الكلمات البينات في قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات}

مرعي الكرمي

بسم الله الرحمن الرحيم قال العبد الفقير إلى الله تعالى مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي: حمداً لك اللهم بديع السموات، وشكراً لك على ما أوليت وواليت من المسرات والبشارات، ألست القائل في تنزيل كتابك المقدس: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولا علم لنا إلا ما علمتنا، تعلم ما مضى وما هو آت، وصلاة وسلاماً على عبدك المرتضى ورسولك المجتبى ونبيك المصطفى خير البريات، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات. أما بعد: فهذه فوائد مشرقات، وفرائد متفرقات، بعد التفرق مجتمعات، في الكلام على قول رب السموات: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} بحسن عبارات، ورمز إشارات، يلذ بمعانيها مُعانيها، ويظفر بما فيها موافيها، جنحت في الكلام على ذلك لمجرد الظاهر، إذ لكل آية من المعاني ما تضيق به الدفاتر، فإن كلام الله كلام معجز أنيق،

وبحر عميق، لا نهاية لأسراره وعلومه، ولا غاية لمنطوقه ومفهومه، ولا إدراك لحقائق معانيه، ولا وصول لتركيب مبانيه، قال بعض العلماء: إن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ، كل حرف كجبل ق، تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله تعالى. ولذلك قال الإمام علي كرم الله وجهه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب.

وقال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم، وما بقي من فهمها أكثر. وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم، ومئتي علم، ثم يتضاعف ذلك أربعاً.

وفي الإحياء للغزالي: ومَنْ زعم أنه لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، مخطئ في الحكم برد كافة الخلق إلى درجته، التي هي حده ومَحَطُّه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعاً لأرباب الفهم. ففيه رموز وإشارات، ومعانٍ وعبارات، وتلويح ودلالات، يختص بدركها أهل الفهم من ذوي العنايات. فنقول في الكلام على هذه الآية بحسب الظاهر، ونحن بالعجز والتقصير معترفون، ومن بحر كرم الله مغترفون: قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

مقدمة في مناسبة هذه الآية لما قبلها

مقدمة في مناسبة هذه الآية لما قبلها اعلم - أيد الله سبحانه - أن الله سبحانه مدح المؤمنين من أول السورة إلى قوله {الْمُفْلِحُونَ} وذم الكافرين في آيتين، أولهما {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} إلى قوله: {عَذَابٌ عظِيمٌ}، ثم ذم المنافقين في ثلاثة عشرة آية، أولها: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ} إلى قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} ثم لما مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين كأنه قيل: هذا المدح والذم لا يستقيمان إلا بتقديم الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، فإن أصول الإسلام هي هذه الثلاثة، فلهذا السبب بّن سبحانه وتعالى هذه الأصول بالدلائل القاطعة، فبدأ أولاً بإثبات الصانع وتوحيده وبيّن ذلك بخمسة أنواع من الدلائل: أولها: أنه استدل على التوحيد بأنفسهم، وإليه الإشارة بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}. ثانيها: بأحوال آبائهم وأجداهم، وإليه الإشارة بقوله: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}.

ثالثها: بأحوال أهل الأرض، وإليه الإشارة بقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً} رابعها: بأحوال أهل السماء، وإليه الإشارة بقوله: {وَالسَّمَاء بِنَاء}. خامسها: بالأحوال الحادثة المتعلقة بالسماء والأرض، وإليه الإشارة بقوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ} فإن السماء كالأب، والأرض كالأم، تنزل قطة من صلب السماء إلى رحم الأرض، فيتولد منها أنواع النبات. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل الخمسة رتب المطلوب عليها فقال: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فهو مشتمل على إثبات الإله، وعلى إثبات كونه واحداً، لأن تلك حوادث، وكل حادث لابد له من محدث، وذلك دليل على وجود الصانع، ولأنها حدثت لا على وجه الخلل والفساد، وذلك دليل على وحدة الصانع {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. ثم هنا لطيفة أخرى مرعية في هذه الآية، وهي أنَّ الترتيب الحسن المفيد في هذه الآية: في التعليم من الأظهر فالأظهر، نازلاً إلى الأخفى فالأخفى في الدلائل، لأنه تعالى قال: {اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} فجعل استدلال كل عاقل بنفسه مقدماً على جميع الاستدلالات لأن إطلاع كل أحد على أحوال نفسه أتم من إطلاعه على أحوال غيره، فيجد بالضرورة

من نفسه أنه تارة يكون مريضاً، وتارة صحيحاً، وتارة ملتذاً، وتارة متألماً، وتارة شاباً، وتارة شيخاً، والانتقالُ من بعض هذه الصفات إلى غيرها ليس باختياره، ولا باختيار أحد. وأيضاً: كثيراً ما يجتهد في طلب شيء فلا يجد، وكثيراً ما يكون غافلاً عنه فيحصل، وعند ذلك يعلم كل أحد عند نقض العزائم وفسخ الهمم أنه لابد له من مدبر يكون تدبيره فوق تدبير البشر. وربما اجتهد العاقل الذكي في الطلب فلا يجد، والغِرُّ الغبي يتيسر له ذلك المطلوب، فعند هذه الاعتبارات يلوح له صدق قول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق ويظهر له أن هذه المطالب إنما تحصل وتتيسر بناءً على قسمة قسّام لا تمكن منازعته ومغالبته. وبالجملة فلما كان اطلاع كل أحد على أحوال نفسه أشدَّ من اطلاعه على أحوال غيره لا جرم قدم هذا الدليل على سائر الدلائل.

ثم يتلوها مرتبة ثانية: وهي علم كلِّ أحد بأحوال آبائه وأجداده، وأهل بلده. ثم مرتبة ثالثة: وعي معرفة الإنسان بأحوال الأرض التي هي مسكن الخلائق فإنها مختلفة الأجزاء كما قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} وقال تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}. ثم مرتبة رابعة: وهي العلم بأحوال الأفلاك، فإن بعضها يخالف البعض في العلو والسفل، والصغر والكبر، والبطو والسرعة، وغير ذلك. ثم مرتبة خامسة: وهي الأحوال المنزلة من السماء إلى الأرض، وهي نزول القطر من صلب السماء، ووقوعه في رحم الأرض، ثم بعد ذلك يحدث في الأرض الواحدة أنواع من النبات بحيث يخالف كل واحد منها صاحبه في اللون والشكل والطعم والطبع والخاصية، وليس ذلك إلا بفعل قادر مختار، يفعل بالعلم والقدرة، لا بالعلية والطبيعية. وإذا عرفت ذلك ظهر لك أن لله في ترتيب هذه الدلائل الخمسة، وتقديم بعضها على بعض حكمةً بالغة وأسراراً مرعية، فسبحان مَنْ لا نهاية لعلمه، ولا غاية لحكمته.

ثم إنَّ الله تعالى لما بيّن دلائل إثبات الصانع ووحدانيته، أردف هذه المسألة بمسألة إقامة الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}، وذلك لأن التحدي وقع بكل القرآن في قوله تعالى: {لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}. فلما عجزوا عن معارضة كل القرآن أتبعه بالتحدي بعشر سور من القرآن فقال: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}. فلما عجزوا عنه أتبعه بالتحدي بسورة واحدة فقال ها هنا: {بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ}. فلما عجزوا عنه أتبعه بالتحدي بآية فقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ}.

فلما عجزوا عنه - مع توفر الدواعي - ظهر كونه معجزاً باهراً، وبرهاناً قاهراً. ثم إنه تعالى أتبع هذه المسألة بمسألة المعاد وهي قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الآية. كأنه قيل: إنا قدمنا مدح المؤمنين وذم الكافرين والمنافقين، ولو لم يكن معاد يجد المحسن ثمرة إحسانه، ويجد المسيء عاقبة إساءته لم يكن ذلك لائقاً بحكمتي. فلذلك أتبع سبحانه ذكر التوحيد والنبوة بذكر المعاد، وبين

عقاب الكافرين وثواب المطيعين، ومن عادة الله تعالى أنه إذا ذكر الوعيد أن يعقبه بذكر الوعد، فلذلك قال بعده: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} الآية. إذا تقرر هذا فنقول: - أما قوله تعالى {وَبَشِّرِ}: فالبشارة - بفتح الباء وضمها وكسرها -. وحكى فيها في تهذيب الأسماء واللغات الكسر والضم فقط، وبَشَر وبشّر - بالتخفيف والتشديد - وكذا في المضارع. وبمعنى البشارة والبشر والتبشير والإبشار، يقال: بشّرت فلاناً، أبشره تبشيراً وبشرته - بتخفيف الشين - أبشره بشراً، كقتلته أقلته قتلاً. لغتان. والبشير: المبشر، والبشير: الحسن الوجه، والبشر: الطلاقة، والاستبشار: الفرح والسرور، وتباشير الصبح: أوائله، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان. وأما البشارة فهي أول خبر سارٍّ يرد على الإنسان، وعبارة بعضهم: هي الخبر الصدق السار الذي ليس عند المخبر علمه، ولهذا قال الفقهاء: لو قال لعبيدة: أيكم يبشرني بقدوم فلان فهو حر،

فبشروه معاً: عتق الكل، وفرادى: عتق الأول لأنه هو الذي أفاد خبره السرور. ولو قال مكان بشرني: أخبرني عتقوا جميعاً، لأنهم جميعاً أخبروه. كذا في الكشاف وابن عادل وغيرهما. والذي نص عليه فقهاؤنا إنما يعتق الأول فقط، كالبشارة. وسميت بشارة لأنها تؤثر في بشرة الإنسان، ويظهر في بشرة الوجه أثرُ السرور، ومنه سُمي الآدميون بشراً لظهورهم، فإن كانت البشارة خيراً أثرت المسرة والانبساط، وإن كانت شراً أثرت الغم والانقباض. والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، والنذارة بالشر، وربما تستعمل البشارة في الشر، ومنه قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إلا أن يكون استعمالها في ذلك من باب التهكم بالمخاطب، وهو ظاهر كلام الزمخشري وغيره، فإنه قال: وأما {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيط المستهزأ به وتألمه واعتمامه.

لكن قال ابن فارس وغيره: والبشارة تكون بالخير والشر، فإذا أطلقت كانت في الخير، وإن استعملت في الشر فبقيد، والمقيدة كقول الله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. وقال ابن الخازن: البشارة: إيراد الخبر السارة، ثم كثر حتى وضع موضع الخبر سر، أو ساء. وقال الواحدي: التبشير إيراد الخبر السار الذي يظهر أثره في بشرة المخبر، ثم كثر استعماله حتى صار بمنزلة الإخبار.

فاستعمل في نقيضه كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي تهذيب الأسماء واللغات: قال قوم: أصل التبشير فيما يسر ويغم، لأنه يظهر في بشرة الوجه أثر الغم، كما يظهر أثر السرور. (وبشِّر) فعل أمر معطوف على الجملة السابقة، من عطف قصة على أخرى فلا يطلب له مشاكل حتى يصح عطفه عليه. وقُرئ وبُشِّر على صيغة الفعل مبنياً للمفعول، عطفاً على (أُعدت). وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون (وبَشر) عطفاً على (افتقوا) ليعطف أمر على أمر، ورده أبو حيان بأن (فاتقوا) جواب

الشرط، والمعطوف يكون جواباً أيضاً، لأن حكمه حكمه، ولا يصح هنا، لأن التبشير لا يترتب على قوله (فإن لم تفعلوا). وأجاز الزمخشري وأبو السعود المفتي أن (وبُشر) - بالبناء للمجهول - معطوف على (أُعدت) كما تقدم. قيل: وهذا فاسد، لأن (أُعدت) صلة (التي)، والمعطوف على الصلة صلة، اللهم إلا أن يقال: إن (أعدت) مستأنف، والظاهر أنه من تمام الصلة، أو أنه حال من الضمير في (وقودها)، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما، فإنهما لا يكافئان النعم السابقة فضلاً عن أن يقتضيا ثوباً مؤبداً فيما يستقبل، بل بجعل الشارع ومقتضى وعده.

والخطاب في قوله (وبشر) للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: لكل مَنْ يتأتى منه التبشير، وفيه رمز إلى أن الأمر - لعظمه وفخامة شأنه - حقيق بأن يتولى التبشير به في كلُّ من يقدر عليه. وأما قوله تعالى: {الَّذِين آمَنُواْ}: فالذين: اسم موصول، محله النصب على المفعولية، وجملة (آمنوا) صلة لا محل لها من الإعراب. والإيمان لغة: مطلق التصديق. وشرعاً: على ما صرح به الأشعرية وأكثر الأئمة: هو تصديق القلب الجازم بما عُلم ضرورة مجيء الرسول به من عند الله تفصيلاً فيما علم تفصيلاً، كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء وأركان الإسلام الخمس، وإجمالاً فيما علم إجمالاً. والمراد بتصديق القلب بذلك: إذعانه وقبوله له.

وإنما قلنا بذلك لئلا يرد علينا من صدق بقلبه ولم يذعن كإبليس، وأبي طالب، وذلك شبهة قوية لمن جعل الأعمال من الإيمان، كما اختاره الأكثر، كما يأتي، فإن الكفر - كما في البغوي -: أربعة أنواع: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر عناد، وكفر نفاق. فكفر الإنكار: هو أن لا يعرف الله أصلاً، ويعترف به. وكفر الجحود: هو أن يعرف الله بقلبه ولا يقر بلسانه، ككفر إبليس ونحوه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ}. وكفر العناد: هو أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به ككفر أبي طالب حيث يقول: ولقد علمت بأنّ دينَ محمدٍ ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامةُ أو حذارُ مسبةٍ ... لوجدتَني سمحاً بذاك مبينا وأما كفر النفاق: فهو أن يقر باللسان ولا يعتقد بالقلب. وجميع هذه الأنواع سواء في أن مَنْ لقي الله بواحد منها لا يغفر له وأبو طالب - وإن كان عنده تصديق وإقرار - لكن ليس معه إذعان وقبول.

ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: إنَّ مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيماناً باتفاق المسلمين حتى يقترن بالتصديق عمل، وأصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار انتهى. وقد أفردنا مسألة الإيمان والإسلام وعمومها وخصوصهما، وهل الأعمال من الإيمان؟ وهل هو يزيد وينقص؟ وهل إيمان المقلد صحيح؟ بالتصنيف، وأطلنا الكلام على ذلك، فلا يليق بهذه الرسالة اللطيفة.

وأما قوله تعالى {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}: فهو معطوف على (آمنوا). قال ابن الخطيب وغيره: هذه الآية تدل على أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، لأنه تعالى ذكر الإيمان ثم عطف عليه العمل الصالح، فوجب التغاير، وإلا لزم التكرار، وهو خلاف الأصل انتهى. يعني: ففي الآية رد على مَنْ جعل العمل من الإيمان، لأن العطف دليل على المغايرة، والذي ذهب إليه جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج أن الإيمان مجموع ثلاثة أمور: اعتقاد الحق، والإقرار به، والعمل بمقتضاه، فمن أخلَّ بالاعتقاد وحده فهو منافق، ومَنْ أخلَّ بالإقرار فهو كافر، ومَنْ أخلَّ بالعمل فهو فاسق إجماعاً، وكافر عند الخوارج، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة، وأما المرجئة فقالوا: الإيمان اعتقاد ونطق فقط، والكرامية قالوا: هو نطق فقط. وبالجملة: فالعبد إذا فعل فعلاً لا يدل على الكفر، كالفسق: فَمَنْ أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومَنْ نفي عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومَنْ أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَل فعل الكافر.

وقال المفتي في تفسير: وفي عطف العمل على الإيمان دلالة على تغايرهما، وإشعار بان مدار استحقاق مفهوم البشارة هو مجموع الأمرين، فإنَّ الإيمان أساس، والعمل الصالح كالبناء عليه، ولا اعتبار بأسٍ لا بناء به كذا قال المفتي في تفسيره. وهل ينفع الإيمان ويعتبر بلا عمل؟ على مذهبين: فمنهم مَنْ قال: إن النطق بالشهادتين شطر من الإيمان وجزء منه داخل في مسماه، وإليه ذهب الإمام النووي رحمه الله، وحكى الاتفاق عليه، فقال في شرح مسلم: اتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يُحكم بأنه من أهل القبلة، ولا يخلد في النار لا يكون إلا مَنْ اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك، ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً، إلا إذا عجز عن النطق، لخللٍ في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية، أو لغير ذلك فإنه يكون حينئذ مؤمناً -

يعني بالاعتقاد من غير تلفظ بالشهادتين، وعليه فمدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين، وصح كلام المفتي لكن يخرج منه مَنْ لم ينطق بالشهادتين لعذرٍ كما مرَّ. قلت: ولعل ما حكاه الإمام النووي رحمه الله محمول على الكافر الأصلي إذا آمن بقلبه فقط، وإلا فقد اتفقوا على الإسلام بالتبعية، وفي مسائل أخر بلا نطق بالشهادتين. والذي ذهب إليه جمهور المحققين أنّ النطق بالشهادتين إنما هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية من الصلاة عليه، والتوارث والمناكحة وغيرها،

غير داخل في مسمى الإيمان، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من النطق بالشهادتين فهو مؤمن عند الله، ويؤيد ذلك الحديثُ الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: مَنْ مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة. فاقتصر الشارع صلى الله عليه وسلم على العلم دون العمل، فظهر بهذا أن الإيمان وحده بدون العمل، به اعتبار وأي اعتبار، وعليه فعطف العمل على الإيمان في الآيات لبيان الأشرف الكامل أو الغالب.

أو إنَّ المراد به المستحق للبشارة من غير سابقة عذابٍ بخلاف مَنْ لم يعمل فهو داخل في المشيئة وإنْ كان لا يخلد في النار، كما دل عليه الحديث الصحيح فتأمل. فالمؤمن المطيع له الجنة بوعد من الله تعالى من غير تعذيب، والكافر له التعذيب المؤبد بوعيد الله تعالى، والمؤمن العاصي في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر له وأدخله الجنة بلا تعذيب، وإن شاء عذبه بذنبه ثم أدخله الجنة بفضله. والمراد بالأعمال الصالحات ما يشتمل على كل عمل صالح، وحاصله: كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل، ولا يكون مستقيماً إلا ما فيه الإخلاص والعلم والنية فعن عثمان رضي الله تعالى عنه أن المراد: أخلَصوا الأعمال. يدل عليه قوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} والمرائي لا يكون عمله صالحاً لأنه لا يكون خالصاً، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}،

وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك. قال ابن تيمية: وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله، وله خلق الخلق، وهو حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب يقول: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.

وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. قال: أخلصه وأصوبه. فقيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون صواباً خالصاً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وقال سعيد بن جبير والحسن البصري: لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وهي الشريعة. وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: العلم إمام العمل، والعمل تابعه. وهذا ظاهر فإنَّ القصد والعمل إنْ لم يكن بعلم كان جهلاً وضلالاً واتباعاً للهوى، وهذا مشاهد فإنَّ كثيراً من الناس مَنْ يتعبد بعبادات لم يأمر الله بها، بل قد نهى عنها. وقيل في تفسير الآية ما رُوي عن علي كرم الله وجهه: إن المراد وأقاموا الصلوات المفروضات. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: العمل الصالح الذي يكون فيه أربعة أشياء: العلم والنية والصبر والإخلاص.

وقال سهل بن عبد الله: (وعملوا الصالحات) أي لزموا السنة، لأن عمل المبتدع لا يكون صالحاً البتة. وقال بعضهم: أدوا الأمانات. وقيل: أدوا الفرائض، واجتنبوا المحارم. وقيل: الأعمال الصالحات نوعان: أعمال بينك وبين العباد كأداء الأمانات، والوفاء بالعهود، وقضاء الحقوق، وصلة الأرحام. وأعمال بينك وبين الله تعالى وهي نوعان: ظاهرة وباطنة، فالظاهرة: أداء الشرائع كالصلاة والزكاة والصوم والحج والطهارة. والباطنة: صفات القلب، كالتوكل والرضا بالقضاء، والصبر في البلاء، والشكر في الرخاء. والأمر في ذلك سهل.

وأما قوله تعالى: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}: فالجار والمجرور خبر (أن) مقدم، والتحقيق أن الخبر متعلق الظرف، و (جنات): اسمها مؤخر، و (أن) وما في حيزها في محل جر عند الخليل والكسائي، ونصب عند سيبويه والفراء، لأن الأصل: وبشر الذين آمنوا بأن لهم، فحذف حرف الجر مع أنَّ، وهو حذف مطرد معها، ومع أن الناصبة، ويظهر أثر ذلك في التابع، كقول الشاعر: وما زرتُ ليلى أن تكون حبيبة ... إليَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالبُهْ

فعطف دين بالجر على محل أن يُبين كونها مجرورة. واللام من الحروف الجارة للظاهر والمضمر لكن تكسر مع الظاهر إلا في الاستغاثة، وتفتح مع الضمير، كما هنا، إلا مع ضمير ياء المتكلم نحو: لي. واللام أكثر الحروف معاني: فهي للملك، نحو: المال لزيد. وللاختصاص، نحو: الجنة للمؤمنين. وللاستحقاق، نحو: النار للكافرين. وللتعليل، نحو: قمت لك. وللتعجب: نحو: لله درك. وللاستعلاء، نحو: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ}. وللقسم، نحو: لله لا يؤخر الأجل. وللوقت، نحو: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}. وللتاريخ، نحو: كتب لخمس خلون من رمضان.

وللعاقبة، نحو: لدوا للموت وابنوا للخراب. وبمعنى في نحو: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}. وبمعنى بعد نحو: صوموا لرؤيته أي بعد رؤيته. وبمعنى إلى نحو: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى}. وبمعنى مع نحو: فلمّا تفارقنا كأنّي ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا

وبمعنى من نحو: وإنّ قرينَ السوء لستَ بواجدٍ ... له راحةً - ما عشتَ - حتى تفارقَهْ وزائدة، نحو: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}. وللجزاء، نحو: لو جئتني لأكرمتك. وللأمر، نحو: لتضرب. وللتأكيد، نحو: إنه لقائم. وللابتداء، نحو: لزيد قائم. وللتعريف، نحو: الرجل عن الأخفش، وأحد قولي سيبويه. وللجنس. وللعهد. و (جنات) جمع جنة، وسميت الجنة لاستتار أرضها بأشجارها، أو لأنها تستر وتظل من يكون فيها بما فيها من الشجر، ومنه سمي الجن جناً لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدرع جنة، وجن الليل إذا ستر، والجنون يستر العقل.

وعن بعضهم: إن الجنة كل بستان فيه نخل. وقال الفراء: الجنة ما فيه النخيل، والفردوس ما فيه الكرم. وقال الزجاج: كل نبت كثف وكثر وستر بعضُه بعضهاً فهو جنة. وقيل: الجنة البستان فيه النخيل والشجر المتكاتف، وسُميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان. وفي قوله سبحانه: (جنات) - بصيغة الجمع - إشهار بتعددها، وهو كذلك فإنّ الجنة اسم لدار الثواب كلها، وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة على حسب استحقاقات العاملين، لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان،

لكن اختلفوا في مقدار عدتها: فقال القرطبي: قيل: الجنان سبع: دار الجلال ودار السلام ودار الخلد وجنة عدن وجنة المأوى وجنة نعيم وجنة الفردوس. وزاد بعضهم: عليين، ففي حديث البراء بن عازب يرفعه: أن عليين تحت العرش. وفي بعض التفاسير: هي ثمان قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي دار الجلال ودار القرار ودار السلام وجنة عدن - وهي قصبة الجنة ومشرفة على الجنان كلها - وجنة المأوى وجنة الخلد وجنة الفردوس وجنة نعيم.

وقيل: الجنان أربع فقط، واختاره الحليمي لما روى إمامنا أحمد والطيالسي والبيهقي عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب، حلتهما وآنيتهما وما فيهما. وجنتان من فضة، حليتهما وآنيتهما وما فيهما الحديث. وهذه الأربع توصف بالمأوى والخلد والعدن والسلام. قال ابن زيد: هي أربع: جنتان للمقربين السابقين، فيهما من كل فاكهة زوجان، وجنتان لأصحاب اليمين والتابعين.

لطيفة: روى ابن أبي الدنيا عن انس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خلق الله جنة عدن بيده، بناها لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زمردة خضراء، مِلاطها المسك، وحشيشها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ، وترابها العنبر، ثم قال لها: انطقي. فقالت: قد أفلح المؤمنون. فقال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيه بخيل. تنبيه: قال ابن عادل: هذه الآيات صريحة في أنّ الجنة والنار مخلوقتان، لأنه تعالى قال في صفة النار {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال في صفة الجنة، في آية أخرى {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} وهذا إخبار عن وقوع هذا الملك وحصوله، وحصول الملك في الحال يقتضي حصول المحلول - كذا قال - في الحال، فدل على أنَّ الجنة والنار مخلوقتان انتهى.

وإلى القول بأنهما مخلوقتان ذهب جمهور الأمة، وذهب طائفة من المعتزلة والخوارج إلى أنهما لم تُخلقا بعد، وبه قال منذر بن سعيد البلوطي، واحتجوا بقول امرأة فرعون {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}، وبما جاء في الأحاديث الصحيحة: من عمل كذا غرس له في الجنة كذا. قالوا: لو كانت الجنة مخلوقة لم يكن للدعاء في استئناف الغرس والبناء فائدة. وأجيب: بأنه لا مانع من أن يحدث الله في الجنة أشياء ينعم بها على عباده شيئاً بعد شيء، وحالاً بعد حال، فيحدث فيها ما شاء من البنيان والغرس، كما أن الأرض مخلوقة ثم يحدث الله تعالى فيها ما يشاء من بنيان وغيره.

والدليل على وجود الجنة الآن ما مر، وقوله تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وقوله تعالى: {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى}، وقوله صلى الله عليه وسلم - في حديث الترمذي وصححه -: لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل عليه السلام إلى الجنة فقال: انظر إليها وإلى ما أعدت لأهلها فيها. قال: فجاء ونظر إليها. . . الحديث. وذكرُ أدلة كل من الفريقين في هذه المسألة مما يطول، وقد أطال العلامة ابن القيم الكلام على ذلك في أول كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح فراجعه. قال الزمخشري: والذي يقول إنها مخلوقة - يعني الجنة - يستدل بسكنى آدم وحواء الجنة، وبمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام، كالنبي والرسول والكتاب انتهى.

قلت: وعلى هذا التعليل فالصراط والميزان والحوض مخلوقة الآن لمجيئها على نهج الأسماء الغالبة فتأمل فإنه جيد، وهو حق إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}: فاللام في (الأنهار) للجنس، كما في قولك: لفلان بستان فيه الماء الجاري، أو عوض من المضاف إليه على رأي بعض الكوفيين، كما في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}. أو للعهد والإشهار إلى ما ذكر في قوله سبحانه: {أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ}.

وفي الكشاف: ولولا أن الماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى، وأن الجنان والرياض وإن كانت آنق شيء وأحسنه لا تروق النواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الماء، وإلا كان الأنس الأعظم فائتاً، والسرور الأوفر مفقوداً، وكانت كتماثيل لا أرواح فيها، وصور لا حياة لها، لما جاء الله بذكر الجنات إلا مشفوعاً بذكر الأنهار الجارية من تحتها، مسوقين على قران واحد كالشيئين لابد لأحدهما من صاحبه، ولما قدمه على سائر نعوتها. والنهر - بفتح الهاء وسكونها -: المجرى الواسع، فوق الجدول، ودون البحر، كالنيل والفرات. والمراد بها ماؤها على الإضمار، أو على المجاز، كما في سال الميزاب، يقال: جرى الماء يجري جرياً وجرية وجرياناً، أي: سال.

وفي ابن عادل: وهل النهر هو مجرى الماء، أو الماء الجاري نفسه؟ الأول أظهر، لأنه مشتق من نهرت أي وسعت، ومنه النهار لاتساع ضوئه، وقوله عليه الصلاة والسلام: ما أنهر الدم معناه: ما وسع المذبح حتى يجري الدم كالنهر. فإن قيل بأن النهر اسم للماء الجاري، فنسبة الجري إليه حقيقة. وإن قيل للأخدود فنسبة الجري إليه مجاز انتهى. و (تحت): بمعنى سفل، والمراد تجري من تحت شجرها أو قصورها لا من تحت أرضها، وإنما نحتاج إلى هذا التقدير إذا قيل بأن الجنة هي الأرض ذات الشجر. وأما إذا قيل بأنها الشجر نفسه فلا حاجة إلى ذلك. وعلى كل تقدير فأنهار الجنة ليست تجري في أخدود، بل على وجه أرض الجنة منضبطة بالقدرة، لما روى أبو نعيم وابن مردويه والضياء عن انس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود

في الأرض؟ لا والله إنها لسائحة على وجه الأرض، حافتاها خيام اللؤلؤ، وطينها المسك الأذفر. قلت: يا رسول الله، ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط معه. وأخرجه ابن أبي الدنيا عن انس رضي الله تعالى عنه موقوفاً، قال المنذري: وهو أشبه بالصواب. وروى الترمذي وصححه والبيهقي عن معاوية بن حيدة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد.

وروى ابن حبان والحاكم والبيهقي وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنهار الجنة تتفجر من جبل مسك. لطيفة: روى الحارث بن أبي أسامة والبيهقي عن كعب رضي الله تعالى عنه قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} قال كعب في تفسير هذه الآية: نهر دجلة نهر مائهم، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار تخرج من نهر الكوثر. وفي كلام الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ليس المراد أنّ هذه الأنهار الموجودة في الأرض هي التي في الجنة، بل هذه أسماء أنهار

في الجنة يقال لها: النيل والفرات وسيحان ودجلة، كاسم السلسبيل والكوثر. وقد أطلت الكلام على ذكر أنهار الجنة وعيونها وما اعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها في كتابنا بهجة الناظرين وآيات المستدلين فراجعه تظفر بالمراد. وأما قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً}: فقال النحويون: كلما منصوبة على الظرفية باتفاق، وناصبها الفعل الذي هو جواب وهو هنا (قالوا) وجاءتها الظرفية من جهة (ما) فإنها محتملة لوجهين: أحدهما: أن تكون حرفاً مصدرياً، والجملة بعده صلة فلا محل لها، والأصل: كل وقت رزق.

والثاني: أن تكون اسماً نكرة بمعنى وقت، فلا تحتاج على هذا إلى تقدير وقت والجملة بعده في موضع خفض على الصفة، فتحتاج إلى تقدير عائد، أي كل وقت رزقوا فيه، ولهذا الوجه مبعد وهو ادعاء حذف عائد الصفة وجوباً، حيث لم يرد مصرحاً به في شيء من أمثلة هذا التركيب، ومن هنا ضعف قول أبي الحسن الأخفش في نحو: أعجبني ما قمت: إن ما اسم، والأصل: ما قمته، أي القيام الذي قمته. وقوله في يا أيها الرجل: إن أيّاً موصول، والمعنى: يا من هو الرجل، فإن هذين العائدين لم يلفظ بهما قط، ولو صح ما ذكر لجاز ذلك، لن الأصل أن العائد يكون مذكوراً لا محذوفاً، وهنا مباحث أخر ليس هذا محلها. وقال المنطقيون: كلما تقتضي عموم الأفعال، كما أن كل تقتضي عموم الذوات.

وقال الخطيون: كلما إذا كانت ظرفاً كتبت ما معها متصلة نحو: كلما جئتني أكرمتك وكما هنا، وإن كانت اسماً كتبت منفصلة نحو: كل ما عندي لك، وكل ما في الدنيا فانٍ. وكلما رزقوا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لـ جنات، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة، لأنه لما قيل (أن لهم جنات) لم يخل قلب السامع أن يقع فيه: هل ثمار تلك الجنات تشبه أثمار الدنيا أم أجناس أخر؟ فقيل: إن ثمارها أشباه ثمار الدنيا، أي أجناسها أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله تعالى. بل قال شيخ الإسلام وحافظ زمانه تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى: قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء،

وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. انتهى. و (من) الأولى والثانية للابتداء، واقعتان موقع الحال، كأنه قيل: كل وقت رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات، مبتدأ من ثمرة، فصاحب الحال الأولى: رزقاً، وصاحب الثانية: ضميره المستكن في الحال. فهو كما قال الزمخشري: بمنزلة قولك: رزقني فلان فيقال لك: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقال: من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول: من الرمان. وتحريره: أن الرزق جعل مبتدأ من الجنات، والرزق من الجنات مبتدأ من ثمرة. وفي تفسير ابن عادل: (منها) متعلق برزقوا، وكذلك (من ثمرة) لأنها بدل من قوله (منها) بدل اشتمال، بإعادة العامل. وجوز الزمخشري أن يكون (من ثمرة) بياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً.

قال ابن عادل: وفيه نظر لأن من شرط ذلك أن يحل محلها الموصول، وأن يكون ما قبلها محلى بأل الجنسية - يعني كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} - وأيضاً: فليس قبلها شيء يتبين بها، وكونها بياناً لما بعدها بعيد جداً، وهو غير المصطلح عليه. و (رزقاً) مفعول ثان لرُزقوا، وهو بمعنى مرزوق، وكونه مصدراً بعيد لقوله: (هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً) والمتشابه هو المرزوق. وثمرة جمعها: ثمر، وجمع ثمر: ثمار، وجمع ثمار: ثمر - بضم الميم وسكونها - وجمع ثمر: أثمار. وأثمار الجنة وأشجارها كثيرة لا يحيط بها إلا خالقها، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ}: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل. وقال كثير من المفسرين في قوله سبحانه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}: أي بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، ترابهما الكافور

والعنبر، ودقاقهما المسك الأذفر، كل بستان مئة سنة، وفي وسط كل بستان دار من نور، جنة لخوف ربه، وجنة لترك شهوته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نخل الجنة ذهب أحمر، وعروقها زمرد أخضر، وثمرها كالقلال، أحلى من الشهد، وألين من الزبد، لا عجو لها. وروى البيهقي، بسند حسن عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه أخذ عوداً صغيراً ثم قال: لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تبصره. قيل: فأين النخل والشجر؟ قال: أصولها اللؤلؤ والذهب، وأعلاه الثمر. وروى سعيد بن منصور والبيهقي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياماً وقعوداً ومضطجعين، على أي حالة شاؤوا. ورويا أيضاً عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق، وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وورق، وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد والورق،

والثمار بين ذلك فمن أكل قائماً لم تؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم تؤذه، ومن أكل جالساً لم تؤذه {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا}. وفي تفسير القرطبي في قوله تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا}: أي ظل الأشجار في الجنة قريب من الأبرار، فهي مُظِلة عليهم زيادة في نعيمهم، وإنْ كان لا شمس هناك ولا قمر، كما أن أمشاطهم الذهب والفضة، وإن كان لا وسخ ولا شعث ثم، ويقال: إنَّ ارتفاع الأشجار في الجنة مقدار مئة عام، فإن اشتهى ولي الله ثمرتها تدانت منه حتى يتناولها. وقال: {وَذُلِّلَتْ} أي سخرت لهم {قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي تسخيراً، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع، قال مجاهد: إن قام أحد ارتفعت له، وإن جلس تدلت عليه، وإن اضطجع دنت منه فأكل منها. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إذا همّ أن يتناول من ثمراتها تدلت إليه حتى يتناول منها ما يريد. وتذليل القطوف هو تسهيل التناول. رزقنا الله ذلك بمنه وكرمه آمين.

وأما قوله تعالى: {قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ}: ففي الكشاف للزمخشري، كيف قيل: هذا الذي رزقنا من قبل، وكيف تكون ذات الحاضر عندهم في الجنة هي ذات الذي رزقوه في الدنيا؟ قلت: إن معناه هذا مثل الذي رزقناه من قبل وشبهه بدليل قوله تعالى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً}، وهذا كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، لاستحكام الشبه كأنّ ذاته ذاته. و (قبلُ) مبني على الضم، لأنه حذف المضاف إليه ونوي ثبوت معناه. قال النحاس: واختلف النحويون في علة ضم قبل وبعد على بعضة عشر قولاً. وليس هذا محله. وقوله: (رزقنا من قبل) فيه ثلاثة أقوال للمفسرين: أحدها: أن المعنى: هذا الذي طمعنا من قبل - يعني في الجنة - فرزق الغداة كرزق العشي، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والضحاك ومقاتل لن طعام الجنة متشابه الصور كما يحكى عن الحسن

رضي الله عنه أنّ احدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك! فتقول الملائكة: كُل فاللون واحد، والطعم مختلف. الثاني: (هذا الذي رزقنا من قبل) يعني في الدنيا قال ابن مسعود وابن عباس أيضاً وقتادة ومجاهد وابن زيد أي قالوا: هذا الذي رزقناه من ثمرات الجنة مثل الذي كان رزقناه من ثمار الدنيا، أي في الصورة والاسم، وإلا فقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. كما تقدم. وإنما جعل ثمر الجنة كثمار الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه، فإن الطباع مائلة إلى المألوف نافرة عن غير المعروف. وبيانه: أن الإنسان بالمألوف آنس، وإلى المعهود أميل، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه، وعافته نفسه، ولأنه إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد، وتقدم له معه إلف، ورأى فيه مزية ظاهرة، وفضيلة بينة، وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً أفرط ابتهاجه واغتباطه،

وطال استعجابه واستعذابه، وتبين له كنه النعمة فيه، وتحقق مقدار الغبطة به. ولو كان من جنس لم يعهده وإن كان فائقاً حَسِبَ أنَّ ذلك الجنس لا يكون إلا كذلك فلا يتبين موقع النعمة حق التبين، بخلاف ما إذا رأوا شيئاً فائقاً من جنس ما رأوه سابقاً فيكون ذلك أبين للفضل وأظهر للمزية، وأجلب للسرور، وأزيد في التعجب من أن يفاجئوا بذلك الشيء من غير عهد سابق. الثالث: إن ثمر الجنة إذا جُني خلفه مثله، فإذا رأوا ما خلف المجنى اشتبه عليهم المجني فقالوا هذا الذي رزقنا من قبل. قال يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة. قال أبو عبيدة: إن نخل الجنة نضيد ما بين أصله إلى فرعه، وثمرها كأمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى.

لطيفة: أخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما من عبد يسبح الله تسبيحة، أو يحمده تحميدة، أو يكبره تكبيرة إلا غرس الله له بها شجرة في الجنة، أصلها من ذهب وأعلاها من جوهر مكللة بالدر والياقوت، ثمارها كثدي الأبكار، ألين من الزبد وأحلى من العسل، كلما جنى منها شيئاً عاد مكانه مثله. ثم تلا {لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}. وأما قوله تعالى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً}: فالظاهر أنها جملة مستأنفة، وكلام الزمخشري يشعر بأنها معترضة. وقيل: هي عطف على قالوا. وأتوا - بالبناء للمجهول في قراءة العامة - بمعنى جيئوا به.

وقرأ هارون بن موسى: وأتوا - بفتح الهمزة - بالبناء للفاعل، أي الخدم والولدان أتوا بالرزق. و (متشابهاً): منصوب على الحال من الضمير في (به) العائد على الرزق، بمعنى: المرزوق. والمتشابهة من الشِبْه والشَبَه وهما كالمِثل والمَثَل، والتشبيه: التمثيل، والمشابهة: المماثلة، والأمور المتشابهة: المشكلات، والمتشابهة: المتماثل، وحقيقة المتشابهة: الذي فيه شبه من غيره، حتى يكاد لا يتميز منه. وفي قوله تعالى هنا (متشابهاً) أربعة أقوال للمفسرين: أحدها: انه متشابه أي متماثل في المنظر واللون، مختلف في الطعم، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والربيع بن أنس وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل.

الثاني: أنه متشابه أي متماثل في جودته، لا رديء فيه ولا فاسد ولا متغير، بل كله خيار، يشبه بعضه بعضاً، قاله الحسن وقتادة وابن جريج. الثالث: أن التشابه إنما هو في الأسماء فقط، دون الألوان والطعوم، قاله أبو زيد والأشجعي، فلا تشبه ثمار الجنة شيئاً من ثمار الدنيا في لون ولا طعم، وإنما تتفق أساميها لا غير، وفي ذلك ترغيبهم في وجود لذات لم يعهدوها ولم يقفوا على غايتها. الرابع: إنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم والطعم، غير أنه أحسن في المنظر والمطعم، قاله قتادة وابن زيد ويحيى بن سعيد ومحمد بن كعب ومجاهد أيضاً.

وفي ذلك ترغيبهم في طلب ما عرفوه في الدنيا بلونه وطعمه، وزيادة نشاط لهم حيث وجدوا ما اتفقت صورها وتفاوتت معانيها. فإن قيل: فما وجه الامتنان بتشابهه وكلما تنوعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن؟ والجواب ما مرّ من انه متشابه في المنظر مختلف في الطعم، وما كان كذلك كان أغرب عند الخلق وأحسن، فإنك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفواكه كان نهاية في العجب. وإن قلنا: إنه متشابه في الجودة جاز اختلافه في الألوان والطعوم. وإن قلنا: إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني كان أظرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة.

وأما قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}: فأزواج جمع زوج وهو لغة: البعل، ويطلق على الذكر والأنثى، كما يأتي، ويطلق أيضاً على الذكر والأنثى من كل حيوان قال تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، وعلى الشفع من كل شيء، قال تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}، وعلى الصنف: قال تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً}، واللون: قال تعالى: {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي لون حسن، والقرين: قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ}. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها على أزواج - يعني - وهذه هي اللغة الفصيحة التي جاء بها القرآن. وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: زوجة، ويجمعونها على زوجات، انشد أبو الجراح: يا صاحِ بَلِّغ ذوي الزوجاتِ كلَّهُمُ ... أَنْ ليس وصلٌ إذا انحلتْ عُرى الذنبِ

وزعم الأصمعي أن العرب لا تكاد تقول زوجة. وفي تهذيب الأسماء واللغات: أهل نجد يقولون: زوجة للمرأة، وأهل مكة والمدينة يتكلمون بذلك أيضاً. وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة أهل الجنة: لكل واحد منهم زوجتان. هكذا هو في الصحيحين بالتاء، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه زوجتي فلانة - يعني: صفية - في حديثه الطويل الذي قال فيه: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. والمعنى هنا: ولهم في الجنات زوجات، وهن نساء الدنيا، وحور الجنة جميعاً، ليتم لهم بذلك الأنس والبسط والراحات، وتهنا لهم الجنة والأطعمة والأشربة والكرامات. وقوله سبحانه: (أزواج) - بصيغة الجمع - فيه إشارة إلى تعدد الأزواج في الجنة، وهو كذلك لما أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن

أبي هريرة رضي الله عنه أنهم تذاكروا: الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال: ألم يقل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما في الجنة أحد إلا وله زوجتان، إنه ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة، ما فيها عَزَبُ. وروى الترمذي وصححه والبزار عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يزوج العبد في الجنة بسبعين زوجة. فقيل: يا رسول الله: أيطيقها؟ قال يعطى قوة مئة.

وروى إمامنا أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وينصب له قبة من لؤلؤ وياقوت وزبرجد كما بين الجابية وصنعاء. جعلنا الله من أهل الجنة. آمين. وأما قوله تعالى: {مُّطَهَّرَةٌ}: فهذه هي قراءة الجمهور، وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي: مطهرات لأنه نعت للنسوة، وهي جمع زوج، وهما لغتان فصيحتان، يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات وفواعل والنساء فعلت، وهي فاعلة، فالجمع على اللفظ، والإفراد على تأويل الجماعة، أي جماعة أزواج مطهرة.

وقراء الجمهور أفصح، لأن الأكثر المسموع من العرب في نعت الجمع القليل: الألف والتاء، وفي نعت الجمع الكثير: الهاء وحدها، يقال: أحمر مستنفرات، وحمر مستنفرة، وبيوت خاوية. ولم يقل: طاهرة، لما قال الزجاج: إن مطهرة أبلغ من طاهرة، لأنه للتكثير. وفي الكشاف: فإن قلت: فهلا قيل: طاهرة؟ قلت: في (مطهرة) فخامة لصفتين ليست في طاهرة، وهي الإشعار بأن مطهراً طهرهن، وليس ذلك إلا الله عز وجل المريد بعباده الصالحين أن يخولهم كل مزية فيما أعد لهم انتهى. والطهارة: النظافة والنزاهة، والفعل منها طَهَرَ - بالفتح - ونقل الضم. واسم الفاعل منها: طاهر. والطهارة: خلاف الدنس، والتطهير: التنزه عن الإثم والقبح. واختف في تطهير نساء الجنة:

فقيل: مطهرات الأبدان في الخلقة، هن من المسك والكافور والعنبر والزعفران لا من التراب والمني والعلقة. وقيل: مطهرات الأبدان في الحال، فليس تحت الجلود دم ولا قيح، ولا في البطون ما في بطون البشر. وقيل: مطهرات الأبدان عن الأمراض والأعراض من الورد والدرن والصداع وسائر الأوجاع. وقيل: مطهرات الأبدان عن الولادة. وقيل: مطهرات الأبدان عما يخرج منها من بول أو مني أو غائط أو حيض أو نفاس أو مخاط أو بلغم. وقيل: مطهرات الأفعال فلا يصاخبن ولا يجادلن ولا يعترضن ولا يُعرضن ولا يغلطن القول ولا يسئن الفعل ولا ينشزن. وقيل: مطهرات الأخلاق فلا يحسدن ولا يحقدن ولا يبغضن ولا يغرن. وقيل: مطهرات من استرابة القلوب بهن فلا يملن إلى غير أزواجهن، ولا يقع في قلوب الرجال ما ينفر طباعهم عنهن.

قلت: كل من هذه الأقوال صحيح في حقهن، فهن - رزقنا الله أزواجاً منهن - مطهرات من الغائط والبول والحيض والنفاس والدرن والمخاط والبزاق والمني والقيء والولد ودنس الطبع وسوء الخلق وكل قذر وكل دنس. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: (مطهرة) نقية من القذر والأذى. وفي الحديث في قوله سبحانه وتعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ}: خيرات الأخلاق حسان الوجوه. ويروى: لسن بذربات ولا دفرات ولا فجرات ولا متطلعات، ولا متشرفات ولا متسلطات ولا مائلات ولا طوافات في الطرق، ولا يغرن ولا يؤذين.

وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لا مرحات ولا طماحات، ولا بخرات ولا دفرات حور عين {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ}. قال الأوزاعي: خيرات لسن بذربات اللسان ولا يغرن ولا يؤذين. وفي حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها - من رواية الطبراني -: يقلن: ألا نحن الخالدات فلا نموت أبداً، ألا ونحن

الناعمات فلا نبأس أبداً، ألا ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً، طوبى لمن كنا له وكان لنا. وروى الطبراني بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهنَّ بأحسن أصوات، ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام ينظرن بقرة أعيان وإن مما يغنين: نحن الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه. وروى إمامنا أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قال: تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب، وأنه يكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك.

وروى الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: لو أن امرأة من نساء أهل الجنة بصقت في سبعة أبحر لكانت تلك الأبحر أحلى من العسل. وروى البزار والطبراني عن سعيد بن عامر بن حِذْيَم رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرفت لملأت الأرض ريح مسك، ولأذهبت ضوء الشمس والقمر. فثبت بذلك أنهن مطهرات وأي مطهرات.

لطيفة: اختلف المفسرون في تسميتهن بالحور العين: فقال مجاهد: سميت حوراً لأنه يحار فيها الطرف، باد مخ ساقها من وراء ثيابها، فينظر الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجد وصفاء اللون. وقال مكي: سمي نساء الجنة بالحور لبياضهن، ومنه قيل للدقيق: الحُوَّارى، ومنه الحواريون، لبياض ثيابهم. قال: والحور في العين هو شدة سواد الحدقة مع بياض ما حولها، والعين هن الكبيرات الأعين، يقال: امرأة عيناء ورجل أعين. تنبيه: قد ظهر مما قررناه من الأحاديث وغيرها أن الحور كالآدميات من لحم وعظم ومخ ساق وغير ذلك، وهذا أدعى للشهوة، وأقرب للذة، فإن الطباع مائلة إلى المعروف، نافرة عن غير المألوف، وقد سُئلت عن هذا فأفتيت بهذا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

- وأما قوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. فاعلم أن مجاميع اللذات إما المسكن وإما المطعم والمشرب وإما المنكح، فوصف تعالى المسكن بقوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} والمطعم بقوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً} والمنكح بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}. ثم هذه الأشياء إذا حصلت وقارنها خوف الزوال كان النعيم منغصاً، والعيش مكدراً فبين تعالى زوال هذا الخوف بقوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فدلت الآية على كمال النعيم والسرور، ومزيد النعمة والحبور،

لأن الخلود هنا هو البقاء الدائم الذي لا انقطاع له ولا غاية لمنتهاه.

وهل يطلق الخلود على ما لا نهاية له ولا انقطاع بطريق الحقيقة أو المجاز؟ قولان: قالت المعتزلة: الخلد هو الثبات اللازم والبقاء الدائم الذي لا ينقطع. واحتجوا على ذلة بالآية وغيرها. وقال ابن الخطيب: قال أصحابنا: الخلد هو الثبات الطويل سواء أدام أم لم يدم. واستدلوا بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً}، ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد لكان ذلك تكراراً. وقال بعضهم: حقيقة الخلود الدوام من وقت الابتداء. ولهذا لا يجوز أن يقال لله تعالى أنه خالد، لنه قديم أزلي لا ابتداء له، والبقاءُ الأبدي في الجنة لأهلها هو قول جميع أهل الإسلام، فقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على خلود أهل الجنة فيها أبداً، وعلى ذلك إجماع أهل السنة والجماعة. وأجمعوا على أن عذاب الكفار لا ينقطع كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع، يدل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة خلافاً للجهمية حيث ذهبوا إلى أن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما، وخلافاً لأبي الهذيل المعتزلي وموافقيه حيث قالوا: ينقطع عذاب الكفار، وله غاية ونهاية، واحتجوا على ذلك بالمنقول والمعقول:

فاحتجوا من القرآن بآيات: الأولى: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ}، فدل هذا النص على انقطاع عذابهم، لأن مدة السموات والأرض متناهية، فلزم أن تكون مدة العقاب منقطعة. الثانية: قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناء من مدة عذابهم، وذلك يدل على الزوال. الثالثة: قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} فبين تعالى أن لبثهم في العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة. وأما المعقول فوجهان: أحدهما: أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب ما لا نهاية له ظلم وهو على الله تعالى محال.

ثانيهما: أن العقاب ضرر خال من النفع فيكون قبيحاً، لأن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لتعاليه عن النفع والضر، ولا إلى العبد لأنه ضرر محض، ولا إلى أهل الجنة لأنهم مشغولون بلذاتهم، فلا فائدة لهم في الالتذاذ بعقاب دائم في حق غيرهم، بل القلوب الرحيمة تتألم بذلك غاية التألم كما هو مشاهد. وقد بينت شبههم والرد عليهم في مؤلف لطيف وسميته توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين. وأيضاً: فلأن أهل الجنة لو علموا بالزوال لكانوا في أشد عقوبة، وأهل النار لو علموا بالفناء لكانوا في أشد راحة، فيصير الثواب عقاباً، والعقاب ثواباً. والله سبحانه وتعالى أعلم.

خاتمة

خاتمة روى الشيخان البخاري ومسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويُقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت فيها، ويا أهل النار خلود ولا موت فيها. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وأشار بيده إلى الدنيا. وفي لفظ للبخاري: وهم في غفلة، وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا وهم لا يؤمنون. قوله: فيشرئبون - بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الراء بعدها تحتية مهموزة ثم موحدة مشددة - أي يمدون أعناقهم ويرفعون رؤوسهم للنظر.

وروى الحاكم وصححه وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالموت في هيئة كبش أملح فيوقف على الصراط فيقال: يا أهل الجنة، فيطلعون خائفين وجلين مخافة أن يخرجوا مما هم فيه فيقال: هل تعرفون هذا. فيقولون: نعم هذا الموت. فيقال: يا أهل النار، فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا مما هم فيه، فيقال: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. فيؤمر به فيذبح على الصراط، ويقال للفريقين: خلود فيما تجدون لا موت فيها أبداً. والأحاديث في هذا كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية لمن تدبر وتأمل واستبصر، والله أسأل الوفاة على الإسلام والنظر إلى وجهه الكريم في دار السلام آمين.

§1/1