصٍّ منْ كتابِ الله ولا سنَّةِ رسولهِ ولا قولِ أحدٍ مِنَ السَّلفِ. فأيُّ الكلمتينِ أحقُّ بالتنزيهِ في رأيِكَ؟! (¬2). والظَّاهر أنَّك ستضطرُ إلى أنْ تقولَ: إنَّ كلامَ ربِّ العالمينَ أحقُّ بالتنزيهِ منْ كلامٍ جاءَ بهِ ناسٌ منْ تلقاءِ أنفسهم منْ غيرِ استنادٍ إلى دليلٍ منْ نقلٍ ولا عقلٍ إلَّا إذا كنت مُكَابِرًا، والمُكَابِرُ لا داعي للكلامِ معهُ {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ *} [الأنعام: 104] (¬3). ¬

_ (¬1) قال أبو هريرة رضي الله عنه لرجل: «يا ابنَ أخي! إذا حدَّثْتُكَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلا تَضْرِبْ له الأمثالَ» أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على منْ عارضه (22)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في «صحيح سنن ابن ماجه» (20). (¬2) أضواء البيان (7/ 452 - 453). (¬3) آداب البحث والمناظرة (2/ 161).

وهذه الوجوهُ كافيةٌ شافيةٌ نافعةٌ لمنْ أرادَ الهدايةَ. ونختمُ هذا الفصلَ بنقطتينِ: إحداهُما: أنَّهُ ينبغي للمُؤَوِّلِينَ أنْ يتأمَّلُوا آيةً منْ «سورةِ الفرقان» وهيَ قولهُ تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] ويتأمَّلوا معها قولَهُ تعالى في سورةِ فاطر: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. فإنَّ قولَهُ في الفرقانِ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] بعدَ قولهِ: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59] يدلُّ دلالةً واضحةً: أنَّ الله الذي وصفَ نفسهُ بـ «الاستواءِ» خبيرٌ بما يصفُ بهِ نفسهُ لا تخفى عليهِ الصِّفةَ اللائقةَ منْ غيرهَا. ويفهمُ منهُ: أنَّ الذي ينفي عنهُ «صِفَةَ الاسْتِوَاءِ» ليسَ بخبيرٍ، نعمْ هُو واللهِ ليسَ بخبيرٍ (¬1). الثانيةُ: إنَّ السَّلَفِيِّينَ إذا قيلَ لهم: ما الدليلُ على أنَّ اللهَ تعالى فَوْقَ العَرْشِ؟ قالوا: قالَ اللهُ سبحانه وتعالى كذا، وقالَ رسولُهُ صلى الله عليه وسلم كذا. وأنتم إذا قيلَ لكم: ما الدليلُ على تفسيرِ الاستواءِ بالاستيلاءِ؟ قلتم: قالَ الأخْطلُ: استوى بشرٌ على العراقِ ... بَنَيْتُمْ مذْهبَكُم على بيتِ شعرٍ منْ قولهِ، وتركْتُمْ الكتابَ والسُّنَّةَ؟! وهذا قطرةٌ منْ بحرٍ نبَّهنا بهِ تنْبيهًا يعلمُ بهِ اللَّبيبُ ما وراءهُ. وإلَّا لو أعْطينا هذا الموضعَ حقَّهُ - وهيهاتَ أنْ يصلَ إلى ذلكَ علْمنا، أوْ قدرتنا - لكتبنا فيهِ عدَّةَ أسْفارٍ، وكذا كلُّ وجهٍ منْ هذهِ الوجوهِ، فإنَّهُ لو بسطَ، وفصِّلَ لاحْتملَ سفرًا أو أكْثرَ (¬2). فعلى المتأوِّل أنْ يجيبَ عنْ ذلكَ كلِّه! وهيهاتَ لهُ بجوابٍ صحيحٍ عنْ بعضِ ذلكَ! * * * ¬

_ (¬1) منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص88)، للعلامة الشنقيطي رحمه الله. (¬2) الصواعق (ص917).

الرد على من تأول نزول الله على غير معناه الحق

الرَدُّ عَلَى مَنْ تَأَوَّلَ نُزُولَ الله عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الحَقِّ اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ أصحابَ الحديثِ المتمسِّكينَ بالكتابِ والسنَّةِ - حفظَ الله أحياءهم ورحمَ أمواتهم - يؤمنونَ بنزولِ الله سبحانه وتعالى إلى السَّماءِ الدنيا، ولا يعتقدونَ تشبيهًا لنزولهِ بنزولِ خلقهِ، ولا يحرِّفونَ الكلامَ عنْ مواضعهِ تحريفَ المعتزلةِ والجهميَّةِ أهلكهمُ الله، ولا يكيِّفونهُ بكيفٍ أو يشبِّهونهُ بنزولِ المخلوقينَ تشبيهَ المشبِّهَةِ خذلهمُ الله، وقدْ أعاذَ اللهُ سبحانه وتعالى أهلَ السُّنةِ مِنَ التحريفِ والتكييفِ والتَّشبيهِ، ومنَّ عليهم بالتَّعريفِ والتَّفهيمِ حتَّى سلكوا سبلَ التَّوحيدِ والتَّنزيهِ، وتركوا القولَ بالتَّعطيل والتَّشبيهِ، واتَّبعوا قولَ الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬1). وكذلكَ يقولونَ في جميعِ الصِّفاتِ التي نزلَ بذكرهَا القرآنُ ووردتْ بها الأخبارُ الصِّحاحُ ... منْ غيرِ تشبيهٍ لشيءٍ منْ ذلكَ بصفاتِ المربوبينَ المخلوقينَ، بلْ ينتهونَ فيهَا إلى ما قالهُ الله تعالى وقالهُ رسوله صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ زيادةٍ عليهٍ، ولا إضافةٍ إليه، ولا تكيِيفٍ لهُ، ولا تشبيهٍ، ولا تحريفٍ، ولا تبديلٍ، ولا تغيِيرٍ، ولا إزالةٍ للفظِ الخبرِ عمَّا تعرفهُ العربُ وتضعهُ عليهِ بتأويلٍ مُنْكَرٍ، ويُجْرُونَهُ على الظَّاهرِ (¬2). ومنْ تأوَّلَ النزولَ عَلَى غيرِ حقيقتهِ فجعلهُ مجازًا، أو تأوَّلهُ بنزولِ مَلَكٍ مِنَ الملائكةِ، أو نزولِ أمرِ الله ورحمتهِ. فإنْ أرادَ أنَّهُ سبحانهُ إِذَا نزلَ وأتىَ حلَّتْ رحمتهُ وأمرهُ فهذا حقٌّ، وإنْ أرادَ أنَّ النُّزولَ للرَّحمة والأمرِ ليسَ إلَّا فهوَ باطلٌ منْ وجوهٍ: ¬

_ (¬1) راجع: عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص26 - 27). (¬2) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص28).

الوجه الأول

أحدُها: أنَّ أمْرهُ ورحمتَهُ وملائكتهُ دائبًا تنزلُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ وفي كلِّ ساعةٍ، فما بالُ ثلثِ الليلِ خُصَّ بنزولِ رحمتهِ وأمْرهِ منْ بينِ أوقاتِ الليلِ والنَّهار؟! (¬1). قالَ الطبريُّ رحمه الله: يجيءُ ربُّنا جلّ جلاله يومَ القيامةِ والملكُ صفًّا صفًّا، ويهبطُ إلى السَّماء الدنيا وينزلُ إليها في كلِّ ليلةٍ، ولا نقولُ: معنى ذلكَ ينزلُ أمرهُ؛ بلْ نقولُ: أمرهُ نازلٌ إليها كلَّ لحظةٍ وساعةٍ وإلى غيرهَا منْ جميعِ خلقهِ الموجودينَ ما دامت موجودةً. ولا تخلو ساعةٌ منْ أمرهِ؛ فلا وجهَ لخصوصِ نزولِ أمرهِ إليها وقتًا دونَ وقتٍ، ما دامتْ موجودةً باقيةً (¬2). قال ابنُ عبد البرِّ رحمه الله: «وقدْ قالَ قومٌ: إنَّهُ ينزلُ أمرهُ وتنزلُ رحمتهُ ونعمتهُ. وهذا ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّ أمرهُ بما شاءَ منْ رحمتهِ ونِقمتهِ ينزلُ بالليلِ والنَّهارِ بلا توقيتِ ثلثِ الليلِ ولا غيرهِ» (¬3). وقالَ ابنُ خزيمة رحمه الله: وأنَّهُ تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، ومنْ زعمَ أنَّ علمهُ ينزلُ أو أمرَهُ ضلَّ (¬4). وقالَ الإمامُ عبدُ القادر الجيلاني رحمه الله: «وأنَّهُ تعالى ينزلُ في كلِّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا كيفَ شَاءَ وكما شَاءَ، فيغفرُ لمن أذنبَ وأخطأ وأجرمَ وعصى لمنْ يختارُ من عبادهِ ويشاءُ، تباركَ وتعالى العليُّ الأعلى، لا إله إلَّا هو لهُ الأسماءُ الحسنى، لا بمعنى نزولِ الرَّحمةِ وثوابهِ على ما ادَّعتهُ المعتزلةُ والأشعريةُ» (¬5). ¬

_ (¬1) نقض عثمان بن سعيد (ص282). (¬2) التبصير في معالم الدين (ص142 - 147)، طبعة دار العاصمة 1416. (¬3) الاستذكار (8/ 148). (¬4) تذكرة الحفاظ (2/ 728). (¬5) الغنية (1/ 57).

الوجه الثاني

الثاني: الرَّحمةُ التي تثبتهَا إنْ نزلتْ إلى السّمَاء الدُّنيا، لم يمكنْ أنْ تقولَ: «منْ يدعوني فأستجيبَ لهُ» كَمَا لا يمكنُ الملَكُ أنْ يقولَ ذلكَ ... ثمَّ إِذَا نزلتِ الرَّحمةُ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا ولم تنزلْ إلينا، فأيُّ منفعةٍ لنَا فِي ذلكَ؟! (¬1). الثالثُ: أنَّ ألفاظَ الحديثِ تبطلُ التأويلَ بنزولِ الملَكِ، ففي بعضِ الرِّواياتِ أنَّ الرَّبَّ تعالى يقولُ إذا نزلَ: «أنا الملكُ، أنا الملكُ، منْ ذا الذي يدعُوني فأستجيبَ له» (¬2)، وفي بعضها أنَّهُ تعالى يقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري» (¬3)، وكلاهما صحيحٌ. قالَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ: «وهذانِ الحديثانِ يقطعانِ تأويلَ كلِّ متأوِّلٍ ويدحضانِ حجةَ كلِّ مبطلٍ» (¬4). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 372 - 373). (¬2) أخرجه مسلم (758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه النسائي في «اليوم والليلة» (475)، والدارمي (1481 و1482)، وأحمد (4/ 16 - 17) (16265 و16268)، وابن حبان «الإحسان» (212) عن رِفاعةَ بن عَرابةَ الجُهَنيِّ رضي الله عنه، وقال الألباني رحمه الله في «إرواء الغليل» (2/ 198): وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين»، ورواه ابن ماجه (1367) بلفظ: «لا يَسْأَلَنّ عبادي غيري»، وصححه الألباني رحمه الله في «صحيح سنن ابن ماجه» (1125). (¬4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص106).

الوجه الرابع

ومعلومٌ أنَّ الكلامَ المذكورَ في الحديثِ كلامُ الله الَّذي لا يقولهُ غيرهُ، فإنَّ الملكَ لا يقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي غيري»، وَلاَ يقولُ: «مَنْ يسألني أعطيهُ». بل الذي يقولُ الملَكُ: ما ثبتَ فِي الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِذَا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلُ إنِّي أُحِبُّ فلانًا فأحبَّه، فيحبُّهُ جبريلُ، ثمَّ ينادي فِي السَّمَاء إنَّ اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبُّوه، فيحبُّهُ أهلُ السَّمَاءِ، ثمَّ يوضعُ لهُ القبولُ فِي الأرضِ» (¬1)، وذكرَ فِي البغضِ مثلَ ذلكَ. فالملكُ إِذَا نادى عَنِ الله لا يتكلَّمُ بصيغةِ المخاطبِ، بلْ يقولُ: إنَّ الله أمرَ بكذا وقالَ بكذا. وإِذَا أمرَ السُّلطانُ مناديًا ينادي فإنَّهُ يقولُ: يا معشرَ النَّاسِ! أمرَ السُّلطانُ بكذا، ونهى عنْ كذا، ورسمَ بكذا، لا يقولُ أمرتُ بكذا، ونهيتُ عنْ كذا، بلْ لوْ قَالَ ذلكَ بودرَ إلى عقوبتهِ. الرابعُ: أنَّهُ قالَ: «ينزلُ إلى السَّمَاء الدنيا، فيقولُ: منْ ذا الذي يدعوني فأستجيبَ له؟ منْ ذا الذي يسألُني فأعطيَهُ؟ منْ ذا الذي يستغفرُني فأغفرَ له؟ حتَّى يطلعَ الفجرُ»، ومعلومٌ أنَّهُ لا يجيبُ الدعاءَ ويغفرُ الذنوبَ ويعطي كلَّ سائلٍ إلَّا الله، وأمرهُ ورحمتهُ لا تفعلُ شيئًا منْ ذلكَ. الخامسُ: نزولُ أمرهِ ورحمتهِ لا تكونُ إلَّا منهُ، وحينئذٍ فهذا يقتضي أنْ يكونَ هو فوقَ العالمِ، فنفسُ تأويلهِ يبطلُ مذهبهُ، ولهذا قال بعضُ النُّفاةِ لبعضِ المثبتينَ: ينزلُ أمرهُ ورحمتهُ، فقالَ لهُ المثبتُ: فممَّنْ ينزلُ؟! مَا عندكَ فوقَ العالمِ شيءٌ، فممَّنْ ينزلُ الأمرُ؟ مِنَ العدمِ المحضِ!! فبهتَ النَّافي وكانَ كبيرًا فيهم (¬2). ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري (3209 و6040 و7485)، ومسلم (2637). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 416).

الوجه السادس

قالَ الإمامُ الدَّارميُّ: «والحديثُ نفسهُ يُبطلُ هذَا التفسير ويكذِّبهُ، غيرَ أنَّهُ أغيظُ حديثٍ للجهميَّةِ، وأنقضُ شيءٍ لدعواهم، لأنَّهم لا يقرُّون أنَّ الله فوقَ عرشهِ فوقَ سمواتهِ، ونفسُ الحديثِ ناقضٌ لدعواهم وقاطعٌ لحججهم» (¬1). السادسُ: لو أرادَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأحاديثِ النزولِ نزولَ ملَكٍ مِنَ الملائكةِ لصرَّحَ بذلكَ. فهوَ أغيرُ على ربِّهِ عزَّ وجلَّ مِنَ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ. ولا شكَّ أنَّ صرف النُّصوصِ الصَّرِيحةِ الصَّحِيحةِ المحكمةِ عنْ ظاهرهَا، وتوجيههَا على المحاملِ البعيدةِ، والمنازلِ الشاسعةِ،: تحريفٌ للشَّرعِ، وتكذيبٌ لدينِ الاسلامِ منْ حيثُ لا يشعرونَ أو يشعرونَ، ولكنْ لا يهتدونَ. السابعُ: إنَّ سلفَ الأمَّةِ والأئمَّةِ مجمعونَ على إثباتِ نزولِ الله تعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ. ولم يثبتْ عنْ أحدٍ منهم أنَّهُ تأوَّلَ نزولَ الله تعالى بنزولِ أمرهِ أو رحمتهِ أو غيرِ ذلكَ. فمنْ زعمَ أنَّ أحدًا مِنَ السَّلفِ نفى نزولَ الله تعالى حقيقةً فقدْ أعظمَ عليهم الفريةَ، ونسبَ إليهم ما لم يقولوه. بلْ إنَّ الثابتَ عَنِ السَّلفِ والأئمَّةِ أنَّه لمَّا أظهرت الجهميَّةُ والمعتزلةُ القولَ بنفي نزولِ الله تعالى، ردُّوا عليهم، وبيَّنوا أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدنيا نزولًا حقيقيًّا كما يليقُ بجلالهِ وعظمته. حدَّث الإمامُ حمَّادُ بنُ سلمة رحمه الله (167هـ) بحديثِ نزولِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ فقالَ: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يُنْكِرُ هذا فاتَّهِمُوهُ» (¬2). وقالَ الإمامُ نُعيمُ بنُ حمَّادٍ (228هـ) رحمه الله: «حديثُ النزولِ يردُّ على الجهميَّةِ قولَهم» (¬3). ¬

_ (¬1) نقضه على المريسي (1/ 500). (¬2) سير أعلام النبلاء (7/ 451)، ومختصر العلو (ص144). (¬3) التمهيد (7/ 44).

وأفردَ الإمامُ أبو داود في «كتابِ السنَّةِ» بابًا في الردِّ على الجهميَّةِ، ثمَّ أوردَ فيهِ حديثَ النُّزولِ (¬1). وقالَ عبادُ بنُ العوام رحمه الله: «قدمَ علينا شريكُ بنُ عبد الله منذ نحو منْ خمسينَ سنةٍ، فقلتُ لهُ: يا أبا عبد الله إنَّ عندنا قومًا مِنَ المعتزلة ينكرونَ هذهِ الأحاديثَ [أي أحاديثَ النزولِ] قال: فحدَّثني بنحو منْ عشرةِ أحاديث في هذا، وقال: أمَّا نحنُ فقد أَخَذْنَا دِيْنَنَا هذا عَنِ التَّابعينَ عَنْ أصحابِ رسولِ صلى الله عليه وسلم، فهُمْ عَمَّنْ أَخَذُوا» (¬2). وقال الفضيلُ بنُ عياضٍ رحمه الله (187هـ): إذا قالَ الجهميُّ: أنا أكفرُ بربٍّ يزولُ عنْ مكانهِ، فقلْ: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ (¬3). قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «أرادَ الفضيلُ بنُ عياضٍ مخالفةَ الجهميِّ الذي يقولُ أنَّهُ لا تقومُ بهِ الأفعالُ الاختياريةُ، فلا يُتَصوَّرُ منهُ إتيانٌ ولا مجيءٌ ولا نزولٌ ولا استواءٌ، ولا غيرِ ذلكَ مِنَ الأفعالِ الاختياريةِ القائمةِ بهِ. فقالَ الفضيلُ: إذا قالَ لكَ الجهميُّ: أنا أكفرُ بربٍّ يزولُ عنْ مكانهِ، فقل: أنا أؤمنُ بربٍّ يفعلُ ما يشاءُ. فأمرهُ أنْ يؤمنَ بالرَّبِّ الذي يفعلُ ما يشاءُ مِنَ الأفعالِ القائمةِ بذاتهِ التي يشاؤها» (¬4). ¬

_ (¬1) سنن أبي داود (4/ 234) (4733). (¬2) رواه البيهقي في «الأسماء والصفات» (949) بسندٍ صحيح. (¬3) «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» (3/ 204 - 205) (159) [طبعة دار الراية - الرياض، الطبعة الثانية]. (¬4) شرح حديث النزول (ص154).

وسأل بشرُ بنُ السَّري حمادَ بنَ زيدٍ رحمه الله (179هـ) فقالَ: يا أبا إسماعيل، الحديثُ الذي جاء: «ينزل اللهُ إلى سماء الدنيا» أيتحوَّلُ منْ مكانٍ إلى مكانٍ؟ فسكت حمَّاد ثمَّ قال: «هُوَ في مَكَانِهِ يَقْرُبُ من خَلْقِهِ كيفَ شَاءَ» (¬1). وقالَ البربهاريُّ شيخُ الحنابلةِ ببغدادَ (329هـ): «وإذا سمعتَ الرَّجلَ يقولُ: إنَّا نحنُ نعظِّمُ الله - إذا سمعَ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - فاعلمْ أنَّهُ جهميٌّ، يريدُ أنْ يردَّ أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويدفعهُ بهذهِ الكلمةِ، وهو يزعمُ أنَّه يعظِّمُ الله وينزِّههُ إذا سمعَ حديثَ الرؤيةِ وحديثَ النزولِ وغيرَهُ، أفليسَ قدْ ردَّ أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذْ قالَ: إنَّا نحنُ نعظِّمُ الله أنْ ينزلَ منْ موضعٍ إلى موضعٍ!! فقدْ زعمَ أنَّه أعلمُ باللهِ منْ غيرهِ» (¬2). وقالَ الإمامُ الآجريُّ رحمه الله (360هـ) في كتابهِ «الشَّريعة»: «بابُ الإيمانِ والتَّصديقِ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ. ¬

_ (¬1) رواه ابن منده في «التوحيد» ح (891)، وابن بطة في «الإبانة الكبرى» (3/ 3/202)، وقال الألباني: إسناده صحيح. (¬2) شرح السنّة (ص56).

الإيمانُ بهذا واجبٌ، ولا يسعُ المسلمَ العاقلَ أنْ يقولَ: كيفَ ينزلُ؟ ولا يردُّ هذا إلَّا المعتزلةُ؛ وأمَّا أهلُ الحقِّ فيقولونَ: الإيمانُ بهِ واجبٌ بلا كيفٍ، لأنَّ الأخبارَ قدْ صحَّتْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى السَّمَاءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ، والذينَ نقلوا إلينا هذهِ الأخبارَ هم الذينَ نقلوا إلينا الأحكامَ مِنَ الحلالِ والحرامِ، وعلمِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والحجِّ والجهادِ، فكمَا قبلَ العلماءُ عنهم ذلكَ، كذلكَ قبلوا منهم هذهِ السُّننَ، وقالوا: مَنْ رَدَّها فهو ضَالٌّ خَبِيثٌ، يَحْذَرُونَهُ ويُحَذِّرُونَ منهُ» (¬1). وقالَ الإمامُ الدارميُّ رحمه الله - بعدَ أنْ ذكرَ جملةً منْ أحاديثِ النزولِ -: فهذهِ الأحاديثُ قدْ جاءتْ كلُّها وأكثرُ منها في نزولِ الرَّبِّ تبارك وتعالى في هذهِ المواطنِ، وعلى تصديقها والإيمانِ بها أدركنا أهلَ الفقهِ والبصرِ منْ مشايخنا، لا ينكرُهَا منهم أحدٌ، ولا يمتنعُ منْ روايتها، حتَّى ظهرت هذه العصابةُ، فعارضتْ آثارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بردٍّ، وتشمَّروا لدفعها بجدٍّ، فقالوا: كيفَ نزولهُ هذا؟ قلنا: لم نُكَلَّف [معرفةَ] كيفيةِ نزولهِ في ديننا، ولا تعقلهُ قلوبنا، وليسَ كمثلهِ شيءٌ منْ خلقهِ فنشَبِّهُ منهُ فعلًا أو صفةً بفعالهم وصفتهم، ولكنْ ينزلُ بقدرتهِ ولطفِ ربوبيتهِ كيفَ يشاءُ، فالكيفُ منهُ غيرُ معقولٍ، والإيمانُ بقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في نزولهِ واجبٌ، ولا يُسألُ الرَّبُّ عمَّا يفعلُ كيفَ يفعلُ، وهم يسألونَ، لأنَّهُ القادرُ على ما يشاءُ أنْ يفعلَهُ كيفَ يشاءُ، وإنَّما يقالُ لفعلِ المخلوقِ الضعيفِ الذي لا قدرةَ لهُ إلَّا ما أقدرهُ الله تعالى عليهِ: كيف يصنعُ؟! وكيف قدرَ؟! ¬

_ (¬1) الشريعة (ص1124 - 1126).

ولو قدْ آمنتم باستواءِ الرَّبِّ على عرشهِ وارتفاعهِ فوقَ السَّماءِ السَّابعةِ بدءًا إذْ خلقها، كإيمانِ المصلِّينَ بهِ، لقلنا لكم: ليسَ نزولهُ منْ سماءٍ إلى سماءٍ بأشدَّ عليهِ ولا بأعجبَ مِنِ استوائهِ عليها إذْ خلقها بدءًا، فكمَا قدرَ على الأولى منهما كيفَ يشاءُ، فكذلكَ يقدرُ على الأخرى كيفَ يشاء (¬1). وقالَ الإمامُ ابنُ بطة العكبريُّ رحمه الله - بعدَ أنْ ذكرَ جملةً مِنْ أحاديثِ النزولِ -: «وقد اختصرتُ مِنَ الأحاديثِ المرويةِ في هذا البابِ ما فيهِ كفايةٌ وهدايةٌ للمؤمنِ الموفَّقِ الذي شرحَ الله صدرَهُ للإسلامِ، وأمدَّهُ ببصائرِ الإيمانِ، وأعاذهُ منْ عنادِ الجهميَّةِ، وجحودِ المعتزلةِ؛ فإنَّ الجهميَّةَ تردُّ هذهِ الأحاديثَ وتجحدها، وتكذِّبُ الرواة، وفي تكذيبها لهذه الأحاديثِ ردٌّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومعاندةٌ لهُ؛ ومنْ ردَّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقد ردَّ على الله. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]» (¬2). ¬

_ (¬1) الرد على الجهمية (ص79). (¬2) الإبانة (3/ 239).

الوجه الثامن

الثامنُ: إنَّ القرآنَ يصدِّقُ معنى الحديثِ كما احتجَّ بهِ أئمَّةُ السَّلفِ. قال الإمامُ الدارميُّ: «فممَّا يعتبرُ بهِ منْ كتابِ الله عزَّ وجلَّ في النُّزولِ ويحتجُّ بهِ على منْ أنكرهُ، قولُهُ تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ} [البقرة: 210]، وقولهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]. وهذا يومَ القيامة إذا نزلَ الله ليحكمَ بينَ العبادِ .. ، فالذي يقدرُ على النزولِ يومَ القيامةِ مِنَ السَّموات كلِّها ليفصلَ بينَ عبادهِ، قادرٌ أنْ ينزلَ كلَّ ليلةٍ منْ سماءٍ إلى سماءٍ، فإنْ ردُّوا قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في النُّزولِ، فماذا يصنعونَ بقولِ الله عزَّ وجلَّ، تبارك وتعالى» (¬1). وسئلَ الإمامُ إسحاقُ بنُ راهوية في مجلسِ الأميرِ عبدِ الله بنِ طاهرٍ عنْ حديثِ النُّزولِ أصحيحٌ هوَ؟ قالَ: نعم. فقالَ لهُ بعضُ القوادِ كيفَ ينزلُ؟ قالَ: أثبتهُ فوق حتَّى أصفَ لكَ النُّزولَ! فقالَ الرجلُ: أثبتهُ فوق، فقالَ إسحاق: قالَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22] فقالَ ابنُ طاهرٍ: هذا يا أبا يعقوب يوم القيامةِ. فقالَ: ومنْ يجيءُ يومَ القيامةِ منْ يمنعهُ اليومَ؟ (¬2). ¬

_ (¬1) الرد على الجهمية (ص63). (¬2) رواه الذهبي في «العلو» (ص1127)، وصححه الألباني في «مختصر العلو» (ص193).

وقالَ محمَّدُ بنُ الحسنِ: قالَ حمَّادُ بنُ أبي حنيفة رحمه الله: «قلنا لهؤلاءِ: أرأيتم قولَ الله عزَّ وجلَّ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22] قالوا: أمَّا الملائكةُ فيجيئونَ صفًا صفًا، وأمَّا الرَّبُّ تعالى فإنَّا لا ندري ما عنيَ بذلكَ، ولا ندري كيفَ مجيئهُ. فقلتُ لهم: إنَّا لم نكلِّفكم أنْ تعلموا كيفَ مجيئهُ، ولكنَّا نكلِّفكم أنْ تؤمنوا بمجيئه. أرأيتم مَنْ أنكرَ أنَّ الملكَ يجيء صفًّا صفًّا ما هوَ عندكم؟ قالوا: كافرٌ مكذِّبٌ. قلتُ: فَكَذلِكَ إنْ أَنْكَرَ أنَّ اللهَ سبحانه يَجِيءُ فهو كَافِرٌ مُكَذِّبٌّ» (¬1). قال الرازي في «أساس التقديس» (ص143): «إنَّ الربَّ هو المربي، فلعلَّ ملكًا عظيمًا هو أعظمُ الملائكةِ كان مربيًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ هو المراد من قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} [الفجر: 22]». وقد علق شيخ الاسلام على تأويل الرازي هذا بقوله: «فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الاسلام أنَّ هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله، وعلى كلامه، وأنَّ الله لم يجعل لمحمدٍ قط ربًا غير الله: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]» (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو عثمان الصابوني في «عقيدة السلف» (ص64)، وإسناده صحيح. (¬2) بيان تلبيس الجهمية (6/ 306 - 307) طبعة مجمع الملك فهد.

الوجه التاسع

التاسعُ: يقالُ لهم مَا قالهُ الإمامُ الدارميُّ للجهميَّةِ: بيننا وبينكم حجَّةٌ واضحةٌ يعقلهَا منْ شاء الله مِنَ النِّساءِ والولدانِ: ألستم تعلمونَ أنَّا قد أتيناكم بهذهِ الرواياتِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعنْ أصحابه والتابعينَ، منصوصةً صحيحةً عنهم، أنَّ الله تبارك وتعالى ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا، وقد علمتم يقينًا أنَّا لمْ نخترعْ هذه الرواياتِ، ولم نفتعلها، بل رويناها عَنِ الأئمَّةِ الهادينَ الذينَ نقلوا أصولَ الدين وفروعَهُ إلى الأنامِ، وكانتْ مستفيضةً في أيديهم، يتنافسونَ فيها، ويتزينون بروايتها، ويحتجُّونَ بها على منْ خالفها. قدْ علمتم ذلكَ ورويتموهَا كما رويناها إنْ شاء الله، فأتوا ببعضهَا أنَّهُ لا ينزلُ منصوصًا كما روينا عنهم النُّزولَ منصوصًا حتَّى يكونَ بعضُ ما تأتونَ بهِ ضدًّا لبعضِ ما أتيناكم بهِ، وإلَّا لم يدفعْ إجماعُ الأمَّةِ، وما ثبتَ عنهم في النُّزولِ منصوصًا بلا ضدٍّ منصوصٍ منْ قولهم، أو منْ قولِ نظرائهم، ولم يُدْفَعْ شيءٌ بلا شيءٍ لأنَّ أقاويلهم ورواياتهم شيءٌ لازمٌ، وأصلٌ منيعٌ، وأقاويلكم ريحٌ ليستْ بشيءٍ (¬1). وأمَّا منْ قَالَ: إنَّ نزولَ الرَّبِّ تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السَّمَاء الدُّنْيَا مجازٌ وأنَّ المرادَ بالنُّزولِ الإحسانُ والرَّحمةُ وأسندَ دعواه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] وبقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، قَالَ: معلومٌ أنَّ الحديدَ والأنعامَ لم تنزلْ مِنَ السّمَاءِ إلى الأرضِ. وهذَا الكلامُ باطلٌ مِنْ وجوهٍ: الوجهُ الأولُ: أنَّ ما ذكرهُ النُّفاةُ منْ مجازِ النزولِ لا يعرفُ فِي كتابٍ وَلاَ سنَّةٍ وَلاَ لغةٍ وَلاَ شرعٍ وَلاَ عرفٍ وَلاَ استعمالٍ. ¬

_ (¬1) الرد على الجهمية (ص82).

قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: «ليسَ في القرآنِ ولا في السنَّةِ لفظُ نزولٍ إلَّا وفيهِ معنى النزولِ المعروفِ -[أي الهبوطُ والدنو منْ علوٍّ]- وهذا هوَ اللائقُ بالقرآنِ، فإنَّه نزلَ بلغةِ العربِ، ولا تعرفُ العربُ نزولًا إلَّا بهذا المعنى، ولو أريدَ غيرُ هذا المعنى لكانَ خطابًا بغيرِ لغتها» (¬1). الوجهُ الثاني: أنَّهُ لَوْ عرفَ استعمالُ لفظِ النزولِ في غيرِ معناه المعروف لغةً مع وجودِ قرينةٍ تصرفهُ لمْ يكنْ موجبًا لإخراجِ اللَّفظِ عنْ حقيقتهِ حيثُ لا قرينة. الوجهُ الثالثُ: أنَّ قولَهُ: معلومٌ أنَّ الحديدَ لم ينزلْ جُرْمُهُ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرضِ، وكذلكَ الأنعامُ، يقالُ لهُ: أينَ الدليلُ على ذلكَ؟ الوجهُ الرابعُ: ليسَ هناكَ ما يمنعُ أصلَ نزولِ الأنعامِ، خاصَّةً وأنَّ أصلَ الإنسانِ وهو آدمُ عليه السلام نزلَ من علوٍّ إلى أسفلَ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه: 123] فالمدَّعي أنَّ الحديدَ لم ينزلْ من السَّمَاء ليسَ معهُ مَا يبطلُ ذلكَ. الوجهُ الخامسُ: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمْ يقلْ: أنزلنا الحديدَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلاَ قَالَ: وأنزلَ لكمْ مِنَ الأنعامِ ثمانيةَ أزواجٍ مِنَ السَّمَاء، فقولهم: معلومٌ أنَّ الحديدَ والأنعامَ لم ينزلْ مِنَ السَّمَاء إلى الأرضِ لا يُخرِجُ لفظةَ النُّزولِ عنْ حقيقتِهَا إذ عَدَمُ النُّزولِ مِنْ مكانٍ معيَّنٍ لا يستلزمُ عدمهُ مطلقًا. الوجهُ السادسُ: أنَّ الحديدَ إنَّما يكونُ فِي المعادنِ التي فِي الجبالِ وهي عاليةٌ عَلَى الأرضِ. «فالحديدُ ينزلهُ الله منْ معادنهِ التي في الجبالِ لينتفعَ بهِ بنو آدم» (¬2). الوجهُ السابعُ: أنَّ الله سبحانهُ ذكرَ الإنزالَ عَلَى ثلاثِ درجاتٍ: أ - إنزالٌ مطلقٌ كقولهِ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25]. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (12/ 257). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 254).

ب - إنزالٌ مِنَ السَّمَاءِ كقولهِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]. ج - إنزالٌ منهُ سبحانه وتعالى كقولهِ: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. فأخبرَ أنَّ القرآنَ منزلٌ منهُ، والمطرُ منزلٌ من السَّماءِ، والحديدُ منزلٌ نزولًا مطلقًا. الوجهُ الثامنُ: أنَّ الله سبحانه وتعالى قَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] فالكتابُ كلامهُ والميزانُ عدلهُ فأخبرَ أنَّه أنزلهما مَعَ رسلهِ ثمَّ قَالَ: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] ولم يقلْ وأنزلنا معهمُ الحديدَ؛ فلمَّا ذكرَ كلامَهُ وعدلَهُ أخبرَ أنَّهُ أنزلهما مَعَ رسلهِ ولمَّا ذكرَ مخلوقَهُ النَّاصرَ لكتابهِ وعدلهِ أطلقَ إنزالهُ ولم يقيِّده بما قيَّدَ بهِ إنزالَ كلامهِ. فالمسوِّي بينَ الإنزالينِ مخطئٌ فِي اللَّفظِ والمعنى. وليسَ منْ ذوي الأذهانِ القويمةِ والأفكارِ المستقيمةِ. وأمَّا قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] فإنَّ الأنعامَ تُخلقُ بالتَّوالدِ المستلزمِ إنزال الذُّكورِ الماءَ منْ أصلابها إلى أرحامِ الإناثِ ولهذا يقالُ أنزلَ، ولمْ ينزلْ؛ ثمَّ إنَّ الأجنَّةَ تنزلُ منْ بطونِ الأمَّهاتِ إلى وجهِ الأرضِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ الأنعامَ تعلو فحولُهَا إناثهَا عندَ الوطءِ، وينزلُ ماءُ الفحلِ مِنْ علوٍّ إلى رحمِ الأنثى، وتلقي ولدَهَا عندَ الولادةِ منْ عُلوٍّ إلى سفلٍ. الوجهُ التاسعُ: أنَّ نزولَ الرَّبِّ تبارك وتعالى إلى السَّمَاء الدُّنْيَا قدْ تواترتِ الأخبارُ بهِ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رواهُ عنهُ نحو ثمانية وعشرين نفسًا مِنَ الصَّحابةِ.

قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البرِّ رحمه الله - عنْ حديثِ النزولِ -: هذا حديثٌ ثابتٌ منْ جهةِ النَّقلِ، صحيحُ الإسنادِ، لا يختلفُ أهلُ الحديثِ في صحَّتهِ، وهوَ حديثٌ منقولٌ منْ طرقٍ متواترةٍ، ووجوهٍ كثيرةٍ منْ أخبارِ العدولِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم» (¬1). وقالَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ رحمه الله (600هـ): «وتواترتِ الأخبارُ، وصحَّتِ الآثارُ بأنَّ الله عزَّ وجلَّ ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيجبُ الإيمانُ بهِ، والتسليمُ لهُ وتركُ الاعتراضِ عليهِ وإمرارهُ منْ غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تأويلٍ ولا تنزيهٍ ينفي حقيقةَ النزولِ» (¬2). وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: «وأحاديثُ نزولِ الباري تَعَالى مُتوَاتِرَةٌ قدْ جمعتُ طرقَهَا وتكلَّمتُ عليها بما أسألُ عنهُ يومَ القيامةِ» (¬3). وقالَ رحمه الله: «وقد أَلَّفْتُ أحاديثَ النزولِ في جزءٍ وذلكَ متواترٌ أَقْطَعُ بهِ» (¬4). ¬

_ (¬1) التمهيد (7/ 137). (¬2) يشير إلى دعوى الذين أوَّلوا صفة النّزول بنفي حقيقة هذه الصفة مدَّعين أنَّهم إنَّما فعلوا ذلك لأنَّ الاثبات الحقيقي يتنافى مع مقصد التنزيه، وأنَّ التنزيه يقتضي نفي هذه الحقيقة. وكذا القائلين بالتفويض لجزمهم بنفي حقيقة النزول مع تفويضهم المعنى. وهذه العبارة مما أخذه المبتدعة على الامام عبد الغني وشنَّعوا عليه بها، وردّ عليهم الحافظ ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 23) بقوله: «إن صحَّ هذا عنه فهو حق، وهو كقول القائل: لا أنزّه تنزيهًا ينفي حقيقة وجوده، أو حقيقة كلامه، أو حقيقة علمه، أو سمعه وبصره، ونحو ذلك». (¬3) العلو (ص700 - 701). (¬4) العلو (ص755).

وهذا يدلُّ عَلَى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يبلِّغُهَا فِي كلِّ موطنٍ ومجمعٍ فكيفَ تكونُ حقيقتهَا محالًا وباطلًا وهوَ صلى الله عليه وسلم يتكلَّمُ بها دائمًا ويعيدهاَ ويبديهَا مَرَّةً بعدَ مرَّةٍ وَلاَ يقرنُ باللَّفظِ مَا يدلُّ عَلَى مجازهِ بوجهٍ مَا؛ بل يأتي بما يدلُّ عَلَى إرادةِ الحقيقةِ كقولهِ: «ينزلُ ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السّمَاءِ الدُنْيَا فيقولُ: وعزَّتي وجلالي لا أسألُ عنْ عبادي غيري» (¬1)، وقوله: «مَنْ ذا الّذي يسألُني فأعطيَه منْ ذا الَّذي يستغفرُني فأغفرَ لهُ، منْ ذا الَّذي يدعُوني فأستجيبَ له» وقولهِ: «فيكونُ كذلكَ حتَّى يطلعَ الفجرُ» (¬2)، فهذا كلُّه بيانٌ لإرادةِ الحقيقةِ ومانعٌ منْ حملهِ عَلَى المجازِ. قالَ ابنُ القيَّم رحمه الله: مَا كُلُّ هَذَا قَابِلُ التأويلِ بالتـ ... حْرِيفِ فَاسْتَحْيُوا مِنَ الرَّحْمَنِ هَذَا وَأصْلُ بَلِيَّةِ الإسلامِ مِنْ ... تَأوِيلِ ذِ التَّحْرِيفِ والبُطْلاَنِ وَلأجْلِهِ قَدْ قَالَ جَهْمٌ لَيْسَ رَبُّ ... العَرْشِ خَارِجَ هَذِهِ الأكْوَانِ كلَّا ولا فَوقَ السَّمَواتِ العُلَى ... وَالعَرْشِ مِنْ رَبٍّ وَلاَ رَحْمَنِ مَا فَوقَها رَبٌّ يُطَاعُ جِبَاهُنَا ... تَهْوِي لَهُ بِسُجُودِ ذِي خُضْعَانِ وَلأجْلِهِ جُحدَتْ صفَاتُ كَمَاله ... وَالعَرْشَ أخْلَوْهُ مِنَ الرَّحْمَنِ ولأَجْلِهِ قَدْ كَذَّبُوا بِنُزُولِهِ ... نَحْوَ السَّمَاءِ بِنِصْفِ لَيْلٍ ثَانِ وَلأَجْلِهِ زَعَمُوا الكِتَابَ عِبَارَةً ... وَحِكَايةً عَنْ ذَلِكَ القُرْآنِ (¬3) وأمَّا منْ قالَ: إنَّ حديثَ النزولِ لا يفهمُ منهُ شيءٌ؛ فهذا «ضلالٌ عظيمٌ، وهو أحدُ أنواعِ الضَّلال في كلامِ اللهِ والرسولِ صلى الله عليه وسلم، ظنُّ أهلِ التَّخييلِ، وظنُّ أهلِ التَّحريفِ، والتبديلِ، وظنُّ أهلِ التجهيلِ» (¬4). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) الكافية الشافية (ص147 - 149). (¬4) مجموع الفتاوى (5/ 414).

فيلزمهمْ أنْ يكونَ الرسولُ الذي تكلَّمَ بحديثِ النُّزولِ لم يدر هو ما يقولُ، ولا ما عنيَ بكلامه - وهو المتكلِّمُ بهِ ابتداءً. سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ وقدحٌ في الرسولِ. وهلْ قَدَرَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم حقَّ قَدْرِهِ مِنْ نسبَ كلامهُ إلى مثلِ ذلكَ. ومعلومٌ أنَّ هذا نسبةٌ للرسولِ إلى التلبيسِ وعدمِ البيانِ، بلْ إلى كتمانِ الحقِّ وإضلالِ الخلقِ بل إلى التكلُّمِ بكلامٍ لا يُعْرفُ حقُّهُ منْ باطلهِ (¬1). فهل يجوزُ لعاقلٍ أنْ يظنَّ هذا بأحدٍ منْ عقلاءِ بني آدمَ؟ فضلًا عَنِ الأنبياءِ فضلًا عَنْ أفضلِ الأولينَ والآخرينَ، وأعلمِ الخلقِ، وأفصحِ الخلقِ، وأنصحِ الخلقِ للخلقِ صلى الله عليه وسلم؟ وهمْ معَ ذلكَ يدَّعونَ أنَّهم أهلُ السنَّةِ، وأنَّ هذا القولَ الذي يصفونَ بهِ الرسولَ وأمَّته هو قولُ أهلِ السُّنَّةِ. ولا ريبَ أنَّهم لم يتصوَّروا حقيقةَ ما قالوه ولوازمَهُ. ولو تصوَّروا ذلكَ لعلموا أنَّهُ يلزمهم ما هو مِنْ أقبحِ أقوالِ الكفَّارِ في الأنبياءِ، وهم لا يرتضونَ مقالةَ منْ ينتقصُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولو تنقَّصهُ أحدٌ لاستحلُّوا قتلهُ، وهم مصيبونَ في استحلالِ قتلِ منْ يقدحُ في الأنبياءِ عليهم السلام، وقولهم يتضمَّنُ أعظمَ القدحِ؛ لكنْ لمْ يعرفوا ذلكَ، ولازمُ القولِ ليس بقولٍ، فإنَّهم لو عرفوا أنَّ هذا يلزمهم ما التزموه (¬2). فالحقُّ الحقيقُ بالاتباعِ، الحريُّ بالاعتقادِ، النَّائي عَنِ الابتداعِ، الذي ينبغي عليهِ التعويلُ: أنْ نؤمنَ بأحاديثِ النزولِ، ونقول بظاهرهَا، ونمرُّها على فحواها الواضحةِ، ومبناها النَّاطقةِ، مَعَ اعتقادِ: التنزيهِ عنْ شبهِ الخلقِ، ونفي: المماثلةِ والكفاءةِ، كما أرشدنَا إلى هذا: ربُّنا تبارك وتعالى، الذي ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ، ويقولُ لعبادهِ مخاطبًا بما شاء. ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 241). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 476 - 477).

وهذا الحَقُّ ليسَ بهِ خَفَاءُ ... فَدَعْنِي عن بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ ومنْ حكَّمَ على عقلهِ الانقيادَ للكتابِ والسنَّةِ فقدِ فازَ، ومنْ دخلَ في التَّحريفِ والتَّأويلِ وضربِ الأمثالِ فقدْ خاطرَ بدينهِ (¬1) وهوَ «غيرُ مقتدٍ بالسَّلفِ، ولا واقفٌ في طريقِ النَّجاةِ، ولا معصومٌ عَنِ الخطأ، ولا سالكٌ في جادَّةِ السَّلامةِ والاستقامةِ» (¬2). ومنْ نبذَ الدينَ وراءهُ وحكَّمَ هواهُ وآراءَه ضلَّ عنْ سبيلِ المؤمنين، وباءَ بسخطٍ منْ ربِّ العالمينَ (¬3). فمنْ خالفَ الوحيَ المبينَ بعقلهِ ... فذاكَ امرؤٌ قدْ خابَ حقًّا وقدْ خسرْ وفي تركِ أمرِ المصطفى فتنةٌ فذرْ ... خلافَ الذي قدْ قالهُ واتْلُ واعتبرْ (¬4) وأخيرًا: فإنَّ «منْ علمَ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأفصحُ الخلقِ في البيانِ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، علمَ أنَّهُ قدِ اجتمعَ في حقِّهِ كمالُ العلمِ بالحقِّ، وكمالُ القدرةِ على بيانهِ، وكمالُ الإرادةِ لهُ. ومَعَ كمالِ العلمِ والقدرةِ والإرادةِ يجبُ وجودُ المطلوبِ على أكملِ وجهٍ، فيعلمُ أنَّ كلامَهُ أبلغُ ما يكونُ، وأتمُّ ما يكونُ، وأعظمُ ما يكونُ بيانًا لما بيَّنهُ في الدِّينِ منْ أمورِ الإلهيةِ وغيرِ ذلكَ. فمنْ وقرَ هذا في قلبهِ لم يقدرْ على تحريفِ النُّصوصِ بمثلِ هذهِ التأويلاتِ التي إذا تُدِبِّرتْ وجدَ مَنْ أرادها بذلكَ القولِ منْ أبعدِ النَّاسِ عمَّا يجبُ اتِّصافُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بهِ» (¬5). ومنْ ظنَّ أنَّ غيرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم أعلمُ بهذا منهُ، أو أكملُ بيانًا منهُ، أو أحرصُ على هدى الخلقِ منهُ: فهوَ مِنَ الملحدينَ لا مِنَ المؤمنينَ (¬6). * * * ¬

_ (¬1) الأربعين في صفات رب العالمين (ص151 - 152)، ضمن ست رسائل للحافظ الذهبي. (¬2) فتح البيان (11/ 12). (¬3) الأسماء والصفات (2/ 384). (¬4) السير (18/ 388). (¬5) مجموع الفتاوى (17/ 129). (¬6) مجموع الفتاوى (5/ 31).

الشبهات الواردة على صفة النزول

الشُّبهاتُ الواردةُ على صفَّةِ النزولِ قبلَ البدءِ بذكرِ الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ النزولِ والردِّ عليها أذكرُ كلامًا نفيسًا يزيلُ كثيرًا منَ الشُّبهاتِ في هذا البابِ وغيرهِ. اعلمْ رحمكَ اللهُ بأنَّ صفاتِ الله لا يتوهَّمُ فيها شيءٌ منْ خصائصِ المخلوقينَ لا في لفظهَا ولا في ثبوتِ معناهَا. فإثباتهَا للرَّبِّ تعالى لا محذورَ فيهِ بوجهٍ، بلْ تثبتُ لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، ولا يشابههم، فمنْ نفاها عنهُ لإطلاقهَا على المخلوقِ ألحدَ في أسمائهِ، وجحدَ صفاتِ كمالهِ. ومنْ أثبتهَا على وجهٍ يماثلُ فيها خلقهُ فقدْ شبَّههُ بخلقهِ، ومنْ شبَّهَ الله بخلقهِ فقدْ كفرَ، ومنْ أثبتهَا لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، بلْ كما يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ فقد برىءَ من فرثِ التَّشبيهِ ودمِ التَّعطيلِ، وهذا طريقُ أهلِ السنَّةِ. فما لزمَ الصفَّة لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيهُ عَنِ الله كما يلزمُ حياةُ العبدِ منَ النَّومِ والسِّنةِ والحاجةِ إلى الغذاءِ والمرضِ والموتِ، وكذلكَ علمهُ محفوفٌ بنقصينِ: جهلٌ سابقٌ، ونسيانٌ لاحقٌ؛ وكذلكَ ما يلزمُ إرادتهُ عنْ حركةِ نفسهِ في جلبِ ما ينتفعُ بهِ ودفعِ ما يتضررُ بهِ، وكذلكَ ما يلزمُ علوُّهُ من احتياجهِ إلى ما هو عالٍ عليهِ وكونهِ محمولًا بهِ مفتقرًا إليهِ محاطًا بهِ، كلُّ هذا يجبُ نفيهُ عنِ القدُّوسِ السَّلامِ - تباركَ وتعالى ـ. فإذا أحطتَ بهذهِ القاعدةِ خبرًا وعقلتهَا كما ينبغي خلصتَ مِنَ الآفتينِ اللتينِ هما أصلُ بلاءِ المتكلِّمينَ، آفةُ التَّعطيلِ وآفةُ التَّشبيهِ، فإنَّكَ إذا وفَّيتَ هذا المقامَ حقَّهُ أثبتَ لله الأسماءَ الحسنى والصفِّاتِ العلى حقيقةً، فخلصتَ مِنَ التَّعطيلِ ونفيتَ عنهَا خصائصَ المخلوقينَ ومشابهتهم فخلصتَ مِنَ التَّشبيهِ.

الشبهة الأولى: شبهة اختلاف ثلث الليل في البلاد

فعليكَ بمراعاةِ هذا الأصلِ والاعتصامِ بهِ، واجعلهُ جُنَّتَكَ التي ترجعُ إليهَا في كلِّ ما يطلقُ على الرَّبِّ تعالى وعلى العبدِ (¬1). وبعدَ هذا الكلامِ النَّفيسِ نذكرُ شبهاتِ القومِ ونأتي عليهَا مِنَ القواعدِ بإذنِ العليِّ الأعلى الكبيرِ المتعالِ سبحانه وتعالى. الشُّبهةُ الأولى الليلُ ينتقلُ منْ مكانٍ إلى آخرَ فثلثُ الليلِ مثلًا في الشَّرقِ ينتقلُ حتَّى يكونَ في الغربِ، ويختلفُ الزمنُ فكيفَ نوفِّقُ بينَ هذا وبينَ تقييدِ نزولِ الله عزَّ وجلَّ بثلثِ الليلِ؟ قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: ومعلومٌ بالضَّرورةِ منْ دينِ الإسلامِ قبحُ هذا الاعتراضِ، وأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ الرَّاشدينَ لَوْ سمعوا مَنْ يعترضُ بهِ لما ناظروهُ، بلْ بادروا إلى عقوبتهِ وإلحاقهِ بزمرةِ المخالفينَ المنافقينَ المكذِّبينَ (¬2). وقال شيخُ الإسلام?: وهذا إنما قالوهُ لتخيلهم من نزولهِ ما يتخيلونهُ من نزولِ أحدهم، وهذا عينُ التمثيل، ثمَّ إنهم بعدَ ذلك جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم، الذي لا يمكنهُ أن يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عن جمعهِ، وقد جاءتُ الأحاديثُ بأنَّهُ يحاسبُ خلقهُ يومَ القيامة كلٌّ منهم يراهُ مخليًا بهِ يتجلَّى ويناجيهِ، لا يرى أنهُ متخليًّا لغيرهِ ولا مخاطبًا لغيرهِ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ العَبدُ: الحَمدُ لله رب العالمين يقولُ اللهُ: حمدنِي عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال اللهُ: أثنى عليَّ عبدي» (¬3). فكلٌّ منَ الناسِ يناجيهِ، واللهُ تعالى يقولُ لكلٍّ منهم ذلكَ، ولا يشغلهُ شأنٌ عن شأنٍ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: بدائع الفوائد (1/ 173)، وجلاء الأفهام (ص82 - 83). (¬2) فضل علم السلف عَلَى الخلف (ص23) تحقيق: الشيخ علي حسن عبد الحميد. (¬3) قطعة من حديث رواه مسلم (395). (¬4) بيان تلبيس الجهمية (4/ 55 - 56) طبعة مجمع الملك فهد.

وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: والليلُ يختلفُ فيكونُ ثلثهُ بالمشرقِ قبلَ أنْ يكونَ ثلثهُ بالمغربِ، ونزولهُ الذي أخبرَ بهِ رسولهُ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، وإلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، لا يشغلهُ شأنٌ عنْ شأنٍ، وكذلكَ قربُهُ مِنَ الدَّاعي المتقرِّبِ إليهِ والسَّاجدِ لكلِّ واحدٍ بحسبهِ حيثُ كانَ وأينَ كانَ. والرَّجلانِ يسجدانِ في موضعٍ واحدٍ ولكلِّ واحدٍ قربٌ يخصُّهُ لا يشركهُ فيهِ الآخرُ. والنُّصوصُ الواردةُ فيها الهدى والشِّفاءُ، والذي بلَّغها بلاغًا مبينًا، هو أعلمُ الخلقِ بربِّهِ وأنصحهم لخلقهِ وأحسنهم بيانًا، وأعظمُ بلاغًا، فلا يمكنُ أحدٌ أنْ يعلمَ ويقولَ مثلَ ما علمهُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقالهُ. وكلُّ منْ منَّ الله عليهِ ببصيرةٍ في قلبهِ تكونُ معهُ معرفةٌ بهذا، قالَ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 6]. وقال في ضدِّهم: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الأنعام: 39] (¬1). وقال العلَّامةُ ابنُ عثيمين رحمه الله: وأوردَ المتأخرونَ الذينَ عرفوا أنَّ الأرضَ كرويةٌ وأنَّ الشمسَ تدورُ عَلَى الأرضِ إشكالًا؛ قالوا: كيفَ ينزلُ فِي ثلثِ الليلِ؟! وثلثُ الليلِ إِذَا انتقلَ عَنِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ذهبَ إلى أوروبا وما قاربها؟! أفيكونُ نازلًا دائمًا؟! (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 243 - 244). (¬2) شرح العقيدة الواسطية (ص401).

فنقولُ: إنَّهُ لا إشكالَ في ذلكَ بحمدِ الله تعالى، فإنَّ هذا الحديثَ منْ صفاتِ الله تعالى الفعليةِ، والواجبُ علينا نحوَ صفاتِ الله تعالى سواءٌ كانت ذاتيةً كالوجهِ واليدينِ، أم معنويةً كالحياةِ والعلمِ، أمْ فعليةً كالاستواءِ على العرشِ والنزولِ إلى السَّماء الدُّنيا، فالواجبُ علينا نحوهَا مَا يلي: أ - الإيمانُ بهَا على مَا جاءتْ بهِ النُّصوصُ مِنَ المعاني والحقائقِ اللائقةِ بالله تعالى. ب - الكفُّ عنْ محاولةِ تكييفها تصوُّرًا في الذهنِ، أو تعبيرًا في النُّطقِ؛ لأنَّ ذلكَ مِنَ القولِ على الله تعالى بلا علمٍ، وقدْ حرَّمهُ الله تعالى في قولهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعراف: 33]، وفي قولهِ تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا *} [الإسراء: 36]. ولأنَّ الله تعالى أعظمُ وأجَلُّ مِنْ أنْ يدركَ المخلوقُ كنهَ صفاتهِ وكيفيتهَا، ولأنَّ الشيءَ لا يمكنُ إدراكهُ إلَّا بمشاهدتهِ أو مشاهدةِ نظيرهِ أو الخبرِ الصَّادقِ عنهُ، وكلُّ ذلكَ منتفٍ بالنِّسبةِ لكيفيةِ صفاتِ الله تعالى. ج - الكفُّ عنْ تمثيلها بصفاتِ المخلوقينَ سواءٌ كانَ ذلكَ تصوُّرًا في الذِّهنِ أم تعبيرًا في النُّطقِ، لقولهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

فإذا علمتَ هذا الواجبَ نحوَ صفاتِ الله تعالى، لمْ يبقَ إشكالٌ في حديثِ النزولِ، ولا غيرهِ مِنْ صفاتِ الله تعالى، وذلكَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أمَّتهُ أنَّ الله تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ، مخاطبًا بذلكَ جميعَ أمَّتهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربهَا، وخبرهُ هذا منْ علمِ الغيبِ الذي أظهرهُ الله تعالى عليهِ، والذي أظهرهُ عليه - وهو الله تعالى - عالمٌ بتغيُّرِ الزمنِ على الأرضِ، وأنَّ ثلثَ الليلِ عندَ قومٍ يكونُ نصفَ النَّهارِ عندَ آخرينَ مثلًا. وإذا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخاطبُ الأمَّةَ جميعًا بهذا الحديثِ الذي خصَّصَ فيهِ نزولَ الله تباركَ وتعالى بثلثِ الليلِ الآخرِ فإنَّه يكونُ عامًّا لجميعِ الأمَّةِ، فمنْ كانوا في الثلثِ الآخرِ مِنَ الليلِ تحقَّقَ عندهم النزولُ الإلهيُّ، وقلنا لهم: هذا وقتُ نزولِ الله تعالى بالنِّسبةِ إليكم، ومنْ لم يكونوا في الوقتِ فليسَ ثمَّ نزولُ الله تعالى بالنِّسبةِ إليهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حدَّدَ نزولَ الله تعالى إلى السَّماء الدُّنيا بوقتٍ خاصٍّ، فمتَّى كانَ ذلكَ الوقتُ كانَ النزولُ ومتى انتهى انتهى النزولُ، وليسَ في ذلكَ أيُّ إشكالٍ، وهذا وإنْ كانَ الذِّهنُ قدْ لا يتصوَّرهُ بالنسبةِ إلى نزولِ المخلوقِ، لكن نزولَ الله تعالى ليسَ كنزولِ خلقهِ حتَّى يقاسُ به ويجعل ما كانَ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى المخلوقِ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى الخالقِ.

فمثلًا: إذا طلعَ الفجرُ بالنِّسبةِ إلينا وابتدأَ ثلثُ الليلِ بالنِّسبةِ إلى منْ كانوا غربًا قلنا: إنَّ وقتَ النزولِ الإلهيِّ بالنِّسبةِ إلينا قَدِ انتهى، وبالنِّسبةِ إلى أولئكَ قَدِ ابتدأَ، وهذا في غايةِ الإمكانِ بالنِّسبةِ إلى صفاتِ الله تعالى، فإنَّ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬1). وقالَ الشَّيْخُ محمَّدُ بنُ خليل الهرَّاس رحمه الله: «المعطِّلةُ يشككونَ في حديثِ النزولِ، ويقولونَ: إنَّ علمَ الهيئةِ أثبتَ أنَّ الأرضَ في دورانها حولَ الشَّمسِ (¬2) - وحولَ نفسهَا - تحدثُ مشارقَ ومغاربَ في كلِّ لحظةٍ، ومعنى هذا أنَّهُ في كلِّ لحظةٍ يكونُ هناكَ ثلثُ ليلٍ آخر على سطحِ الأرضِ، وهذا يقتضي أنْ يكونَ الله عزَّ وجلَّ صاعدًا نازلًا في كلِّ لحظةٍ، ونحنُ نقولُ لهؤلاءِ: إنَّ الخبرَ قدْ صحَّ رغمَ أنوفكمْ، وكلامكمْ هذا ليسَ طعنًا في صحَّةِ الخبرِ، ولكنَّهُ تجهيلٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وإلحادٌ في حديثهِ» (¬3). ¬

_ (¬1) الجواب المختار لهداية المحتار (ص33 - 35)، للعلاّمة: ابن عثيمين رحمه الله. (¬2) الصحيح أنَّ الشمس تدور حول الأرض. (¬3) تعليقات الشيخ محمَّد خليل الهرَّاس على كتاب «التوحيد» لابن خزيمة، (ص128).

وهذا القولُ هو ما يجبُ أنْ يكونَ في نفسِ كلِّ أحدٍ، وهو أنْ لا يتشرَّبَ بدعَ المبتدعينَ وتضليلاتهم، بل يعتصمُ بالكتابِ والسنَّةِ، ويؤمنُ بما جاءَ عَنِ الله وعَنْ رسولهِ صلى الله عليه وسلم ممَّا صحَّ عنهُ، وستكونُ هذهِ الخيالاتُ والوساوسُ التي يلقونها، أوهنَ عندهُ منْ بيتِ العنكبوتِ، وإنْ لم يعرفِ الردَّ على كلامهمْ بالتَّفصيلِ، ويكونُ قائلًا بلسانِ حالهِ ومقالهِ: آمنتُ بما جاءَ عَنِ الله على مرادِ الله، وبما جاءَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مرادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجدهُ في عقلي منْ وساوسَ أرمي بهِ عرضَ الحائطِ ولا أبالي. فالله تعالى أعلمُ بنفسهِ منْ غيرهِ، ورسولهُ أعلمُ بربِّهِ ممَّا سواهُ، وأخشاهم لهُ، وأفصحهمْ وأبلغهمْ وأعظمهمْ بيانًا للمعنى الذي يريدُ أن يعلِّمهم إيَّاهُ. فإذا قلنا: كلامُهُ لا بدَّ منْ صرفهِ عنْ ظاهرهِ لكنَّا قدْ طعنَّا إمَّا في نصحهِ وحرصهِ على أمَّتهِ، وإمَّا في بيانهِ وفصاحتهِ، وإمَّا في علمهِ بربِّه، وكلٌّ منها باطلٌ وكافٍ في الطعنِ فيهِ صلى الله عليه وسلم، حاشاهُ منْ ذلكَ. واللهُ تعالى يثبِّتنا على الحقِّ ويعصمنَا مِنَ الزيغِ والبدعِ والردِّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ نلقاهُ إنَّه هو البرُّ الرَّحيم (¬1). ¬

_ (¬1) راجع: صفة النزول الإلهي (ص550).

الشبهة الثانية: كلام للرازي والرد عليه من وجوه

الشبهةُ الثانيةُ قالَ الرازيُّ: «إنْ كانَ المقصودُ من النزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا أنْ يسمعَ نداؤهُ، فهذا المقصودُ ما حصلَ، وإنْ كانَ المقصودُ مجرَّدَ النِّداءِ، سواءٌ سمعناهُ أو لمْ نسمعهُ، فهذا ممَّا لا حاجةَ فيهِ إلى النزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على العرشِ، ومثالهُ: أنْ يريدَ مَنْ في المشرقِ إسماعَ منْ في المغربِ ومناداتهِ، فيتقدَّمُ إلى جهةِ المغربِ بأقدامٍ معدودةٍ، ثمَّ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّهُ لا يسمعهُ البتةَ، فههنا تكونُ تلكَ الخطواتُ عملًا باطلًا، وعبثًا فاسدًا، فيكونُ كفعلِ المجانينَ، فعلمنَا أنَّ ذلكَ غيرُ لائقٍ بحكمةِ الله تعالى» (¬1). إنَّ هذا الكلامَ تلبيسٌ على العوامِ، وتمويهٌ على الجهَّالِ، وكذبٌ ظاهرٌ. والردُّ عليهِ منْ وجوهٍ. الوجهُ الأوَّلُ: هذا الكلامُ يعتبرُ مصادمةٌ صريحةٌ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واعتراضٌ واضحٌ عليهِ، فإنَّهُ هو الذي قالَ: «ينزلُ ربُّنا - تبارك وتعالى - إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ ويقولُ: مَنْ يدعُوني فأستجيبَ لهُ، منْ يسألني فأعطيهُ، منْ يستغفرُني فأغفرَ لهُ». ¬

_ (¬1) أساس التقديس (ص143 - 144).

وكلُّ منْ عارضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ فهوَ منْ خلفاءِ الشَّيطانِ وأتباعِهِ فنعوذُ باللهِ مِنَ الخِذْلانِ، نسألُهُ التَّوفيقَ والعصمةَ منْ هذا البلاءِ الذي ما رُميَ العبدُ بشرٍّ منهُ، وأنْ يَلْقَى الله بذنوبِ الخلائقِ كلِّها ما خلا الإشراكَ بهِ أسلمُ لهُ منْ أنْ يلقى اللهَ وقدْ عَارَضَ نصوصَ أنبيائِهِ برأْيِهِ ورأيِ بني جنسِهِ. وهلْ طردَ الله تعالى إبليسَ ولعنهُ وأحلَّ عليه سخطَهُ وغضبَهُ إلَّا حيثُ عَارضَ النَّصَّ بالرأيِ والقياسِ ثمَّ قدَّمهُ عليهِ؟ واللهُ يعلمُ أن شُبَهَ عدوِّ الله مَعَ كونها داحضةً باطلةً أقوى منْ كثيرٍ منْ شُبَهِ المعارضينَ لنصوصِ الأنبياءِ بآرائهم وعقولِهم، فالعالمُ يَتَدَبَّرُ سِرَّ تكريرِ الله تعالى لهذهِ القصّةِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وليحذرْ أنْ يكونَ لهُ نصيبٌ منْ هذا الرأيِ والقياسِ وهوَ لا يشعرُ (¬1). الثاني: قولُهُ: «إنْ كانَ المقصودُ مِنَ النُّزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا أنْ يسمعَ نداؤهُ، فهذا المقصودُ ما حصلَ». ¬

_ (¬1) بدائع الفوائد (4/ 952) [مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة، الطبعة الأولى].

فيقالُ: لو كانَ ذلكَ هوَ المقصودُ لسمعناهُ، فإنَّهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ وإنَّما المقصودُ مِنَ النِّداءِ حكمٌ عظيمةٌ يعلمها اللهُ - جلَّ وعلا - ونحنُ وإنْ لمْ نسمعْ كلامَ الله تعالى هذا بآذاننا، إلَّا أنَّا آمنَّا بذلكَ حتَّى لكأنَّ القائمَ في ذلكَ الوقتِ - الثلثُ الأخيرُ - كأنَّهُ يسمعُ أنَّهُ تعالى ينادي بذلكَ النِّداءِ، وذلكَ لعلمنَا أنَّهُ صلى الله عليه وسلم لا ينطقُ عَنِ الهوى، إنْ هوَ إلَّا وحيٌ يوحى، وهذا الخبرُ قدْ تواترَ عنهُ صلى الله عليه وسلم، ومِنَ الحكمِ التي نعلمهَا منْ هذا النِّداءِ العظيمِ: هوَ إقبالُ العبدِ بكليَّتهِ على ربِّه في هذا الوقتِ، والإلحاحُ عليهِ في الدعاءِ، والشعورُ بقربهِ وفضلهِ، فيجدُ قائمُ الليلِ مِنْ حلاوةَ المناجاةِ، وطيبِ الذِّكرِ واليقينِ بإجابةِ الدُّعاءِ مَا لا يجدهُ في غيرِ هذا الوقتِ، يعلمُ ذلكَ ضرورةً قُوَّامُ الليلِ، ولذلكَ فإنَّ قُوَّامَ الليلِ يكثرونَ مِنَ الاستغفارِ والذِّكرِ والدُّعاءِ في وقتِ السَّحرِ أشدَّ ممَّا قبلهُ، لعلمهمْ أنَّ وقتَ النزولِ يمتدُّ إلى طلوعِ الفجرِ، ولذلكَ ينتظرُ عبادُ الرحمنِ تلكَ السَّاعاتِ القليلةِ بفارغِ الصبرِ.

الثالثُ: أنَّهُ مِنْ عادةِ الملوكِ الكرماءِ، والسَّادةِ الرُّحماءِ، إذا أرادوا أنْ يكرموا أهلَ بلدٍ، أنْ يحلُّوا عليهم قريبًا منْ بلادهمْ، أو في ديارِهِمْ، ليكرموهم بما يريدونَ، ويَسْمَعُوا حاجاتِهم، ويلبُّوا رغباتِهمْ، ولوْ عرضنَا على العقلِ مَلِكَينِ أرادا أنْ يكرما أهلَ بلدٍ، أحَدهمَا جاءَ إلى أهلِ هذا البلدِ بنفسهِ وسمِعَ حاجاتهمْ، وأكرمهمْ في بلادهمْ، ولبَّى طلباتهم، والآخرُ أرسلَ أحدَ وزرائهِ أوْ أرسلَ رسالةً مَعَ أحدِ جنودهِ، بما يريدُ أنْ يكرمهم بهِ، لقطعَ العقلُ بأنَّ الأوَّلَ أكرمُ وأجَلُّ وأعظمُ في الإكرامِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ كلَّ كمالٍ في المخلوقِ لا نقصَ فيهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ فالخالقُ أولى بهِ، وواهبُ الكمالِ أحقُّ بهِ، فالرَّبُّ تعالى، ينزلُ بنفسهِ إلى أدنى سماءٍ وهي السَّماءُ الدُّنيا، وهوَ فوقَ عرشهِ، وهي أقربُ السَّمواتِ إلى قُوَّامِ الليلِ، ويقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري»، فهلْ هذا إلَّا عينُ الكمالِ، مع أنَّهُ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فمَا أجهلَ الإنسانَ بربِّهِ، وبكرمهِ، وبعظمِ فضلهِ، فللهِ الحمدُ كمَا ينبغي لجلالِ وجههِ وعظيمِ سلطانهِ. وبهذا يعلم أنَّ قولَهُ: بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على عرشهِ، سوءُ أدبٍ مَعَ الله تعالى.

الرابعُ: أنَّ هؤلاءِ المعطِّلةِ كلّهم أنكروا أنْ يكونَ لله تعالى كلامٌ بحرفٍ وصوتٍ! فكيفَ يمكنُ لهم أنْ يسمعوا نداءَ الله تعالى؟! وكيفَ يقرعُ صوتَ الله تعالى أسماعهم؟! لأنَّهم قائلونَ ببدعةِ الكلام النفسيِّ الذي ليس بحرفٍ ولا بصوتٍ فهم أبشعُ حالًا وأشنعُ بدعةً في بابِ تعطيلِ صفةِ الكلامِ من الجهمِيَّةِ الأولى؛ لأنَّ الجهميَّةَ الأولى كانوا يقولونَ ببدعةِ خلقِ القرآنِ فقطْ، وأمَّا هؤلاءِ المعطِّلةِ فهمْ يقولونَ مَعَ القولِ ببدعةِ خلقِ القرآنِ، ببدعةِ القولِ بالكلامِ النفسيِّ. فخرقوا بذلكَ إجماعَ أهلِ السنَّةِ، وأتوا بما لا يقرُّه عقلٌ صريحٌ، ولا نقلٌ صحيح، ولا لغةٌ، ولا عرفٌ ولا إجماعٌ. الخامسُ: أنَّ هؤلاءِ المعطِّلة لكثيرٍ مِنَ الصِّفاتِ ولا سيَّما صفةَ النزولِ، قد أوَّلُوا حديثَ النزولِ وحرَّفوه إلى: نزولِ الملكِ، فيقولونَ: إنَّ الله لا ينزلُ بنفسهِ، بلْ ينزلُ ملكٌ مِنَ الملائكةِ بأمرهِ، فينادي هذا الملكُ ويقولُ: «منْ يدعوني .. ، منْ يسألني ... ، منْ يستغفرني ... ». أقولُ: إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، وأنَّ الملكَ ينزلُ وينادي فهلْ أهلُ التأويلِ سمعوا نداءَ هذا الملكِ؟! وهل طرقَ صوتُ هذا الملكِ الذي ينزلُ وينادي أسماعَهم؟! وإذا لم يسمعوا نداءَ هذا الملكِ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولِ هذا الملكِ وندائهِ؟! ونحنُ نقلبُ كلامهم عليهم ونقولُ لهم: وإذا كانَ نزولُ هذا الملكِ مِنَ السَّماءِ الدنيا ليسمعنَا نداءهُ، فهذا الملكُ لم يسمعنا نداءهُ وصوتهُ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولهِ.

الشبهة الثالثة: شبهة الحركة والانتقال

ولقدْ كانَ يمكنُ هذا الملكُ أنْ ينادينا وهو في السَّماءِ .. ، وهل هذا إلَّا مثلُ منْ يريدُ - وهو بالمشرقِ - إسماعَ شخصٍ في المغربِ، فتقدَّمَ إلى المغربِ بخطواتٍ معدودةٍ، وأخذَ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّه لا يسمعُ نداءهُ، فيكونُ نقلهُ الأقدامِ عَمَلًا باطلًا، وسَعْيهُ نحوَ المغربِ عبثًا صرفًا، لا فائدةَ فيهِ، وكيفَ يستقِّرُ مثلُ هذا في قلبِ عاقلٍ؟ (¬1). وقدْ سدَّ هؤلاءِ المؤوِّلةُ على النَّاسِ طريقَ معرفةِ ربِّهم عزَّ وجلّ، فحرموهمْ منْ خيرٍ عظيمٍ، بلْ منْ أعظمِ عَلَمٍ في الوجودِ، فاللهُ الموعدُ. الشبهةُ الثالثةُ النزولُ نقلةٌ والنقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيلزمها لوازم تمتنعُ في حقِّ الله تعالى. لا تغترَّ أيُّها النَّاظرُ بهذهِ التلفيقاتِ المزوَّقةِ، والكلماتِ المدبَّجة، والعباراتِ المبهرجةِ. فإنَّها كلماتٌ خاليةٌ مِنَ التَّحقيقِ عاريةٌ مِنَ التَّوفيقِ. والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ: الوجهُ الأوَّل: نقولُ: هذا جدالٌ بالباطلِ لا يرتضيهِ مَنْ هو عارفٌ بكيفيَّةِ الاستدلالاتِ، وعالمٌ بمداركِ الشَّرعِ والمدلولاتِ، «وليسَ بمانعٍ منَ القولِ بحقيقةِ النزولِ!! هل أنتمْ أعلمُ بما يستحقُّه الله عزَّ وجلَّ منْ أصحابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؟! فليسَ إجلالنا لله كإجْلالِ الصَّحابةِ ولا قريبًا منهُ. وليسَ حرصنَا على العلمِ بصفاتِ الله كحرصِ الصَّحابةِ، وهم ما قالوا هذه الاحتمالاتِ أبدًا، قالوا: سمعنا وآمنَّا وقبلنا وصدَّقنا. وأنتمْ أيُّها الخالفونَ المخالفونَ تأتونَ الآنَ وتجادلونَ بالباطلِ وتقولونَ: كيفَ؟! وكيفَ؟!» (¬2). ¬

_ (¬1) التنبيهات السنية (ص207 - 208). (¬2) انظر: شرح العقيدة الواسطية (ص400)، للعلاّمة: ابن عثيمين رحمه الله.

الوجهُ الثاني: إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، وأفصحُ الخلقِ في بيانِ الحقِّ، وأحْرصُ الخلقِ على هدايةِ الخلقِ، فما بيَّنهُ منْ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ هو الغايةُ في هذا البابِ «فإذا كانَ كذلكَ كانَ المتَحذْلِقُ والمنكِرُ عَلَيهِ مِنْ أضَلِّ النَّاسِ، وأجهلهمْ وأسوَئهمْ أدبًا، بل يجبُ تأديبهُ وتعزيرهُ، ويجبُ أنْ يصانَ كلامُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الظنونِ الباطلةِ، والاعتقاداتِ الفاسدةِ» (¬1). الوجهُ الثالثُ: ليسَ فِي القولِ بلازمِ النزولِ محذورٌ البتَّةَ، وَلاَ يستلزمُ ذلكَ نقصًا وَلاَ سلبَ كمالٍ، بلْ هوَ الكمالُ نفسُهُ. وهذهِ الأفعالُ كمالٌ ومدحٌ، فهي حقٌّ دالٌّ عليهِ النَّقلُ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ. وقولنا: إنَّه نزولٌ لا محذورَ فيهِ، فإنَّه ليسَ كانتقالِ الأجسامِ منْ مكانٍ إلى مكانٍ كَمَا قلتم: إنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وحياتَهُ وقدرتَهُ وإرادتَهُ ليستْ كصفاتِ الأجسامِ، فليسَ كمثلهِ شيءٌ فِي ذاتهِ وَلاَ فِي صفاتهِ وَلاَ فِي أفعالهِ. ونحنُ لم نتقدَّم بينَ يديِّ الله ورسولهِ، بلْ أثبتنا لله ما أثبتهُ لنفسهِ وأثبتهُ لهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم. فألزمتم أنتم منْ أثبتَ ذلكَ القولَ بالانتقالِ، ومعلومٌ أنَّ هذا الإلزامَ إنَّما هو إلزامٌ لله ورسولهِ، فإنَّا لمْ نتعدَّ ما وصفَ بهِ نفسهُ، فكأنَّكمْ قلتمْ: منْ أثبتَ لهُ نزولًا لزمهُ وصفهُ بالانتقالِ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم هوَ الذي أثبتَ ذلكَ لله فهوَ حقٌّ بلا ريبٍ. فكانَ جوابنا: إنَّ الانتقالَ إنْ لزمَ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ من إثباتهِ ضرورةً، إذْ لازمُ الحقِّ حقٌّ، وإنْ لم يكنْ ذلكَ لازمًا لهُ، فأنتم معترضونَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كاذبونَ عليهِ، متقدِّمونَ بينَ يديهِ، فبطلَ إلزامكم. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (18/ 129 - 130).

قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: لا نسلِّمُ لزومهُ؛ فإنَّ نزولَهُ ليسَ كنزولِ المخلوقينَ، ولهذا نقلَ عنْ جماعةٍ من الأئمَّةِ: أنَّهُ ينزلُ، ولا يخلو منهُ العرشُ (¬1). وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: الصَّوابُ في حديثِ النزولِ ونحوه ما قالهُ مالكٌ وأقرانُه يمرُّ كمَا جاءَ بلا كيفيَّةٍ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ، ونفيُ الانتقالِ وإثباتُهُ عبارةٌ محدثةٌ، فإنْ ثبتَتْ في الأثرِ رويناهَا ونطقنا بهَا، وإنْ نفيتْ في الأثرِ نطقنا بالنَّفيِ، وإلَّا لزمنا السُّكوتَ وآمنَّا بما ثبتَ في الكتابِ والسنَّةِ على مقتضاه (¬2). وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: والأحسنُ في هذا البابِ مراعاةُ ألفاظِ النُّصوصِ. فالألفاظُ التي جاءَ بها الكتابُ والسنَّةُ في الإثباتِ تثبتُ، والتي جاءتْ بالنَّفيِ تنفى. والألفاظُ المجملةُ كلفظِ «الحركةِ» و «النزولِ» و «الانتقالِ» يجبُ أنْ يقالَ فيهَا: أنَّهُ منزَّهُ عنْ مماثلةِ المخلوقينَ منْ كلِّ وجهٍ، لا يماثلُ المخلوقَ لا في نزولٍ، ولا في حركةٍ، ولا انتقالٍ ولا زوالٍ، ولا غيرِ ذلكَ (¬3). وهذه سبيلُ مَنِ اعتصمَ بالعروةِ الوثقى (¬4). الوجهُ الرابعُ: يقالُ لهم: ربُّ العالمينَ إمَّا أنْ يقبلَ الاتصافَ بالإتيانِ والمجيءِ والنزولِ وجنسِ الحركةِ، وإمَّا أنْ لا يقبلهُ؛ فإنْ لمْ يقبلْهُ كانتِ الأجسامُ التي تقبلُ الحركةَ ولم تتحرَّكْ أكملَ منهُ؛ وإنْ قبلَ ذلكَ ولمْ يفعلهُ كانَ ما يتحرَّكُ أكملَ منهُ؛ فإنَّ الحركةَ كمالٌ للمتحرِّك، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يمكنهُ أنْ يتحرَّكَ بنفسهِ أكملُ ممَّنْ لا يمكنهُ التحرُّكُ، وما يقبلُ الحركةَ أكملُ ممَّنْ لا يقبلهَا (¬5). ¬

_ (¬1) الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 34). (¬2) المهذّب في اختصار السنن الكبير (2/ 470). (¬3) مجموع الفتاوى (16/ 426). (¬4) مجموع الفتاوى (16/ 432). (¬5) مجموع الفتاوى (8/ 23).

قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «ومنْ نزَّههُ عنْ نزولهِ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، ودنوهِ عشيةَ عرفةَ منْ أهلِ الموقفِ، ومجيئهِ يومَ القيامةِ للقضاءِ بينَ عبادهِ، فرارًا منْ تشبيههِ بالأجسامِ، فقد شبَّههُ بالجمادِ الذي لا يتصرَّفُ ولا يفعلُ ولا يجيءُ ولا يأتي ولا ينزلُ» (¬1). الوجهُ الخامسُ: أنْ يقالَ: النزولُ والصُّعودُ والمجيءُ والإتيانُ، ونحو ذلكَ ممَّا هوَ منْ أنواعِ جنسِ الحركةِ لا نسلِّمُ أنَّهُ مخصوصٌ بالجسمِ الصناعيِّ الذي يتكلَّمُ المتكلِّمونَ فِي إثباتهِ ونفيهِ، بلْ يوصفُ بهِ ما هو أعمُّ منْ ذلكَ. ثمَّ هنا طريقانِ: (أحدُهما): إنَّ هذه الأمورَ توصفُ بها الأجسامُ والأعراضُ فيقالُ: جاءَ البردُ، وجاءَ الحرُّ، وجاءتِ الحُمَّى، وهيَ أعراضٌ. وبهِ يُعْلمُ أنَّ أنواعَ جنسِ الحركةِ كالنزولِ ونحوه ليسَ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيجوزُ أنْ يوصفَ بهَا الله مَعَ أنَّهُ ليسَ بجسمٍ. (الطريقُ الثاني): أنْ يقالَ: المجيءُ والإتيانُ والصُّعودُ والنُّزولُ توصفُ بهِ روحُ الإنسانِ التي تفارقهُ بالموتِ، وتسمَّى النَّفسُ، وتوصفُ بهِ الملائكةُ. وليسَ نزولُ الرُّوحِ وصعودهَا منْ جنسِ نزولِ البدنِ وصعودهِ، فإنَّ روحَ المؤمنِ تصعدُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ تهبطُ إلى الأرضِ فيما بينَ قبضهَا ووضعِ الميِّتِ فِي قبرهِ. وهذا زمنٌ يسيرٌ لا يصعدُ البدنُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ ينزلُ إلى الأرضِ فِي مثلِ هذا الزمانِ (¬2). ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين (ص295). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 436 - 437).

وإذا كانتِ الروحُ تعرجُ مِنَ النَّائمِ إلى السَّمَاءِ مَعَ أنَّهَا فِي البدَنِ كَمَا قَالَ تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]، عُلِمَ أنَّهُ ليس عروجُهَا منْ جنسِ عروجِ البدنِ الذي يمتنعُ هذا فيهِ. وعروجُ الملائكةِ ونزولُهَا منْ جنسِ عروجِ الرُّوحِ ونزولها، لا منْ جنسِ عروجِ البدنِ ونزولهِ. و «نزولُ» الرَّبِّ عزَّ وجلَّ فوقَ هذَا كلِّهُ وأجلُّ من هذا كلِّهِ؛ فإنَّهُ تَعَالَى أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ مِنْ مماثلةِ مخلوقٍ بمخلوقٍ. وإذا عرفَ هَذَا: فإنَّ للملائكةِ منْ ذلكَ ما يليقُ بهم، وأنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى: هو أكملُ وأعلى وأتمُّ منْ هذا كلِّهِ (¬1)، وأولى بالإمكانِ، وأبعدُ عنْ مماثلةِ نزولِ الأجسامِ، بلْ نزولهُ لا يماثلُ نزولَ الملائكةِ وأرواحِ بني آدمَ (¬2). ومنْ ظنَّ أنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ لا يكون إلَّا مثلَ ما توصفُ بهِ أبدانُ بني آدم؛ فغلطهُ أعظمُ منْ غلطِ منْ ظنَّ أنَّ ما توصفُ بهِ الرُّوحُ مثل ما توصفُ بهِ الأبدانُ (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 527). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 527). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 458 - 459).

الشبهة الرابعة: يلزم من النزول حلول الخالق في المخلوق

وخلاصةُ هذهِ الشبهةِ وما تدورُ عليهِ عندَ جميعِ منْ يحتجُّ بها سواءٌ مِنَ الجهميَّةِ أو مِنْ غيرهمْ «إنَّ النزولَ نقلةٌ، والنُّقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ فيلزمهَا لوازمٌ تمتنعُ في حقِّ اللهِ تعالى»، وهذهِ اللوازمُ التي يذكرونها تلزمُ فيمنْ ليسَ بإلهٍ، وربٍّ للخلقِ. والله سبحانه وتعالى «منزَّهٌ أنْ تكونَ صفاتهُ مثلَ صفاتِ الخلقِ كما كانَ منزَّهًا أنْ تكونَ ذاتُهُ مثلَ ذواتِ الخلقِ فمجيئهُ وإتيانهُ ونزولهُ على حسبِ ما يليقُ بصفاتهِ منْ غيرِ تشبيهٍ وكيفٍ» (¬1). وما أحسنَ قول الشاعرِ: الرَّبُّ ربٌّ وإنْ تنزَّل ... والعبدُ عبدٌ، وإنْ ترقَّى! (¬2) الشبهةُ الرابعةُ قالَ السَّقَّافُ: لا يمكنُ أنْ ينزلَ بذاتهِ كما تتخيَّلُ المجسِّمةُ إلى السَّماء الدنيا؛ لأَنَّ في ذلكَ حلولُ الخالقِ في المخلوقِ، وهوَ كفرٌ بواحٌ (¬3). اعلمْ - سلَّمكَ الله مِنَ الشبهاتِ والشهواتِ - بأنَّ «الأوهامَ الباطلةَ والعقولَ الفاسدةَ لمَّا فهمتْ منْ نزولِ الرَّبِّ مَا يُفهمُ منْ نزولِ المخلوقِ - وهو أنْ يفرغَ مكانًا ويشغلَ مكانًا - نفتْ حقيقةَ ذلكَ فوقعتْ فِي محذورينِ: محذورُ التَّشبيهِ ومحذورُ التَّعطيلِ. ولوْ علمتْ هذهِ العقولُ الضعيفةُ أنَّ نزولَهُ سُبْحَانهُ لا يشبهُ نزولَ المخلوقِ كَمَا أنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وعلمَهُ وحياتَهُ كذلك. وإذا كانَ نزولًا لَيْسَ كمثلهِ نزولٌ فكيفَ تنفِي حقيقتَهُ»؟! (¬4). والكلماتُ المذكورةُ باطلةٌ وعنْ حلى التحقيقِ عاريةٌ. وزَعْمُ السَّقَّافِ أَنَّ مَنْ قالَ ينزلُ بذاتهِ أنَّهُ مجسمٌ حلوليُّ: قولٌ بلا علمٍ وكذبٌ وافتراءٌ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. ¬

_ (¬1) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص59)، تحقيق: بدر البدر. (¬2) السراج الوهاج (10/ 514 - 515). (¬3) دفع شبه التشبيه (ص35). (¬4) مختصر الصواعق (2/ 228 - 229).

والسَّقَّافُ وأمثالهُ لمْ يفهموا منْ نزولِ الخالقِ إلى السَّماءِ الدنيا إلَّا كمَا فهموا منْ نزولِ المخلوقاتِ، «وهذا عينُ التمثيلِ، ثَّم إنَّهم بعدَ ذلكَ جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم الذي لا يمكنهُ أنْ يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عنْ جمعهِ» (¬1). وكذبوا في هذا الفهمِ، وضلُّوا في هذا الظنِّ والوهمِ الكاسدِ. فإنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: «يطوي الله عزَّ وجلَّ السمواتِ يومَ القيامةِ ثمَّ يأخذهنَّ بيدهِ اليمنى، ثمَّ يقول: أنا الملكُ. أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتكبِّرونَ؟ ُثمَّ يطوي الأرضينَ بشمالهِ ثمَّ يقولُ: أنا الملكُ أينَ الجبَّارونَ أينَ المتكبرونَ؟!» (¬2). فمنْ هذهِ عظمتهُ، كيفَ يحصرهُ مخلوقٌ مِنَ المخلوقاتِ. سماءٌ أو غيرُ سماءٍ؟! حتَّى يقال: إنَّهُ إذا نزلَ إلى السماء الدنيا صارَ العرشُ فوقهُ، أو يصيرُ شيءٌ مِنَ المخلوقاتِ يحصرهُ ويحيطُ بهِ سبحانه وتعالى (¬3). واللهُ - ولله المثلُ الأعلى - أعظمُ منْ أنْ يظنَّ ذلكَ بهِ، وإنَّما يظنُّهُ الذينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67] (¬4). ¬

_ (¬1) بيان تلبيس الجهمية (2/ 228 - 229). (¬2) رواه مسلم (2788). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 482). (¬4) مجموع الفتاوى (6/ 582 - 583).

قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: العليُّ الأعلى العظيمُ، فهو أعلى منْ كلِّ شيءٍ، وأعظمُ منْ كلِّ شيءٍ. فلا يكونُ نزولهُ وإتيانهُ بحيثُ تكونُ المخلوقاتُ تحيطُ بهِ، أو تكونُ أعظمَ منهُ وأكبرَ، وهذا ممتنعٌ (¬1). فالمخلوقُ إذا نزلَ من علوٍّ إلى سفلٍ زالَ وصفهُ بالعلوِّ وتبدَّلَ إلى وصفهِ بالسُّفولِ، وصارَ غيرهُ أعلى منهُ. والرَّبُّ تعالى لا يكونُ شيءٌ أعلى منهُ قطُّ، بلْ هوَ العليُّ الأعلى، ولا يزالُ هوَ العليُّ الأعلى مع أنَّهُ يقربُ إلى عبادهِ ويدنو منهم، وينزلُ إلى حيثُ شاءَ، ويأتي كما شاءَ. وهو في ذلكَ العليُّ الأعلى، الكبيرُ المتعال، عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّهِ. فهذا وإنْ لمْ يتَّصفْ بهِ غيرهُ فلعجزِ المخلوقِ أنْ يجمعَ بينَ هذا وهذا. كمَا يعجزُ أنْ يكونَ هو الأولَ والآخرَ والظاهرَ والباطنَ (¬2). وقَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ونزولهُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا سلامٌ ممَّا يضادُّ علوَّهُ، وسلامٌ مما يضادُّ غناهُ وكمالهُ، سلامٌ منْ كلِّ ما يتوهَّمُ معطِّلٌ أو مشبِّهٌ، وسلامٌ منْ أنْ يصيرَ تحتَ شيءٍ أو محصورًا في شيءٍ. تعالى الله ربُّنا عن كلِّ ما يضادُّ كمالَهُ (¬3). فتبيَّنَ بهذا الكلامِ النفيسِ، بطلانُ ما ذكرهُ السَّقافُ؛ وأنَّهُ مبنيٌّ على شفا جرفٍ هارٍ منَ الخيالاتِ والأوهامِ. وليتأمَّل السَّقافُ وأمثالهُ منْ أهلِ الكلامِ الأثرَ التالي: ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (16/ 422). (¬2) مجموع الفتاوى (16/ 424). (¬3) بدائع الفوائد (2/ 136).

قالَ محمَّدُ بنُ حاتمٍ المظفريُّ: سمعتُ عمرو بن محمد يقولُ: كانَ أبو معاوية الضريرُ يحدِّثُ هارونَ الرشيد، فحدثَّهُ بحديثِ أبي هريرةَ: «احتجَّ آدمُ وموسى» (¬1) فقالَ عليُّ بنُ جعفرٍ: كيفَ هذا وبينَ آدمَ وموسى ما بينهما؟! قالَ: فوثبَ بهِ هارونُ وقالَ: يحدِّثكَ عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضهُ بكيفَ؟! فما زالَ يقولُ حتَّى سكتَ عنهُ (¬2). قالَ المحدِّثُ الصابونيُّ معقِّبًا: هكذا ينبغي للمرءِ أنْ يعظِّمَ أخبارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبولِ والتسليمِ والتَّصديقِ، وينكرُ أشدَّ الإنكارِ على منْ يسلكُ فيها غيرَ هذا الطريقِ الذي سلكهُ هارونُ الرشيدُ رحمه الله معَ مَنِ اعترضَ على الخبرِ الصَّحيحِ الذي سمعهُ بـ «كيف»؟! على طريقِ الإنكارِ لهُ، والابتعادِ عنهُ، ولمْ يتلقَّهُ بالقبولِ كمَا يجبُ أنْ يتلقَّى جميعُ ما يردُ مِنَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم. جعلنا الله سبحانهُ مِنَ الذينَ يستمعونَ القولَ ويتَّبعونَ أحسنهُ ويتمسَّكونَ في دنياهم مدَّةَ حياتهم بالكتابِ والسنَّةِ، وجنَّبنا الأهواءَ المضلَّةَ والآراءَ المضمحلةَ والأسواءَ المذلَّةَ، فضلًا منهُ ومنَّةً (¬3). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3409 و6614 و7515) ومسلم (2652). (¬2) أخرجه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/ 181)، وعنه الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 243) من طريق آخر وبألفاظ مختلفة، وإسناده صحيح. انظر: «عقيدة السلف أصحاب الحديث» (ص127)، تحقيق: بدر البدر. (¬3) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص127 - 128) تحقيق: بدر البدر.

أسئلة مهمة تتعلق بحديث النزول

وفي ختامِ الرَّدِّ على الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ التنزيلِ نقولُ وبالله التَّوفيق: إنَّ «الحقَّ الحقيقَ الذي ينبغي عليهِ التَّعويلُ أنْ نؤمنُ بما وصلَ إلينا عنْ طريقِ محمَّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنَّ الله ينزلُ إلى السّمَاء الدُنْيَا حينَ يبقى الثلثُ الآخرُ مِنَ الليلِ، ويقولُ: منْ يدعوني فأستجيبَ له؟ منْ يسألني فأعطيهُ؟ منْ يستغفرني فأغفرَ له؟! ولا يغترُّ بما فاهَ بهِ: جمعٌ منْ أهلِ الكلامِ، ورهطٌ منْ أصحابِ الأوهامِ؛ النَّاكبونَ عنِ الصِّراطِ السويِّ، والمنهجِ النبويِّ. الجامدونَ على سيرِ المنطقيينَ والمتفلسفينَ، فإنَّهم بمعزلٍ عنْ طريقةِ السَّلفِ الصَّالحينَ، وعلى مراحلَ شاسعةٍ عنْ منهاجِ المتقينَ، الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ وممَّا رزقناهم ينفقونَ. فدعْ عنكَ نهبًا صيحَ في حجراتهِ ... وهاتِ حديثًا ما حديثُ الرواحلِ» (¬1). * * * أَسْئِلَةٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ السؤالُ الأوَّلُ: هل نقولُ ينزلُ بذاتهِ؟ والجوابْ أنْ يقالَ: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ ربُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا .. » خبرٌ وقعَ عنْ نفسِ ذاتِ الله تعالى لا عنْ غيرهِ. فإذا قلتَ: جاءَ محمَّدٌ، أي بنفسهِ جاءَ، لا مجرَّد أمرهِ وقصدهِ ونحو ذلكَ، ولله المثلُ الأعلى. فقولهُ تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، هوَ خبرٌ عن ذاتِ الرَّبِّ تعالى فلا يحتاجُ المخبرُ أنْ يقولَ خالقُ كلِّ شيءٍ بذاتهِ. وقوله: {اللَّهُ رَبُّكُمْ} [يونس: 32]، قدْ علمَ أنَّ الخبرَ عنْ نفسِ ذاتهِ. وكذلكَ جميعُ ما أخبرَ الله بهِ عنْ نفسهِ إنَّما هوَ خبرٌ عنْ ذاتهِ. ¬

_ (¬1) السراج الوهاج (10/ 509 - 511).

فلا حاجةَ بنا أنْ نقولَ: استوى على عرشه بذاتهِ (¬1)، وينزلُ إلى السَّماءِ بذاتهِ، كما لا نحتاجُ أنْ نقولَ خلقَ بذاتهِ، وقدَّرَ بذاتهِ، وسمعَ وتكلَّمَ بذاتهِ، وإنَّما قالَ أئمَّةُ السنَّةِ ذلكَ إبطالًا لقولِ المعطِّلةِ (¬2). وممَّنْ صرَّحَ بالنزولِ بالذَّاتِ: الإمامُ ابنُ حامدٍ (¬3) والإمامُ عبدُ الجليلِ كوتاهُ. قالَ الذهبي ُّرحمه الله: «قالَ السَّمعانيُّ: لما وردتُ أصبهانَ كانَ - كوتاهُ - ما يخرجُ منْ دارهِ إلَّا لحاجةٍ مهمَّةٍ، كانَ شيخهُ إسماعيلُ الحافظُ هجرهُ، ومنعهُ مِنْ حضورِ مجلسهِ لمسألةٍ جرتْ في النزولِ، وكانَ كوتاهُ يقولُ: النزولُ بالذَّاتِ، فأنكرَ إسماعيلُ هذا وأمرهُ بالرُّجوعِ عنهُ فمَا فعلَ» (¬4). وهوَ في الحقيقةِ يوافقهُ على اعتقادهِ، لكن أنكرَ إطلاقَ اللَّفظِ لعدمِ الأثرِ بهِ (¬5). قالَ الذهبيُّ معلِّقًا على قولِ كوتاه السَّابق: «ومسألةُ النزولِ فالإيمانُ بهِ واجبٌ، وتركُ الخوضِ في لوازمهِ أولى، وهوَ سبيلُ السَّلفِ، فما قالَ هذا: نزولهُ بذاتهِ، إلَّا إرغامًا لمنْ تأوَّلهُ، وقالَ: نزولهُ إلى السَّماءِ الدُّنيا بالعلمِ فقط، نعوذُ بالله منْ مراءٍ في الدِّينِ، وكذا قولهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] ونحوهُ، فنقولُ: جاءَ وينزلُ وننتهي عَنِ القولِ ينزلُ بذاتهِ، كما لا نقولُ ينزلُ بعلمهِ، بلْ نسكتُ ولا نتفاصحُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم بعباراتٍ مبتدعةٍ، والله أعلمُ» (¬6). ¬

_ (¬1) قَالَ ابن القيّم رحمه الله فِي «الصّواعق» (4/ 1385): «أي: ذاته فوق العرش عاليةً عَلَيهِ». (¬2) مختصر الصواعق (1/ 222). (¬3) ذكر ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في «فتح الباري» (9/ 278). (¬4) السير (2/ 330). (¬5) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 28). (¬6) السير (2/ 331).

السؤال الثاني: كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب السماء نصف الليل، فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟ هل من سائل فيعطى؟ هل من مكروب فيفرج عنه؟ فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إلا استجاب الله تعالى له

والمقصودُ: أنَّ الأحاديثَ صريحةٌ في إطلاقِ لفظِ النزولِ، ولم يردْ فيها لفظةُ «بذاتهِ» فمنْ أطلقها إنَّما أرادَ بها الردَّ على الجهميَّةِ والمعطِّلةِ والمفوِّضةِ، ومنْ لمْ يطلقها فقدْ وقفَ مَعَ النُّصوصِ، مع إقرارهِ بإثبات معنى النزولِ. السؤال الثاني: كيفَ نجمعُ بينَ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تفتحُ أبوابُ السّمَاءِ نصفَ الليلِ، فينادي منادٍ: هلْ منْ داعٍ فيستجابُ لهُ؟ هلْ منْ سائلٍ فيُعطى؟ هلْ منْ مكروبٍ فيفرَّج عنهُ؟ فلا يبقى مسلمٌ يدعو بدعوةٍ إلَّا استجابَ اللهُ تعالى لهُ؛ إلَّا زانيةً تَسْعَى بفَرْجِها، أَوْ عَشّارًا» (¬1). وحديثِ النزولِ؟ قلنا: وأيُّ منافاةٍ بينَ هَذَا وبينَ قولهِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا فيقولُ» وهلْ يسوغُ أنْ يقالَ إنَّ المنادي يقولُ: «أنا الملكُ» ويقولُ: «لاَ أسألُ عن عبادي غيري» ويقولُ: «منْ يستغفرني فأغفرَ لهُ؟» وأيُّ بُعْدٍ فِي أنْ يأمرَ مناديًا ينادي «هلْ منْ سائلٍ فيستجابَ له؟» ثمَّ يقولُ هو سبحانهُ: «من يسأَلُني فأستجيبَ لَهُ؟» وهلْ هذا إلَّا أبلغُ فِي الكرمِ والإحسانِ: أنْ يأمرَ مناديهُ يقولُ ذلكَ، ويقولهُ سبحانهُ بنفسهِ؟ وتتصادقُ الرواياتُ كلُّها عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصدِّقُ بعضَهَا، ونكذِّبُ مَا هوَ أصحُّ منهُ، وباللهِ تعالى التوفيق (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني فِي «الأوسط» (2769)، وصححه الألبانيُّ فِي «صحيح الجامع» (2971). (¬2) تهذيب سنن أبي داود (7/ 126 - 127) لابن القيم.

السؤال الثالث: كيف نجمع بين علو الله على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا؟

السؤالُ الثالثُ: كيفَ نجمعُ بين علوِّ الله على العرشِ ونزولهِ إلى السَّماءِ الدُّنيا؟ لا تعارضَ بينَ نزولهِ تعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا في الثلثِ الأخيرِ منْ كلِّ ليلةٍ مع اختلافِ الأقطارِ، وبينَ استوائهِ عزَّ وجلَّ على العرشِ؛ لأنَّهُ سبحانهُ لا يشبهُ خلقهُ في شيءٍ منْ صفاتهِ، ففي الإمكانِ أن ينزلَ كمَا يشاءُ نزولًا يليقُ بجلالهِ في ثلثِ الليلِ الأخيرِ بالنسبةِ إلى كلِّ قطرٍ، ولا ينافي ذلكَ علوَّهُ واستواءهُ على العرش، لأننا في ذلكَ لا نعلمَ كيفيَّةَ النزولِ، ولا كيفيَّةَ الاستواءِ، بلْ ذلكَ مختصٌّ بهِ سبحانهُ، بخلافِ المخلوقِ فإنَّهُ يستحيلُ في حقِّهِ أنْ ينزلَ في مكانٍ ويوجدُ بمكانٍ آخر في تلكَ اللحظةِ كمَا هو معلومٌ، إلَّا الله عزَّ وجلَّ، فهوَ على كلِّ شيءٍ قدير. ولا يقاسُ ولا يمثَّلُ بهم لقوله عزَّ وجلَّ: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]، وقولهِ سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] (¬1). قال إسْحاق بنُ راهويه رحمه الله (238هـ): دخلتُ على ابنِ طاهرٍ فقال: ما هذه الأحاديث؟ تروونَ أنَّ الله ينْزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا؟ قلتُ: نعمْ، رواها الثقاتُ الذينَ يروونَ الأحْكامَ. فقالَ: ينْزلُ ويدعُ عرْشهُ؟ فقلتُ: يقْدرُ أنْ ينزلَ منْ غيرِ أنْ يخلوَ منهُ العرشُ؟ قال: نعمْ. قلتُ: فلمَ تتكلَّم في هذَا (¬2). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/ 136)، فتوى رقم (1643). (¬2) أخرجه الذهبي في «العلو» (ص1125)، وصحّح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في «شرح حديث النزول» (ص152).

السؤال الرابع: ما يستفاد من حديث النزول؟

قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: وعبدُ الله بنُ طاهرٍ - وهوَ منْ خيارِ منْ وليَ الأمرَ بخراسان - كانَ يعْرفُ أنَّ اللهَ فَوْقَ العَرْشِ، وأشْكلَ عليهِ أنَّهُ ينزلُ لتوهمهِ أنَّ ذلكَ يقْتضي أنْ يخْلوَ منهُ العرشُ، فأقرَّهُ الإمامُ إسحاقُ على أنَّهُ فوقَ العرشِ، وقالَ لهُ: يقدرُ أنْ ينزلَ منْ غيرِ أنْ يخلوَ منهُ العرشُ؟ فقالَ لهُ الأميرُ: نعمْ. فقالَ لهُ إسْحاق: لمَ تتكلَّمْ في هذا؟ يقولُ: فإذا كانَ قادرًا على ذلكَ لمْ يلزمْ من نزولهِ خلوُّ العرشِ منهُ، فلا يجوزُ أنْ يعترضَ على النزولِ بأنَّه يلْزمُ منهُ خلوُّ العرشِ، وكان هذا أهْونَ من اعْتراضِ منْ يقولُ: ليسَ فوقَ العرشِ شيءٌ، فينكرُ هذا وهذا (¬1). وممَّا ذكرنا يتضحُ لكَ أنَّهُ لا تعارضَ بينَ نزولِ الله تبارك وتعالى واستوائهِ على العرشِ. السؤالُ الرابعُ: ما يستفادُ مِنْ حديثِ النزولِ؟ يستفادُ منْ حديثِ النزولِ ما يلي: أولًا: إثْباتُ العلوِّ لله مِنْ قولِهِ: «ينزلُ». ثانيًا: إثْباتُ الأفْعالِ الاخْتياريةِ التي هِيَ الصِّفاتُ الفعليةُ مِنْ قولهِ: «ينزلُ حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ». ثالثًا: إثْباتُ القولِ للهِ منْ قولهِ: «يقولُ». رابعًا: إثْباتُ الكرمِ للهِ عزَّ وجلَّ مِنْ قولهِ: «منْ يدْعوني ... منْ يسألني ... منْ يستغفرني .. ». ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 377).

وفيهِ مِنَ النَّاحيةِ المسْلكيةِ: أنَّهُ ينبغي للإنْسانِ أنْ يغتنمَ هذَا الجزءَ مِنَ الليلِ، فيسألُ الله عزَّ وجلَّ ويدْعوهُ ويسْتغْفرهُ، ما دامَ الرَّبُّ سبحانهُ يقولُ: «منْ يدعوني .. من يستغفرني ... » و (منْ): للتشويقِ؛ فينبغي لنَا أنْ نستغلَّ هذهِ الفرصةَ؛ لأنَّهُ ليسَ لكَ مِنَ العمرِ إلَّا ما أمْضيتهُ في طاعةِ الله، وستمرُّ بكَ الأيَّامُ؛ فإذا نزلَ بكَ الموتُ؛ فكأنَّكَ ولدتَ تلكَ الساعة، وكلُّ ما مضى ليسَ بشيءٍ (¬1). قال العلامة ابن قدامة المقْدسيُّ رحمه الله (620هـ): وتيقَّظْ في ساعاتِ الأسْحارِ عنْدَ نزولِ الجبَّارِ، وأحْضِرْ بقلبك قولَ العزيزِ الغفَّارِ: «هلْ منْ سائلٍ فأعْطيهُ؟ هلْ منْ داعٍ فأسْتجيبَ لهُ؟ هلْ منْ مسْتغفرٍ فأغْفرَ له؟» (¬2). وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله - عنْ وقتِ النزولِ -: «إنَّهُ وقتُ قسمِ الغنائمِ، وتفريقِ الجوائزِ، فمستقلٌّ ومستكثرٌ ومحرومٌ» (¬3). وقال صدِّيق حسن خان رحمه الله: «وقتُ نزول الرَّبِّ إلى السَّماء الدُّنيا أشرفُ أوقاتِ الصَّلواتِ والأذكارِ والدَّعواتِ. فمنْ وفِّقَ فيهِ لذلكَ فقدْ فازَ فوزًا عظيمًا، ومنْ حُرِمَهُ فقدْ حُرِمَ خيرًا كثيرًا» (¬4). فالمتقون يقومون في الثلثِ الأخير من الليلِ للصلاةِ والذِّكر والاستغفارِ والدعاء «فما يطلعُ فجرُ الأجرِ إلَّا وقدْ حازَ القومُ الغنيمةَ، وفازوا بالفخرِ، وحمِدوا عند الصَّباحِ السُّرى، وما عندَ أهلِ الغفلةِ والنَّومِ خبرٌ ممَّا جرى» (¬5). يا نفسُ قومي فقدْ نامَ الورى ... إنْ تصنعي الخيرَ فذو العرشِ يرى ¬

_ (¬1) شرح العقيدة الواسطية (ص402 - 403)، للعلاّمة: ابن عثيمين رحمه الله. (¬2) وصية العالم الجليل موفق الدين ابن قدامة المقدسي (ص50). (¬3) تحفة المودود في أحكام المولود (ص241) [مكتبة دار البيان - دمشق، الطبعة الأولى]. (¬4) نزل الأبرار (ص125). (¬5) لطائف المعارف (ص97)، طبعة دار ابن كثير.

وأنتِ يا عينُ دعي عنكِ الكرى ... عندَ الصَّباحِ يُحْمَدُ القومُ السُّرى (¬1) ¬

_ (¬1) المصدر السابق (ص98).

أسئلة وأجوبتها

أَسْئِلَةٌ وأَجْوِبَتُهَا السؤالُ الأولُ اخْتَلَفَ رجلانِ فِي الاعْتِقَادِ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌ. وَقَالَ الآخَرُ: إنَّ الله لاَ يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ فِبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُهُ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟ قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: مَنِ اعتقدَ أنَّ الله تعالى فِي جوفِ السَّمَاواتِ محصورٌ محاطٌ بهِ، أو مفتقرٌ إِلَى العرشِ، أَوْ غيرِ العرشِ - مِنَ المخلوقاتِ - أَوْ أَنَّ استواءَهُ عَلَى عرشهِ كاستواءِ المخلوقِ عَلَى كرسيِّهِ؛ فَهُوَ ضالٌّ مبتدعٌ جاهلٌ. ومَنِ اعتقدَ أنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَات إلهٌ يعبدُ، وَلاَ عَلَى العرشِ ربٌّ يصلَّى لَهُ ويسجدُ، وأنَّ محمَّدًا لَمْ يعرجْ بِهِ إِلَى ربِّهِ، وَلاَ نزلَ القرآنُ منْ عندهِ، فَهُوَ معطِّلٌ فرعونيٌّ، ضالٌّ مبتدعٌ؛ فإنَّ فرعونَ كذَّبَ موسى في أنَّ ربَّه فوقَ السَّموات، وقالَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]. ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، صدَّق موسى عليه السلام، أنَّ ربَّهُ تعالى فوقَ السَّمواتِ، فلمَّا كانَ ليلة المعراجِ، وعرجَ بهِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وفرضَ عليهِ خمسينَ صلاةً؛ ذكرَ أنَّهُ رجعَ إلى موسى وقالَ لهُ: ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التَّخفيفَ لأمَّتكَ. فمنْ وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمَّدًا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهوَ ضالٌّ؛ ومَنْ مثَّلَ اللهَ تعالى وشَبَّهَهُ بخلقهِ، فهو ضَالٌّ.

والقائلُ الذي قالَ: منْ لَمْ يعتقدْ أَنَّ الله فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضالٌّ، إنْ أرادَ بذلكَ منْ لاَ يعتقد أنَّ الله فِي جوفِ السَّمَاء، بحيثُ تحصرُهُ وتحيطُ بِهِ فَقَدْ أخطأَ. وإنْ أرادَ بذلكَ منْ لَمْ يعتقدْ مَا جاءَ بِهِ الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عَلَيهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، مِنْ أنَّ الله تعالى فَوْقَ سماواته عَلَى عرشهِ، بائنٌ منْ خلقهِ، فَقَدْ أصابَ؛ فإنَّه منْ لَمْ يعتقدْ ذَلِكَ يكونُ مكذِّبًا للرسولِ صلى الله عليه وسلم، متَّبعًا غيرَ سبيلِ المؤمنينَ؛ بلْ يكونُ فِي الحقيقةِ معطِّلًا لربِّهِ نافيًا لَهُ؛ فَلاَ يكونُ لَهُ فِي الحقيقةِ إلهٌ يعبدهُ، وَلاَ ربٌّ يسألهُ، ويقصدهُ. وهذا قولُ الجهميَّةِ ونحوهمْ منْ أتباعِ فرعونَ المعطِّل. واللهُ سبحانهُ قدْ فطرَ العبادَ - عربهم وعجمهم - على أنَّهم إذا دعوهُ توجَّهتْ قلوبهم إلى العلوِّ، ولا يقصدونَهُ تحتَ أرجلهمْ، ولهذا قَالَ بعضُ العارفينَ: مَا قَالَ عارفٌ قطٌّ: يَا الله!! إِلَّا وجدَ فِي قلبهِ - قبلَ أَنْ يتحرَّكَ لسانهُ - معنًى يطلبُ العلوَّ، لاَ يلتفتُ يمنةً وَلاَ يسرةً. وأمَّا القائلُ الذي يقولُ: «إنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في مكانٍ» إنْ أرادَ بهِ أنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في جوفِ المخلوقاتِ، وأنَّه لا يحتاجُ إلى شيءٍ منها، فقدْ أصابَ، وإنْ أرادَ أنَّ الله سبحانه وتعالى ليسَ فوقَ السمواتِ، ولا هوَ مستوٍ على العرشِ استواءً لائقًا بذاتهِ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لم يعرجْ بهِ إلى اللهِ تعالى؛ فهذا جهميٌّ فرعونيٌّ معطِّلٌ.

ومنشأُ الضَّلالِ أنْ يظنَّ الظانُّ أنَّ صفاتِ الرَّبِّ سبحانهُ كصفاتِ خلقهِ، فيظنُّ أنَّ الله تعالى على عرشهِ، كالملكِ المخلوقِ على سريرهِ؛ فهذا تمثيلٌ وضلالٌ، وذلكَ أنَّ الملِكَ مفتقرٌ إلى سريره، ولو زالَ سريرهُ لسقطَ، واللهُ عزَّ وجلَّ غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواه محتاجٌ إليه، وهوُ حاملٌ العرشَ وحملةَ العرشِ، وعلوُّه عليهِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ الله تعالى قدْ جعلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلًا، وجعلَ العالي غنيًّا عَنِ السَّافلِ، كمَا جعلَ الهواءَ فوقَ الأرضِ، وليسَ هو مفتقرًا إليهَا، وجعلَ السَّماءَ فوقَ الهواءِ، وليسَتْ محتاجةً إليهِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهمَا أولى أنْ يكون غنيًّا عَنِ العرشِ، وسائرِ المخلوقاتِ، وإنْ كانَ عاليًا عليهَا سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًّا كبيرًا. والنَّاسُ في هذا البابِ ثلاثةُ أصنافٍ: أهلُ الحلولِ والاتحادِ، وأهلُ النَّفيِ والجحودِ، وأهلُ الإيمانِ والتَّوحيدِ والسنَّةِ. فأهلُ الحلولِ يقولونَ: إنَّه بذاتهِ في كلِّ مكانٍ، وقدْ يقولونَ بالاتحادِ والوحدةِ فيقولونَ: وجودُ المخلوقاتِ وجودُ الخالقِ ... وأمَّا أهلُ النَّفيِ والجحودِ فيقولونَ: لا هوَ داخلُ العالمِ ولا خارجٌ ولا مباينٌ لهُ ولا حالٌّ فيهِ، ولا فوقَ العالمِ ولا فيهِ، ولا ينزلُ منهُ شيءٌ، ولا يصعدُ إليهِ شيءٌ، ونحو ذلكَ. وهذا قولُ متكلِّمةِ الجهميَّةِ المعطلِّةِ، كمَّا أنَّ الأوَّلَ قولُ عبَّادِ الجهميَّةِ؛ فمتكلِّمةُ الجهميَّةِ لا يعبدونَ شيئًا، ومتعبِّدةُ الجهميَّةِ يعبدونَ كلَّ شيءٍ، وكلامهم يرجعُ إلى التَّعطيلِ والجحودِ الذي هو قولُ فرعونَ.

وقدْ علمَ أنَّ الله تعالى كانَ قبلَ أنْ يخلقَ السَّمواتِ والأرضَ ثمَّ خلقهما؛ فإمَّا إنْ يكونَ دخلَ فيهما وهذا حلولٌ باطلٌ، وإمَّا أنْ يكونَا دخلا فيهِ وهوَ أبطلُ وأبطلُ، وإمَّا أنْ يكونَ الله سبحانهُ بائنًا عنهما لم يدخلْ فيهما ولمْ يدخلا فيهِ، وهذا قولُ أهلِ الحقِّ والتَّوحيدِ والسنَّةِ. ولأهلِ الجحودِ والتَّعطيلِ في هذا البابِ شبهاتٍ (¬1)، يعارضونَ بها كتابَ الله عزَّ وجلَّ وسنَّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتهَا، ومَا فطرَ الله تعالى عليهِ عبادهُ، وما دلَّتْ عليهِ الدلائلُ العقليةُ الصحيحةُ؛ فإنَّ هذهِ الأدلَّةَ كلَّها متَّفقةٌ على أنَّ الله تعالى فوقَ مخلوقاتهِ، عالٍ عليهَا، قدْ فطرَ اللهُ تعالى على ذلكَ العجائزَ والأعرابَ والصبيانَ في الكتَّابِ؛ كما فطرهمْ على الإقرارِ بالخالقِ تعالى. وقدْ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحيحِ: «كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هل تُحِسُّونَ فيها منْ جدعاءَ» ثمَّ قالَ أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إنْ شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] (¬2). وهذا معنى قولِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه الله: «عليكَ بدينِ الأعرابِ والصبيانِ في الكتَّابِ، وعليكَ بما فَطَرَهُمُ اللهُ تعالى عليه»؛ فإنَّ الله سبحانهُ فطرَ عبادهُ على الحقِّ، والرسلُ بعثوا بتكميلِ الفطرةِ وتقريرهَا، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرهَا. ¬

_ (¬1) قال ابن القيم رحمه الله: «وكيفَ تكونُ الآراءُ والخيالاتُ وسوانحُ الأفكارِ دينًا يُدانُ بهِ ويُحْكَمُ بهِ على اللهِ ورسولهِ؟! سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!». (¬2) رواه البخاري (1358 و1359 و1385 و4775 و6599)، ومسلم (2658) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وأمَّا أعداءُ الرُّسلِ كالجهميَّةِ الفرعونيَّةِ ونحوهم: فيريدونَ أنْ يغيِّروا فطرةَ الله تعالى ودينَهُ عزَّ وجلَّ، ويوردونَ على النَّاسِ شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ، لا يفهمُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مقصودَهُمْ بها، ولا يحسنُ أنْ يجيبهم. وأصلُ ضلالهم تكلُّمهمْ بكلماتٍ مجملةٍ؛ لا أصلَ لها في كتابِ الله تعالى؛ ولا سنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ ولا قالها أحدٌ منْ أئمَّةِ المسلمينَ، كلفظِ التحيُّزِ والجسمِ والجهةِ ونحو ذلك. فمنْ كانَ عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومنْ لمْ يكنْ عارفًا بذلكَ فليعرضْ عنْ كلامهمْ، ولا يقبلُ إلَّا ما جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ، كمَا قالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ومنْ يتكلَّمُ في الله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ بما يخالفُ الكتابَ والسنةَ فهوَ مِنَ الخائضينَ في آياتِ الله تعالى بالباطلِ. وكثيرٌ منْ هؤلاءِ ينسبُ إلى أئمَّةِ المسلمينَ ما لمْ يقولوه؛ فينسبونَ إلى الشافعيِّ، وأحمدَ بن حنبلٍ ومالكٍ، وأبي حنيفة؛ مِنَ الاعتقاداتِ ما لم يقولوا، ويقولونَ لمنِ اتبعهم: هذَا اعتقادُ الإمامِ الفلانيِّ؛ فإذا طولبوا بالنَّقلِ الصَّحيح عَنِ الأئمَّة تبيَّنَ كذبهم. وقالَ الشَّافعيُّ: حُكْمِي في أهلِ الكلامِ: أن يُضربوا بالجَرِيدِ والنِّعالِ، ويُطافُ بهم في القَبَائِلِ والعَشَائِرِ، ويقالُ: هذا جزاءُ مَنْ تَركَ الكتابَ والسُّنَّةَ، وأقبلَ على الكَلاَمِ. قالَ أبو يوسفَ القاضي: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بالكلام تَزَنْدَقَ. قالَ أحمد: ما ارْتَدَى أحدٌ بالكَلاَمِ فَأَفْلَحَ. قال بعضُ العلماءِ: المُعَطِّلُ يعبدُ عدمًا، والمُمَثِّلُ يعبدُ صنمًا. المعطِّل أعمى، والممثِّل أعشى (¬1)؛ ودينُ الله بين الغالي فيهِ والجافي عنهُ. ¬

_ (¬1) الأعشى: مرادف للأعمى، أو هو سيئ البصر بالليل والنهار.

السؤال الثاني: الفرق بين الاستواء والعلو

وقدْ قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] والسنَّةُ في الإسلامِ كالإسلامِ في المللِ. والحمدُ لله ربِّ العالمين (¬1). السؤالُ الثاني إذا كانَ الله تعالى إنَّما استوى على العرشِ بعدَ أنْ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيَّامٍ، فقبلَ ذلكَ لمْ يكنْ على العرشِ؟ قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: الاسْتِوَاءُ علوٌّ خاصٌّ، فكلُّ مستوٍ عَلَى شيءٍ عالٍ عَلَيهِ، وليسَ كلُّ عالٍ عَلَى شيءٍ مستوٍ عَلَيهِ. ولهذا لاَ يقالُ لكلِّ مَا كانَ عاليًا على غيرهِ أنَّهُ مستوٍ عليهِ، واستوى عليهِ؛ ولكن كلُّ ما قيلَ فيهِ أنَّه استوى على غيرِه، فإنَّهُ عالٍ عَلَيهِ. والذي أخبرَ اللهُ أنَّهُ كانَ بعدَ خلق السَّماواتِ والأرضِ «الاستواءُ» لا مطلقُ العلوِّ، مَعَ أنَّهُ يجوزُ أنَّهُ كانَ مستويًا عليهِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ لمَّا كانَ عرشهُ على الماءِ، ثمَّ لمَّا خلقَ هذا العالمَ كانَ عاليًا عليهِ ولمْ يكنْ مستويًا عليهِ، فلمَّا خلقَ هذا العالمَ استوى عليهِ. فالأصلُ أنَّ علوَّهُ على المخلوقاتِ وصفٌ لازمٌ لهُ، كمَا أنَّ عظمتَهُ وكبرياءهُ وقدرتهُ كذلكَ، وأمَّا «الاستواءُ» فهو فعلٌ يفعلهُ سبحانه وتعالى بمشيئتهِ وقدرتهِ، ولهذا قالَ فيهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى} [يونس: 3]. ولهذا كانَ الاستواءُ مِنَ الصفاتِ السَّمعيةِ المعلومةِ بالخبرِ، وأمَّا علوُّه على المخلوقاتِ فهوَ عندَ أئمَّةِ أهلِ الإثباتِ من الصِّفاتِ العقليةِ المعلومةِ بالعقلِ مَعَ السمعِ (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 258 - 261). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 523).

السؤال الثالث: التعليق على من يقول: بأن الأخذ بظاهر قوله تعالى: {الرحمان على العرش استوى} تجسيم وتشبيه وضلال

السؤالُ الثالث ما هو التعليقُ على قولِ الدسوقي: «أصولُ الكفرِ ستةٌ - وعدَّ خمسةً منها ثمَّ قال: سادسًا: التمسكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّدِ ظواهِرِ الكتابِ والسنَّةِ من غير عَرْضِها على البراهينِ العقليَّةِ والقواطعِ الشرعيةِ ... إلى أن قال: والتمسُّكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّد ظواهرِ الكتابِ والسنةِ من غير بصيرةٍ في العقلِ وهو أصلُ ضلاَلةِ الحَشَوِيَّةِ، فقالوا بالتَّشبيه والتَّجسيم والجهةِ عملًا بظاهرِ قولهِ تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]» (¬1). ويا للهِ العجبُ! كيفَ كانَ الصَّحابةُ والتَّابعونَ قبلَ وضعِ هذهِ القوانينِ التي أتى اللهُ بنيانها مِنَ القواعدِ وقبلَ استخراج هذه الآراءِ والمقاييسِ والأوضاعِ هل كانوا مهتدينَ مكتفينَ بالنُّصوصِ أمْ كانوا على خلافِ ذلكَ؟ حتَّى جاء المتأخرونُ فكانوا أعلمَ منهم وأهدى وأضبطَ للشَّريعة منهم وأعلمَ باللهِ وأسمائهِ وصفاتهِ وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منهم؟ فواللهِ لأنْ يلقى الله عبدهُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الإشراك لخيرٌ منْ أنْ يلقاهُ بهذا الظنِّ الفاسدِ والاعتقادِ الباطلِ (¬2). والقولُ بأنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يصدرُ البتةَ عنْ عالمٍ بكتابِ الله وسنَّةِ رسوله وإنَّما يصدرُ عمَّن لا علمَ لهُ بالكتابِ والسنَّةِ أصلًا، لأنَّه لجهلهِ بهما يعتقدُ ظاهرهما كفرًا والواقعُ في نفسِ الأمرِ أنَّ ظاهرهما بعيدٌ ممَّا ظنَّه أشدَّ منْ بعدِ الشمسِ مِنَ اللمسِ (¬3). وهذا يتبيَّن منْ وجوهٍ: الوجهُ الأولُ: ينبغي أنْ يعلمَ بأنَّ كلَّ ما أخبرَ الله بهِ فهوَ حقٌّ، ويستحيلُ أنْ يلزمَ عليهِ باطلٌ. ¬

_ (¬1) حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص219)، للسنوسي. (¬2) إعلام الموقعين (4/ 457). (¬3) أضواء البيان (7/ 438).

ولا يخفى على أحدٍ أنَّ الذي يقول: إنَّ الأخذَ بظاهرِ قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] يلزمُ منهُ الكفرُ والتشبيهُ والضَّلالُ. أنَّ إلزامهُ هذا اعتراضٌ صريحٌ على منْ أخبرَ بالاستواءِ وهو الله جلَّ وعلا (¬1). الوجهُ الثاني: لا شكَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، عالمٌ كلَّ العِلْمِ، بأنَّ الظاهرَ المتبادرَ ممَّا مدحَ الله بهِ نفسه، في آياتِ الصِّفاتِ هو التنزيهُ التَّامُّ عنْ صفاتِ الخلقِ، ولو كان يخطرُ في ذهنهِ أنَّ ظاهرهُ لا يليقُ، لأنَّهُ تشبيهٌ بصفاتِ الخلقِ، لظهرَ التحذيرُ منهُ ومنْ أصحابهِ وتواترَ أعظمَ ممَّا حذَّروا مِنَ الدَّجالِ الأعورِ الكذَّابِ، ولبادرَ كلَّ المبادرةِ إلى بيانِ ذلكَ، لأنَّه لا يجوزُ في حقِّهِ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ إليهِ، ولا سيَّما في العقائدِ، ولا سيَّما فيما ظاهرهُ الكفرُ والتشبيهُ. ولو أخَّرَ البيانَ لكانَ قدْ كلَّفَ العبادَ ما لا سبيلَ إليهِ (¬2). ألا ترى أنَّ المتكلِّمينَ لمَّا اعتقدوا قبحَ هذه الظواهرِ تواترَ عنهمُ التَّحذيرُ عنهَا والتأويلُ لها وصنَّفوا في ذلكَ وأيقظوا الغافلينَ، وعلَّموا الجاهلينَ، وكفَّروا المخالفينَ، وأشاعوا ذلكَ بينَ المسلمينَ؛ بل بينَ العالمينَ. فكانَ أحقَّ منهم بذلك سيِّدُ المرسلينَ، وقدماءُ السابقينَ، وأنصارُ الدِّينِ (¬3). الوجهُ الثالثُ: لوْ علمَ الأئمَّةُ أنَّ حملَ النُّصوصِ على ظاهرهَا كفرٌ لوجبَ عليهم تبيينُ ذلكَ، وتحذيرُ الأمَّةِ منهُ؛ فإنَّ ذلكَ من تمامِ نصيحةِ المسلمينَ، فكيفَ كانوا ينصحونَ الأمَّةَ فيما يتعلَّقُ بالأحكام العمليةِ ويَدَعونَ نصيحتهم فيما يتعلَّقُ بأصولِ الإعتقاداتِ!! هذا من أبطلِ الباطلِ (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: منع جواز المجاز (ص61). (¬2) أضواء البيان (7/ 449). (¬3) إيثار الحق على الخلق (ص138 - 139). (¬4) فتح الباري (7/ 231)، لابن رجب الحنبلي.

الوجهُ الرابعُ: إنَّ القولَ المذكورَ يتضمنُ الظنَّ السَّيِّءَ بالله تباركَ وتعالى. ومنْ ظنَّ بالله سبحانه وتعالى أنَّه أَخبرَ عنْ نفسهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ بما ظاهرهُ باطلٌ، وتشْبيهٌ، وتمْثيلٌ، وتركَ الحقَّ، لمْ يخبرْ بهِ، وإنَّما رمزَ إليهِ رموزًا بعيدةً، وأشارَ إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لمْ يصرِّحْ بهِ، وصرَّح دائمًا بالتَّشبيهِ والتمثيلِ والباطلِ، وأرادَ منْ خلقهِ أنْ يُتْعِبوا أذْهانهم وقواهم وأفْكارهمْ في تحريفِ كلامهِ عنْ مواضعهِ، وتأويلهِ على غيرِ تأويلهِ، ويتطلَّبوا لهُ وجوهَ الاحتمالاتِ المستكرهةِ، والتأويلاتِ التي هي بالألغازِ والأحاجي أشْبهُ منها بالكشفِ والبيانِ (¬1)، ¬

_ (¬1) قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (4/ 307): «قال بعضُ أهل العلم: كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أنْ يكون ممن قال الله فيهم: {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]» ..

وأحالهمْ في معْرفةِ أسْمائهِ وصفاتهِ على عقولهمْ وآرائهمْ، لا على كتابهِ، بلْ أرادَ منهمْ أنْ لا يحْملوا كلامهُ على ما يعْرِفونَ منْ خطابهمْ ولغتهم، معَ قدْرتهِ على أنْ يصرِّحَ لهمْ بالحقِّ الذي ينبغي التَّصْريحُ بهِ، ويريحهمْ مِنَ الألفاظِ التي توقعهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، فلمْ يفعلْ، بلْ سلكَ بهمْ خلافَ طريقِ الهدى والبيانِ، فقدْ ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، فإنَّه إنْ قالَ: إنَّهُ غيرُ قادرٍ على التعْبيرِ عَنِ الحقِّ باللفظِ الصَّريحِ الذي عبَّر بهِ هوَ وسلفُهُ، فقدْ ظنَّ بقدْرتهِ العجزَ، وإنْ قالَ: إنَّهُ قادرٌ ولمْ يبيِّنْ، وعدَلَ عنِ البيانِ، وعَنِ التَّصْريحِ بالحقِّ إلى ما يوْهمُ، بلْ يُوقِعُ في الباطلِ المحالِ، والاعْتقادِ الفاسدِ، فقدْ ظنَّ بحكمتهِ ورحمتهِ ظنَّ السَّوء، وظنَّ أنَّهُ هوَ وسلفهُ عبَّروا عَنِ الحقِّ بصريحهِ دونَ اللهِ ورسولهِ، وأنَّ الهدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأمَّا كلامُ الله، فإنَّما يؤخذُ منْ ظاهرهِ التَّشبيهُ، والتَّمثيلُ، والضَّلالُ، وظاهرُ كلامِ المتهوِّكين (¬1) الحيارى، هوَ الهدى والحقُّ، وهذا منْ أسوإ الظنِّ بالله، فكلُّ هؤلاءِ مِنَ الظَّانينَ بالله ظنَّ السَّوء، ومِنَ الظَّانينَ بهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهليةِ (¬2). الوجهُ الخامسُ: أنَّ الذينَ يقولونَ: إنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يعلمونَ ما هيَ الظواهرُ وأنَّهم يعتقدونَ شيئًا ظاهر النص. والواقع أنَّ النَّص لا يدلُّ عليهِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ فضلًا عنْ أنْ يكونَ ظاهره. فبنوا باطلًا على باطلٍ، ولا شكَّ أنَّ الباطلَ لا يُبنى عليه إلَّا الباطل. ولو تصوَّروا معاني ظواهرِ الكتابِ والسنَّةِ على حقيقتها لمنعهم ذلكَ، منْ أن يقولوا ما قالوا. ¬

_ (¬1) التَّهَوُّك: كالتَّهَوُّر، وهو الوقوع في الأمر بغير رَوِيَّة. (¬2) زاد المعاد (3/ 231).

السؤال الرابع: ما معنى قول السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف؟

وأصولُ الكفرِ يجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يحذرَ منها كلَّ الحذرِ، ويتباعدَ منها كلَّ التباعدِ ويتجنبُ أسبابها كلَّ الاجتنابِ، فيلزمُ على هذا القولِ المنكرِ الشنيعِ وجوبُ التباعدِ مِنَ الأخذِ بظواهرِ الوحي. فتنفيرُ النَّاسِ وإبعادهم عنْ كتابِ الله، وسنَّةِ رسولهِ، بدعوى أنَّ الأخذَ بظواهرِهما منْ أصولِ الكفرِ هو منْ أشنعِ الباطلِ وأعظمهِ كما ترى. وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبيَّنُ أنَّ منْ أعظمِ أسبابِ الضَّلالِ، ادِّعاء أنَّ ظواهرَ الكتابِ والسنَّةِ دالَّةٌ على معانٍ قبيحةٍ، ليستْ بلائقةٍ. والواقعُ في نفسِ الأمرِ بُعدهَا وبراءتها منْ ذلكَ. فنوصي «أنفسنا وإخواننا المسلمينَ بتقوى الله تعالى وعدمِ التهجُّم على الله تعالى وعلى كتابهِ بالدَّعاوى الباطلةِ والتمسُّكِ بنورِ الوحيِ الصحيحِ في المعتقدِ وغيرهِ، لأنَّ السلامةَ متحققةٌ في اتِّباع الوحي وليستْ متحققةً في شيءٍ غيره: ونَهْجُ سبيلي واضحٌ لمن اهْتَدَى ... ولكنَّها الأهواءُ عَمَتْ فَأَعْمَتْ» (¬1) وكلامُ الدسوقي «مع كونهِ ظلمًا لنا، يا ليتهُ كان كلامًا صحيحًا مستقيمًا، فكنَّا نحلله من حقِّنا ويستفادُ ما فيهِ مِنَ العلمِ!! ولكن فيهِ منْ تحريفِ كتابِ الله والإلحادِ في آياته وأسمائه، والكذبِ والظلمِ، والعدوان الذي يتعلق بحقوقِ اللهِ مما فيه؛ لكنْ إنْ عفونا عنْ حقِّنا، فحقُّ اللهِ إليهِ لا إلى غيرهِ» (¬2). السؤالُ الرابعُ ما معنى قول السَّلفِ: أمِرُّوهَا كما جاءتْ بلا كيفٍ؟ قولهمْ رضي الله عنهم: «أمرُّوها كما جاءت» ردٌّ على المعطِّلة، وقولهمْ: «بلا كيفٍ» ردٌّ على الممثِّلةِ. ¬

_ (¬1) آداب البحث والمناظرة (2/ 162)، للعلامة الشنقيطي رحمه الله. (¬2) مجموع الفتاوى (6/ 375).

وسأل رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] كيفَ استوى؟ فقال: «الاستواءُ غيرُ مجْهولٍ، الكيفُ غيرُ معْقولٍ، ومِنَ الله الرسالة، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التَّصْديقُ» (¬1). وقال رجلٌ للإمامِ مالكٍ: يا أبا عبدِ الله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] كيفَ استوى؟ قال: «الكيفُ غيرُ معْقولٍ، والاستواءُ منهُ غيرُ مجْهولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسُّؤالُ عنهُ بدعةٌ» (¬2). فقولُ ربيعةَ ومالكٍ: «الاسْتواءُ غيرُ مجْهولٍ، والكيفُ غيرُ معْقولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ» موافقٌ لقولِ الباقينَ: «أمِرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ»؛ فإنَّما نفوا علمَ الكيفيَّةِ، ولمْ ينْفوا حقيقةَ الصِّفةِ. ولو كانَ القومُ قدْ آمنوا باللَّفظِ المجرَّدِ منْ غيرِ فهمٍ لمعْناه على ما يليقُ بالله؛ لما قالوا: «أمرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ»؛ فإنَّ الاسْتواءَ حينئذٍ لا يكونُ معْلومًا؛ بلْ مجْهولًا بمنْزلةِ حروفِ المعجمِ. وأيضًا؛ فإنَّه لا يحْتاجُ إلى نفيِ علمِ الكيفيَّةِ إذا لمْ يفهمْ عَنِ اللَّفظِ معنًى؛ وإنَّما يحْتاجُ إلى نفيِ علمِ الكيفيَّةِ إذا أثْبتت الصِّفاتُ. وأيضًا؛ فإنَّ منْ ينْفي علوَّ الله على العرشِ والنزولَ لا يحْتاجُ أنْ يقولَ: بلا كيفٍ! فمنْ قال: إنَّ الله ليس على العرشِ. لا يحتاجُ أنْ يقولَ: «بلا كيفٍ»، فلو كانَ مذهبُ السَّلفِ التفْويضَ في المعْنى؛ لما قالوا بلا كيفٍ. ¬

_ (¬1) راجع: «مختصر العلو» (ص132). (¬2) راجع: «مختصر العلو» (ص141).

السؤال الخامس: كيف استوى على العرش؟

وأيضًا؛ فقولهم: «أمرُّوها كما جاءت»: يقتضي إبْقاءُ دلالتهَا على ما هي عليهِ، فإنَّها جاءتْ ألْفاظًا دالةً على معاني؛ فلو كانتْ دلالتهَا منْتفيةً؛ لكانَ الواجبُ أنْ يقالَ: «أمرُّوا لفظهَا مع اعْتقادِ أنَّ المفْهومَ منها غيرُ مرادٍ»، أو «أمرُّوا لفْظَهَا مع اعْتقادِ أنَّ الله لا يوصفُ بما دلَّتْ عليهِ حقيقةً». وحينئذٍ فلا تكونُ قدْ أُمرَّتْ كما جاءتْ، ولا يقال حينئذٍ: بلا كيفٍ؛ إذْ نفيُ الكيفِ عمَّا ليسَ بثابتٍ لغوٌ مِنَ القولِ (¬1). فلا يقالُ إنَّ السَّلفَ - رحمهم الله تعالى - تلقَّوا النُّصوصَ فلم يفهموها، ففوَّضوا معناها. ولا يجوزُ أن يشتملَ القرآنُ على ما لا يُعلمُ معناه (¬2) - حاشاهم منْ ذلكَ - «بل كفُّوا عَنِ الثرثرةِ، والتشدُّقِ، لا عجزًا بحمدِ الله عَنِ الجدالِ والخصامِ، ولا جهلًا بطرقِ الكلامِ، وإنَّما أمسكوا عَنِ الخوضِ في ذلكَ عنْ علمٍ ودرايةٍ، لا عنْ جهلٍ وعمايةٍ» (¬3). السؤالُ الخامسُ كيف استوى على العرش؟ مِنَ المعلومِ أنَّ صفاتِ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتهُ وتلائمُ حقيقتهُ؛ فمنْ لم يفهمْ منْ صفاتِ الرَّبِّ - الذي ليس كمثله شيءٌ - إلَّا ما يناسبُ المخلوق فقدْ ضلَّ في عقلهِ ودينهِ. فقولُ السَّائلِ: كيفَ استوى؟ بمنزلةِ قولهِ: كيفَ ينزلُ؟ وقولهِ: كيفَ يسمعُ؟ وكيفَ يبصرُ؟ وكيفَ يعلمُ ويقدرُ؟ وكيفَ يخلقُ ويرزقُ؟ فنحنُ نعلمُ معنى الاستواءِ ولا نعلمُ كيفيَّتهُ، ونعلمُ معنى السَّمعِ والبصرِ والعلمِ والقدرةِ، ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ. ونعلم معنى الرَّحمةِ والغضب والرضا والفرحِ والضَّحكِ ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ (¬4). ¬

_ (¬1) راجع: مجموع الفتاوى (5/ 39 - 42). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (13/ 285). (¬3) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 207). (¬4) انظر: شرح حديث النزول (ص132 - 133).

قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: «ما صحَّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالهُ فلا يقالُ فيهِ لِمَ وكيفَ» (¬1). وقالَ البربهاريُّ رحمه الله: «ولا يقولُ في صفاتِ الربِّ: كيفَ؟ ولمَ؟ إلَّا شاكٌ في الله تبارك وتعالى» (¬2). وقالَ الإمامُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ رحمه الله: «وأنَّهُ عزَّ وجلَّ استوى على العَرْشِ، بلا كَيْفٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى انتهى منْ ذلكَ إلى أنَّه استوى على العرشِ، ولم يَذْكُرْ كيفَ كانَ استواؤُهُ» (¬3). وقالَ عبدُ العزيز بن يحيى المكي رحمه الله (240هـ) في «الردِّ على الزنادقة والجهمية»: «فقال الجهميُّ: أخبرني كيفَ استوى على العرشِ؟ أهوَ كمَا يُقالُ: استوى فلانٌ على السريرِ، فيكون السريرُ قد حوى فلانًا وحدَهُ إذا كانَ عليهِ، فيلزمكَ أنْ تقولَ: إنَّ العرشَ قدْ حوى الله وحدَهُ إذا كانَ عليه، لأنَّا لا نعقلُ الشَّيءَ على الشيءِ إلَّا هكذا. قالَ: فيُقالُ لهُ: أمَّا قولكَ: كيفَ استوى؟ فإنَّ الله لا يجري عليهِ كيفَ، وقدْ أخبرنَا أنَّهُ استوى على العرشِ، ولم يخبرنا كيفَ استوى، فوجبَ على المؤمنينَ أنْ يصدِّقوا ربَّهم باستوائهِ على العرشِ، وحرَّمَ عليهم أنْ يصفوا كيفَ استوى، لأنَّهُ لمْ يخبرهمْ كيفَ ذلكَ، ولمْ ترهُ العيونُ في الدنيا فتصفهُ بما رأتْ، وحرَّمَ عليهم أنْ يقولوا عليهِ منْ حيثُ لا يعلمونَ، فآمنوا بخبرهِ عَنِ الاستواءِ، ثمَّ ردُّوا علمَ كيفَ استوى إلى الله» (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي بطة في «الإبانة» (3/ 203) رقم (157)، بإسناد صحيح. (¬2) شرح السنة (ص70). (¬3) اعتقاد أئمة الحديث (ص50)، لأبي بكر الإسماعيلي. (¬4) درء تعارض العقل والنقل (6/ 117 - 118).

وقال معمر بن أحمد الأصبهانيُّ رحمه الله (418هـ): «جميعُ ما وردَ منَ الأحاديثِ في الصِّفاتِ؛ كلُّ ذلكَ بلا كيفٍ ولا تأويلٍ نؤمنُ بها إيمانَ أهلِ السلامةِ والتسليمِ، ولا نتفكَّرُ في كيفيَّتها، وساحةُ التَّسليمِ لأهلِ السنَّةِ، والسلامةُ واسعةٌ بحمدِ الله ومنِّهِ، وطلبُ السلامةِ في معرفةِ صفات الله عزَّ وجلَّ أوجبُ وأولى، وأقِمنْ وأحرى، فإنَّه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فليسَ كمثلهِ شيءٌ: ينفي كلَّ تشبيهٍ وتمثيلٍ، وهو السميع البصير: ينفي كلَّ تعطيلٍ وتأويلٍ، فهذا مذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ والأثرِ، فمنْ فارقَ مذهبهم فارقَ السنَّةَ، ومنِ اقتدى بهم وافقَ السنَّةَ، ونحنُ بحمدِ الله منَ المقتدينِ بهم، المنتحلينَ لمذاهبهم، القائلينَ بفضلهم، جمعَ اللهُ بيننا وبينهم في الدَّارينِ، فالسنَّةُ طريقتنا، وأهلُ الأثرِ أئمتنا، فأحيانا اللهُ عليها وأماتنا عليها برحمتهِ إنَّهُ قريبٌ مجيبٌ» (¬1). وقال الحافظ إسماعيلُ بنُ محمدٍ التيميُّ رحمه الله (535هـ): «الاستواءُ معلومٌ كونهُ مجهولُ كيفيَّتهُ، واستواءُ نوحٍ على السفينةِ معلومٌ كونهُ معلومٌ كيفيَّتهُ؛ لأنَّهُ صفةٌ لهُ، وصفاتُ المخلوقينَ معلومةٌ كيفيَّتها. واستواءُ الله على العرشِ غيرُ معلوم كيفيَّتهُ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يعلمُ كيفيَّةَ صفاتِ الخالقِ؛ لأنَّهُ غيبٌ ولا يعلمُ الغيبَ إلَّا الله، ولأنَّ الخالقَ إذا لمْ يشبه ذاتهُ ذاتَ المخلوقِ لمْ يشبه صفاتهُ صفات المخلوق. فثبتَ أنَّ الاستواءَ معلومٌ، والعلمُ بكيفيَّتهِ معدومٌ، فعلمهُ موكولٌ إلى الله تعالى، كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]» (¬2). وقال السفاريني رحمه الله: ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (1/ 243 - 244). (¬2) الحجة في بيان المحجة (2/ 258 - 259).

سُبْحَانَهُ قَدِ «اسْتَوَى» كَمَا وَرَدَ ... مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ قَدْ تَعَالَى أَنْ يُحَدَّ (¬1) وقدْ قَالَ بعضهم، مخاطبًا للزمخشريِّ، منكرًا عَلَيهِ نفيَ الصِّفاتِ، شعرًا: قُلْ لِمَنْ يفهمُ عنِّي مَا أقولُ ... قِصَرَ القَوْلِ فذا شرحٌ يَطُولُ أَنْتَ لاَ تفهمُ إيَّاك وَلاَ ... من أنْتَ وَلاَ كيفَ الوُصولُ لاَ وَلاَ تدري خَفَايا رُكِّبَتْ ... فيكَ حارَتْ فِي خَبَايَاهَا العُقُولُ أَنْتَ أَكْلُ الخُبْزِ لاَ تَعْرِفُه ... كيفَ يجري منكَ أم كيفَ تَبُولُ أينَ منكَ الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا ... كيفَ تَسْرِي فيكَ؟ أم كيف تجولُ؟ فإذا كانَتْ طَوايَاكَ التي ... بين جَنْبَيكَ كذا فِيهَا ضلولُ كيفَ تَدْرِي مَنْ على العرشِ استوى ... لاَ تَقُل كَيْفَ اسْتَوَى كَيْفَ النُّزُولُ (¬2) وما أحْسن ما قيل: عَلىَ عرْشِهِ الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ اسْتَوىَ ... كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ وَالمُصْطَفَى رَوَى وَذَاكَ اسْتِواءٌ لاَئِقٌ بِجَلاَلِهِ ... وَأَبْرَأُ مِنْ قَوْلِي لَهُ العرْشُ قَدْ حَوَى فَمَنْ قَالَ مِثْلَ الفُلْكِ كَانَ اسْتِواَؤُهُ ... عَلَى جَبَلِ الجودِي مِنْ شَاهِقٍ هَوَى وَمَنْ يَتَّبِعْ مَا قَدْ تَشاَبَهَ يَبْتَغِي ... بِهِ فِتْنَةً أَوْ يَبْغِي تَأْوِيلَهُ غَوَى فَلَمْ أَقُلِ اسْتَوْلَى وَلَسْتُ مُكَلَّفًا ... بِتَأْوِيِلِهِ كَلَّا وَلَمْ أَقُلِ احْتَوَى ومَنْ قَالَ لي كَيْفَ اسْتَوَى لاَ أُجِيبُهُ ... بِشَيء سِوَى أَنِّي أَقُولُ لَهُ اسْتَوَى (¬3) ¬

_ (¬1) العقيدة السفارينية (ص54)، تحقيق: أشرف عبد المقصود. (¬2) الدرر السنية (3/ 291 - 292). (¬3) شرح العقيدة السفارينية (ص101).

السؤال السادس: هل مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم وأعلم؟

السؤالُ السادسُ هل مذهبُ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبُ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ؟ شاعَ عندَ المتأخرينَ مِنَ المتكلِّمينَ: أنَّ طريقةَ السَّلفِ أسلمُ، وأنَّ طريقةَ الخلفِ أحكمُ، وهذا ليس بمستقيمٍ؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ طريقةَ السَّلفِ مجرَّدُ الإيمانِ بألفاظِ القرآنِ والحديثِ منْ غير فقهٍ في ذلكَ، وأنَّ طريقةَ الخلفِ هي استخراجُ معاني النُّصوصِ المصروفةِ عنْ حقائقها بأنواعِ المجازاتِ. فجمعَ هذا القائلُ بينَ الجهلِ بطريقةِ السَّلفِ، والدَّعوى في طريقةِ الخلفِ. ثمَّ هذا القولُ إذا تدبَّرهُ الإنسانُ وجدَهُ في غايةِ الجهالةِ؛ بلْ في غايةِ الضَّلالة. أليسَ هذا صريحًا: أنَّ السَّلفَ كانوا ضالِّينَ عَنِ التوحيدِ والتنزيهِ وعَلِمَهُ المتأخرونَ؟! وهذا فاسدٌ بضرورةِ العلمِ الصحيحِ والدينِ المتينِ ... فيصفونَ إخوانهم بالفضيلةِ في العلمِ والبيانِ، والتحقيقِ والعرفانِ، والسَّلفَ بالنَّقصِ في ذلكَ والتقصيرِ فيهِ، أو الخطأ والجهلِ. ولا ريبَ أنَّ هذا وإنْ لمْ يكنْ تكفيرًا للسَّلفِ، ولا تفسيقًا لهم، كان تجهيلًا لهم وتخطئةً وتضليلًا، ونسبةً لهم إلى الذنوبِ والمعاصي، وإنْ لم يكنْ فسقًا فزعمًا: أنَّ أهلَ القرونِ المفضولة في الشَّريعةِ أعلمُ وأفضلُ منْ أهلِ القرونِ الفاضلةِ. ومِنَ المعلومِ بالضَّرورةِ لمنْ تدبَّرَ الكتابَ والسنَّةَ، وما اتَّفقَ عليهِ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ منْ جميعِ الطوائفِ: أنَّ خيرَ قرونِ هذهِ الأمَّةِ - في الأعمالِ والأقوالِ، والاعتقادِ وغيرهَا منْ كلِّ فضيلةٍ أنَّ خيرَها -: القرنُ الأوَّلُ، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، كما ثبتَ ذلكَ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ وجهٍ، وأنَّهم أفضلُ مِنَ الخلفِ في كلِّ فضيلةٍ: منْ علمٍ وعملٍ وإيمانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ وعبادةٍ، وأنَّهم أولى بالبيانِ لكلِّ مُشْكِلٍ. هذا لا يدفعهُ إلَّا منْ كابرَ المعلومَ بالضَّرورةِ منْ دينِ الاسلامِ، وأضلَّهُ الله على علمٍ.

هذا وقدْ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي عليكم زمانٌ إلَّا الذي بعدهُ شرٌّ منهُ، حتَّى تلقوا ربَّكم» (¬1). فكيفَ يحدثُ لنا زمانٌ فيهِ الخيرُ في أعظمِ المعلوماتِ وهو معرفةُ الله تعالى؟ هذا لا يكونُ أبدًا. وما أحسن ما قالَ الشافعيُّ رحمه الله في رسالتهِ: «هم فوقنا في كلِّ علمٍ وعقلٍ ودينٍ وفضلٍ، وكلِّ سببٍ يُنالُ به علمٌ أو يدركُ به هدًى، ورأيهم لنا خيرٌ منْ رأينا لأنفسنا» (¬2). وقالَ العلَّامةُ الشنقيطيُّ رحمه الله: قولهم: «إنَّ مذهبَ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبَ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ» فنقول: أوَّلًا: وصفوا مذهبَ السَّلفِ بأنَّهُ أسلمُ، وهي صيغةُ تفضيلٍ مِنَ السَّلامةِ (¬3) ومَا كانَ يفوقُ غيرهُ ويفضلهُ في السَّلامةِ فلا شكَّ أنَّهُ أعلمُ منهُ وأحكمُ. ثانيًا: اعلموا أنَّ المؤولينَ ينطبقُ عليهم بيتُ الشافعيِّ رحمه الله: رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ ... ومِنَ البِرِّ ما يَكُونُ عُقُوقًا وإيضاحُ المقارنةِ: أنَّ منْ كانَ على معتقدِ السَّلفِ الصَّالحِ إذا سَمِعِ مثلًا قولَهُ تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] امتلأ قلبهُ مِنَ الإجلالِ والتَّعظيمِ والإكبارِ لصفةِ ربِّ العالمينَ التي مَدَحَ بها نفسَهُ وأثنى عليهِ بهَا، فجزمَ بأنَّ تلكَ الصِّفةِ التي تمدَّحَ بهَا خالقُ السمواتِ والأرضِ بالغةٌ مِنْ غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينهَا وبينَ صفاتِ الخلقِ. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7068). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 158). (¬3) والسلامةُ لا يعدلها شيءٌ وهي منْ أعظمِ الغاياتِ التي يطلبهَا المسلمُ لدينهِ وعرضهِ ومالهِ، وما سواها هو التعرُّض للهلاكِ والبوارِ.

وبإجلالِ تلكَ الصِّفةِ وتعظيمهَا وحملهَا على أشرفِ المعاني اللائقةِ بكمالِ منْ وَصَفَ بهَا نفسَهُ وجلالهُ، يسهلُ على المؤمنِ السَّلفيِّ أنْ يؤمنَ بتلكَ الصِّفةِ، ويثبتها لله كمَا أثبتهَا الله لنفسهِ على أساسِ التنزيهِ. فيكونُ أوّلًا: منزِّهًا سالمًا منْ أقذارِ التَّشبيهِ. وثانيًا: مؤمنًا بالصِّفاتِ، مصدِّقًا بها، على أساسِ التَّنزيهِ. فيكونُ سالمًا منْ أقذارِ التَّعطيلِ. فيجمعُ بينَ التَّنزيهِ والإيمانِ بالصِّفاتِ على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فمعتقدهُ طريقُ سلامةٍ محقَّقةٍ؛ لأنَّهُ مبنيٌّ على ما تضمنتهُ آيةُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] الآية، مِنَ التَّنزيهِ، والإيمانِ بالصِّفاتِ. فهوَ تنزيهٌ منْ غيرِ تعطيلٍ، وإيمانٌ منْ غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ. وكلُ هذا طريقُ سلامةٍ محقَّقةٍ، وعملٌ بالقرآنِ. فهذا هوَ مذهبُ السَّلفِ. وأمَّا ما يسمُّونهُ مذهبُ الخلفِ فالحاملُ لهم فيهِ على نفيِ الصِّفاتِ وتأويلها: هو قصدهم تنزيهُ الله عنْ مشابهةِ الخلقِ. ولكنَّهمْ في محاولتهم لهذا التنزيهِ وقعوا في ثلاثِ بلايا، ليستْ واحدةً منها إلَّا وهي أكبرُ منْ أختها: الأولى: منْ هذهِ البلايا الثلاث: أنَّهم إذا سمعوا قولَ الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] زعموا أنَّ ظاهرَ الاستواءِ في الآيةِ هو مشابهةُ استواءِ المخلوقينَ. فتهجَّموا على ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في محكمِ كتابهِ، وادَّعوا عليهِ أنَّ ظاهرَهُ المتبادر منهُ هو التَّشبيهُ بالمخلوقينَ في استوائهم. فكأنَّهم يقولونَ لله: هذا الاستواءُ الذي أثنيتَ بهِ على نفسكَ في سبع آياتٍ منْ كتابكَ ظاهرهُ قذرٌ نجسٌ لا يليقُ بكَ لأنَّهُ تشبيهٌ بالمخلوقينَ، ولاَ شيءَ مِنَ الكلامِ أقذرُ وأنجسُ منْ تشبيهِ الخالقِ بخلقِه! سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!

وهذهِ هي البَلِيَّةُ الأولى التي هيَ التَّهجُّمُ على نصوصِ الوحيِ وادِّعاءُ أنَّ ظاهرَها تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، وناهيكَ بهَا بليَّة. ثمَّ لمَّا تقرَّرتْ هذه البليَّةُ في أذهانهمْ، وتقذَّرتْ قلوبهمْ بأقذارِ التَّشبيهِ، اضطروا بسببها إلى نفيِ صفةِ الاستواءِ فرارًا منْ مشابهةِ الخلقِ التي افتروها على نصوصِ القرآن أنَّها هي ظاهرها. ونفيُ الصِّفةِ التي أثنى الله بها على نفسِهِ منْ غيرِ استنادٍ إلى كتابٍ أو سنةٍ هو البليَّةُ الثانيةُ التي وقعوا فيها. فحملوا نصوصَ القرآنِ أوَّلًا على معانٍ غيرُ لائقةٍ بالله، ثمَّ نفوهَا منْ أصلهَا، فرارًا مِنَ المحذورِ الذي زعموا. والبليَّةُ الثالثةُ: أنَّهمْ يفسِّرونَ الصِّفةَ التي نفوهَا بصفةٍ أخرى، منْ تلقاءِ أنفسهم، منْ غيرِ استنادٍ إلى وحيٍ؛ معْ أنَّ الصِّفةَ التي فسَّرها بها هي بالغةٌ غايةَ التَّشبيهِ بالمخلوقينَ. فيقولون {اسْتَوَى} [طه: 5] ظاهرهُ مشابهةُ استواءِ المخلوقينَ. فمعنى {اسْتَوَى} [طه: 5]: استولى، ويستدلون بقولِ الراجزِ في إطلاقِ الاستواءِ على الاستيلاءِ: قد استوى بِشْرٌ عَلَى العِراقِ ... من غير سَيفٍ وَدَمٍ مهراقِ ولا يدرونَ أنَّهم شبَّهوا استيلاءَ الله على عرشهِ الذي زعموهُ باستيلاءِ «بِشْرِ بنِ مروانَ» على العراقِ!! فأيُّ تشبيهٍ بصفاتِ المخلوقينَ أكبرُ منْ هذا؟! وهلْ يجوزُ لمسلمٍ أنْ يشبِّهَ صفةَ الله التي هي الاستيلاءُ المزعومُ بصفةِ بشرٍ التي هيَ استيلاؤهُ على العراقِ؟ وصفةُ الاستيلاءِ منْ أوغلِ الصِّفاتِ في التَّشبيهِ بصفاتِ المخلوقينَ، لأنَّ فيها التَّشبيهَ باستيلاءِ مالكِ الحمارِ على حمارهِ، ومالكِ الشَّاةِ على شاتهِ ويدخلُ فيها كلُّ مخلوقٍ قهرَ مخلوقًا واستولى عليه. وفي هذا منْ أنواعِ التَّشبيه ما لا يحصيهِ إلَّا الله.

السؤال السابع: هل التحدث بآيات الصفات وأحاديثها فيه تلبيس على العامة وفيه تمزيق وحدة الأمة؟

فإنْ زعمَ مَنْ شَبَّهَ أولًا، وعطَّلَ ثانيًا، وشبَّه ثالثًا أيضًا، أنَّ الاستيلاءَ المزعومَ منزَّهٌ عنْ مشابهةِ استيلاءِ المخلوقينَ. قلنا لهُ: نحنُ نسألك ونطلبُ منكَ الجوابَ بإنصافٍ: أيُّهمَا أحقُّ بالتَّنزيهِ عنْ مشابهةِ الخلقِ! الاستواءُ الذي مَدَحَ الله بهِ نفسَهُ في محكمِ كتابهِ وهو في نفسِ القرآنِ الذي يتلى، ولتاليهِ بكلِّ حرفٍ منهُ عشرُ حسنَاتٍ، لأنَّهُ كلامُ الله، أمِ الأحقُّ بالتَّنزيهِ هو الاستيلاءُ الذي جئتمْ بهِ منْ تلقاءِ أنفسكمْ منْ غيرِ استنادٍ إلى وحيِ؟. ولا شَكَّ أنَّ الجوابَ الحقَّ: أنَّ اللَّفظَ الواردَ في القرآنِ أحقُّ بالتَّنزيهِ والحملِ على أشرفِ المعاني وأكملها، منَ اللَّفظِ الذي جاءَ بهِ معطِّلٌ مِنْ كِيسِهِ الخاص، لا مستندَ لهُ مِنَ الوحيِ! وبهذهِ الكلماتِ القليلةِ يظهرُ لكمُ: «أنَّ مذهبَ السَّلفِ أسلمُ وأحكمُ وأعلمُ» (¬1) وأهدى إلى الطريق الأقوم. ومذهبُ الخلفِ - الذي هو التأويلُ - بدعةٌ أحدثها المنتحلونَ وتمسَّكَ بها المبطلونَ (¬2). السؤالُ السابعُ هل التحدُّث بآياتِ الصفاتِ وأحاديثها فيه تلبيسٌ على العامَّةِ وفتنةٌ لهم، وفيه تمزيقُ وحدة الأمَّةِ؟ اعلمْ - بارك الله فيك - بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ ينكرونَ على السلفيينَ التحدُّثَ بأحاديثِ الصِّفاتِ، زاعمينَ أنَّهُ فتنةٌ على العامَّةِ، وفيه مِنَ الإضلالِ وتمزيقِ وحدة الأمَّةِ. وهذا الكلامُ باطلٌ منْ وجهينِ: الأولُ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو آياتِ الصِّفاتِ ويتكلَّمُ بكلامهِ الذي فيهِ خبرٌ عَنِ الله تعالى وصفاتهِ، وكانَ يغشاهُ عليه الحضريُّ والبدويُّ، فلو كانَ بيانُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ تلبيسًا على العامَّةِ لم يتفوَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ منْ ذلكَ. ¬

_ (¬1) القواعد الطيبات في الأسماء والصفات (ص88 - 92). (¬2) عون الباري (4/ 718)، لصديق حسن خان رحمه الله.

و «منْ زعمَ: أنَّ إطلاقَ ما أطلقهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الله عزَّ وجلَّ، في مجالسهِ الشريفةِ، ومجامعهِ المنيفةِ ممنوعٌ لنا، ومنهيٌّ عنه؛ فقدْ أتى بابًا كبيرًا، منْ أبوابِ إساءةِ الأدبِ بالله وبرسوله. ولم يَكُنِ الله ولا رسولهُ، قطٌّ: عاجزينَ عنْ أنْ لا يأتيا بهذه الألفاظِ الموهمةِ: للتَّجسيم والتَّشبيه. بلْ قالا مَا يكونُ صريحًا في التَّنزيهِ والتَّقديسِ. فهذا الزعمُ - منْ أهلِ التَّأويلِ، والكلامِ -: منْ أبطلِ الباطلاتِ، وأنكرِ المنكراتِ. ونحنُ إذا تلونَا قولَه سبحانهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص: 4] تلاشَتْ شُبَهُ التمثيلِ والتكييفِ، بحذافيرهَا. ولم يبقَ لشيءٍ مِنَ التجسيمِ والتشبيهِ مَسَاغٌ. فنحنُ نسبِّحهُ ونقدِّسهُ عنْ جميعِ سماتِ النَّقصِ، والزوالِ. ونثبتُ لهُ ما أثبتهُ لنفسهِ المقدَّسة، ووصفهُ بهِ رسولهُ - فيمَا صحَّ عنهُ، روايةً - وهذا هوَ مختارُ جمهورِ السَّلف، ومشربُ الصالحينَ مِنَ الخلفِ. ومنْ خالفَ ذلكَ: فقدْ خالفَ هذه الشريعةَ، بلِ الشرائعَ كلَّها» (¬1). الثاني: القولُ بأنَّ بيانَ صفاتِ الله تعالى بدونِ تعطيلها وبدونِ تحريفِ نصوصها فيهِ إضلالٌ وتمزيقٌ لوحدةِ الأمَّةِ، قولٌ في غايةِ السفاهةِ والفسادِ، فإنَّ المتكلِّمينَ مِنَ الجهميَّةِ المعطِّلةِ هم الذين مزَّقُوا وحدةَ هذهِ الأمَّةِ، وأتوا بضلالِ التَّعطيلِ وإضلالِ التَّحريفِ. وأمَّا السَّلفيُّون فهم بحمدِ اللهِ يدعونَ النَّاس إلى ما كان عليه سلفُ هذهِ الأمَّةِ ولا يجمعُ شملُ هذهِ الأمَّة إلَّا بتوحيدِ العقيدةِ وتوحيدِ الصُّفوفِ. وهذا لا يمكنُ إلَّا بالتمسُّكِ بالكتابِ والسنَّةِ وما عليهِ أئمَّةُ هذهِ الأمَّةُ في العقائدِ والأعمالِ (¬2). ¬

_ (¬1) السراج الوهاج (11/ 127) لصديق حسن خان رحمه الله. (¬2) التنبيهات السنية (ص191 - 192) بتصرف يسير.

السؤال الثامن: هل آيات الصفات من المتشابه؟

ونحنُ نقولُ: لا مخافةَ على العَامَّةِ منْ فهمِ الاستواءِ فهمًا فاسدًا. فإنَّ كتابَ الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم قدْ تلقتهما الأمَّةُ بالقبولِ والتَّسليمِ ولم يُتَطَرَّقْ إلى أذهانِ أحدٍ منهم هذا المفهومُ الخاطئُ، وإنَّما يُخَافُ على العَّامةِ منْ تأويلاتِ أهلِ الكلامِ ودعاويهم الباطلةِ. الذين يرددون في مجالسهم: «كانَ اللهُ ولا مكان وهو الانَ على ما عليهِ كان» و «إنَّ الله خلقَ العرشَ إظْهارًا لقدْرتهِ ولمْ يتخذه مكانًا لذاتهِ» وأمثال هذا الهذيان الذي هوَ منْ وحيِّ الشَّيطانِ. السؤالُ الثامنُ هل آياتُ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه؟ اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ أهلَ الكلامِ جعلوا آياتِ الصفاتِ مِنَ المتشابَهِ التي لا يعلمُ معناها إلَّا الله سبحانه وتعالى. وهذا افتراءٌ قبيحٌ، وبهتٌ صريحٌ، وكذبٌ شنيعٌ، وتقوُّلٌ فظيعٌ، وضلالٌ وإضْلالٌ. وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ: الوجهُ الأولُ: أنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ في كتابهِ العزيزِ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا *} [محمد: 24]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *} [ص: 29]، وقال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ *} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء: 82]. فالله سبحانه وتعالى «قدْ أمرَ بتدبُّر القرآنِ مطلقًا، ولم يستثن منهُ شيئًا لا يتدبَّر، ولا قالَ: لا تدبَّروا المتشابه، والتدبُّر بدونِ الفهمِ ممتنعٌ، ولو كانَ مِنَ القرآنِ ما لا يُتَدبَّر لم يعرفْ، فإنَّ الله لم يميِّز المتشابه بحدٍ ظاهرٍ حتَّى يجتنبَ تدبُّرُه» (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (17/ 396).

الثاني: أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ القرآنَ بأنَّه: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، ووصفهُ بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقالَ تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]. فلمَّا أخبرَ سبحانه وتعالى بأنَّ القرآنَ شفاءٌ، وهدىً، ورحمةٌ، ونورٌ، ومبينٌ، ولم يستثنِ منهُ شيئًا دلَّ على أنَّهُ كلَّهُ كذلكَ، وأنَّهُ ممَّا يمكنُ فهمُ معناه، ولو لمْ يمكنْ فهمُ معناه لمْ تتحقَّقْ فيهِ هذهِ الصفاتُ (¬1). الثالثُ: أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [يوسف: 2]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [الزخرف: 3]. فبيَّن سبحانهُ أنَّهُ أنزلهُ عربيًّا ليعقلَ، والعقلُ لا يكونُ إلَّا معَ العلمِ بمعانيه (¬2). الرابعُ: أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ *} [البقرة: 78]. فالله تعالى قدْ ذَمَّ هؤلاءِ الذينَ لا يعرفونَ الكتابَ إلَّا تلاوةً دونَ فهمِ معانيهِ، كما ذمَّ الذين يحرِّفون الكلمَ عنْ مواضعهِ منْ بعد ما عقلوهُ وهم يعلمونَ، فإنَّه سبحانه وتعالى قالَ عقبَ الآيةِ السابقةِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ *} [البقرة: 79]. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 396). (¬2) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 158).

فهذا يدلُّ على أنَّ كلا النوعينِ مذمومٌ: الجاهلُ الذي لا يفهمُ معاني النُّصوصِ، والكاذبُ الذي يحرِّفُ الكلمَ عنْ مواضعهِ (¬1). والمقصودُ أنَّ الله سبحانه وتعالى ذمَّ منْ لا يعرفُ منْ كتابهِ إلَّا مجرَّد التلاوةِ دونَ فقهٍ ولا فهمٍ لمعانيهِ، وأنَّ ذلكَ منْ خصالِ اليهودِ. ولذلكَ فإنَّ الله تعالى يقولُ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45 - 46]. وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]. فلو «كان المؤمنون لا يفقهونهُ أيضًا لكانوا مشاركينَ للكفَّارِ والمنافقينَ فيما ذمَّهمُ الله تعالى بهِ» (¬2). الخامسُ: أنَّهُ تعالى ذمَّ منْ لمْ يكنْ حظُّهُ مِنَ السَّماعِ إلَّا سماع الصَّوتِ دونَ فهمِ المعنى واتِّباعهِ، فقالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *} [البقرة: 171]، وقالَ تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا *} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ *} [محمد: 16]. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 432 - 442). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 158).

فمنْ جعلَ السَّابقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلةِ الكفَّارِ والمنافقينَ فيما ذمَّهم الله تعالى عليه (¬1). السادسُ: أنَّ الله تعالى قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174]. ولوْ لمْ يكنِ القرآنُ مفهومًا ومعلومًا لمْ يكنْ كافيًا ولمْ يكنْ برهانًا. قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ومِنَ المحالِ أن يكونَ الكتابُ الذي يخالفهُ صريحُ العقلِ كافيًا، وإنما يكون كافيًا لمنْ قدَّمهُ على كلِّ معقولٍ ورأيٍّ وقياسٍ وذوقٍ، وحقيقةٍ وسياسةٍ، فهذا الكتابُ في حقِّهِ كافٍ لهُ، كما أنَّهُ إنَّما يكونُ رحمةً وذكرى لهُ دونَ غيرهِ، وأمَّا منْ أعرضَ عنهُ أو عارضهُ بآراءِ الرجالِ فليس بكافٍ لهُ ولا هو في حقِّهِ هدًى ولا رحمةً، بلْ هوَ مِنَ الذين آمنوا بالباطلِ وكفروا بالله (¬2). السابعُ: قولُهُ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. فإنَّهُ يدلُّ على أنَّهُ يبيِّنُ للنَّاسِ جميعَ ما نُزِّلَ إليهم فيكونُ جميعُ المنزل مبينًا عنه يمكنُ معرفتهُ وفهمهُ، وقولُهُ تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] يدلُّ على ذلكَ، فإنَّ التفكُّرَ طريقٌ إلى العلمِ وما لا يمكنُ العلمُ بهِ لا يؤمرَ بالتفكُّرِ فيهِ. الثامنُ: ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 158 - 159). (¬2) الصواعق (ص1352 - 1353).

قولُهُ تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *} [الأعراف: 3]، وقولُهُ تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106]. ومعلومٌ أنَّ اتباعَ ما أمرهم الله تعالى مِنَ الكتاب والحكمة إنَّما يمكنُ بعدَ فهمهِ وتصوُّرِ معناه، ومَا كانَ مِنَ الكلامِ لا يمكنُ أحدًا فهمهُ لمْ يمكن اتباعهُ، بلْ كانَ الذي يسمعهُ كالذي لا يسمعُ إلَّا دعاءً ونداءً، وإنَّما الاتباعُ لمعاني الكلامِ. التاسعُ: قولُهُ تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. ومعلومٌ أنَّ حكمَ الله بالكتابِ أو حكمَ الكتابِ بين المختلفين لا يمكنُ إلَّا إذا عرفوا ما حكمَ بهِ مِنَ الكتابِ، وما تضمَّنهُ الكتابُ مِنَ الحكمِ، وذلكَ إنَّما يمكنُ إذا كانَ ممَّا يمكنُ فهمُ معناهُ وتصوُّرُ المرادُ بهِ دونَ ما يمتنعُ ذلكَ منهُ. العاشرُ: قولُهُ تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]. قال المفسِّرونَ: لو جعلهُ قرآنًا أعجميًا لأنكروا ذلكَ، وقالوا: هلَّا بَيَّنْتَ آياتهِ بلغةِ العربِ لنفهمهُ، أقرآنٌ أعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ؟! (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 104) [طبعة دار الفكر - بيروت].

فقدْ بيَّن سبحانه وتعالى أنَّه لو جعلهُ أعجميًا لأنكروهُ، فجعلهُ عربيًا ليفهمَ معناهُ، وليندفعَ مثلُ هذا القولِ، ومعلومٌ أنَّه لو كان أعجميًا لأمكنهم التَّوصلُ إلى فهمهِ بأنْ يترجمَ لهم مترجمٌ، إمَّا أنْ يسمعَهُ مِنَ الرسولِ ويترجمهُ، أو يحفظهُ لهم أعجميًا ثمَّ يترجمهُ لهم، كما أنَّ مِنَ العجمِ منْ يحفظُ القرآنَ عربيًا ولا يفهمُ، ويُتَرْجَمُ لهُ، وأمَّا إذا كان عربيًا لا يمكنُ أحدًا أنْ يفهمهُ لا الرسولُ ولا المرسلُ إليهم فإنكارُ هذا أعظمُ منْ إنكارِ كونهِ أعجميًا، وإذا كان الله تعالى قدْ بيَّن أنَّه لا يفعلُ الأوَّلَ فهوَ ألَّا يفعل هذا أولى وأحرى. الحادي عَشَرَ: أنَّ الله تعالى وصفَ آياتِ القرآنِ بقولهِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وقولُهُ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1]. وما لا يمكن فهمهُ فإنَّهُ لم يُحْكَمْ، ولم يُفَصَّلْ، ولم يبَيَّنْ. الثاني عَشَرَ: أنَّ الله مدحَ القرآنَ وبيَّنَ اشتماله على علمهِ، كمَا قالَ سبحانه وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]. وإذا كانَ كذلكَ دلَّ على أنَّ ما فيهِ منَ العلمِ لمْ يستأثرِ الله تعالى بهِ بلْ أنزلهُ إلى عبادهِ وعلَّمهم إيَّاه، وهوَ منْ علمهِ الذي قالَ فيهِ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وهذا لا يكونُ إلَّا إذا أمكنَ فهمُ معناه، وإلَّا فاللَّفظُ الذي لا يمكنُ فهمُ معناه لا علمَ فيهِ لأحدٍ، ومثلُ هذا قولُهُ تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14]. الثَّالِثُ عَشَرَ:

وأيضًا فالكلامُ إنَّما المقصودُ بهِ الإفهامُ، فإذا لمْ يُقصدْ بهِ ذلكَ كان عبثًا وباطلًا، والله تعالى قدْ نزَّهَ نفسَهُ عنْ فعلِ الباطلِ والعبثِ. فكيفَ يقولُ الباطلَ والعبثَ ويتكلَّمُ بكلامٍ ينزلهُ على خلقهِ لا يريدُ بهِ إفهامهم؟! (¬1). الرابع عَشَرَ: أنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّى العربَ بالقرآنِ، ولوْ لمْ تكنْ معانيه معلومةً لديهم لمْ يصحَّ أنْ يتحدَّاهم بهِ. الخامس عَشَرَ: إنَّ الصَّحابةَ والتَّابِعينَ قد تكلَّموا في معاني آياتِ الصفاتِ بل قدْ فَسَّروا جميعَ القرآنِ وعلِموا معانيه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالسَّلفُ مِنَ الصَّحابةِ والتابعينَ وسائرِ الأمَّةِ قدْ تكلَّموا في جميعِ نصوصِ القرآنِ: آياتُ الصفاتِ وغيرهَا، وفسَّروها بما يوافقُ دلالتها وبيانها، ورووا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً توافقُ القرآنَ، وأئمَّةُ الصَّحابةِ في هذا أعظمُ منْ غيرهم» (¬2). قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: «والله الذي لا إلَه غيرُه ما أنزلت سورةٌ منْ كتابِ الله إلَّا أنا أعلمُ أينَ أنزلتْ، ولا أنزلتْ آيةٌ منْ كتابِ الله إلَّا أنَا أعلمُ فيما أنزلتْ، ولو أعلمُ أحدًا أعلَمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبلُ لركِبْتُ إليه» (¬3). وقال رضي الله عنه: «كُنَّا إذا تَعَلَّمْنَا من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرَ آيات مِنَ القرآنِ لم نتعلَّم مِنَ العشرِ الذي نزلت بعدها حتَّى نعلم ما فيه» (¬4). فالصَّحابة رضي الله عنهم نقلوا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يتعلَّمُون منهُ التفسيرَ مَعَ التلاوةِ، ولم يذكرْ أحدٌ منهم عنه قطٌ أنه امتنع من تفسير آية (¬5). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (17/ 397). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 307). (¬3) رواه البخاري (5002)، ومسلم (2463). (¬4) رواه الحاكم (1/ 557) وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) مجموع الفتاوى (13/ 308).

فمنْ قالَ إنَّ جبريلَ عليه السلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم والصَّحابةَ والتابعينَ وسلفَ الأمَّةِ كانوا يقرءونَ نصوصَ الصِّفاتِ ولا يعرفونَ لها معنًى بلْ معناها ممَّا استأثرَ الله بهِ فقدْ كذبَ على القومِ، والنُّقولُ المتواترةُ عنهم تكذِّب هذا الزعمَ (¬1). السَّادس عَشَرَ: قولُهُ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 5]. فلولاَ أنَّهم عرفوا معنى ما أنزلَ كيفَ عرفوا أنَّه حقٌ أو باطلٌ، وهل يحكمُ على كلامٍ لم يُتَصَوَّر معناه أنَّهُ حقٌّ أو باطلٌ؟ (¬2). السابعُ عَشَرَ: قولُهُ تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ *} [الطارق: 13] أي: فاصلٌ يفصلُ بينَ الحقِّ والباطلِ، فكيفَ يكونُ فصلًا إذا لم يكنْ إلى معرفةِ معناه سبيلٌ؟ (¬3). الثامنُ عَشَرَ: أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَسَّرَ القرآنَ للذِّكرِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} [القمر: 17]. وتيسيرهُ للذِّكرِ يتضمَّنُ أنواعًا مِنَ التيسيرِ: إحداها: تيسيرُ ألفاظهِ للحفظِ. الثاني: تيسيرُ معانيهِ للفهمِ. الثالث: تيسيرُ أوامرهِ ونواهيهِ للامتثالِ. ¬

_ (¬1) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 425). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 429). (¬3) مجموع الفتاوى (17/ 432).

ومعلومٌ أنَّه لو كانَ بألفاظٍ لا يفهمهَا المخاطَبُ، لم يكنْ ميسَّرًا لهُ، بلْ كانَ معسَّرًا عليهِ، فهكذا إذا أريدَ مِنَ المخاطَبِ أنْ يفهمَ مِنْ ألفاظهِ ما لا يدلُّ عليهِ مِنَ المعاني، أو يدلُّ على خلافهِ فهذا منْ أشدِّ التعسيرِ، وهوَ منافٍ للتيسيرِ؛ فإنَّه لا شيءَ أعسرُ على الأمَّةِ منْ أنْ يرادَ منهمْ أن يفهموا منْ آياتِ الصِّفاتِ ما لا تدلُ عليهِ، بل تَدلُّ على خلافهِ ويقولُ: اعلموا يا عبادي أنِّي أردتُ منكم أنْ تعلموا أنِّي لستُ فوقَ العالمِ، ولا تحتَهُ، ولا فوقَ عرشي، ولا ترفعُ الأيدي إليَّ ولا يعرجُ إليَّ شيءٌ، ولا ينزلُ منْ عندي شيءٌ منْ قولي: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. ومن قولي: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. ومنْ قولي: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. ومنْ قولي: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. ومنْ قولي: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]. ومنْ قولي: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. ومنْ قولي: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. ومنْ قولي: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. ومنْ قولي: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. ومنْ قولي: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].

كلام نفيس لشيخ الإسلام في العلو والفوقية

فإنَّكم إذا فهمتم منْ هذهِ الألفاظِ حقائقهَا وظواهرهَا فهمتم خلافَ مرادي منها، بلْ مرادي منكم أنْ تفهموا منها ما يدلُّ على خلافِ حقائقهَا وظواهرهَا. فأيُّ تيسيرٍ يكونُ هناكَ وأيُّ تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصلْ بذلكَ، ومعلومٌ أنَّ خطابَ الرجلِ بما لا يفهمهُ إلَّا بترجمةٍ أيسرُ عليهِ منْ خطابهِ بما كلِّفَ أنْ يفهمَ منهُ خلافَ موضوعهِ وحقيقتهِ بكثيرٍ. فإنَّ تيسيرَ القرآنِ منافٍ لطريقةِ النُّفاةِ المحرِّفِينَ أعظمُ منافاةٍ (¬1). الذينَ يقولونَ إنَّ آياتِ الصِّفاتِ ظاهرهَا التَّشْبيهُ فنفوِّضُ أو نؤوِّلُ، كمَا قالَ قائلهم: وكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تَنْزِيها فمنْ تدبَّرَ القرآنَ، وعرفَ مقصودَ القرآنِ: تبيَّن لهُ المرادُ، وعرفَ الهدى والرسالةَ، وعرفَ السَّدادَ مِنَ الانحرافِ والاعوجاجِ (¬2)، وتبيَّنَ لهُ بُطْلانُ قولِ منْ يقولُ: إنَّ آياتِ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه. والحَقُّ أَبْلَجُ لا تَزِيغُ سَبِيلُهُ ... والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابِ (¬3) * * * كَلاَمٌ نَفِيسٌ لِشَيْخِ الإِسْلاَمِ في العُلُوِّ والفَوْقِيَّةِ لقدْ كثرت الافتراءاتُ والأكاذيبُ والأباطيلُ على علمِ الأعلامِ، وشامةِ الشامِ، صاحبِ العلمِ الغزيرِ، والرأيِّ السَّديدِ، شيخِ الاسلامِ بحقٍّ لقاهُ الله رضوانهُ وأسكنهُ فسيحَ جنانهِ. وخلاصةُ الافتراءاتِ تدورُ حولَ اتِّهامِ شيخِ الاسلامِ بالتَّجسيمِ والتَّشبيهِ، وبأنَّهُ يقولُ بجلوسِ الرحمنِ على العرشِ، وبنزولهِ إلى السَّماءِ الدنيا كنزولِ المخلوقِ. ¬

_ (¬1) الصواعق (ص330 - 336). (¬2) مجموع الفتاوى (15/ 94). (¬3) منع جواز المجاز (ص62).

ومن افترائهم عليه: ما ذكرهُ الكتاني في كتابه: «فهرس الفهارس» نقلًا عنْ أبي عبد الله المقري حيثُ قالَ عنْ شيخ الإسلام: كانَ لهُ مقالاتٌ شنيعةٌ منْ إمرارِ حديثِ النزولِ على ظاهرهِ وقوله فيه: كنزولي هذا (¬1). ومن ذلك: ما يدعيهِ أبو بكر الحصني في كتابه: «دفع شبه منْ شبَّه وتمرد» (ص41): أنَّ ابن تيميةَ كانَ يجلسُ في صحنِ الجامع الأموي فذكر ووعظ وتعرَّض لآياتِ الاستواءِ ثمَّ قال: واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا. وفيما يلي نوردُ قطوفًا دانيةً منْ كلامهِ، وظلالًا وارفةً منْ بيانهِ، تتضمنُ دفاعًا عنهُ. 1 - إنَّ اللهَ تعالى فوقَ العالمِ مباينٌ لهُ، والمخلوقاتُ لا تحصرهُ ولا تحوزهُ ولا يفتقرُ إلى العرشِ ولا غيرهِ، مَعَ أنَّهُ عالٍ عليهَا مباينٌ لها، وليسَ مماثلًا لها، ولا يجوزُ عليهِ ما يجوزُ عليها (¬2). 2 - إنَّ الله تعالى فوقَ العرش، وليسَ هو داخلًا في العرشِ، ولا هوَ مفتقرٌ إلى العرشِ؛ بل هوَ الحاملُ بقوَّتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ، فكيفَ يلزمُ على هذا أنْ يكونَ داخلًا في العرشِ أو مفتقرًا إليهِ؟! (¬3). 3 - الخالقُ سبحانه وتعالى فهو الغنيُّ عمَّا سواهُ، فلا يفتقرُ في شيءٍ منْ ذاتهِ وصفاتهِ وأفعالهِ إلى أمرٍ منفصلٍ عنهُ، بلْ كلُّ ما كانَ منفصلًا عنهُ فهوَ مفتقرٌ إليهِ، وهوَ سبحانهُ غنيٌّ عَنْ ذلكَ المنفصلِ الذي هو مفتقرٌ إليهِ، فلا يحتاجُ فيمَا يجددُهُ منْ أفعالهِ القائمةِ بنفسهِ التي يريدهَا ويقدرُ عليهَا إلى أمرٍ مستغنٍ عنهُ (¬4). ¬

_ (¬1) فهرس الفهارس (1/ 277). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 307). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (6/ 315). (¬4) درء تعارض العقل والنقل (2/ 232).

4 - إنَّ الله لا يماثلُ غيرهُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ حتَّى يتساويا في حكمِ القياسِ، بل هو سبحانهُ أحقُّ بكلِّ حمدٍ، وأبعدُ عنْ كلِّ ذمٍّ، فمَا كانَ منْ صفاتِ الكمالِ المحضةِ التي لا نقصَ فيهَا بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، فهو أحقُّ به منْ كلِّ ما سواهُ، وما كانَ منْ صفاتِ النَّقصِ فهوَ أحقُّ بتنزيههِ عنهُ منْ كلِّ مَا سواهُ (¬1). 5 - الرُّوحُ توصفُ بأنَّها تعرجُ إذا نامَ الإنسانُ، وهيَ مَعَ هذا في بدنِ صاحبها لمْ تفارقهُ بالكليَّةِ ... فهذا الصُّعودُ الذي توصفُ به الرُّوحُ لا يماثلُ صعودَ المشهوداتِ، فإنَّها إذا صعدتْ إلى مكانٍ فارقتْ الأوَّلَ بالكليَّةِ، وحركتهَا إلى العلوِّ حركةُ انتقالٍ منْ مكانٍ إلى مكانٍ، وحركةُ الرُّوحِ بعروجهَا وسجودهَا ليسَ كذلكَ. فالرَّبُّ سبحانهُ إذا وصفهُ رسولهُ صلى الله عليه وسلم بأنَّهُ ينزلُ إلى سماءِ الدنيا كلَّ ليلةٍ، وأنَّهُ يدنو عشيةَ عرفةَ إلى الحجَّاجِ: لم يلزمْ منْ ذلكَ أنْ تكونَ هذه الأفعالُ منْ جنسِ ما نشاهدهُ منْ نزولِ هذهِ الأعيانِ المشهودةِ، حتَّى يقالَ: ذلكَ يستلزمُ تفريغَ مكانٍ وشغلَ آخر، فإنَّ نزولَ الرُّوحِ وصعودها لا يستلزمُ ذلكَ فكيفَ بربِّ العالمينَ؟! وكذلكَ الملائكةُ لهم صعودٌ ونزولٌ منْ هذا الجنسِ. فلا يجوزُ نفيُ ما أثبتهُ الله ورسولهُ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ، ولا يجوزُ تمثيلُ ذلكَ بصفاتِ المخلوقاتِ، لا سيَّما ما لا نشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ. فإنَّ ما ثبتَ لمَا لا نشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ ليسَ مماثلًا لما نشاهدهُ منها فكيفَ بربِّ العالمينَ الذي هو أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ منْ مماثلةِ مخلوقٍ لمخلوقٍ؟! وكلُّ مخلوقٍ فهوَ أشبهُ بالمخلوقِ الذي لا يماثلهُ مِنَ الخالقِ بالمخلوقِ سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًا كبيرًا (¬2). ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 154). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 349 - 350).

6 - الذي يجبُّ القطعُ بهِ أنَّ الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في جميع ما يصفُ بهِ نفسهُ، فمنْ وصفهُ بمثلِ صفاتِ المخلوقينَ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ فهوَ مخطيءٌ قطعًا كمنْ قالَ: إنَّهُ ينزلُ فيتحرَّكُ وينتقلُ كمَا ينزلُ الإنسانُ مِنَ السطحِ إلى أسفلِ الدَّارِ كقولِ مَنْ يقولُ: إنَّهُ يخلو منهُ العرشُ، فيكونُ نزولهُ تفريغًا لمكانِ وشغلًا لآخرَ. فهذا باطلٌ يجبُ تنزيهُ الرَّبِّ عنهُ ... فإنَّ الله سبحانه وتعالى أخبرَ أنَّهُ الأعلى وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1] ... فهو سبحانهُ الأعلى منْ كلِّ شيءٍ، كما أنَّهُ أكبرُ منْ كلِّ شيءٍ، فلو صارَ تحتَ شيءٍ منَ العالمِ لكانَ بعضُ مخلوقاتهِ أعلى منهُ، ولمْ يكنْ هوَ الأعلى، وهذا خلافُ ما وصفَ بهِ نفسهُ (¬1). 7 - علوُّه على العرشِ وعلى غيرهِ من المخلوقاتِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ السَّمَاءَ عاليةٌ على الأرضِ وليستْ مفتقرةً إليهَا، والهواءُ عالٍ على الأرضِ وليسَ مفتقرًا إليهَا، وكذلكَ الملائكةُ عالونَ على الأرضِ وليسوا مفتقرينَ إليها. فإذا كانَ المخلوقُ العالي لا يجبُ أنْ يكونَ مفتقرًا إلى السَّافلِ، فالعليُّ الأعلى، الخالقُ لكلِّ شيءٍ، الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، أوْلى أنْ لا يكون مفتقرًا إلى المخلوقاتِ مع علوِّه عليها (¬2). 8 - إنَّ الله فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، امتنعَ أنْ يكونَ محصورًا أو محاطًا بشيءٍ موجودٍ غيره ... ويمتنعُ أيضًا أنْ يكونَ محتاجًا إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ؛ لا عرشٍ ولا غيرهِ، بلْ هوَ بقدرتهِ الحاملُ للعرشِ ولحملتهِ، فإنَّ البائنَ عَنِ المخلوقاتِ العالي عليهَا يمتنعُ أنْ يكونَ في جوفِ شيءٍ منها (¬3). ¬

_ (¬1) شرح حديث النزول (ص459). (¬2) درء تعارض العقل والنقل (6/ 313). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (7/ 15 - 16).

9 - العرشُ إذا سُمِّيَ جهةً ومكانًا وحيِّزًا، فالله تعالى هو ربُّهُ وخالقُهُ، والعرشُ مفتقرٌ إلى الله افتقارَ المخلوقِ إلى خالقهِ، والله غنيٌّ عنهُ مِنْ كلِّ وجهٍ (¬1). 10 - أهلُ السنَّةِ والجماعةِ يثبتونَ أنَّ الله على العرشِ، وأنَّ حملةَ العرشِ أقربُ إليهِ ممَّنْ دونهم، وأنَّ ملائكةَ السَّماءِ العليا أقربُ إلى الله مِنْ ملائكةِ السَّماءِ الثانية (¬2)، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا عُرجَ بِهِ إِلَى السَّماء صارَ يزدادُ قربًا إلى ربِّهِ بعروجهِ وصعودهِ، وكانَ عروجُهُ إلى الله، لا إلى مجرَّدِ خَلقٍ من خلقهِ، وأنَّ روحَ المصلِّي تَقربُ إلى الله في السُّجودِ، وإنْ كانَ بدنهُ متواضعًا. وهذا هوَ الذي دلَّتْ عليهِ نُصوصُ الكتابِ (¬3). 11 - إنَّ النُّصوصَ كلَّها دلَّتْ على وصفِ الإلهِ، بالعلوِّ والفوقيِّةِ على المخلوقاتِ، واستوائهِ على العرشِ. ¬

_ (¬1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 17). (¬2) قال الدارمي في «النقض» (ص290 - 291): «كلّ ما كان إلى السّماء أقْرب كان إلى الله أقْرب، وقرب الله إلى جميع خلقه أقْصاهم وأدْناهم واحد لا يبعد عنه شيء من خلقه، وبعض الخلق أقْرب إليه من بعض ... وكذلك قرب الملائكة من الله، فحملة العرش أقْرب إليه من جميع الملائكة - الذين في السموات كلّها ـ، والعرش أقْرب إليه من السّماء السابعة، وقرب الله إلى جميع ذلك واحد. هذا معقولٌ مفْهومٌ إلَّا عند منْ لا يؤمن بأنَّ فوق العرش إلهًا». (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 7).

فيظنُّ المتوهِّمُ أنَّهُ إذا وُصِفَ بالاستواءِ على العرشِ: كانَ استواؤهُ كاستواءِ الإنسانِ على ظهورِ الفلكِ والأنعامِ، كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 12 - 13] فيتخَيَّلُ أنَّهُ إذا كانَ مستويًا على العرشِ كانَ محتاجًا إليه، كحاجةِ المستوي على الفلكِ والأنعامِ، فلو انخرقتِ السفينةُ لسقطَ المستوي عليهَا، ولو عثرت الدَّابَّةُ لخرَّ المستوي عليها. فقياسُ هذا أنَّه لو عدمَ العرشُ لسقطَ الرَّبُّ تباركَ وتعالى .. وكانَ هذا الخطأُ منْ خطئهِ في مفهومِ استوائهِ على العرشِ، حيثُ ظنَّ أنَّهُ مثلُ استواءِ الإنسانِ على ظهورِ الأنعامِ والفلكِ. وليسَ في هذا اللَّفظِ ما يدلُّ على ذلكَ، لأنَّه أضافَ الاستواءَ إلى نفسهِ الكريمةِ كمَا أضافَ إليهَا سائرَ أفعالهِ وصفاتهِ ... فلمْ يذكر استواءً مطلقًا يصلحُ للمخلوقِ، ولا عامًّا يتناولُ المخلوقَ، كما لمْ يذكر مثلَ ذلكَ في سائرِ صفاتهِ، وإنَّما ذكرَ استواءً أضافهُ إلى نفسهِ الكريمةِ. فلو قُدِّر - على وجهِ الفرضِ الممتنع - أنَّه مثلُ خلقهِ - تعالى الله عنْ ذلكَ - لكانَ استواؤهُ مثلَ استواءِ خلقهِ، أمَّا إذا كانَ هو لَيسَ مماثلًا لخلقهِ، بلْ قدْ عُلِمَ أنَّهُ الغنيُّ عَنِ الخلقِ، وأنَّهُ الخالقُ للعرشِ ولغيرهِ، وأنَّ كلَّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، وهو الغنيُّ عن كلِّ ما سواهُ، وهو لمْ يَذْكُرْ إلَّا استواءً يَخُصُّهُ، لمْ يَذْكُرِ استواءً يتناولُ غيرَهُ ولا يصلحُ لهُ، كما لمْ يذكرْ في علمهِ وقدرتهِ ورؤيتهِ وسمعهِ وخلقهِ إلَّا ما يختصُّ بهِ، فكيفَ يجوزُ أنْ يُتوهَّمَ أنَّه إذا كانَ مستويًا على العرشِ كانَ محتاجًا إليهِ، وأنَّه لوْ سقطَ العرشُ لخرَّ منْ عليهِ! سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ والجاحدونَ علوًّا كبيرًا.

هلْ هذا إلَّا جهلٌ محضٌ وضلالٌ ممَّن فهمَ ذلكَ وتوهَّمهُ، أو ظنَّهُ ظاهرَ اللَّفظِ ومدلوله، أو جوَّز ذلكَ على ربِّ العالمينَ الغنيِّ عنِ الخلقِ! بلْ لوْ قُدِّرَ أنَّ جاهلًا فهمَ مثلَ هَذَا، وتوهَّمهُ، لَبُيِّنَ لهُ أنَّ هذا لا يجوزُ، وأنَّهُ لمْ يدلَّ اللَّفظُ عليهِ أصلًا، كمَا لمْ يدلَّ على نظائرهِ في سائرِ ما وصفَ بهِ الرَّبُّ نفسهُ (¬1). 12 - إنَّ الله تعالى خلقَ العالمَ بعضهُ فوقَ بعضٍ، ولمْ يجعلْ عالِيَهُ مفتقرًا إلى سافلهِ. فالهواءُ فوقَ الأرضِ، وليسَ مفتقرًا إلى أنْ تحملهُ الأرضُ، والسَّحابُ أيضًا فوقَ الأرضِ، وليس مفتقرًا إلى أنْ تحملهُ، والسَّماواتُ فوقَ الأرضِ وليستْ مفتقرةً إلى حملِ الأرضِ لها. فالعليُّ الأعلى ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكهُ إذا كانَ فوقَ جميعِ خلقهِ: كيفَ يجبُ أنْ يكونَ محتاجًا إلى خلقهِ، أو عرشهِ! أو كيفَ يستلزمُ علوُّه على خلقهِ هذا الافتقارَ وهوَ ليسَ بمستلزمٍ في المخلوقاتِ! وقدْ عُلِمَ أنَّ ما ثبتَ لمخلوقٍ منَ الغِنى عنْ غيرهِ فالخالقُ سبحانه وتعالى أحقُّ بهِ وأولى (¬2). 13 - قولُه: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] إنَّه على ظاهرهِ لمْ يقتضِ ذلكَ أنْ يكونَ ظاهرهُ استواءً كاستواءِ المخلوقِ (¬3). 14 - لله تعالى استواءٌ على عرشهِ حقيقةً وللعبدِ استواءٌ على الفلكِ حقيقةً، وليسَ استواءُ الخالقِ كاستواءِ المخلوقينَ، فإنَّ الله لا يفتقرُ إلى شيءٍ ولا يحتاجُ إلى شيءٍ، بل هو الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 49 - 51). (¬2) الرسالة التدمرية (ص84 - 85). (¬3) مجموع الفتاوى (3/ 46).

واللهُ تعالى يحملُ العرشَ وحملتهُ بقدرتهِ، ويمسكُ السماواتِ والأرضَ أنْ تزولا. فمنْ ظنَّ أنَّ قولَ الأئمَّةِ: إنَّ الله مستوٍ على عرشهِ حقيقةً يقتضي أنْ يكونَ استواؤهُ مثلَ استواءِ العبدِ على الفلكِ والأنعامِ، لزمهُ أنْ يكونَ قولُهم: إنَّ الله لهُ علمٌ حقيقةً، وسمعٌ حقيقةً، وبصرٌ حقيقةً، وكلامٌ حقيقةً، يقتضي أنْ يكونَ علمهُ وسمعهُ وبصرهُ وكلامهُ مثلَ المخلوقينَ وسمعهمْ وبصرهمْ وكلامهمْ (¬1). 15 - مَنْ قالَ: إنَّ عِلْمَ الله كعلمي، أو قدرتهُ كقدرتي، أو كلامهُ مثلُ كلامي، أو إرادتهُ ومحبتهُ ورضاهُ وغضبهُ مثلُ إرادتي ومحبتي ورضائي وغضبي، أو استواؤهُ على العرشِ كاستوائي، أو نزولُه كنزولي، أو إتيانُه كإتياني، ونحو ذلكَ، فهذا قدْ شبَّه الله ومثَّلهُ بخلقهِ، تعالى الله عمَّا يقولونَ، وهوَ ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ، بلْ كافرٌ. ومنْ قال: إنَّ الله ليس له علمٌ، ولا قدرةٌ ولا كلامٌ، ولا مشيئةٌ، ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا محبةٌ ولا رضى، ولا غضبٌ، ولا استواءٌ، ولا إتيانٌ ولا نزولٌ فقد عطَّلَ أسماءَ الله الحسنى وصفاتِهِ العلى، وألحدَ في أسماءِ الله وآياته وهو ضالٌّ خبيثٌ مبطلٌ بلْ كافرٌ (¬2). 16 - وهوَ سبحانهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ. وهو سبحانهُ غنيٌّ عنِ العرشِ وعَنْ سائرِ المخلوقاتِ لا يفتقرُ إلى شيءٍ مِنْ مخلوقاتهِ، بلْ هوَ الحاملُ بقدرتهِ العرشَ وحملةَ العرشِ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 199). (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 482).

وقدْ جعلَ تعالى العالمَ طبقاتٍ، ولمْ يجعلْ أعلاهُ مفتقرًا إلى أسفله، فالسَّماءُ لا تفتقرُ إلى الهواءِ، والهواءُ لا يفتقرُ إلى الأرضِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهما - الذي وصفَ نفسهُ بقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67]- أجلُّ وأعظمُ وأغنى وأعلى مِنْ أنْ يفتقرَ إلى شيءٍ بحملٍ أو غيرِ حملٍ، بلْ هوَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ لهُ كفوًا أحد، الذي كلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، وهوَ مستغنٍ عنْ كلِّ ما سواه (¬1). 17 - إنَّ الله تعالى فوقَ عرشهِ على الوجهِ الذي يليقُ بجلالهِ، ولا أقولُ فوقَهُ كالمخلوقِ على المخلوقِ كمَا تقولهُ المشبِّهةُ، ولا يقالُ أنَّهُ لا فوقَ السَّماواتِ ولا على العرشِ ربٌّ كما تقولهُ المعطِّلةُ الجهميَّةُ، بلْ يقالُ أنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ من خلقهِ (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (1/ 367). (¬2) مجموع الفتاوى (3/ 207 - 208).

18 - ممَّا حرَّمه الله تعالى، أنْ يقولَ الرجلُ على الله مَا لا يعلمُ، مثل أنْ يرويَ عَنِ الله ورسولهِ أحاديثَ يجزمُ بها وهوَ لاَ يعلمُ صحَّتهَا، أو يصفُ الله بصفاتٍ لمْ ينزلْ بها كتابٌ مِنَ الله ولا أثارةٌ منْ علمٍ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كانتْ منْ صفاتِ النَّفيِ والتَّعطيلِ، مثلُ قولِ الجهميَّة: إنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ ولا فوقَ السَّماواتِ، وأنَّهُ لا يُرى في الآخرةِ، وأنَّهُ لا يتكلَّمُ ولا يحبُّ، ونحو ذلكَ ممَّا كذَّبوا بهِ الله ورسولَهُ، أو كانتْ من صفاتِ الإثباتِ والتمثيلِ، مثلُ مَنْ يزعمُ أنَّهُ يمشي في الأرضِ أَوْ يُجالسُ الخلقَ، أو أنَّهمْ يرونهُ بأعينهم أو أنَّ السَّماواتِ تحويهِ وتحيطُ بهِ، أو أنَّه سارٍ في مخلوقاتهِ، إلى غيرِ ذلكَ منْ أنواعِ الفريةِ على الله (¬1). 19 - المكانُ يرادُ بهِ ما يحيطُ بالشَّيءِ، والله لا يحيطُ بهِ مخلوقٌ. أو يُرادُ بهِ ما يفتقرُ إليهِ الممكَّنُ، والله لا يفتقرُ إلى شيءٍ. وقد يُراد بالمكانِ ما يكونُ الشيءُ فوقَهُ، والله فوقَ عرشهِ فوقَ سماواتهِ (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (3/ 425). (¬2) الاستقامة (1/ 127).

20 - متَى جُنِّبَ المؤمنُ طريقَ التَّحريفِ والتَّعطيلِ، وطريقَ التمثيلِ: سلكَ سواءَ السبيلِ، فإنَّهُ قدْ عُلِمَ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ: ما يعلمُ بالعقلِ أيضًا أنَّ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ، فلا يجوزُ أنْ يوصفَ بشيءٍ من خصائصِ المخلوقينَ، لأنَّهُ متَّصفٌ بغايةِ الكمالِ مُنزَّهٌ عَنْ جميعِ النَّقائصِ، فإنَّهُ سبحانهُ غَنِيٌّ عنْ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليهِ، ومنْ زعمَ أنَّ القرآنَ دلَّ على ذلكَ فقدْ كذبَ على القرآنِ، ليسَ في كلامِ الله سبحانهُ مَا يوجبُ وصفهُ بذلكَ، بلْ قدْ يؤتى الإنسانُ مِنْ سوءِ فهمهِ، فيفهمُ منْ كلامِ اللهِ ورسولهِ معاني يجبُ تنزيهُ اللهِ سبحانهُ عنها، ولكن حالُ المبطلِ مَعَ كلامِ اللهِ ورسولهِ كمَا قيلَ: وكمْ عائبٍ قولًا صحيحًا ... وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقِيمِ (¬1) 21 - الربُّ منزَّهٌ عَنِ الحاجةِ إلى ما سواهُ بكلِّ وجهٍ. ومنْ ظنَّ أنَّهُ محتاجٌ إلى العرشِ، أو حملةِ العرشِ، فهوَ جاهلٌ ضالٌّ. بلْ هوَ الغنيُّ بنفسهِ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ. وهوَ الصَّمدُ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواهُ يصمدُ إليهِ محتاجًا إليه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *} [الرحمن: 29] (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (6/ 399 - 400). (¬2) مجموع الفتاوى (16/ 428).

22 - إنَّ الرُّوحَ إذا كانتْ موجودةً حيَّةً، عالمةً قادرةً، سميعةً بصيرةً، تصعدُ وتنزلُ، وتذهبُ وتجيءُ، ونحو ذلكَ مِنَ الصِّفاتِ والعقولُ قاصرةٌ عنْ تكييفها وتحديدهَا، لأنَّهمْ لم يشاهدوا لها نظيرًا، والشيءُ إنَّما تدركُ حقيقتهُ إمَّا بمشاهدتهِ أو بمشاهدةِ نظيرهِ، فإذا كانتِ الرُّوحُ متصفةً بهذه الصِّفاتِ مَعَ عدمِ مماثلتها لما يُشَاهَدُ مِنَ المخلوقاتِ، فالخالقُ أولى بمباينتهِ لمخلوقاتهِ مَعَ اتِّصافهِ بما يستحقُّهُ منْ أسمائهِ وصفاتهِ، وأهلُ العقولُ هم أعجزُ عنْ أنْ يحدوه أو يكيِّفوهُ منهم عنْ أن يحدوا الرُّوحَ أو يكيِّفوهَا. فإذا كانَ مَنْ نفى صفاتِ الرُّوحِ جاحدًا معطِّلًا لهَا، ومَنْ مثَّلهَا بمَا يشاهدهُ مِنَ المخلوقاتِ جاهلًا ممثِّلًا لهَا بغيرِ شكلهَا - وهيَ مع ذلكَ ثابتةٌ، بحقيقةِ الإثباتِ، مستحقَّةٌ لما لها من الصِّفاتِ - فالخالقُ سبحانه وتعالى أولى أنْ يكونَ مَنْ نفى صفاتِه جاحدًا معطِّلًا ومنْ قاسهُ بخلقهِ جاهلًا به ممثِّلًا، وهوَ سبحانهُ ثابتٌ بحقيقةِ الإثباتِ، مستحقٌ لما لهُ مِنَ الأسماءِ والصِّفاتِ (¬1). 23 - لا يجوزُ أنْ يفهمَ من استواءِ اللهِ الخاصِّيةُ التي تثبتُ للمخلوقِ دونَ الخالقِ (¬2). 24 - إنَّهُ سبحانهُ منزَّهٌ منْ أنْ تحيط بهِ المخلوقاتُ، أو أنْ يكونَ مفتقرًا إلى شيءٍ منها: العرش وغيره. ومنْ ظنَّ مِنَ الجهَّالِ أنَّهُ إذا نَزَلَ إلى السَّماءِ الدنيا يكونُ العرشُ فوقَهُ، ويكونُ محصورًا بين طبقتينِ مِنَ العالمِ، فقولهُ مخالفٌ لإجماعِ السَّلفِ مخالفٌ للكتابِ والسنَّةِ. ¬

_ (¬1) الرسالة التدمرية (ص56 - 57). (¬2) مجموع الفتاوى (33/ 185).

25 - إذا كانتِ الملائكةُ وهم مخلوقونَ من النُّورِ، وهمْ لا يأكلونَ ولا يشربونَ؛ بل همْ صمدٌ ليسوا جوفًا - كالإنسانِ ـ، وهم يتكلَّمونَ ويسمعونَ ويبصرونَ ويصعدونَ وينزلونَ كما ثبتَ ذلكَ بالنُّصوصِ الصحيحةِ، وهم مع ذلكَ لا تماثلُ صفاتُهم وأفعالُهم صفاتِ الإنسانِ وفعلَهُ؛ فالخالقُ تعالى: أعظمُ مباينة لمخلوقاتهِ منْ مباينةِ الملائكةِ للآدميينَ؛ فإنَّ كليهما مخلوقٌ، والمخلوقُ أقربُ إلى مشابهةِ المخلوقِ من المخلوقِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى. وكذلكَ روحُ ابنِ آدم: تسمعُ وتبصرُ وتتكلَّمُ وتنزلُ وتصعدُ، كما ثبتَ ذلكَ بالنُّصوصِ الصحيحةِ، والمعقولاتِ الصريحةِ، ومعَ ذلكَ: فليستْ صفاتها وأفعالها كصفاتِ البدنِ وأفعالهِ. فَإِذَا لَمْ يجزْ أنْ يقالَ: إنَّ صفاتِ الرُّوحِ وأفعالها: مثلُ صفاتِ الجسمِ الَّذي هُوَ الجسدُ، وَهِيَ مقرونةٌ بِهِ وهما جميعًا الإنسانُ، فَإِذا لَمْ يكنْ روحُ الإنسانِ مماثلًا للجسمِ الَّذي هُوَ بدنهُ؛ فكيفَ يجوزُ أنْ يُجْعَلَ الرَّبُّ تبارك وتعالى وصفاتهُ وأفعالهُ مثلَ الجسمِ وصفاتهِ وأفعالهِ؟!! (¬1). 26 - منْ فهمَ منْ قولهِ تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59]، ما يختصُّ بالمخلوقِ، كما يفهمُ منْ قوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، فقدْ أُتيَ مِنْ سوءِ فهمهِ، ونقصِ عقلهِ، لا منْ قصورٍ في بيانِ الله ورسولهِ؛ فإنَّ ظاهرَ اللفظِ يدلُّ على استواءٍ يضافُ إلى الله عزَّ وجلَّ كما يدلُّ في تلكَ الآيةِ على استواءٍ يضافُ إلى العبدِ. وإذا كانَ المستوي ليسَ مماثلًا للمستوي، لم يكنِ الاستواءُ مماثلًا للاستواءِ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 354).

فإذا كانَ العبدُ فقيرًا إلى ما استوى عليهِ، يحتاجُ إلى حملهِ، وكانَ الربُّ عزَّ وجلَّ غنيًا عنْ كلِّ ما سواهُ، والعرشُ وما سواهُ فقيرًا إليهِ، وهو الذي يحملُ العرشَ، وحملةَ العرشِ، لمْ يلزمْ إذا كان الفقيرُ محتاجًا إلى ما استوى عليهِ أنْ يكونَ الغنيُّ عنْ كلِّ شيءٍ - وكلُّ شيءٍ محتاجٌ إليهِ - محتاجًا إلى ما استوى عليهِ. وليسَ في ظاهرِ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما يدلُّ على ما يختصُّ بهِ المخلوقُ منْ حاجةٍ إلى حاملٍ وغيرِ ذلكَ، بل توهَّم هذا منْ سوءِ الفهمِ لا منْ دلالةِ اللَّفظِ. لكنْ إذا تخيَّل المتخيِّلُ في نفسهِ أنَّ الله مثلهُ، تخيَّلَ أنْ يكونَ استواؤهُ كاستوائهِ، وإذا عرفَ أنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ، لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ، علمَ أنَّ استواءَهُ ليسَ كاستوائهِ، ولا مجيئهُ كمجيئهِ، كما أنَّ علمهُ وقدرتهُ ورضاهُ وغضبهُ، ليسَ كعلمهِ وقدرتهِ ورضاهِ وغضبهِ. فصفاتُ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، مختصَّةٌ بهِ، وصفاتُ المخلوقِ مختصَّةٌ بهِ، ليسَ بينهما اشتراكٌ ولا بينَ مخلوقٍ ومخلوقٍ (¬1). 27 - قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]: أنْ يقالَ: استواءٌ كاستواءِ المخلوقِ: أو يفسَّرُ باستواءٍ مستلزمٍ حدوثًا أو نقصًا. فهذا الذي يُحكى عنِ الضُّلالِ المشبِّهةِ والمجسِّمةِ، وهوَ باطلٌ قطعًا بالقرآنِ وبالعقلِ. وإمَّا أنْ يقالَ: ما ثمَّ استواءٌ حقيقيٌّ أصلًا، ولا على العرشِ إلهٌ، ولا فوقَ السَّماوات ربٌّ فهذا مذهبُ الضَّالَّةِ الجهميَّةِ المعطِّلةِ. وهوَ باطلٌ قطعًا بما عُلِمَ بالاضطرارِ منْ دينِ الإسلامِ لمنْ أمعنَ النَّظرَ في العلومِ النبويَّةِ، وبما فطرَ الله عليهِ خليقتهُ من الإقرارِ بأنَّهُ فوقَ خلقهِ، كإقرارهم بأنَّهُ ربُّهم. ¬

_ (¬1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/ 426 - 428).

أوْ يقالُ: بل استوى سبحانهُ على العرشِ على الوجهِ الذي يليقُ بجلالهِ ويناسبُ كبرياءهُ، وأنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ، مع أنَّهُ سبحانهُ هوَ حاملٌ للعرشِ ولحملةِ العرشِ، وأنَّ الاستواءَ معلومٌ، والكيفَ مجهولٌ، والإيمانَ بهِ واجبٌ، والسؤالَ عنهُ بدعةٌ! فهذا مذهبُ المسلمينَ، وهوَ الظاهرُ منْ لفظِ {اسْتَوَى} عندَ عامَّةِ المسلمينَ الباقينَ على الفطرةِ السَّليمةِ، التي لم تنحرِفْ إلى تعطيلٍ ولا إلى تمثيلٍ (¬1). 28 - منْ أكثرَ النَّظرَ في آثارِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم علمَ بالاضطرارِ أنَّهُ ألقى إلى الأمَّةِ أنَّ ربَّكمُ الذي تعبدونهُ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعلى كلِّ شيءٍ، فوقَ العرشِ، وفوقَ السَّماواتِ، وعلمَ أنَّ عامَّةَ السَّلفِ كانَ هذا عندهم مثل ما عندهم أنَّ الله بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّهُ لا ينقلُ عنْ واحدٍ لفظٌ يدلُّ لا نصًّا ولا ظاهرًا على خِلافِ ذلكَ، ولا قالَ أحدٌ منهم يومًا مِنَ الدهرِ إنَّ ربَّنا ليسَ فوقَ العرشِ، أو أنَّه ليسَ على العرشِ، أو أنَّ استواءهُ على العرشِ كاستوائهِ على البحرِ، إلى غيرِ ذلكَ من ترَّهاتِ الجهميَّةِ، ولا مثَّلَ استواءهُ باستواءِ المخلوقِ، ولا أثبتَ لهُ صفةً مستلزمةً حدوثًا أو نقصًا (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (33/ 177 - 179). (¬2) مجموع الفتاوى (33/ 183).

29 - كثيرٌ ممَّنْ يتنازعونَ في «أنَّ الله في السَّماء» أو «ليسَ في السَّماءِ». فالمثبتةُ تطلقُ القولَ بأنَّ الله في السَّماءِ كما جاءتْ بهِ النُّصوصُ ودلَّتْ عليهِ بمعنى: أنَّهُ فوقَ السَّمواتِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ. وآخرونَ ينفونَ القولَ بأنَّ الله في السَّماءِ، ومقْصودهمْ: أنَّ السَّماءَ لا تحويهِ ولا تحْصرهُ ولا تحملهُ ولا تقلُّهُ، ولا ريبَ أنَّ هذا المعنى صحيحٌ أيضًا، فإنَّ الله لا تحصرهُ مخلوقاتهُ، بلْ وسعَ كرسيُّهُ السمواتِ والأرضَ؛ والكرسيُّ في العرشِ كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضِ فلاةٍ، وكذلكَ ليسَ هوَ مفتقرًا إلى غيرهِ محتاجًا إليهِ، بلْ هوَ الغنيُّ عن خلقهِ الحيُّ القيُّومُ الصمدُ، فليسَ بينَ المعنيينِ تضادٌّ، ولكن هؤلاءِ أخْطأوا في نفيِ اللَّفظِ الذي جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ وفي توهُّمِ أنَّ إطلاقهُ دالٌّ على معنًى فاسدٍ. وقدْ يعذرُ بعضهم إذا رأى منْ أطلقَ هذا اللَّفظَ وأرادَ بهِ أنَّ السَّماءَ تقلُّهُ أو تظلُّهُ، وإذا أخطأ منْ عنى هذا المعنى فقدْ أصابَ، وأمَّا الأوَّلُ فقد أصابَ في اللَّفظِ لإطلاقهِ ما جاءَ بهِ النَّصُ، وفي المعنى الذي تقدَّمَ؛ لأنَّهُ المعنى الحقُّ الذي دلَّ عليهِ النَّصُ، لكنْ قدْ يخطيءُ بعضهم في تكفيرِ منْ يطلقُ اللَّفظَ الثاني إذا كانَ مقصودهُ المعنى الصحيحَ، فإنَّ منْ عنى المعنى الصحيحَ لمْ يكفرْ بإطلاقِ لفظٍ وإنْ كان مسيئًا أو فاعلًا أمرًا محرَّمًا.

وأمَّا منْ فسَّرَ قوله: «أنَّهُ ليسَ في السَّماءِ» بمعنى: أنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ (¬1) شيءٌ أصلًا، ولا فوقَ السَّمواتِ إلَّا عدمٌ محضٌ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ولا ربٌّ يُدْعى ويسألُ، ولا خالقٌ خلقَ الخلائقَ، ولا عرجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّهِ أصلًا (¬2)، فهؤلاءِ هم الجهميَّةُ الضُّلَّالُ المخالفونَ لإجْماعِ الأنبياءِ ولفطْرةِ العقلاءِ (¬3). 30 - مَنِ اعتقدَ أنَّ اللهَ في داخلِ المخلوقاتِ تحويهِ المصنوعاتُ، وتحصرهُ السَّماواتُ، ويكونُ بعضُ المخلوقاتِ فوقهُ، وبعضُهَا تحتهُ، فهذا مبتدعٌ ضالٌّ. وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّ الله يفتقرُ إلى شيءٍ يحملهُ - إلى العرشِ، أو غيرهِ - فهوَ أيضًا مبتدعٌ ضالٌّ. وكذلكَ إنْ جعلَ صفاتِ الله مثلَ صفاتِ المخلوقينَ، فيقولُ: استواءُ الله كاستواءِ المخلوقِ، أو نزولهُ كنزولِ المخلوقِ، ونحو ذلكَ، فهذا مبتدعٌ ضالٌّ؛ فإنَّ الكتابَ والسنَّة مَعَ العقلِ دلَّتْ على أنَّ الله لا تماثلهُ المخلوقاتُ في شيءٍ مِنَ الأشياءِ، ودلَّتْ على أنَّ الله غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ، ودلَّتْ على أنَّ الله مباينٌ للمخلوقاتِ عالٍ عليها. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (19/ 140 - 141). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 59). (¬3) مجموع الفتاوى (19/ 140 - 141).

وإنْ كانَ يعتقدُ أنَّ الخالقَ تعالى بائنٌ عَنِ المخلوقاتِ، وأنَّهُ فوقَ سماواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ مخلوقاتهِ، ليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ من ذاتهِ، ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ، وأنَّ الله غنيٌّ عَنِ العرشِ وعَنْ كلِّ ما سواهُ، لا يفتقرُ إلى شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ، بلْ هوَ مع استوائهِ على عرشهِ يحملُ العرشَ وحملةَ العرشِ بقدرتهِ، ولا يمثِّلُ استواءَ الله باستواءِ المخلوقينَ، بل يثبتُ لله ما أثبتهُ لنفسهِ مِنَ الأسماءِ والصفاتِ، وينفي عنهُ مماثلةَ المخلوقاتِ، ويعلم أنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ: لا في ذاتهِ، ولا في صفاتهِ، ولا أفعالهِ. فهذا مصيبٌ في اعتقادهِ موافقٌ لسلفِ الأمَّةِ وأئمَّتها (¬1). 31 - الرَّبُّ تعالى يمتنعُ أنْ يحتاجَ إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ لا إلى العرشِ، ولا إلى غيرهِ، أو يحيطُ بهِ شيءٌ مِنَ الموجوداتِ، إذْ هُوَ الظاهرُ، فليسَ فوقهُ شيءٌ ... فهو غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ، ولهذا لم يكنْ ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ مماثلًا لصفاتِ المخلوقينَ، كما لم تكنْ ذاتهُ كذواتِ المخلوقينَ فهو مستوٍ على عرشهِ، كما أخبرنا عنْ نفسهِ مع غناهُ عنِ العرشِ. والمخلوقُ المستوي على السريرِ أو الفلكِ أو الدَّابةِ لو ذهبَ ما تحتهُ لسقطَ لحاجتهِ إليهِ، واللهُ غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وهوَ الحاملُ بقدرتهِ للعرشِ ولحملةِ العرشِ (¬2). 32 - إنَّ الله غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، فهو الصَّمدُ المستغني عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ مفتقرٌ إليهِ. ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (5/ 262 - 263). وانظر: التدمرية (ص66 - 68)، والجواب الصحيح (4/ 317 - 318) ومنهاج السنة (2/ 323 - 324). (¬2) الجواب الصحيح (3/ 491 - 492).

فمنْ قالَ: إنَّهُ مفتقرٌ إلى مخلوقٍ بوجهٍ ما، فهوَ كاذبٌ مفترٍ كافرٌ، فكيفَ بمنْ قالَ: إنَّهُ مفتقرٌ إلى كلَّ شيءٍ؟! تعالى الله عمَّا يقولُ الظَّالمونَ علوًّا كبيرًا (¬1). 33 - الذينَ في قلوبهم زيغٌ منْ أهلِ الأهواءِ لا يفهمونَ منْ كلامِ اللهِ وكلامِ رسولهِ وكلامِ السَّابقينَ الأوَّلينَ والتَّابعينَ لهمْ بإحسانٍ في «بابِ صفاتِ الله» إلَّا المعاني التي تليقُ بالخلقِ؛ لا بالخالقِ، ثمَّ يريدونَ تحريفَ الكلمِ عنْ مواضعهِ في كلامِ الله وكلامِ رسولهِ إذا وجدوا ذلكَ فيهَا، وإنْ وجدوه في كلامِ التَّابعينَ للسَّلفِ افتروا الكذبَ عليهم، ونقلوا عنهم بحسبِ الفهمِ الباطلِ الذي فهموهُ، أو زادوا عليهم في الألفاظِ، وغيَّروها قدرًا ووصفًا، كما نسمعُ منْ ألسنتهم، ونرى في كتبهم (¬2). وهذا كلُّه بيِّنٌ لمنْ تدبَّرهُ، والأمرُ فوقَ ما أصِفُهُ وأُبَيِّنُهُ (¬3). 34 - يجبُّ القطعُ بأنَّ الله ليسَ كمثلهِ شيءٌ؛ لا في نفسهِ، ولا في صفاتهِ، ولا في أفعالهِ، وأنَّ مباينتَهُ للمخلوقينَ، وتنزُّهَهُ عنْ مشاركتهم أكبرُ وأعظمُ ممَّا يعرفهُ العارفونَ منْ خليقتهِ، ويصفهُ الواصفونَ. وأنَّ كلَّ صفةٍ تستلزمُ حدوثًا أو نقْصًا فيجبُ نفيُّها عنهُ (¬4). 35 - منْ زعمَ أنَّ اللهَ مفتقرٌ إلى عرشٍ يُقِلُّهُ، أو أنَّهُ محصورٌ في سماءٍ تُظِلُّهُ، أو أنَّهُ محصورٌ في شيءٍ منْ مخلوقاتهِ، أو أنَّهُ يحيطُ بهِ جهةٌ منْ جهاتِ مصنوعاتهِ فهوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ. ¬

_ (¬1) المصدر السابق (4/ 377 - 378). (¬2) مجموع الفتاوى (33/ 170). (¬3) درء تعارض العقل والنقل (5/ 257). (¬4) مجموع الفتاوى (33/ 175).

ومنْ قال: إنَّه ليسَ على العرشِ ربٌّ ولا فوقَ السَّمواتِ خالقٌ، بلْ ما هنالكَ إلَّا العدمُ المحضُ والنَّفيُ الصِرفُ فهوَ معطِّلٌ جاحدٌ لرَبِّ العالمينَ مضاهٍ لفرعونَ الذي قال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37]. بلُ أهلُ السنَّةِ والحديثِ، وسلفُ الأمَّةِ متَّفقونَ على أنَّه فوقَ سمواتهِ على عرشهِ بائنٌ منْ خلقهِ ليسَ في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ ولا في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ، وعلى ذلكَ نصوصُ الكتابِ والسنَّةِ وإجماعُ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّة السنَّةِ، بلْ على ذلكَ جميعُ المؤمنينَ مِنَ الأوَّلِينَ والآخرينَ وأهلُ السنَّةِ وسلفُ الأمَّةِ متَّفقونَ على أنَّ منْ تأوَّل استوى بمعنى استولى أو بمعنًى آخرَ ينفي أنْ يكونَ الله فوقَ سمواتهِ فهوَ جهميٌّ ضالٌّ (¬1). 36 - الرَّبُّ تعالى غنيٌّ عنْ كلِّ ما سواهُ منْ كلِّ وجهٍ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وهذا معنى اسمه «الصَّمد» فإنَّ الصَّمدَ الذي يصمدُ إليهِ كلُّ شيءٍ لافتقارهِ إليهِ، وهوَ غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ لا يصمدُ إلى شيءٍ سبحانه وتعالى، فكيفَ يكونُ قوامهُ بشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ؟ (¬2). 37 - وصفَ الله نفسَهُ بأنَّه استوى على عرشهِ، فذكرَ في سبعِ آياتٍ منْ كتابهِ أنَّهُ استوى على العرشِ، ووصف بعضَ خلقهِ بالاستواءِ على غيرهِ، في مثلِ قولهِ: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقوله: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وليسَ الاستواءُ كالاستواءِ (¬3). ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى (6/ 468). (¬2) الجواب الصحيح (4/ 298 - 299). (¬3) الرسالة التدمرية (ص29).

38 - لا بدَّ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله لنفسهِ، ونفي مماثلتهِ لخلقهِ، فمنْ قالَ: ليسَ لله علمٌ ولا قُوَّةٌ ولا رحمةٌ ولا كلامٌ، ولا يحبُّ ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى، كانَ معطِّلًا جاحدًا ممثِّلًا للهِ بالمعدوماتِ والجماداتِ. ومنْ قالَ: لهُ علمٌ كعلمي، أو قوَّةٌ كقوَّتي، أو حبٌّ كحبي، أو رضا كرضاي، أو يدان كيديِّ، أو استواءٌ كاستوائي، كانَ مشبِّهًا ممثِّلًا لله بالحيواناتِ، بلْ لاَ بدَّ منْ إثباتٍ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٍ بلا تعطيلٍ (¬1). 39 - لمْ نعلمْ أحدًا قالَ: إنَّهُ محتاجٌ إلى شيءٍ منْ مخلوقاتهِ، فضلًا عنْ أنْ يكونَ محتاجًا إلى غيرِ مخلوقاتهِ. ولا يقولُ أحدٌ: إنَّ الله محتاجٌ إلى العرشِ، مَعَ أنَّهُ خالقُ العرشِ، والمخلوقُ مفتقرٌ إلى الخالقِ، لا يفتقرُ الخالقُ إلى المخلوقِ، وبقدرتهِ قامَ العرشُ وسائرُ المخلوقاتِ، وهوَ الغنيُّ عَنِ العرشِ، وكلُّ ما سواهُ فقيرٌ إليهِ. وإذا كانَ اللهُ فوقَ العَرْشِ لم يَجِبْ أن يكونَ محتاجًا إليهِ، فإنَّ الله قدْ خلقَ العالمَ بعضَهُ فوقَ بعضٍ، ولمْ يجعلْ عاليَهُ محتاجًا إلى سافلهِ، فالهواءُ فوقَ الأرضِ وليسَ محتاجًا إليها، وكذلكَ السَّحابُ فوقها وليسَ محتاجًا إليهَا، وكذلكَ السَّمواتُ فوقَ السَّحابِ والهواءِ والأرضِ وليستْ محتاجةً إلى ذلكَ، والعرشُ فوقَ السَّماواتِ والأرضِ وليسَ محتاجًا إلى ذلكَ، فكيفَ يكونُ العليُّ الأعلى خالقُ كلِّ شيءٍ محتاجًا إلى مخلوقاتهِ لكونهِ فوقَهَا عاليًا عليها؟!. ونحنُ نعلمُ أنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّهُ لاَ حولَ ولاَ قوَّةَ إلَّا بهِ، وأنَّ القوَّةَ التي في العرشِ وفي حملةِ العرشِ هو خالقهَا، بل نقولُ: إنَّه خالقُ أفعالِ الملائكةِ الحاملينَ للعرشِ؛ فإذا كانَ هوَ الخالقُ لهذا كلِّهِ، ولاَ حولَ ولاَ قوَّةَ إلَّا بهِ، امتنعَ أنْ يكونَ محتاجًا إلى غيرهِ. ¬

_ (¬1) الرسالة التدمرية (ص30).

لمْ نقلْ إنَّه محتاجٌ إلى غيرهِ، بلْ ما زال غنيًّا عَنِ العرشِ وغيرهِ، ولكن قلنا: إنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فإذا جعلناه قادرًا على هذا، كانَ ذلكَ وصفًا له بكمالِ الاقتدارِ، لا بالحاجةِ إلى الأغيارِ (¬1). 40 - الرَّبُّ تعالى موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ التي لا غايةَ فوقهَا، منزَّهٌ عَنِ النَّقصِ بكلِّ وجهٍ ممتنعٍ، وأنْ يكونَ لهُ مثيلٌ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ. فأمَّا صفاتُ النَّقصِ فهوَ مُنزَّهٌ عنها مطلقًا. وأمَّا صفاتُ الكمالِ فلا يماثلهُ - بل ولا يقاربهُ - فيهَا شيءٌ مِنَ الأشياءِ. والتنزيهُ يجمعهُ نوعانِ: نفيُ النَّقصِ، ونفيُ مماثلةِ غيرهِ لهُ في صفاتِ الكمالِ (¬2). 41 - وهو سبحانهُ مستحقٌ للكمالِ المطلقِ، ويمتنعُ أن يكونَ مفتقرًا إلى غيرهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، إذْ لوِ افتقرَ إلى غيرهِ بوجهٍ من الوجوهِ كان محتاجًا إلى الغيرِ، والحاجةُ إمَّا إلى حصولِ كمالٍ لهُ، وإمَّا إلى دفعِ ما ينقصُ كمالَهُ (¬3). ¬

_ (¬1) منهاج السنة (2/ 646 - 647). (¬2) منهاج السنة (2/ 156 - 157). (¬3) منهاج السنة (2/ 160).

42 - إنَّ الرَّبَّ تعالى مُنَزَّهٌ عنْ كلِّ نقصٍ، وموصوفٌ بالكمالِ الذي لا نقصَ فيهِ، وهوَ منزَّهٌ في صفاتِ الكمالِ أنْ يماثلَ شيءٌ منْ صفاتهِ شيئًا منْ صفاتِ المخلوقينَ، فليسَ لهُ كفؤًا أحدٌ في شيءٍ منْ صفاتهِ، لا في علمهِ ولا قدرتهِ ولا إرادتهِ ولا رضاه ولا غضبهِ، ولا خلقهَ، ولا استوائهِ، ولا إتيانهِ ولا نزولهِ، ولا غيرِ ذلكَ ممَّا وصفَ به نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولهُ، بلْ مذهبُ السَّلفِ أنَّهم يصفونَ الله بمَا وصفَ بهِ نفسَهُ. وما وصفهُ بهِ رسولُهُ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومنْ غيرِ تكيِيفٍ ولا تمثيلٍ. فلا يَنْفُونَ عنهُ ما أثبتهُ لنفسهِ مِنَ الصِّفاتِ، ولا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بصفاتِ المخلوقينَ؛ فالنَّافي معطِّلٌ، والمُعَطِّلُ يعبد عَدَمًا، والمُشَبِّهُ مُمَثِّلٌ، والمُمَثِّلُ يَعْبُدُ صَنَمًا. مذهبُ السَّلفِ إثباتٌ بلا تمثيلٍ وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ. كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهذا ردٌّ على الممثِّلةِ. وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ردٌّ على المعطِّلةِ (¬1). 43 - منْ فهمَ منْ صفاتِ الله تعالى ما هو مستلزمٌ للحدوثِ، مجانسٌ لصفاتِ المخلوقينَ، ثمَّ أرادَ أنْ ينفي ذلكَ عَنِ الله فقدْ شبَّه وعطَّلَ؛ بَلِ الواجبُ أنْ لا يوصفَ اللهُ إلَّا بما وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولُهُ، لا نتجاوزُ القرآنَ والحديثَ. وأنْ نَعْلَمَ مَعَ ذلكَ أنَّ الله تعالى ليسَ كمثلهِ شيءٌ، لا في نفسهِ، ولا في أوصافهِ، ولا في أفعالهِ، وإنَّ الخلقَ لا تطيق عقولهم كنهَ معرفتهِ، ولا تقدرُ ألسنتهم على بلوغِ صفتهِ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182] (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (8/ 431 - 432). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 375).

44 - يوصفُ الله بمَا وصفَ بهِ نفسَهُ، أو وصفهُ بهِ رسولهُ، لا يتجاوزُ القرآنُ والحديثُ، ويتبعُ في ذلكَ سبيلُ السَّلفِ الماضينَ أهلِ العلمِ والإيمانِ، والمعاني المفهومةُ مِنَ الكتابِ والسنةِ لا تردُّ بالشُّبهاتِ، فتكونُ من بابِ تحريفِ الكَلمِ عنْ مواضِعهِ، ولا يعرضُ عنها فيكونُ من بابِ الذينَ إذا ذكِّروا بآياتِ ربِّهم يخرُّون عليها صمًّا وعميانًا، ولا يتركُ تدبُّرُ القرآنِ فيكونُ من بابِ الذين لا يعلمونَ الكتابَ إلَّا أماني (¬1). 45 - الجاهلُ يضلُّ بقولِ المتكلِّمينَ: أنَّ العربَ وضعوا لفظَ الاستواءِ لاستواءِ الإنسانِ على المنزلِ أو الفلكِ، أو استواءِ السفينة على الجوديِّ، ونحو ذلكَ مِن استواءِ بعضِ المخلوقاتِ. فمنْ ظنَّ أنَّ هذا الاستواءَ إذا كانَ حقيقةً يتناولُ شيئًا منْ صفاتِ المخلوقينَ مَعَ كونِ النَّصِّ قدْ خصَّهُ بالله، كانَ جاهلًا جدًّا بدلالاتِ اللُّغاتِ، ومعرفةِ الحقيقةِ والمجازِ. وهؤلاءِ الجهَّالِ يمثِّلونَ في ابتداءِ فهمهم صفاتِ الخالقِ بصفاتِ المخلوقِ؛ ثمَّ ينفونَ ذلكَ ويعطِّلونهُ، فلا يفهمونَ منْ ذلكَ إلَّا ما يختصُّ بالمخلوقِ، وينفونَ مضمونَ ذلكَ، ويكونونَ قدْ جحدوا ما يستحقهُ الرَّبُّ منْ خصائصهِ وصفاتهِ، وألحدوا في أسماءِ اللهِ وآياتهِ، وخرجوا عَنِ القياسِ العقليِّ والنَّصِّ الشرعيِّ، فلا يبقى بأيديهم لا معقولٌ صريحٌ ولا منقولٌ صحيحٌ (¬2). 46 - الباري قبلَ أنْ يخلقَ العالمَ كانَ هو وحدهُ سبحانهُ لا شريكَ لهُ، ولمَّا خلقَ الخلقَ فإنَّهُ لمْ يخلقهُ في ذاتهِ، فيكونُ هو محلًا للمخلوقاتِ، ولا جعلَ ذاتهُ فيه، فيكونُ مفتقرًا محمولًا قائمًا بالمصنوعاتِ، بلْ جعلهُ بائنًا عنهُ فيكون فوقهُ وهو جهةُ العلوِّ (¬3). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (13/ 305). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 208 - 209). (¬3) الفتاوى الكبرى (6/ 357).

47 - الذي يجبُ نفيهُ عَنِ الرَّبِّ تعالى: اتصافهُ بشيءٍ منْ خصائصِ المخلوقينَ، كما أنَّ المخلوقَ لا يتصفُ بشيءٍ منْ خصائصِ الخالقِ، أو أنَّ يثبتَ للعبدِ شيءٌ يماثلُ فيهِ الرَّبَّ (¬1). 48 - إنَّ اللهَ تبارك وتعالى ليسَ لهُ مثلٌ مِنَ الموجوداتِ، وإنَّ مبايَنَتَهُ للمخلوقينَ في صفاتهم أعظمُ منْ مباينةِ كلِّ مخلوقٍ لمخلوقٍ، وأنَّهُ أعظمُ وأكبرُ منْ أنْ يكونَ مماثلًا لشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ أو مقاربًا لهُ في صفاتهِ (¬2). 49 - إذا كانتْ نفسُ الانسانِ التي هي أقربُ الأشياءِ إليهِ - بلْ هي هويتهُ - وهوَ لا يعرفُ كيفيَّتهَا ولا يحيطُ علمًا بحقيقتهَا، فالخالقُ جلَّ جلالهُ أولى أنْ لا يعلمَ العبدُ كيفيَّتهُ ولا يحيطُ علمًا بحقيقته (¬3). 50 - إنَّ الله كانَ قبلَ أنْ يخلقَ المخلوقاتِ، وخلقهَا فلم يدخلْ فيهَا، ولم يدخلهَا فيهِ، فليسَ في مخلوقاتهِ شيءٌ منْ ذاتهِ ولا في ذاتهِ شيءٌ منْ مخلوقاتهِ (¬4). 51 - مَنْ قَالَ: كيفَ ينزلُ إِلَى السَّمَاء الدُّنيا؟ قِيلَ لهُ: كيفَ هوَ؟ فإذا قَالَ: لا أعلمُ كيفيَّتَهُ. قيل لهُ: ونحنُ لا نعلمُ كيفيَّةَ نزولهِ، إذِ العلمُ بكيفيَّةِ الصِّفةِ يستلزمُ العلمَ بكيفيَّةِ الموصوفِ، وهوَ فرعٌ لهُ، وتابعٌ لهُ، فكيفَ تطالبني بالعلمِ بكيفيَّةِ سمعهِ وبصرهِ، وتكليمهِ، واستوائهِ ونزولهِ، وأنتَ لا تعلمُ كيفيَّةَ ذاتهِ (¬5)! ¬

_ (¬1) منهاج السنة (2/ 595). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 281). (¬3) مجموع الفتاوى (9/ 298). (¬4) مجموع الفتاوى (11/ 484). (¬5) مجموع الفتاوى (3/ 25).

52 - قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. وقال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] وقال: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] فهذا الاستواءُ كلُّهُ يتضمَّنُ حاجةَ المستوي إلى المستوى عليه، وأنَّهُ لو عدمَ منْ تحتهُ لخرَّ، والله تعالى غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، بلْ هوَ سبحانهُ بقدرتهِ يحملُ العرشَ، وحملةَ العرشِ. فصارَ لفظُ الاستواءِ متشابهًا يلزمهُ في حقِّ المخلوقينَ معاني يُنَزَّهُ اللهُ عنها. فنحنُ نعلمُ معناهُ، وأنَّهُ العلوُّ والاعتدالُ؛ لكن لا نعلمُ الكيفيَّةَ التي اختصَّ بها الرَّبُّ التي يكونُ بها مستويًا منْ غيرِ افتقارٍ منهُ إلى العرشِ، بلْ مع حاجةِ العرشِ، وكلُّ شيءٍ محتاجٌ إليهِ منْ كلِّ وجهٍ، وأنَّا لم نعهدْ في الموجوداتِ ما يستوي على غيرهِ مع غناهُ عنهُ وحاجةُ ذلكَ المستوى عليه إلى المستوي، فصارَ متشابهًا منْ هذا الوجهِ، فإنَّ بين اللَّفظينِ والمعنيينِ قدرًا مشتركًا، وبينهما قدرًا فارقًا هوَ مرادٌ في كلٍّ منهما، ونحنُ لا نعرفُ الفارقَ الذي امتازَ الرَّبُّ بهِ، فصرنا نعرفهُ منْ وجهٍ، ونجهلهُ منْ وجهٍ، وذلكَ هو تأويلهُ، والأوَّلُ هو تفسيرهُ (¬1). 53 - وهو سبحانهُ ليسَ لهُ كفؤ في شيءٍ منْ أمورهِ، فهوَ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ على وجهِ التفصيلِ منزَّهٌ فيها عَنِ التشبيهِ والتمثيلِ، ومنزَّهٌ عَنِ النقائصِ مطلقًا؛ فإنَّ وصفَهُ بها منْ أعظمِ الأباطيلِ، وكمالَهُ منْ لوازمِ ذاتهِ المقدَّسةِ (¬2). ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (17/ 379). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 592).

54 - المسلمونَ وسطٌ يصفونَ الله بما وصفَ بهِ نفسَهُ، ووصفهُ بهِ رسلُهُ منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، يصفونهُ بصفاتِ الكمالِ، وينزهونهُ عَنِ النَّقائصِ التي تمتنعُ على الخالقِ ولا يتَّصفُ بها إلَّا المخلوقُ، فيصفونهُ بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والرحمةِ والعدلِ والإحسانِ وينزِّهونهُ عَنِ الموتِ والنومِ والجهلِ والعجزِ والظلمِ والفناءِ، ويعلمونَ معَ ذلكَ أنهُ لا مثيلَ لهُ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ فلا أحدٌ يعلمُ كعلمهِ، ولا يقدرُ كقدرتهِ، ولا يرحمُ كرحمتهِ، ولا يسمعُ كسمعهِ، ولا يبصرُ كبصرهِ، ولا يخلقُ كخلقهِ، ولا يستوي كاستوائه، ولا يأتي كإتيانهِ، ولا ينزلُ كنزولهِ (¬1). 55 - وقولُ الرُّسل «في السَّماء» أي في العلوِّ، ليسَ مرادهمْ أنَّهُ في جوفِ الأفلاكِ؛ بَلِ السَّماءُ العلوُّ، وهو إذا كانَ فوقَ العرشِ، فهوَ العليُّ الأعلى وليسَ هناكَ مخلوقٌ، حتَّى يكونَ الرَّبُّ محصورًا في شيءٍ مِنَ المخلوقاتِ ولاَ هوَ في جهةٍ موجودةٍ، بل ليسَ موجودًا إلَّا الخالقُ والمخلوقُ، والخالقُ بائنٌ عنْ مخلوقاتهِ، عالٍ عليها، فليس هو في مخلوقٍ أصلًا، سواءٌ سمِّي ذلكَ المخلوقُ جهةً أو لمْ يسمَّ جهةً (¬2). 56 - فمن قال: إنهُ استوى على العرشِ كاستواءِ الملك بحيث يكون محتاجًا إلى العرشِ، فهذا تمثيلٌ منكرٌ، فإن الله تعالى غنيٌ عن كلِّ ما سواه، والعرشُ وكلُّ مخلوقٍ مفتقرٌ إلى الله تعالى من كلِّ وجهٍ، وهو بقدرتهِ يحملُ العرشَ وحملتهُ (¬3). انتهى كلامه الشَّريفُ. وما أجلَّهُ، وأجمعَهُ، وأنفعهُ، وأصحَّهُ، وأتقنهُ، وأرجحهُ! تلوحُ منهُ أنوارُ الحقِّ والصَّوابِ. وعليهِ منْ ملابسِ التحقيقِ برود الإنصافِ. لا شكَّ فيهِ منْ وجهٍ ولا ارتيابٍ (¬4). ¬

_ (¬1) الجواب الصحيح (2/ 142 - 143). (¬2) الجواب الصحيح (4/ 317). (¬3) بيان تلبيس الجهمية (8/ 542) طبعة مجمع الملك فهد. (¬4) السراج الوهاج (3/ 386).

رحمَ اللهَ شيخَ الاسلامِ فإنَّ كلامهُ هو الحقُّ الصَّريحُ، والصِّدقُ الصَّحيحُ. صدرَ عنْ ذهنٍ صافٍ وعلمٍ غزير وافٍ. ما أبلغَ تفصيلَهُ، وتنقيحَهُ! وأكمَلَ توضيحَهُ، وتصحيحَهُ! وفي ختامِ هذا الفصلِ: أُذَكِّرُ المفترينَ على شيخِ الاسلامِ بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا *} [الأحزاب: 58]. وبقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «ومَنْ قَالَ في مُؤمنٍ ما ليس فيه أَسْكَنَهُ الله رَدْغَةَ الخَبَالِ حتَّى يَخْرُجَ ممَّا قَالَ» (¬1). ومعنى ردغَة الخبالِ: عصارةُ أهلِ النَّارِ كمَا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم (¬2). وأدعوهم للتوبةِ قبلَ أنْ يأتيَ يومٌ لا ينفعُ فيهِ النَّدمُ. * * * ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 70)، وأبو داود (3597)، والحاكم (2/ 27) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه المحدِّث الألباني رحمه الله في «صحيح سنن أبي داود» (3066). (¬2) انظر الحديث في «صحيح مسلم» (2002).

أثر الإيمان بعلو الرحمن

أَثَرُ الإِيْمَانِ بِعُلُوِّ الرَّحْمَنِ منْ شهدَ مشْهَدَ علوِّ الله على خلقهِ، وفوقيَّتهُ لعبادهِ، واستواءَه على عرشهِ، كما أخبرَ بهِ أعرفُ الخلقِ وأعلمهم بهِ الصَّادقُ المصْدوقُ، وتعبَّدَ بمقتضى هذهِ الصِّفةِ بحيثُ يصيرُ لقلبهِ صمدٌ يعرجُ القلبُ إليهِ مناجيًا لهُ مطرقًا واقفًا بينَ يديهِ وقوفَ العبدِ الذَّليلِ بينَ يدي الملكِ العزيزِ، فيشعرُ بأنَّ كَلِمَهُ وعملَهُ صاعدٌ إليهِ معروضٌ عليه مع أوفى خاصَّتهِ وأوليائهِ، فيستحي أنْ يصعدَ إليهِ منْ كَلِمِهِ ما يخزيهِ ويفضحهُ هناكَ، ويشهدُ نزولَ الأمرِ والمراسيمِ الإلهيةِ إلى أقطارِ العوالمِ كلَّ وقتٍ بأنواعِ التدبيرِ والمصرفِ - مِنَ الإماتةِ والإحياءِ والتوليةِ والعزلِ والخفضِ والرفعِ والعطاءِ والمنعِ وكشفِ البلاءِ وإرسالهِ وتقلُّبِ الدولِ ومداولةِ الأيامِ بينَ النَّاسِ - إلى غيرِ ذلكَ مِنَ التصرفاتِ في المملكةِ التي لا يتصرفُ فيهَا سواهُ، فمراسمهُ نافذةٌ فيها كما يشاء {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ *} [السجدة: 5]. فمنْ أعطى هذا المشهدَ حقَّهُ معرفةً وعبوديةً استغنى به (¬1) بخلافِ منْ لا يدري أينَ ربُّه فإنَّهُ ضائعٌ مشتتُ القلبِ ليسَ لقلبهِ قبلةٌ يتوجَّهُ نحوهَا ولا معبودٌ يتوجَّه إليهِ قصدهُ (¬2). ¬

_ (¬1) طريق الهجرتين (ص75). (¬2) المصدر السابق (33).

الخاتمة

الخَاتِمَةُ الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيهِ مباركًا عليهِ كَمَا يحبُّ ربُّنا ويرضى، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى خاتمِ الأنبياءِ والمرسلينَ. فقدْ ذكرتُ في هذا الكتابِ - وفيهِ ما يرْوي الغليلَ، ويشْفي العليلَ مِنَ المرضى بأدواءِ التَّحريفِ والتَّعطيلِ - مِنْ صفةِ العلوِّ والفوقيَّةِ «ما نزلَ بهِ القرآنُ، وصحَّتْ بروايتهِ الآثارُ، وأجمعَ عليهِ فقهاءُ الأمصارِ وعلماءُ الأمَّةِ مِنَ السَّلفِ والخلفِ؛ الذينَ جعلهمُ اللهُ هداةً للمستبصرينَ وقدوةً في الدِّينِ، وجعلَ ذكرهم أنسًا لقلوبِ المؤمنينَ وليعلمَ ذلكَ ويتمسَّكُ بهِ منْ أحبَّ الله خيرهُ، وأنْ يستنقذهُ مِنْ حبائلِ الشَّيطانِ، ويفكهُ منْ فخوخِ الجاحدينَ الذينَ زاغتْ قلوبهمْ فاستهوتهمُ الشَّياطينُ؛ الذينَ خَطِئَ بهمْ طريقُ الرَّشادِ، وحُرِمُوا التَّوفيقَ والسَّدادَ؛ ففنيتْ أعمارهم، وانقطعتْ آمالهم بالخصومةِ في ربِّهم، والمحاربةِ في إلههم، يقولونَ في اللهِ وفي كتابهِ بغيرِ علمٍ؛ تعالى الله عمَّا يقولهُ الضَّالُّونَ علوًّا كبيرًا» (¬1). فالزمْ - رحمكَ الله - ما ذكرتُ لكَ منْ كتابَ ربِّكَ العزيزِ، وكلامِ نبيِّهِ الكريمِ، ولا تحدْ عنهُ، ولا تبْتغِ الهدى في غيرهِ، ولا تغترَّ بزخارفِ المبْطلينَ، وآراءِ المتكلِّفينَ، فإنَّ الرشْدَ والهدى والفوزَ والرِّضا فيما جاءَ منْ عندِ الله ورسولهِ، لا فيما أحْدثهُ المحْدثونَ، وأتى بهِ المتنطِّعونَ منْ آرائهم المضْمحلةِ، ونتائجِ عقولهم الفاسدةِ، وارضَ بكتابِ الله، وسنَّةِ رسوله، عوضًا منْ قولِ كلِّ قائلٍ، وزخْرفٍ وباطلٍ (¬2). ¬

_ (¬1) المختار من الإبانة (3/ 191). (¬2) الاقتصاد في الاعتقاد (ص205 - 207)، للحافظ: عبد الغني المقدسي رحمه الله.

فمنْ كان قصدهُ الحقَّ وإظهارَ الصَّوابِ اكتفى بما قدَّمناهُ، ومَنْ كانَ قصدهُ الجدالَ والقيلَ والقالَ والمكابرةَ (¬1)، فإنَّ آياتِ اللهِ تتلى عليهِ، وكلامَ رسولهِ، وَلاَ يزيدهُ ذَلِكَ إلَّا مرضًا عَلَى مرضهِ (¬2). فلا يبْصرُ للشَّمسِ ضياءً، ولا للقمرِ نورًا. فهوَ كمَا قالَ الله عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وقالَ سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا *} [النحل: 82] وقالَ عزَّ وجلَّ: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] وقالَ سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124، 125] وقالَ عزَّ وجلَّ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: 44]. وكمَا قالَ القائلُ: ولكن عَلَى تلكَ القلوبِ أكنَّةً ... فليستْ وإنْ أصغتْ تجيبُ المناديا (¬3) ولا سيَّما إذا صادفتْ أذهانًا سقيمةً، فكيفَ إذا انضافَ إلى ذلكَ هوًى وتعصُّبٌ؟! فقُلْ للعُيُونِ الرُّمْدِ إيَّاكِ أنْ تَرَيْ ... سنا الشَّمْسِ فاسْتغْشي ظلامَ اللَّياليا (¬4) وقالَ القائلُ: ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ ... يجدْ مُرًّا بهِ الماءَ الزُّلالا (¬5) ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (4/ 7) .. (¬2) الصواعق (4/ 1254). (¬3) التبْيان في أقْسام القرآن (ص221). (¬4) زاد المعاد (3/ 41). (¬5) مفتاح دار السعادة (1/ 343)، تحقيق: الشيخ علي حسن عبد الحميد.

وبعدَ هذا: فأسألُ الله العظيمَ ربَّ العرشِ العظيمِ أنْ يوفِّقنا وإيَّاكم لما يحبَّهُ ويرضاهُ مِنَ القولِ والعملِ، ويرزقنا اتِّباعَ هديِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، ويجمعُ عَلَى الهدى شملنَا، ويقرنَ بالتوفيقِ أمرنَا، ويجعل قلوبنا عَلَى قلبِ خيارنَا، ويعصمنَا مِنَ الشَّيطانِ، ويعيذنا من شرور أنفسنا، ومنْ سيِّئات أعمالنا (¬1). اللهُّمَّ تَوَفَّنا على السُّنةِ وأدخلنَا الجنَّةَ، واجعلْ أنفسنَا بكَ مطمئنةً، نحبُّ فيكَ أولياءكَ ونبغضُ فيكَ أعداءكَ، ونستغفرُ للعصاةِ منْ عبادكَ، ونعملُ بمحكمِ كتابِكَ ونؤمنُ بمتشابههِ، ونصفكَ بما وصفتَ بهِ نفسَكَ، ونصدِّقُ بما جاءَ بهِ رسولكَ إنَّكَ سميعُ الدُّعاءِ، آمين (¬2). والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله عَلَى محمَّدٍ وآلهِ وصحبهِ وسلَّم تسليمًا كثيرًا، وحسبنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ (¬3). * * * ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (4/ 506). (¬2) تاريخ الإسلام - حوادث ووفيات 321 - 330 (ص157). (¬3) مجموع الفتاوى (4/ 506).

§1/1