الكلام على وصول القراءة للميت لابن سرور المقدسي

المقدسي، ابن أَبي السُّرُور

الرسالة الثانية الكلام على وصول القراءة للميت تأليف أبي بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن سرور المقدسي 676 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم الفاضل الورع الناسك الحبر البليغ المتقن المفيد المسند قاضي القضاة شيخ الشيوخ شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيح الإمام العالم عماد الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد ابن علي بن سرور المقدسي الحنبلي، قدس الله روحه ونور ضريحه. سأل سائل عن قوله سبحانه وتعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ، وما العذر عنها في عدم وصول ثواب القرآن إلى الميت؟ فأجبته: بأن العلماء اختلفوا فيها على ثمانية أقوال: أحدها: أنها منسوخة بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ} أدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء، قاله ابن

عباس. وإنما جاء نسخاً وإن كانت خبراً لجوازه إذا كان بمعنى الأمر والنهي على ما قيل.

القول الثاني: أنها خاصة بقوم إبراهيم وقوم موسى عليهما السلام، فأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم، قاله عكرمة، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم للتي سألته أن أبي مات ولم يحج قال: ((حجي عنه)) .

القول الثالث: أن المراد بالإنسان هاهنا الكافر، فأما المؤمن فله ما سعى وما سعي له، قاله الربيع بن أنس. القول الرابع: ليس للإنسان إلا ما سعى من طريق العدل، أما من باب الفضل فجائز أن يزيده الله ما شاء، قاله الحسين بن الفضل. القول الخامس: أن معنى {ما سعى} ما نوى، قاله أبو بكر الوراق ودل عليه بما روي في الحديث: ((إن الملائكة تصف كل

يوم بعد العصر بكتبها في السماء الدنيا، فينادي الملك: الق تلك الصحيفة، فيقول: وعزتك ما كتبت إلا ما عمل، فيقول الله عز وجل: لم يرد به وجهي، وينادي الملك الثاني: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول الملك: وعزتك إنه لم يعمل ذلك، فيقول الله عز وجل: إنه نواه، إنه نواه)) . القول السادس: إنه ليس للكافر من الخير إلا ما عمله في الدنيا فيثاب عليه فيها، حتى لا يبقى له في الآخرة خير، ذكره الثعلبي. القول السابع: إن اللام في الإنسان بمعنى على، تقديره ليس على الإنسان إلا ما سعى. القول الثامن: أن ليس له إلا سعيه، غير أن الأسباب مختلفة فتارة فيكون سعيه في تحصيل الشيء بنفسه، وتارة يكون سعيه في تحصيل سببه، مثل سعيه في تحصيل قراءته، وولدٍ يترحم عليه، وصديق يستغفر، وتارة يسعى في خدمة الدين والعبادة فيكتسب محبة أهل الدين

فيكون ذلك سبباً حصل بسعيه. حكى هذين القولين الشيخ الإمام أبو الفرج ابن الجوزي عن شيخه علي بن الزاغواني رحمهما الله تعالى. $فصل$ ومما أستدل به العلماء على وصول ذلك إلى الأموات أوجه: أحدها: مما روى أبو بكر النجار في سننه بإسناده في كتاب الجنائز من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن العاص بن وائل كان نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشام بن العاص نحر حصته من ذلك، خمسين بدنة أفتجزئ عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أباك لو كان آمن بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت أو أعتقت عنه، بلغه ذلك)) . فوجه الحجة أنه صلى الله عليه وسلم سوى بين الصوم والصدقة والعتق في الوصول إليه. الدليل الثاني: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله فقال:

يا رسول الله! صلى الله عليك، كان لي أبوان وكنت أبرهما حال حياتهما، فكيف لي بالبر بعد موتهما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البر بعد البر، أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تتصدق لهما مع صدقتك)) ، رواه الدارقطني. الدليل الثالث: ما روى القاضي أبو يعلى بإسناده عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من مر على المقابر فقرأ: {قل هو الله أحد} إحدى عشر مرةً ثم وهب أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات)) ، رواه الدارقطني أيضاً.

الدليل الرابع: ما روى أبو بكر عبد العزيز صاحب الخلال بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات)) . وبإسناده أيضاً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من زار قبر والديه أو أحدهما فقرأ عنده أو عندهما يس غفر الله له)) .

الدليل الخامس: ما روى أبو حفص بن شاهين بإسناده عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قال الحمد لله رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله العظمة في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، لله الملك رب السماوات ورب الأرض رب العالمين، وله النور في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، لله الحمد رب السماوات ورب الأرض وهو العزيز الحكيم، مرةً واحدة، ثم قال: اللهم اجعل ثوابها لوالدي لم يبق لوالديه حق إلا أداه إليهما)) . وذكر القاضي الإمام أبو الحسن الفراء في كتابه بإسناده أن أنس بن مالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إنا نتصدق عن موتانا ونحج وندعوا لهم، فهل يصل ذلك إليهم؟ فقال: ((نعم إنه ليصل إليهم، ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه)) . رواه أبو حفص العكبري.

وروي بإسناده عن سعد أنه قال: يا رسول الله! إن أمي توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: ((تصدق عن أمك)) ، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: ((سقي الماء)) . وبإسناده عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن أبي مات أفأعتق عنه؟ قال: ((نعم)) . وبإسناده عن أبي جعفر محمد بن علي أن الحسن والحسين عليهما السلام ((كانا يعتقان عن علي رضي الله عنه وأرضاه)) . وروى مقاتل بن سليمان في أثناء تفسير الخمس مائة آية قال:

قال معاذ بن جبل: يا رسول الله! كان لأمي نصيب مما أعطي، تتصدق منه وتقدمه لنفسها وإنها ماتت ولم توصي، وقد كنت أعرف البركة فيها تعطي، وبكى معاذ بن جبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبلي الله عينيك يا معاذ، أتحب أن تؤجر أمك في قبرها)) ؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: ((فانظر ما كنت تعطيها فامضه على الذي كانت تفعل، وقل: اللهم تقبل من أم معاذ، ومن جميع المسلمين عامة)) ، قال: قالوا يا رسول الله! فمن لم يكن منا ورقٌ يتصدق به عن أبويه أيحج عنهما؟ قال: ((نعم ويؤجرون عليه، وأن يصل رحم رحمه بأفضل من أن ينفعه بحجه في قبره، فإذا كان عند الإحرام، فليقل: لبيك عن فلان، وإذا كان في سائر المواقيت فليقل: اللهم تقبل من فلان، وأوفوا عنهم بالنذور والصيام، والصدقة أفضل وأحق من قضاء عن المرء والمرأة ذو الرحم إن كان)) . وروى ابن النجار في كتابه الصحيح بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: ((نعم)) ، قال: فإن لي مخرافاً فأشهدك أني قد تصدقت به عنها.

وروى الحافظ اللالكائي بإسناده في كتابه ((شرح السنة)) عن أبي أسيد وكان بدرياً قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من الأنصار قال: هل بقي علي من بر والدي شيءٌ من بعدهما أبرهما به؟ قال: ((نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهذا الذي بقي عليك من برهما)) . وروي أيضاً بإسناده عن أبي هريرة قال: ((يموت الرجل ويدع ولداً فترفع له درجة، قال فيقول: يا رب ما هذا؟ قال: فيقول استغفار ولدك لك)) . وبإسناده عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اقرؤوا

على موتاكم يعني يس)) . وبإسناده عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال لولده: إذا مت فادخلتموني في اللحد فهيلوا علي التراب هيلاً، وقولوا: بسم الله وعلى ملة رسول الله، وسنوا علي التراب سناً، واقرؤوا عند رأسي بفاتحة سورة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت عبد الله يستحب

ذلك، يعني عبد الله بن عمر. وأخرج الإمام أبو حاتم محمد بن حبان في كتابه ((المسند الصحيح)) بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فخرجنا معه حتى انتهينا إلى المقابر فأمرنا، فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علينا فتلقاه عمر رضي الله عنه وقال: ما الذي أبكاك يا رسول الله! فقد أبكيتنا وأفزعتنا، فأخذ بيد عمر ثم أقبل علينا فقال: ((أفزعكم بكائي)) ؟ قلنا: نعم، قال: ((إن القبر الذي رأيتموني أناجي، قبر آمنة بنت وهب، وإني سألت ربي عز وجل الاستغفار لها فلم يأذن لي فنزل علي: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد من الرقة فذاك الذي أبكاني، ألا وأني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا، وترغب في الآخرة)) .

فدل على أن الاستغفار ينفع المؤمنين، وهو الدليل السادس

وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنك رءوفٌ رحيمٌ} . وهو وإن كان دعاء، إلا أنه قرآن فيحصل ثوابه، وهذا الدليل يشمل على أدلة متعددة يمكن أن يستقل كل واحد منها بالغرض. الدليل السابع: من حيث المعنى أنا نقول من إحدى العبادات فاشبهت الواجبات. الدليل الثامن: أن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم ولم ينكره منكر، فكان إجماعاً، واستدل المخالف بالآية وقد سبق الكلام عليها بما يغني عن إعادته.

ومما استدلوا به أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به من بعده، وصدقة داره)) .

وروي: ((صدقة غرست، وبئر حفرت يشرب من مائها، ومصحف كتبه)) . أجاب العلماء عنه بأن قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بانقطاع عمله من هذه الجهة الخاصة فلا يلزم انقطاعه من غيرها من الجهات، ولهذا

أجمعنا واتفقنا على وصول الحج إليه، وعلى قضاء الديون عنه، وقال عليه السلام في قضاء الدين عنه: ((الآن بردت جلدته)) ، وروي: ((الآن فككت رهانه)) . قالوا: أجمعنا على وصول عبادات تدخلها النيابة في حال الحياة، والقراءات لا تدخلها النيابة.

قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صل لهما مع صلاتك، وصم لهما مع صومك)) ، وهما عبادات بدنيتان، ونص صلى الله عليه وسلم على قراءة يس.

ثم إن حقيقة الثواب لا فرق في نقله بين أن يكون عن حج أو صدقة أو وقف أو صلاة أو استغفار أو قضاء دين. فقدرة الله سبحانه وتعالى صالحة للكل من غير فرق لمن أنصف. وتطابق الأحاديث التي ذكرناها تدل دلالة ظاهرة على ذلك، نسأل الله حسن التوفيق لكل خير. ومن العجب إنكار هذه المسألة، وقد روي في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: ((إن صاحب هذين القبرين ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه لكبير كان أحدهما لا يستتر من البول)) ، وروي: ((لا يستنزه من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة بين الناس ثم دعا بجريدة رطبة فشقها باثنين ثم غرز على قبر واحدة، فقال: إنه ليخفف عنهما ما لم ييبسا)) .

قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله، وكان إماماً كبير الشأن

في الفقه والحديث واللغة والأصول وغير ذلك من فنون العلم، وكان

شافعياً فقال: (هذا عند أهل العلم محمول على أن الأشياء ما دامت على أصل خلقتها أو خضرتها وطراوتها فأنها تسبح الله عز وجل حتى تخف رطوبتها أو تحول خضرتها أو تقطع من أصلها، فإذا خففت عن الميت بوضعه صلى الله عليه وسلم الجريدة على قبره فبطريق الأولى أن يكون ذلك بالقرآن الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى) .

وذكر الغزالي في ((إحياء علوم الدين)) ، وهو من أحسن تصانيفه:

ولا بأس بقراءة القرآن على القبر قال: وروي عن علي بن موسى الحداد قال كنت مع الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في جنازة، ومحمد بن قدامة الجوهري معنا، فلما دفن الميت جاء رجل ضرير فقرأ عند القبر فقال له أحمد: (يا هذا إن القرآن عند القبر بدعة) ، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر بن إسماعيل الحلبي؟ فقال: ثقة. فقال: هل كتبت عنه شيئاً؟ قال: أخبرني مبشر بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن اللجلاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال: سمعت ابن عمر يوصي بذلك، فقال: أحمد فارجع إلى الرجل فقل له يقرأ.

وعلى هذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه حتى أنه قال: إذا صح وكنت

قلت بخلافه فالحديث مذهبي، والمنقول عنه في هذا كثير، يطول ذكره ولو استقصينا ما قال العلماء في ذلك لطال وإنما اقتصرنا على ما ذكرناه خوفاً من الملل والإضجار وقد تحصل ما لا يحصل من الإكثار. نسأل الله أن ينفعنا به ومن سمعه أو تعلمه أو علمه أو عمل به إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.