الكلام على مسألة السماع

ابن القيم

مؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية SULAIMAN BIN ABDUL AZIZ AL RAJHI CHARITABLE FOUNDATION حقوق الطبع والنشر محفوظة لمؤسسة سليمان بن عبد العزيز الراجحي الخيرية الطبعه الأولى 1432 هـ دَار عَالم الفوَائد للنشر والتَّوزيْع مكة المكرمة هاتف: 5473166 - 5353590 - فاكس: 5457606 الصف وَالإخراج دار عالم الفوائد للنشر وَالتوزيع

رَاجَعَ هَذا الجزء مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلَاحِي عبد الرحمن بن حسن بن قائد

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا كتاب في السماع والغناء ألَّفه علم من الأعلام، بَسَط فيه الكلام على هذا الموضوع، وردَّ على جميع الشُّبه التي أُثيرت في هذا الباب، وقام بالمقارنة بين ذوق الصلاة والقرآن وذوق السماع والغناء، وبيَّن أن أحدهما منافٍ للآخر، ولا يمكن أن يجتمعا في قلب واحدٍ. ومن الغريب أن تجعله طائفة من الصوفية ذريعة لتصفية القلوب وإثارة العواطف النبيلة، وتتخذه قربةً تتقرَّب بها إلى الله، مع ما ينضم إليها من المنكرات، مثل استخدام آلات اللهو والموسيقى، والنظر إلى النساء والمردان، والرقص والطرب والدوران، والتواجد وخرق الثياب، والنخير والشخير والصياح، وكل ذلك من اللغو واللهو والباطل الذي نُهي المسلمون عنه في القرآن الكريم. وقد ردّ العلماء والفقهاء على أصحاب السماع، وألَّفوا كتبًا كثيرة في هذا الباب، ومن أوسعها وأشملها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، تناول فيه الإمام ابن القيم هذا الموضوع بأسلوبه المعروف، وأجرى الحوار بين صاحب الغناء وصاحب القرآن، وأورد جميع ما يحتج به أهل السماع والغناء، وناقشهم مناقشة علمية تفصيلية. وفي أثناء الكتاب فوائد منثورة في موضوعات مختلفة، من تفسير

موضوع الكتاب ومن ألف فيه

آية أو شرح حديث أو بيان مسألة فقهية أو ذكر شيء من مباحث العقيدة والسلوك، كما هو منهج المؤلف في سائر كتبه. وقد اعتمد كثيرًا على كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب، وخاصة في القسم الثاني من الكتاب، وسيأتي البحث في طريقة الاستفادة منه في مبحث خاص إن شاء الله. وهذه فصول تحتوي على دراسة الكتاب وموضوعه والأصل المعتمد عليه عند إخراجه، وغير ذلك من المباحث التي أرجو أنني قد وُفّقتُ فيها. * موضوع الكتاب ومن ألَّف فيه: الكتب المؤلفة في موضوع السماع كثيرة، ولستُ هنا بصدد إحصائها وبيان ما طبع منها وما لم يطبع (¬1)، وإنما يُهمُّني بيان الباعث ¬

_ (¬1) ذكر حاجي خليفة في "كشف الظنون" (2/ 1001) بعض هذه المؤلفات، وذكر بعضها عبد الحي الكتاني في "التراتيب الإدارية" (2/ 132 - 134) ولكنه لم يُشِر إلى الكتب المؤلفة في الرد على أهل السماع إلّا قليلًا، لأن هواه كان معهم. وللمستشرق فارمر "مصادر الموسيقى العربية" (ط. القاهرة 1957)، ذكر فيه أكثر المطبوعات والمخطوطات. وصنع عبد الحميد العلوجي ببليوغرافيا بعنوان "رائد الموسيقى العربية" (ط. بغداد). وأورد عبد الله محمد الحبشي في "معجم الموضوعات المطروقة" (1/ 633 - 635، 2/ 902 - 904) قائمة للكتب المؤلفة في الباب ينقصها ذكرُ عددٍ من الكتب المطبوعة المشهورة، فضلًا عن المخطوطات. وفي "المعجم الشامل للتراث العربي المخطوط" (الفقه والأصول) استقصاء النسخ الخطية لكتب السماع التي ورد ذكرها فيها، ولكنها =

على التأليف فيه، وذكر أشهر من ألَّف فيه من الصوفية والظاهرية، ومن ردَّ عليهم من العلماء. وكان المُحدِّثون سبَّاقين إلى هذا الميدان، فألَّفوا كتبًا في ذم الغناء واللهو والمعازف، من أشهرها: "ذم الملاهي" لابن أبي الدنيا (ت 282)، و"تحريم النرد والشطرنج والملاهي" للآجري (ت 360)، ذكروا فيها الأحاديث والآثار بالأسانيد، لتحذير الناس من الاشتغال بها. وقد كان السماع عند زهاد القرنين الأول والثاني هو سماع القرآن والأحاديث والأشعار الدينية التي تدعو إلى القيام بواجبات الشرع ونواهيه، والتذكر الدائم للوعد والوعيد، ولكنه منذ القرن الثالث تحوَّل عند الصوفية إلى أمر آخر، فجعلوا له آدابًا وشروطًا، وقسَّموه أقسامًا بحسب المستمعين، وأدخلوا فيه الغناء بآلات اللهو والمعازف، والرقص والطرب وخرق الثياب لشدة الوجد، وصدر عنهم الشخير والنخير والزعقات في مجالس السماع، واتخذوا ذلك وسيلةً لتصفية القلوب وتزكيتها، وزعموا أنه يزيد في أذواقهم ومواجيدهم الإيمانية، وأنه قربةٌ يتقرب بها إلى الله. ومن يراجع مؤلفات الصوفية في السلوك يجد فيها أبوابًا وفصولًا ¬

_ = مفرقة على الحروف تحتاج إلى تتبع واستخراج. وفي مقدمات بعض الكتب المنشورة في السماع قوائم أعدَّها محققوها، وفيها كثير من الخلط والاضطراب والتكرار، وأخطاء في أسماء الكتب والمؤلفين ووفياتهم. وينبغي الاهتمام بنشر ما لم ينشر من هذه المؤلفات.

تتحدث عن السماع وآدابه وبيان تأثيره في القلوب، وتذكر أقوال الصوفية وأعمالهم في هذا المجال، وتحتج له بأخبار وآثار مروية بغضّ النظر عن ثبوتها ودلالتها على المطلوب. وهذه بعض المصادر المهمة في هذا الموضوع: - اللمع، لأبي نصر السرَّاج (ت 378): ص 338 - 374. - التعرف لمذهب أهل التصوف، للكلاباذي (ت 380): ص 190 - 191. - قوت القلوب، لأبي طالب المكي (ت 386): 2/ 61 - 62. - رسالة في السماع، لأبي عبد الرحمن السلمي (ت 412): مخطوطة في كوبريللي [1631]. - الرسالة القشيرية، لأبي القاسم القشيري (ت 465): 2/ 504 - 519. - إحياء علوم الدين، للغزالي (ت 505): 2/ 268 - 306. - صفوة التصوف، لابن طاهر المقدسي (ت 507): ص 298 - 330. - عوارف المعارف، للسهروردي (ت 632): ص 108 - 121. وبالاعتماد على هذه المصادر وغيرها ألَّفوا كتبًا مفردة في إباحة السماع، وكان لبعض الظاهرية أيضًا إسهام في هذا الميدان، مثل ابن حزم (ت 456) الذي ألَّف "رسالة في الغناء الملهي"، وابن طاهر المقدسي (ت 507) الذي ألَّف كتاب "السماع".

وقد أنكر العلماء والفقهاء من جميع المذاهب على أصحاب السماع، وردُّوا على شبههم، وأبطلوا احتجاجهم ببعض الأخبار والآثار، وناقشوا آراءهم، وألَّفوا في تحريم السماع مؤلفات مفردة، وخصصوا بعض الفصول والأبواب في كتب الفقه والأخلاق لبيان حكم السماع في الشرع. وسنذكر فيما يلي أشهر العلماء الذين ألفوا في هذا الباب: 1 - أبو الطيب الطبري (ت 450): له "رسالة في الرد على من يحب السماع" (¬1) استفاد منها كل من ألَّف بعده في الموضوع، وهي عبارة عن فتوى، ذكر فيها أقوال الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة في الغناء، ونقل إجماع علماء الأمصار على كراهته والمنع منه، ثم ذكر الآيات والأحاديث الدالة على ذم الغناء، وأتبعها بأقوال الصحابة والتابعين. ثم ذكر شُبَه المفتونين بالسماع، وبيَّن حكم إنشاد الشعر وسماعه من غير تلحين، وذكر معنى التغنّي بالقرآن، وأنكر على من أباح النظر إلى المردان وزعم أنه قصد به الاستدلالَ على الصانع. وفي الأخير ذكر المؤلف سبب اشتغالهم بالسماع والنظر والرقص، وهو تناولهم لألوانٍ من الأطعمة الطيبة والمآكل الشهية مما يُرغّبهم في السماع وغيره من المنكرات. ولو أنهم تقللوا من الغذاء والشراب لم يلجأوا إلى الغناء والرقص والنظر. ¬

_ (¬1) طبعت بتحقيق مجدي فتحي السيد من دار الصحابة للتراث، بطنطا (مصر) 1410. وهي طبعة رديئة كثيرة الأخطاء والتحريفات.

2 - أبو بكر الطرطوشي (ت 520): ألَّف كتاب "تحريم الغناء والسماع" (¬1)، ذكر فيه أقوال الأئمة أولًا، وبيَّن أن العود والطنبور وسائر الملاهي حرام، ومستمعه فاسق، ثم استدلَّ على ذلك بالآيات والأحاديث والآثار، وعقد فصلًا لبيان أن الغناء صنو الخمر في التأثير، وهو جاسوس العقل وسارق المروءة والعقول. وفي فصل آخر ذكر الإجماع على تحريم سماع الغناء من المرأة وأنها عورة. ثم ذكر احتجاج المبيحين للسماع ببعض الأحاديث وردَّ عليهم، ورد على دعوى الصوفية أنهم يسمعون الغناء بالله وفي الله. ثم ذكر شبهة أن جماعة من الصالحين سمعوه، وردَّ عليها بقوله: ما بلغنا أن أحدًا من السلف الصالح فعلَه، وإن كان فعله أحدٌ من المتأخرين فقد أخطأ، ولا يلزم الاقتداء بقوله. ثم عقد فصلًا ذكر فيه ردَّ شيوخ الصوفية على من أباح السماع، وناقش احتجاج بعض الصوفية لإباحته. وعقد فصلًا في كراهة قراءة القرآن بالألحان وبيَّن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "زيّنوا القرآن بأصواتكم"، واعتبر شهوة السماع مثل شهوة الأكل، كلتاهما مذمومة، وقال: إن السماع فتنة مثل النظر إلى وجوه المردان، وردَّ على من يبيح النظر إليهم بحجة الاستدلال على الله. وفي الختام تحدث عن الرقص والطرب وتمزيق الثياب الحاصل في مثل هذه المجالس، وأن كل ذلك مخالف للمروءة. وختم الكتاب بفصل عن اللعب بالشطرنج، وذكر أقوال الأئمة ¬

_ (¬1) طبع بتحقيق عبد المجيد تركي، من دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997 م.

والأحاديث والآثار في تحريمه أو كراهته. وردَّ على أبي إسحاق الشيرازي القائل بإباحته. 3 - ابن الجوزي (ت 597): عقد فصلًا في كتابه "تلبيس إبليس" (ص 222 - 250) بعنوان "ذكر تلبيس إبليس على الصوفية في السماع والرقص والوجد"، ذكر فيه أن الناس تكلموا في الغناء وأطالوا، فمنهم من حرمه ومنهم من أباحه ومنهم من كرهه، وفصل الخطاب أن نقول: ينبغي أن يُنظَر في ماهية الشيء ثم يُطلَق عليه الحكم. ثم ذكر أنواع الغناء، منها ما لا خلاف في إباحته، ولكن الغناء المعروف اليوم الذي يكون بألحان مختلفة بآلات المعازف، والذي يُخرِج سامعها عن حيز الاعتدال ويثير فيه حبّ الهوى والشهوات، فهذا لا يقاس بإنشاد الشعر المجرد، وغناء الحجيج والغزاة، والحداء ونشيد الأعراب، والغناء في أيام العيد وحفلات الزواج. وتسوية الغناء المعروف بالأنواع المذكورة من تلبيس إبليس الذي وقع فيه كثير من الناس. ثم ذكر المؤلف مذاهب الأئمة الأربعة في ذم الغناء والسماع، وذكر الأدلة من القرآن والأحاديث والآثار، والعلة في النهي عن الغناء أنه يُخرج الإنسان عن الاعتدال ويغير العقل. ثم ذكر الشُّبَهَ التي تعلَّق بها من أجاز سماع الغناء، وردَّ عليها، وانتقد صنيع أبي نعيم الأصفهاني وابن طاهر المقدسي وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي طالب المكي والحاكم والغزالي في الاحتجاج له بأمور لا تدلُّ على المطلوب. ثم ردَّ على أولئك الذين آثروا السماع على قراءة القرآن، وجعلوه قربة إلى الله.

وعقد فصولًا (ص 250 - 277) للرد على الصوفية في الوجد والرقص وتقطيع الثياب وصحبة المردان والنظر إليهم، فصَّل فيها الكلام على هذه الموضوعات، ولم يترك شبهة تعلقوا بها إلا ردَّ عليها. 4 - ابن قدامة (ت 620): له "فتيا في ذمّ الشبّابة والرقص والسماع" (¬1)، ذكر فيها أن المشتغل بهذا ساقط المروءة مردود الشهادة، وأن هذا معصية ولهو ولعب، ولا يُتقرب إلى الله بمعاصيه. ثم ذكر أقوال الأئمة في ذمه، وأنه لم يُنقَل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من الصحابة أنه سمع الغناء، وإنما كان يفعله الفسَّاق. وإذا انضّم إلى ذلك النظر إلى النساء والمردان سلَب الدين وفتَن القلب، كما وردت بذلك الأحاديث والآثار. وحضور المعازف واستماع الأغاني مما ينبت النفاق في القلب، فمن أحبَّ النجاة والسلامة فعليه باتباع الكتاب والسنة ولزوم طريق السلف، فإنه الصراط المستقيم. والحق واضح لمن أراد الله هدايته. 5 - أبو العباس القرطبي (ت 656): ألف "كشف القناع عن حكم الوجد والسماع" (¬2)، وصف في ¬

_ (¬1) نشرها أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري بالقاهرة سنة 1397، وأعاد نشرها ضمن "الذخيرة من المصنفات الصغيرة" (1/ 215 - 238) ط. الرياض 1404. ونشرت أيضًا بعنوان "ذم ما عليه مدّعو التصوف من الغناء والرقص والتواجد" بتحقيق زهير الشاويش في المكتب الإسلامي بيروت 1403 هـ. (¬2) نشره عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي في الرياض سنة 1411.

مقدمته سماع الصوفية في زمانه، حيث كانوا يستدعون المعروفين بصنعة الغناء ومعهم آلات اللهو والمعازف، فيغنّون في المجالس، ويقوم الحاضرون ويطربون ويرقصون، ومنهم من يكون له زعيق وزئير. وذكر أن هذا السماع لا يُختلف في تحريمه وفحشه، وخاصةً إذا جُعل ذلك من أفضل العبادات وأجلِّ القربات. وقد بحث المؤلف هذه المسألة بطريقة علمية، حيث ذكر الدليل وأوضح وجه الدلالة منه، ثم أورد عليه أسئلة وأجاب عنها، ثم ذكر دليل المخالف وناقشه مناقشة علمية، ثم توصل إلى نتيجة. وقد حرَّر المؤلف محلَّ النزاع في المسألة، وبيَّن الصحيح من السقيم والحلال من الحرام. وقسَّم الكتاب إلى أفراد المسائل، وبحث عنها مسألة مسألة، فتحدَّث عن معنى الغناء وأقسامه وحكمه، وقراءة القرآن بالألحان، وسماع غناء المرأة والأمرد، وحكم سماع آلات اللهو، والرقص، والتواجد والوجد، وتمزيق الثياب وإلقائهم الخِرق في حال السماع. وختم الكتاب بفصلين: الأول في التحذير من البدع، والثاني في بيان سماع الصادقين وبيان أحوالهم فيه، فذكر أن سماعهم إنما كان القرآن، يتدارسونه ويتفاوضون فيه، ويتدبرون معانيه، ويستعذبونه في صلواتهم، ويأنسون به في خلواتهم. وأورد من الآيات والأحاديث والآثار ما يدلُّ على ذلك. 6 - محمود الدشتي (ت 665): ألف كتابه "النهي عن الرقص والسماع" (¬1)، ذكر فيه أولًا أخلاق ¬

_ (¬1) طبع بتحقيق علي مصري سيمجان فوترا، من دار السنة بالرياض 1428. أطال =

النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، وصفاتهم وكلامهم وسيرهم، ونفورهم من البدع ولزوم طريق السنة، وتحذيرهم من المحدثات. ثم عقد فصلًا في تحريم السماع بالكتاب والسنة والإجماع (ص 367 - 412). ثم ردَّ على الشبه التي تعلق بها الصوفية في إباحة الرقص والغناء والسماع، ونقل إجماع أئمة المذاهب والعلماء على تحريمه، ثم ردَّ على الصوفية في استماعهم إلى المزامير والشبابات، وفرَّق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وبين الكهانة والكرامة، وذكر منهج السلف في الدعوة إلى الله والتمسك بالسنة. ثم عاد إلى إبطال شبهٍ أخرى عند الصوفية في إباحة الرقص والغناء، ونصح أخيرًا بالابتعاد عن الملاهي. وقد أورد المؤلف في الكتاب نقولًا مهمة من كتب مفقودة في هذا الموضوع، وشعرًا كثيرًا من نظمه ونظم غيره من العلماء. 7 - ابن تيمية (ت 728): له عدة فتاوى في هذا الموضوع (¬1)، وقد ذكر أن السماع المشروع هو سماع آيات القرآن، وذم الله المعرضين عنها، أما سماع المكاء ¬

_ = المحقق في ترجمة الأعلام والتعريف بالبلدان وشرح الكلمات وتخريج الأحاديث والآثار، فخرج الكتاب في مجلدين. ولم يهتم بضبط الشعر وغيره مما يحتاج إلى ضبط. (¬1) انظر "مجموع الفتاوى" (11/ 557 - 607، 620 - 635، 641 - 645). وقد اختصر محمد بن محمد بن محمد المنبجي الحنبلي كلام شيخ الإسلام، وصنع منه كتاب "السماع والرقص"، نُشِر ضمن مجموعة الرسائل الكبرى (2/ 293 - 329).

والتصدية فهو سماع المشركين، ومن نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سماع شيء منه وأنه تواجد عليه فقد كذب. ولم يشرع الاجتماع على استماع الأبيات الملحنة واتخاذ ذلك دينًا، ولم يكونوا في القرون المفضلة يجتمعون على السماع المحدث، وأنكره من أدركه منهم كالشافعي وأحمد، ومن حضره من الشيوخ تركه وعابه. وممن رغَّب في هذا السماع ودعا إليه: ابن الراوندي والفارابي وابن سينا اتباعًا للفلاسفة. وذكر شيخ الإسلام ما في الغناء من الأضرار والمفاسد التي تجعل لصاحبه أحوالًا شيطانية، وانتقد تلك الآثار والأخبار التي ذكرها أبو عبد الرحمن السلمي وابن طاهر المقدسي وغيرهما في إباحة الغناء وآلات اللهو والمعازف، وذكر حكم الغناء في الشرع وحكمَ من حضر السماع من المشايخ، وقال: إن الكتاب والسنة وما عليه الصحابة هو المميز بين الحق والباطل من المنقولات والمعقولات والأذواق والخوارق. ولشيخ الإسلام فصل كبير يتعلق بالسماع ضمن كتابه "الاستقامة" (1/ 216 - 421)، ناقش فيه ما أورده أبو القاسم القشيري في "الرسالة القشيرية" (ص 504 - 519) في باب السماع، وردَّ عليه فقرةً فقرةً، ولم يترك شبهةً من شبههم، ولا شيئًا مما يحتجون به من الآثار والأخبار، دون تعقيب وإيضاح واستدراك ونقد. وهذا الفصل أهمُّ ما كُتِب في مناقشة أهل السماع على الإطلاق، بأسلوب علمي رزين، وبأدلة قوية مقنعة. وقد اعتمد ابن القيم في القسم الثاني من هذا الكتاب على كلام شيخه في هذا الفصل، واستفاد منه كثيرًا، وزاد عليه زيادات كما سيأتي ذكرها فيما بعد.

8 - ابن القيم (ت 751): سنتناول آراءه بالبحث والدراسة في فصل مستقل إن شاء الله. 9 - ابن رجب (ت 795): له "نزهة الأسماع في مسألة السماع" (¬1)، أجاب فيه عن المسائل التي سئل عنها بشأن السماع المحدَث وما يتضمنه من سماع الغناء وآلات اللهو، هل هو محظورٌ أم لا؟ وهل ورد في حظره دليل صريح أم لا؟ وما حكم سماعه من المرأة الأجنبية؟ وما حكم من يفعله قربةً وديانةً؟ فذكر أنه قد كثر القيل والقال في هذه المسائل، وصنَّف الناس فيها تصانيف مفردة، وتكلم فيها أنواع الطوائف من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية، ومنهم من يميل إلى الرخصة، ومنهم من يميل إلى المنع والشدة. وكان منهج المؤلف في الكتاب أن يشير إلى نكت مختصرة وجيزة ضابطة لكثير من المقاصد. وقد قسَّم المؤلف السماع إلى قسمين: الأول: ما يقع على وجه اللعب واللهو وإبلاغ النفوس حظوظها من الشهوات واللذات. وأكثر العلماء على تحريم سماع الغناء وآلات ¬

_ (¬1) نشره عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي في الرياض سنة 1413، ونشره أيضًا أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني ضمن "مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي" (2/ 441 - 474) ط. دار الفاروق الحديثة، القاهرة 1425.

الملاهي كلها على هذا الوجه؛ لأن فيه تهييج الطباع وتحريك الشهوات. وقد أورد المؤلف الأحاديث والآثار الواردة في الباب مما يدل على تحريمه، وذكر أن ما يدل منها على الرخصة فهو ما يكون إنشاد الشعر فيه على طريق الحداء ونحوه مما لا يُهيِّج الطباع إلى الهوى. ومن استدلَّ بشيء من ذلك على إباحة الغناء المذموم فقد غلط. القسم الثاني: أن يقع استماع الغناء بآلات اللهو أو بدونها على وجه التقرب إلى الله تعالى، وتحريك القلوب إلى محبته والأنس به والشوق إلى لقائه، وهذا هو الذي يدّعيه كثير من أهل السلوك. ولا ريب أن التقرب إلى الله بسماع الغناء الملحن لاسيما مع آلات اللهو مما يُعلَم بالضرورة أنه ليس من دين الإسلام ولا مما تزكّى به النفوس وتطهر به. وهو مخالف لإجماع المسلمين، ونقل عن القاضي أبي الطيب الطبري وابن الصلاح ما يدل على تحريم هذا السماع، ومن نسب إباحته إلى أحدٍ من العلماء على هذا الوجه فقد أخطأ. وختم المؤلف الكتاب بذكر أن سماع الأغاني يضاد سماع القرآن من كل وجه. 10 - ابن حجر الهيتمي (ت 974): ألَّف كتابه "كفّ الرعاع عن محرَّمات اللهو والسماع" (¬1) ردًّا على ¬

_ (¬1) طبع مرارًا، منها طبعة دار الفكر بيروت 1403، بذيل كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 265 - 335).

كتاب "فرح (¬1) الأسماع برخص السماع" لأبي المواهب محمد بن أحمد بن زغدان التونسي (ت 882). وقسَّمه إلى مقدمة وبابين وخاتمة. أما المقدمة ففي ذكر الأحاديث الواردة في ذم المعازف والمزامير والأوتار ونحوها، والباب الأول في أقسام الغناء المحرَّم وغيره، والباب الثاني في أقسام اللهو المحرم وغيره. وقسم الباب الأول إلى أربعة عشر قسمًا أو فصلًا، تحدث فيها عن أحكام سماع مجرد الغناء من غير آلة، وسماع الغناء المقترن برقص أو دفّ أو مزمار أو وتر، وقراءة القرآن بالألحان، وجميع آلات الموسيقى والغناء مثل الدف والكوبة وسائر الطبول، والضرب بالصفاقتين، والضرب بالقضيب على الوسائد، والتصفيق، والضرب بالأقلام على الصيني، والشبابة والزمارة أو اليراع، والموصول، والمزمار العراقي، والأوتار والمعازف. وختم الباب في بيان أن ما مرَّ صغيرة أو كبيرة. وقد ذكر في كل قسم أقوال العلماء من المذاهب الأربعة، وخاصة من المذهب الشافعي، وبيَّن حكم كل قسم على حدة، وردَّ على أولئك الذين يبيحون الغناء مطلقًا من أيّ نوع كان، وردّ على ابن طاهر في ذلك، وذكر أن ادعاءه إجماع الصحابة والتابعين على جوازه مجازفة وتدليس، ونقل عن الأذرعي أن ما نسب إلى الصحابة أكثره لم يثبت، ¬

_ (¬1) في كشف الظنون (2/ 1223): "قرع"، وهو مطبوع في لكنو (الهند) سنة 1317 ضمن مجموعة (ص 1 - 24) بعنوان "فرح. . . .". وكذا في تونس سنة 1985 م.

عنوان الكتاب

ولو ثبت منه شيء لم يظهر منه أن ذلك الصحابي يبيح الغناء المتنازع فيه (2/ 279). ونقل عن أبي القاسم الدولعي أنه لم يُنقَل عن أحد من الصحابة أنه سمع الغناء المتنازع فيه، ولا جمع له جموعًا، ولا دعا الناس إليه، ولا حضر له في ملأ ولا خلوة، ولا أثنى عليه، بل ذمَّه وقبَّحه وذمَّ الاجتماع إليه. وفي الكتاب نقول كثيرة من كتب الفقه وغيرها تدلُّ على سعة اطلاع المؤلف عليها. وفي كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 202 - 211) عدَّ ستة أشياء من الكبائر: ضَرْب وَتَرٍ واستماعه، وزَمْر بمزمارٍ واستماعه، وضَرْب بكوبة واستماعه. ولخص فيه ما ذكره في الكتاب السابق، وردَّ على ابن حزم وابن طاهر فيما ذهبا إليه من الإباحة. * عنوان الكتاب: العنوان المثبت في أول النسخة هو: "الكلام على مسألة السماع". وذكرت بعض المصادر كتابًا لابن القيم في هذا الموضوع بعنوان "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء" (¬1). وورد ذكره في بعض المصادر بعنوان "حرمة السماع" (¬2). وإذا رجعنا إلى كتب المؤلف نجد أنه أشار أولًا إلى أنه ينوي ¬

_ (¬1) "الوافي بالوفيات" (1/ 271) والمنهل الصافي (3/ 62). (¬2) "كشف الظنون" (1/ 650) و"هدية العارفين" (2/ 158).

تأليف كتاب في هذا الباب، فقال في "مدارج السالكين" (¬1): "وأما السماع الشيطاني فبالضدِّ من ذلك، وهو مشتمل على أكثر من مئة مفسدة، ولولا خوف الإطالة لسقناها مفصَّلة. وسنفرد لها مصنَّفًا مستقلًّا إن شاء الله". وبعد تأليفه ذكره في "إغاثة اللهفان" (¬2)، فقال في خاتمة بحثه عن السماع والغناء: "وذكرنا شُبَه المغنين والمفتونين بالسماع الشيطاني، ونقضناها نقضًا وإبطالًا في كتابنا الكبير في السماع، وذكرنا الفرق بين ما يحُرِّكه سماع الأبيات وما يُحرِّكه سماع الآيات، وذكرنا الشُّبَه التي دخلت على كثير من العباد في حضوره، حتَّى عدُّوه من القُرَب. فمن أحبَّ الوقوف على ذلك فهو مستوفىً في ذلك الكتاب، وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة في كونه من مكايد الشيطان". والكتاب الذي بين أيدينا فيه ذِكْر شُبه المغنين وإبطالهُا، والفرق بين سماع الأبيات وسماع الآيات، ومناقشة أقوال الصوفية الذين جعلوا السماع من القُرَب، وينطبق عليه ما وصفه به المؤلف. وعلى هذا فيكون هو الكتاب الكبير الذي أشار إليه بدون ذكر العنوان. ووصفُه بالكبير بمقابل كلامه على السماع بإجمالٍ في "الإغاثة" (1/ 224 - 268)، حيث اقتصر على نبذة يسيرةٍ منه لبيان كونه من مكايد الشيطان. ولا أظنُّ ¬

_ (¬1) (2/ 416) طبعة الفقي. (¬2) (1/ 267، 268) طبعة الفقي.

أن المؤلف أشار بالكبير إلى أن له كتابًا آخر صغيرًا في موضوع السماع غير كلامه في "الإغاثة"، كما فهم منه بعض الباحثين (¬1). فإنه خلاف مراد المؤلف، ولم يذكره أحدٌ من المترجمين له. ويبدو لي أن الكتاب لم يكن له عنوان محدَّد، ولم يُسمّه المؤلف كما رأينا. وقد اخترتُ العنوان المثبت على النسخة الخطية، وربما كانت بعض النسخ للكتاب بعنوان "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء"، ولكن مثل هذه التسمية غالبًا ما يكون من قبل النسَّاخ. وخاصةً إذا عرفنا أن الكتاب عبارةٌ عن أحد الأجوبة عن الاستفتاء في الموضوع، وليس في أوله وآخره عن المؤلف ما يدلُّ على أنه سمّاه به، بل فيه (الورقة 15 ب) على الهامش: "جواب الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، وهو مصنَّف مستقل عظيم في خصوصية هذه المسألة". ولو كان له ذلك العنوان المسجوع أو اختاره المؤلف لذكره الناسخ هنا، وأثبته على صفحة الغلاف. أما "حرمة السماع" فهو إشارة إلى موضوع الكتاب، لا عنوانه، وكثيرًا ما يتجوّز صاحب "كشف الظنون" عند ذكر عناوين الكتب، وخاصة تلك التي لم يذكر أوائلها ولم يرَها. والكتاب الذي بين أيدينا منها، فلم يذكر أوَّله ولم يصفْه بشيء. ¬

_ (¬1) "ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده" (للعلامة بكر بن عبد الله أبو زيد) ص 242.

تحقيق نسبته إلى المؤلف

* تحقيق نسبته إلى المؤلف: ذكرتُ فيما سبق أن المؤلف أشار إلى هذا الكتاب في "الإغاثة"، ووصفَه بما ينطبق على النسخة التي وصلت إلينا. والنسخة قديمة، وفيها أجوبة العلماء الآخرين المعاصرين لابن القيم، والاستفتاء كان سنة 740 كما ذُكِر في النسخة، وذلك في دمشق حيث كان فيها المفتون، ومنهم ابن القيم الذي عاش فيها في هذه الفترة. وفي الكتاب شواهد أخرى تدلُّ على أنه لابن القيم، منها أنه أشار إلى مؤلفاته الأخرى الثابتة النسبة إليه، مثل "زاد المعاد" و"مدارج السالكين"، فقال في (ص 104): "ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطيله كما يُطيل الركوع والسجود، ويُكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد كما ذكرناه في هديه - صلى الله عليه وسلم -". وهو في "زاد المعاد" (1/ 212) كما ذكر. وقال في (ص 100): "وهذا موضع يستدعي كتابًا كبيرًا، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطنا القول فيه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وفي كتاب الرسالة المصرية". و"مراحل السائرين" هو العنوان الصحيح لكتاب "مدارج السالكين"، كما ذكر المترجمون له (¬1)، وقد بسط الكلام في أوله على أسرار سورة الفاتحة. أما "الرسالة المصرية" فلم يذكرها أحدٌ من ¬

_ (¬1) انظر: "ابن القيم الجوزية: حياته - آثاره - موارده" (ص 295 - 296).

منهج المؤلف فيه

المترجمين له، ويظهر من السياق أنه تكلم فيها على "إياك نعبد" و"إياك نستعين". وذكر بيتين له، وقال (ص 223): "ولي من قصيدة: يا مرسلًا لسهام اللحظ مجتهدًا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تُصِب أرسلتَ طرفَك ترتادُ الشفاءَ فما ... رأى رسولك إلّا رائدَ العطبِ" وقد ذكر المؤلف البيتين ونسبهما لنفسه في "روضة المحبين" (ص 154) و"الداء والدواء" (ص 352 - 353)، وهما من قصيدة له في "بدائع الفوائد" (ص 818 - 819). وذكر أيضًا هذه القصيدة ما عدا هذين البيتين في "الفوائد" (ص 107 - 109). يُضاف إلى ما سبق أنه نقل في الكتاب عن شيخه شيخ الإسلام كثيرًا (انظر ص 95، 199، 200، 219، 299)، واعتمد في قسم كبير منه على كتاب "الاستقامة"، كما سيأتي ذكره فيما بعد. وهذا منهجه المعروف في سائر كتبه. * منهج المؤلف فيه: جرى المؤلف على منهجه المعروف في سائر كتبه، من الاعتماد على نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف من الصحابة والتابعين، وتتبع أقوال الأئمة والعلماء في المسألة، وذكر الأدلة واستقصائها، ثم ذكر حجج الخصوم وشُبههم والردّ عليها. وأورد في أثناء البحث أبياتًا من شعرِه وشعرِ غيره، واستطرد إلى موضوعات مختلفة ليخدم بها الغرض

مباحث الكتاب ومقارنتها بالكتب الأخرى للمؤلف

الرئيسي من تأليف الكتاب. ومن أمتع المباحث التي انفرد بها هذا الكتاب من بين مؤلفاته: "فصل في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة، وبيان أن أحد الذوقين مباين للآخر" (ص 86 - 119)، تحدَّث فيه عن أسرار الصلاة من أولها إلى آخرها، وتحدَّى أن يكون مثل هذا الذوق والتأثير عند أهل السماع. وقد جعل المؤلف الكتاب في قسمين: الأول في الجواب عن الاستفتاء في مسألة السماع، فصَّل فيه الكلام حول الموضوع، ثم شعَر بوجهٍ من القصور فيه، حيث إنه لم يستقصِ شُبَه المبيحين واحتجاجاتهم والردّ عليهم، فألحق به القسم الثاني، وهو المشتمل على عقد مجلس مناظرة بين صاحب الغناء وصاحب القرآن. وجعله بصورة المناظرة ليكون أقوى في التأثير والإقناع والإفحام، وتناول فيه جميع الشُّبَه والتمسكات التي يذكرها أهل السماع في كتبهم، واختار من هذه الكتب "الرسالة القشيرية" لأنها أشهر وأكثر تداولًا من غيرها. وأضاف إليها بعض الشبَه التي ذكرها غير القشيري، مثل أبي طالب المكي صاحب "قوت القلوب" وابن طاهر المقدسي صاحب "كتاب السماع". فنقلها على لسان صاحب الغناء، ثم ردَّ عليها على لسان صاحب القرآن. * مباحث الكتاب ومقارنتها بالكتب الأخرى للمؤلف: تكلم ابن القيم عن السماع في مواضع من كتبه، وهي: "إغاثة اللهفان" (1/ 224 - 268) و"مدارج السالكين" (1/ 481 - 505،

2/ 407 - 416)، وهذا الكتاب المفرد الذي بين أيدينا. وقد اتخذ لكلِّ واحدٍ منها أسلوبًا يلائم ما أُلِّف لأجله. كان قصده في "الإغاثة" بيان أن السماع والغناء بالآلات المحرمة من مكايد الشيطان ومصايده، فصوَّر المفتونين بهذا السماع الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، وذكر أن مزامير الشيطان أحبُّ إليهم من استماع سور القرآن، وأنه لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرَّك له ساكنًا، ولا أثار فيه وجدًا مثل ما يثيره السماع. ثم ذكر أن علماء الإسلام من جميع الطوائف مجمعون على التحذير من السماع وأهله، ونقل عن "تحريم السماع" لأبي بكر الطرطوشي و"روضة الطالبين" للنووي وفتاوى ابن الصلاح ما يدلُّ على إجماع الأئمة على ذلك. وذكر قصيدة لاميةً طويلة من نظمه في ذمّ أهل السماع. ثم عقد فصولًا للحديث عن أسماء هذا السماع الشيطاني، وهي أربعة عشر اسمًا، منها: اللهو، واللغو، والباطل، والزور. . . وغير ذلك، ونقل كلام أهل التفسير والحديث واللغة في شرحها والتحذير منها، وذكر الأحاديث والآثار الواردة فيها. ثم عقد فصلًا لبيان تحريم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصريح لآلات اللهو والمعازف، وسياق الأحاديث الواردة في ذلك، وأشهرها حديث المعازف الذي هو عند البخاري، وردَّ على ابن حزم في نقده لهذا الحديث، من وجوه عديدة. وكان اعتماده في هذا الفصل على كتب الحديث عامةً وكتاب "ذم الملاهي" لابن أبي الدنيا خاصة.

أما "مدارج السالكين" فقد تكلم فيه عن السماع في موضعين: الأول في شرح منزلة السماع (1/ 481 - 505) والثاني عند الحديث عن التغذي بالسماع في شرح منزلة الأنس بالله (2/ 407 - 416). وفي الموضع الأول بيَّن معنى السماع الذي ورد ذكره في القرآن، وذكر أن الكلام فيه مدحًا وذمًّا يحتاج إلى معرفة صورة المسموع وحقيقته، وسببه والباعث عليه، وثمرته وغايته. فبهذه الفصول الثلاثة يتحرر أمر السماع، ويتميز النافع منه والضار، والحق والباطل، والممدوح والمذموم. ثم قسَّم المسموع إلى ثلاثة أقسام: مسموع يحبُّه الله ويرضاه، ومسموع يبغضه وينهى عنه، ومسموع مباح مأذون فيه لا يحبُّه ولا يبغضه. وفصَّل الكلام في هذه الأقسام وبيَّن أحكامها، وذكر حجج المبيحين لسماع الغناء وناقشها مناقشة علمية، ثم قال: والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة ثلاث قواعد: الأولى: أن الذوق والحال والوجد هل هو حاكم أو محكوم عليه؟ الثانية: أنه إذا وقع النزاع في حكم وجب الرجوع إلى الوحي. الثالثة: إذا أشكل على الناظر حكم شيء فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته.

وأخيرًا حاكمَهم إلى الذوق، فذكر أن عبودية القلب في حالتَي الحزن والفرح هي الصبر والشكر، فصرفَه الشيطان عنهما إلى صوتين أحمقين فاجرين هما النوح والغناء، ومنافاتهما للصبر والشكر أمر معلوم من الدين بالضرورة، لا يشك فيه إلّا أبعد الناس من العلم والإيمان. ومعلوم عند الخاصة والعامة أن فتنة سماع الغناء والمعازف أعظم من فتنة النوح بكثير. وفي الموضع الثاني من "المدارج" ذكر أن القلب يتغذى بالسماع كما يتغذى الجسم بالطعام والشراب، فإن كان العبد محبًّا صادقًا طالبًا لله عاملًا على مرضاته كان غذاؤه بالسماع القرآني، وإن كان منحرفًا فاسد الحال مغرورًا مخدوعًا كان غذاؤه السماع الشيطاني. والسرّ في ذلك أن الله جعل للقلب نوعين من الغذاء: نوعًا من الطعام والشراب الحسي، وللقلب منه خلاصته وصفوه، والنوع الثاني: غذاء روحاني معنوي من السرور والفرح، والابتهاج واللذة، والعلوم والمعارف. وبهذا الغذاء كان سماويًّا علويًّا، وبالغذاء المشترك كان أرضيًا سفليًا، وقوامه بهذين الغذاءين، وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس. وتعلق القلب بالسمع وارتباطه به أشدّ من تعلقه بالبصر، ولذا كان تأثُّره به أشدّ. وقد يكون المسموع شديد التأثير في القلب، ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله بغيره، ولمباينة ظاهره لباطنه ذلك الوقت، فإذا حصل له نوع تجرد ورياضة ظهرت قوة ذلك التأثير والتأثر. فإن كان المسموع معنًى شريفًا بصوت لذيذ حصل للقلب حظه ونصيبُه من الابتهاج

واللذة، وهذا لا يحصل على الكمال إلّا عند سماع كلام الله "أما السماع الشيطاني فبالضدّ من ذلك، وهو مشتمل على أكثر من مئة مفسدة. أما الكتاب الذي بين أيدينا فهو عبارة عن فتوى في مسألة السماع كتبها المؤلف سنة 740 وتوسَّع في ذكر الأدلة على تحريم السماع والغناء والمزامير، وجعل القسم الثاني منه بصورة مناظرة بين صاحب الغناء وصاحب القرآن، استقصى فيه شُبَههم وإيراداتهم، وردَّ عليها بتفصيل. بدأ المؤلف كتابه بتمهيد ذكر فيه أن الكلام في هذه المسألة وتوابعها لا ينتفع به إلا من حكَّم كلام الله ورسوله وانقاد إليه، وأما من اتخذ إلهه هواه وأضلَّه الله على علم، فهذا يُطمَع في خطابه لإقامة الحجة لا للاستجابة والانقياد. ثم قسَّم الكلام في هذه المسألة إلى فصلين: الأول: في بيان حكمها في الشريعة، وهل هو التحريم أو الكراهة أو الإباحة، أو ما يقوله المفترون الكاذبون من الاستحباب والفضيلة؟ الثاني: أن تعاطيها على وجه اللعب والخلاعة والمجون شيء، وتعاطيها على ما يقوله أصحاب السماع من أنها قربة وطاعة شيء آخر. وفي الفصل الأول تحدث أولًا (ص 10 - 17) عن وجوب الردّ إلى الكتاب والسنة عند وقوع النزاع في شيء من الأمور عند المسلمين، وأورد في ذلك آياتٍ عديدة وفسَّرها، وذكر أن كل عمل مخالفٍ لما كان

عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فهو مردود على فاعله؛ لأنه بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم تكلم على مسألة السماع كلامًا مجملًا ومفصلًا، أما المجمل فهو أن هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح، لا يُبيحه أحدٌ من المسلمين، وخواص المسلمين ودين الإسلام براءٌ منه؛ لما فيه من المفاسد الكثيرة التي ذكر بعضها، ويكفي أنه يصرف صاحبَه عن استماع القرآن، ويُحدِث له ذوقًا ووجدًا وشوقًا لا يُوجد شيء منه عند ذكر رب العالمين. ومن المصائب العظمى: نسبة ذلك إلى دين الرسول وشرعه، واعتقاد أنه قُربة يتقرب به إلى الله وأن فيه صلاح القلوب وعمارتها، وأن تأثر القلوب به أسرع وأقوى من تأثرها بالقرآن. ولا ريب أن هذا من النفاق الذي أنبته الغناء في القلب، وارتكاب المحرمات مع العلم بتحريمها أسهل وأسلم عاقبةً من ارتكابها على هذا الوجه. وكلُّ مَنْ يدَّعي أن السماع المحدَث هو من الدين الذي تصلح عليه القلوب، لزمه أحد الأمرين: إما أن يقول: إنّ الله شرعه لرسوله، ففعله الرسول وحضَّ عليه، وأمر به ودعا إليه. وهذا كذب على الله ورسوله، منادٍ على وقاحته وجرأته. وإما أن يقول: إن الله لم يشرعه ولا رسوله، ومع هذا فهو من الدين وحقائقه. فيلزمه حينئذٍ أن يكون الدين ناقصًا، لم يكمله الله حتى أكمله هؤلاء السماعاتية. ثم ذكر المؤلف الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف على أن

هذا السماع من الباطل واللهو واللعب المنهيّ عن اتخاذه دينًا، وأن السماع والغناء وآلات اللهو إنما نصبها الشيطان مضادَّةً لما شرعه الله لعباده (ص 22 - 26). ولهذا كَثُر النكير عليها من جميع الطوائف من أهل العلم من أئمة الحديث والفقه والتفسير والزهد، وأجمعوا على التحذير منه (ص 27 - 37). ثم ذكر بعض الشُّبه التي يذكرها أصحاب السماع، مثل استدلالهم بغناء الجاريتين، وجوازه في النكاح والختان، وأنَّ هذا السماع حضره جماعة من الأولياء، فكيف يسوغ تخطئتهم والإنكار عليهم؟ وردَّ عليها من وجوه (ص 38 - 58). وانتقل بعد ذلك إلى ذكر مفاسد السماع (ص 59 - 70) وردَّ على من ادَّعى أن سماعه لله وبالله، فلا يضرُّه ما فيه من المفاسد (ص 70 - 73). ثم بيَّن أن السماع مركب من شبهة وشهوة، وهما الأصلان اللذان ذمَّ الله من يتبعهما ويحُكِّمهما على الوحي. ثم تحدث عن الانحراف الذي وقع عند المتأخرين في الأعمال والأذواق والأحوال، فخالفوا ما كان عليه السلف الصالح من الأذواق الصحيحة والأعمال المشروعة، وقام بالموازنة بين أحوال السلف وأحوال هؤلاء المتأخرين في السماع، وذكر الفرق بينهم (ص 76 - 82)، ونبَّه على نكتة خفية من نكت السماع، وهي أنه ما وجدَ صادقٌ في السماع الشعري وجدًا وتحرك به إلّا وجد عند انقضائه ومفارقة المجلس قبضًا على قلبه ونوعَ استيحاشٍ منه، فهو بمثابة من سُقِي عسلًا في إناء نجس. وإن كان سماعه لِلَّذةِ

وحظّ النفس فهو كمن يشرب الماء النجس في الإناء القذر. أما صاحب السماع القرآني الذي ذوقه وشربه منه فهو يشرب الشراب الطهور في أنظف إناء وأطيبه (ص 83 - 86). وعقد المؤلف بعد ذلك فصلًا في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة، وبيان أن أحد الذوقين مباين للآخر، وذكر فيه أسرار الصلاة من أولها إلى آخرها (ص 86 - 119)، وناشَد أهلَ السماع: هل لهم في السماع مثل هذا الذوق أو شيء منه؟ وهل يدَعُهم السماعُ يجدون هذا الذوق في الصلاة؟ ثم حلفَ عنهم أن ذوقهم ضدُّ هذا الذوق، ومشربهم ضدّ هذا المشرب. وهذا الفصل من أمتع فصول الكتاب، والمؤلف معروف بالاسترسال في مثل هذه الموضوعات، وبهذا الفصل ينتهي القسم الأول من الكتاب. أما القسم الثاني فهو بعنوان "عقد مجلس في المناظرة بين صاحب غناء وصاحب قرآن". وكأني بالمؤلف شَعَر بأن ما كتبه ليس كافيًا في الموضوع، فإنه لم يذكر جميع حجج أهل السماع وشُبَههم التي يردّدونها في كتبهم، فخصَّص القسم الثاني لذكرها، وردَّ عليها بما يشفي ويكفي. واختار أحد أشهر الكتب التي يتداولها أهل السماع فيما بينهم، أعني به "الرسالة القشيرية"، فإنها استوعبت جميع ما لديهم من الشبه في هذا الباب. ثم وجد أن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية سبقه إلى الردّ عليها ومناقشتها مناقشة تفصيلية في كتاب "الاستقامة". فاعتمد عليه كثيرًا، وهذَّبه أحسن تهذيب، وزاد عليه فوائد وأبحاثًا في مواضع،

موارده

فأصبح هذا القسم الثاني من الكتاب تكملة ضرورية للقسم الأول. ولا حاجة هنا إلى استعراض هذه الشُّبَه والإيرادات، والردود عليها، ويكفي القارئ أن يراجع فهرس الموضوعات في آخر الكتاب. هذا عرضٌ مجمل لمحتويات الكتاب، وبه يظهر أهميته بمقابل ما كتبه المؤلف في "الإغاثة" و"المدارج" ومكانته بين الكتب التي ألِّفت في هذا الباب، ونستطيع أن نقول: إنه أوسع كتابٍ في الردّ على السماع وأهله، وفيه من الفوائد العلمية والأبحاث النادرة التي لا نجدها في كتاب آخر، ويتميز بأسلوبه ومنهجه بين جميع الكتب المؤلفة في الموضوع. ومع أهميته وقيمته العلمية لم يكن معروفًا قبل طبعه، فلم أجد من اطلع عليه أو اقتبس منه، والذين نقلوا عن ابن القيم في هذا الموضوع نقلوا عن كتابه "إغاثة اللهفان" (¬1)، ولم يعرفوا هذا الكتاب، ولعل السبب في ذلك ندرة نسخه، وكونه بصورة فتوى تقع بعد سبع فتاوى للعلماء ضمن مجموعة، فلم يعثر عليها أكثر المؤلفين. والله أعلم. * موارده: تنوعت مصادر المؤلف في الكتاب بحسب الموضوعات التي تطرق إليها، وكان جلُّ اعتماده في القسم الثاني منه على كتاب "الاستقامة" لشيخ الإسلام ابن تيمية كما يظهر بالمقارنة بينهما، وقد ¬

_ (¬1) انظر مثلًا "غذاء الألباب" للسفاريني (1/ 148، 153، 160، 163، 167، 168، 169، 170، 173).

صرَّح باسم شيخه في بعض المواضع، ونقل عنه نصوصًا توجد في كتابه (انظر ص 199، 200، 219، 299). أما في القسم الأول فنقل في موضع منه (ص 95) كلامًا لشيخه لا يوجد في كتاب "الاستقامة"، وصدَّره بقوله: "وقال لي شيخ الإسلام يومًا"، مما يدلُّ على أنه أخذه عنه مشافهةً. وسيأتي فيما بعدُ المقارنة بين هذا الكتاب وبين "الاستقامة" وبيان طبيعة الأخذ والاستفادة منه. * ومن الكتب التي رجع إليها في موضوع السماع ونقل عنها كثيرًا من النصوص والأخبار: - رسالة أبي الطيب الطبري (ت 450) "الرد على من يحبّ السماع": ص 28، 29، 145. - "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ت 597): ص 27، 32، 33، 42، 43، 46، 47. وبواسطته نقل عن "بهجة الأسرار" لابن جهضم (ت 414): ص 45. - فتوى ابن بطة (ت 387): وقد أوردها كاملةً ص 33 - 35. - "أدب القضاء" للشافعي (ت 204)، وهو ضمن كتاب "الأم" له: ص 28، 178. - "الجامع" للخلَّال (ت 311): ص 30، 32، 33، 317. - كتاب لأبي موسى المديني (ت 581) لم أجد ذكره في مصادر ترجمته، وقد نقل عنه المؤلف نصوصًا عديدة: ص 31، 35 - 36.

- كتاب لأبي الحسن ابن القصَّار (ت 397): ص 32. - كتاب الإجماع والاختلاف لزكريا الساجي (ت 307): ص 177. ولعلّ النقل عنه بواسطة كتاب "الاستقامة". - "مسائل الإمام أحمد" برواية ابنه عبد الله (ت 290): ص 32. * ومن كتب التصوف وغيرها التي نقل عنها أقوال الصوفية وبعض الأخبار: - "قوت القلوب" لأبي طالب المكي (ت 386): ص 166، 203. - "مسألة السماع" لأبي عبد الرحمن السلمي (ت 412): ص 146. - "الرسالة القشيرية" لأبي القاسم القشيري (ت 465): ص 198، 261، 262. - "منازل السائرين" لأبي إسماعيل الهروي الأنصاري (ت 481): ص 166. - "مسألة السماع" لابن طاهر المقدسي (ت 507): ص 178. - كتاب آخر لابن طاهر: ص 198. - "الغنية" لعبد القادر الجيلاني (ت 561): ص 52. - "الإشارات" لابن سينا (ت 428): ص 146. وأشار المؤلف (ص 161) إلى كتاب "الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح" ولم يذكر صاحبه ولا نقل عنه شيئًا. وهو لعبد المغيث بن زهير الحربي (ت 583).

* أما كتب الحديث والآثار المسندة فقد نقل عنها كثيرًا، وهي الكتب الآتية: - صحيح البخاري: ص 25، 129، 142، 186، 220، 270، 285. - صحيح مسلم: ص 16، 142، 186. - الصحيح (يشير به إلى الصحيحين أو أحدهما): ص 147، 180 (والنصّ هنا ليس في الصحيحين)، 187، 222، 225، 227، 234. - جامع الترمذي: ص 17، 23، 137، 284. - سنن ابن ماجه: ص 283، 284. - السنن (يقصد به بعض كتب السنن الأربعة): ص 112، 180. - مسند أحمد: ص 16، 17، 24، 284، 285، 290. - مسند الحميدي: ص 24. - مسند مسدَّد بن مسرهد: ص 284. - مسند أبي يعلى الموصلي: ص 281. - صحيح ابن حبّان: ص 16. - صحيح الحاكم (وهو "المستدرك"): ص 16، 282.

المقارنة بينه وبين كتاب "الاستقامة"

- معجم الطبراني (ويقصد به "الكبير" غالبًا): ص 137، 253، 282. - الغيلانيات: ص 283. - الجزء الثاني من حديث أبي بكر الباغندي: ص 287. - ذم الملاهي لابن أبي الدنيا: ص 140. - تفسير ابن أبي حاتم: ص 139. - صفة الجنة لأبي نعيم: ص 135 - 137، 140، 141. هذه جلُّ المصادر التي نقل عنها المؤلف. * المقارنة بينه وبين كتاب "الاستقامة": اعتمد المؤلف في القسم الثاني من الكتاب اعتمادًا كبيرًا على ما كتبه شيخه شيخ الإسلام في كتاب "الاستقامة" (1/ 216 - 421) في الفصل الذي عقده لمناقشة كلام القشيري في موضوع السماع. وكان منهجه فيه التهذيب والتلخيص في أغلب المواضع، والزيادة والتفصيل أحيانًا، وقد تابع شيخَه في ترتيب الفصول في الغالب، وخالف هذا الترتيب في بعض المواضع، وأدمج عدة وجوهٍ في وجهٍ واحدٍ أو حذف بعض وجوه الردّ عند الشيخ. وكل ذلك بأسلوبه الخاص الذي تميز به، وهو أنه يأخذ الفكر والمعنى من الشيخ، ولا يعتمد على نص كلامه وعبارته، بل يصوغه بعبارة أخرى تؤدي الغرض.

هذا هو الطابع العام للقسم الثاني من الكتاب، وتوجد فيه زيادات ليست في "الاستقامة"، منها بعض الشُّبه التي ذكرها على لسان صاحب الغناء وهي ليست من "الرسالة القشيرية"، وردّ عليها على لسان صاحب القرآن، فمثل هذه الشُبه والردود عليها لا وجود لها في "الاستقامة"؛ لأن شيخ الإسلام اقتصر فيه على مناقشة كلام القشيري، ولم يتجاوزه إلى غيره. ومن أمثلة ذلك ما ورد في (ص 275 - 291) من قوله: "وامتحن أهل الغناء بأهل القرآن. . . .". فلا يوجد في "الاستقامة"، بل فيه (1/ 395 - 403) نقد بعض كلام القشيري، وهو غير موجود عند ابن القيم، فالظاهر أن ههنا سقطًا. ثم إن سياق الكلام عنده يدلُّ على أن مكانه المناسب في أول المناظرة، وليست ههنا، ولكن الكلام هنا متصل، فلم أستطع تحديد المكان. ولا يمكن التوصل إلى السياق الصحيح إلا بواسطة نسخة أخرى تامة من الكتاب، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. وللزيادات الأخرى لدى ابن القيم تُراجع المواضع التالية: ص 133 - 134 (الوجه الحادي عشر). ص 134 - 141 (ذكر الأحاديث الواردة عن الحور العين في الجنة). ص 147 - 153 (ذكر الأخبار المتعلقة بإنشاد الشعر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة).

ص 222 - 224 (شرح حديث "العينان تزنيان. . . ."). ص 228 - 229 (الوجهان الحادي عشر والثاني عشر). ص 238 - 241 (ما يتعلق بالعشق ومحبة الصور). ص 249 - 252 (الفرق بين الجمال الذي يحبه الله ويكرهه). ص 256 - 258 (صوت الشيطان). ص 259 - 261 (الكلام على قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}). ص 262 - 264 (الكلام على تقسيم السماع إلى حرام ومباح ومستحب). ص 269 - 272 (متى تكون الإشارة صحيحة؟ الأمثلة على ذلك). وقد توسع ابن القيم في بعض المواضع التي تكلم فيها شيخه باختصار، ومن أمثلة ذلك: ص 190 - 192: ما يقابله من الاستقامة (1/ 288) فقرة واحدة فقط. ص 193 - 195: قارنها بالاستقامة (1/ 290 - 292). أما عكس ذلك وهو أن يتوسع الشيخ ويختصر التلميذ فهو كثير، انظر مثلًا: ص 133 حيث أشار إلى الآيات الكثيرة التي ذكرها الشيخ في الاستقامة (1/ 230 - 232). ص 157 - 166: أطال الشيخ هنا في الاستقامة (1/ 248 - 260).

وصف النسخة الخطية

* وصف النسخة الخطية: وصلت إلينا نسخة فريدة من الكتاب، وهي من مخطوطات مكتبة الإسكوريال بمدريد برقم [1593]، مكتوبة بخط نسخي جيد، وليس عليها تاريخ النسخ ولا ذكر اسم الناسخ. ويبدو لي أنها كتبتْ في القرن التاسع عن نسخة أقدم منها، ثم قوبلتْ عليها كما يظهر من الاستدراكات والتصحيحات على هوامش النسخة. وعلى صفحة العنوان في الركن الأيسر منها يوجد تملُّكٌ هذا نصُّه: "الحمد لله رب العالمين، ملكه فقيرُ عفو ربه الغني علي بن محمد القادري الغزّي ثم الدمشقي الشافعي، عفا الله عنه آمين". والنسخة في 142 ورقة، وفي كل صفحة منها 21 سطرًا. وقد كنت أظن في بداية الأمر أنها تامة، ولكن عند التدقيق ظهر لي أن فيها نقصًا بين الورقتين 123 و 124، فإن الكلام غير متصل بينهما. فنهاية الورقة 123 قوله: "الغناء يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبت الماء البقل، والنفاق هو الزندقة". وبداية الورقة 124: "وامتحن أهلَ الغناء بأهل القرآن، وأهلَ القرآن بأهل الغناء، وابتلىَ كلَّ واحدٍ من الفريقين بالآخر، فلا يصطلحان إلا إذا ترك أحدهما ما عنده لما عند الآخر. . . .". وبمراجعة كتاب "الاستقامة" الذي اعتمد عليه المؤلف كثيرًا ظهر أن الكلام المتصل بما بعد الورقة 123 يتعلق بشرح كون الغناء ينبت النفاق في القلب، وهو أكثر من صفحة. وقد أثبتُّه في الهامش لينجبر شيء من

النقص الموجود في النسخة، والذي يمكن أن يكون ورقة أو أكثر، فإن الكلام المثبت في الورقة 124 لم أجد ما يُشبهه في كتاب "الاستقامة"، فهو من زيادات المؤلف على كلام شيخه فيما أرى. تبدأ النسخة بذكر صورة استفتاءٍ كُتب سنة 740، ثم أجوبة ثمانية من العلماء عليه، وهم: 1 - القاضي تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756). 2 - الشيخ جلال الدين بن القاضي حسام الدين الحنفي (ت 745) (¬1). 3 - القاضي برهان الدين بن عبد الحق الحنفي (ت 744) (¬2). 4 - الشيخ أبو عمرو بن أبي الوليد المالكي (ت 745) (¬3). ¬

_ (¬1) أحمد بن الحسن الرازي الأصل ثم الرومي، كان جامعًا للفضائل ويحب أهل العلم مع السخاء وحسن العشرة، وقد ولي القضاء. ترجمته في "البداية والنهاية" (18/ 475) و"الدرر الكامنة" (1/ 117). (¬2) إبراهيم بن علي بن محمد، شيخ الحنفية وقاضي القضاة بالديار المصرية، كان من أكابر العلماء، يحفظ الفروع وكثيرًا من المتون ويجانب أهل البدع. ترجمته في "البداية والنهاية" (18/ 470) و"الدرر الكامنة" (1/ 46، 47). (¬3) أحمد بن محمد بن أحمد الإشبيلي ثم الدمشقي، الإمام المفتي الكبير الزاهد، إمام محراب المالكية بالجامع. وبعد وفاته تأسف الناس عليه وعلى صلاحه وفتاويه النافعة الكثيرة. ترجمته في "البداية والنهاية" (18/ 476) و"الدرر الكامنة" (1/ 247).

5 - الشيخ عبد الله بن أبي الوليد المالكي (ت 743) (¬1). 6 - الشيخ شرف الدين أحمد بن الحسن الحنبلي (ت 771) (¬2). 7 - الشيخ عماد الدين ابن كثير الشافعي (ت 774). 8 - الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت 751). وأطول هذه الأجوبة جواب ابن القيم (ق 15 ب - 142 ب)، بحيث أصبح كتابًا مستقلًا في هذه المسألة، وقد أشار الناسخ إلى ذلك فقال (ق 15 ب): "جواب الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، وهو مصنَّف مستقل عظيم في خصوصية هذه المسألة". واطلعتُ في مكتبة خدابخش خان بباتنه (الهند) برقم [2831/ 1] (ق 1 - 32) على قطعة مخطوطة من الكتاب بعنوان "ترجيح ذوق القراءة والصلاة على ذوق السماع وأصوات القينات"، وهي بخط حديث، وفيها أخطاء وتحريفات، وزيادات لا حاجة إليها، ومخالفات للأصل في مواضع كثيرة، فلم أعتمد عليها عند تحقيق الكتاب. ثم وجدتُ هذه القطعة مطبوعة بآخر كتاب "الحكمة البالغة في خطب الشهور والسَّنة" ¬

_ (¬1) أخو الشيخ أبي عمرو، العالم العامل الزاهد إمام المالكية بالجامع الأموي بمحراب الصحابة. ترجمته في "البداية والنهاية" (18/ 451) و"الدرر الكامنة" (2/ 286). (¬2) المعروف بابن قاضي الجبل المقدسي، الإمام العلامة صاحب فنون، أجازه شيخ الإسلام ابن تيمية بالإفتاء، وولي القضاء، ترجمته في "الدرر الكامنة" (1/ 120) و"الوفيات" لابن رافع (2/ 354).

الطبعات السابقة

في مطبعة القرآن والسنة بأمرتسر (الهند) سنة 1315/ 1897 م. وطُبعت مرة أخرى بعنوان: "الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة والقرآن" من دار الصحابة بطنطا (مصر)، بالاعتماد على نسخة منها محفوظة في دار الكتب المصرية بعنوان "كتاب في ذوق السماع". وتُمثِّل هذه القطعة جزءًا صغيرًا من آخر القسم الأول من الكتاب، وصياغتها تختلف كثيرًا عن صياغة الأصل، وفيها أخطاء وسقطات وزيادات كما يظهر بالمقارنة مع الأصل، ولذلك صرفتُ النظر عنها ولم أهتم بها عند إعداد هذه الطبعة. * الطبعات السابقة: صدرت للكتاب طبعتان، أولاهما بتحقيق راشد بن عبد العزيز الحمد، نشرتها دار العاصمة بالرياض سنة 1409. وقد بذل المحقق جهدًا لا بأس به في تحقيقه، وكان جلُّ اهتمامه بالتعليق على الكتاب، فقام بتخريج الأحاديث وترجمة الأعلام وشرح الغريب وعزو بعض الأبيات الشعرية إلى قائليها. ولم يهتمَّ بضبطِ النصّ ووضْعِه في فقرات مناسبة. وبعد مقابلته على الأصل المخطوط ظهر لي سقط كلمة أو كلمتين أو سطر في مواضع (انظر مثلًا ص 154 سطر 13 وقارنه بهذه الطبعة ص 57 سطر 6). واقترح المحقق زياداتٍ على النص في مواضع كثيرة هو في غنًى عنها، وصحَّح بعض الأخطاء الموجودة في المخطوط، ولكنَّه خطَّأ الصواب في مواضع عديدة، ومن أمثلتها إثباته بيت الشعر كما يلي (ص 403): وكأسًا شربتُ على لذةٍ ... وآخر تداويتُ منها بها

وفي الأصل: "وكأسٍ" وكذا الرواية، والواو واو رُبَّ، فغيَّرها دون الإشارة إليها. "وآخر" في الشطر الثاني صوابه "وأخرى"، ومثل هذه الأخطاء في هذه الطبعة وخاصة في الشعر كثير، ولستُ هنا بصدد إحصائها. ووقع فيها اضطراب في ترتيب الصفحات (469 - 473) في فتوى ابن كثير، وترتيبها على الصواب (469، 472، 473، 470، 471). وهذا خطأ مطبعي ينبغي التنبه له. وبالجملة فهذه الطبعة ينقُصها الضبط والتصحيح وتوثيق كثير من النصوص والأخبار والأشعار، وعلى القراء أن يقارنوا بينها وبين الطبعة التي بين أيديهم ليدركوا الفرق بينهما. أما الطبعة الثانية للكتاب فقد صدرت بتحقيق ربيع بن أحمد خلف، من مكتبة السنة بالقاهرة سنة 1411، وعنوانه في هذه الطبعة "كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء". اعتمد المحقق فيها على الطبعة السابقة وعلى قطعة مطبوعة منه بعنوان "الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة والقرآن" (ط. دار الصحابة بطنطا)، ولم يرجع إلى الأصل المخطوط، وقال: "رأيت أنه يحتاج إلى إعادة تحقيق أقربَ إلى المنهج العلمي الصحيح، لتلافي ما في طبعته السابقة من أخطاء مطبعية وغيرها". ولم أطلع على هذه الطبعة إلَّا أخيرًا عند كتابة المقدمة، ورأيت صاحبها اجتهد في تصحيح كثير من الأخطاء المطبعية، ولكنه زاد في

هذه الطبعة

النصّ أشياء لا داعي لإثباتها، بالاعتماد على القطعة المنشورة منه، وبقيت فيها أخطاء وسقطات كما كانت في الطبعة السابقة. وفي هذه الطبعة اهتمام بضبط النص وتخريج الأحاديث وشرح الكلمات، ولكن لم يُقتصر على شرح الغريب منها، ولم يقتصر على الصحيحين إذا كان الحديث في أحدهما، ولم يُهتم بتخريج الأشعار وتوثيقها. ووقعت أخطاء في الضبط في مواضع كثيرة لا أحب الخوض في تفصيلها. * هذه الطبعة: اعتنيتُ في هذه الطبعة بالمقابلة على المخطوط، وتصحيح كثير من الأخطاء والتحريفات في الطبعة السابقة، ثم ضبط النصّ ووضْعه في فقرات مناسبة، ثم توثيق الأحاديث والأخبار والأشعار من المصادر التي تيسَّرت لي، وأخيرًا عمل الفهارس اللفظية والعلمية التي تكشف عن محتويات الكتاب. وقمت بمراجعة مصادر المؤلف، وأهمها كتاب "الاستقامة" لشيخ الإسلام، وظهر لي بالرجوع إليه أن في المخطوط خرمًا في موضعٍ قد يكون ورقةً أو أكثر (انظر ص 275). وفي الأصل المخطوط أخطاء وتحريفات أشرتُ إلى بعضها في أماكنها، وأغفلتُ كثيرًا منها لأنها من الناسخ، وقد تجوَّز كثيرًا في الشكل والنقط، وأخطأ في الضبط، ووضع النقط والحركات في غير مواضعها، وكتب الشعر نثرًا، وقسَّم شطري البيت تقسيمًا خاطئًا. وهذه الأمور فاشية في النسخة من أولها إلى آخرها، ولذلك لم أُشِرْ إليها جميعًا في

الحواشي، بل اكتفيتُ بقراءة المخطوط قراءة صحيحة بقدر استطاعتي، وضبطتُ ما يحتاج إلى الضبط دون النظر إلى ما عمله الناسخ. ومما ينبغي التنبيه عليه أن المخطوط يشتمل على كتاب ابن القيم مع فتاوى أخرى لسبعة علماء، وفصلٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية في أسرار الصلاة. وقد اقتصرنا في هذه الطبعة على نشر كتاب ابن القيم دون الكتابات الأخرى، لأنها منشورة مرارًا. ثم إن هذه السلسلة تهتم بنشر تراث ابن القيم، فلم نحبّ أن نجمع بينه وبين آثار غيره. ورسالة شيخ الإسلام نُشرت ضمن "جامع المسائل" (3/ 351 - 360)، فأغنانا عن إعادة نشرها. وقد قال ناسخها في آخرها (ق 64 ب): "ليس هذا الفصل متعلقًا بهذه المسألة، وإنما كتبتُه هنا اتفاقًا، وله أيضًا مناسبة بذكره ذوقَ الصلاة وسرَّها ولبَّها، والله الموفق". كلمة أخيرة: لم يبق لي إلّا أن أقول: إنني قد بذلت جهدي في تحقيق النصّ والتعليق عليه، بالاعتماد على النسخة الوحيدة منه، وأرجو من القراء إذا وجدوا خللًا فيه أن ينبهوني عليه مشكورين. وفي الختام أدعو الله أن يوفقنا جميعًا لما فيه الخير والصلاح، ويهدينا إلى سواء السبيل، إنه سميع مجيب. كتبه محمد عزير شمس بمكة المكرمة

صفحة العنوان من الأصل

الصفحة الأولى من الأصل

الصفحة الأخيرة من الأصل

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ربِّ يسِّر وأعِنْ يا كريم صورة استفتاءٍ كُتِب في سنة أربعين وسبعمائة، لأمر أوجب ذلك، وسئل عنه أئمة أهل العلم والدين، فأجابوا عنه، لا أَخْلىَ الله الوجودَ من عُدول العلم وحَمَلَته، الذين يبينون للناس ما أُنزل إليهم من ربهم، ويعتصمون بطريقة نبيهم، فإنما يَهلِك الناسُ إذا صاروا شرعًا واحدًا، وصنفًا واحدًا، لا يتفاضلون في علم ولا دين، فإذا قُبِض أهلُ العلم والدين، وتُرِك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صار حينئذٍ المعروف ما أَلِفَتْه النفوسُ واشتهتْه، وصار هو العوائد، وصار المنكر ما لم يَعتدْه الإنسان، وإن كان قد يكون عند الله هو الدين الذي بَعث به رسلَه، وأنزل به كتبه، فحينئذٍ تَخْرَبُ الأرض، وتقوم الساعة. فنعوذ بالله من مُضِلَّات الفتن، ونسأل الله أن يَقِيَنا شرورَ أنفسنا. آمين.

صورة الاستفتاء ما تقول السادة العلماء -أحسن الله توفيقَهم- في السماع الذي يشتمل على الدفّ والشبَّابة وآلات اللهو والطرب، أو التصفيق بالكف، ونحوه من اللهو، مثل التغبير ونحوه، ويحضر [هـ] الرجال والنساء، فربما اختلطوا بعضهم ببعض، فربما جلس النساء مقابلَ الرجال، فينظرون إليهم (¬1)، وهم يَرقُصون على صوت الشبابات والدفوف والغناء، ويزعمون أن ذلك قُربة تُقرِّبهم إلى الله، ويزيد في أذواقهم ومواجيدهم الإيمانية، وأن من رقصَ غُفِر له، يقول ذلك بعضهم، وأن مَن أنكر ذلك عليهم محجوبٌ ليس من أهل الحقيقة، بل هو من أهل القُشور وهم أهل اللباب، وربما قالوا: نحن وصلنا إلى ما لم يصل إليه الفقهاء، وربما ارتفعت بينهم الأصوات، والشخير والنخير والزعَقات، وربما أظهروا أشياءَ يُسمُّونها إشاراتٍ، كإخراج اللَّاذَنِ (¬2) والدم، وملابسة النار، ومَسْكِ الحيَّات، ويزعمون أن هذه كرامات وأحوال، وأنهم يدعون بها الناس إلى الله، ويقولون: لنا الحقيقة ولغيرنا الشريعة. فهل هذه أفعالُ طاعةٍ وقربةٍ دينٍ شرعه الله لعباده، ورضيه منهم، كما يزعمه هؤلاء القوم، أم لا؟ وهل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من ذلك أم لا؟ ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، والصواب: "فينظرن إليهم" أو "فينظرون إليهن". (¬2) هو شيء من رطوبة يكون على شجرة القيسوس، يستخرج منه صمغ راتينجي، يُعلك ويُستعمل عطرًا ودواءً. انظر: "المعتمد في الأدوية المفردة" (ص 439) و"المعجم الوسيط" (لذن).

وما يجب على مَن نَسَبَ ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واتخذه دينًا؟ وهل هذا من الحق أم من الباطل؟ وهل هذه طريقة أولياء الله وحزبه وأتباع رسوله أم طريقة أهل اللهو واللعب والباطل؟ وهل يَسُوغ الإنكار على هؤلاء، ويُثاب من يُنكر عليهم بيده أو قلبه أو لسانه أم لا؟ وهل ذلك من المنكر الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" (¬1)؟ ثمّ إن هؤلاء القوم منهم مَن يقول: إن هذا السماع قُربة يُتقرَّب بها، ومنهم مَن يقول: إنه مباح، وربما قال أصحاب هذا القول: إن الشافعي هو الذي قد قال بإباحة السماع، فهل قال الشافعي بإباحة ذلك أم لا؟ ومنهم مَن يقول: هو ذنب صغير يمحوه الاستغفار، يقول ذلك وهو مُصِرٌّ على فعله، لزعمه أن الاستغفار الذي يمحوه هو مجرد نطقه بالاستغفار من غير أن يُقْلِعَ بقلبه عنه، فهل هذا الاستغفار يُزِيل هذا الذنب من غير عزمٍ بقلبه على تركه أم لا؟ ومنهم مَن يحتجُّ على ذلك وأنه مباح بحديث الحبشة الذين لعبوا في المسجد بالحِرابِ، وعائشة تنظر إليهم من وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ومنهم مَن يحتجُّ بحديث بنات النجَّار، وأنهن ضربن بالدف أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) أخرجه البخاري (950) ومسلم (892) من حديث عائشة. (¬3) أخرجه ابن ماجه (1899) من حديث أنس بن مالك. قال البوصيري في مصباح =

والمسؤول من السادة العلماء تبيينُ ذلك كله وإيضاحه، وتعريف الصراط المستقيم، وفرضُنا السؤالُ وفرضكم الجواب، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم (¬1). ¬

_ = الزجاجة (2/ 106): إسناده صحيح ورجاله ثقات. (¬1) بعده في الأصل: "صفة الجوابات" ثم أجوبة سبعة من العلماء إلى الورقة (15 ب)، ثم "جواب ثامن وهو جواب الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية، قال". وبعده نصُّ الجواب الآتي.

مقدمة المؤلف

الحمد لله، الكلام في هذه المسألة وتوابعها، وبيان مرتبتها في الشريعة، ومنزلتها عند سادات العارفين، وتأثيرها في القلوب خيرًا أو شرًّا، وفي الإيمان زيادة أو نقصًا، ومباينتها لطريق السالكين إلى الله تعالى العاملين على مرضاته، أو موافقتها لها، إنما ينتفع به من حَكَّم كلامَ الله ورسوله وأصحابه وأئمة الإسلام والهداة الأعلام، وألقى السمعَ إلى كتاب الله وسنّة رسوله وهو شهيد، وجانَبَ طريقَ كل مبتدعٍ في دين الله، مطبوعٍ على قلبه جبَّارٍ عنيدٍ، قد حكَّم في ذوقه ووجده وحاله حُكْمَ الله ورسوله، وانقاد إليه، وجعل دينه وما جاء به مَشْربَه الذي يَرِدُه وَيحُومُ عليه، قد ارتضع من ثدي الوحي وما انفصلَ عنه بفِطام، واقتبس النور من مشكاته فاستنار به في سَدَفِ الظلام، قد هجَرَ البطَّالين، وهاجر بقلبه إلى الله ورسوله، وهَجَّرَ وابتكر إلى محابِّه ابتغاءَ مرضاتِه وجهادًا في سبيله. فطُوبَى له من وحيدٍ على كثرة الجيران، غريبٍ مع اقتراب الأوطان، أخي سفرٍ على أنه مقيم بين الأطلال، وعابرِ سبيلٍ لم يَثْنِ عزمَه طِيبُ الثمار وبَرْدُ الظلال، قد تعلقتْ همتُه بالمطلب الأعلى، فلم يَقنَعْ بالدُّون، وباع أنفاسَه الدنيا بتلك الأنفاس العُلى لا كبيع الخاسر المغبون، رُفِعَ له عَلَمُ السعادة فشَمَّر إليه، واستبان له طريقُ الوصول إلى المطلب الأعلى فقام واستقام عليه، أجاب مناديَ الإيمان إذ نادى به حيَّ [على] الفلاح، وبذل نفسَه في مرضاة محبوبه بذْلَ المحبِّ بالرضا والسماح، وعلم (¬1) أنه لابدَّ له من لقائه فواصل إليه السُّرَى ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعلمه".

والسيرَ بالغدوِّ والرواح، فحَمِدَ عند الوصول مَسْراه، وإنما يَحْمَدُ القوم السُّرَى عند الصباح (¬1). فأمّا مَن اتخذ إلهه هواه، وأضلَّه الله على علمٍ، وختمَ على سمعِه وبصرِه فأصمَّه وأعماه، وأعرض عن الناصح بعد ما بذل له جهدَه في نصيحته وعاداه، وجعل أغلاطَ من لم تُضمَنْ له العصمةُ في أفعاله وأقواله إمامَه وقدوتَه التي بها هُداه، فهو في سجن نفسه وإرادته محبوس، وقلبه لما علاه من رَيْن كَسْبِه المُبْعِد له عن ربه أسودُ منكوس، فالطريق الموصل له إلى الله عنه مسدود، وقلبه عن النفوذ إليه محجوب ومصدود. قد أسَامَ نفسَه مع الأنعام راعيًا مع الهَمَلِ، واستطابَ لُقيماتِ الراحة والبطالة، واستلان فِراشَ العجز والكسل. استوعرَ طريقَ الصادقين، واستسهلَ طريقَ المبطلين، فذاك الذي يُنادَى من مكان بعيد، وإذا بالغتَ معه في النصيحة فإنما تَضْرِب في باردِ الحديد، قد اتخذ بَطَرَ الحق وغَمْطَ أهلِه سُلَّمًا إلى ما يحبه من الباطل ويرضاه، فلا يَعرف من المعروف ولا يُنكر من المنكر إلّا ما وافق إرادته أو خالفَ هواه، يستطيل على ورثة الرسول وحزبه بقلبه ولسانه، ويتحيّز إلى المبطلين الباطلين، فهم أخصُّ شيعتِه وأعوانِه، قد ارتوى من مشربهم وتَضَلَّعَ (¬2)، واستشرف إلى منازل أولياء الله المقربين وتطلَّع، فهو ¬

_ (¬1) إشارة إلى المثل السائر: "عند الصباح يحمد القوم السُّرى". انظر: "مجمع الأمثال" (2/ 3) و"المستقصي" (2/ 168) و"جمهرة الأمثال" (2/ 42) وغيرها. (¬2) أي: امتلأ شِبعًا ورِيًّا. وفي الأصل: "تظلع" تصحيف.

صفة من ينتفع بهذه الفتوى

يَركُض في ميدان جهله مع الجاهلين، وكلَّما برَّزَ عليهم في ذلك الميدان ظنَّ أنه من السابقين. فهذا وأمثاله إنما يُطمَع في خطابهم لإقامة الحجة، لا للاستجابةِ والانقياد، كيف وأحدهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]. وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُ الله، وقُرِئت عليهم سنّة رسوله وكلامُ أصحابه وأئمة الإسلام، قالوا: لكم الشريعة ولنا الحقيقة، إنكم في وادٍ ونحن في وادٍ! نعم في وادي الويل والثُّبور، وحقيقة الأماني الكاذبة والغرور، وتالله ليعلمنَّ المبطلون إذا بُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّلَ (¬1) ما في الصدور، حقيقةَ ما كانوا عليه، وسوءَ عاقبة ما صاروا إليه، فعن قريب ينكشفُ الغِطاء، وينجلي الغبار، ويعلم كلُّ أحد أَفَرسٌ تحتَه أم حمار (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "حصلت". (¬2) إشارة إلى قول الراجز: سوف ترى إذا انجلى الغبارُ ... أفرسٌ تحتك أم حمارُ وهو ضمن رسالة للبديع الهمذاني في "جمع الجواهر" (ص 265).

فصل: الكلام في هذه المسألة في فصلين

فصل والكلام في هذه المسائل المسؤول عنها في فصلين: الفصل الأول: في بيان حكمها في الشريعة، وهل هو التحريم أو الكراهة أو الإباحة، أو ما يقوله (¬1) المفترون الكاذبون من الاستحباب والفضيلة. الفصل الثاني: أن تَعاطِيَها على وجه اللعب والخلاعة واللهو والمجون شيء، وتعاطيها على ما يقوله الكاذبون المفترون من أنها قربة وطاعة وطريق تُقرِّبهم إلى الله وتُوصِلهم إليه وتجمع قلوبهم عليه شيء. ونحن نتكلم بعون الله وتوفيقه وإمداده على كل واحد من الفصلين بما يُيسِّره الله ويفتح به، فإنه الفتاح العليم. فأمّا الفصل الأول: فقال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. وقد أجمع الناس على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد مماته. فأمر سبحانه عباده المؤمنين أن يردُّوا ما تنازعوا فيه إليه ¬

_ (¬1) الأصل: "يقول له".

وإلى رسوله، وخاطبهم أولًا بلفظ الإيمان، ثم جعل آخرًا الإيمان شرطًا في هذا الرد، فالإيمان يوجب عليهم هذا الرد، وينتفي عند انتفائه، فمَن لم يردَّ ما تنازع فيه هو وغيره إلى الله ورسوله لم يكن مؤمنًا. وتأمل قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} كيف أعاد الفعل وهو طاعة الرسول، ليدل أنه يُطاع استقلالًا، وإن أمر بما ليس في القرآن الأمرُ به، ونهى عما ليس في القرآن النهيُ عنه، فإنه أوتي الكتابَ ومثلَه معه، ولم يُعِد الفعلَ في طاعة أولي الأمر، بل جعلها ضمنًا وتبعًا لطاعة الرسول، فإنهم إنما يُطاعون تبعًا لطاعة الرسول إذا أمروا بما أمر به، ونهوا عما نهى عنه، لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به وينهون عنه. ثمّ قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، ولم يقل "وإلى الرسول" إعلامًا بأن ما رُدَّ إلى الله فقد رُدَّ إلى رسوله، وما رُدّ إلى رسوله فقد رُدّ إليه سبحانه، وأن ما حكم به فقد حكم به رسوله، وما حكم به رسوله فهو حكمه سبحانه. وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}، وهذا يعمُّ دقيقَ ما تنازع فيه المسلمون وجليلَه، لا يخصُّ شيئًا دون شيء، فمن ظن أن هذا في شرائع الإسلام دون حقائق الإيمان، وفي أعمال الجوارح دون أعمال القلوب وأذواقها ومواجيدها، أو في فروع الدين دون أصولِه وبابِ الأسماء والصفات والتوحيد = فقد خرج عن موجب الآية علمًا وعملًا وإيمانًا. بل كما أن رسالته - صلى الله عليه وسلم - عامة إلى كل مكلف في كل وقت، فهي عامة

كل ما ليس بطاعة للرسول فهو هوى للأنفس

في كل حكم من أحكام الدين: أصوله وفروعه، حقائقه وشرائعه، فمَن أخرج حكمًا من أحكام الدين عن عموم رسالته، فهو كمَن أخرج محكومًا عليه من المكلفين عن عموم رسالته، فهذا في البطلان كهذا. وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، فجعل رحمته لهم معلقةً بطاعة رسوله، كما جعل الفلاح والفوز معلقًا بها في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52]. وأخبر سبحانه أن أهل طاعته وطاعة رسوله هم المنعَم عليهم، وهذا يقتضي أن غيرهم هم أهل الغضب والضلال، فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]، فأخبر أن مرافقة المنعم عليهم لا تحصُل إلّا لمن أطاعه وأطاع رسوله، وأن ذلك هو الفضل منه سبحانه، وهو عليم أين يجعله وعند مَن يضعه ويخصُّه به. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. وكل ما الناسُ فيه فإمّا طاعةٌ للرسول، وإما هوًى لنفوسٍ، لا يخرج عن الأمرين، وكل ما ليس بطاعة للرسول فهو هوى للأنفُس، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ

أهل السماع متبعون لأهوائهم ودعاة إلى الشيطان

أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. وبهذا يُعلم أن هؤلاء القوم مِن أَتْبعِ الناس لأهوائهم، لأن ما هم فيه ليس طاعة للرسول، فهو مجرد هوى متَّبَع، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث مُنجِيات وثلاثٌ مُهلِكاتٌ، فالمنجيات: تقوى الله في السر والعلانية، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، والمهلكات: شُحٌّ مُطاع، وهوًى مُتَّبَع، وإعجابُ كلِّ ذي رأيٍ برأيه" (¬1). وقد أغنى الله رسولَه وعبادَه المؤمنين باتّباع هداه الذي هداهم به عن أهواء الذين لا يعلمون، ونهى عن اتباع أهوائهم، وأخبر أنهم لا يُغْنُون عن مَن اتبعهم من الله شيئًا، وقطعَ الموالاةَ بينه وبينهم، وأخبر أنه وليُّ مَن اتقاه واتبع هداه، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19]. ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في مسنده (1/ 59 - كشف الأستار)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 343)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5/ 112) عن أنس بن مالك. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، وقد خرَّجها الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1802) وحكم عليها بالحسن بمجموع الطرق. وسبقه إليه المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 286).

فصل: ما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو حياة القلوب ونجاة النفوس

وأمر سبحانه رسولَه وأتباعَه أن يدعوا إليه على بصيرة، فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. وهؤلاء المبتدعون ليسوا من الدعاة إلى الله، وليسوا على بصيرة، بل هم من الدعاة إلى الشيطان، وهم من جنده وحزبه، يدعون إلى ما يُسخِط الله ورسوله، ويُباعِد من رضاه ويُقرِّب من سخطه، فلهم نصيب من قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. فصل وما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو حياة القلوب، ونجاة النفوس، ونور البصائر، وما يدعو (¬1) إليه مخالفوه فهو موت القلوب، وهلاك النفوس، وعَمَى البصائر. قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]. وتأمل كيف أخبر عن حيلولته بين المرء وقلبه بعد أمرِه بالاستجابة له ولرسوله، كيف تجد في ضمن هذا الأمر والخبر أن مَن ترك الاستجابة له ولرسوله حالَ بينه وبين قلبه، عقوبةً له على ترك الاستجابة، فإنه سبحانه يُعاقِب القلوب بإزاغتها عن هداها ثانيًا، كما زاغت هي عنه أولًا. قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، ¬

_ (¬1) الأصل: "يدعوه".

وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. وقال: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [التوبة: 127]. فصرف قلوبهم عن الهدى ثانيًا، لما انصرفوا عنه بعد إذ جاءهم أولًا. وقد حذَّر سبحانه مَن خالفَ أمرَ رسوله بإصابة الفتنة في قلبه وعقله ودينه، وإصابة العذاب الأليم له، إمَّا في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. قال سفيان وغيره من السلف (¬1): "وأي فتنة؟ إنما هي الكفر". وأخبر سبحانه أن مَن تولى عن طاعة رسوله، فإنه لابدّ أن يُصِيبه بمصيبةٍ وقارعةٍ بقدر تولِّيه عن طاعته، فقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]. وقد أمر تعالى باتباع صراطه الذي نصَبَه لأوليائه، وجعله مُوصِلًا إليه وإلى جنته، ونهى عن اتّباع ما سواه من السبل، فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا وقال: هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذه ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (17/ 391)، وابن كثير (6/ 2535)، و"الدر المنثور" (11/ 130).

البدعة والتحذير منها

سُبُلٌ، على كل سبيلٍ منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية (¬1). وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كل عمل ليس عليه أمره فهو مردود على فاعله، مضروب [به] وجهُه، ولا يزيده من الله إلا بعدًا، كما ثبت في صحيح مسلم (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"، وفي لفظ آخر: "كل عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ" (¬3). وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الله سبحانه جعل الذلة والصَّغار على مَن خالف أمره، ففي مسند الإمام أحمد (¬4) وصحيحي الحاكم وابن حبان من ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 435، 465)، والطيالسي في مسنده (244)، والدارمي (1/ 67)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11174)، وابن حبان في صحيحه (6، 7)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 318)، من طرق عن حماد بن زيد عن عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود. وإسناده حسن. (¬2) برقم (1718) من حديث عائشة. (¬3) لم أجد هذا اللفظ مرويًّا بإسناد، وذكره ابن عبد البر في التمهيد (2/ 82)، وابن حزم في المحلى (8/ 134). واللفظ المشهور: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ". أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718). (¬4) (2/ 50). ولم أجده في صحيح ابن حبان و"المستدرك". وأخرجه أيضا عبد بن حميد في "المنتخب" (848)، والطبراني في "مسند الشاميين" (216)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1199) من طرق عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسّان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر. وإسناده ضعيف، وابن ثوبان مختلف فيه، وقال الإمام أحمد: له أحاديث منكرة.

فصل: الكلام المجمل في هذه المسألة

حديث عبد الله بن عمر (¬1) -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظلِّ رُمْحي، وجُعِل الذلَّةُ والصَّغار على مَن خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم". وفي جامع الترمذي ومسند الإمام أحمد وغيرهما (¬2)، عن العرباض بن سارية قال: وعظَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغة، ذَرَفتْ منها العيون، ووجِلتْ منها القلوبُ، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّع، فماذا تَعهَد إلينا، قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، فإنه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثةِ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالة". فصل إذا عُرف هذا، فالكلام في هذه المسألة المسؤول عنها من وجهين: مفصل ومجمل. أما المجمل فهو أنَّ هذا السماع على هذا الوجه حرام قبيح، ¬

_ (¬1) في الأصل: "عمرو"، وهو خطأ. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 126)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (43)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 97) وغيرهم، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده. وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم.

مفاسد السماع

لا يُبيحه أحد من المسلمين، ولا يستحسنه إلّا من خلعَ جِلبابَ الحياء والدين عن وجهه، وجاهرَ الله ورسولَه ودينَه وعبادَه بالقبيح، وسماعٌ مشتمل على مثل هذه الأمور قُبحه مستقرٌّ في فِطَر الناس، حتى إنَّ الكفار ليُعيِّرون به المسلمين ودينهم. نعم خواصُّ المسلمين ودين الإسلام براء من هذا السماع، الذي كم حَصَل به من مفسدةٍ في العقل والدين والحريم والصبيان، فكم أفسدَ من دين، وأمات من سنة، وأحيا من فجور وبدعة، وكم هُدِمَ به من مرضاة الله ورسوله، وبُنِي به من مساخطه ومساخط رسوله، ولا إله إلا الله كم جَلَبَ من شركٍ، وأخفَى من توحيد، وكم فيه من فتحٍ لطرق الشيطان، وصَدٍّ عن سبيل الله وعن الإيمان، وكم أنبتَ في القلب من نفاقٍ، وغرَسَ فيه من عداوةٍ لدين الله وشقاق، وكم وقعَ فيه من رُقيةٍ للزنا والحرام، وتسهَّلَ به من طريقٍ إلى ما كرهه الله من المعاصي والآثام، وكم قرَّتْ به للشيطان وحزبه من عيون، وتقرَّحتْ به لأولياء الله وحزبه من جُفون، وكم مالتْ به الطباعُ إلى ما حرَّمه الله ورسوله عليها، وكم سَكِرَتْ به النفوسُ فعَربدتْ بالمحارم، وانقادتْ قَسْرًا إليها. وأربابُ الخبرة من أهله يعلمون أن سُكْر السماع للأرواح، أعظمُ من سُكْر الأبدان والنفوس بشرب الرّاح، وأن لسُكر الشراب يَستفيق صاحبُه عن قريب، وسُكر السماع إذا تمكَّن من الروح لم يَبقَ لها في الإفاقة نصيب. فلو سألتَ الطباعَ ما الذي خنَّثَها، وذكورةَ الرجال ما الذي أنَّثَها، لقالتْ: سَلِ السماعَ فإنَّه رُقية الزنا وحادِيه، والداعي إلى

من أعظم مفاسده ثقل استماع القرآن على قلوب أهله

ذلك ومُناديه. هذا، ولو (¬1) لم يكن فيه من المفاسد إلَّا ثِقلُ استماعِ القرآن على قلوب أهلِه، واستطالتُه إذا قُرئ بين يَدَيْ سماعِهم، ومرورُهم على آياته صُمًّا وعميانًا، لم يَحصُل لهم منه ذوق ولا وَجْدٌ ولا حلاوةٌ، بل ولا يُصغِي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه، ولا يُقوِّمون معانيه، ولا يَغضُّون أصواتهم عند تلاوته. فإذا جاء السماع الشيطاني خَشَعَتْ منهم الأصوات، وهَدأت الحركات، ودارتْ عليهم كؤوسُ الطرب والوجد، وحَدا حينئذٍ حادي الأرواح إلى محلِّ السرور والأفراح. فلغيرِ الله لا لله كم من عيونٍ تَسْكُبُ غَرْبَ مدامعَ، لم تَفِضْ (¬2) بقطرة منها نفسٌ عند تلاوة كلام الرحمن، وكم من شوقٍ ووجْدٍ ولهيب أحشاءٍ لا يُوجد منه شيء عند ذكر رب العالمين، ولا يثور ويتحرك إلَّا عند سماع المُبطِلين: تُلِي الكتابُ فأطرقُوا لا خِيْفةً ... لكنه إطراقُ ساهٍ لاهِي وأتَى الغناءُ فكالدِّبابِ تَراقصُوا ... والله ما رَقصُوا لأجلِ الله دفٌّ ومزمارٌ ونَغْمةُ شاهدٍ ... فمتَى رأيتَ عبادةً بملاهي ثَقُلَ الكتابُ عليهمُ لمَّا رأوا ... تقييدَه بأوامرٍ ونواهي والرقصُ خَفَّ عليهمُ بعد الغِنا ... يا باطلًا قد لاقَ بالأشباه ¬

_ (¬1) جواب "لو" غير مذكور، وهو مفهوم من السياق، أي: "لكان كثيرًا". (¬2) في الأصل: "لم تفظ" تحريف.

نسبته إلى دين الرسول وشرعه مصيبة عظمى

يا أمةً ما خانَ دينَ محمدٍ ... وجَنَى عليه ومَلَّهُ إلا هِي (¬1) وبالجملة فمفاسدُ هذا السماع في القلوب والنفوس والأديان، أكثرُ من أن يُحِيط بها العدُّ. والمصيبة العظمى والداهية الكبرى: نسبةُ ذلك إلى دين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشرعِه، وأنَّه أذِنَ في ذلك لأمته، وأباحَه لهم وأطلقَه، ورفعَ الحرج عن فاعله، مع اشتماله على هذه المفاسد المضادَّة لشرعه ودينه. وأعظم من هذه البلية وأشدُّ: اعتقادُ أنَّه قُربةٌ حتى يُتقرَّب به إلى الله، ودينٌ يُدانُ الله به، وأنَّ فيه من صلاح القلوب وعمارتها بالأحوال العلية والصفاتِ الزكية ما يجعله أفضلَ من كثير من النوافل، كقيام الليل وقراءة القرآن، وطلب ما يُقرِّب إلى الله من العلم النافع والعمل الصالح. وأعظم من هذا كلِّه بليةً ومصيبةً: اعتقادُ أن تأثّر القلوب به أسرعُ وأقوى من تأثرها بالقرآن، وأنَّه (¬2) قد يكون أنفعَ للعبد من سماع القرآن، وأن فتحَه أعجلُ وأقوى من فَتْح القرآن من وجوه متعددة. ولا ريبَ أنَّ هذا من النفاق الذي أنبتَه الغناءُ في القلب، فإنَّه كما قال عبد الله بن مسعود: "الغناء يُنبِتُ النفاقَ في القلب كما يُنْبِت الماءُ (¬3) ¬

_ (¬1) بعضها عند الطرطوشي في "تحريم السماع" (ص 233). وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في جامع المسائل (1/ 91)، والمؤلف في "إغاثة اللهفان" (1/ 225) و"مدارج السالكين" (1/ 487، 488) بلا نسبة. (¬2) في الأصل: "وإن". (¬3) في الأصل: "في الماء".

فصل: كمال الدين وتمامه

البقلَ" (¬1)، وأيُّ (¬2) نفاقٌ فوقَ هذا النفاق؟ ولا ريبَ أنَّ ارتكاب المحرمات مع العلم بتحريمها أسهلُ وأسلمُ عاقبةً من ارتكابها على هذا الوجه، فإنَّ هذا قَلْبٌ للدين، ومشاققةٌ لرسول رب العالمين، واتباعٌ لغير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. فصل قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقد أكمل الله لنا الدينَ فيما أمرنا به من فريضةٍ وفضيلةٍ وندب، وكلِّ سببٍ يُنال به صلاحُ القلب والدين، وفيما نهانا عنه من كل مكروه ومحرم، وكلِّ سببٍ يُؤثِّر فسادًا في القلب والدين. فإذا قال القائل: هذا السماع المصطلح عليه المحدَث هو من الدين الذي تَصْلُح عليه القلوب، وتَلطُف وتَرِقُّ، ويَثُور منها وَجْدُها ¬

_ (¬1) أخرجه محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (680) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (41)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4/ 278) موقوفًا على ابن مسعود. وروي مرفوعًا، قال المؤلف في "إغاثة اللهفان" (1/ 248): في رفعه نظر، والموقوف أصح. وانظر "السلسلة الضعيفة" للألباني (2430). (¬2) في الأصل: "وأين".

هل السماع شرعه الرسول أو لم يشرعه؟

وحبُّها = لزِمَه أحدُ الأمرين، لابدَّ له من أحدهما: إما أن يكون الله شرعَه لرسوله حيث أكمل له دينه، ففعله الرسول، وحضَّ عليه، وندَبَ أمته ودعاهم إليه، فإنَّه لم يترك سببًا يُقرِّبهم إلى الله وُينال به صلاحُ قلوبهم وأديانهم إلَّا شرَعَه، وأمر به ودعا إليه. وقائل هذا ومعتقِدُه مجاهر (¬1) بالكذب على الله ورسوله، مُنادٍ على وَقاحتِه وجُرأته على الله وعلى رسوله وعلى دينه، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه بريءٌ من هذا السماع الذي فيه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله، وكذلك أصحابه والتابعون لهم بإحسان، فنسبتُه إليهم بهتٌ وكذبٌ وافتراءٌ عليهم، يُنفِّق به المبطلون باطلَهم، يتترَّسُون به من سهام حزب الرسول وأنصار دينه. وإما أن يقول: إنَّ الله لم يشرعه ولا رسوله، ومع هذا فهو من الدين وحقائقه الذي يُنال به صلاح القلوب، ويجمعها على الله، فيلزمه حينئذٍ أن يكون الدين ناقصًا لم يكمله الله حتى يكمله هؤلاء السماعاتية، وأنهم خُصُّوا بخير لم يسبقهم إليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. ولابدّ لهؤلاء من أحد هذين الأمرين المنافيين لدين الإسلام أو الاعتراف بالحق، وهو أنَّ هذا أحسن أحواله وما يقال فيه: إنه من الباطل واللعب واللهو الذي من اتخذه دينًا فله نصيب وافر من قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 70] ¬

_ (¬1) في الأصل: "مهاجر" تحريف.

تفسير السلف "لهو الحديث" بأنه الغناء

ونصيب من قوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، فالمكاء الصفير، والتصدية التصفيق. فمن اتخذ الصفير بالشبابة والتصفيق بالأكفِّ دينًا، فقد زاحم هؤلاء. وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6 - 7]. وقد فسر غير واحد من السلف (¬1) لَهْوَ الحديثِ بأنَّه الغناء، وروي في ذلك حديث مرفوع من حديث عائشة أم المؤمنين: "إن الله حرَّم القينَة، وبيعَها وثمنَها وتعليمَها والاستماعَ إليها"، ثمّ قرأ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} (¬2). ورواه الترمذي (¬3) من حديث أبي أمامة، ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري (18/ 534 وما بعدها)، وابن كثير (6/ 2739)، و"الدر المنثور" (11/ 615 وما بعدها). (¬2) أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (25)، والطبراني في "الأوسط" (5/ 265، 7/ 430، 9/ 246) وإسناده ضعيف. ضعفه العراقي في "تخريج الإحياء" (1/ 573) ونقل عن البيهقي أنه قال: ليس بمحفوظ. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 91): فيه اثنان لم أجد من ذكرهما، وليث بن أبي سليم وهو مدلس. وانظر "الدر المنثور" (11/ 616). (¬3) برقم (1282، 3195) وقال: هذا حديث غريب، إنما يُروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.

تفسير "السمود" بالغناء وغيره

ولفظه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا القَيْناتِ، ولا تشتروهن ولا تُعلِّموهن، ولا خيرَ في تجارةٍ فيهن، وثمنهن حرام"، وفي هذا نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، ورواه الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنديهما (¬1). وثبت تفسير ذلك بالغناء عن الصحابة (¬2) والتابعين، وهم أعلم الناس بالقرآن وتفسيره، فقال أبو الصهباء: سألت عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال: "هو الغناء والاستماع إليه" (¬3). وهو القائل: "الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبِت الماء البقل" (¬4). وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري في هذه الآية: "إنه الغناء" (¬5). وقال عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61]: إنَّ السمود هو الغناء. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 252، 264)، والحميدي (910)، والطبري في تفسيره (18/ 532، 533)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 14) من الطريق المذكور. وله طرق أخرى تكلم عليها الألباني في الصحيحة (2922) وحسَّن الحديث بها. (¬2) في الأصل: "أصحابه". (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 309)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" رقم (26)، والطبري في تفسيره (18/ 535)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 411)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (15/ 223)، وصححه الحاكم. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) انظر "الدر المنثور" (11/ 618).

"صوت الشيطان" هو الغناء والمزامير

يقال: سمَدَ فلان إذا غنَّى (¬1). وقد فُسّر السمود باللهو، وفسّر بالإعراض، وفسّر بالغفلة، وفسّر بالأشر والبطر (¬2)، ولا ينافي تفسيره بالغناء، فإن الغناء ثمرة ذلك كله، فإن الحامل عليه اللهو والغفلة والإعراض والأشر والبطر، وذلك كله منافٍ للعبودية. وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] قال مجاهد: هو الغناء والمزامير (¬3). وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صوتًا أحمَق فاجرًا"، ولو كان مباحًا لما كان فاجرًا، فروى البخاري في صحيحه (¬4) من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: "دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حِجْره إبراهيم يعني ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يجود بنفسه، وعيناه ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (22/ 97)، والبزار كما في "مجمع الزوائد" (7/ 116)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وانظر "الدر المنثور" (14/ 60). (¬2) انظر "تفسير البغوي" (4/ 257) و"زاد المسير" (8/ 86)، و"تفسير القرطبي" (17/ 123). (¬3) أخرجه الطبري (14/ 657)، وابن أبي حاتم كما في "إغاثة اللهفان" (1/ 255). وانظر "الدر المنثور" (9/ 396). (¬4) هو عند البخاري في "صحيحه" (1303) عن أنس بن مالك بلفظ آخر. وما ذكره المؤلف أخرجه أبو يعلى والبزار كما في "مجمع الزوائد" (3/ 17)، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفيه كلام، وأخرجه الترمذي (1005) من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم. . . إلخ. وقال: حديث حسن. واضطرب فيه ابن أبي ليلى. انظر علل الدارقطني (12/ 448).

النهي عن صوتين أحمقين فاجرين في الحديث، وسبب ذلك

تَذْرِفان، فقلت: يا رسول الله! أوَ تبكي؟ أوَ لم تَنْهَ عن البكاء؟ فقال: "إنما نهَيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: رنَّة عند مصيبة، وشقّ جيوب، وخَمْش وجوه، ورنَّة شيطان وصوتِ عند نعمةٍ ولهو ولعب". أراد بالصوت الأول: ما يُحدِثه الحزن والمصيبة من النياحة والدعاء بالويل وتوابع ذلك. وبالصوت الثاني: ما يُحدِثه الطرب واللذة من الغناء وتوابعه، فإن في النفس (¬1) قوة الطرب وقوة الحزن والأسف، فإذا وردَ عليها وارد أثار منها ذلك، وأثَّر فيها هذا الصوت وتوابعه، وهذا الصوت وتوابعه بحسب قوة الوارد وضعف النفس، فاستفزَّها الشيطان حينئذٍ، ونال منها مراده بمعصية الله والخروج عن أمره في هذه الحال وهذه الحال. ولهذا شرع الله سبحانه لعباده عند هذين الواردين ما (¬2) يحفظ به العبد قلبه وإيمانه ودينه أن يستلبه الشيطان ويستفزَّه، فشرع لهم عند المصيبة الصبر والاسترجاع، وعند النعمة سجود الشكر، والتواضع لله، وحمده وشكره، فبذلك تدوم النعمة، كما أن بالصبر والاسترجاع تندفع المصيبة عن القلب أو تَخِفُّ، فعارضَ الشيطانُ وحزبه أمرَ الله، وشرعوا عند المصيبة والنعمة الصوتين الأحمقين الفاجرين: صوت الندب والنياحة والدعاء بالويل والعويل وتوابع ذلك، وصوت الغناء والمزامير وآلات اللهو وتوابع ذلك. وبذلك يتبين لمَن له قلب حي، وبصيرة منورة بنور الإيمان، أن ¬

_ (¬1) في الأصل: "في نفس". (¬2) في الأصل: "بما".

إجماع أهل العلم على التحذير من الغناء والسماع وآلات اللهو

الغناء والسماع الشيطاني وآلات اللهو إنما نصبَها الشيطان مضادةً لأمر الله ومعارضة لما شرعه لعباده، وجعله سببَ صلاح قلوبهم وأديانهم، واستخفَّ الشيطان حزبَه وحسَّن لهم ذلك، فأطاعوه، وزيَّنه لهم فاتبعوه، ولما فعلوا ذلك واستجاب لهم من قل نصيبه من العلم والإيمان، صاح بهم جندُ الله وحزبه من كل قطر وناحية، وحذَّروا منهم، ونهوا عن مشابهتهم والاقتداء بهم من سائر طوائف أهل العلم، فصاحَ بهم أئمة الحديث، وأئمة الفقه، وأئمة التفسير، وأئمة الزهد والسلوك إلى الله، وحذَّروا منهم كل الحذر، فقد ذكرنا كلام ابن مسعود، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي (¬1). وأمَّا أبو حنيفة وأصحابه فمن أشدِّ الناس فيه، وأسهلُ ما عندهم فيه أنه من الذنوب والمعاصي، وهذا مذهب سائر أهل بلده، قدَّس الله روحَه، مثل سفيان الثوري وحماد بن أبي سليمان، وقبله الشعبي وإبراهيم. لا خلاف بينهم في ذلك (¬2). وكذلك علماء أهل البصرة لا خلافَ بينهم في المنع منه، إلا ما يُروى عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه كان لا يرى به بأسًا، لكن ليس على هذه الصفة التي يفعلها الفساق، فإن هذا لا يُجيزه أحد من أهل العلم. ¬

_ (¬1) سبق تخريج هذه الآثار. (¬2) اعتمد المؤلف في ذكر مذاهب العلماء على رسالة أبي الطيب الطبري "الرد على من يحب السماع" (ص 30، وما بعدها)، و"تلبيس إبليس" (ص 258 وما بعدها). فلا نكرّر الإشارة إليهما فيما يلي.

شذوذ من لم ير به بأسا

قال زكريا بن يحيى الساجي: وكذلك مذهب جميع أهل المدينة، إلا إبراهيم بن سعد وحده، فإنه كان لا يرى به بأسًا. قال القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (¬1): فقد أجمع علماء الأمصار على كراهته والمنع منه، والوصف لعواره وتأثيره في القلوب، قال: وإنما فارقَ الجماعةَ هذان الرجلان إبراهيم وعبيد الله، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فارق الجماعة ماتَ ميتةً جاهلية" (¬2). فالمصير إلى قول الجماعة أولى، لاسيما من أحب أن يستبرئ لدينه ويحتاط لدينه. فإن (¬3) قال قائلٌ مِن هذه الطائفة المفتونة بسماع الغناء: نحن لا نَدعُ سماع الغناء إذا كان قول بعض أهل العلم موافقًا لما نقوله ونعتقده إلا بدليل من كتاب الله. فالجواب أن اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع المسلمين، فإنه ليس في المسلمين من جعله طاعة ودينا، ولا رأى إعلانه في المساجد، ولا حيث كان من البقاع الكريمة والجوامع الشريفة، فكان مذهب هذه الطائفة مخالفًا لما أجمعت عليه العلماء، ونعوذ بالله من الخذلان. وقد قال الشافعي في كتاب أدب القضاء (¬4): إن الغناء لهوٌ ¬

_ (¬1) في رسالته (ص 31). (¬2) أخرجه البخاري (7054)، ومسلم (1849) عن ابن عباس. (¬3) هذا السؤال والجواب أيضًا من كلام أبي الطيب الطبري (ص 32). (¬4) من كتاب "الأم" (6/ 226). والمؤلف ينقل هذه الأقوال من كتاب أبي الطيب الطبري (ص 27 - 28).

مكروه يُشبِه الباطل، ومَن استكثر منه فهو سفيه تُردُّ شهادته. قال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه تُردّ شهادته. وقال: هو دياثة، وأخاف أن يكون ديُّوثًا. قال أبو الطيب (¬1): وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناسَ إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. وقال الشافعي: "خرجتُ من بغداد وخلَّفتُ بها شيئًا أحدثته الزنادقة ويسمونه التغبير، يصدُّون الناسَ به عن القرآن". هذا والتغبير ضرب بقضيب على جلدٍ أو مخدَّة، يخرج له صوت، وينشدون معه أشعارًا مرقِّقة مزهِّدة. فإذا كان هذا قول الشافعي قدَّس الله روحه فيه، فما قوله في سماع الأشعار والأغاني التي تتضمن ذكر المعشوق، وحسن ملقاه، وعذوبةَ عتابه، وبثَّ شكواه، وعُذرَه (¬2) المليح، ودلَّ من يهواه، وحلاوةَ العطف والوصال والإقبال والتلاق، ومرارة الصدّ والهجران والإعراض والفراق، ووصفَ محاسن المليح والمليحة من اعتدال أغصان القدود، وتفتُّح وَرْدِ الخدود، وحسن استدارة رُمَّانِ النُّهود، وفتور الطَّرْفِ السَّاجِ، وفلق صُبح الجبين في سواد شعر الليل الداج، ولِين المعاطفِ واعتدالها، وبهجةِ تلك المحاسنِ وجمالها. هذا مع كونه من أمردَ يَرُوقُ العيونَ منظرُه، ويدعو إلى غير العفاف تَثنِّيهِ وتكسُّرُه، لا يَستُر وجهَه بنقاب، ولا معاطفَه بجلباب، أو امرأةٍ حسناءَ قد أخذتْ محاسنُها ¬

_ (¬1) رسالته (ص 28). (¬2) في الأصل: "وغده".

بطلان الاستدلال على جوازه بحديث غناء الجويريتين

بمجامع القلوب والعيون، فصوتها وجمالها فتنةٌ لكل مفتون، هذا إلى ما يقترن بذلك من الدفوف المجلْجِلات، والشبابات المُطرِبات، والمواصِيل المهيِّجات. فحاشا الشافعي وغيره من أئمة المسلمين، بل ومن له نصيبٌ من العلم والدين، أن ينسبوا إباحةَ مثل هذا إلى شريعة رب العالمين، وسنة رسوله الأمين، الذي فرقتْ رسالتُه بين الهدى والضلال، والغيِّ والرشاد، والشكِّ واليقين. ومن أبطل الباطل وأبين المحال: الاستدلالُ على حِلِّ هذه العظائم بغناء جُويريتين دون البلوغ من جواري الأنصار في يوم عيد، بأبيات من أشعار العرب في وصف الحرب والشجاعة والبأس ونحو ذلك، غناءً مجردًا عن جميع ما عليه سماع الفساق المبطلين مما ذكرناه وغيره. قال جعفر بن محمد: قلت لأبي عبدالله -يعنى أحمد بن حنبل-: حديث الزهري عن عروة عن عائشة، وهشام عن أبيه عن عائشة عن جَوارٍ يُغنِّين، أَيْش هذا الغناء؟ قال: غناء الراكب، أتيناكم أتيناكم (¬1). قال الخلال (¬2): أنا أحمد بن الفرج الحمصي، قال يحيى بن سعيد: ¬

_ (¬1) انظر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" للخلال (ص 164)، و"تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 225). (¬2) في الأصل: "خلال". والنص في المصدر السابق (ص 163)، و"تلبيس إبليس" (ص 225). والحديث أخرجه أبو الشيخ من طريق بهية عن عائشة، كما في "فتح الباري" (9/ 225). وله طرق أخرى، وأصله عند البخاري (5162) من طريق عروة عن عائشة مختصرًا.

حدثنا أبو عَقيل عن بُهيَّة عن عائشة قالت: كانت عندنا يتيمةٌ من الأنصار، فزوَّجناها رجلًا من الأنصار، فكنت فيمن أهداها إلى زوجها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشةُ! إن الأنصار ناس فيهم غزل، فما قلتِ؟ "، قالت: دعونا بالبركة ثم انصرفوا، قال: "أفلا قلتم: أتيناكم أتيناكم ... فحيُّونا نُحيِّيكم ولولا الذهبُ الأحمـ ... ـرُ ما حلت بَواديكم ولولا الحبَّة السمرا ... ءُ لم تَسمَنْ عَذارِيكم فهذا وأمثاله الذي أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يأذن في تلك المصائب والدواهي، ومن كذَب عليه فليتبوأ [مقعده] من النار. والاستدلال بهذه القصة وأمثالها على حلِّ هذه العظائم المعلوم قبحُها بالفطَرِ السليمة والعقولِ الصحيحة، يُشبِه الاستدلالَ على حل الخمر والمسكر بأكل قبصةٍ من تمر أو زبيب، ويشرب فوقها شربة من ماء، فإذا ضمّ أحدهما إلى الآخر في الإناء حتى أسكر ثم شربه، كأنه كضمِّه هذا إلى هذا في بطنه! وعقولٌ هذا مبلغها من العلم والمعرفة، حقيق لمن نصح نفسَه، وخاف مقام ربه، وتزود ليوم معاده، وعلم أنه موقوفٌ بين يدي الله ومسؤول، أن لا يَعبأَ بها شيئا وأن لا يَغترَّ بها وبأهلها. وقد قيل: إن التغبير في لسان السلف هو الغناء، قال الحافظ أبو موسى المديني: قيل إنه الغناء، لأنه يحمل الناس على الرقص، فيغبِّرون الأرضَ بالدقّ والفحْصِ وحَثْيِ الترابِ. قال أبو موسى: قال الشافعي:

بالعراق زنادقة وضعوا التغبير، وفي رواية: أحدثوا القصائد، ليشغلوا الناس عن القرآن (¬1). قال: وسئل أحمد بن حنبل عن التغبير، فقال: بدعة، إذا رأيت إنسانًا منهم في طريقٍ فخذْ في طريق أخرى (¬2). وقال أبو الحسن بن القصار إمام المالكية: سئل مالك عن السماع، فقال: لا يجوز. قيل: فإن بالمدينة قومًا يسمعون ذلك. قال: إنما يسمع ذلك عندنا الفسَّاق. قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] أهو حق؟ فقال السائل: لا (¬3). وفي جامع الخلال (¬4) عن يزيد بن هارون إمام الإسلام في وقته، أنه قال: ما يُغبِّر إلا فاسق، ومتى كان التغبير؟ وفي مسائل عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن الغناء، فقال: "الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يُعجِبني" (¬5). قال عبد الله: وحدثني أبي قال حدثني إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق" (¬6). هذا، وقد برَّأ الله غناءهم عن ¬

_ (¬1) انظر كتاب الخلال (ص 168). (¬2) المصدر السابق (ص 167). (¬3) انظر "تفسير القرطبي" (14/ 52). (¬4) "الأمر بالمعروف" منه (ص 168). (¬5) انظر "المسائل" (ص 316) و"تلبيس إبليس" (ص 228). (¬6) العلل لأحمد (1/ 260) وكتاب الخلال (ص 158) و"تلبيس إبليس" (ص 229).

فتوى ابن بطة في الغناء والسماع

غناء الفساق اليوم. وقال الخلال (¬1): أخبرني العباس بن محمد الدوري قال: سمعتُ إبراهيم بن المنذر وسئل فقيل له: أنتم ترخِّصون في الغناء؟ فقال: "معاذَ الله، ما يفعل هذا عندنا إلا الفسّاق". وذكر الخلال (¬2) عن مكحول قال لمن مات وعنده مغنية: لم نصلِّ عليه. وقد أنكر السلف من السماع ما هو دون هذا بكثير، ولو شاهدوا هذا لاشتد إنكارهم له وعظم جدًّا، ورأيت لأبي عبد الله بن بطَّة جوابًا عن سماع الغناء، أنا أذكره بنصه (¬3). قال: سألني سائل عن استماع هذا الذي يسمونه القول، وهو الغناء، والإصغاء إليه ومجالسة أهله، فنهيته عن ذلك، وأنكَرْتُه عليه، وأعلمتُه أن ذلك مما حظره الكتاب، وحرَّمته السنة، وأنكَرَتْهُ العلماء، وتجافاه العقلاء، واستحسنه السفهاء والسخفاء. وزعم السائل أنه لقي جماعةً من الشيوخ ممن يتحلَّى بالعلم ويُنسَب إليه، في جماعة سواهم ممن يُظهِر النسك والتقشف ويدعون إلى الزهد والتعبد، يحضرونه ويستمعون له ويستحسنونه، ويحتجون في ذلك بتحريف القول، ويدعون إليه من أطاعهم، ويستجهلون من ¬

_ (¬1) ص 158. (¬2) ص 160. (¬3) ذكر ابن الجوزي جزءًا منه في "تلبيس إبليس" (ص 237).

خالف جماعتهم. وإني قد تدبرتُ ما حكاه، وعرفت من أشار إليه، ومن يفعل ذلك ويهواه، فتلك طائفة تسمى في الحقيقة الجبرية لا الصوفية، أهل هِمَمٍ دنيئة، وأخلاق رديئة، وشرائع بدعية، يُظهرون الزهد والتقشف، وهم أهل جهالة وغفلة، وكل أسبابهم ظلمة ووحشة، يدَّعون الشوق والمحبة بإسقاط الخوف والرجاء، يحضرون الغناء ويسمعونه من الأحداث والنساء، يَطرَبون عند استماعهم لذلك ويرقصون، ويتغاشَون ويتماوتون، ويزعمون أن ذلك من شدة حبهم لربهم تعالى، ومن شوقهم إليه، وأنهم يرونه ويشاهدونه، تعالى عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا. وكل هؤلاء فقد كذَّبهم الكتاب والسنة والصحابة والتابعون وصالحو هذه الأمة. فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1 - 3]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]، قيل: هو الغناء والاستماع إليه، صحت بذلك الأخبار، وقال بذلك العلماء والأخيار، لا يُنكِره إلا السفهاء والفجار. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] قيل: الغناء. وعن مجاهد قال: ينادي مُنادٍ يومَ القيامة أين الذين كانوا يُنزِّهون أسماعَهم عن اللهو؟ فيُحِلُّهم الله في رياض الجنة (¬1). وعن الشعبي أنه دُعي إلى وليمة، فسمع صوت لهو، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (72) والآجري في تحريم النرد =

إنكار مشايخ الصوفية على السماع

فقال: إما أن نُخرِجهم وإما أن نخرج. وعن ابن مسعود أنه دعي إلى وليمة، فسمع صوت لهو فرجع، فلقيه الذي دعاه، فقال: مالكَ رجعتَ؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كثَّر سوادَ قوم فهو منهم، ومن رضي عملَ قوم فهو شريكُ مَن عمله" (¬1). وقال يزيد بن هارون: التغبير بدعة وضلالة. وقال الشافعي: التغبير أحدثته الزنادقة يصدُّون الناس به عن القرآن. وقال الإمام أحمد: هو بدعة ومُحدَث، ونهى عن استماعه. وقال مالك: إنما يفعله عندنا الفساق. هذا آخر جواب ابن بطة. فصل وأما إنكار مشايخ الطريق العارفين بآفاته وسوء تأثيره في القلوب فكثير جدًّا، وكثير ممن حضره منهم تاب منه توبته من الكبائر. وذكر أبو موسى المديني (¬2) أنَّ أبا القاسم النصر ابادي دخل على إسماعيل بن نُجَيد، فقال ابن نجيد: يا أبا القاسم! سمعتُ أنك مُولَع بالسماع، فقال: نعم أيها الشيخ، السماع خير من أن نقعد ونغتاب، فقال له: هيهات! زلَّة تَزِلُّ في السماع أعظم من كذا وكذا سنةً تغتاب. قال أبو موسى: وذكر نصر بن علي قال: سمعت أبا محمد جعفر ¬

_ = والشطرنج والملاهي (ص 217). وانظر "الدر المنثور" (11/ 589). (¬1) أخرجه أبو يعلى في مسنده كما في "إتحاف الخيرة المهرة" (4/ 135) و"المطالب العالية" (2/ 42)، ولم أجده في طبعتي المسند. وفي إسناده انقطاع. وانظر "نصب الراية" (4/ 346). (¬2) لم أعثر على كتابه الذي نقل عنه المؤلف نصوصًا عديدة.

ابن محمد الزاهد، يقول: سمعت شيخي يقول: اجتمعتُ ليلةً مع أصحابنا، فابتدأ القوَّال فقاموا ورقصوا وكنت معهم، فنُودِيتُ في سِرِّي: يا هذا {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55]، فهربتُ وقلت: إنَّ السماع مخاطرة. قال أبو موسى: وأبنا عبد الكريم بن عبد الرزاق، أبنا أحمد بن الفضل حدثنا أبو العباس النسوي، قال: سمعت علي بن مفلح، يقول: سمعت فارس البغدادي يقول: قال جنيد: خرجتُ ليلةً فلقيني إبليس، فقال: أتعبني واللهِ أصحابك، قلت: كيف؟ قال: إن عرضتُ عليهم أذكار الدنيا اشتغلوا بأذكار الآخرة، وإن عرضتُ عليهم أذكار الآخرة اشتغلوا بالذكر لله، إلا أني أستحسنُ منهم خُطَّتين: السماع والنظر إلى الأحداث. قال أبو موسى: ثنا الإمام أبو بكر القزاز، حدثنا الخطيب (¬1)، أخبرني عبد الصمد بن محمد، قال: سمعت الحسن بن الحسين، يقول: سمعت أبا الفرج الرستمي الصوفي، يقول: سمعت المحترق البصري، يقول: رأيت إبليس في النوم، فقلت له: كيف رأيتَنا؟ عزفْنا عن الدنيا ولذاتها وأموالها، فليس لك إلينا طريق، فقال: كيف رأيت ما اشتملت به قلوبكم باستماع السماع ومعاشرة الأحداث! قال أبو موسى: وأنا أبو طاهر محمد بن عبد الغفار الهمذاني ¬

_ (¬1) في "تاريخ بغداد" (14/ 429). وانظر نحو هذا الخبر في "تلبيس إبليس" (ص 276، 277).

جواز بعض الغناء في النكاح والختان

قال: سمعت والدي يقول: سمعت أحمد بن الحسن، وهو شيخ الصوفية من المتأخرين، يقول: من قال: إنَّ الاستماع إلى المناهي -أو قال: الملاهي- مباحٌ له فهو إلى مذهب الإباحة أقرب، ولو بلغ العارف إلى ما بلغ من سَنِيِّ أحوالِه، لم يُرخَّص له الالتفات إلى المناهي والملاهي. قال أبو موسى: قال بعض المشايخ: فإن احتجت المباحية بما رُوي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام التشريق، وعندي جاريتان لعبد الله بن سلام تضربان بالدفّ وتغنيان (¬1). قلنا لهم: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوَّز ذلك للجاريتين لصغرهما في أيام العيد خاصة، ولهذا قال: يا أبا بكر! إنَّ لكل قوم عيدًا، وهذه أيام عيدنا. فإن قيل: أليس قد جوَّزه الشرع في النكاح والختان؟ قلنا: جوّز ذلك لإعلان النكاح، كما روى أبو شعيب الحراني، حدثنا دُريج بن يونس، حدثنا هشيم عن خالد، عن ابن سيرين، أن عمر بن الخطاب كان إذا سمع صوت الدف سأل عنه، فإن قالوا: عُرس أو ختان، سكت (¬2). فدل على أنَّ ذلك مرخص في بعض الأحوال دون بعض، وكانت الدفوف في ذلك الوقت كالغرابيل، أما سمعتَ ما روتْ عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أَعلِنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالغربال" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (949) ومسلم (892). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 5) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 290). (¬3) أخرجه الترمذي (1089) وابن ماجه (1895) عن عائشة. وقال الترمذي: هذا =

حضور جماعة من الصوفية في السماع والجواب عنه

ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين كانوا يُنزِّهون أنفسهم عن اللهو ومزامير الشيطان، أسكِنوهم رياضَ المسك، ثمّ يقول الله -عزّ وجل- لملائكته: أَسمِعوهم حمدي وثنائي، وأعلِموهم أنْ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (¬1). فإن قال قائل: فهذا السماع قد حضره جماعة من الأولياء وممن لا يُشَكُّ في علوّ منزلته عند الله، مثل الجنيد وأصحابه، والشبلي وأمثاله، مثل يوسف بن الحسين الرازي، ومن قبله مثل ذي النون المصري وغيرهم، كيف يسوغ لكم تخطئتُهم والإنكار عليهم؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن هذا السماع المسؤول عنه على هذا الوجه، قد برَّأ الله منه أولياءه وأعاذهم منه، وحاشاهم أن يكون أحد منهم حضره أو رضيه أو أباحه، وإنما السماع الذي حضره مَن حضره منهم، أن جماعة كانوا يجتمعون يذكرون الله والدار الآخرة، وأعمالَ القلوب وآفاتِها، ومصححاتِ الأعمال والأحكام والفروق والوجد والإرادة، فإذا رقَّت ¬

_ = حديث غريب حسن، وعيسى بن ميمون يضعف في الحديث، وضعَّفه ابن حجر في الفتح (9/ 226) والتلخيص (4/ 201) وقال البوصيري في الزوائد: "فيه خالد بن إلياس أبو الهيثم العدوي، وهو ضعيف، بل نسبه إلى الوضع ابن حبان والحاكم وأبو سعيد النقاش". وانظر "العلل المتناهية" (2/ 138). (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (72) والبغوي في الجعديات (1758) عن محمد بن المنكدر موقوفًا عليه، وروي عن جابر وأنس مرفوعًا، وهو ضعيف. انظر "الدر المنثور" (11/ 589).

قلوبهم، وتحركت هِمَمُهم، واشتاقت نفوسهم إلى السير، قام حادٍ يحدو أرواحَهم وقلوبهم، ليطيب لها السير إلى الله والدار الآخرة، وُيذكِّرها منازلهَا الأولى، كما قيل: وحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها ... منازلُك الأولى وفيها المخيَّمُ ولكننا سبْيُ العدوِّ فهل تُرى ... نعودُ إلى أوطانِنا ونُسلِّم (¬1) وكما قال الآخر (¬2): نَقِّلْ فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ كم منزلٍ في الأرضِ يَألفُه الفتى ... وحنينُه أبدًا لأول منزلِ وقال الآخر (¬3): أبتْ غَلَباتُ الشوقِ إلا تقرُّبا ... إليك وذاك العذلُ إلا تجنُّبا وما كان صدّي عنك صدَّ ملالةٍ ... ولا ذلك الإعراضُ إلا تحبُّبا وقال الآخر (¬4): حبيب تركتُ الناسَ لما عرفتُه ... كأنهمُ ما جفّ من زادِ قادمِ وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركِه في عمريَ المتقادمِ ¬

_ (¬1) البيتان للمؤلف من ميميته المشهورة التي نُشِرت ضمن مجموعة "أربح بضاعة". ومنها أبيات في "حادي الأرواح" (ص 12 - 15، 604) و"طريق الهجرتين" (ص 51 - 55) و"ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 451 - 452). (¬2) البيتان لأبي تمام في ديوانه (4/ 253). وانظر "الرسالة التبوكية" (ص 58). (¬3) البيتان في "الزهرة" (1/ 245) و"طريق الهجرتين" (ص 672) بلا نسبة. (¬4) البيتان للمتنبي في ديوانه (4/ 243).

وقال الآخر (¬1): لقد كان يَسبِي القلبَ في كل ليلةٍ ... ثمانون أو تسعون نفسًا وأرجحُ يَهِيمُ بهذا ثم يألَفُ غيرَه ... ويَسلوهمُ من فوره حين يُصبِحُ وكان فؤادي خاليًا قبل حبِّكم ... وكان بذكر الخلقِ يلهو ويَمرَحُ فلمّا دعا قلبي هواك أجابه ... فلستُ أراه عن جنابِك يَبرحُ فإن شئتَ واصِلْني وإن شئتَ لا تَصِلْ ... فلستُ أرى قلبي لغيرِك يَصلُحُ حُرِمْتُ مُنايَ منك إن كنتُ كاذبًا ... وإن كنتُ في الدنيا بغيرك أفرَحُ وإن كان شيء في البلاد بأسْرِها ... إذا غبتَ عن عينيْ لعينيَ يَملُحُ وقول الآخر (¬2): قالوا غَد العيدِ ماذا أنتَ لابسُه ... فقلتُ خلعةَ ساقٍ حبّه جُرَعَا فقر وصبرٌ هما ثوبانِ تحتهما ... قلبٌ يرى إلفَه الأعيادَ والجُمعَا والدهرُ لي مأتمٌ إن غِبتَ يا أملي ... والعيدُ ما دمتَ لي مرأًى ومُستمَعا وقول الآخر (¬3): أُحِبُّك حُبَّين حبُّ الهوى ... وحبٌّ لأنك أهلٌ لذاكا ¬

_ (¬1) الأبيات لسمنون بن حمزة في "طبقات الصوفية" للسلمي (ص 198) و"تاريخ بغداد" (9/ 237) و"صفة الصفوة" (2/ 258). (¬2) الأبيات لأبي بكر الشبلي في "حلية الأولياء" (10/ 40)، ويقال: إنها لأبي علي الروذباري في "الرسالة القشيرية" (ص 437). (¬3) الأبيات في "حلية الأولياء" (9/ 348)، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في "جامع المسائل" (6/ 13، 17) وتكلم عليها. وتنسب لرابعة العدوية ولغيرها.

فأمّا الذي هو حبُّ الهوى ... فشيءٌ شُغِلْتُ به عن سواكا وأمّا الذي أنتَ أهلٌ له ... فكَشْفُك للحُجْبِ حتى أراكا وما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا وقول الآخر (¬1): تموتُ النفوسُ بأَوصَابها ... وتَكْتُم عُوّادَها ما بها وما أنصفَتْ مُهجة تشتكي ... جَواها إلى غير أحبابِها [وقول الآخر] (¬2): ب وركبٍ سَرَوْا والليلُ مُرْخٍ سُلُولَه ... على كل مُغْبَرِّ المطالعِ قاتمِ حَدَوا عَزماتٍ ضاعت الأرضُ بينها ... فصار سُرَاهم في ظُهور العَزائمِ تُرِيهم نجومُ الليل ما يطلبونه ... على عاتق الشِّعْرَى وهَامِ النَّعَائِمِ وقال الآخر (¬3): قومٌ همومهمُ باللهِ قد عَلِقَتْ ... فما لهم هِمَمٌ تَسمُو إلى أحدِ فمطلبُ القوم مولاهم وسيدُهم ... يا حُسنَ مطلبِهم للواحدِ الصمدِ ما إن تُنازِعهم دنيا ولا شرفٌ ... من المطاعم واللذاتِ والولدِ وقول الآخر (¬4): إذا غبتَ عن عيني تملَّا بك الفِكْرُ ... وإن لم يَزُرني الطيفُ طافَ بك السِّرُّ ¬

_ (¬1) البيتان لصرّدر في ديوانه (ص 138) والمدهش (ص 401). (¬2) الأبيات للشريف الرضي، انظر "روضة المحبين" (ص 10). (¬3) الأبيات بلا نسبة في "عوارف المعارف" (ص 64). (¬4) لم أجد البيتين في المصادر.

فكُليِّ لسان عن هواك مخبِّرٌ ... وكُلي قلبٌ أنتَ في طَيِّهِ نَشْرُ وقول الآخر (¬1): مَن كان في ظُلَمِ الليالي ساريًا ... رَصَدَ النُّجومَ وأوقدَ المصباحا حتى إذا ما البدر أرشد نورهُ ... تركَ النجومَ وراقبَ الإصباحا حتى إذا انجاب الظلامُ بأسْرِه ... ورأى الصباح بأسْرِهِ قد لاحا ترك المسارجَ والكواكبَ كلَّها ... والبدرَ وارتقبَ السَّنا الوضَّاحا وقول الآخر (¬2): وبدا له من بعدِ ما اندملَ الهوى ... بَرْقٌ تألَّق مَوهِنًا لَمَعانُهُ يبدو لحاشيةِ الرداءِ ودونه ... صَعْبُ الذُّرى متمنعًا أركانُه فبدا لينظرَ كيف لاحَ فلم يُطِقْ ... نظرًا إليه وصدّه سجَّانُه فالنار ما اشتملتْ عليه ضلوعُه ... والماء ما سمحَتْ به أجفانُه وقول الآخر (¬3): يا غاديًا في غفلة ورائحا ... إلى متى تَستحْسنُ القبائحا وكمْ إلى كمْ لا تخافُ مَوقفًا ... يَستنطِقُ الله به الجوارحا واعجبًا منك وأنت مُبصِرٌ ... كيف تجنَّبتَ الطريقَ الواضحا ¬

_ (¬1) من تسعة أبيات وردت في كلام محمد الفارقي شيخ العماد الأصفهاني، كما في "خريدة القصر" (2/ 453) قسم الشام. (¬2) الأبيات لمحمد بن صالح العلوي في "الأغاني" (16/ 361) و"أمالي القالي" (3/ 183)، وبلا نسبة في "ذم الهوى" (ص 360). (¬3) الأبيات في "تلبيس إبليس" (ص 225) و"نفخ الطيب" (4/ 326) بلا نسبة.

منشأ الغلط عند أهل السماع

وإلى مثل هذا أشار الإمام أحمد في الإباحة، قال أبو حامد الخلقاني: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله! هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار، أي شيء تقول فيها؟ فقال: مثل أي شيء؟ قلتُ: يقولون: إذا ما قال لي ربي ... أما استحييتَ تعصيني وتُخفِي الذنبَ من خَلْقِي ... وبالعصيان تَأتيني فقال: أعِدْ عليَّ، فأعدتُ عليه، فقام ودخل بيته وردَّ الباب، فسمعت نحيبَه من داخلٍ، وهو يردِّدُ البيتين (¬1). وأمثال هذه الأشعار التي تتضمن إثارةً في القلب من الحب والخوف والرجاء والطلب والأنس والشوق والقرب وتوابعها، فصادف سماع هذه الأشعار من قلوبهم حبًّا وطلبًا، فأثاره إثارةً ممتزجة بحظ النفس، وهو نصيبها من اللذة والطرب الذي يُحدِثه السماع، فيظن تلك اللذة والطرب زيادةً في صلاح القلب وإيمانه وحاله الذي يُقرِّبه إلى الله، وهو محضُ حظِّ النفس. فهذا منشأ الغلط الذي عرضَ للقوم، كما سيأتي تقريره وبسطُه إن شاء الله، وهذا هو الذي أنكره العارفون من القوم، وتاب منه مَن تاب منهم، وحذَّروا منه، وقالوا: إن مضرته للقلب أكثر من نفعه، وإفساده له أكثر من صلاحه. وسيأتي عن قربٍ إن شاء الله تقريرُ هذا بحكم (¬2) الذوق ¬

_ (¬1) الخبر مع البيتين في "تلبيس إبليس" (ص 226). (¬2) في الأصل: "الحكم".

الذين أنكروا على السماع أكثر وأفضل من الذين حضروه

والوجد. الوجه الثاني من الجواب: أن هذا السماع وإن كان قد حضره وفعله مَن لا نشك في دينه وصدقه وصلاحه، فقد أنكره مَن هو أفضل منهم عند الأمة، وأعلى شأنًا، وأصدق حالًا، وأعرف بالله وبأمره، فإن كان قد حضره وفعله مائةُ وليٍّ لله، فقد أنكر عليهم أكثر من ألف ولي لله، وإن كان قد حضره أبو بكر الشبلي، فقد غاب عنه أبو بكر الصديق، وإن كان قد حضره يوسف بن الحسين الرازي، فلم يحضره الفاروق الذي فرّق الله به بين الحق والباطل عمر بن الخطاب، وإن كان قد حضره النوري فقد غاب عنه ذو النورين عثمان بن عفان، وإن كان قد شهده ذو النون المصري فلم يشهده علي بن أبي طالب الهاشمي، وإن كان قد حضره سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد فقد صح عنه أنه تاب عنه وتركه قبل وفاته. وإن كان قد فعله أضعافُ أضعافِ هؤلاء، فقد غاب عنه المهاجرون والأنصار كلهم، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وجميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وجميع أئمة الفقه والإفتاء، وجميع أئمة الحديث والسنة، وجميع أئمة التفسير، وجميع أئمة القراءة، وجميع أئمة الجرح والتعديل الذابِّين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه، فمَنِ الناسُ إلا أولئك؟ فأيُّ فريقَيْنَا أحقُّ بأَمْنِهِ ... إذا بعثَ الله العبادَ ويَجمَعُ (¬1) ¬

_ (¬1) صدره مع عجز آخر في منهاج السنة (4/ 128).

اتفاق أهل السماع ليس حجة شرعية يجب اتباعها

فإن احتججتم بالرجال كاثرناكم بالواحد ألوفًا مؤلفة، وإن استدللتم بالقرآن، فهذا كتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، و [إن] استندتم إلى الإسناد والحديث فسنذكر لكم منه ما يَشفِي صدرَ كل مُحِقّ، وإن لجأتم إلى الذوق والوجد حاكمناكم إليه، وبينّا أنَّا أسعدُ به منكم، وأن الذوق السليم والوجد الصحيح يحكم بأن فيه منفعةً للنفس، ومضرةً للقلب، ومضرته أكثر من نفعه كما سنبيّنه بالدليل الواضح، الذي لا مدفع له إن شاء الله. الوجه الثالث من الجواب: أنه لو اتفق عليه جميع الطائفة، وحضروه من أولهم إلى آخرهم، لما كان لكم في ذلك حجةٌ أصلًا، فإنهم بعض المسلمين، واتفاقهم لا يكون حجة على مَن سواهم من طوائف أهل العلم الذين سميناهم. فمَن قال من أهل الإسلام: إن اتفاق السماعاتية حجة شرعية يجب اتباعها؟ أو اتفاق الفقراء أو اتفاق الصوفية حجة؟ فهذا لم يقله أحد من المسلمين، ومَن قاله فقد خرقَ إجماع المسلمين، فإن الحجة كتاب الله، وسنة رسوله وأقوال أصحابه، وإجماع الأمة. الوجه الرابع: أن الصوفية والمشايخ لم تُجمِعْ على ذلك، بل كثير منهم أو أكثرهم أنكره وعابه وأمر باجتنابه. قال أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم في كتاب "بهجة

إنكار أكثر الصوفية والمشايخ على السماع

الأسرار" (¬1): حدثني أبو عبد الله المقرئ، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: قال لي الجنيد: "إذا رأيت المريد يسمع السماع، فاعلم أنَّ فيه بقايا من اللعب. وقال أبو عبد الله بن باكُوَيه في كتاب حكايات الصوفية: سمعت أحمد بن محمد البردعي، يقول: سمعت المرتعش، يقول: سمعت أبا الحسين النوري يقول لبعض أصحابنا: إذا رأيتَ المريد يسمع القصائد ويميل إلى الرفاهية فلا ترجُ خيره. قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي (¬2): هذا قول مشايخ القوم وإنما ترخص المتأخرون فيه حبًّا للهو، فتعدى شرهم من وجهين: أحدهما: سوء ظن العوام بقدمائهم، لأنَّهم يظنون أنَّ الكلَّ كانوا هكذا. الثاني: أنهم جرَّأوا العوام، فليس للعامي حجة إلَّا أن يقول: فلانٌ يفعل كذا. قال (¬3): وقد نشب (¬4) حب السماع بقلوب خلق منهم فآثروه على قراءة القرآن، ورقَّت قلوبهم عنده ما لا تَرِقُّ عند القرآن، وما ذاك إلا ¬

_ (¬1) نقل عنه المؤلف بواسطة "تلبيس إبليس" فيما يبدو، انظر هذا النص فيه (ص 247). (¬2) انظر "تلبيس إبليس" (ص 247)، وفيه الخبر السابق. (¬3) أي ابن الجوزي في المصدر السابق. (¬4) في الأصل: "تشبث". والتصويب من تلبيس إبليس.

لتمكن هوى باطن، وغلبة طبع، وهم يظنون غير هذا. ثمّ ساق من تاريخ الخطيب (¬1) بإسناده إلى أبي نصر (¬2) السراج، قال: حكى لي بعض إخواني عن أبي الحسين الدراج، قال: قصدتُ يوسف بن الحسين الرازي من بغداد، فلما دخلتُ الريّ سألت عن منزله، فكل من أسأله عنه يقول: أَيشٍ تفعل بذلك الزنديق؟ فضيَّقوا صدري حتى عزمتُ على الانصراف، فبِتُّ تلك الليلةَ في مسجد، ثمّ قلت: جئت هذا البلد فلا أقلَّ من زيارته، فلم أسأل عنه حتى دفعتُ إلى مسجد وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رجل عليه (¬3) مصحف، وهو يقرأ، فسلمت عليه فردَّ عليّ السلام، وقال: من أين؟ قلت: من بغداد، قصدت زيارة الشيخ، فقال: تُحِسن أن تقول شيئًا؟ فقلت: نعم، فقلت: رأيتُك تَبنِي دائبًا في قطيعتي ... ولو كنتَ ذا حزمٍ لهدَّمتَ ما تَبني (¬4) فأطبقَ المصحف، ولم يزل يبكي حتى ابتلَّتْ لحيته وثوبه، حتى رحمتُه من كثرة بكائه، ثمّ قال: يا بُنيَّ! تلوم أهل الري على قولهم: يوسف بن الحسين زنديق؟ ومن وقت الصلاة هو ذا أقرأ القرآن، لم يقطر من عيني قطرة، وقد قامت عليَّ القيامةُ بهذا البيت. ¬

_ (¬1) "تاريخ بغداد" (14/ 317). وانظر "اللمع" للسراج (ص 363، 364) و"الرسالة القشيرية" (ص 514، 515) و"إحياء علوم الدين" (2/ 301). (¬2) في الأصل: "أبي جعفر"، والتصويب من المصادر السابقة. (¬3) كذا في تاريخ بغداد والقشيرية. وفي اللمع: "وفي حجره"، وفي تلبيس إبليس: "على يديه". وفي الإحياء: "وبيده". (¬4) البيت للوليد بن يزيد في ديوانه (ص 125).

كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -

الوجه الخامس: أنَّه ما من أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ومأخوذ من قوله ومتروك، ولا يُقتدى بأحد في أقواله وأفعاله وأحواله كلها إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن نزَّل غيرَه في هذه المنزلة فقد شرح بالضلالة والبدعة صدرًا، ولا يُغني عنه ذلك الغير من الله شيئًا، بل يتبرأ منه أحوج ما يكون إليه، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 166 - 167]. وكل من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب عرضُ أقواله وأفعاله وأحواله على ما جاء به الرسول، فإن كانت مقبولة لديه قُبِلَتْ، وإلا رُدَّتْ. فأبى الظالمون المفتونون إلَّا عَرْضَ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أقوال الشيوخ وطريقتهم، فأضلَّهم، فعمَّ بذلك المصاب، وعظمت المحنة، واشتدت الرزية، واشتدت غربة الدين وأهله، وظن بهم الجاهلون أنَّهم هم أهل البدع، وأصحاب الطرائق والآراء هم أهل السنة، ويأبى الله إلَّا أن يُقيم دينه، ويُتِمَّ نوره، ويُعلِي كلماته وكلمات رسوله، وينصر حزبه ولو كره المبطلون. الوجه السادس: أن من نقل عنه أنَّه حضر السماع من القوم، فليس فيهم رجل واحد يسوغ تقليده في الدين، فإنَّه ليس فيهم إمام من أئمة التقوى والعلم الذين يسوغ تقليدهم في الجملة. وأعلى من حضره قوم لهم صدق وزهد وأحوال مع الله، ولكنهم ليسوا بمعصومين، ولا لهم قول يحكى مع أقوال العلماء الذين دارت

الحاكم بين المتنازعين كتاب الله وسنة رسوله، لا ذوق أحد ورأيه

الفتوى والحكم على أقوالهم. وغاية أحدهم أن يكون حضوره له من السعي المغفور، الذي يغفره الله له لصدقه وكثرة حسناته وحسن نيته، فأما أن يتخذ قُدوة وإمامًا فهذا باطل قطعًا، إذ ليس من أهل الاجتهاد ومن له قول بين أهل العلم. الوجه السابع: أنَّه لو فرض أنَّه من أهل الاجتهاد، وممن يسوغ العمل بقوله، فقد خالفه من هو مثله أو أجلُّ منه، والحاكم بين المتنازعين كتاب الله وسنة رسوله، وما كان هو عليه وأصحابه. فأما أن يُحكَّم ذوقُ أحدٍ وحالُه ووجده، ويُجعلَ إمامًا وقدوة بلا برهان من الله ورسوله، فهذا منشأ الضلال وهو من أكبر أسباب البعد من الله ومَقْته، فإنَّ الله لا يُتقرب إليه إلَّا بما يحبه ويرضاه، لا بما يذوقه كل أحد ويستحسنه ويهواه، وكيف يليق بمن يدعي محبة الله وإرادته، أن يتقرب إليه بما لم يشرعه على لسان حبيبه، وبما لا يحبه ويرضاه من القول والعمل والهدى؟ وهل هذا إلَّا عين البعد منه؟ وقد قال غير واحد من السلف (¬1): ادَّعى قومٌ محبةَ الله تعالى، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، فلم يقل: فارقصوا وغنُّوا واطربوا على صوت المزامير والشبابات، والألحان المطربات، بالتوقيعات والنغمات، فمن أضلُّ سبيلًا ممن يدَّعي محبة الله، ويزعم أنَّه يتقرب إليه بهذا السماع الشيطاني، الذي هو حظُّ النفس والشيطان. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (5/ 325)، و"الدر المنثور" (3/ 508).

قصيدة للمؤلف في ذم السماع وأهله

فهل سمعتم قطُّ في سنةٍ ... صحَّت عن المختار أو في كتابْ أنَّ الغنا والرقص دينٌ كذا ... صوتُ يَراعٍ أو أخيهِ الرَّبابْ هذا كتاب الله ما بيننا ... منزَّهٌ عن باطل وارتيابْ وهذه السنةُ قد بيَّنتْ ... مرادَه حتى استبان الكتابْ إن أنتمُ أعفيتُمونا من (م) ... التحريفِ أبصرتم طريقَ الصواب وهذه أصحابُ خيرِ الورى ... وهَدْيهم أفضلُ هدْيِ الصحابْ وهذه أصحابهم بعدهم ... مَضَوا على نهجهمُ المستطابْ وتابِعوهم بعدهم هكذا ... من كل قرنٍ هديُهم لا يُعابْ وأول القوم وساداتهُم ... من كل مَن دعوتُه تُستجابْ وكل من أعطاه ربُّ الورى ... لسانَ صدقٍ وثَنَا مُستطابْ هل فيهمُ من عابدٍ ربَّه ... بالرقص والزَّفْنِ وخَلْعِ الثيابْ يشتاق بالأوتار والدفِّ (م) ... والنَّاي إلى الجنة دار الثوابْ يَهُزُّه الشوق لطيبِ الغنا ... حتى يمرَّ القلب مرَّ السحاب ويَزعَقَ الزَّعْقَاتِ من قلبه ... لقوة الوارد عند الشراب والشوق قد أضرمَ نيرانَه ... في القلب لولا الدمعُ يجري لَذابْ ويثقُلُ الوحيُ على قلبه ... كالصخر فوق الصخر لا كالتراب قلنا نعم هذا الغنا قربةٌ ... تُدني من الفوز وحسنِ المآب فالبعد في القرآن حتى لقد ... هجرتموه لن تخافوا العتاب (¬1) ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "لم تخافوا العقابْ".

شروط السماع المذكورة في كتب المشايخ

من هاهنا قيل بأنَّ الغنا ... يُنبِت في القلب النفاقَ العُجاب يا قوم لو أنَّ الغنا قربة ... لجاء مَعْ كل نبيٍّ رَبابْ أو كانَ هذا الرقص دينًا لنا ... لكانت الجنة مأوى الدِّبابْ (¬1) الوجه الثامن: أنا نناشدكم الله، هل تدخلون في السماع بالشروط التي شرطها من أباحه ممن قلدتموه؟ فإنهم شرطوا فيه شروطًا مذكورة في كتب القوم. منها: أن لا يتكلفوا السماع، وقالوا: من تكلفه فُتِن به، ومن صادفه استراح به. فأخبروا أنَّه فتنة لمن اختاره وقصده، وراحة لمن صادفه اتفاقًا، وهذا من أبين شيء على أنَّه ليس بقربة ولا طاعة، لأنَّ قصد الطاعات والقُرَب وإرادتها لا يكون فتنةً، بل لا تصح إلا بذلك. ومنها: أن يدخله بقلب مملوء بربه، فارغ من شهواته وحظوظه، ذِكرُ الله فيه في محل الخطرات والوساوس، وقد ملك عليه ذكرُ ربه وساوسَه وخطراتِه. ومنها: أن يقعد بوابًا على باب قلبه، يحرسه من السماع للنفس والشيطان، بل يكون سماعه مجردًا لله ولعبوديته. ومنها: أن يحفظ قلبه في السماع من طوارق الغفلة عن الله والتفاته إلى سواه. ومنها: أن يتلقى ما يَرِد عليه من إشارة السماع، بمطالبة نفسه ¬

_ (¬1) يبدو أن القصيدة للمؤلف -رحمه الله-، فهي على أسلوبه في النظم.

ذكر ما فيه من الآفات من كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني

بحقوق العبودية، من تجريد التوحيد والإنابة إلى الله، وتعليق الهمِّ كله به، ولوم النفس في إيثارها بحظِّها على مرضاته ومحابِّه. ومنها: أن يكون في سماعه هذا لله وبالله ومع الله، ليكون له نصيب وافر من قوله حين (¬1) يسمع. ومنها: أن يخلو السماع ممن لا تُؤمن الفتنةُ به، ممن لا يحل سماع صوته والتلذذ بالنظر إليه. فبهذه الشروط أباح السماعَ من أباحه من القوم وحضره، ثمَّ قال عارف القوم وسيدهم بلا مدافع، الشيخ عبد القادر الكيلاني بعد ذكره آداب السماع: "ولو صدق القوم في قصدهم وتجردهم وتصوفهم، لما انزعجوا في قلوبهم وجوارحهم بغير سماع كتاب الله -عزّ وجلّ-، إذ هو كلام محبوبهم وصفته، وفيه ذكره وذكرهم، وذكر الأولين والآخرين، والماضين والغابرين، والمحب والمحبوب، والمريد والمراد، وعتاب المدَّعين لمحبته ولومهم وغير ذلك. فلما اختلَّ قصدهم وصدقهم، وظهرت دعواهم من غير بينة، وزُورُهم وقيامهم مع الرسم والعادة، من غير غريزة باطنة وصدق السريرة، والمعرفة والمكاشفة والعلوم الغريبة، والاطلاع على الأسرار، والقرب والأنس، والوصول إلى المحبوب، والسماع الحقيقي وهو القرآن والحديث والكلام الذي سنَّه الله مع العلماء به، والخُلَّص من الأولياء والأبدال والأعيان، وخلَتْ ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير واضحة، ولعلها تقارب ما أثبته.

أصحاب الإرادة ثلاثة أنواع: المريدون لله، والمريدون من الله، والمريدون ما يريد الله

بواطنهم من ذلك كله = وقفوا (¬1) مع القوال والأبيات والأشعار التي تثير الطباع، وتهُيِّج ثائرةَ العشق بالطباع لا بالقلوب والأرواح" (¬2). فهذا كلام من خَبَر السماع، وعلم ما فيه من الآفات. وأما من أخذ في إباحته واستحبابه، ومدحه من غير تعرض لآفاته، فإنَّه محجوب عن صلاح قلبه ومعرفة مفسداته، والفرق بين حظ النفس والشيطان وحق الرب، وهو ممن يعبد الله على ما تهواه نفسه وتحبه، لا على ما يحبه الله ويرضاه، وليس الشأن في أنك تريد الله، بل تريد ما يريد الله. وأصحاب الإرادة ثلاثة أنواع: المريدون لله، والمريدون من الله، المريدون ما يريد الله، وهؤلاء هم أولياء الله والمقربون، وهم أهل الإرادة الصحيحة، فإنهم واقفون مع مراد الله الديني الذي يحبه ويرضاه منهم. والمريدون من الله واقفون مع حظوظهم وإراداتهم بحسب تفاوتهم فيها، وبحسب هممهم. والمريدون لله إن لم يتقربوا إليه بمراضيه وما يحبه منهم، وما شرعه لهم على لسان رسوله، وأعلمهم أنهم لا يصلون إليه إلا من طريقه، وإلا فهم ممقوتون عنده، مطرودون عن بابه، مُبعَدون عن قربه، ولو كان في قلوبهم من المحبة والشوق والإرادة أمثالُ الجبال لم ينفعهم شيئًا حتى يقفوا مع مراده منهم. ومن ههنا غَلِطَ القومُ في مسألة السماع، فإنهم رأوا السماع يُثير ¬

_ (¬1) جواب "فلما اختلَّ قصدهم. . . .". (¬2) انظر "الغنية" للشيخ عبد القادر (2/ 180).

ساكنَ الحب والوجد من قلوبهم، ويُهيِّج القلب في سفره إلى المحبوب، ويُزعِجه إزعاجًا لا يستقر معه، فيرتاح القلب إلى المقامات العالية، وينافس في القرب من محبوبه، فيُحْدِث فيه أحوالًا عجيبة، ومواجيدَ وأذواقًا لا يمكنهم دفعها عن قلوبهم، ولم يروها تُستجلَب بمثل السماع، فلو لامَهم فيه كل لائم لم يُصْغُوا إلى ملامه، وقالوا لمن لامهم: أقول لِلَّائمِ المُهدِي ملامتَه ... ذُقِ الهوى وإنِ اسطَعْتَ الملامَ لُمِ (¬1) فهم يعذرون اللُوّام إذ هم محجوبون عما فيه القوم من تلك الأحوال، ولا يلتفتون إلي ملامهم، بل قد يستلذ أحدهم الملامة كما قيل: أجدُ الملامةَ في هواك لذيذةً ... حبًّا لذكرك فليَلُمْني اللُّوَّمُ (¬2) ولا ريب أنهم معذورون، إذ لم يجدوا مَن يخاطبهم بأذواقهم، ويكلمهم على مقتضى أحوالهم، ويشاركهم في وجدهم وشأنهم، فيُناديهم من مكان قريب، وإنما يُبتلَون بجافٍ جلفٍ أبعد شيءٍ عن معاملات القلوب وأحوالها ومنازلاتها، كثيف الطباع، موكل بإنكار ما لم يُحِطْ بعلمه، غليظ الحجاب عن شأن القوم، وما تعلقت به هممهم، فينكر عليهم إنكار مَن لم يذق ما ذاقوه ولا باشر ما باشروه، ولا ذاق من الشراب الذي شربوه، فأعمال القلوب عندهم كأنها شريعة منسوخة، أو ¬

_ (¬1) البيت للشريف الرضي في "ديوانه" (2/ 274)، وبلا نسبة في "مدارج السالكين" (3/ 441). (¬2) البيت لأبي الشيص الخزاعي، وتخريجه في "روضة المحبين" (ص 35، 36).

صاحب الذوق المحمدي يحكم عليهما

كأنها لم تُشرَع قط، فتولدت المحنة بين قسوة هؤلاء وجمودهم، ومَيعانِ هؤلاء وانحلالهم، فإذا جمعهما مجلس كانا كما قيل: سارتْ مشرِّقةً وسِرتُ مغرِّبًا ... شتَّانَ بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ (¬1) فكل من الطائفتين تنادي الأخرى من مكان بعيد، وصاحب الذوق المحمدي والوجد الإبراهيمي يحكم على الطائفتين، ويوالي من معه حق من الفريقين، وينكر ما يجب إنكاره من الطريقين، ويسير إلى الله سبحانه بين حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، ويعلم أن الحقيقة بلا شريعة خيال باطل وسراب، والشريعة بلا حقيقة قِشْر قد تجرد من اللباب، وأن الأمر إنما قام بالحقيقة الباطنة وعليها الثواب والعقاب، وبالشريعة الظاهرة وهي مظهر الأمر والنهي والحكم والأسباب، وهي بمنزلة البدن، والحقيقة الإيمانية بمنزلة الروح، والروح لا قِوامَ لها بدون البدن، وبدنٌ لا روحَ فيه من جملة الأموات. والدين ينتظم الأمرين انتظامًا واحدًا، وله جسد وروح وقلب، فجسده الإسلام، وروحه الإيمان، وقلبه الإحسان، فالإسلام: الشرائع الظاهرة العاصمة للدم والمال، والإيمان: الحقائق الباطنة المُنجِية من النار، والإحسان: المقامات العالية التي ينال بها الدرجاتِ العلى، والقربَ من الله سبحانه، والدخولَ في زمرة المقربين من عباده. ولا ريب أن المحبين رُفِع لهم لواءٌ فشمَّروا إليه، وخفي ذلك اللواء عمن أعرض عن هذا الشأن واشتغل بغيره، ولكن سلك كثير منهم ¬

_ (¬1) البيت لأبي إسحاق الشيرازي في "طبقات السبكي" (4/ 228).

السماع من الأسباب التي يتوصل بها إلى ظهور الكوامن الباطنة

إليه على غير دَرْبِ الإيمان والإحسان، فبُعدوا من مطلوبهم على قدر انحرافهم، فالصادقون من أرباب السماع شمَّروا إلى علم المحبة، ورأوا أن السماع من الأسباب التي يُتوصَّل بها إلى ظهور الكوامن الباطنة من محبة الله، والشوق إليه، والارتياح إلي قربه ولقائه، وتوابع ذلك من الحزن على التقصير والتفريط في طاعته في الأيام الخالية، والندمِ والأسفِ على ما فَرَطَ من العبد من أسباب عَتْبِ الله عليه، وإبعادِه إيَّاه، والخوف من طرده عن بابه، ووقوع الحجاب بينه وبين ربه، ورأوا حاديًا يحدو بالأرواح إلى بلاد الأفراح، فيطيب لها السيرُ، فإذا حدا لها الحادي جدَّتْ في السير على ظهور عَزَمَاتها، لا تَلْوِي على أهل ولا مال، كما قيل (¬1): لها أحاديثُ من ذِكراك تَشْغَلها ... عن الشرابِ وتُلْهِيها عن الزادِ لها بوجهكَ نورٌ تَستضيءُ به ... ومن حديثك في أعقابها حَادِي إذا شَكَتْ من كَلالِ السير أوعدَها ... روحَ القدومِ فتَحْيا عند ميعادِ وكما قيل (¬2): إذا نحن أدلجنا وأنت إمامُنا ... كفَى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديَا وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجدْ ... دليلًا كفانا نورُ وجهك هاديَا ¬

_ (¬1) الأبيات لإدريس بن أبي حفصة، كما في "ديوان المعاني" (1/ 63). وتخريجها في "روضة المحبين" (ص 113). (¬2) لعمرو بن شأس الأسدي في "معجم الشعراء" (ص 212) و"ديوان المعاني" (1/ 224). وانظر "شعر عمرو بن شأس" (ص 84 - 85).

سر تأثير السماع

وإذا كان حُداء الإبل يطيب لها السير، ويهون عليها حمل المشاقّ على غلظ أكبادها وكثافة طباعها، فما الظن بمَن أذابت نارُ المحبة قسوةَ قلبه، ولطفت طباعه إذا حدا له الحادي بما يناسب حاله. ولا ريب أن السماع لا يُورِد على القلب حالًا ليست فيه، ولا يُحدث فيه إرادة ومحبة لم تكن، وإنما يثير ما كَمَن فيه، فهو بمنزلة الصَّوَّانِ (¬1) يَقدح في الزناد ما هو كامنٌ فيه من النار، لا أن الصوان أحدثَ النارَ في الزناد. فإذا سمعه مَن في قلبه حب كامل، أو خوف أو رجاء أو اشتياق إلى أي مطلوب كان، هاج من قلبه ذلك الكامنُ، فأثَّر فيه السماع بحسب استعداده. وسرُّ ذلك أن النغمات اللذيذة، ولطافة الألحان وحلاوتها وطيبها، يناسب لطافةَ ما كَمَن واستتر في قلب المحب من شواهد محبوبه، فيذكّره إيّاها، فيَهِيج لذلك وجدُه، ويتحرك حبه، وتلتهب نار الشوق في قلبه، وذلك كان مستورًا قبل السماع، ومتواريًا محجوبًا بالأمور الشاغلة عنه، فلمّا ورد عليه السماع أخلى باطنه عن تلك الشواغل، فخَمَدتْ وتوارتْ، فتحرك القلب بمقتضى ما سكن فيه من المحبة والشوق والوجد، وتوابع ذلك من الأنس والقرب أو الحزن والأسف على فوت حظه من محبوبه وبعده عنه، إلى غير ذلك من ¬

_ (¬1) ضرب من الحجارة شديد.

قواعد للحكم على السماع

الأحوال التي يثيرها السماع، بالألحان المطربة والنغمات اللذيذة، [و] بالأشعار الرقيقة المناسبة للحال، المشتملة على وصف الملاحة والحسن، وطيب الوصال وعذوبته، وألم الهجران وعذابه، فتتفق ممارسة أوزان الشعر، ولطافة المعاني، وحسن الصوت، وتناسب حركات التصفيق، والإيقاعات، وخصوصية ذلك اللحن، لما في قلب هذا المحب المشتاق، فحيث وجد المناسبة اضطرب وتحرك، وهاجت من قلبه لواعجُه، فتنضاف قوة المناسبة واعتدالها وتلك الهيئة الاجتماعية إلى ما عنده من القبول والاستعداد، فتسير الروح، ويطير القلب، وتنبعث الجوارح. فهذه النكتة التي أوجبتْ للقوم حضورَ السماع، ولم يأخذهم فيه لومة لائم، ولم يصادفوا من حَلَّها ولا شَفَى بكلامه فيها، بل صادفوا: هذا بدعة، وهذا حرام، وهذا لا يجوز، ومَن فعل ذلك فهو سفيه، ونحو هذا من القول الذي لم يصلْ به قائله إلى باطن الداء، ولم يضع فيه الدواء على ما يناسبه من الداء، بل داوى الداء بغير دوائه، فلم يزد المرض إلَّا قوة. فنقول: وبالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنما تنحلُّ هذه الشبه بذكر قواعد أربعة (¬1)، إذا تبيّنت انحلَّتْ شبهة السماع (¬2). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، وهو جائز في العربية. (¬2) ذكر المؤلف ثلاث قواعد في "مدارج السالكين" (1/ 494 - 497)، واقتصر هنا على واحدة منها. وسبقه إلى بيان ذلك شيخ الإسلام في "مجموعة الرسائل الكبرى" (2/ 308، 309).

القاعدة الأولى: أن ينظر ما فيه من المصلحة والمفسدة

القاعدة الأولى: أن ينظر إلى ما في هذا السماع من المصلحة والمفسدة، فإن كانت مصلحته أرجح من مفسدته لم يكن حرامًا، وإن كانت مفسدته أرجح من مصلحته كان حرامًا، ولا تقتضي الشريعة غير هذا. ومعلوم قطعًا أن السماع المصطلح عليه المتعارف اليوم بين الناس مصلحته في مفسدته كتَفْلَةٍ في بحر، فإن كان فيه جزء من المصالح ففيه ثلاثة وعشرون جزءًا من المفاسد، فهو أشبه الأشياء بالخمر والميسر اللذين قال الله تعالى فيهما: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. ونحن لا ننكر أن في السماع لذةً وراحة ومنفعة، بل وفي الخمر والزنا وعامة المحرمات، لكن الشأن في تلك المنفعة هل هي راجحة على المضرة، أو المضرة راجحة عليها؟ فمَن احتج على حل السماع بما فيه من اللذة والراحة، فهو في غاية البعد عن الشرع، وعن معرفة أحوال القلوب وصلاحها وما يفسدها، ولولا سطوة الشرع ومظهره لكان هذا القائل ربما يحتج على حل الخمر والزنا بما فيهما من اللذة والمنفعة والراحة، ولكن القوم ليسوا بأصحاب حجج، وغالبهم واقف مع ذوقه. فاعلم أن السماع يُهيِّج من القلب الحبَّ المشترك، فيشترك فيه محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان، ومحب المردان، كل له نصيب وشِرْبٌ وذوق على حسب محبته، فإذا سمعه من هو مفتون بمحبة وثنه أو صليبه أو وطنه أو امرأة أو صبي، أثار من قلبه كامنَه، وأزعجَ منه قاطنَه، وهيَّجه وهيَّج منه ما يناسب حاله مع

أعظم محرمات الهوى ودواعيه: النظر والغناء والخمر

محبوبه. وتهييجُ السماع لهذا الحب الفاسد القاطع عن الله المبعد عنه، أعظم من تهييجه للحب الصحيح الموصل إليه، من وجوه عديدة. أحدها: أن وضع الأشعار المسموعة المطربة فيه، إنَّما قيلت في الصور المعشوقة، من ذكر أو أنثى، فصورتها ومعناها ومضمونها إنما يناسب مَن قيلت فيه ومَن هو مثله، وكلّما كانت المناسبة أقوى كان التأثير والتأثر أتمَّ. وقد علم أرباب الخبرة من السماعاتية أن السماع (¬1) لا يكاد يخلو من عشق صورة البتة، إمّا حلالًا وإمّا حرامًا، وغالب عشاق الصور إنما يتعلق عشقُهم الصورَ المحرمة، وهم أركان السماع وأهل الذوق فيه. وقد ركب الله سبحانه الطباع على شهوة الصور المستحسنة، وامتحن العباد بمجاهدة أنفسهم على الصبر وإيثار ما عنده، وشرع لهم من أوراد العبادات في ليلهم ونهارهم ما يستعينون به على محاربة داعي النفس والشيطان، من الصلوات الخمس وتوابعها من الصيام والحج والجهاد الظاهر والباطن، ومع هذا فغلبات الطباع ودواعي الهوى لن تترك العبد سليمًا. وأعظم محرمات الهوى ودواعيه ثلاثة أشياء تُسْكِر الروح: النظر واستماع الغناء وشرب الخمر، فهذه الثلاثة هي أقوى أسباب العشق والفجور، والنفس الأمَّارة محبة لها مؤثرة لها، فجاء الشيطان إلى النفوس ودعاها من هذه الأبواب الثلاثة. ¬

_ (¬1) في الأصل: "سماعنا".

كيد الشيطان للسالكين من باب السماع

فلما جاء إلى نفوس أهل الإرادة والسالكين إلى الله، لم يمكنه أن يدعوهم من باب النظر والخمر، فدعاهم من باب السماع، فلما دخلوا منه بَرْطَلَ نفوسهم، بأن خلَّى بينها وبين حركة الحب، وقطع عنها الوساوس وخطرات المعاصي والفجور، وجمعها على السماع أتمَّ جمع، ولم يشوّش عليها بوسواس ولا خطرات. فوجدت بذلك النفوس راحةً من وساوسها وخطراتها، وقوةً عظيمة بجمعيتها، حتى إنَّ أحدهم يجد من الحال في السماع ما لا يجده في الصلاة ولا عند قراءة القرآن، وكل هذا من براطيل النفس والشيطان ليتم لهما مرادهما، فلما ذاقت النفوس في السماع هذا الذوق، ووجدت فيه هذا الوجد، تمكن حبُّه منها، وبلغ كلَّ مبلغ، فأسرَها وملكَها. فشيطان السماع كامنٌ لها، يجمع قوته للوثوب، فلما عرف أنَّ السماع قد تمكن منها، وتغلغل في أجزائها، وثب عليها وثبةَ الأسد على فريسته، واصطادها فيه أتم صيده، فوالله لو كُشِف الغطاء لبصيرة عبدٍ منورةٍ بنور الإيمان، لرأى أهله بين قتيل وصريع، وجريح وأسير، وهذه أحوالهم وشطحاتهم وكلماتهم تُنبِئك عما حلَّ بهم، فصادقُهم يبكي على صوت الشبابة والدفّ والشعر الذي لعله قيل في محرم، يُسخِط الله طول ليله، ويَرِقّ ويتواجد ويهيم، وتُقرأ عليه الختمة من أولها إلى آخرها، والقلب من هذه الأحوال مُجدِب، والعين من البكاء قحطة. فيا للعقول! أي دليل أبين من هذا؟ أو أي برهان أظهر منه على أن اكتساب القلب للنفاق من هذا السماع أقرب من اكتسابه لحقائق الإيمان؟

فضل السلف في معرفة الحقائق الإيمانية

ومن ههنا يُعرف مقادير السلف، وفضل معرفتهم، وأنهم في أوج الحقائق الإيمانية، وهؤلاء في حضيضها، إذ يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "الغناء يُنبِت النفاقَ في القلب كما يُنبِت الماء البقلَ" (¬1). صح ذلك عنه. فأين هذا الكلام من كلام من يقول: سماع الغناء أنفع للمريد من سماع القرآن من ستة أوجه أو سبعة؟ ولا ريب أنَّ هذا القائل أخبر عن ذوقه وذوق هذا المريد، وأنَّه من سماع الغناء لا من سماع القرآن. فإذا كانت هذه مفسدة هذا السماع الخاص الذي يحضره الخواص، فما الظن بسماع العوام؟ نعم سماعهم خير من هذا، وأسلمُ عاقبةً، وأخفُّ ذنبًا، فإنهَّم يَعدُّون أنفسهم فيه عصاة لاعبين، ويعترفون بأنَّه ذنب تنبغي التوبة منه، كما قيل: وَيشربها وَيزعُمها حلالًا ... وأشربُها وأزعمُها حرامَا (¬2) فيا عجبًا أي إيمان يثمر من سماع أبيات طالما عُصي الله بها في الأرض؟ والأغلب من حال قائلها أنَّه قالها وتغزل بها في محرم، كما هو حال أكثر الشعراء الذين يتغنى بأشعارهم، سيَّما وقد غلب على ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هذا مركب من بيتين: وأشربها وأزعمها حرامًا ... وأرجو عفوَ ربٍّ ذي امتنانِ ويشربها ويزعمها حلالًا ... وتلك على المسيئ خطيئتانِ وهما للمأمون في "المحب والمحبوب" (4/ 316) و"قطب السرور" (ص 494)، ولبعض شعراء المئة الثالثة في "فتح الباري" (10/ 66).

سماع الناس التغزلُ بالذكور، وذكر محاسنهم، وما يدعو إلى ما لعن الله عليه فاعله وغضب عليه، وكان غناء الناس قديمًا كله في الإناث، ثمّ خسفَ الله بعقول المتأخرين وقلوبهم، فصار غناؤهم في الذكور، ووصف محاسنهم وقدودهم وشعورهم وخصورهم. فيا عجبًا! أي إيمان وأي حال صحيح يحدث عند سماع قول المغني المليح الصورة أو المليحة بين تلك المواصيل والدفوف والألحان؟ تبَّت يَدَا عاذلي فيه ووَجنتُه ... حَمَّالة الوردِ لا حَمَّالة الحطَبِ (¬1) وقوله (¬2): ذهبيُّ اللونِ تحسبُ من ... وجنتيهِ النارُ تنقدحُ خوَّفوني من فضيحتهِ ... ليتَه وافىَ وأَفتضِحُ وقوله (¬3): يا ذا الذي زارَ وما زارَا ... كأنه مقتبِسٌ نارَا مرَّ بباب الدار مستعجلًا ... ما ضرَّه لو دخل الدارَا ¬

_ (¬1) البيت لابن سهل في "ديوانه" (1/ 16) ولابن الوردي في "خزانة الأدب" لابن حجة (2/ 105). (¬2) البيتان لكشاجم في ديوانه (ص 69)، وبلا نسبة في "تفسير القرطبي" (13/ 80) و"تلبيس إبليس" (ص 226، 246). (¬3) البيتان لأبي الشيص في "ديوانه" (ص 53) و"معاهد التنصيص" (4/ 55)، وبلا نسبة في "المحب والمحبوب" (2/ 36) و"الإمتاع والمؤانسة" (2/ 173) و"ذم الهوى" (ص 550).

فيتواجد عليها المريد، ويبكي وينوح، ويزعم أنَّه أخذ منها إشارة. نعم أخذ إشارةً (¬1) من أبيات يُغضِب الله ما قيلت فيه وما أريد بها، ولم يأخذ الإشارة من كلامه، فلولا داء كامن في القلب أثاره السماع، لكان الأمر بالعكس. وكذلك قول الآخر (¬2): ألا ما للمليحةِ لم تَزُرْني ... أبخل بالمليحة أم صُدودُ مرِضتُ فعادني عُوَّادُ قومي ... فمالكِ لم تُرَيْ فيمن يعود وقول الآخر (¬3): ذي طَلْعةٍ سبحانَ فالقِ صُبْحِه ... ومعاطفٍ جَلَّت يمينُ الغارسِ مرّتْ بأرجاءِ الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس وقول الآخر (¬4): وماذا عسى الواشونَ أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لك عاشقُ نعم صدقَ الواشونَ أنتِ حبيبةٌ ... إليَّ وإن لم تَصْفُ منك الخلائقُ أفَترى الواشين كانوا يَشُون بأنَّه يحب امرأته وجاريته؟ وإنما تلك الأغاني في حريم الناس وأبنائهم، ومدح ما حرَّم الله من الخمر، ¬

_ (¬1) في الأصل: "شارة"، وهي بمعنى الحسن والجمال، ولا يناسب السياق. (¬2) البيتان بلا نسبة في "عيون الأخبار" (4/ 128) و"الموشى" (ص 148) و"اعتلال القلوب" (ص 185) و"ذم الهوى" (ص 505، 506، 507). (¬3) البيتان لابن الساعاتي في ديوانه، وبلا نسبة في "روضة المحبين" (ص 176، 338). (¬4) البيتان لمجنون ليلى في ديوانه (ص 202)، وينسبان لغيره، انظر تخريجهما في "روضة المحبين" (ص 44).

بلية الإسلام بأهل السماع

وتحسين ما قبَّحه من الفجور ودواعيه، فتنزيل هذا على محبة الله والشوق إليه، أعظم من تنزيله على من قيل فيه أولًا، وأقرب إلى البعد عن سخط الله ومَقْته، ويا لله العجب! أي إيمان يحصل للقلب أو صلاح أو قرب من الله عند قول المغني؟ (¬1): بكرتْ تُذكِّرني لجاجَ العُذَّلِ ... فيها وتَلحَظُني بطَرْفٍ مُخْجلِ وتَمِيْسُ كالغصن الرطيب ودونها ... كَفَلٌ كدِعْصِ الرمل ضخمٌ ممتلي يا هذه حتَّامَ هجرُكِ والقِلىَ ... جُودي على دَنِفٍ بحبك قد بُلِي وقال الآخر (¬2): أُعانقها والنفس بعدُ مشوقةٌ ... إليها وهل بعد العِناقِ تَدانِ وألِثمُ فاهاكي تزولَ صَبابتي ... فيشتدُّ ما ألقَى من الهَيمانِ فإن قال المغني "أعانقه" كان طربُ الحاضرين أكثر، فهل يحل لمن يرجو لله وقارًا، ويعلم أنَّ الله سائلهُ غدًا عما قال وفعل، أن يفتي بأنَّ السماع حلال مطلقًا، وهو يعلم أنَّ هذه البلايا وأضعاف أضعافها فيه؟ هل يطيب السماع عند القوم إلَّا بمدح ما حرَّم الله ورسوله، وذِكْر محاسن المردان والنسوان، والأشعار التي قيلت في حريم المسلمين وأبنائهم؟ فوالله إنَّ بلية الإسلام بهؤلاء من أعظم البلايا، وفي غير سبيل الله كم أُفسِد بالسماع من قلب، وكم سُلِب من نعمة، وكم جُلِب من نقمة، ¬

_ (¬1) لم أجد الأبيات فيما رجعت إليها من المصادر. (¬2) البيتان لابن الرومي. وتخريجهما في "روضة المحبين" (ص 52).

فصل: من مفاسده: أنه يثقل على القلوب الفكر في معاني القرآن وحقائق الإيمان

وكم رُكِب به من فرج حرام، وكم استُحِلَّ به من المحارم والآثام، وكم صَدَّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وكم قطع على السالكين سبيل النجاة، وكم تهافت به فَراشُ العقول والأحلام في الجحيم، وكم فاتها به من حظها من الله وجنات النعيم؟ تالله ما نصبَ صياد بني آدم مثل هذا الشَّرَك لصيد النفوس، ولا أدار على الندامى بعد كؤوس الخمر مثل هذه الكؤوس، وما عَلِقَتْ حبائل هذا الشَّرك بقلبٍ إلا وعزَّ استنقاذُه على الناصحين، ولا أسرَ به من أسيرٍ إلَّا وتعذر فكاكُه على المخلصين. بَرِئنا إلى الله من معشرٍ ... بهم مرضٌ من سماعِ الغنا وكم قلتُ يا قومِ أنتم على ... شفا جُرُفٍ فاسْتَهانوا بنا ولما استمرُّوا على غيِّهم ... رجعنا إلى الله في رُشْدنا (¬1) فعِشنا على ملة المصطفى ... وماتوا على تَاتِنا تَنْتَنا فصل ومن مفاسده: أنَّه يُثقِل على القلوب الفكرَ في معاني القرآن وحقائق الإيمان، فبحسب انصرافه إلي السماع يكون انصرافه عن ذلك، فمستقِلٌّ ومستكثر، وكذلك يُثقِل على اللسان ذكرَ الله، وإن خف الذكر على لسانه كان ذكرًا مجردًا عن مواطأة القلب للسان، وهذا أمر يعلمه السماعي الصادق من نفسه، ولا يمكنه جحده بقلبه، فما اجتمع السماع ¬

_ (¬1) الأبيات في "إغاثة اللهفان" (1/ 226) بلا نسبة. ولعلها للمؤلف. انتهج فيها نهج الأبيات التي أنشدها ابن القشيري في الرد على "الشفا" لابن سينا. انظر "مجموع الفتاوى" (9/ 253) و"الرد على المنطقيين" (ص 510).

من مفاسده: أنه يميل بسامعه إلى اللذات العاجلة واستيفائها

والذكر والقرآن في موطن إلا وطردَ أحدهما الآخر، فلا يجتمعان إلا حربًا، لا يجتمعان سلمًا قط. فصل ومن مفاسده: أنَّه يميل بسامعه إلى اللذات العاجلة، ويدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات بحسب الإمكان، ولا يَردعُ سامعَه عن استيفائها إلا عصمة عجز، أو فقر (¬1) جائحة، أو خوف عقوبة عاجلة، أو فقر، أو فضيحة تُذهِب الرئاسة والمروءة، أو خوف عقاب الله في الدار الآخرة، إن قوي وارد الإيمان على وارد السماع، وإلا قالت النفس لا أبيع حاضرًا بغائب ولا نقدًا بنسيئة. خذ ما تراه ودع شيئًا سمعتَ به (¬2) وهذا كامن فيها، لو ناطقتَها نطقتْ لك به، ومعظم هذه اللذات التي يدعو إليها السماع لذة المنكح، وليست تمام لذته إلا في المتجددات، وإن كان القديمات أجمل منهن، ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحلّ غالبًا، فيتقاضى السماع والطباعُ اجتلابهَا من المحرمات. ولذلك قال السلف الصالح (¬3): "الغناء رقية الزنا". وبين الغناء ¬

_ (¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "أو توبة. . . ."، كما في "مدارج السالكين" (1/ 283). (¬2) عجزه: في طلعة الشمس ما يُغنيك عن زُحَلِ والبيت للمتنبي في ديوانه (3/ 205). (¬3) هو الفضيل بن عياض، أخرجه عنه ابن أبي الدنيا في "ذم الهوى" (57) والبيهقي في "شعب الإيمان" (5108).

محرمات الشريعة قسمان: قسم حرم لما فيه من المفسدة، وقيم حرم لأنه ذريعة إلى ما فيه مفسدة

وشهوة الجماع ولذته أقربُ نسبٍ، من جهة أنَّ الغناء لذة الروح، والجماع أكبر لذات النفس، فيجتمع داعي اللذتين على طبع مستعد ونفس فارغة، فيجد الداعي القوي محلًّا فارغًا لا مدافع له، فيتمكن منه، كما قيل (¬1): أتاني هواها قبلَ أن أعرِفَ الهوى ... فصادفَ قلبًا فارغًا فتمكَّنا ولما يئس الصياد من المتعبدين أن يسمع أحدهم شيئًا من الأصوات المحرمة كالعود والطنبور والشبابة، نظر إلى المعنى الحاصل بهذه الآلات، فأدرجه في ضمن الغناء، وأخرجه في قالبه، وحسَّنه لمن قلَّ فقهه ورقَّ علمه، وإنما مراده التدريج من شيء إلى شيء. والعارف من نظر في الأسباب إلى غاياتها ونتائجها، وتأمل مقاصدها وما تؤول إليه، ومن عرف مقاصد الشرع في سَدِّ (¬2) الذرائع المفضية إلى الحرام قطع بتحريم هذا السماع، فإنَّ النظر إلى الأجنبية واستماع صوتها لغير حاجة حرامٌ سدًّا للذريعة، وكذلك الخلوة بها. ومحرمات الشريعة قسمان: قسم حرم لما فيه من المفسدة، وقسم حرم لأنَّه ذريعة إلى ما اشتمل على المفسدة. فمن نظر إلى صورة هذا المحرَّم ولم ينظر إلى ما هو وسيلة إليه استشكل وجهَ تحريمه، وقال: أي مفسدة في النظر إلى صورة جميلة ¬

_ (¬1) البيت للمجنون أو غيره، وتخريجه في "روضة المحبين" (ص 144). (¬2) في الأصل: "صد".

سبب تحريم النظر إلى الصور المحرمة واستماع الآلات المطربة

خلقها الله تعالى، وجعلها آيةً ودلالةً عليه؟ وأي مفسدة في صوت مطرب بآلة تؤديه، أو استماع كلام موزون بصوت حسن؟ وهل هذا إلا بمنزلة سماع أصوات الطيور المطربة، ورؤية الأزهار والمناظر المستحسنة من الأماكن المُعجِبة البناء، والأشجار والأنهار وغيرها؟ فيقال لهذا القائل: تحريم هذا النظر إلى الصور وهذه الآلات المطربة من تمام حكمة الشارع، وكمال شريعته، ونصيحته للأمة، فإنَّه حرّم ما اشتمل على المفاسد، وما هو وسيلة وذريعة إليه، ولو أباح وسائل المفاسد مع تحريمها لكان تناقضًا يُنزَّه عنه، ولو أنَّ عاقلًا من العقلاء حرَّم مفسدة وأباح الوسيلة المفضية إليها، لعدَّه الناس سفيهًا متلاعبًا، وقالوا: إنَّه متناقض، وهل يمكن مَن شَمَّ رائحةَ الشريعة والفقه في الدين أن يردِّد مثل هذا الكلام؟ وهل هو إلا بمثابة أن يقال: أي مفسدة في الصلاة لله بعد الصبح وبعد العصر حتى يُنهَى عنها؟ وأي مفسدة في تحريم قطرة من الخمر لا تُسكِر ولا تُغيِّب العقل حتى يُحدَّ عليها؟ وأي مفسدة في تحريم الصلاة إلى القبور وفي النهي عن الصلاة فيها؟ وأي مفسدة في تقدم رمضان بيوم أو يومين وفي (¬1) سبِّ آلهة المشركين في وجوههم؟ إلى أضعاف أضعاف هذا مما نهى عنه الشارع سدًّا لذريعة إفضائه إلى المحرم الذي يكرهه ويبغضه، وهل هذا إلا محض حكمته ورحمته وصيانته لعباده وحميتُه لهم من المفاسد أو أسبابها ووسائلها؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "وعن".

إفضاء السماع إلى ما حرمه الله ورسوله

والعاقل العارف بالواقع يعلم أنَّ إفضاء هذا السماع إلى ما حرَّمه الله ورسوله إن لم يزد على إفضاء النظر فليس بدونه، بل كثيرًا ما يكون إفضاؤه فوق إفضاء الخمر، فإن سُكر الخمر إفاقةُ صاحبه سريعة وسُكر السماع لا يستفيق صاحبه إلا في عسكر الهالكين. فصل فإن قال هذا المغرور المخدوع: إن سماع هذا الغناء المطرب بهذه الآلات المطربة المزعج للطباع الداعي لها إلى العشق ولوازمه لا يُؤثِّر عندي، ولا أسمعه لهذا الغرض، ولا يلتفت قلبي إلى حب ما يوصف فيه، وإنما أُنزله على مقتضى حالي ووجدي في حب الله والدار الآخرة، فهو يُثير من قلبي ما هو كامن فيه، كما يثير من قلب محب الدنيا والصور ما هو كامن فيه، فإن سماعي لله وبالله، فلا يضرُّني ما فيه من المفاسد، بخلاف سماع أهل اللهو واللعب. فالجواب أن يقال: هذا موضع الغرور والتلبيس، ومنه وقع مَن وقع في شبكة السماع وشَرَكِه، ورام التخلصَ منها فعزَّ عليه. فيقال له أولًا: ما الفرق بينك وبينَ من يقول: أنا أنظر إلى الصور المستحسنة من النساء الأجانب وإلى معاطفهن وقدودهن وخدودهن وسائر محاسنهن، وليس نظري نظر الفساق، فأنظر إليهن نظرَ اعتبارٍ واستدلال وتفكر في كمال قدرة الخالق، فأتعجب من حسن الصنعة في استدارةِ ذلك الوجه وحسنه، وتناسب خَلْقه، وتبلُّجِ تلك الجبهة والجبين فوقه

هذا فتح لباب الإباحة

واستوائهما، وتقوُّسِ تَينكَ الحاجبين (¬1) واعتدالِ خلقهما كأنهما خُطَّا بقلم، وأقول: تبارك مَن خطهما بقلم القدرة! وأنظرُ إلى تَينكَ العينين وما أُودِعَتاه من الملاحة والحلاوة والسواد في ذلك البياض، وحسن شكلهما، وجَمْعهما لمحاسن الوجه، ثم أنظر إلى دقة الأنف واستوائه وحسن شكله، وإلى ذلك الفم واستدارته ولطفه وبديع خلقه، وهكذا عضوًا عضوًا. وأقول في خلال ذلك كله: تبارك الله أحسنُ الخالقين، وإذا رأيتُ هذه الصورة ذكَّرتْني الحورَ العين، كما قال قائل (¬2): وإذا رآك العابدون تيقَّنوا ... حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ فسَعَوا إلى ذاك النعيمِ وشمَّروا ... إذ كان فيك عليه أكبرُ شاهدِ وهل هذا إلا فَتْح لباب الإباحة وخَرْق لسياج الشريعة؟ وليس بعده أن تقول: إنما حُرِّمت الخمر لما يُوقع شربهُا فيه من العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وأنا أشربها لغير هذا الغرض، بحيث لا تُوقِعني في عداوة ولا بغضاء، ولا تصدّني عن ذكر الله، ولا عن فرضٍ من فرائضه! وكل هذا وأمثاله قد رأيناه وشاهدناه في بعض القوم، وفي كتبهم ومخاطباتهم، فانظر كيف يَرِقُّ الدين حتى ينسلخ منه الرجل كانسلاخ الشعرة من العجين، والمعصوم من عصمه الله. ¬

_ (¬1) الحاجب مذكر، فقول المؤلف "تينك" وهم أو عامي. (¬2) أولهما مع أبيات أخرى لأبي إسحاق الصابي في يتيمة الدهر (2/ 259).

لا ينفك الإنسان عن الطبيعة البشرية

ثم يقال لك (¬1) ثانيًا: الطباع البشرية فيك حيَّةٌ لم تمتْ، وإن ادّعيتَ غير هذا كذَّبتْك طباعك وبَشَريتك (¬2)، فإذا زعمتَ أنك تسمع للإشارة سبقك الطبع إلى مقصوده وحظه قبل أخذ الإشارة، ثم تُبرطِلُك نفسُك بتلك الإشارة، والطبع يعمل عملَه ويتقاضى حظَّه وأنت مشغول عنه بالإشارة، والإشارة لا تدوم، فإذا ترحَّلتْ عنك طالبك الطبعُ بحظِّه أتمَّ مطالبة، فأعلى أحوالك أن تقعَ في حومة الحرب والجهاد، فيُدَال على طبعك مرةً ويُدالَ عليك أخرى، والغالب أنك أسيرٌ معه تجعل حظَّه عبودية وقربة، وهذه نكتة السماع وسرُّه ولبُّه، فتكون أسوأ حالًا ممن سمعه لهوًا ولعبًا، وعدَّه معصية وذنبًا. فليتأمل اللبيب الفطن هذا الموضع حقَّ التأمل، وليدقِّق النظرَ في هذا الداء (¬3) الذي اختطف من شاء الله رب العالمين، وما نجا منه إلا فرد تميز عن كثرة الهالكين، والله المستعان وعليه التكلان. ثم يقال لك ثالثًا: لو كان سماعك بالله وعن الله كما تقول، لدلَّت على صدقك شواهدُ ذلك من سماع كلامه وأسمائه وصفاته ومواعظه وترغيبه وترهيبه، وما يدعو إلى محبته ويباعد عن سخطه، ولم يكن سماعك لشيء لا يُشار به إلى الخالق، وإنما يُشار به إلى الخمر والسُّكر والمليحة ¬

_ (¬1) كذا في الأصل "لك"، وكأن الكلام مستمر مع المخاطب. (¬2) في الأصل: "بشرتك". (¬3) في الأصل: "الدوار".

لو كان السماع بالله وعن الله لدل على صدقه شواهد، ولا توجد هنا

والمليح وطيب وصالهما وعذوبته وتوابع ذلك، فتعالى الله وتنزَّه جنابُه وجلَّت عظمتُه أن يشار إليه بذلك، أو يُستجلَب رضاه وقربه به، كلا والله إن استُجلِبَ بذلك إلا مَقْتُه والبعدُ منه. وكيف يجوز أن تؤخذ الإشاراتُ إلى الله سبحانه من (¬1) التغزل في النساء والمردان؟ وأين هذا مما يجب له سبحانه من الهيبة والتعظيم والوقار والإجلال لعظمته وخشيته والخوف منه؟ وقد آل بهم هذا إلى أن أطلقوا في حقِّه سبحانه ما يطلقه هؤلاء العشاق في معشوقيهم من الصدّ والهجر والوصال وتوابع ذلك، ونشأت من ذلك الشطحات والطامَّات والرعونات التي هي ضد طريق العبودية، وكل هذا من مفاسد السماع، والعاقل يعلم أن مفسدة شرب الخمر دون هذه المفسدة بكثير. ومن العجب استدلالهم على جواز سماع الغناء والمعازف والشبابة والدفوف المصلصلة بسماع أصوات الهَزار والبلبل والشُّحْرور والقُمري، وهل هذا إلا من جنس قياس الذين {قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]؟ ومن جنس قياس أهل الإباحة الذين يقولون: النظر إلى الصور الجميلة والتلذذ بها مثل النظر إلى سائر ما خلق الله من المناظر البَهِجة من الأزهار والثمار والنبات والحيوان، فما الذي حلَّل هذا وحرَّم هذا؟ أَفَتَرى هذا ما عَلِمَ أن سماع أصوات الطيور ورؤية محاسن النبات والثمار لا يدعو إلى ما يدعو إليه سماع الغناء وآلات اللهو والنظر إلى الصور المستحسنة؟ ¬

_ (¬1) في الأصل: "في".

فصل: السماع مركب من شبهة وشهوة

فإن كنتَ لا تدرِي فتلك مصيبةٌ ... وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظمُ (¬1) فصل والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة، وهما الأصلان اللذان ذمَّ الله من يتبعهما ويُحكِّمهما على الوحي الذي بعث الله به أنبياءه ورسله. قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، فالظن الشبهة، وما تهوى الأنفس الشهوة، والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا وهذا، وقال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، فالاستمتاع بالخلاق -وهو النصيب- هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة. فهذان الداءان هما داءا الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وقليل ما هم، وهذا السماع قد تركَّب أمره من هذين الأصلين. فأمَّا الشبهة التي فيه فهي تعلق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم: حضره ساداتُ المشايخ ومَن لا يُطعَن عليه، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته، وسمع الحداء وهو ضرب من سماع الغناء، وسمع الشعر ¬

_ (¬1) البيت لصفي الدين الحلي في "ديوانه" (ص 65) من قصيدة له في بحر الكامل، بتغيير طفيف للبيت الذي هنا في بحر الطويل. وأنشده شيخ الإسلام كما هنا في "منهاج السنة" (4/ 128 , 5/ 162 , 7/ 253, 459).

الشهوة التي فيه

وأجاز عليه، ونحو ذلك من الآثار التي سنذكرها، ونبين أن صحيحها لا يدل، وما هو صريح في الدلالة فكذِبٌ موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن الشبهة التي فيه أن الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرَّك ذلك لمن في قلبه شيء من المحبة الصادقة، وهذا أمرٌ لا يمكن دفعه، فهذا نصيب الشبهة فيه. وأما الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذُّ بسماع الغناء، وتَطْرَب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظِّها الوافر فيه، حتى ربما أسكرها، وفعل فيها ما لا يفعله الخمر، فإن الطباع تنفعل للسماع والصورة والخمر، [و] تَسْكَر النفوسُ بها أتمَّ سُكْرٍ، ولهذا قال الله سبحانه في اللوطية لما أخذهم العذاب: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، فلعشاق الصور سكرة لا يستفيقون منها إلا في عسكر الهالكين، إلا من تداركه الله برحمته. والسماع يُسكِر الروحَ كما تقدم، وتزيد لذته أحيانًا على لذة الخمر، ولهذا تُؤثّر الألحان في الأطفال والبهائم ما لا يؤثر غيرها فيها. قد تتجرد هذه الشهوة التي هي حظ النفس وهو الغالب من السماع، وقد تُبهرَج بنوع شبهة من محبة الله وطلبه والشوق إلى لقائه، فالشهوة فيه ما للنفوس من الحظ، والشبهة ما للقلب والروح فيه من السفر إلى المحبوب. ولكن ثمَّ نكتة، وهي أنه هل هذا من الزاد الذي تُسافر به القلوب والأرواح إلى محبوبها، أو ليس من زاد سيرها إليه؟

الفرق بين السماع الشعري والسماع القرآني

فههنا تُسكَب العبرات، ويتبيّن مَن هو عامل على حظه وإرادته من المحبوب، سواء أراده محبوبه أو لم يرده، وهو حال السماع الشعري الذي يثيره، و [من] هو عامل على مراد محبوبه منه ومرضاته، وهو حال السماع القرآني، فهذا لون، وهذا لون. وبين الحالين أبعد ما بين المشرقين، ولأجل الباطل الذي فيه تدخل الدواخل القادحة على مَن حضره من الصادقين، لأنه ربما غلب فيه سُكر النفوس على حظِّ القلوب والأرواح، فانغمر في حظ النفوس، وصار الحكم للغالب، ويصير النصيب خالصًا للنفس والشيطان. فصاحب الحال المحمود في السماع قد يغلب عليه جانب الباطل، وينغمر الحق فيه ويستهلك، لكون صورة هذا السماع غير مشروعة، وليست من أمر الدين ولا من الإسلام، فهي صورة مبتدعة. فلهذا السبب قد يقوى جانبُ النفس والشيطان فيه على جانب الحق، وتصير الحركة نفسانية لا قلبية، ولا يشعر صاحبها لغلبة حكم الوارد عليه، ونفس الحركة التي أثارها السماع ليست هي الميزان نفسها، بل هي الموزونة، فتستدعي ميزانًا يزنها به الصادق الناصح لنفسه العامل على مراد ربه لا على مراده هو، وحينئذٍ يتبين له هل هي حركة نفس أو حركة قلب في مرضاة المحبوب. فليتفطن اللبيب لهذا الموضع، وليقف فيه وقفةَ المتأمل، والله الموفق. فصل ولمّا تقادم العهد، وطال الأمد، دَرَستْ معالم الدين، وأخذ الناس

بُنَيَّاتِ الطريق، وصار الناس إلا الأقلّ كما قال الله -عز وجل-: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، فاستند كل قوم غير حزب الله ورسوله إلى ظُلَم آرائهم، وحكَّموا على السنة مقالات شيوخهم وطرائقهم وأهوائهم، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، وصار الغالب على هذا الخلق الهوى المطاع، والرأي المعجَب به، والتقليد الذي ليس مع مقلِّده برهان من الله ولا بصيرة به، إنْ معه إلا قولُه: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. فانحرفت لذلك الأعمال، وانقلبت الأذواق، وفسدت الأحوال، وصَدِئت القلوب، وكثير منها انتكس، فلا يعرف من المعروف إلا ما وافق هواه، ولا يُنكِر منه إلا ما خالف هواه، وهذا هو ميّت الأحياء، قال عبد الله بن مسعود: أتدرون ما ميت الأحياء؟ قالوا: لا، قال: هو الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. وقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! هلك مَن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر، فقال (¬1): هلك مَن لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر (¬2). فلا يوجد غالبًا إلا ذوق منحرف في عمل منحرف صادر من قلب منحرف، فتخرج الأقوال والأحوال فيها من الانحراف ما فيها، فعظم ¬

_ (¬1) في الأصل: "فقالوا"، والمثبت يناسب السياق. (¬2) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 135).

تقسيم حذيفة بن اليمان القلوب إلى أربعة أقسام، وشرحها

الخَطْب واشتد الأمر، وكثرت الشطحات والطامَّات، وانسلخت القلوب من الإيمان، وأربابها لا يعلمون، لأن القلب متى لم يكن على قلب الرسول وأصحابه في القصد والعلم والمحبة والكراهة والتصديق واستحسان ما استحسنوه وإيثاره واستقباح ما استقبحوه واجتنابه، كان فيه من الانحراف عن الإيمان بقدر انحرافه عن ذلك، حتى تعود القلوب كما قال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: "القلوب على أربعة: قلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن" (¬1). فإنه أجرد أي متجرد من هذا الانحراف في قصده وحبه وعلمه، متجرد عن شهوات الغي وشبهات الباطل، متجرد عن معارضات أمر الله بالتأويل والشهوات، وعن معارضات خبره بالتقليد والشبهات، وفيه من الإيمان ومباشرة روحه له سراج يزهر، فهذا هو القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله [به]. الثاني: قلب أغلف، وهو قلب الكافر في غلاف، لا يعرف معروفًا ولا [ينكر] منكرًا، بل المعروف عنده منكر والمنكر معروف. الثالث: قلب منكوس، أي مكبوب كالكُوزِ المجخِّي، وهو قلب المنافق، وهو شر قلوب الخلق، وهذا القلب دأبه دائمًا أن يدعو الناس إلى ما يكرهه الله ورسوله، وينهاهم عما يحبه الله ورسوله من الأقوال والأعمال والاعتقاد. الرابع: قلب له مادة إيمان ومادة نفاق، فهو يتقلب بين المادتين، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1439) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 276).

الفرق بين أذواق السلف وأذواق المتأخرين

وهو الغالب عليه منهما. ومن كان له بصيرة وتأملَ أحوالَ الخلق رآهم لا يخرجون عن هذه الأقسام الأربعة، فمن أين تجيء الأذواق الصحيحة المستقيمة، والقلوب قد انحرفت أشدَّ الانحراف عن هَدْي نبيها وما كان عليه هو وأصحابه؟ والسلف الصالح كانوا يجدون الأذواق الصحيحة المتصلة بالله في الأعمال الصحيحة المشروعة، وفي قراءة كتاب الله وتدبره واستماعه، وفي مزاحمة العلماء بالركب، وفي الجهاد في سبيل الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحب في الله والبغض فيه، وتوابع ذلك. فصار ذوق المتأخرين إلا من رحم الله في اليراع والدفّ والمواصيل، والأغاني المطربة من الصور المستحسنة، والرقص والزعقات، وتعطيل ما يحبه الله ويرضاه من عبوديته المخالفة لهوى النفوس. فشتان بين ذوق الألحان وذوق القرآن، وبين ذوق العود والطنبور، وذوق المؤمنين والنور، وبين ذوق الزَّمْر وذوق الزُّمَر، وبين ذوق الناي وذوق "اقتربت الساعة وانشق القمر"، وبين ذوق المواصيل والشبابات وذوق يس والصافات، وبين ذوق غناء الشعر وذوق سورة الشعراء، وبين ذوق السماع للمكاء والتصدية وذوق الأنبياء، وبين الذوق على سماع تُذكر فيه العيون السود والخصور والقدود، وذوق

منهج السلف في الاستماع إلى القرآن

سماع سورة يونس وهود، وبين ذوق الواقفين في طاعة الشيطان على أقدامهم صَوافَّ، وذوق الواقفين في خدمة الرحمن في سورة الأنعام والأعراف، وبين ذوق الواجدين على طرب المثالث والمثاني، وذوق العارفين عند استماع القرآن العظيم والسبع المثاني، وبين ذوق أولي الأقدام الصافات في حضرة سماع الشيطان، وذوق أصحاب الأقدام الصافات بين يدي الرحمن. سبحان الله! هكذا تنقسم الأذواق والمواجيد، ويتميز خلق المطرودين من خلق العبيد، وسبحان المُمِدِّ لهؤلاء وهؤلاء من عطائه، والمفارق بينهم في الكرامة يوم القيامة، فوالله لا يجتمع محبة سماع الشيطان وكلام الرحمن في قلب رجل واحد أبدًا، كما لا تجتمع بنتُ عدو الله وبنت رسول الله عند رجل واحد أبدًا (¬1). أنتَ القتيلُ بكل من أحببتَه ... فاخترْ لنفسك في الهوى من تَصطفِي (¬2) كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، إذا اجتمعوا واشتاقوا إلى حادٍ يحَدُو بهم ليَطِيب لهم السيرُ، ومُحرِّكٍ يُحرِّك قلوبَهم إلى محبوبهم، أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فتطمئن قلوبهم، وتَفيِضُ عيونهُم، ويجدون من حلاوة الإيمان أضعافَ ما يجده السماعاتية من حلاوة السماع، وكان عمر بن الخطاب إذا جلس عنده ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3729) عن المسور بن مخرمة. (¬2) البيت لابن الفارض في ديوانه، وانظر تخريجه في "روضة المحبين" (ص 110).

حال أهل السماع

أبو موسى يقول: يا أبا موسى ذَكِّرْنا ربَّنا، فيأخذ أبو موسى في القراءة (¬1)، وتعمل تلك الأقوال في قلوب القوم عملها، وكان عثمان بن عفان يقول: لو طهرتْ قلوبنا لما شبعتْ من كلام الله (¬2). وإي والله! كيف تشبع من كلام محبوبهم وفيه نهاية مطلوبهم؟ وكيف تشبع من القرآن وإنما فُتِحت به لا بالغناء والألحان؟ إذا مرِضْنا تداوينَا بذكرِكُمُ ... فإن تركناه زادَ السُّقْم والمرضُ (¬3) وأصحاب الأطراب (¬4) والألحان عن هذا كله بمعزلٍ، هم في واد والقوم في واد. الضبُّ والنونُ قد يُرجَى التقاؤُهما ... وليس يُرجَى التقاءُ الوحي والقَصَبِ (¬5) فأين حال من يَطربُ بسماعِ الغناءِ والقَصَبِ بين المثالث والمثاني وذوقِه ووجْدِه إلى حال من يجد لذة السماع وروح الحال وذوق طعم الإيمان؟ إذا سمع في حال إقبال قلبه على الله، وأنسه به، وشوقه إلى ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (4/ 109) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 258) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (37/ 339 طبعة المجمع). وانظر "سير أعلام النبلاء (2/ 391) و"البداية والنهاية" (11/ 255). (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد "فضائل الصحابة" (775) والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 56). (¬3) البيت باختلاف الشطر الثاني في "مدارج السالكين" (2/ 423) و"الوابل الصيب" (ص 172). (¬4) في الأصل: "الطراف". ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬5) صدره لأبي إسحاق الصابي في "يتيمة الدهر" (2/ 345).

لقائه، واستعداده لفهم مراده من كلامه، وتنزيله على حاله، وأخْذِه بحظه الوافر منه، قارئًا (¬1) مجيدًا حسنَ الصوت والأداء يقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)} [طه: 1 - 8]. وأمثالَ هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياةً في قلب صادق قد شَمَّ رائحةَ المحبة وذاق حلاوتها، فقلبه لا يَشبَعُ من كلام محبوبه، ولا يَقَرُّ ولا يطمئنُّ إلا به = كان (¬2) موقعه من قلبه كموقع وصال الحبيب بعد طول الهجران، وحلَّ منه محلَّ الماء البارد في شدة الهجير من الظمآن، فما ظنك بأرضٍ حياتُها بالغيثِ، أصابها وابِلُه أحوجَ ما كانت إليه، فأنبتَ فيها من كل زوجٍ بهيجٍ قائمٍ على سُوقِه يشكره ويثني عليه. فهل يستوي عند الله وملائكته ورسوله والصادقين من عباده سماعُ هذا وذوقُه وذوق صاحب سماع الغناء، من سماعٍ أهلُه عبيدُ نفوسٍ شهوانية، كان عقد مجلس اجتماعهم طلبًا للذة النفوس ونيلًا لحظِّها؟ فمن لم يُميِّز بين هذين السماعين والذوقين، فليسأل ربَّه بصدق رغبته إليه أن يُحيِيَ له قلبَه الميت، وأن يجعل له نورًا يمشي به في الناس، ويفرق به بين الحق والباطل، فإنه قريب مجيب. ¬

_ (¬1) "قارئًا" مفعول الفعل "سمعَ". (¬2) "كان" جواب شرط "إذا سمع".

فصل: في التنبيه على نكتة خفية من نكت السماع

فصل في التنبيه على نكتة خفية من نكت السماع يعرفها أهله، وهي أنه قد علم الذائقون منهم أن ما وَجَدَ صادقٌ في السماع الشعري وجدًا وتحرك به إلا وَجَدَ عند انقضائه ومفارقةِ المجلس قبضًا على قلبه، ووجد نوعَ استيحاشٍ وأحسَّ ببعده، ولا يتفطنُ لهذا إلا من في قلبه حياة وطلب، وإلا فـ ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ (¬1) ولو سئل عن سبب هذا لم يعرفه، لأن قلبه معمور بحب السماع وذوقه ووجده عن استخراج أسباب فساد القلب منه، ولو وزَنَه بالميزان العادل لعلم من أين أُتي، فاسمع الآن السببَ الذي نشأ منه هذا القبضُ وهذه الوحشة والبعد. لما كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجًا من حق وباطل، ومركبًا كما تقدم من شهوة وشبهة، وأحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظَّها المحمود منه ممتزجًا بحظ النفس والشيطان غيرَ صافٍ ولا خالصٍ، فامتزج نصيب الرحمن بنصيب الشيطان، واختلط حظ القلب بحظ النفس، هذا أحسن أحواله، فإنه مؤسَّسٌ على حظ النفس والشيطان، وهو فيه بالذات، وأما نصيب الرحمن فهو فيه بالعرض، ولم يُوضَع عليه ولا أُسِّس عليه، فاختلط في وادي القلب ¬

_ (¬1) صدره: من يَهُنْ يسهل الهوانُ عليه والبيت للمتنبي في "ديوانه" (4/ 217).

الماءانِ: الماء الصافي والكدر، وتجاورَ الخبيثُ والطيبُ، والتقتِ الوارداتُ الرحمانية والواردات الشيطانية. والمستمع الصادق لغلبة صدقه وظهور أحكام القلب فيه يَخفَى عليه ذلك الوقتَ أثرُ الكدر، ولا يشعر به سيَّما مع سُكْر الروح به وغيبتها عن سوى مطلوبه، فلما أفاق من سُكره وفارق لذة السماع وطيبه وجد اللوثَ والكدرَ الذي هو أثر النفس والشيطان، وأثرُ (¬1) جُثوم الشيطان على قلبه، فأثَّر فيه ذلك الأثر قبضًا ووحشة، وأحسَّ به بعدًا، وكلما كان أصدق وأتمَّ طلبًا كان وجوده لهذا أظهر، فاستعداده وحياة قلبه يوجب له الإحساس بهذا، ولا يدري من أين أُتي. وهذا له في الشاهد نظائر وأشباهٌ، منها: أن الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغالًا تامًّا بمشاهدة محبوب، أو رؤية مخوف، أو لذة ملكتْ عليه حسّه وقلبه، إذا أصابه في تلك الحال ضربٌ أو لَسْعٌ أو سببٌ مؤلم لا يكاد يشعر به، فإذا فارقته تلك الحال وجد مسَّ الألم حتى كأنه أصابه تلك الساعة، والألم لم يزل فيه، لكن كان ثمَّ مانع يمنع من الإحساس به، فلمّا زال المانع أحسَّ بالألم. ولهذه النكتة كان بعض الصادقين منهم إذا فارق السماع بادر إلى تجديد التوبة والاستغفار، وأخذ في أسباب التداوي التي يدفع بها موجب أسباب القبض والوحشة والبعد. وهذا القدر إنما يعرفه أولو الفقه في الطريق وأصحاب الفطن، المعتنون بتكميل نفوسهم، ومعرفة أدوائها وأدويتها. والله المستعان. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وأتم".

مثال صاحب السماع الشعري وصاحب السماع القرآني

ولا ريب أن الصادق قد يجد في سماع الأبيات ذوقًا صحيحًا إيمانيًّا، ولكن ذلك بمثابة من سُقِيَ عسلًا في إناء نجس، كإناء من جلد ميتة غير ذكيّ، والنفوس الصادقة التي عَلَتْ هِممُها تنبو عن الشرب في ذلك الإناء وتقذره، وتأنف أن تشرب فيه، بل تطلب الشربَ من إناء يصلح لذلك الشراب ويناسبه، فإن لم تجده صانت الشراب عن وضعه في ذلك الإناء، وانتظرتْ به إناءً يليق به. وغيرها من النفوس تضع ذلك الشراب في أي إناء وجدتْه، من عظامِ ميتة أو جلدِ ميتة وإناءِ خمرٍ طالما شُرِب به الخمرُ، وأُكِلت فيه الميتة. أفلا يستحيي العارف أن يشرب أطهر الشراب وأطيبه في آنية المسكر والميتة والدم ولحم الخنزير؟ ولوجود الصادق في حال سماعه ذلك الذوقَ وحلاوتَه يغيب عن قذارة الإناء ونجاسته ووَضَارته، فإذا فرغ من شربه وجد زُهُومةَ ذلك الإناء وآثارَ قذارته على قلبه، فيوجب له ذلك قبضًا ووحشة. وبالله التوفيق. هذا إذا كان صاحب السماع صادقًا في حاله مع الله وذوقه، وكان سماعه بالله ولله، وأمَّا إن كان سماعه للذة وحظ النفس فهو يشرب الماء النجس في الإناء القذر. وأمَّا صاحب السماع القرآني الذي ذوقه وشربه منه، فهو يشرب الشراب الطهور في أنظف إناء وأطيبه. فالآنية ثلاثة: نظيف ونجس ومختلط. والشراب ثلاثة: طاهر ونجس وممزوج. والقلوب ثلاثة: صحيح سليم فشربه الشراب الطهور

فصل: في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة، وبيان أن أحدهما مباين للآخر

في الإناء النظيف، وسقيم مريض فشربه الشراب النجس في الإناء القذر، وقلب فيه مادتان فشرابه وإناؤه بحسب المادتين، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا. فصل في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة وبيان أن أحد الذوقين مباين للآخر، فإنه كلّما قوي ذوق أحدهما وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانه. ولا ريب أن الصلاة قرة عين المحبين ولذة أرواح الموحدين، ومحكُّ أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمته المهداة إلى عبيده، هداهم إليها وعرَّفهم بها رحمةً بهم وإكرامًا لهم، لينالوا بها شرف كرامته والفوز بقربه، لا حاجة منه إليهم، بل منَّةً منه وفضلًا منه عليهم، وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما، وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعمه بحبه وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى تقع على الوجه الذي يرضاه. ولمّا امتحن سبحانه عبده بالشهوات وأسبابها من داخلٍ فيه وخارجٍ عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه إليه كل يوم خمس مرات، وجعل [في] كل لون من ألوان تلك المأدبة لذة ومنفعة

غفلة القلب مثل القحط والجدب، وتداركها بغيث الرحمة من الله

ومصلحةً لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة، ليست في اللون الآخر، لتكمل لذة عبده في كل لون من ألوان العبودية، ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ليُثيبه عليه نورًا خاصًا وقوة في قلبه وجوارحه وثوابًا خاصًّا يوم لقائه. فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول وأغناه؛ لأن القلب كان قبلُ قد ناله من القحط والجدب والجوع والظمأ والعُرْي والسقم ما ناله، فأصدره من عنده وقد أغناه عن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه. ولمّا كانت الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا، جدد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا من بيده غيث القلوب وسَقْيها، مستمطرًا سحائبَ رحمته لئلا ييبَسَ ما أنبتته له تلك من كلأ الإيمان وعُشْبه وثمارِه، ولئلا تنقطع مادة النبات. والقلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جَدْبه وقَحْطَه وضرورته إلى سقيا رحمته وغيثِ بِرِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته. فإن الغفلة التي تنزل بالقلب هي القحط والجدب، فما دام في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة واقع عليه كالمطر المتدارك، فإذا غفلَ ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة، فإذا تمكنت الغفلةُ واستحكمتْ صارتْ أرضُه ميتةً، وسَنَتُه جرداءَ يابسةً، وحريقُ الشهوات فيها من كل جانبٍ السمائم.

لله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه

وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزَّتْ أرضه ورَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها ولينها وثمارها من الماء، فإذا مُنِعتْ من الماء يَبِستْ عروقها، وذَبلتْ أغصانها، وحُبِست ثمارها وربما يبست الأغصان والشجرة، فإذا مددتَ منها غصنًا إلى نفسك لم يمتد ولم ينقَدْ لك وانكسر، فحينئذٍ تقتضي حكمة قيّم البستان قطعَ تلك الشجرة وجعلها وقودًا للنار، فكذلك القلب، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه، فتصيبه حرارةُ النفس ونار الشهوات، فتمتنع أغصان الجوارح عن الامتداد إذا مددتها والانقياد إذا قُدتَها، فلا تَصلحُ بعدُ هي والشجرة إلا للنار، {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]. فإذا كان القلب ممطورًا بمطر الرحمة كانت الأغصان لينة منقادة رطبة، فإذا مددتهَا إلى أمر الله انقادت معك، وأقبلتْ سريعةً لينة وادعة، فجَنيتَ منها من ثمار العبودية ما يحمله كلُّ غصن من تلك الأغصان، ومادتها من رطوبة القلب ورِيّه، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح، وإذا يبس القلبُ تعطلتِ الأغصانُ من أعمال البر، لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه، فلم تنتشر في الجوارح، فتحمل كلُّ جارحة ثمرَها من العبودية. ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبوديةٌ تخصُّه، وطاعة مطلوبة منها، خُلِقت لأجلها وهُيِّئتْ لها. والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام: أحدها: مَن استعمل تلك الجوارح فيما خُلِقتْ له وأريدَ منها، فهذا

تمثيل هذه الأقسام وأعمالها

هو الذي تاجرَ الله بأربح التجارة، وباع نفسَه لله بأربح البيع، والصلاة وضعت لاستعمال الجوارحِ جميعِها في العبودية تبعًا لقيام القلب بها. الثاني: مَن استعملها فيما لم تُخلَق له، ولم يُخلَقْ لها، فهذا هو الذي خاب سعيه وخسرت تجارته، وفاته رِضَى ربِّه عنه وجزيلُ ثوابه، وحصل على سخطه وأليم عقابه. الثالث: مَن عطّل جوارحَه وأماتهَا بالبطالة، فهذا أيضًا خاسرٌ أعظم خسارة، فإن العبد خُلِق للعبادة والطاعة لا للبطالة، وأبغض الخلق إلى الله البطَّال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة، فهذا كَلٌّ على الدنيا والدين. فالأول كرجل أُقطِع أرضًا واسعةً، وأُعِين بآلاتِ الحرث والبذار، وأُعطي ما يكفيها لسقيها، فحرثَها وهيّأها للزراعة، وبذَرَ فيها من أنواع الغلال، وغَرَسَ فيها من أنواع الثمار والفواكه المختلفة الأنواع، ثم لم يُهمِلها، بل أقام (¬1) عليها الحرسَ وحفظها من المفسدين، وجعل يتعاهدها كل يوم فيصلح ما فسدَ منها، ويَغرِس عوضَ ما يَبِسَ، ويَنفِي دغلَها، ويقطع شَوكَها، ويستعين بمغلّها على عمارتها. والثاني بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض، فجعلَها مأوى للسباع والهوامّ ومطرحًا للجِيَفِ والأَنتان، وجعلها معقلًا يأوي إليه كلُّ مفسد ومؤذٍ ولصّ، وأخذ ما أعين به على بذارها وصلاحها، وصرفه معونة ومعيشة لمن فيها من أهل الشر والفساد. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أقوام" تحريف.

والثالث بمنزلة رجل عطَّلها وأهملها وأرسل ذلك الماء ضائعًا في القِفار والصحاري، فقعد مذمومًا محسورًا، فهذا مثال أهل الغفلة، والذي قبله مثال أهل الخيانة والجناية، والأول مثال أهل اليقظة والاستعداد لما خُلقوا له. فالأول إذا تحرّك أو سكن أو قام أو قعد أو أكل أو شرب أو نام أو لبس أو نطق أو سكت كان ذلك كله له لا عليه، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد. والثاني إذا فعل ذلك كان عليه لا له، وكان في طرد وإبعاد وخسران. والثالث إذا فعل ذلك كان في غفلة وبطالة وتفريط. فالأول يتقلب فيما يتقلب فيه بحكم الطاعة والقربة. والثاني يتقلب في ذلك بحكم الخيانة والتعدي، فإن الله لم يُملِّكه ما ملكه ليستعين به على مخالفته، فهو جانٍ متعدٍّ خائن لله في نعمه، معاقَبٌ على التنعم بها في غير طاعته. والثالث يتقلب في ذلك ويتناوله بحكم الغفلة وبهجة النفس وطبيعتها، لم يبتغِ بذلك رضوان الله والتقرب إليه، فهذا خسران بيّن، إذ عطَّل أوقاتَ عمره التي لا قيمة لها عن أفضل الأرباح والتجارات. فدعا الله سبحانه الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمةً منه عليهم، وهيّأ لهم فيها أنواعَ العبادة، لينال العبد من كل قول وفعل وحركة وسكون حظَّه من عطاياه.

سر الصلاة ولبها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه

وكان سرُّ الصلاة ولبُّها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه، فإذا لم يُقبل عليه واشتغل بغيره ولها بحديث النفس، كان بمنزلة وافدٍ وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطئه وزللِه، مستمطرًا لسحائب جوده ورحمته، مستطعمًا له ما يقوت قلبه، ليقوى على القيام في خدمته، فلمّا وصل إلى الباب ولم يبق إلا مناجاة الملك، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا أو ولَّاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك وأقلِّه عنده قدرًا، فآثره عليه، وصيَّره قبلةَ قلبه، ومحلَّ توجهه، وموضع سِرّه، وبعث غلمانه وخَدَمَه ليقفوا في طاعة الملك، ويعتذروا عنه وينوبوا عنه في الخدمة، والملك شاهد ذلك ويرى حاله، ومع هذا فكرم الملك وجوده وسعة بره وإحسانه يأبى أن ينصرف عنه تلك الخدم والأتباع، فيصيبها من رحمته وإحسانه، لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين وبين الرَّضْخ لمن لا سهمَ له، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19]. والله سبحانه خلق هذا النوع الإنساني لنفسه، واختصَّه، وخلق له كل شيء، كما في الأثر الإلهي: "ابنَ آدم خلقتُك لنفسي، وخلقت كل شيء لك، فبحقِّي عليك لا تشتغلْ بما خلقته لك عما خلقتك له" (¬1). وفي أثر آخر: "خلقتك لنفسي فلا تلعبْ، وتكفلتُ برزقك فلا ¬

_ (¬1) ذكره شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (1/ 23). وانظر "طريق الهجرتين" (ص 526).

كون الصلاة سببا إلى قرب الله ومناجاته ومحبته والأنس به

تتعب، ابنَ آدم اطلبني تجِدْني، وإن وجدتني وجدتَ كل شيء، وإن فُتُّك فاتَك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء" (¬1). وجعل الصلاة سببًا موصلًا له إلى قربه ومناجاته ومحبته والأنس به، وما بين صلاتين تحدثُ له الغفلة والجفوة والإعراض والزلات والخطايا، فيُبعِده ذلك عن ربه، وينحّيه عن قربه، ويصير كأنه أجنبي عن العبودية ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو، فأسَره وغلَّه وقيّده وحبسَه (¬2) في سجن نفسه وهواه، فحظّه ضيق الصدر ومعالجة الهموم والغموم والأحزان والحسرات، ولا يدري السبب في ذلك. فاقتضت رحمة ربه الرحيم به (¬3) أن جعل له من عبوديته عبودية جامعة مختلفة الأجزاء والحالات، بسبب اختلاف الأحداث التي جاءت من العبد، وبحسب شدة حاجته إلى نصيبه من كل جزء من أجزاء تلك العبودية. فبالوضوء يتطهر من الأوساخ ويَقدُم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن، وظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة. ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة ¬

_ (¬1) أثر إسرائيلي كما ذكره شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (8/ 52). وذكره المؤلف في "طريق الهجرتين" (ص 95، 526). (¬2) في الأصل: "وجنه". (¬3) في الأصل: "به الرحيم".

المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة

والطهارة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتطهر بعد فراغه (¬1) من الوضوء أن يتشهد، ثم يقول: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" (¬2)، فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا. فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة. فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه (¬3)، إذ تخلص من الإباق بمجيئه إلى داره ومحل عبوديته. ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم، والمستحبة عند آخرين، والعبد كان في حال غفلته كالآبق عن ربه، وقد عطَّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خلق لها، فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف العبودية والتذلل والانكسار، فقد استدعى عطف سيده عليه وإقباله عليه بعد الإعراض. ¬

_ (¬1) في الأصل: "أن يقول بعد فراغه"، وسيأتي ما يغني عن التكرار. (¬2) أخرجه الترمذي (55) عن عمر بن الخطاب، وقال: في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء، قال محمد بن إسماعيل البخاري: وأبو إدريس لم يسمع من عمر شيئًا. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي لوروده من طرق أخرى. (¬3) بعدها في الأصل: "فلما تطهر ظاهرًا وباطنًا". وهو تكرار.

استقبال القبلة

وأمر بأن يستقبل القبلة بيته الحرام بوجهه، ويستقبل الله -عز وجل- بقلبه، لينسلخ مما كان فيه من التولي والإعراض، ثم قام بين يديه مقام الذليل الخاضع المسكين المستعطف لسيده، وألقى بيديه مسلمًا مستسلمًا ناكسَ الرأس خاشعَ القلب مُطرِقَ الطرف، لا يلتفت قلبه عنه ولا طرفُه يمنةً ولا يسرةً، بل قد توجه بقلبه كله إليه، وأقبل بكليته عليه. ثم كبره بالتعظيم والإجلال، وواطأ قلبُه في التكبير لسانَه، فكان الله أكبرَ في قلبه من كل شيء، وصدَّقَ هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه، فإذا اشتغل عن الله بغيره وكان ما اشتغل به أهمَّ عنده من الله كان تكبيره بلسانه دون قلبه، فالتكبير يُخرِجه من لُبْسِ رداء التكبر المنافي للعبودية، ويمنعه من التفات قلبه إلى غير الله، إذ (¬1) كان الله عنده وفي قلبه أكبر من كل شيء، فمنعَه حقُّ قوله الله أكبر والقيام بعبودية التكبير عن هاتين الآفتين، اللتين هما من أعظم الحجب بينه وبين الله. فإذا قال: "سبحانك اللهم وبحمدك"، وأثنى على الله بما هو أهله، فقد خرج عن الغفلة التي هي حجاب أيضًا بينه وبين الله، وأتى بالتحية والثناء الذي يخاطب به الملك عند الدخول عليه تعظيمًا له وتمجيدًا ومقدمةً بين يدَيْ حاجته، فكان في هذا الثناء من أدب العبودية ما يستجلب به إقباله عليه ورضاه عنه وإسعافه بحوائجه. فإذا شرع في القراءة قدَّم أمامها الاستعاذة بالله من الشيطان، فإنه ¬

_ (¬1) في الأصل: "إذا".

أحرص ما يكون على العبد في مثل هذا المقام الذي هو أشرف مقاماته وأنفعها له في دنياه وآخرته، فهو أحرص شيء على صرفه عنه واقتطاعه دونه بالبدن والقلب، فإن عجز عن اقتطاعه وتعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه وعطَّله عن القيام بين يدي الرب تعالى، فأمر العبد بالاستعاذة بالله منه ليسلم له مقامه بين يدي ربه، وليحيا قلبه ويستنير بما يتدبره ويتفهمه من كلام سيده الذي هو سبب حياته ونعيمه وفلاحه، فالشيطان أحرص على اقتطاع قلبه عن مقصود التلاوة. ولما علم سبحانه جِدَّ العدو وتفرغَه للعبد وعَجْز العبد عنه، أمره بأن يستعيذ به سبحانه ويلتجئ إليه في صرفه عنه، فيُكْفَى (¬1) بالاستعاذة مؤونةَ محاربته ومقاومتهِ، فكأنه قيل له: لا طاقةَ لك بهذا العدو، فاستعذْ بي واستجر بي، أَكْفِكَه وأمنعْك منه. وقال لي شيخ الإسلام قدس الله روحه يومًا: "إذا هاشَ عليك كلبُ الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغِثْ به، فهو يَصرِف عنك الكلب". فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُد منه، فأفضى القلب إلى معاني القرآن، ووقع في رياضه المؤنقة، وشاهد عجائبه التي تَبْهَر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس والشيطان، والنفس فمنفعلةٌ للشيطان سامعة منه، فإذا بَعُد عنها وطُرِد لَمَّ بها الملَكُ وثبَّتها وذكَّرها ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيكتفى".

قراءة القرآن في القيام

بما فيه سعادتها ونجاتها. فإذا أخذ في قراءة القرآن فقد قام في مقام مخاطبة ربه ومناجاته، فليحذر كل الحذر من التعرض لمقته وسخطه أن يناجيه ويخاطبه وهو مُعرِض عنه، ملتفتٌ إلى غيره، فإنه يستدعي بذلك مقتَه، ويكون بمنزلة رجل قرَّبه ملِكٌ من ملوك الدنيا، فأقامه بين يديه، فجعل يخاطب الملك وقد ولَّاه قفاه أو التفت عنه بوجهه يَمنةً ويسرةً، فما الظن بمقت الملك لهذا؟ فما الظن بالملك الحق المبين الذي هو رب العالمين وقيوم السموات والأرض؟ وليقف عند كل آية من الفاتحة ينتظر جواب ربه له، وكأنه سمعه يقولى: حمدني عبدي حين يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وقف لحظةً ينتظر قوله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، انتظر قوله: مجَّدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، انتظر قوله: هذا بيني وبين عبدي، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها، انتظر قوله: هؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل (¬1). ومن ذاق طعمَ الصلاة علم أنه لا يقوم غير التكبير والفاتحة مقامهما، كما لا يقوم غير القيام والركوع والسجود مقامها فلكل عبودية من عبودية الصلاة سرٌّ وتأثير وعبوديةٌ لا تحصل من غيرها، ثم لكل آية من آيات الفاتحة عبودية وذوق ووَجْدٌ يخصها. ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (395) عن أبي هريرة.

بيان أسرار سورة الفاتحة

فعند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تجد تحت هذه الكلمة إثباتَ كل كمال للرب تعالى فعلًا ووصفًا واسمًا، وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلًا ووصفًا واسمًا، فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه، منزَّهٌ عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت جلال، وأسماؤه كلها حسنى، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسموات والأرض وما بينهما وما فيهما، فالكون كله ناطق بحمده، والخلق والأمر صادر عن حمده وقائم بحمده ووُجِد بحمده، فحمده هو سبب وجود كل موجود، وهو غاية كل موجود، وكلُّ موجود شاهد بحمده، وإرساله رسوله بحمده، وإنزاله كتبه بحمده، والجنة عُمرتْ بأهلها بحمده، والنار عُمرتْ بأهلها بحمده، وما أُطِيعَ إلا بحمده، وما عُصي إلا بحمده، ولا تسقط ورقة إلا بحمده، ولا يتحرك في الكون ذرة إلا بحمده. وهو المحمود لذاته، وإن لم يحمده العباد، كما أنه هو الواحد الأحد ولو لم يُوحِّده العباد، والإله الحق وإن لم يُؤلِّهوه، وهو سبحانه الذي حَمِد نفسَه على لسان القائل: الحمد لله رب العالمين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده" (¬1). فهو الحامد لنفسه في الحقيقة على لسان عبده، فإنه الذي أجرى الحمد على لسانه وقلبه، وإجراؤه بحمده، فله الحمد كله، وله الملك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (404) عن أبي موسى الأشعري.

كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فهذه المعرفة من عبودية الحمد. ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمدَ، فإذا حمده على هذه النعمة استوجب عليه حمدًا آخر على نعمة حمده، وهلمَّ جرًّا. فالعبد ولو استنفد أنفاسَه كلَّها في حمده على نعمة من نعمه، كان ما يجب له من الحمد ويستحقه فوق ذلك وأضعافه، ولا يُحصِي أحد البتة ثناءً عليه بمحامده. ومن عبودية العبد شهودُ العبد لعجزه عن الحمد، وأن ما قام به منه فالرب سبحانه هو المحمود عليه، إذ هو مُجرِيه على لسانه وقلبه. ومن عبوديته تسليط الحمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرةً وباطنةً على ما يحب العبد وما يكرهه، فهو سبحانه المحمود على ذلك كله في الحقيقة، وإن غاب عن شهود العبد. ثم لقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} من العبودية شهود تفرده سبحانه بالربوبية، وأنه كما أنه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومُدبِّر أمورهم ومُوجِدهم ومُفنِيهم، فهو وحده إلههم ومعبودهم وملجأهم ومفزعهم عند النوائب، فلا ربَّ غيره، ولا إلهَ سواه. ولقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} عبودية تخصها، وهي شهود عموم رحمته، وسعتها لكل شيء، وأخْذ كل موجود بنصيبه منها، ولاسيما الرحمة الخاصة به التي أقامت عبده بين يديه في خدمته، يناجيه بكلامه

ويتملَّقه ويسترحمه ويسأله هدايته ورحمته، وإتمامَ نعمته عليه، فهذا من رحمته بعبده، فرحمتُه وسعتْ كلَّ شيء، كما أن حمده وسعَ كل شيء. ثم يعطي قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} عبوديتها، ويتأمل تضمنها لإثبات المعاد، وتفرد الرب فيه بالحكم بين خلقه، وأنه يوم يدين فيه العباد بأعمالهم في الخير والشر، وذلك من تفاصيل حمده وموجبه. ولما كان قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إخبارًا عن حمده تعالى قال الله: حمدني عبدي، ولما كان قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إعادةً وتكريرًا لأوصاف كماله قال: أثنى عليَّ عبدي، فإن الثناء إنما يكون بتكرار المحامد وتعداد أوصاف المحمود، ولما وصفه سبحانه بتفرده بملك يوم الدين وهو الملك الحق المتضمن لظهور عدله وكبريائه وعظمته ووحدانيته وصدق رسله، سمى هذا الثناء مجدًا، فقال: مجَّدني عبدي، فإن التمجيد هو الثناء بصفات العظمة والجلال. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} انتظرَ جواب ربه له: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وتأمل عبوديةَ هاتين الكلمتين وحقوقهما، وميَّز الكلمة التي لله والكلمة التي للعبد، وفَقِهَ سرّ كون إحداهما لله والأخرى للعبد، وميَّزَ بين التوحيد الذي تقتضيه كلمة "إياك نعبد" والتوحيد الذي تقتضيه كلمة "إياك نستعين"، وفَقِهَ سر كون هاتين الكلمتين في وسط السورة بين نوعي الثناء قبلهما والدعاء بعدهما، وفَقِهَ

تقديم "إياك نعبد" على "إياك نستعين"، وتقديم المعمول على الفعل (¬1) مع الإتيان به مؤخرًا أوجز وأخصر، وسر إعادة الضمير مرة بعد مرة، وعلمَ ما تدفع كل واحدة من الكلمتين من الآفة المنافية للعبودية، وكيف تُدخِله الكلمتان في صريح العبودية، وعَلِمَ كيف يدور القرآن من أوله إلى آخره على هاتين الكلمتين، بل كيف يدور عليهما الخلق والأمر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة، وكيف تضمنتا لأجلِّ الغايات وأكمل الوسائل، وكيف جيء بهما بضمير الخطاب والحضور دون ضمير الغائب. وهذا موضع يستدعي كتابًا كبيرًا، ولولا الخروج عما نحن بصدده لأوضحناه وبسطنا القول فيه، فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه في كتاب "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" (¬2)، وفي كتاب "الرسالة المصرية" (¬3). ثم تأمَّلَ ضرورته وفاقته إلى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي مضمونه معرفة الحق وقصده وإرادته والعمل به والثبات عليه والدعوة إليه والصبر على أذى المدعو، فباستكمال هذه المراتب الخمس تستكمل الهداية، وما نقص منها نقص من هدايته. ¬

_ (¬1) في الأصل: "القول". (¬2) هو "مدارج السالكين" وقد بسط الكلام في أوله على أسرار سورة الفاتحة. (¬3) لم أجد ذكر هذا الكتاب في المصادر التي رجعت إليها.

افتقار العبد إلى هداية الله في جميع الأمور

ولما كان العبد مفتقرًا إلى هذه الهداية في ظاهره وباطنه في جميع ما يأتيه ويذره: من أمورٍ قد فعلها على غير الهداية علمًا وعملًا وإرادةً، فهو محتاج إلى التوبة منها، وتوبته منها هي الهداية. وأمور قد هُدي إلى أصلها دون تفصيلها، فهو محتاج إلى هداية تفاصيلها. وأمورٍ قد هُدي إليها من وجه دون وجه، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها، ليتمَّ له الهداية ويُزاد هدى إلى هداه. وأمور يحتاج فيها إلى أن يحصل له من الهداية في مستقبلها مثل ما حصل له في ماضيها. وأمور يعتقد فيها بخلاف ما هي عليه، فهو محتاج إلى هداية تنسخ من قلبه ذلك الاعتقاد، وتُثبِت فيه ضدَّه. وأمور من الهداية هو قادر عليها، ولكن لم يخلق له إرادة فعلها، فهو محتاج في تمام الهداية إلى خلق إرادة يفعلها بها. وأمور منها هو غير قادر على فعلها مع كونه مريدًا، فهو محتاج في هدايته إلى إقداره عليها. وأمور منها هو غير قادر عليها ولا مريد لها فهو محتاج إلى خلق القدرة والإرادة له لتتم له الهداية.

انقسام الخلق ثلاثة أقسام: منعم عليه وضال ومغضوب عليه

وأمور هو قائم بها على وجه الهداية اعتقادًا وإرادة وعملًا، فهو محتاج إلى الثبات عليها واستدامتها. = كانت حاجته (¬1) إلى سؤال الهداية أعظم الحاجات، وفاقته إليها أشد الفاقات، فرضَ عليه الرب الرحيم هذا السؤال كل يوم وليلة في أفضل أحواله وهي الصلوات الخمس مراتٍ متعددة، لشدة ضرورته وفاقته إلى هذا المطلوب، ثم بيَّن أن سبيل أهل هذه الهداية مغاير لسبيل أهل الغضب وأهل الضلال، فانقسم الخلق إذن ثلاثة أقسام بالنسبة إلى هذه الهداية: مُنعَمٌ عليه بحصولها، واستمرار حظّه من النعم بحسب حظه من تفاصيلها وأقسامها. وضالٌّ لم يُعطَ هذه الهداية ولم يُوفَّق لها. ومغضوب عليه عرفَها ولم يُوفَّق للعمل بموجبها. فالأول المنعم عليه قائم بالهدى ودين الحق علمًا وعملًا، والضالّ منسلخٌ عنه علمًا وعملًا، والمغضوب عليه عارفٌ به علمًا، منسلخ منه عملًا، والله الموفق للصواب. ولولا أنَّ المقصود التنبيه على المضادَّة والمنافرة التي بين ذوق الصلاة وذوق السماع، لبسطنا هذا الموضع بسطًا شافيًا، ولكن لكل مقام مقال، فلنرجع إلى المقصود. ¬

_ (¬1) جواب الشرط للفعل "ولمَّا كان العبد مفتقرًا. . . .".

مشروعية التأمين ورفع اليدين والتكبير في انتقالات الصلاة

فشرع له التأمين عند هذا الدعاء تفاؤلًا بإجابته وحصوله، وطابعًا عليه وتحقيقًا له، ولهذا اشتدَّ حسد اليهود للمسلمين عليه حين سمعوهم يجهرون به في صلاتهم. ثمَّ شرع لهم رفع اليدين عند الركوع تعظيمًا لأمر الله، وزينةً للصلاة، وعبودية خاصة لليدين كعبودية باقي الجوارح، واتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو حلية الصلاة، وزينتها، وتعظيم لشعائرها. ثمّ شرع له التكبير الذي هو في انتقالات الصلاة من ركن إلى ركن، كالتلبية في انتقالات الحاج من مشعر إلى مشعر، فهو شعار الصلاة، كما أنَّ التلبية شعار الحج، ليعلم العبد أنَّ سرّ الصلاة هو تعظيم الرب تعالى وتكبيره بعبادته وحده. ثمّ شرع له بأن يخضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعًا لعظمته واستكانةً لهيبته وتذللًا لعزته، فثنَى العبد له صلبه، ووضع له قامتَه، ونكَّس له رأسه، وحنى له ظهره، معظمًا له ناطقًا بتسبيحه المقترن بتعظيمه، فاجتمع له خضوع القلب وخضوع الجوارح وخضوع القول، على أتم الأحوال، وجمع له في هذا الذكر بين الخضوع والتعظيم لربه والتنزيه له عن خضوع العبيد، وأن الخضوع وصف العبد، والعظمة وصف الرب. وتمام عبودية الركوع أن يتصاغر العبد ويتضاءل بحيث يمحو تصاغُره كلَّ تعظيم منه لنفسه، ويُثبِت مكانه تعظيمَه لربه، وكلما

الاعتدال والانتصاب

استولى على قلبه تعظيمُ الرب ازداد تصاغره هو عند نفسه، فالركوع للقلب بالذات والقصد، وللجوارح بالتبع والتكملة. ثمّ شرع له أن يحمد ربه ويثني عليه بآلائه عند اعتداله وانتصابه، ورجوعه إلى أحسن هيأته منتصبَ القامة معتدلهَا، فيحمد ربه ويثني عليه بأن وفَّقه لذلك الخضوع، ثمّ نقله منه إلى مقام الاعتدال والاستواء بين يديه، واقفًا في خدمته، كما كان في حال القراءة من ذلك الاعتدال ذوق خاص وحال يحصل للقلب سوى ذوق الركوع وحاله، وهو ركن مقصود لذاته، كركن الركوع والسجود سواء، ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطيله كما يُطيل الركوع والسجود، ويكثر فيه من الثناء والحمد والتمجيد كما ذكرناه في هديه (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، وكان في قيام الليل يُكثِر فيه من قول: "لربيّ الحمد، لربيّ الحمد" (¬2)، يكررها. ثمّ شرع له أن يكبّر ويَخِرَّ ساجدًا، ويُعطي في سجوده كل عضو من أعضائه حظه من العبودية، فيضع ناصيته بالأرض بين يدي ربه مسندةً، راغمًا له أنفه خاضعًا له قلبه، ويضع أشرفَ ما فيه وهو وجهه بالأرض ولاسيما على التراب، مُعفِّرًا له بين يدي سيده، راغمًا له أنفه، خاضغا له قلبه وجوارحه، متذللًا لعظمته، خاضعًا لعزته، مستكينًا بين يديه، أذلَّ شيء وأكسرَه لربه تعالى، مسبِّحًا له بعلوِّه في أعظم سفوله، قد ¬

_ (¬1) أي "زاد المعاد" (1/ 212). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 398) وأبو داود (874) والترمذي في الشمائل (270) والنسائي (2/ 199، 231) وغيرهم عن حذيفة بن اليمان. وهو حديث صحيح.

بناء الصلاة على القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر، وتسميتها بها في القرآن

صارت أعاليه ملويَّة لأسافله ذلًّا وخضوعًا وانكسارًا، وقد طابق قلبه حال جسمه، فسجد القلب كما سجد الوجه، وقد سجد معه أنفه ويداه وركبتاه ورجلاه، وشرع له أن يُقِلَّ فخذيه عن ساقيه، وبطنَه عن فخذيه، وعضديه عن جنبيه، ليأخذ كل جزء منه حظَّه من الخضوع، ولا يحمل بعضه بعضًا، فأحْرِ به في هذه الحال أن يكون أقربَ إلى ربه منه في غيرها من الأحوال، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬1). ولما كان سجود القلب خضوعه التام لربه أمكنه استدامة هذا السجود إلى يوم لقائه (¬2). كما قيل لبعض السلف (¬3): هل يسجد القلب؟ قال: إي والله! سجدة لا يرفع رأسه منها حتى يلقى الله. ولما بنيت الصلاة على خمس: القراءة والقيام والركوع والسجود والذكر، سُمِّيت باسم كل واحد من هذه الخمس، فسميت قيامًا كقوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2]، وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} [البقرة: 238]. وقراءة كقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وركوعًا كقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48]، وسجودًا كقوله: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (482) عن أبي هريرة. (¬2) في الأصل: "لقاء". (¬3) هو سهل بن عبد الله التستري كما في "مجموع الفتاوى" (21/ 287، 27/ 138). وذكره المؤلف في "طريق الهجرتين" (ص 450).

الجلوس بين السجدتين

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 98]، وقوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، وذكرًا كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، وقوله: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]. وأشرف أفعالها السجود، وأشرف أذكارها القراءة، وأول سورة أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بالقراءة وختمت بالسجود، ووضعت الركعة على ذلك، أولها قراءة وآخرها سجود. ثمّ شرع له أن يرفع رأسه ويعتدل جالسًا، ولما كان هذا الاعتدال محفوفًا بسجودين: سجود قبله وسجود بعده، فينتقل من السجود إليه ثمّ منه إلى السجود، كان له شأن. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُطيله بقدر السجود، ويتضرع فيه إلى ربه ويستغفره، ويسأله رحمته وهدايته ورزقه وعافيته (¬1)، وله ذوق خاص وحال للقلب غير ذوق السجود وحاله، فالعبد في هذا القعود قد تمثَّل جاثيًا بين يدي ربه، مُلقيًا نفسه بين يديه، معتذرًا إليه مما جناه، راغبًا إليه أن يغفر له ويرحمه مستعديًا على نفسه الأمَّارة بالسوء. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرر الاستغفار (¬2)، في هذه القعدة، ويكثر رغبته إلى الله فيها. ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (850) والترمذي (284) وابن ماجه (898) عن ابن عباس. وإسناده حسن. وقال الترمذي: حديث غريب. وصححه الحاكم (1/ 262، 271). (¬2) كما في حديث حذيفة الذي سبق تخريجه (ص 104).

السجدة الثانية

فمثِّلْ نفسَك بمنزلة غريمِ عليه حق الله وأنت كفيل به، والغريم مماطلٌ مخادع، وأنت مطلوب بالكفالة، والغريم مطلوب بالحق، فأنت تستعدي عليه حتى تستخرج ما عليه من الحق لتتخلص من المطالبة. والقلب شريك النفس في الخير والشر والثواب والعقاب والحمد والذم، والنفس من شأنها الإباق والخروج من رِقّ العبودية، وتضييع حقوق الله التي قبلها، والقلب شريكها إن قوي سلطانها وأسيرها، وهي شريكه وأسيره إن قوي سلطانه. فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن يجثو بين يدي الله مستعديًا على نفسه، معتذرًا إلى ربه مما كان منها، راغبًا إليه أن يرحمه ويغفر له ويهديه ويرزقه ويعافيه. وهذه الخمس هي جماع خير الدنيا والآخرة، فإنَّ العبد محتاج بل مضطرٌّ إلى تحصيل مصالحه في الدنيا وفي الآخرة، ودفع المضارِّ عنه في الدنيا والآخرة، وقد تضمنها هذا الدعاء، فإنَّ الرزق يَجلِبُ له مصالحَ دنياه، والعافية تدفع مضارَّها، والهداية تَجلِب له مصالحَ أخراه، والمغفرة تدفع عنه مضارَّها، والرحمة تجمع ذلك كله. وشرع له أن يعود ساجدًا كما كان، ولا يكتفي منه بسجدة واحدة في الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد، لفضل السجود وشرفه وموقعه من الله، حتى إنَّه أقرب ما يكون إلى عبده وهو ساجد، وهو أدخل في العبودية وأعرقُ فيها من غيره، ولهذا جُعِل خاتمة الركعة، وما قبله كالمقدمة بين يديه، فمحلُّه من الصلاة محل طواف الزيارة، وما قبله من

تكرير هذه الأفعال والأقوال في الصلاة

التعريف وتوابعه مقدمات بين يديه، وكما أنَّه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فكذلك أقرب ما يكون منه في المناسك وهو طائف. ولهذا قال بعض الصحابة (¬1) لمن كلمه في طوافه بأمر من الدنيا: "أتقول هذا ونحن نتراءى لله في طوافنا؟ ". ولهذا والله أعلم جعل الركوع قبل السجود تدريجًا وانتقالًا من الشيء إلى ما هو أعلى منه. وشرع له تكرير هذه الأفعال والأقوال، إذ هي غذاء القلب والروح التي لا قِوامَ لهما إلَّا بها، فكان تكريرها بمنزلة تكرير الأكل حتى يُشبع، والشرب حتى يُروِي، فلو تناول الجائع لقمة واحدة وأقلع عن (¬2) الطعام، ماذا كانت تُغني عنه؟ ولهذا قال بعض السلف (¬3): "مثل الذي يصلي ولا يطمئن في صلاته كمثل الجائع، إذا قُدِّم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتين، ماذا تُغنِي عنه؟ ". هذا، وفي إعادة كل قول أو فعل من العبودية والقرب، وتنزيل الثانية منزلة الشكر على الأولى، وحصول مزيدٍ منها ومعرفةٍ وإقبالٍ وقوة قلب وانشراح صدر وزوال دَرَنٍ ووسخٍ عن القلب، بمنزلة غسل الثوب مرة بعد مرة، فهذه حكمة الله التي بهرت العقول في خلقه وأمره، ¬

_ (¬1) هو ابن عمر كما في طبقات ابن سعد (4/ 167). (¬2) في الأصل: "عنه". (¬3) ورد نحوه في حديث مرفوع عن أبي عبد الله الأشعري، أخرجه أبو يعلى والطبراني في الكبير، وإسناده حسن. انظر "مجمع الزوائد" (2/ 121).

التحيات في الجلسة الأخيرة

ودلَّت على كمال رحمته ولطفه. فلما قضى صلاته وأكملها ولم يبقَ إلا الانصراف منها، شرع له الجلوس بين يدي ربه، مُثنيًا عليه بأفضل التحيات التي لا تصلح إلا له، ولا تليق بغيره. ولما كان عادة الملوك أن يُحيَّوا بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع والثناء وطلب البقاء ودوام الملك، فمنهم من يُحيَّى بالسجود، ومنهم من يُحيَّى بالثناء عليه، ومنهم من يُحيَّى بطلب البقاء والدوام له، ومنهم من يُجمع له ذلك كله، فكان الملك الحق سبحانه أولى بالتحيات كلها من جميع خلقه، وهي له بالحقيقة، ولهذا فُسِّرت التحيات بالملك، وفسرت بالبقاء والدوام، وحقيقتها ما ذكرته، وهي تحيات الملك، فالملك الحق المبين أولى بها. فكل تحية يُحيَّى بها ملِكٌ من سجود أو ثناء أو بقاء ودوام فهي لله -عز وجل-، ولهذا أتى بها مجموعةً معرَّفةً باللام أداة العموم، وهي جمع تحية، وهي تفعلة من الحياة، وأصلها تَحيِيَة بوزن تكرِمة، ثمّ أُدغِم أحد المثلين في الآخر فصارت تحيَّة، وإذا كان أصلها من الحياة فالمطلوب (¬1) بها لمن يُحيَّا بها دوام الحياة. وكانوا يقولون لملوكهم: لك الحياة الباقية، ولك الحياة الدائمة، وبعضهم يقول: عشرة آلاف سنة، واشتقَّ منها: أدام الله أيامك، وأطال الله بقاءك، ونحو ذلك مما يراد به دوام الحياة والملك، وذلك لا ينبغي ¬

_ (¬1) في الأصل: "والمطلوب".

إلا للحي الذي لا يموت، وللملك الذي كل مُلكٍ زائل غير ملكه. ثمّ عطف عليها "الصلوات" بلفظ الجمع والتعريف، ليشمَل كلَّ ما أطلق عليه لفظ الصلاة خصوصًا وعمومًا، فكلها لله، لا تنبغي إلا له، فالتحيات له ملكًا، والصلوات له عبوديةً واستحقاقًا، فالتحيات لا تكون إلا له، والصلوات لا تنبغي إلا له. ثمّ عطف عليها "الطيبات" كذلك، وهذا يتناول أمرين: الوصف والملك. فأما الوصف فإنَّه سبحانه طيب، وكلامه طيب، وفعله كله طيب، ولا يصدر منه إلا الطيب، ولا يضاف إليه إلا الطيب، ولا يصعد إليه إلا الطيب، فالطيبات له وصفًا وفعلًا وقولًا ونسبةً، وكل طيب مضاف إليه، وكل مضاف إليه طيب، فله الكلمات الطيبات والأفعال الطيبات، وكل مضاف إليه كبيته وعبده وروحه وناقته وجنته فهي طيبات. وأيضًا فمعاني الكلمات الطيّبات لله وحده، فإن الكلمات الطيبات تتضمن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده والثناء عليه بآلائه وأوصافه، فهذه الكلمات الطيبات التي يُثنَى عليه بها ومعانيها له وحده لا يَشرَكُه فيها غيره، كسبحانك اللهمَّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ونحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. فكل طيب فله وعنده ومنه وإليه، وهو طيب لا يقبل إلا طيبًا، وهو إله الطيبين، وجيرانُه في دار كرامته هم الطيبون.

أطيب الكلمات بعد القرآن وشرحها

فتأملْ أطيبَ الكلمات بعد القرآن كيف لا تنبغي إلا لله، وهي: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". فإن "سبحان الله" تتضمن تنزيهه عن كل نقص وعيب وسوء، وعن خصائص المخلوقين وشبههم. و"الحمد لله" تتضمن إثبات كل كمال له قولًا وفعلًا ووصفًا، على أتمِّ الوجوه وأكملها أزلًا وأبدًا. و"لا إله إلا الله" تتضمن انفراده بالإلهية، وأن كل معبود سواه فباطل، وأنه وحده الإله الحق، وأنه من تألَّه غيرَه فهو بمنزلة من اتخذ بيتًا من بيوت العنكبوت يأوي إليه ويسكنه. و"الله أكبر" تتضمن أنه أكبر من كل شيء وأجلُّ وأعظم وأعز وأقوى وأقدر وأعلم وأحكم. فهذه الكلمات الطيبات لا تصلح هي ومعانيها إلا لله وحده. ثم شرع له أن يُسلِّم على عباد الله الذين اصطفى بعد تقدّم الحمد والثناء عليه بما هو أهله، فطابق ذلك قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وكأنه امتثال له. وأيضًا فإن هذا تحية المخلوق، فشُرعت بعد تحية الخالق، وقدّم في هذه التحية أولى الخلق بها، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نالت أمته على يده كلَّ خير، وعلى نفسه بعده، وعلى سائر عباد الله الصالحين، وأخصهم بهذه التحية الأنبياء، ثم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع عمومها لكل عبدٍ لله صالحٍ في الأرض والسماء. ثم شرع له بعد ذكر هذه التحية والتسليم على مَن يستحق التسليم خصوصًا وعمومًا أن يشهد شهادة الحق التي بُنِيت عليها

الصلاة، وهي حق من حقوقها، ولا تنفعه إلا بقرينتها وهي شهادة لرسول الله بالرسالة، وختمت بها الصلاة، كما قال عبد الله بن مسعود: "فإذا قلتَ ذلك فقضيتَ صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد" (¬1). وهذا إمّا أن يُحمل على قضاء الصلاة حقيقةً كما يقوله الكوفيون، أو على مقاربة انقضائها ومشارفته كما يقوله أهل الحجاز وغيرهم، وعلى التقديرين فجُعلت شهادةُ الحق خاتمةَ الصلاة كما شرع أن تكون خاتمة الحياة، فمَن كان آخر كلامه "لا إله إلا الله" دخل الجنة (¬2)، وكذلك شرع للمتوضئ أن يختم وضوءه بالشهادتين (¬3). ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته، وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء، كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصلِّ على رسوله، ثم ليسلْ حاجته" (¬4). فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمدُ الله والثناء عليه، ثمّ ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (970) عن ابن مسعود، والصواب أنه موقوف عليه كما قال المؤلف. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 233، 247) وأبو داود (3116) عن معاذ بن جبل. وإسناده صحيح. (¬3) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (234) عن عقبة بن عامر. (¬4) أخرجه أحمد (6/ 18) وأبو داود (1481) والترمذي (3477) والنسائي (3/ 44) عن فضالة بن عبيد. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

فصل: سر الصلاة وروحها: إقبال العبد على الله بكليته

الصلاة على رسوله، ثم الدعاء آخر الصلاة، وأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمصلي بعد الصلاة عليه أن يتخير من الدعاء أعجبَه إليه (¬1)، ونظير هذا ما شرع لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول (¬2)، وأن يقول: "رضيتُ بالله ربّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولًا (¬3)، وأن يسألَ الله لرسوله الوسيلةَ والفضيلةَ، وأن يبعثَه المقامَ المحمود (¬4)، ثم يصليّ عليه (¬5)، ثم يسألَ حاجته (¬6). فهذه خمسُ سننٍ في إجابة المؤذن، لا ينبغي الغفلةُ عنها. فصل وسرُّ الصلاة وروحُها ولبُّها هو إقبالُ العبد على الله بكلّيته، فكما أنه لا ينبغي له أن يَصرِفَ وجهه عن قبلة الله يمينًا وشمالًا، فكذلك لا ينبغي له أن يَصرِفَ قلبه عن ربه إلى غيره؛ فالكعبة التي هي بيت الله قبلةُ ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (835) ومسلم (402) عن ابن مسعود. (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (611) ومسلم (383) عن أبي سعيد الخدري. (¬3) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (386) عن سعد بن أبي وقاص. (¬4) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (614) عن جابر بن عبد الله. (¬5) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (384) عن عمرو بن العاص. (¬6) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (3/ 119) وأبو داود (521) والترمذي (212) والنسائي في عمل اليوم والليلة (68، 69) عن أنس بن مالك، وفي إسناده زيد العمي وهو ضعيف، ولكن رواه أحمد (3/ 155، 225) من طريق يزيد بن أبي مريم عن أنس، وإسناده صحيح. وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرجه أبو داود (524)، وإسناده حسن.

ثلاث منازل للإقبال في الصلاة

وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى هو قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرض أعرض الله عنه. وللإقبالِ في الصلاة ثلاثُ منازلَ: إقبالٌ على قلبه، فيحفظه من الوساوس والخطراتِ المبطلةِ لثواب صلاته أو المُنقِصَة له، وإقبالٌ على الله بمراقبتِه حتى كأنه يراه، وإقبالٌ على معاني كلامه وتفاصيل عبوديةِ الصلاة ليُعطِيها حقَّها، فباستكمالِ (¬1) هذه المراتب الثلاث تكون إقامةُ الصلاة حقًّا، ويكون إقبالُ الله على عبده بحسب ذلك. فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه فإقباله على قيوميته وعظمته، وإذا كبَّر فإقباله على كبريائه، فإذا سبَّحه وأثنى عليه فإقباله على سُبُحاتِ وجهه، وتنزيهِه عما لا يليق به، والثناءِ عليه بأوصاف جماله، فإذا استعاذ به فإقباله على ركنِه الشديد وانتصارِه لعبده ومَنْعِه له وحفظِه من عدوه، فإذا تلا كلامه فإقباله على معرفته من كلامه، حتى كأنه يراه ويشاهده في كلامه، فهو كما قال بعض السلف: "لقد تجلَّى الله لعباده في كلامه". فهو في هذه الحال مُقبِلٌ على ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه. فإذا ركع فإقباله على عظمته وجلاله وعزِّه، ولهذا شرع له أن يقول: سبحان ربي العظيم. فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على حمده والثناءِ عليه وتمجيدِه وعبوديته له وتفردِه بالعطاء والمنع. فإذا سجدَ ¬

_ (¬1) في الأصل: "فاستكمال".

العبد بين حكم ربه الكوني القدري وحكمه الديني الأمري

فإقبالُه على قربه والدنوِّ منه والخضوع له والتذلُّلِ بين يديه والانكسار والتملُّق. فإذا رفع رأسه وجَثَا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمِه، وشدّة حاجته إليه، وتضرعه بين يديه والانكسار، أن يغفر له ويرحمه ويعافيه ويهديه ويرزقه. فإذا جلس في التشهد فله حال آخر وإقبال آخر، شِبْه حالِ الحاجِّ في طواف الوداع، وقد استشعر قلبُه الانصرافَ من بين يدي ربه، وموافاةَ العلائقِ والشواغلِ التي قطعَها الوقوفُ بين يديه، وقد ذاق تألم قلبه وعذابه بها، وباشرَ رَوْحَ القربِ ونعيمَ الإقبالِ على الله وعاقبَته، وانقطاعَها عنه مدةَ الصلاة، ثم استشعر قلبُه عودَها إليه بخروجه من حِمَى الصلاة، فهو يحملُ همَّ انقضاءِ الصلاة وفراغها، ويقول ليتَها اتصلتْ بيوم اللقاء، ويعلم أنه ينصرف من مناجاةِ مَن كلُّ السعادةِ في مناجاته، إلى مناجاةِ مَن الأذى والهمُّ والغمُّ والنَّكدُ في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا قلبٌ حيٌّ معمور بذكر الله ومحبته والأنسِ به. ولما كان العبد بين أمرين من ربه -عزّ وجل-: أحدهما: حكمٌ عليه في أحواله كلِّها ظاهرًا وباطنًا، واقتضاؤه منه القيامَ بعبوديةِ حكمِه، فإن لكل حكمٍ عبوديةً تخصُّه، أعني الحكم الكوني القدري. والثاني: فعلٌ يفعله العبد عبوديةً لربه، وهو مُوجَبُ حكمِه الديني الأمري. وكلا الأمرين يُوجِبان تسليمَ النفس إليه تعالى، ولهذا اشتُقَّ له اسمُ

ثمرات الصلاة والصوم والزكاة والحج

الإسلام من التسليم، فإنه لما أسلم نفسَه لحكم ربه الديني الأمري، ولحكمه الكوني القدري، بقيامه بعبوديته فيه لا باسترساله معه، استحقَّ اسمَ الإسلام، فقيل له مسلم. ولما اطمأنَّ قلبه بذكره وكلامه ومحبته وعبوديته، سكن إليه وقَرّتْ عينُه به، فنال الأمانَ بإيمانه. = كان (¬1) قيامُه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا له، لا حياةَ له ولا فلاحَ ولا سعادةَ إلا بهما. ولمّا كان ما بُلِيَ به من النفسِ الأمّارة والهوى المقتضِي والطباع المطالِبة والشيطان المُغوِي، يقتضي منه إضاعةَ حظِّه من ذلك أو نقصانَه، اقتضتْ رحمةُ العزيز الرحيم أن شرَعَ له الصلاة مُخلِفَة عليه ما ضاعَ منه، رادّةً عليه ما ذهب، مجدِّدة له ما أخلقَ من إيمانه، وجُعِلتْ صورتهُا على صورة أفعاله خشوعًا وخضوعًا وانقيادًا وتسليمًا، وأَعطَى كلَّ جارحة من الجوارح حظَّها من العبودية، وجعلَ ثمرتهَا وروحَها إقبالَه على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها وجزاءها القربَ منه ونيلَ كرامته في الدنيا والآخرة، وجعلَ منزلتَها ومحلَّها الدخولَ على الله تبارك وتعالى والتزينَ للعرض عليه، تذكيرًا بالعرضِ الأكبر عليه يومَ اللقاء. وكما أن الصوم ثمرته تطهيرُ النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس التي اشتراها سبحانه من العباد وجعلَ الجنة ثمنَها، فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال جميع ما ذُكِرَ من ¬

_ (¬1) هذا جواب: "لما كان العبد بين أمرين من ربه. . . ." قبل أسطر.

شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"

ثمراتِ الأعمال. ولذلك لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: جُعِلت قرةُ عيني في الصوم ولا في الحج والعمرة، وإنما قال: "وجُعِلتْ قرةُ عيني في الصلاة" (¬1). وتأمَّلْ قولَه: "جُعِلتْ قرةُ عيني في الصلاة"، ولم يقل "بالصلاة" إعلامًا بأن عينَه إنما تَقَرُّ بدخوله فيها، كما تَقَرُّ عينُ المحب بملابسته لمحبوبه، وتَقَرُّ عينُ الخائفِ بدخوله في محل أمنِه، فقرةُ العين بالدخول في الشيء أكملُ وأتمُّ من قرة العين به قبل الدخول. ولما جاء إلى راحة القلب من تعبِه ونَصَبِه قال: "يا بلالُ أرِحْنا بالصلاة" (¬2) أي أقِمْها لنستريحَ بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى نُزلِه وقرّ فيه وسكن. وتأمَّلْ كيف قال: أرِحْنا بها، ولم يقل: أرِحْنا منها، كما يقوله المتكلف بها الذي يفعلها تكلفًا وغُرمًا، فهو لما امتلأ قلبه بغيرها وجاءت قاطعةً عن أشغاله ومحبوباته، وعلم أنه لابدّ له منها، فهو قائل بلسان حاله وقالِه: نصليِّ ونستريح من الصلاة، لا بها، فهذا لونٌ وذاك ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 128، 199) وأبو يعلى (3482) والطبراني في "الأوسط" (5199) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 78) من طرق عن سلام أبي المنذر عن ثابت عن أنس، وإسناده حسن. وصححه الحاكم في المستدرك (2/ 160). وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 177): إسناده قوي. وحسَّنه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 133). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 364) وأبو داود (4985) من طريق سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم مرفوعًا، ورجاله ثقات. وفي إسناده اختلاف. انظر علل الدارقطني (4/ 120) وتعليق المحقق على المسند (38/ 179).

الفرق بين صلاة وصلاة باختلاف أحوال المصلين

لون آخر، فالفرق بين مَن كانت الصلاة لحوائجه قيدًا ولقلبه سجنًا ولنفسه عائقًا، وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة، ولحوائجه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة. فالأول الصلاة سجنٌ لنفسه وتقييدٌ لها عن التورط في مساقط الهلكات، وقد ينالون بها التكفير والثواب، وينالهم من الرحمة بحسب عبوديتهم لله فيها، والقسم الآخر الصلاةُ بستان قلوبهم، وقرة عيونهم، ولذة نفوسهم، ورياض جوارحهم، فهم فيها يتقلَّبون في النعيم. فصلاةُ هؤلاء تُوجِب لهم القربَ والمنزلةَ من الله، ويُشاركون الأولين في ثوابهم، ويختصُّون بأعلاه ومزيد (¬1) المنزلة والقربة، وهي قدر زائد على مجرد الثواب، ولهذا يَعِدُ الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب، كما قال السحرة لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 41 - 42]. فالأول عبدٌ قد دخل الدارَ والسترُ حاجبٌ بينه وبين رب الدار، فهو من وراء الستر، فلذلك لم تَقَرَّ عينُه، لأنه (¬2) في حُجُب الشهوات، وغُيوم الهوى، ودخان النفس، وبخار الأماني، فالقلب عليل، والنفس مُكِبَّة على ما تهواه، طالبةٌ لحظِّها العاجل، والآخر قد دخل دارَ الملك، ورُفِع الستر بينه وبينه، فقرَّتْ عينُه واطمأنَّتْ نفسه، وخَشَع قلبُه وجوارحه، وعَبَدَ الله كأنه يراه، وتجلَّى له في كلامه. ¬

_ (¬1) هنا كلمة غير واضحة في الأصل، ورسمها قريب مما أثبتُّه. (¬2) في الأصل: "لأن ما".

ذوق صاحب السماع وذوق صاحب الصلاة واستحالة اجتماعهما

فهذه إشارةٌ ما ونبذة يسيرة جدًّا في ذوق الصلاة. فصل فنُناشِد أهلَ السماع بالله الذي لا إله إلا هو: هل لهم في السماع مثلُ هذا الذوق أو شيء منه (¬1)؟ بل نُناشِدهم بالله هل يَدَعُهم السماع يجدون هذا الذوقَ في الصلاة؟ ونحن نَحلِف عنهم أن ذوقهم ضدُّ هذا الذوق، ومشربهم ضدّ هذا المشرب. ولولا خشية الإطالة لذكرنا نبذة من ذوقهم تدلُّ على ما وراءها، ولا يخفى على من له أدنى حياةِ قلبٍ، الفرقُ بين ذوق الأبيات وذوق الآيات، وبين ذوق القيامِ بين يَدَيْ رب العالمين والقيامِ بين يَدَيِ المغنّي، وبين ذوقِ اللذة والنعيم بمعاني ذكر الله وكلامه وذَوقِ معاني الغناء الذي هو رقية الزنا والتلذذ بمضمونها، فما اجتمع واللهِ الأمرانِ في قلب إلا وطردَ أحدهما صاحبَه، ولا تجتمع بنتُ عدوِّ الله وبنتُ رسولِ الله عند رجلٍ واحدٍ أبدًا (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "منهم". (¬2) سبق تخريج الحديث الذي أشار إليه المؤلف. وفي الأصل بعد هذا: "آخر الجزء الأول من هذه الفتيا، ويتلوه إن شاء الله تعالى في الجزء الثاني فصل في عقد مجلس في المناظرة بين صاحب القرآن وصاحب السماع. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا". وبعده (ق 61 ب -64 ب) "فصل في الصلاة" لشيخ الإسلام ابن تيمية، نشرتُه في "جامع المسائل" (3/ 351 - 360).

عقد مجلس في المناظرة بين صاحب الغناء وصاحب القرآن

عقد مجلس في المناظرة بين صاحب غناء وصاحب قرآن وهو تمام الجواب عن الفتيا الواردة في السماع في سنة أربعين وسبعمائة، وهو الجزء الثاني، وبه تم الجواب، والحمد لله وحده (¬1). ¬

_ (¬1) بعده في الأصل: "وهذا من عمل الناسخ".

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين قال الشيخ الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي إمام الجوزية في تمام الجواب عن الفتيا الواردة في السماع سنة أربعين وسبعمائة، التي (¬1) أجاب فيها العلماء من المذاهب الأربعة رضي الله عنهم أجمعين: فصل في عقد مجلس يتضمن مناظرةً بين صاحب غناءٍ وصاحب قرآن، أدلَى كل واحد منهما بحجته، ورضيا بتحكيم مَن آثر عقلَه ودينَه على هواه، وكان الحق الذي بعث الله به رسوله أحبَّ إليه مما سواه. فجلس مجلسَ الحكم بين الخصمين، ونظر بعين النصيحة لنفسه في كل واحد من المحتجَّين، وعزلَ حميةَ الجاهلية وعصبية الفرقة الباطنية، ووالى (¬2) مَن والاه الله ورسوله وعباده المؤمنون، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الذي". (¬2) في الأصل: "وولى".

قول صاحب الغناء: جاءت البشارة بمن استمع القول واتبع أحسنه، والقول عام

وهذا أول المناظرة: * قال صاحب الغناء (¬1): قد أمر الله رسولَه أن يُبشِّر مَن استمع القول واتّبع أحسنَه، فقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17 - 18]. قال: والألف واللام في القول تقتضي العموم والاستغراق، والدليل عليه أنه مدحهم باتّباع الحسن من القول، وهذا يعمُّ كلَّ قول، فيدخل فيه قول السماع وغيره. * قال صاحب القرآن: قد كان ينبغي لك أن تُوقِّر كلامَ الله وتُجِلَّه أن تُنزِّلَه على أقوال المغنين والمغنيات وإخوانهم من النائحين والنائحات، وأن يُحمَل على رقية الزنا ومُنبِتِ النفاق وداعي الغيّ والهوى، فيكفي في فساد القول أنه لم يقله قبلك أحد من أئمة التفسير على اختلاف طبقاتهم. ويدل على بطلانه وأنه يمتنع أن يُراد بكلام مَن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وجوه عديدة: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بل لا يأذن في استماع كل قول، حتى يقال: اللام للاستغراق والعموم، بل من القول ما يَحرُمُ استماعه، ومنه ما يُكْرَه، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 504).

الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} [الأنعام: 68]. فأمر سبحانه وتعالى بالإعراض عن سماع هذا القول، ونهى عن القعود مع قائليه. وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. فجعل سبحانه المستمعَ لهذا الحديث مثلَ قائله، فكيف سبحانه يمدح مستمعَ كل قولٍ؟ وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1 - 3]. وقال تعالى في وصف عباده: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، أي أكرموا أنفسهم عن استماعه. وروي أن ابن مسعود - رضي الله عنه - سمع صوت لهو فأعرض عنه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن كان ابن مسعود لكريمًا" (¬1). فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أثنى على مَن أعرض عن اللغو ومرّ به كريمًا، فأكرم نفسه عن استماعه، فكيف يجوز أن يقال: إن الألف واللام للاستغراق؟ ويُنسَب إلى الله سبحانه أنه مدح مستمع كل قول؟ وقد قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (17/ 526) وابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2739)، وفي إسناده انقطاع. وانظر "الدر المنثور" (11/ 228).

المراد بالقول في الآية هو القرآن كما في الآيات الأخرى

أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]. فقد أخبر سبحانه أنه يسأل العبدَ عن سمعه وبصره وفؤاده، ونهاه أن يَقفُوَ أي يتبع ما ليس له به علم. وإذا كان السمع والبصر والكلام والفؤاد منقسمًا إلى ما يؤمر به ويُنهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك كله، فكيف يجوز أن يقال: كلُّ قول في العالم فالعبد ممدوح على استماعه؟ ونظير هذا أن يقال: كل مرئي في العالم فالعبد ممدوح على النظر إليه، لقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، وقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]. ولهذا دخل الشيطان عليكم وعلى كثير من النسَّاك من (¬1) هذين المدخلين، إذ توسعتم في النظر إلى الصور المنهيِّ عن النظر إليها، وفي استماع الأقوال والأصوات التي نُهِيتم عن استماعها. ولم يَكتفِ الشيطان بذلك منكم حتى زَيّنَ لكم أن جعلتم ما نهيتم عنه عبادةً وقربةً وطاعة، وهذه هي لطيفة إبليس فيكم التي تقدم ذكرها (¬2). وهي قوله: "لي فيكم لطيفةُ السماع وصحبةُ الأحداث". الوجه الثاني: أن المراد بالقول في هذه الآية التي احتججتم بها القرآن، كما جاء ذلك في قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، ¬

_ (¬1) في الأصل: "في". (¬2) انظر (ص 36)، وهناك التخريج.

الألف واللام هنا لتعريف العهد

وقوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص: 51]. فالقول الذي بشَّر مستمعيه ومتبعي أحسِنه هو القول الذي وصَّلَه وحضَّ (¬1) على تدبره، وكلام الله يُفسِّر بعضُه بعضا، ويُحمَل بعضُه على بعض. الوجه الثالث: أن الألف واللام هنا لتعريف العهد، وهو القول الذي دُعِيَ إليه المخاطب وأُمِرَ بتدبره، وأُخبِر بتوصيله له، وهو كالكتاب والقرآن. والألف واللام فيه كالألف واللام في الكتاب سواء، وكذلك الألف واللام في الرسول في قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)} [الفرقان: 30] وفي قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، فهل يجوز أن يقال: إن اللام في الكتاب والرسول للاستغراق، فتُحمل على كل كتاب وعلى كل رسول؟ الوجه الرابع: أنها وإن كانت للعموم في قوله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 18]، فهي إنما تعمُّ القولَ الذي أنزل الله ومدحَه وأثنى عليه، وأمرَ باتّباعه واستماعه وتدبره وفهمه، فهي تقتضي العمومَ والاستغراق في جميع هذا القول، فإنها تقتضي عمومَ ما عرفته وقصْدَ مصحوبها. الوجه الخامس: أن السياق كله من أول السورة إلى هذه الآية إنما هو في القرآن، قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا ¬

_ (¬1) في الأصل: "وحظ" تحريف.

إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 1 - 3]. فذكر في أول السورة كتابه ودينه والكلم الطيب والعمل الصالح، فخير الكلام كتابه، وخير العمل إخلاص الدين له، ثم أعاد ذكر الأصلين في قوله: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17]، فهذا إخلاص الدين له، ثم قال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، فهذا كتابه. فتضمنت ذكر كتابه ودينه كما تضمنت أولُ السورة، فما لأقوال المغنين والمغنيات ههنا؟ ثم قال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22 - 23]. فأثنى على أهل السماع والوجد للقول والحديث الذي أنزله، ولم يُثْنِ سبحانه على مطلق الحديث ومستمعيه، بل يتضمن السياقُ الثناءَ على أهل ذكره والاستماع لحديثه، كما جمع بينهما في قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، وفي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. وهو سبحانه ذكر وبيَّن في الفرقان الأمثالَ والحجج، لنتذكر به

البدع القولية والسماعية تتضمن الكذب على الله والتكذيب بالحق

ونتعظ ونتدبره ونتفهمه، فأمرنا باستماعه واتّباعه، وحضَّ (¬1) على تدبره، وبشَّر من استمعه واتّبع أحسنَه، وأخبر أنه وصَّلَه ليتذكر به، وأخبر أن مَن لم يتدبره فقلبه من القلوب التي عليها أقفالها، فما لأقوال المغنين والمغنيات وهذا الشأن؟ ثمّ أعاد سبحانه ذكر القرآن في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]، قال البخاري في صحيحه (¬2) عن مجاهد قال: الذي جاء بالصدق: القرآن، وصدَّق به: المؤمنُ، يجيء يوم القيامة يقول: هذا الذي أعطيتَني عملتُ بما فيه. فذكر سبحانه الصادق (¬3) والمصدِّق به مُثنِيًا عليهما (¬4)، ثم ذكر ضدَّهما وهما الكاذب والمكذِّب بالحق، وهما نوعان ملعونان من القول، أعني الكذب والتكذيب بالحق، فكيف يكون مَن استمعهما ممدوحًا مستحقًّا للثناء؟ ولا ريبَ أن البدع القولية والسماعية المخالفة لما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق تتضمن أصلين: الكذب على الله، والتكذيب بالحق، بل الانتصار لما خالف ذلك سواء كان سماعًا أو غيره يتضمن الأصلين الباطلين. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وحظ" تحريف. (¬2) 8/ 547 (مع الفتح). (¬3) في الأصل: "الصدق". (¬4) في الأصل: "عليه".

المراد بالكتاب والقول والحديث الذي أمر الله باستماعه هو القرآن

الوجه السادس: أنه سبحانه قال بعد ذلك: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)} [الزمر: 53 - 55]. فهذا الأحسن الذي أَمَر باتباعه هنا هو الأحسن الذي بشَّر من اتبعه في أول السورة، وهو أحسنُ المنزَّل في الموضعين. ونظير هذا قوله تعالى لموسى في التوراة: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]. فهذا كله إذا تدبره المؤمن الناصح لنفسه، علم علمًا يقينيًّا أنَّ الكتاب والقول والحديث الذي أمر الله باستماعه وتدبره وفهمه واتباع أحسنِه هو كلامه المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وأما مدح الاستماع لكل قول فهذا لا يليق نسبته إلى العقلاء، فضلًا عن رب الأرض والسماء. يُوضِّحه الوجه السابع: وهو أنَّ الله سبحانه في كتابه إنما أثنَى على المستمعين للقرآن، وحَمِد هذا السماعَ، وذمَّ المعرضين عنه، وجعلهم أهلَ الكفر والجهل، الصُّمَّ البكمَ الذين لا يعقلون، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ

ذم استماع القول الذي هو الغناء

آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]. وقال تعالى في حق المنعم عليهم: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107]. وقال في ذم المعرضين عن هذا السماع: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 22 - 23]، وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)} [الفرقان: 73]. وهذا كثير في القرآن، وكتابُ الله يُبيِّن بعضُه بعضًا. الوجه الثامن: أنَّ المعروف في القرآن إنما هو ذم استماع القول الذي هو الغناء، كما قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 - 61]. قال غير واحد من السلف (¬1): هو الغناء، يقال: سَمَدَ لنا أي غنَّى لنا. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (22/ 97) و"ابن كثير" (7/ 3346) و"الدر المنثور" (14/ 60).

فذمّ المعرضين عن سماع القرآن المتعوضين عنه بسماع الغناء، كما هو حال السماعاتية المُؤْثِرين لسماع المكاء والتصدية على سماع القرآن، المتعوضين عنه بسماع الغناء. وهو نظير الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وقال غير واحد من السلف (¬1) في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6]: إنه الغناء. الوجه التاسع (¬2): أنكم معاشرَ السماعاتية المحتجين بهذه الآية لا تَستحسِنون استماعَ كل منظوم ومنثور، بل أنتم من أعظم الناس كراهةً لما لا تحبونه من الأقوال منثورِها ومنظومها، وأشدِّهم نفرةً عن ذلك، ونفورُكم عما لا تحبونه وتهوَونه من الأقوال أعظم من نفور المنازع لكم عن سماع المكاء والتصدية، فهلَّا أدخلتم الأقوال التي تخالف أهواءكم وما تحبونه في القول الذي أثنى الله على من استمعه واتبع أحسنه؟ هذا مع أنَّه قطعًا أحسنُ من أقوال المغنين وأنفعُ للقلب في الدنيا والآخرة، ولكن ذنب هذا القول مخالفته لهواكم وما ابتدعتموه. فإن كان العموم في الآية مرادًا فقد بطلتْ حجتكم، وإن لم يكن مرادًا فقد بطلتْ أيضًا، فتبين بطلان استدلالكم على التقديرين، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (18/ 535 - 540) و"ابن كثير" (6/ 2739) و"الدر المنثور" (11/ 615 - 618). (¬2) في الأصل: "الوجه الثامن".

الأقوال التي ذمها الله في القرآن

الوجه العاشر (¬1): أنَّه سبحانه قال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، فمدحهم باستماع القول واتباع أحسنه، ومن المعلوم أنَّ كثيرًا من القول بل أكثره ليس فيه حُسْنٌ فضلًا عن أن يكون أحسنَ، بل غالب القول يَكُبُّ قائلَهُ في النار على مَنْخَرِه. والأقوال التي ذمَّها الله في كتابه أكثر من أن تُعَدَّ، كالكلام الخبيث، والقول الباطل، والقول عليه بما لا يعلم القائل، والكذب، والافتراء، والغيبة، والتنابز بالألقاب، والتناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتبييت ما لا يرضى من القول، وقول العبد بلسانه ما ليس في قلبه، وقوله ما لا يفعله، وقول اللغو، وقول ما لم يُنزِّل به سلطانًا، والقول المتضمن للشفاعة السيئة، والقول المتضمن للمعاونة على الإثم والعدوان (¬2)، وأمثال ذلك من الأقوال المسخوطة والمبغوضة للرب تعالى، التي كلها قبيحة لا حَسَنَ فيها ولا أحَسَنَ. فادعاء العموم في الآية في غير القول الذي أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة من أبطل الباطل. الوجه الحادي عشر (¬3): أنه سبحانه علَّق الهدايةَ على اتباع أحسن ¬

_ (¬1) في الأصل: "التاسع". (¬2) ذكر شيخ الإسلام في "الاستقامة" (1/ 231، 232) الآيات التي ورد فيها ذكر هذه الصفات، والمؤلف أشار إليها إشارة. (¬3) في الأصل: "العاشر".

قول صاحب الغناء: لو كان الغناء حرافا لم يكن من أفضل نعيم الجنة

هذا القول، فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر: 17 - 18]. ومن المعلوم بالاضطرار أن الهداية إنما حصلتْ لمن اتبع القرآن، فهو الذي هداه الله، فأين الهدى في أقوال المغنين والمغنيات؟ وبالجملة ففساد هذا القول الذي حملتم عليه كتابَ الله وألصقتموه به وهو منه بريء، وحمَّلتموه إياه وليس خليقًا بحمله، معلوم لكل من في قلبه حياة ونور، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]. فصل * قال صاحب السماع (¬1): وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} [الروم: 14 - 15]، جاء في التفسير (¬2) أنه السماع، ولو كان حرامًا لما كان من أفضل نعيم الجنة. * قال صاحب القرآن: لو أمسكتم عن استدلالكم لصحة ما ذهبتم إليه لكان أسترَ له وأروجَ عند من قلَّ نصيبُه من البصيرة والعلم، ولكن يأبى الله إلا أن يَكشِفه ويَهتِكَه على ألسنتكم. ولا ريبَ أنه قال بعض السلف: إن الحبرة ههنا هي السماع ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 504). (¬2) انظر "تفسير الطبري" (18/ 472، 473) و"الدر المنثور" (11/ 588 - 591).

الحسن في الجنة، وإن الحور العين يُغنِّين بأصواتٍ لم يَسمَعْ خلائقُ بأحسنَ منها، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نَبْأسَ، ونحن الراضيات فلا نَسْخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له. وذكر أبو نعيم في "صفة الجنة" (¬1) من حديث سعيد بن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير عن زيد بن (¬2) أسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أزواجَ أهل الجنة ليغنِّين أزواجَهن بأحسن أصواتٍ سمعها أحدٌ قطُّ، وإن مما يُغنِّينَ: نحن الخيراتُ الحسانُ، نحن أزواجُ قومٍ كرام، ينظرون بقرةِ أعيان. وإن مما يُغنين: نحن الخالداتُ فلا يَمُتْنَهْ، نحن الآمناتُ فلا يَخَفْنَهْ، نحن المقيماتُ فلا يَظْعَنَّهْ (¬3) ". تفرد به سعيد بن أبي مريم. وروى (¬4) من طريق الوليد بن أبي ثور حدثني سعد الطائي عن ¬

_ (¬1) رقم (322، 430). وأخرجه أيضًا الطبراني في "الصغير" (2/ 35) و"الأوسط" (3917). وهو حديث غريب كما ذكره المؤلف، تفرد به سعيد بن أبي مريم. وفي إسناده انقطاع. (¬2) في الأصل: "زيد عن ابن". و"عن" زائدة. (¬3) في الأصل: "فلا يضعنه" تحريف. (¬4) أبو نعيم في "صفة الجنة" رقم (378، 431). وأخرجه أيضًا أبو الشيخ في "العظمة" رقم (603). والوليد بن أبي ثور ضعيف جدًّا، منكر الحديث. والحديث معروف من قول عبد الرحمن بن سابط، أخرجه ابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" رقم (279) وأبو الشيخ في "العظمة" (589) والبيهقي في "البعث والنشور" رقم (413). قال البيهقي: هذا هو الصحيح من قول ابن سابط.

عبد الرحمن بن سابط عن (¬1) ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديثًا فيه: "إنه يجتمع الحور العين في كل سبعة أيام، فيقلن بأصوات حسانٍ لم يَسمع الخلائقُ بمثلها: نحن الخالداتُ فلا نَبيدُ، ونحن الناعماتُ فلا نبأسُ، ونحن الراضياتُ فلا نَسخطُ، ونحن المقيماتُ فلا نَظعَنُ، طوبى لمن كان لنا وكنا له". ورَوى (¬2) من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب عن ابنٍ لأنسٍ عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الحور العين يغنين في الجنة: نحن الحسان، خُلِقنا لأزواج كرام". ومن طريق زيد بن واقد عن رجل عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة شجرةً جُذوعها من ذهبٍ وفروعها من زبرجد ولؤلؤ، فتهبُّ لها ريحٌ فتَصْطَفِقُ، فما سمع السامعون بصوت شيء ألذَّ منه" (¬3). ومن طريق خالد بن معدان عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) "عن" ساقطة من الأصل. (¬2) أي أبو نعيم في "صفة الجنة" رقم (432). وأخرجه أيضا البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 16) وابن أبي داود في "البعث" (75) والطبراني في "الأوسط" (6497) والبيهقي في "البعث" (420) من طرق عن ابن أبي فديك به. وإسناده ضعيف. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنة" (433). وفي إسناده مسلمة بن علي الخشني متروك الحديث. والراوي عن أبي هريرة مبهم.

"ما من عبدٍ يدخل الجنةَ إلا ويجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتانِ من الحور العين، تُغِّنيانه بأحسنِ صوتٍ سمعه الإنس والجن، وليس بمزامير الشيطان" (¬1). وروى الترمذي (¬2): حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة مجتمعا للحور العين يرفعن أصواتًا لم يسمع الخلائق مثلها"، قال: "يقلن: نحن الخالداتُ فلا نَبيد، ونحن الناعمات فلا نَبْأسُ، ونحن الراضياتُ فلا نسخَط، طوبى لمن كان لنا وكنا له". وقال: حديث غريب. وروى الطبراني (¬3) من حديث سليمان بن أبي كريمة -وفيه كلام- عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله! نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: "بل نساء ¬

_ (¬1) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنة" (434) والبيهقي في "البعث والنشور" رقم (421) والطبراني في "الكبير" (7478). والحديث ضعيف جدًّا، في إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك، وهو متروك. (¬2) رقم (2564، 2550). وأخرجه أيضًا عبد الله بن أحمد في "زوائده على المسند" (1/ 156). وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة ضعيف، والنعمان بن سعد فيه جهالة. (¬3) في "المعجم الكبير" (23/ 257)، وأخرجه أيضًا العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 138). والحديث منكر لا يثبت، علته سليمان بن أبي كريمة الشامي، ضعفه أبو حاتم، وقال العقيلي: يحدث بمناكير. ثم ذكر منها هذا الحديث.

لا يلزم من كون الشيء نعيما في الآخرة أن يكون مباحا في الدنيا

الدنيا أفضل من الحور العين، كفضل الظِّهارة على البِطانة"، قلت: يا رسول الله! وبمَ ذلك؟ قال: "بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله، ألبسَ الله وجوهَهن النورَ، وأجسادَهن الحريرَ، بِيضُ الألوان، خُضْر الثياب، صُفْر الحلي، مَجامِرُهن الدُّرّ، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالداتُ فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نَبْأَس أبدًا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنا له وكان لنا. الحديث. فيقال لكم: هل يلزم من كون الشيء يُنعِم الله به عبادَه في الآخرة أن يكون مباحًا لهم في الدنيا؟ فإن قلتم: لا يلزم ذلك، بطل استدلالكم. وإن قلتم: يلزم، قيل لكم: فالله سبحانه يُنعِمهم في الآخرة بلباس الحرير وأساورة الذهب، فجوِّزوا لهم لباسَ ذلك في الدنيا وخَالِفوا دينَه وأمره. وأيضًا فإن الله -عز وجل- يُنعِمهم في الجنة بالخمر، فجوِّزوا لهم شُربَها في الدنيا على طرد قولكم. وأيضًا فإنهم في الجنة يأكلون ويشربون في صِحاف الذهب والفضة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "هي لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة" (¬1). وطردُ قولكم أنها كما هي للمسلمين في الآخرة، تكون مباحةً لهم في الدنيا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمرَ في الدنيا لم يشربها في الآخرة" (¬2). و"من لبسَ الحريرَ في الدنيا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5426، 5632) ومسلم (2067) عن حذيفة. (¬2) أخرجه مسلم (2003/ 78) عن ابن عمر.

معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة"

لم يلبسه في الآخرة" (¬1)، وقال في صِحاف الذهب والفضة: "هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" (¬2). فأخبر أنه من استعمل هذه الأمور في الدنيا من المطعوم والملبوس وغيرهما لم يستعملها في الآخرة، فإما أن يستعملها أهل الجنة وُيحْرَمها هو وإن دخلها، كما روى ابن أبي حاتم (¬3): حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا حسن يعني ابن علي بن حسن البراد عن حميد الخراط عن محمد بن كعب قال: "من شربها في الدنيا لم يشربها في الآخرة". قال: قلت: فإنه تاب حتى أدخله الله الجنة، والله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] قال: يُنسِيهم الله ذكرَها. أو أن (¬4) ذلك وعيدٌ له بأنه لا يدخل الجنة، فإن هذه الأمور يستعملها أهل الجنة، فمن لم تحصل له في الآخرة لم يكن من أهل الجنة. وهما تأويلان للسلف في هذه الأحاديث. فلو قيل: إن هذا السماع اللذيذ الموعود به في الجنة إنما هو لمن نزَّه سمْعَه في الدنيا عن سماع الغناء والملاهي، اعتبارًا بنظيره من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5834) عن عمر، ومسلم (2073) عن أنس، و (2074) عن أبي أمامة. (¬2) سبق تخريجه تقريبًا. (¬3) لم أجد النص في "تفسيره" المطبوع. (¬4) السياق: "فإما أن يستعملها أهل الجنة. . . أو أن ذلك وعيد".

اللباس وشرب الخمر واستعمال آنية الذهب والفضة، لكان هذا أشبهَ بالصواب، وأصحَّ من استدلالكم على إباحته في الدنيا باستعمال أهل الجنة له. وقد جاء الأثر بما قلنا صريحًا، وهو ما روى أبو بكر بن أبي الدنيا (¬1): حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر قال: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين كانوا يُنزِّهون أنفسهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أسكِنوهم في رياض المسك. ثم يقول للملائكة أَسمِعوهم حمدي وثنائي، وأَعلِموهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وقد تقدم نقله عن مجاهد من كلام ابن بطة (¬2). وأيضًا فإنه قد جاء في الحديث: أن الرجل من أهل الجنة يُزوَّج باثنتين وسبعين زوجة، ذكره أبو نعيم في كتاب صفة الجنة (¬3) من [حديث] (¬4) خالد بن معدان عن أبي أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من عبدٍ يدخل الجنة إلا ويُزوَّج ثنتين وسبعين زوجةً، ثنتان من الحور ¬

_ (¬1) في "ذم الملاهي" (72)، وسبق تخريجه. (¬2) انظر (ص 34). (¬3) برقم (370). وأخرجه أيضًا ابن ماجه (4337). وإسناده ضعيف جدًّا، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك، اتهمه بعضهم بالكذب، وساق له ابن عدي والذهبي هذا الحديث من مناكيره. وضعفه المؤلف في "حادي الأرواح" (ص 501). (¬4) زيادة ليستقيم السياق.

العين [وسبعين] (¬1) من أهل ميراثه من أهل الدنيا، ليس منهن امرأة إلا لها قُبُلٌ شَهِيٌّ، وله ذَكَرٌ لا يَنثني". وذكر (¬2) من حديث الحجاج عن قتادة عن أنس يرفعه: "للمؤمن في [الجنة] ثلاثون (¬3) زوجة"، فقلنا: يا رسول الله! أوَله قوةُ ذلك؟ قال: " [إنه] لَيُعطَى قوةَ مائةٍ". وفي حديث آخر: "إن الرجل منهم ليصل في اليوم إلى مائة عذراءَ" (¬4). وهذه الآثار لا تناقُضَ بينها، فإن تفاضلهم في العدد على حسب تفاضلهم في مقدار الثواب، فعلى قياس قول المحتجِّين على حِلّ السماع في الدنيا بأنه يكون لأهل الجنة، ينبغي أن يُحِلُّوا للرجل في الدنيا أن يتزوج بهذا العدد. ¬

_ (¬1) ما بين المعكوفين زيادة من مصادر التخريج. (¬2) أبو نعيم في "صفة الجنة" رقم (372)، وفيه: "ثلاث وسبعون زوجة". وأخرجه إبراهيم بن طهمان في مشيخته رقم (58) بلفظ: "ثلاثون زوجة" كما هنا. قال المؤلف في "حادي الأرواح" (ص 502): أحمد بن حفص هذا هو السعدي، له مناكير. والحجاج هو ابن أرطاة. (¬3) في الأصل: "ثلاثين"، وسقط ما بين المعكوفين. (¬4) أخرجه أبو نعيم في "صفة الجنة" (373) عن أبي هريرة. وهو معلول، والصواب أنه من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف، وضعَّفه الخطيب في "الموضح" (2/ 95) والهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 416).

قول صاحب الغناء: سماع الأشعار بالألحان الطيبة مثل سماعها بغير الألحان

فصل * قال صاحب الغناء (¬1): سماع الأشعار بالألحان الطيبة، والأنغام المستلذة إذا لم يعتقد المستمع محظورًا، ولم يسمع على مذموم في الشرع، ولم ينجرَّ في زمامِ هواه، ولم ينخرطْ في سِلكه لهو، (¬2) مباح في الجملة. ولا خلاف أن الأشعار أُنشِدَتْ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه سمعها ولم ينكر عليهم في إنشادها، فإذا جاز سماعها بغير الألحان الطيبة، فلا يتغير الحكم بأن تُسمَع بالألحان، هذا ظاهر من الأمر. ثم ما يُوجِبُ للمستمع توفُّرَ الرغبة في الطاعات، وتذكُّرَ ما أعد الله لعباده المتقين من الدرجات، ويَحمِله على التحرُّز من الزلَّات، ويؤدي إلى قلبه في الحال صفاءَ الواردات، مستحبٌّ في الدين ومختارٌ في الشرع. وقد جرى على لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما هو قريب من الشعر وإن لم يقصد أن يكون شعرًا. ففي الصحيحين (¬3) من حديث أنس بن مالك قال: "كانت الأنصار يحفرون الخندق، فجعلوا يقولون: نحن الذين بايعوا محمدَا ... على الجهاد ما بَقِينا أبدَا ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 504). (¬2) في الأصل: "هو". (¬3) "البخاري" (2961)، و"مسلم" (1805).

السماع بالشروط المعتبرة يوجب للمستمع الرغبة في الطاعات، فهو مستحب

فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخره ... فأَكْرِمِ الأنصارَ والمهاجره * قال صاحب الغناء: ليس هذا اللفظ منه - صلى الله عليه وسلم - على وزن الشعر، ولكنه قريب من الشعر. * قال صاحب القرآن: عجبًا لكم معاشرَ السماعاتية! لم تَقْنَعُوا باعتقاد إباحة ما لم يأذن به الله ورسوله من الغناء وآلات اللهو، بل مَنَعَ منه وحذَّر منه، حتى جعلتموه طاعةً وقربة! وظننتم أن حزب الله وجنده يَغفُلون عن ردِّ قولكم، وتبيين بطلانه، وكسْرِ شُبَهِكم الباطلة، ونصْرِ الله ورسوله! فنقول (¬1) لكم: كلامكم هذا قد تضمن شيئين: أحدهما: إباحة سماع الألحان والنغمات المستلذة بشرط أن لا يعتقد المستمع محظورًا، ولم يسمع على مذموم في الشرع، ولم يتبع فيه هواه. والثاني: أن ما أوجب للمستمع الرغبةَ في الطاعات والاحترازَ من الذنوب، وتذكّرَ وعدِ الحق، ووصولَ الأحوال الحسنة إلى قلبه، فهو مستحب. فعلى هاتين المقدمتين بنى من قال باستحبابه، وربما أوجبه بعضكم أحيانًا بناء على هاتين المقدمتين، إذْ أراد أنه لا يؤدَّى الواجب ¬

_ (¬1) في الأصل: "فيقول".

قول أهل السماع: "إنه طاعة وقربة" لم يذهب إليه أحد من السلف

إلا به، وعليهما بنى من فضَّله على سماع القرآن من عدة وجوه، لأنهم رأوا أنَّ ما يحصل به أنفعُ مما يحصل بالقرآن. وهاتان المقدمتان كلاهما (¬1) غلط، مشتمل على كلام مجمل، من جنس استدلالهم بما ظنوه من العموم في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، وبما وعد الله في الآخرة من السماع الحسن. ووُلدَ بين هاتين المقدمتين اللتين لُبِّسَ فيهما الحقُّ بالباطل أولادُ سفاحٍ لا نكاحٍ، وتولد منهما قول لم يذهب إليه أحد من السلف الصالح البتة، وهو أن هذا السماع طاعة وقربة تُقرِّب إلى الله، فإنه وإن نقل عن بعض أهل المدينة وغيرهم أنه يُرخِّص في الغناء واستماعه، فلم يقل: إنه طاعة وقربة ومستحب في الشرع، بل كان فاعله يراه مكروهًا وتركه أفضل، أو يراه من الذنوب التي يُتاب منها، أو يراه مباحًا كالتوسع في لذات المطاعم والمشارب والملابس والمساكن، فأما رجاء الثواب بفعله والتقرب إلى الله به، فهذا لا يُحفظ عن أحدٍ من سلف الأمة وأئمتها. بل المحفوظ عنهم أنهم قالوا: إنما يفعل هذا الفسّاقُ كما قاله مالك، وأن ذلك من إحداث الزنادقة كما قاله الشافعي، وأنه من المحرمات كما قاله أبو حنيفة، وأنه من الباطل والبدع كما قاله الإمام أحمد. بل حُفظ عنهم أنه يُنبِت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. صح ذلك عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وقال الشافعي: الغناء ¬

_ (¬1) كذا بالتذكير في كلام المؤلف وشيخه كثيرًا، فلم نغيره.

مخالفة أهل السماع لإجماع المسلمين

لهو مكروه شبيهٌ بالباطل، من استكثر منه فهو سفيه تُردُّ شهادته (¬1). ولو كان قربةً وطاعة لكان المستكثر منه من خيار الأمة، وقد حكم غير واحد من أهل العلم على أن مدعي ذلك مخالف لإجماع المسلمين. قال القاضي أبو الطيب الطبري (¬2) وغيره: وهذه الطائفة مخالفة لجماعة المسلمين لأنهم جعلوا الغناء دينًا وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة. وليس في الأمة من رأى هذا الرأي. فعبد الله بن مسعود لكمال علمه وفقهه في الدين، ومعرفته بأحوال القلوب ومفسدات الأعمال، أخبر أن الغناء مادة النفاق، يُنبِته في القلب ويُنمِّيه كما يفعل الماء في البقل (¬3)، وكذلك قوله: "الغناء رقية الزنا" (¬4). والشافعي لوفور علمه ومعرفته ومحله الذي أحلَّه الله به من الدين علم أن هذا مما يَصُدُّ القلوب عن القرآن ويُعوِّضها به كما هو الواقع، فعلم أن هذا إنما قصده زنديق منافق، يقصد اقتطاعَ القلوب عن الإيمان وصدَّها عن القرآن، ليستعد لقبول ما يلقيه فيها الشيطان من البدع والشبهات والشهوات. ¬

_ (¬1) سبق تخريج هذه الآثار والأقوال. (¬2) انظر رسالته "الرد على من يحب السماع" (ص 32). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) روي ذلك عن الفضيل بن عياض، أخرجه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (57)، والبيهقي في "الشعب" (5108). وانظر "الدر المنثور" (11/ 620).

قول ابن الراوندي وابن سينا في السماع وأنه مما يزكي النفوس ويهذبها

قال إمام الزنادقة ابن الراوندي: اختلف الفقهاء في السماع، فقال بعضهم: هو مباح، وقال بعضهم: هو محرم، وعندي أنه واجب. ذكره أبو عبد الرحمن السلمي عنه في "مسألة السماع" (¬1) واعتضد به. وكذلك شيخ الملاحدة وإمامهم ابن سينا في الإشارات (¬2) أمر بسماع الألحان وعشق الصور، وجعل ذلك مما يُزكِّي النفوس ويهُذِّبها ويُصفّيها، وقبله معهم معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي إمام أهل الألحان. فرضي الله عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وجزاه عن نصيحته للإسلام خيرًا، فكل هذا مما يشهد لقوله: إن غناء التغبير من إحداث الزنادقة. فصل إذا عُرِف هذا فنحن نذكر ما في هاتين المقدمتين اللتين لُبِّسَ فيهما الحق بالباطل، واستولد من سفاحهما هذا الولد الذي هو شر الثلاثة، أن هذا السماع طاعة وقربة. أما احتجاجكم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ما أُنشِد بين يديه من الشعر ولم ينكره، وأنه قال ما يُشبِه الشعر. ¬

_ (¬1) كما ذكره شيخ الإسلام في "الاستقامة" (1/ 239) و"مجموع الفتاوى" (11/ 570) ورسالة السلمي توجد مخطوطة في مكتبة كوبريللي برقم (1631) (الورقة 131 أ- 138 ب). (¬2) (4/ 820 - 827).

ذكر بعض الأحاديث الواردة في ذلك

فنقول في الشعر ما قاله الأئمة (¬1): "إنه كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح". وقد ثبت في الصحيح (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن من الشعر حكمة". وكانَ يَنصِب لحسان منبرًا ينشد عليه الشعر الذي يهجو به المشركين، وقال: "اللهم أيِّدْه بروح القدس" (¬3). وقال: "إن روح القدس معك ما دُمتَ تُنافِحُ عن نبيه" (¬4). وقال عن عبد الله بن رواحة: "إن أخًا لكم لا يقول الرفَثَ" (¬5). وعبد الله بن رواحة هو القائل (¬6): وفينا رسولُ الله يتلو كتابَه ... كما انشقَّ معروفٌ من الفجر ساطعُ أرانا الهدى بعدَ العمى فقلوبنا ... به مُوقِناتٌ أنَّ ما قال واقعُ يَبيِتُ يُجافِي جنبَه عن فِراشه ... إذا استثقَلتْ بالكافرين المضاجعُ ¬

_ (¬1) قاله الشافعي كما في "مناقب الشافعي" (2/ 60). وروي مرفوعًا من حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (125)، ومن حديث عائشة، أخرجه أبو يعلى كما في "مجمع الزوائد" (8/ 122). ورواه البخاري في "الأدب المفرد" (125) موقوفًا على عائشة. وصححه الألباني في "الصحيحة" (447) بمجموع الطرق. (¬2) أخرجه البخاري (6145) عن أبي بن كعب. (¬3) أخرجه البخاري (6152) ومسلم (2485) عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه مسلم (2490) عن عائشة. (¬5) أخرجه البخاري (6151) عن أبي هريرة. (¬6) الأبيات في المصدر السابق.

وقد استنشد النبي - صلى الله عليه وسلم - الشَّرِيدَ بن سُويد مائةَ قافيةٍ من شعر أميةَ بن أبي الصَّلْتِ، وهو يقول: "هِيْهِ هِيْهِ" (¬1). وسمع قصيدة كعب بن زهير (¬2). وأنشدته عائشة شعر أبي كبير الهذلي وقالت: أنت أحقُّ به، فاستنشدها إياه فأنشدته: وإذا نظرتَ إلى أَسِرَّةِ وجهِهِ ... بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المتهلِّلِ فقال: "جزاكِ الله خيرًا يا عائشة" (¬3). وقد أنشده غير واحد، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير، والعباس بن مرداس السلمي، والنابغة الجعدي. وأنشده عمه العباس قصيدة مدحه بها، فقال له: "يا عمِّ لا يَفْضُضِ اللهُ فاك" (¬4). وأنشدته أخت النضر بن الحارث قصيدة ترثي بها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (2255) عن الشريد. (¬2) قصته معروفة مذكورة في "سيرة ابن هشام" (2/ 502 وما بعدها)، و"البداية والنهاية" (7/ 125 وما بعدها) وغيرهما. والقصيدة في "ديوانه" (ص 6 - 25). (¬3) أخرجه البيهقي (7/ 452) والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (13/ 252، 253)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/ 307 - 310). وانظر "البداية والنهاية" (8/ 400، 401). والبيت من قصيدة أبي كبير الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" (3/ 1069)، و"ديوان الحماسة" (1/ 74). وفي الأصل: "أبو كثير" تصحيف. (¬4) أخرجه الطبراني في "الكبير" (4/ 252)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 327)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 267) عن خريم بن أوس. وانظر "البداية والنهاية" (3/ 369، 7/ 201).

أخاها، فرقَّ لها وقال: "لو سمعتُها قبلَ ذلك لم أقتله" (¬1). وأنشده العلاء بن الحضرمي أبياتًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من الشعر حكمة" (¬2). وقال لكعب بن مالك: "ما نسيَ ربك بيتَ شعرٍ قلتَه". قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: أنشِدْه إياه يا أبا بكر، فأنشده: زعمتْ سَخِينةُ أن ستَغلِبُ ربَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلَّابِ (¬3) ومرَّ بجَوارٍ من الأنصار وهنَّ يضربن بالدفِّ ويقلن: نحن جوارٍ من بني النجَّارِ ... يا حبَّذا محمدٌ من جارِ فقال: "اللهم بارِكْ فيهن" (¬4). ولما قدم من تبوك خرج الولائد والصبيان يتلقَّونه (¬5)، وجعلوا ينشدون: طلعَ البدرُ علينا ... من ثَنِيَّاتِ الوَداعْ وجبَ الشكرُ علينا ... ما دعا لله داعْ (¬6) ¬

_ (¬1) انظر "سيرة ابن هشام" (2/ 42، 43)، و"الاستيعاب" (4/ 1904، 1905)، و"البداية والنهاية" (5/ 189، 190)، و"الإصابة" (14/ 131 - 133). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر "معجم الصحابة" لابن قانع (3/ 75)، و"طبقات فحول الشعراء" (1/ 222). (¬4) أخرجه ابن ماجه (1899) عن أنس بن مالك. قال البوصيري في "الزوائد": إسناده صحيح ورجاله ثقات. (¬5) في الأصل: "يتلقينه". (¬6) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 266) عن ابن عائشة. وإسناده منقطع.

تمثل الصحابة بالشعر وإنشادهم له وتراجزهم به في الحرب

وأنشده - صلى الله عليه وسلم - أنس بن زُنَيم الدِّيلي يوم فتح مكة قصيدة يمدحه بها، فعفا عنه بعد أن أهدر دمه، يقول فيها: تعلَّمْ رسولَ الله أنك مُدركي ... وأن وعيدًا منكَ كالأخذِ باليدِ (¬1) وأنشده فروة بن نوفل بن عمرو (¬2) لما قدم عليه: بان الشبابُ فلم أحفِلْ به بَدَلَا ... وأقبلَ الشيبُ والإسلام إقبالا فالحمد لله إذ لم يأتِني أجلي ... حتى تسربلتُ للإسلامِ سِربالا وتمثَّل الصديق - رضي الله عنه - بالشعر، وتمثَّلتْ به الصديقة ابنته، وعمر بن الخطاب، وعثمان وعلي وبلال وأبو الدرداء وعمرو بن العاص. وقيل لأبي الدرداء: ما لك لا تشعر؟ فإنه ليس رجل له بيت في الأنصار إلا وقد قال شعرًا، قال: وأنا قلتُ، ثم أنشد: يريد المرءُ أن يُعطَى مُناهُ ... ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضلُ ما استفادا (¬3) وقال أبو هريرة: لما وفدتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت في الطريق: ¬

_ (¬1) انظر "المغازي" للواقدي (2/ 788، 791)، و"طبقات ابن سعد" (4/ 293)، والإصابة (1/ 244). (¬2) انظر "الإصابة" (8/ 589)، وفيه: قال أبو حاتم: ليست له صحبة، وإنما الصحبة لأبيه نوفل. (¬3) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 225).

يا ليلةً من طولها وعنائها ... على أنها من دارة الكفر نَجَّتِ (¬1) وكانت امرأة سوداء من الصحابة، وكانت مقيمة في المسجد، كلما تحدثت قالت: وبومُ الوِشاح من تعاجيبِ ربنا ... ألا إنه من بلدة الكفر نجَّاني (¬2) ولما نُعِيَ لمعاوية عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة أنشد: إذا سار مَن خلفَ امرئٍ وأمامَه ... وأُفرِدَ من جيرانِه فهو سائرُ (¬3) وأنشد خُبيب عند موته تلك الأبيات المعروفة التي يقول فيها: ولستُ أبالي حين أُقْتَلُ مسلمًا ... على أيِّ جنبٍ كان في الله مَصْرعي وذلك في ذات الإله وإن يَشَأْ ... يُبارِكْ على أوصالِ شلْوٍ ممزَّعِ (¬4) وأنشد أبو بكر عند قدومه المدينة: كل امرئ مصبّحٌ في رَحْلِهِ ... والموت أدنى من شراك نعلِهِ (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2531). (¬2) أخرجه البخاري (3835) عن عائشة. (¬3) الخبر والشعر في "التعازي والمراثي" (ص 52) و"الكامل" للمبرد (ص 1387)، و"التذكرة الحمدونية" (4/ 249). (¬4) أخرجه البخاري (3989) عن أبي هريرة. (¬5) أخرجه البخاري (3926) عن عائشة.

وجه ذم الشعر ومدحه

وأنشد بلال كذلك وهو محموم: ألا ليتَ شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحَوْلي إذخِرٌ وجَليلُ وهل أرِدَنْ يومًا مِياهَ مجنَّةٍ ... وهل تبدُوَنْ لي شامةٌ وطَفِيْلُ (¬1) وكان الصحابة يتناشدون الأشعار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتبسَّم (¬2). وأنشد حسان فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمرَّ به عمر بن الخطاب فجعل يَلحَظُه، فقال: لقد أنشدتُ فيه وفيه من هو خير منك، يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسكت عمر (¬3). وهذا باب أوسع من أن نستقصيه. وقد كان الصحابة يرتجزون في الحرب، وكان يُحدَى بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشعر في الحل والحرم، وكانوا ينشدون الشعر وهم محرمون. وقد أخبر الله سبحانه أن من الشعراء من يؤمن بالله ويعمل صالحًا ويذكر الله كثيرًا، وهؤلاء ثُنْيَةُ الله من الشعراء، فلم يذمَّ هؤلاء، بل مدحهم على انتصارهم من بعدما ظُلِموا. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يَمتلئ جوفُ أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه خيرٌ له من أن يمتلئ شعرًا" (¬4). فذمَّ الجوف الممتلئ بالشعر الذي اشتغل به صاحبه عما فيه سعادته من العلم والإيمان والقرآن، وذكر الله كثيرًا، فإن الجوف إذا امتلأ بذلك لم يمتلئ من الشعر. ولهذا قال الشافعي -رحمه الله-: الشعر كلام، ¬

_ (¬1) هو ضمن الحديث السابق. (¬2) أخرجه الترمذي (2850) عن جابر بن سمرة، وقال: حديث حسن صحيح. (¬3) أخرجه البخاري (3212) ومسلم (2485) عن أبي هريرة. (¬4) أخرجه البخاري (6155) ومسلم (2257) عن أبي هريرة.

فصل: الرد على احتجاجهم بأن سماع الشعر بالألحان مثل سماعه بغيرها

فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه (¬1). وقال في التغبير: إنه من إحداث الزنادقة يَصُدُّون به الناس عن القرآن. فبيَّن -رحمه الله- أن إباحة أحدهما لا يستلزم إباحة الآخر. فصل إذا عُرِف هذا فقولك أيها السماعي: إذا جاز سماع الشعر بغير الألحان جاز سماعه بالألحان الطيبة، إذ لا يتغير الحكم بسماعه بالألحان = فحجة فاسدة جدًّا من وجوه، وهي لأن تكون حجة عليك أقرب من كونها حجة لك، فإن نفس سماع الألحان مجردًا عن كلام يحتاج إلى إثبات إباحته منفردًا، وهل هذا المورد الذي ينازعك فيه صاحب القرآن؟ ومن المعلوم أن أكثر المسلمين على خلاف قولك فيه، كما تقدم حكايته عن الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم. الوجه الثاني: أنه لو كان كل واحد من الشعر والتلحين مباحًا بمفرده لم يلزم من ذلك إباحتهما عند اجتماعهما، فإن التركيب له خاصَّةٌ يتغير الحكم بها. وهذه الحجة بمنزلة حجة من قال: إن خبر الواحد إذا لم يُفِدِ العلم عند انفراده لم يُفِده مع انضمامه إلى غيره، وهي نظير ما يُحكى عن إياس بن معاوية أن رجلًا قال له: ما تقول في الماء؟ قال: حلال، قال: فالتمر؟ قال: حلال، قال: فالنبيذ ماء وتمر، فكيف تُحرِّمه؟ فقال له إياس: أرأيتَ لو ضربتُك بكفّ من تراب أكنتُ أقتلك؟ قال: لا. قال: فإن ضربتك بكفّ من تِبْنٍ أكنتُ أقتلك؟ قال: لا، [قال]: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

عدم جواز قراءة القرآن بالحان الغناء وآلات اللهو مع ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تحسين الصوت بالقرآن وتزيينه به

فإن ضربتك بماء أكنت أقتلك؟ قال: لا، قال: فإن أخذت الماء والتبن والتراب، فجعلته طينًا وتركته حتى يَجِفّ، وضربتك به أكنتُ أقتلك؟ قال: نعم. قال: كذلك النبيذ (¬1). ومعنى كلامه أن المؤثر هو القوة الحاصلة بالتركيب، وكذلك المفسد للعقل هو القوة المسكرة الحاصلة بالتركيب. وما نحن فيه، الذي يُسكِر النفوس ويُلهِيها ويَصُدُّها عن ذكر الله وعن الصلاة، قوةٌ تحصل بالتركيب والهيئة الاجتماعية، وليست الأصوات المجتمعة في استفزازها للنفوس بمنزلة صوت واحدٍ، وكذلك ليس الصوت الملحن الذي يُوقَع به الغناء على توقيع معين وضرب معين لاسيما مع مساعدة آلات اللهو له، بمنزلة إنشاد الشعر إذا تجرد عن ذلك، وهل تَرُوجُ مثل هذه الشبهة إلا على ضعيف العلم والمعرفة ناقصِ الحظّ منهما جدًّا؟ الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن وتزيينه به، واستمعه هو وأصحابه، فقال: "زِّينوا القرآنَ بأصواتكم" (¬2)، وقال: "ما أَذِنَ الله لشيء كأَذَنِه لنبيٍّ حَسنِ الصوت يتغنى بالقرآن" (¬3). وقال لأبي ¬

_ (¬1) الخبر في "أخبار القضاة" لوكيع (1/ 349). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 283) والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 49) وأَبو داود (1468) والنسائي (2/ 179) والحاكم في "المستدرك" (1/ 572) عن البراء بن عازب، وإسناده صحيح، وعلَّقه البخاري في "صحيحه" في كتاب "التوحيد"، فقال: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم". (¬3) أخرجه البخاري (7544)، ومسلم (792) عن أبي هريرة.

إجماع الأمة على تحريم ذلك

موسى: "لقد مررتُ بك البارحةَ وأنت تقرأ، فجعلتُ أستمع لقراءتك"، فقال: "لو علمتُ أنك تسمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا" (¬1). وقال: "للهُ أشدُّ أذَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" (¬2). ومع هذا فلا يسوغ أن يقرأ القرآن بألحان الغناء، ويُقْرن به من الألحان وآلات اللهو ما يُقْرن بالغناء، حتى ولا عند من يقول بإباحة ذلك في الشعر، بل المسلمون مجمعون على تحريمه، وطردُ دليلِك جواز ذلك، بل هو بعينه يقتضيه. فإنك (¬3) قلت: إذا جاز سماع الأشعار بغير الألحان الطيبة فلا يتغير الحكم بأن يسمع بالألحان، هذا ظاهر من الأمر، هذا نص دليلك، فهل يُمكِنك طردُه، وتقول: إذا جاز سماع القرآن بغير الألحان الطيبة جاز سماعه بها، إذ لا يتغير الحكم؟ فإن قلت ذلك خالفتَ إجماع الأمة، وبطلتَ، وإن قلت: لا يلزم من جواز استماعه بدون الألحان الطيبة جوازُ اقترانه واستماعه بها، أبطلتَ دليلك. فقد تبين ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (3/ 466) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (9/ 359، 360) عن أبي موسى. قال الهيثمي: رجاله على شرط الصحيح غير خالد بن نافع الأشعري، ووثقه ابن حبان، وضعفه جماعة. وأخرجه البيهقي في السنن (10/ 230، 231) من طريق آخر، وإسناده حسن. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 19) وابن ماجه (1340) والحاكم في "المستدرك" (1/ 570، 571) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 230) عن فضالة بن عبيد، وإسناده ضعيف، فإن إسماعيل بن عبيد لم يدرك فضالة بن عبيد، فهو منقطع. (¬3) في الأصل: "فإن".

الفصل الثاني: تعاطيها على وجه اللهو والمجون وعلى وجه القربة والطاعة كما يدعيه أهل السماع

بطلانه على التقديرين. فصل وأما المقدمة الثانية وهي قولك: إن ما أوجبَ للمستمع توفُّرَ الرغبة على الطاعات وتذكُّرَ ما أعدَّ الله لعباده المتقين من الدرجات، ويَحمِله على التحرُّز من الزلات، ويؤدي إلى قلبه من صفاء الواردات، فهو مستحب في الدين ومختار في الشرع. فنقول في تحقيق هذه المقدمة: إن الله سبحانه يحبُّ الرغبةَ فيما أمر به، والحذرَ مما نهى عنه، ويحب أهل الإيمان بوعده ووعيده، ويحب القائمين بمحابِّه من خشيته ورجائه (¬1) والإنابة إليه والتوكل عليه، وسائر ما يحبه ويرضاه من عبده ظاهرًا وباطنًا، ويحب السماع الذي يُحصِّل محبوبَه، فإن الوسائل إلى المحبوب محبوبة، والوسائل إلى المسخوط مسخوطة. فهذه المقدمة التي ذكرتَها أيها السماعاتي مبناها على أصلين: أحدهما: معرفة ما يحبه الله سبحانه. والثاني: أن سماع الغناء يُحصِّل محبوبَ الله خالصًا أو راجحًا، فإنه إذا حصَّلَ محبوبَه ومكروهَه، والمكروه أغلب، كان مذمومًا وإن كان محصِّلًا لمحبوبٍ ما. وإن تكافأ المحبوب والمكروه فيه لم يكن محبوبًا ولا مكروهًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "وارجائه".

معرفة ما يحبه الله ويرضاه، لا سبيل إليها إلا بميزان الوحي

فأما الأصل الأول -وهو معرفة ما يحبه الله ويرضاه ويمدح فاعلَه ويُثني عليه- فهو المحَكُّ والفرقان، وإليه التحاكم في هذه المسألة وغيرها، وهو الفرق بين من اتخذ إلهه هواه وبين من عبدَ الله بما يحبه ويرضاه، فإن رضيتَ بالتحاكم إلى هذا (¬1) الأصل، ولم تجد في نفسك حرجًا مما يحكم به وتسلِّم له تسليمًا، حصل الوفاق وزال الخلاف والشقاق. وهذا الأصل له ميزانٌ يُوزن به، ومحكٌّ يُحَكُّ عليه، وكثير من الناس بل أكثرهم غَلِطَ فيه، فظن في كثير مما يحبه هو وطائفته وشيخه ومن يُحسِن ظنه به أو ما يجده موافقًا لذوقه ووجده وحاله أنه مما يحبه الله ورسوله، ويُقرِّب إلى الله، وتُنال به كرامته في الدنيا ويوم لقائه. ولا إله إلا الله! كم زلَّت في هذا الموضع أقدام، وضلَّت فيه أفهام، ونُسِبَ إلى محبة الرب تعالى أسخطُ شيء إليه وأكرهُه عنده، ولزم من ذلك أن نُسِبَ إلى كراهته أحبُّ شيء إليه وأرضى له، ولا سبيل إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا بوزنه بميزان الوحي، ونقدِه على محكِّ الأمر، وعرضِه على حاكم الشرع، وتلقِّيه من مشكاة النبوة، ثم اعتباره بدار الضَّرْب، فإن كان نقشُ سِكَّتِه "كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬2)، فهو المحبوب المرضيُّ لله، الذي يقبله من عبده ويكرمه عليه، ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذه". (¬2) سبق تخريجه.

هل السماع يحصل محبوب الله ومراضيه؟

وإن كان عليه ضرب السكك المحدثة الصادرة عن (¬1) الآراء والأفكار والرسوم والأوضاع، فهو الزَّيْف المردود. فإذا وقع التحاكم إلى هذا الأصل تقرَّبَ كل واحد من المتنازعين من صاحبه، وإلا رفيقُك قَيسيٌّ وأنتَ يَمانِي (¬2) فصل وأما الأصل الثاني: وهو أن سماع الغناء الذي فيه النزاع يُحصِّل محبوبَ الرب تعالى ومراضِيه، فالشأن كل الشأن في ذلك، فههنا اقتطع الشّيطان من اقتطع، واستزلَّ من استزلَّ، واستخفَّ من استخفَّ، و {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]. فيجب أن يُعرف أن المرجع في القُرَب والطاعات والديانات بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما يسخطه ويكرهه، إلى الله ورسوله لا إلى رأي ولا قياس ولا ذوق ولا وجد ولا استحسان ولا تقليد ولا منام ولا كشف، ولا حدثني قلبي عن ربي، ولا خُوطِبتُ وقيل لي، ولا رأيتُ فلانا يفعل وهو ممن اعتُقِد فيه الخيرُ، أو كان فلان يفعل وهو ممن ¬

_ (¬1) في الأصل: "على". (¬2) صدره: كأن رقاب الناس قالت لسيفه والبيت للمتنبي في ديوانه (4/ 374).

المرجع في القرب والطاعات إلى الله ورسوله

يُحسَن به الظنُّ ونحو ذلك، فليس لأحد أن يبتدع دينًا لم يأذن به الله، ويقول: هذا يحبه الله، لأنه يوصل إلى محبوب الله، بل بهذه (¬1) الطريق بُدِّلَ دينُ الله وشرائعه، وابتُدِعَ الشرك وكل ما لم ينزل به سلطانًا، وكل ما في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة ومشايخ الطريق من الحضّ على اتباع ما أنزل إلينا من ربنا ونَهْيٍ عن ضدِّه، فهو لأجل هذا، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، وهو الخالص لله الموافق لأمره، كما قاله الفضيل بن عياض وغيره (¬2). والأعمال أربعة: فواحد منها مقبول، وثلاثة أرباعها مردودة، فالمقبول ما وافق الأمر وأريد به وجهُ الله، ولا يقبل الله عملًا سواه، والمردود أن لا يكون خالصًا لله ولا موافقًا لأمره، أو ينتفي عنه أحدهما. فالمقبول ما وُجِد فيه الأمران، والمردود ما انتفى عنه الأمران أو أحدهما، ولهذا اشتدت وَصاة الشيوخ المستقيمين بهذا الأصل، وأخبروا أن من عدل عنه فهو مطرود وعن طريق قصده مصدود. فقال ابن أبي الحواري (¬3): من عمل عملًا بلا اتباع سنة فباطل عمله. وقال سهل بن عبد الله التُّستَري (¬4): كل فعل يفعله العبد بغير ¬

_ (¬1) في الأصل: "هذه". (¬2) انظر "حلية الأولياء" (8/ 95). (¬3) في الأصل: "ابن الجوزي"، وهو تحريف. وقوله هذا في "الرسالة القشيرية" (ص 68). (¬4) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 60).

اقتداء فهو عيش النفس، وكل فعل يفعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس. وقال أَبو حفص النيسابوري (¬1): من لم يَزِنْ أفعاله وأقواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يُعدّ في ديوان الرجال. وقال الجنيد بن محمد (¬2): الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثرَ الرسول. وقال أيضًا (¬3): من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيَّد بالكتاب والسنة. وقال أَبو عثمان النيسابوري (¬4): من أمَّر السنةَ على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالبدعة، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوُه تَهْتَدُوا} [النور: 54]. وقال أَبو حمزة البغدادي (¬5): من علم الطريق إلى الله سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله. وقال أَبو عمرو بن نُجَيد (¬6): كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإنَّ ¬

_ (¬1) انظر الرسالة القشيرية (ص 69). (¬2) انظر المصدر نفسه (ص 79). (¬3) المصدر السابق (ص 79). (¬4) المصدر نفسه (ص 82). (¬5) المصدر نفسه (ص 107). (¬6) المصدر نفسه (ص 138).

السماع المحدث من أعظم المحركات للهوى

ضرره أكثر على صاحبه من نفعه. وقال (¬1): التصوف الصبر تحت الأمر والنهي. وقال أَبو يعقوب النهرجُوري (¬2): أفضل الأحوال ما قارن العلم. وهذا كثير في كلام المشايخ، وإنما وَصَّوا بذلك لما يعلمونه من حال كثير من السالكين أنه يجري مع ذوقه ووجده وما يراه ويهواه، غير متبعٍ لسبيل الله التي بعث بها رسوله، وهذا هو اتباع الهوى بغير هدًى من الله. ولا ريب أنَّ السماع المحدَث من أعظم المحركات للهوى، ولهذا سمى بعض الأئمة المصنفين كتابه في إبطاله وذمه بـ"الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح" (¬3). ولهذا يأمر المشايخ المستقيمون منهم باتباع العلم، ويَعْنُون به الشريعة، كقول أبي يزيد البسطامي (¬4): عملتُ في المجاهدة ثلاثين سنة، فما وجدت شيئًا أشدَّ عليَّ من العلم ومتابعته. وقال أَبو الحسين النوري (¬5): من رأيتَه يدعي مع الله حالةً تُخرِجه ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 138). (¬2) المصدر نفسه (ص 124). (¬3) لعبد المغيث بن زهير الحربي (ت 583)، كما ذكره وأشار إلى بعض مباحثه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (1/ 357، 358). أفادني بذلك أخي المحقق عبد الرحمن قائد. (¬4) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 57). (¬5) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 83).

عن حد العلم الشرعي فلا تقربنَّ منه. وقال أَبو عثمان النيسابوري (¬1): الصحبة مع الله بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة، والصحبة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة، والصحبة مع الأهل بحسن الخلق، والصحبة مع الإخوان بدوام البِشْرِ ما لم يكن إثمًا، والصحبة مع الجهال بالدعاء لهم والرحمة والشفقة عليهم. وذلك لأنه لما كان أصل الطريق هو الإرادة والقصد والعمل، وذلك يتضمن الحب، فكثيرًا ما يعمل السالك بمقتضى ما يجده في قلبه من المحبة، وما يدركه بذوقه من طعم العبادة، وهذا إذا لم يكن موافقًا لأمر الله ورسوله فصاحبه في ضلال، وهو ممن اتبع هواه. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، فجعل كلما خالف الأمر فصاحبه متبعٌ هواه، فما ثَمَّ واسطةٌ، بل إما الأمر وإما الهوى. وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه (ص 82).

بدعة السماع تتضمن الغلو في الدين واتباع الهوى والعشو عن ذكر الله

واعلم أنَّ بدعة السماع تتضمن الغلوَّ في الدين واتباعَ الهوى والعَشْوَ عن ذكر الله، فإنهم حسبوا أنَّ هذه البدعة دين وقُربةٌ تُقرِّبهم إلى الله، وهذا من أقبح الغلو، وهو يوجب الانحراف عن الصراط المستقيم، واتباعُ الهوى يوجب الضلالَ عن سبيل الله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. والعَشْو عن ذكر الله يوجب مقارنة الشيطان له. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وذكر الله هنا هو كتابه، ومن العشو عنه: التعوُّضُ عنه بسماع الشيطان المحدث. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19]. فالشريعة التي جعله ربه عليها تتضمن ما أمره به ورضيه له، وكل عمل وحب وذوق ووجد وحال لا تشهد له هذه الشريعة التي جعله عليها فباطل وضلال، وهو من أهواء الذين لا يعلمون، فليس لأحد أن يتبع ما يحبه فيأمر به ويتخذه دينًا، وينهى عما يُبغِضه ويذمّه إلا بهُدًى من الله، وهو شريعته التي جعل عليها رسوله، وأمره والمؤمنين باتباعها. ولهذا كان السلف يسمون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، فيذمُّونهم بذلك

ذكر أقوال السلف في ذلك

ويحذّرون عنهم، ولو ظهر عنهم ما ظهر من العلم والعبادة والزهد والفقر والأحوال والخوارق. قال يونس بن عبد الأعلى (¬1): قلت للشافعي: تدري ما قال صاحبنا؟ يريد الليث بن سعد، كان يقول: لو رأيته -يريد صاحب البدعة- يمشي على الماء، لا تَثِقْ به ولا تعبَأْ به ولا تكلِّمْه، قال: قصَّر واللهِ. يريد أنَّ حاله أقبحُ من ذلك. وقال أَبو العالية (¬2): تعلَّموا الإسلام والسنةَ، فإذا تعلّمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فلا ترغبوا عنه يمينًا وشمالًا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تُلقِي بين الناس العداوةَ والبغضاء. قال عاصم: فحدثتُ به الحسن، فقال: صدق ونصح، قال: فحدثتُ به حفصة بنت سيرين فقالت: يا أبا علي! أنتَ حدَّثتَ محمدًا بهذا؟ قلت: لا، قالت: فحدِّثْه إذًا. وقال أُبيُّ بن كعب (¬3) - رضي الله عنه -: عليكم بالسبيل والسنة، فإنَّه ما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكرَ الله ففاضتْ عيناه من خشية الله، فيعذِّبه، وما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه ¬

_ (¬1) انظر "آداب الشافعي ومناقبه" (ص 184) و"مناقب الشافعي" للبيهقي (1/ 453). (¬2) أخرجه الآجري في "الشريعة" (1/ 300) واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/ 56) وأَبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 218) وغيرهم. (¬3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (2/ 21 - 22) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (1/ 54) وأَبو نعيم في "الحلية" (1/ 252 - 253).

كثير من الأفعال قد يكون مباحا أو مكروها أو محرما، فيستحسنه بعض الناس ويفعلونه على أنه قربة وطاعة، ويجعلونه شعار الصالحين، ويكون ذلك خطأ وضلالا وبدعة، بعض الأمثلة على ذلك

فاقشعرَّ جلدُه من خشية الله إلا كانَ مثلُه كمثلِ شجرة قد يَبِسَ ورقُها، فهي كذلك إذ أصابتْها ريحٌ شديدة فتَحاتَّ عنها وَرقُها، إلا حُطَّ عنه خطاياه، كما تحَاتَّ عن تلك الشجرة ورقُها، وإنَّ اقتصادًا في سبيلٍ وسنة خيرٌ من اجتهادٍ في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادًا أو اقتصادًا، أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم. وقال عبد الله بن مسعود (¬1): الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة. وقيل لأبي بكر بن عياش (¬2): يا أبا بكر! من السُّنِّيّ؟ قال: الذي إذا ذُكِرت الأهواء لم يغضب لشيء منها. وهذا أصل عظيم من أصول سبيل الله، والطريق الموصل إليه، يجب الاعتناء به، فإنَّ كثيرًا من الأفعال قد يكون مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا، إما بالاتفاق، أو فيه نزاع بين العلماء، فيستحسنه طائفة من الناس ويفعلونه على أنَّه قربة وطاعة ودين يتقربون به إلى الله، حتى يعدُّون من يفعل ذلك أفضل ممن لا يفعله، وربما جعلوا ذلك من لوازم طريقهم إلى الله، أو جعلوه (¬3) شعارَ الصالحين وأولياء الله، ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي في "سننه" (223) وابن نصر المروزي في "السنة" (ص 25) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (1/ 55) والحاكم في "المستدرك" (1/ 103). (¬2) أخرجه الآجري في "الشريعة" (2058). وفيها: "لم يتعصَّب". (¬3) في الأصل: "جعلوا".

فصل: بطلان قول أهل السماع: إن السماع يحصل محبوب الله، وما حصل محبوب الله فهو محبوب له

ويكون ذلك خطأ وضلالًا، ودينًا مبتدعًا لم يأذن به الله. مثال ذلك: حلق الرأس في غير الحج والعمرة من غير عذر، واختلف الناس في إباحته وكراهته على قولين، وهما روايتان عن أحمد، ولا خلاف بينهم أنه لا يُشرَع ولا يُستحَبّ، ولا هو قربة إلى الله، ومع هذا فقد اتخذه طوائف من النساك والفقراء دينًا، حتى جعلوه شعارًا وعلامة على الدين والنسك والخير، وجعلوه من تمام التوبة، حتى إنَّ من لم يفعل ذلك يكون منقوصًا خارجًا عن الطريق المفضلة المحمودة عندهم، ومن فعل ذلك دخل في هَدْيهم وطريقهم. وهذا خروج عن طريق الله وسبيله باتفاق المسلمين، واتخاذ ذلك دينًا وشعارًا لأهل الدين من أسباب تبديل الدين، فكما أنَّه لا حرامَ إلا ما حرَّمه الله، ولا واجبَ إلا ما أوجبه، فلا دين [إلَّا] ما شرعه، ولا مستحبَّ إلا ما أحبه. فصل الوجه الثاني: أنَّ قولهم: إنَّ هذا السماع يحصِّل محبوبَ الله، وما حصَّلَ محبوبَ الله فهو محبوب له = قول باطل، وهو منشأ الضلال في هذه المسألة، وأكثر المنحرفين في هذه المسألة حصل لهم الضلال والغيُّ من هذه الجهة، فظنوا أنَّ السماع يُثير محبة الله، ومحبة الله هي أصل الإيمان الذي هو عمل القلب، وبكمالها يكون كمال الإيمان. وأَبو طالب المكي جعلها نهاية المقامات (¬1)، وأَبو إسماعيل الأنصاري ¬

_ (¬1) انظر "قوت القلوب" (2/ 50).

السماع عند الصوفية من توابع المحبة ووسائلها

يقول (¬1): هي المقام الذي تلتقي فيه مقدمة العامة وساقة الخاصة. وهؤلاء جعلوا السماع من توابع المحبة ووسائلها. ومنشأ الغلط أن ما يُثيره هذا السماع المبتدع ونحوه من الحب وحركة القلب ليس هو الذي يحبه الله ورسوله، بل اشتماله على ما لا يحبه الله بل على ما يُبغضه أكئرُ من اشتماله على ما يحبه الله، وصَدُّه عما يحبه الله ويرضاه أعظمُ من تحريكه لمحابِّه ومراضيه، ونهيُه عما يُقرِّب منه أكثرُ من أمره به. ولا ريبَ أنَّه يُثير حبًّا وحركة، لكن منشأ الغلط ظنُّ أنَّ ذلك مما يحبه الله، وإنما ذلك من اتباع الظن {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. فصل ومما يوضح ذلك ويبينه: أنَّ الله سبحانه بيَّن في كتابه محبتَه، وذكر مُوجباتِها وعلاماتها، وهذا السماع يوجد مضادًّا لذلك منافيًا له، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]. ¬

_ (¬1) انظر "منازل السائرين" (ص 71).

ثلاثة أصول لأهل المحبة

فهذه ثلاثة أصول لأهل محبة الله تضمنتها هذه الآيات الثلاث: فالآية الأولى تضمنت متابعةَ الحبيب في أقواله وأفعاله وهَدْيه وسيرته. والآية الثانية تضمنت إفرادَ الرب تعالى بالمحبة وإخلاص الدين له، وأنْ لا يُحَبَّ معه سواه، وكل محبوب فإنما تَسُوغ محبته تبعًا لمحبة الله، فيحبه لله وفي الله، لا مع الله، فمحبة المشركين مع الله، ومحبة المخلصين لله وفي الله. والآية الثالثة تضمنت الجهادَ في سبيل الله لإعلاء كلماته وإعزاز دينه، وترك الالتفات إلى اللُّوَّام. فهذه الأصول الثلاثة هي الفرقان بين الناس، وبها يُوزَن أهل الانحراف وأهل الصراط المستقيم، فمَن أحبّ شيئًا غير الله كما يحب الله فهو ممن اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحب الله. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]، فلا يُنجِي العبدَ إلا أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه من كل شيء، فطاعة الله ورسوله آثرُ عنده من كل شيء، والله تعالى لم يَرضَ من عباده أن يكون حبُّهم له ولرسوله كحب الأهل والمال، بل أن يكون الله ورسوله والجهاد في سبيله، أحبَّ إليهم من أهليهم

صفات أهل المحبة في القرآن

وأموالهم ومساكنهم وتجاراتهم وعشائرهم. والمقصود أن للمحبين ثلاثة أصول، بها تتحقق محبتهم: الإخلاص وإفراد محبوبهم تبارك وتعالى بالمحبة. والثاني: الجهاد في سبيله، وهو الذي يُصدِّق إيمانهم ويكذِّبها، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات: 15]. وبذلك وصف أهل المحبة في قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، فوصفهم بست صفات: أحدها: محبتهم له. والثانية: محبته لهم. والثالثة: ذلُّهم ولينُهم على أوليائه. والرابعة: عِزّهم وشدّتهم على أعدائه. والخامسة: جهادهم في سبيله. والسادسة: احتمالهم لومَ الخلق لهم على ذلك، وأنهم ليسوا ممن يصدُّه الكلامُ والعَذْلُ عن الجهاد في سبيل الله، وأنهم ليسوا بمنزلة مَن يحتمل الملام والعذل في محبة ما لا يحبه الله، ولا بمنزلة مَن أظهر من مكروهات الرب تبارك وتعالى ما يُلامون عليه، ويُسمّون بالملامتية

إظهارًا منهم لما يُلامون عليه في الظاهر، وهم مُنطَوون في الباطن على الصدق والإخلاص، سترًا لحالهم عن الناس، فهم فعلوا ذلك لعدم احتمالهم الملامَ، والأولون احتملوا الملام فيما لا يحبه الله، وأحبَّاء الله فعلوا ما أحبَّه الله، ولم تأخذهم فيه لومة لائم. فالأقسام ثلاثة: أحدها: مَن يصدُّه اللوم عن مَحابِّ الله. والثاني: مَن (¬1) لا تأخذه في محبة الله لومة لائم. والثالث: من يُظهِر ما يُلام عليه إخفاءً لقيامه بمحابِّ الله. فالأول مفرِّط، والثالث مؤمن ضعيف، والوسط هو الوسط الخيار، وهو المؤمن القوي، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف (¬2). وأعلى ما يحبه الله ورسوله الجهاد في سبيل الله، واللائمون عليه كثير، إذ أكثرُ النفوس تكرهه، واللائمون عليه ثلاثة أقسام: منافق، ومخذِّل مفتِّر للهمة، ومُرجِف مُضعِف للقوة والقدرة. فصل وأمَّا متابعة الحبيب (¬3) في أقواله وأفعاله، فقال تعالى: {قُلْ إِنْ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ما". (¬2) الحديث بهذا اللفظ أخرجه مسلم (2664) عن أبي هريرة. (¬3) هذا هو الأصل الثالث.

أهل السماع مقصرون في الأصول الثلاثة، ففيهم من الشرك الخفي والجلي ما ينا في كمال الإخلاص، ومن البدعة ما ينافي كمال المتابعة، ومن الرهبانية ما ينافي كمال الجهاد

كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. قالت طائفة من السلف: ادعى قوم على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية (¬1) وهي آية المحبة، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. فجعل حب العبد لربه موجبًا مقتضيًا لاتباع رسوله، وجعل اتباع رسوله موجئا مقتضيًا لمحبة الربّ عبده. فإذا عرفتَ هذه الأصول فعامة السماعاتية مقصِّرون فيها، وهم في ذلك التقصير بحسب كثرة تعوُّضهم بالسماع عن القرآن وقلَّته، حتى آل أمره ببعضهم إلى الانسلاخ من الإسلام بالكلية. وأمّا مَن فيه منهم محبة الله ورسوله فهم مقصِّرون في الأصول الثلاثة: وهي الجهاد في سبيل الله، ومتابعة رسوله، وإخلاص الدين له، ففيهم من الشرك الخفي والجلي ما ينافي كمال الإخلاص، وفيهم من البدعة ما ينافي كمال المتابعة، وفيهم من الرهبانية ما ينافي كمال الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كثير منهم يَعُدُّ ذلك نقصًا في الطريق، وهم أبعد الناس عن الجهاد، حتى يوجد في كثير من العامة مَن هو أكثر جهادًا وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر منهم، ومَن هو أشدُّ غضبًا وغيرةً لمحارم الله وموالاة لأوليائه ومعاداةً لأعدائه منهم. وأمَّا الإخلاص، فهذا السماع وتوابعه يقدح في كماله، فإنه في ¬

_ (¬1) انظر "تفسير ابن كثير" (2/ 699) و"الدر المنثور" (3/ 508 - 509).

مخالفتهم للشريعة وتصريح بعضهم بسقوط الفرائض واستحلال المحرمات

الأصل سماع المشركين أهل المكاء والتصدية، ويتبع ذلك من اتخاذهم الشيوخَ الأحياء والأموات آلهةً من دون الله ما يُضاهُون به النصارى، وكثير منهم يُعطِي المخلوقَ حقَّ الخالق: من الحلف به، والنذر له، والتوكل عليه، والسجود له، وحَلْقِ الرأس له، والتوبة له، وخوفه ورجائه من دون الله، ولهذا يكون كثير من سماعهم الذي يُحرِّك وَجْدَهم ومحبتهم إنما يحرِّك وجدهم ومحبتهم لغير الله، فلا العمل صالح (¬1) ولا القصد خالص، فلا إخلاصَ ولا اتباعَ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. وأمَّا الشريعة وما أمر الله به ونهى عنه، وأحلَّه وحرَّمه، ففي كثير منهم من المخالفة لذلك بل من الاستخفاف بمَن يتمسك به ما فيهم، حتى يُسقِط من قلوبهم تعظيمَ كثير من فرائض الله ومحارمه، فيضيِّع فرائضَه، ويَستحلُّ محارمَه، ويتعدَّى حدوده، إمَّا اعتقادًا وإمَّا عملًا. وكثير من خيارهم الذين يُعظِّمون الأمر والنهي يقعون في فروع ما وقع فيه أولئك، إمّا جهلًا وإمَّا تفريطًا وإمّا تأويلًا. ومن القوم مَن يُصرِّح بسقوط الفرائض، وَيستحِلُّ المحرمات، ويقول: الأوراد لأهل الغفلة، وأمَّا أصحاب حضرة السماع فهم مستغنون بوارداتهم عن أوراد العباد! كما أنشد بعضهم: يُطالَب بالأورادِ مَن كان غافلًا ... فكيف بقلبٍ كلُّ أوقاتِه وِرْدُ (¬2) ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصالح". (¬2) البيت بلا نسبة في "مدارج السالكين" (1/ 86، 244، 3/ 113، 316).

الرد على من قال: إن السماع قد يكون أنفع للقلب من قراءة القرآن من ستة أو سبعة أوجه

وبعض هؤلاء سمع إقامة الصلاة وهو في السماع، فقال: كنا في الحضرة فصِرْنا على الباب. فقال له صاحب القرآن: صدقتَ والله! كُنْتَ في حضرة الشيطان فدُعِيْتَ إلى باب الرحمن. فليتدبر اللبيب الناصح لنفسه ما الذي جرَّه السماعُ على هذه الطائفة، حتى يقول قائلُهم (¬1): إنه قد يكون أنفعَ للقلب من قراءةِ القرآن من ستة أوجه أو سبعة! فيا أهلًا وسهلًا بسماع الفساق وأهل الشهوات بالنسبة إلى سماع هؤلاء المقربين أرباب الحضرة! فإن أولئك لا يقعون في شيء من هذه العظائم، وهم يعترفون بأنهم مذنبون مخطئون، وفي قلب مؤمنيهم من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهةِ ما يكرهه أضعافُ ما في قلوب كثير من هؤلاء، لأن محبة السماع أضعفتْ من قلوبهم محبةَ ما يحبه الله وكراهةَ ما يكرهه، ولهذا ليس للقرآن والصلاة والعلم في قلوبهم من المحبة والحلاوة والطيب ما في قلوب أهل كمال الإيمان، بل قد يكرهون بعضَ ذلك ويستثقلون. ولهم نصيب من حال الذين إذا ذُكِّروا باَيات ربهم خَرُّوا عليها صُمًّا وعميانًا، ونصيبٌ من حال الذين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كُسالى، وهم يجدون في نفوسهم استثقال سماع القرآن وقراءته، لمَّا اعتاضوا عنه بضدِّه وندِّه، وإن ارتاحوا إلى سماعه فللقدر المشترك الذي يكون بينه وبين سماعهم من الأصوات المطربة والألحان، ولهذا يرتاحون لذلك الشعر الكفري والفسقي والزنائي. ¬

_ (¬1) هو الغزالي، انظر "إحياء علوم الدين" (2/ 298).

السماع من أكبر الأسباب المضادة لأصول أولياء الله المتقين الثلاثة

والمقصود أن هذا السماع الشيطاني من أكبر الأسباب المضادّة لأصول أولياء الله المقربين الثلاثة: الإخلاص، والمتابعة، والجهاد. فصل ومما ابتُلي به هؤلاء ما وجدوه في كثير ممن ينتسب إلى الشريعة وإلى الجهاد من ضَعْفِ حقائق الإيمان في قلوبهم، وسوء نياتهم ومقاصدهم، وبُعدِهم عن الإخلاصِ ومراعاةِ صلاح قلوبهم وتزكيةِ نفوسهم وتطهيرِ سرائرهم، وأنهم لا يقصدون بالجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، كما وجدوه في كثير ممن يذمُّ السماع الذي لهم من قسوة القلب والبعد عن مكارمِ الأخلاق وذوقِ حقيقة الإيمان. فصار هذا التفريطُ في المنكرين عليهم شبهةً لهم في التمسك بما هم عليه، وعدمِ التفاتهم إلى مَن ينكره عليهم. ولو أن المنكر عليهم شاركهم فيما عندهم من الأخلاق والمحبة وأعمال القلوب ومراعاتها والفقه في منازلاتها ووارداتها لانْقادوا له، ولرأوه فوقَهم في ذلك، ولأقرُّوا له مُذعِنين، ولكن نفوسهم لا تنقاد لمن هو على ضد طريقتهم، ومَن هو من أقسى الناس وأبعدهم عن المحبة وأحكامها، وعن أعمال القلوب وأذواق حلاوة المعاملة، وإذا تلاقتْ أرواحُهم تنافرتْ أشدَّ النِّفار. فالبلاء مركب من تفريط هؤلاء وعدوان هؤلاء، وصارت كل طائفة مُعْرِضةً عما مع الأخرى من الحق، مستطيلة عليها بما معها من الباطل. وأمَّا أهل الصراط المستقيم الوسط العدل الخيار، فيتبرؤون من باطل الطائفتين ويُقرُّون بحق الفريقين، وينقادون لما مع كل منهما من

الحق، ويُنكرون ما معهما من الباطل. فمَن قال من الفريقين: حيَّ على الهدى والفلاح، أجابَ نداءه ولبَّى دعوتَه، ومَن قال: حيَّ على البدعة واتّباعِ ما لم يُنزِل الله به سلطانًا، أعرض عنه وجاهده بحسب استطاعته. وهذا دين الله الذي لا يَقبل من أحد دينًا سواه، وهو اتّباع ما بعث الله به رسوله في جميع الأمور، وترك اتّباع ما يخالف ذلك، وإجماع القلوب على هذا الاتباع والترك، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 103 - 107]. قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنّة والجماعة، وتسودُّ وجوه أهل الفرقة والبدعة (¬1). فتبيّن بطلان استدلال السماعاتية على صحة سماع المكاء والتصدية ¬

_ (¬1) انظر "تفسير ابن أبي حاتم" (3/ 729) وابن كثير (2/ 747) والدر المنثور (3/ 721).

الرد على احتجاجهم بما جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - مما هو قريب من الشعر

والغناء بالألحان بما سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الشعر من كل وجه. وقال صاحب القرآن: وقولك أيها السماعي: قد جرى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو قريب من الشعر وإن لم يقصد أن يكون شعرًا. فنقول في جواب هذا: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه، فلو جرى على لسانه الكريم حقيقةُ الشعر إنشاء، وقد أعاذه (¬1) الله منه، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، لم يكن في ذلك شبهة لك في حل الغناء وسماع الألحان، فما أعجبَ حالَكم أيها السماعاتية إذ تحتجون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخره ... فاغفرْ للأنصارِ والمهاجره (¬2) وبقوله: هل أنتِ إلا إصبعٌ دَمِيْتِ ... وفي سبيلِ اللهِ ما لَقِيْتِ (¬3) على حلِّ الغناء والزمْر والدُّفوف والشبابات والرقص، والطَّرْق على تاتنا تنتنا! والله تعالى الموفّق لمن يشاء، والخاذِل لمن يشاء. فصل * قال صاحب الغناء (¬4): وقد سمع السلف والأكابر الأبيات ¬

_ (¬1) في الأصل: "عاذه". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) أخرجه البخاري (2802، 6146) ومسلم (1796) من حديث جندب بن سفيان. (¬4) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 505).

قول صاحب القرآن: المعروف عن أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إنكار الغناء والسماع

بالألحان، وممن قال بإباحته من السلف: مالك بن أَنس، وأهل الحجاز كلهم يبيحون الغناء، فأمّا الحُدَاء فالإجماع منهم عن إباحته، وهو والغناءُ: رضيعَا لِبانٍ ثَدْيَ أمٍّ تقاسَما ... بأسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نتفرقُ (¬1) * قال صاحب القرآن: كلامك هذا يتضمن إثباتَ باطل وتركَ حق، وهو إن كان عمدًا فعظيمةٌ، وإن كان غلطًا فتقصير وتفريط في حقّ العلم. وذلك أن المعروف عن أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم، مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم من الصحابة، وكذلك عن أئمة التابعين ومَن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم: إنكاره، حتى ذكر زكريا بن يحيى الساجي في كتابه الذي ذكر فيه إجماع أهل العلم واختلافَهم: أنهم متفقون على المنع منه إلا رجلان (¬2)، إبراهيم بن سعد (¬3) من أهل المدينة، وعبيد الله بن الحسن العنبري من أهل البصرة، وقد تقدم حكاية ذلك، فكيف يُنقَل عن السلف والأكابر ما هم أبعد الناس منه؟ وأمّا نقلك لإباحته عن مالك بن أَنس وأهل الحجاز كلهم فهذا من أقبح الغلط وأفحشه، فإن مالكًا نفسه لم يختلف قوله وقول أصحابه في ¬

_ (¬1) البيت للأعشى في ديوانه (ص 275) و"إصلاح المنطق" (ص 297) و"أدب الكاتب" (ص 407) و"جمهرة اللغة" (ص 905) و"الخصائص" (1/ 265). (¬2) كذا في الأصل مرفوعًا، والوجه: "رجلين". (¬3) في الأصل: "سعد بن إبراهيم" وهو خطأ.

قول صاحب الغناء: نقل ابن طاهر حكاية عن مالك أنه ضرب بطبل وأنشد أبياتا

ذمِّه والمنع منه وكراهته، بل هو من المبالغين في ذلك، الشاهدين على أهله بالفسق، ولهذا لما سأله إسحاق بن عيسى الطبَّاع عمّا يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: "إنما يفعله عندنا الفساق". ومؤلفات أصحابه في تحريمه شاهدة بذلك (¬1). والشافعي لم يختلف قوله في كراهته، وقال في كتابه المعروف "بأدب القضاء": الغناء لهو مكروه شبيه بالباطل، ومَن استكثر منه فهو سفيهٌ تُرَدَّ شهادتُه. وقد قال عن سماع التغبير الذي هو أحسن سماعات هؤلاء: إنه مما أحدثته الزنادقة يَصُدُّون به الناس عن القرآن. وأمّا فقهاء الكوفة فمن أشدّ الناس تحريمًا للغناء، ولم (¬2) يتنازعوا في ذلك، ولم يخالفهم إلا العنبري (¬3). فصل * قال صاحب الغناء: وقد ذكر محمد بن طاهر في مسألة "السماع" (¬4) حكاية عن مالك أنه ضربَ بطَبْلٍ، وأنشد أبياتًا، ومالك مالك! *قال صاحب القرآن: قد أعاذ الله مالكًا وأصحابه من هذا البهتان والفرية، ومالك أجل عند الله وعند أهل الإسلام من ذلك، والكذبُ ¬

_ (¬1) انظر لمعرفة هذه المؤلفات والنصوص "حكم الغناء في مذهب المالكية" لمصطفى باحو. (¬2) في الأصل: "ولما". (¬3) هذه النصوص والأقوال سبق تخريجها في أول الكتاب. (¬4) انظر كتاب "السماع" له (ص 66).

قول صاحب الغناء: وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك، منها أن ابن جريج كان يرخص في السماع

الفاحش على الأئمة المشهورين صنعة جهلة الكذابين، فلو أن واضع هذه الحكاية نسبها إلى مَن ليس في الشهرة والإمامة والجلالة كمالكٍ لأمكن أن يخفى ويَرُوجَ على الجهال، وأمّا على إمام دار الهجرة فسبحانك هذا بهتان عظيم. فصل * قال صاحب الغناء (¬1): وقد وردت الأخبار واستفاضت الآثار في ذلك، رُوي عن ابن جريج أنه كان يُرخِّص في السماع، فقيل له: إذا أُتي بك يومَ القيامة ويُؤتَى بحسناتك وسيّئاتك، ففي أي الجانبين يكون السماع؟ فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات. يعني أنه من المباحات. * قال صاحب القرآن: ليس ابن جريج وأهل مكة ممن (¬2) يعرف عنهم الغناء، بل المشهور عنهم خلاف ذلك. ثم هذه الحكاية وأمثالها هي إلى أن تكون حجةً عليكم أقربُ من كونها حجةً لكم، فإنه قال: يكون السماع لا في الحسنات ولا في السيئات، فجعله بمنزلة اللعب واللهو الباطل، الذي أحسنُ أحوالِه أن لا يكون للعبد ولا عليه، ومع هذا فلابدَّ أن يَنقُصَ من حسناته. ولم يجعلْه ابن جريج ولا أحدٌ قبلَ هذه الطائفة دينًا وقربةً وصلاحًا للقلوب، ويُفضِّلْه على سماع القرآن من وجوه متعددة، بل غاية ما يُحكَى عمن يُرخِّص فيه أنه جعله بمنزلة الغناء والضرب بالدف للنساء في العرس وأيام الأعياد وعند قدوم ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 505). (¬2) في الأصل: "ليس عن ابن جريج وأهل مكة مَن. . . .". ولعل الصواب ما أثبته.

الباطل من الأعمال ما ليس فيه منفعة، ويرخص فيه لبعض النفوس بقدر معين في بعض الأوقات

الغائب، وهو مع ذلك باطل، كما في الحديث الذي في السنن: أن امرأة نذرَتْ أن تَضِربَ لقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدفّ ففعلتْ، فلما جاء عمر أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسكوت، وقال: "إن هذا رجل لا يحب الباطل" (¬1). وسمى الصديق غناء الجويريتين [مزمور الشيطان، وأقرَّه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وإنَّما رخص فيه] (¬2) لمكان صغرهما وكونه يوم عيد، وخلوّ ما تُغنِّيان به من آلاتِ المعازف وغناءِ الألحان والطرابات (¬3)، ولم يقل: هو قربة وطاعة ومِلْحٌ للقلوب، بل قد ثبت عنه في الصحيح (¬4) أنه قال: "كل لهوٍ يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميَهُ بقوسه وتأديبَه فرسَه وملاعبتَه امرأته، فإنهن من الحق". ومعلوم أن الباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يُرخَّص ¬

_ (¬1) جمع المؤلف هنا بين حديثين، أخرج الأول منهما أحمد (5/ 353) والترمذي (3690) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 77) عن بريدة، وإسناده قوي. وقوله: "إن هذا رجل لا يحب الباطل" في حديث آخر بسياق مختلف، أخرجه أحمد (3/ 435) والبخاري في "الأدب المفرد" (342) وأَبو نعيم في "الحلية" (1/ 46) عن الأسود بن سريع. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. وعبد الرحمن بن أبي بكرة لا يصح سماعه من الأسود. (¬2) زيادة ليستقيم السياق، انظر ما سيأتي (ص 188) و"مدارج السالكين" (1/ 493). (¬3) سبق تخريجه. و"الطرابات" لا وجود لها في المعاجم. (¬4) لم أجده في الصحيحين. وأخرجه أحمد (4/ 144، 148) والترمذي (1637) وابن ماجه (2811) من طريق أبي سلام عن عبد الله بن الأزرق عن عقبة بن عامر. وأخرجه أحمد (4/ 146، 148) وأَبو داود (2513) والنسائي (6/ 28، 222) من طريق خالد بن زيد الجهني عن عقبة. وقال الترمذي: حديث حسن.

الاستدلال به على جواز السماع لا يصح

في بعضه أحيانًا للنفوس التي لا تصبر على الحق المحض، ويُرخَّص منه في القدر الذي يحتاج إليه، في الأوقات التي تتقاضى ذلك، كالأعياد والأعراس وقدوم الغائب، وتلك نفوس الصبيان والنساء والجواري الصغار، وهن اللاتي غنَّين في بيت عائشة، وضربن بالدف خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعند تلقِّيه فرحًا وسرورًا به. فهذا كان فرح هؤلاء الضعفاء العقول الذين لا تحتمل عقولهم الصبرَ تحت محض الحق، فكان في إقرارهم بالترخيص لهم في هذا القدر مصلحةٌ لهم، وذريعةٌ إلى انبساط نفوسهم وفرحهم بالحق، فهو من نوع الترخيص في اللُّعَبِ للبنات، وما شاكل ذلك، وهذا من كمال شريعته ومعرفته بالنفوس وما تصلح عليه، وسوقها إلى دينه بكل طريق وفي كل وادٍ. ومن المعلوم أن النفوس الصغار والعقول الضعيفة إذا حُمِلت على محض الحق، وحُمِلَ عليها ثِقلُه، تفسَّخَتْ تحته واستعصَتْ ولم تَنقَدْ، فإذا أُعطِيَتْ شيئًا من الباطل ليكون لها عونًا على الحق ومنفذًا له، كان أسرعَ لقبولها وطاعتها وانقيادها. فما لمشايخ الطريق والسالكين إلى الله، والآخذين أنفسهم بالجِدِّ المحض، والمعرضين عن حظوظهم، الذين لم يعبدوا الله شوقًا إلى جنته ولا خوفًا من ناره، إذْ ذلك عينُ حظهم وهو نقصٌ في طريقتهم، وهذا الباطل واللهو الذي هو حظ الأطفال والنساء والجواري؟! ولا ريبَ أن الرجال لم يكن ذلك فيهم، بل كان السلف يسمون الرجل المغنّي مخنَّثًا لتشبهه بالنساء، وقد رُوي: "اقرأوا القرآنَ بلحون العرب،

قول صاحب الغناء: إن الشافعي لا يحرمه بل يجعله مكروها للعوام

وإياكم ولحُونَ العجم والمخانيثِ والنساءِ" (¬1). وسئل القاسم بن محمد (¬2) عن الغناء، فقال للسائل: أرأيت إذا ميز الله يوم القيامة بين الحق والباطل ففي أيهما يجعل الغناء؟ فقال: في الباطل، قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال. فكان العلم بأنه من الباطل مستقرًّا في نفوسهم كلهم وإن فعله بعضهم. فصل * قال صاحب الغناء (¬3): فهذا الشافعي لا يُحرِّمه، ويجعله من العوامِّ مكروهًا، حتى لو احترف بالغناء أو اتصف به على الدوام وبسماعه على وجه التلهي (¬4) تُردُّ به الشهادة، ويجعله مما يُسقِط المروءة ولا يُلحِقه بالمحرمات، وليس الكلام في هذا النوع من السماع، فإن هذه الطائفة جلَّت رتبتهم عن أن يسمعوا بلهوٍ، أو يقعدوا للسماع بسهوٍ، أو يكونوا بقلوبهم متفكرين في مضمون لغوٍ. * قال صاحب القرآن: لم يختلف قول الشافعي في كراهته والنهي عنه للعوام والخواصّ، ولكن هل هي كراهة تحريم أو تنزيه أو يُفصَّل ¬

_ (¬1) أخرجه أَبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص 80) والطبراني في "الأوسط" (7219) البيهقي في "شعب الإيمان" (2649) عن حذيفة، وهو حديث ضعيف. (¬2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 224)، وأورده ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 235). (¬3) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 505). (¬4) في الأصل: "الوجه التلهي".

سماع الخاصة عند الشافعي من فعل الزنادقة، وهو مضاد للإيمان

بين بعض وبعض؟ هذا مما تنازع فيه أصحابه، وهذا قوله في سماع العامة. وأمَّا سماع الخاصة الذين تشيرون إليه فهو عند الشافعي من فعل الزنادقة، كما تقدم حكاية كلامه. فعند الشافعي أن هذا السماع الذي للخاصة أعظم من أن يقال فيه: إنه مكروه أو محرم، بل هو عنده مضادٌّ للإيمان، وشرعُ دينٍ لم يأذن به الله ولم يُنزل به من سلطان، وإن كان من المشايخ والصالحين من تأول في فعله، وبتأويله واجتهاده يغفر الله له خطأه، ويُثِيبه على ما مع التأويل من قصد خالص وإن لم يكن العمل صوابًا. والتأويل والاجتهاد من باب المعارض في حق بعض الناس، يُدفَع به عنه العقوبة كما يُدفَع بالتوبة والحسنات الماحية، وهذا إنما هو لمن استفرغ وُسعَه في طلب الحق ما استطاع. وقول الشافعي - رضي الله عنه - في هؤلاء نظير قوله في أهل الكلام: "حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام" (¬1). وقوله: "لأن يبتلى العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يُبتلى بالكلام في هذه الأهواء" (¬2). فهذا مذهبه في المتكلمين، وتلك شهادته في أهل السماع، وهذا من كمال نصيحته - رضي الله عنه -، لما علم من دخول الفساد على الأمة ¬

_ (¬1) أخرجه أَبو نعيم في "الحلية" (9/ 116) والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 462). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي" (ص 182، 187) وأَبو نعيم في "الحلية" (9/ 111) والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 452، 454).

السماع على وجهين: سماع اللهو واللعب والطرب، والسماع المحدث لأهل الدين والقربة

من هاتين الطائفتين. وبالجملة فالكلام في السماع على وجهين: أحدهما: سماع اللهو واللعب والطرب، فهذا يقال فيه: مكروه أو محرم أو باطل، أو مُرخَّص في بعض أنواعه. والثاني: السماع المحدَث لأهل الدين والقُربة، فهذا يقال فيه: إنه بدعة وضلالة، وإنه مخالف لكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع السالفين جميعهم، وإنما حدثَ في الأمة لما حدث الكلام، فكثر هذا في أهل النظر والعلم، وكثر هذا في أهل الإرادة والعبادة، ولهذا كان يزيد بن هارون شيخ الإسلام في وقته، وهو من أتباع التابعين، ينهى عن مجالسة الجهمية والمغبِّرة، هؤلاء أهل الكلام المخالف للكتاب والسنة، وهؤلاء أهل السماع المُحدَث المخالف للكتاب، ولهذا لم يستطع أحد قطُّ ممن زعم أن هذا السماع قربة ومستحب، أن يأتي بأثرٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه بذلك، إلا من جاهر بالوقاحة والكذب، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع هذا السماع، وتواجدَ عليه حتى شقَّ قميصَه. فلْيَبْشُرْ من نسب ذلك إليه بمقعده من النار. فصل * قال صاحب الغناء (¬1): وقد رُوي عن ابن عمر وعبد الله بن جعفر آثارٌ في إباحة السماع، هذا مع تشدد ابن عمر وزهده ودينه ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 505).

قول صاحب القرآن: النقل عن ابن عمر باطل، والمحفوظ عنه ذمه للغناء

وحرصه على متابعة الرسول وبُعْدِه من البدع، وعبد الله بن جعفر الطيار. * قال صاحب القرآن: أما ما نقل عن ابن عمر فإنه نقل باطل، والمحفوظ عن ابن عمر ذمه للغناء، ونهيه عنه، كما هو المحفوظ عن إخوانه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم، ممن رضيهم المسلمون قدوةً وأئمةً. وهذه سيرة ابن عمر وأخباره ومناقبه وفتاويه بين الأمة، هل تجد فيها أنه عمل هذا السماع أو حضره أو رخَّص [فيه]؟ فقد نزَّه الله سَمْعَ ابن عمر عنه، بل وأصحاب ابن عمر. وأما ما نقلتَ عن عبد الله بن جعفر، فلا ريب أنه قد نُقِل عنه ذلك، لكن المنقول عنه أنه كانت له جارية تُغنِّيه في بيته، فيستمتع بسماع غنائها. هذا غايةُ ما نُقِل عنه، وليس ابن جعفر ممن يُعارَضُ به أركانُ الأمة كابن مسعود وابن عباس وجابر وابن عمر، ومن احتج بفعل عبد الله بن جعفر فليحتجَّ بفعل معاوية في قتاله لعلي، وبفعل عبد الله بن الزبير في قتاله في الفرقة، وبفعل مروان بن الحكم في خطبته يوم العيد قبل الصلاة (¬1)، وأمثال ذلك مما لا يصلح لأهل العلم والدين أن يُدْخِلوه في أدلة الشرع، لاسيما النسّاك والزهاد وأهل الحقائق، فإنهم لا يَصلُح لهم أن يتركوا سبيلَ مثل أبي ذر وأبي أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح، والمشهورين بالنسك والعبادة، ويتبعون سبيلَ من ¬

_ (¬1) كما في "صحيح مسلم" (889).

قول صاحب الغناء: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الحداء، وهو الغناء كل منهما إنشاد بأصوات مطربة

اتخذ جاريةً تُغنِّيه في بيته للهو واللذة، ويجعلونه حجة لهم فيما بينهم وبين الله في الرقص وسماع الأغاني المطربة من الشاهد المليح، بمساعدة الدفوف والشبابات والمواصيل. هذا مع أن الذي فعله عبد الله بن جعفر كان في داره، لم يكن يجمع الناس على ذلك ولا يدعو إليه، ولا يعدُّه دينًا وقربة يُقرِّبه إلى الله، بل هو من الباطل واللهو. فصل * قال صاحب الغناء (¬1): ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع الحُدَاء وحَدا الحُداةُ بين يديه، وكذلك عمر بن الخطاب (¬2) بعده رخَّص في الحُداء، والغناء والحداء كل منهما إنشادٌ بأصواتٍ مطربةٍ، وهما كما قال الشاعر: فإن لا يَكُنْها أو تَكُنْه فإنه ... أخوها غَذَتْه أمُّه بلِبَانها (¬3) * قال صاحب القرآن: قد اتفق الناس على جواز الحُداء، وثبت أن عامر بن الأكوع كان يحدو بالصحابة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين (¬4) عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسِرْنا ليلًا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تُسمِعنا من هُنيَّاتِك؟ وكان عامر رجلا شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم، يقول: ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 505). (¬2) في الأصل: "خطاب". (¬3) البيت لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه (ص 162) وإصلاح المنطق (ص 297) وأدب الكاتب (ص 407) ولسان العرب (كون، لبن). (¬4) البخاري (6148) ومسلم (1802).

بطلان دعوى أن الحداء والغناء من جنس واحد

اللهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَينا ... ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا فأنزلَنْ سكينةً علينا ... وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقَينا إنّا إذا صِيْحَ بنا أَتَينا ... وبالصِّياح عوَّلوا عَلينا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن هذا السائق؟ قالوا: عامر بن الأكوع، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبَتْ يا نبي الله، لولا أمتعتَنا به، وذكر الحديث. وذلك في غزوة خيبر. وفي الصحيح (¬1) حديث أنجَشة الحبشي الذي كان يحدو بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رُويدَك يا أنجشةُ، سَوقَك بالقوارير" يعني النساء، أمره بالرفق بهن لئلا تُزعِجَهن الإبل في المسير إذا اشتدَّ سيرها، ولئلا ينزعجن بصوت الحادي، والحديث متفق عليه. فمن الذي حرَّم الحداء؟ حتى يحتجُّون عليه بفعله بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما قولكم: "إن الغناء إن لم يكنْه فهما رضيعَا لِبانٍ، وهما في بابهما أخوان" فمن أبطل الباطل، وهو من جنس استدلالكم على حل الغناء والسماع بسماع النبي - صلى الله عليه وسلم - الشعرَ واستنشاده له، وهل هذا إلا من أفسدِ القياس وأبطله؟ وإذا كان الأمر كما تقولون فلِمَ سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الحُداءَ والشعر؟ ولم يُنقل والعياذ بالله عن أحد منهم قطُّ استماعُ الغناء وحضوره وإقامته، فضلًا عن اتخاذه طاعة وقربة ودينًا! فقياس الغناء على الحداء من جنس قياس الرِّبَا على البيع، وقياس نكاح ¬

_ (¬1) البخاري (6161) ومسلم (2323) عن أَنس بن مالك.

قول صاحب الغناء: من أدلتنا حديث الجاريتين

التحليل على نكاح الرغبة، ونكاح المتعة على النكاح المؤبد، وأمثال ذلك من الأقيسة التي تتضمن الجمع بين ما فرَّق الله ورسوله بينهما. فصل * قال صاحب الغناء (¬1): يكفينا في هذا الباب ما قد اشتهر، وعلمه الخاص والعام من حديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة، بما تقاولت به الأنصار يوم بُعَاث، فأنكر عليهما أَبو بكر، وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْهما يا أبا بكر! فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا" (¬2). * قال صاحب القرآن: هذا الحديث من أكبر الحجج عليك، فإن الصديق سمّى الغناء مزمور الشيطان، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه التسمية، وأقرَّ الجويريتين على فعله، إذ هما جويريتان صغيرتان (¬3) دون البلوغ غير مكلَّفتين، قد أظهرتا الفرح والسرور يوم العيد بنوعٍ ما من أنواع غناء العرب، ولاسيما الصغار منهن في بيت جاريةٍ حديثة السن، بشعرٍ من شعر العرب في الشجاعة ومكارم الأخلاق ومدحها، وذم الجبن ومساوئ الأخلاق، ومع هذا فقد سماه صديق الأمة "مزمور الشيطان". فيالله العجب! كيف صار هذا مزمور الشيطان قربةً وطاعةً ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 505). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في الأصل: "جويريتين صغيرتين".

الرخصة فيه للنساء والصبيان إذا خلا من الآلات المحرمة، وسبب ذلك

تقرِّب إلى الله، وتُنال بها كرامتُه؟ وأصحابه جلّت رتبتهم أن يسمعوه بنفوسهم، أو لأجل حظوظهم، هذا وكم بين المزمورين؟ فبينهما أبعد ما بين المشرقين. ثم نحن نرخِّص في كثير من أنواع الغناء، مثل هذا، ومثل الغناء في النكاح للنساء والصبيان، إذا خلا من الآلات المحرمة، كما نرخص لهم في كثير من اللهو واللعب، وهذا نوع من أنواع اللعب المباح لبعض الناس في بعض الأوقات، فما له وللتقرب والتعبد به؟ واستنزال الأحوال الإيمانية والأذواق العرفانية والمواجيد القلبية به؟ ونظير هذا دخول عمر - رضي الله عنه - على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهروب النسوة اللاتي كنَّ يغنين لما رأينه، ووضعن دفوفهن تحتهن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآك الشيطان سالكا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّك" (¬1). فأخبر أن الشيطان هرب مع تلك النسوة، وهذا يدل على أن الشيطان حاضر مع أولئك النسوة، وهرب معهن. فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصديق على أن الغناء مزمور الشيطان، وأخبر أن الشيطان فرَّ من عمر لما فر منه النسوة، فعُلِمَ أن هذا من الشيطان، وإن كان رُخِّصَ فيه لهؤلاء الضعفاء العقولِ من النساء والصبيان، لئلا يدعوهم الشيطان إلى ما يُفسِد عليهم دينَهم، إذ لا يمكن صرفُهم عن كل ما تتقاضاه الطباع من الباطل. والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3683) ومسلم (2396) عن سعد بن أبي وقاص.

تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما

وتقليلها، فهي تُحصِّلُ أعظمَ المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما، فإذا وُصِف العمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان، لم يمنع ذلك أن يُدفَع به مفسدة شرٌّ منه وأكبر وأحب إلى الشيطان منه، فيُدفَع بما يحبه الشيطان ما هو أحب إليه منه، ويُحتَمل ما يبغضه الرحمن لدفع ما هو أبغض إليه منه، ويُفوَّت ما يحبه لتحصيل ما هو أحبُّ إليه منه. وهذه أصولٌ مَنْ رُزِقَ فهمَها والعملَ بها فهو من العالمين بالله وبأمره. ولا ريب أن الشيطان موكَّلٌ ببني آدم، يجري منهم مجرى الدم، وقد أُعِين بما رُكِّب في نفوسهم وجُبِلَتْ عليه طباعُهم وامتُحِنوا به من أسباب الشهوة والغضب، فلا يمكن حفظُ مَن هذا شأنه مع عدوه، من كل ما للشيطان فيه نصيبٌ، وهو له حظ في كل أعمال العبد، حتى في صلاته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجعل أحدكم للشيطان حظًّا من صلاته، يرى أن حقّا عليه ألا ينصرف إلا عن يمينه" (¬1). فإذا كان هذا القدر من حظ الشيطان في صلاة العبد، فما الظن بما هو أعظم من ذلك وأكبر. وسُئِل - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يَختلِسُه الشيطان من صلاة العبد" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (852) ومسلم (707) موقوفا على ابن مسعود. (¬2) أخرجه البخاري (751) عن عائشة.

وإذا لم يمكن حِفظُ العبد نفسَه من جميع حظوظ الشيطان منه، كان من معرفته وفقهه وتمام توفيقه أن يدفع حظَّه الكبير بإعطائه حظَّه الحقير، إذا لم يمكن حرمانُه الحظَّين كليهما، فإذا أُعطِيَتِ النفوسُ الضعيفة حظًّا يسيرًا من حظِّها يُستَجلبُ به من استجابتها وانقيادها خير كبير، ويُدفَع به عنها شر كبير أكبر من ذلك الحظ = كان هذا عينَ مصلحتِها، والنظر لها والشفقة عليها. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسرِّبُ الجواري إلى عند عائشة يلعبن معها (¬1)، ويمكِّنها من اتخاذ اللُّعب التي هي في صور خيل بأجنحة وغيرها (¬2)، ويُمكِّنها من النظر إلى لعب الحبشة (¬3). وكان مرة بين أصحابه في السفر، فأمرهم فتقدموا، ثم سابقها فسبقَتْه، ثم فعل ذلك مرة أخرى، فسابقها فسبقها، فقال: "هذه بتلك" (¬4). واحتمل - صلى الله عليه وسلم - ضرب المرأة التي نذرت إن نجَّاه الله أن تضرب على رأسه بالدف (¬5)، لما في إعطائها ذلك الحظّ من فرحها به وسرورها بمَقْدمِه وسلامته، الذي هو زيادة في إيمانها ومحبتها لله ورسوله، وانبساط نفسها وانقيادها لما يأمر به من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6130). ومسلم (2440) عن عائشة. (¬2) أخرجه أَبو داود (4932) والنسائي (1/ 75) عن عائشة. وإسناده صحيح. وصححه ابن حبان (5864). (¬3) أخرجه البخاري (454). ومسلم (892) عن عائشة. (¬4) أخرجه أحمد (6/ 39) وأَبو داود (2578) وابن ماجه (1979) عن عائشة. وإسناده صحيح. وصححه ابن حبان (4691). (¬5) سبق تخريجه.

الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل

الخير العظيم، الذي ضربُ الدف فيه كقطرةٍ سقطتْ في بحر. وهل الاستعانة على الحق بالشيء اليسير من الباطل إلا خاصة الحكمة والعقل؟ بل يصير ذلك من الحق إذا كان مُعِينًا عليه، ولهذا كان لَهْوُ الرجل بفرسه وقوسه وزوجته من الحق، لإعانته على الشجاعة والجهاد والعفة، والنفوس لا تنقاد إلى الحق إلا ببِرْطيلٍ، فإذا بُرطِلَتْ بشيء من الباطل لتبذل به حقًّا، وُجُوْدُه أنفعُ لها وخير من فوات ذلك الباطل، كان هذا من تمام تربيتها وتكميلها. فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل، فإنَّه نافعٌ جدًّا، والله المستعان. فصل * قال صاحب الغناء: وندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تحسين الصوت بالقرآن، فروى البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "حَسِّنوا القرآنَ بأصواتكم، فإنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا" (¬1). وعن أَنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لكل شيء حليةٌ، وحلية القرآن الصوت الحسن" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه الدارمي (3504) بهذا اللفظ. وإسناده حسن. (¬2) أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (2330)، وفي إسناده عبد الله بن محرر، وهو متروك. وله طريق آخر أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 268). وفي إسناده مجهول.

قول صاحب القرآن: هذا قياس فاسد، وأمثلة من ذلك

وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" (¬1). وقد قال الإمام أحمد في تفسيره: "يحسِّنه بصوته ما استطاع"، وقال الشافعي: "نحن أعلم بهذا من سفيان"، ينكر عليه قوله: يستغني به، وإنما هو تحسين الصوت (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لله أشدُّ أدَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحبِ القَينةِ إلى قَينتهِ" (¬3). فإذا ندب إلى تحسين الصوت بالقرآن والتغني به، جاز أن يُحسَّن الصوتُ بالشعر ويُتغنى به، وأيُّ حرج في تحسين الصوت بالشعر؟ * قال صاحب القرآن: هذه الأدلة إنما تدل على فضل الصوت الحسن بكتاب الله، لا على فضل الصوت الحسن بالغناء الذي هو مزمور الشيطان، ومن قاس هذا بهذا وشبَّه أحدهما بالآخر فقد شبَّه الباطل بالحق، وقاس قرآن الشيطان على كتاب الرحمن. وهل هذا إلا نظير قول من يقول: إذا أمر الله بالقتال في سبيله بالسيف والرمح والنُّشَّاب دلَّ ذلك على فضيلة الطعن والضرب والرمي! ثمّ يحتج بذلك على جواز الضرب والطعن والرمي في غير سبيل الله، بل على استحبابه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7527) عن أبي هريرة. (¬2) انظر أقوال العلماء في معنى قوله: "يتغنى" في "غريب الحديث" لأبي عبيد (2/ 169 - 172) و"مشكل الآثار" (3/ 353) و"شرح السنة" (4/ 485، 486) و"فتح الباري" (9/ 69 - 72). (¬3) سبق تخريجه.

لماذا ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تحسين الصوت بالقرآن؟

ونظير من قال: إذا أمر الله بإنفاق المال في سبيله، دل على فضيلة المال! ثمّ يحتج بذلك على جواز إنفاق المال واستحبابه في غير سبيله. ونظيره قول من يقول: إذا أمر الله بالاستعفاف بالنكاح دل على فضيلة النساء، ثمّ يحتج بذلك على جواز ما لم يأمر به من ذلك! وكذلك كل ما يُعِين على طاعة الله ومحابّه ومراضيه، ولا يدلُّ ذلك على أنه في نفسه محمود على الإطلاق، حتى يحتج على أنَّه محمود حال كونه معينًا على غير طاعة الله من البدع والفجور والمعاصي. إذا ثبت هذا فتحسين الصوت نُدِب إليه، وحُمِد الصوت الحسن لما تضمنه من الإعانة على ما يحبه الله من سماع القرآن، ويحصُل به من تنفيذ معانيه إلى القلوب ما يزيدها إيمانًا، ويُقرّبها إلى ربها، ويُدنِيها من محابّه. فالصوت الحسن بالقرآن مُنَفّذ لحقائق الإيمان، مُعِين على إيصالها إلى القلوب، فكيف يُجعَل نظيرَ الصوت الحسن بالغناء الذي يُنبِت النفاقَ في القلب؟ وأخفُّ أنواعه وأقلُّها شرًّا ما وضعته الزنادقة يَصدُّون به الناس عن القرآن. فالصوت الحسن من هذا يُنفِّذ حقائقَ النفاق والفجور والفسوق إلى القلب، ولهذا يظهر في الأفعال وعلى اللسان. فالسماع الشيطاني الذي يتقرب به أهله إلى الله، يُنفِّذ الصوتُ الحسن فيه حقائقَ النفاق إلى القلب، والسماع الآخر الذي يعدُّه أهله لهوًا ولعبًا، يُنفِّذ ما يكرهه الله من شهوات الفسوق إلى القلب، فالاعتبار بحقائق المسموع، والصوت الحسن آلة ومنفِّذ.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" إما أن يريد به الحض على أصل الفعل أو على صفته، وقد يصح أن يرادا معا

فصل وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن" إما أن يريد به الحضّ (¬1) على أصل الفعل، وهو نفس التغني به، أو على صفته وهو أن يكون تَغنِّيه إذا تغنَّى به لا بغيره. وهذا نظير ما حُمِل عليه قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، هل هو أمر بأصل الحكم أو بصفته إذا حَكَم؟ فيه قولان. ونظيرهُ أمره - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء في السجود، هل هو أمر بأصل الدعاء؟ أو المعنى: إذا دعوتم فاجعلوا دعاءكم في السجود، فإنَّه قَمنٌ أن يُستجاب لكم (¬2). فقوله: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن"، إن أريد به الحضّ على نفس الفعل كان ذمًّا لمن ترك التغني به، وإن أريد به المعنى الثاني، وهو أنَّه إذا تغنى فليتغنَّ بالقرآن، كان ذمًّا لمن تغنَّى بغيره، لا لمن ترك التغني به، وبين المعنيين فرق ظاهر، وقد يصح أن يُرادَا معًا، وأنَّه ذمّ من ترك التغني به ومن تغنَّى بغيره. والله أعلم. فصل * قال صاحب الغناء (¬3): صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "صوتان ¬

_ (¬1) في الأصل: "الحظ" وهو خطأ. (¬2) الحديث أخرجه مسلم (479) عن ابن عباس. (¬3) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 507).

قول صاحب القرآن: هذا الحديث من أجود ما يحتج به على تحريم الغناء

ملعونان: صوتُ ويلٍ عند مصيبة، وصوتُ مزمارٍ عند نِعْمة" (¬1). ومفهوم خطابه يقتضي إباحة غير هذين الصوتين في غير هاتين الحالتين، وإلا بطلت فائدة التخصيص. * قال صاحب القرآن: هذا الحديث من أجود ما يُحتَجُّ به على تحريم الغناء، كما في اللفظ الآخر الصحيح: "إنما نَهَيْتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نِعْمة: لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت [عند] مصيبة: لَطْم خدودٍ وشَقّ جُيوبٍ ودعاء بدعوى الجاهلية" (¬2). فنهى عن الصوت الذي يُفعَل عند المصيبة، والصوت الذي يُفعَل عند النعمة هو صوت الغناء. * قال صاحب الغناء: إنما نهى عن صوت الغناء. * قال صاحب القرآن: المراد بصوت المزمار هنا هو نفس الغناء، فإنَّ نفس صوت الإنسان يسمى مزمارا ومزمورًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: "لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود" (¬3)، فسمى صوته مزمارًا. وكما قال الصديق - رضي الله عنه - لغناء الجاريتين: "أبمزمور ¬

_ (¬1) أخرجه البزار في "مسنده" (7513) والضياء المقدسي في "المختارة" (2200) عن أَنس بن مالك، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 13): رجاله ثقات. وانظر "السلسلة الصحيحة" (428). (¬2) أخرجه الترمذي (1005) عن جابر بن عبد الله. وقال: هذا حديث حسن. (¬3) سبق تخريجه.

جواب "أن مفهوم الخطاب يقتضي إباحة غير هذا" من وجهين

الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ " (¬1)، ولم يكن معهما مزمور غير أصواتهما، فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين"، ثمّ فسرهما بالغناء والنَّوح اللذين يُثيرهما الطربُ والحزن (¬2). وقولك: "إنَّ مفهوم الخطاب يقتضي إباحةَ غير هذا"، فجوابه من وجهين: أحدهما: أنَّ مثل هذا اللفظ لا مفهومَ له عند أكثر أهل العلم، فإنَّ التخصيص في مثل هذا بالعدد لا يقتضي اختصاص الحكم به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن" (¬3)، لا يقتضي أنَّه ليس فيهم من أمر الجاهلية غير هذه الثلاث، ومن قال من الفقهاء بمفهوم العدد، فإنما يكون عنده حجة إذا لم يكن للتخصيص سبب آخر، وهنا التخصيص لكون هذين الصوتين كانا معتادين في زمنه وعلى عهده - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] فإنَّ القتل على هذه الصفة هو الذي كان معتادًا على عهده في العرب. الثاني: أنَّ اللفظ الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على مورد النزاع، فإنَّه إذا نُهِي عن هذا الصوت عند النعمة التي يُعذَر الإنسان عندها، إذ هي محل فرح وسرور، كما رخّص في غناء النساء في الأعراس ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في الأصل: "الحرب" تصحيف. (¬3) الحديث بلفظ "أربع في أمتي. . . ."، أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري.

قول صاحب الغناء: روى ابن طاهر أن رجلا أنشد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل علي ويحكما * إن عشقت من حرج، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا إن شاء الله" هو نص في إباحة الغناء

والأعياد ونحو ذلك، فلأن يُنهَى عنه في غير هذه الحال أولى وأحرى. فصل * قال صاحب الغناء: قد روى ابن طاهر المقدسي (¬1) أن رجلًا أنشد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -: أقبلتْ فلاحَ لها ... عارضانِ كالسَّبَجِ أدبرَتْ (¬2) فقلتُ لها ... والفؤادُ في وَهَج هلْ عليَّ ويحَكما ... إن عَشِقْتُ من حَرجِ (¬3) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا إن شاء الله" (¬4). وذكره أَبو القاسم القشيري في رسالته (¬5)، وهو نص في إباحة الغناء. * قال صاحب القرآن: هذا الحديث مكذوب موضوع على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - لا يشك فيه مَن له أدنى علم بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمييز ¬

_ (¬1) لم أجد النص في كتاب "السماع" المطبوع، ولعله رواه في كتاب آخر. (¬2) في الأصل: "ثم أدبرت". وبه يختل الوزن. (¬3) البيت الأول بلا نسبة في "لسان العرب" (قضب) بقافية "كالبرد". والثالث لسيرين أخت مارية القبطية في "شرح شواهد المغني" للسيوطي (ص 335)، وبلا نسبة في تهذيب اللغة (8/ 348). (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 115، 116) عن ابن عباس. وفي إسناده حسين بن عبد الله، وهو متروك. وانظر "اللآلئ المصنوعة" (2/ 207)، و"الفوائد المجموعة" (ص 255). (¬5) "الرسالة القشيرية" (ص 507).

قول صاحب الغناءة روي أن أعرابيا أنشد النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لسعت حية الهوى كبدي"، فتواجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماعه

صحيحها من سقيمها، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول: "هذا الحديث موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، لا أصل له، وليس هو في شيء من دواوين الإسلام، وليس له إسناد" (¬1). ومَن له أدنى ذوق في الشعر يعرف أن هذا من شعر المتأخرين، وليس من فحله بل من ثُنيانِه (¬2)، وشعر العرب أفحلُ من هذا وأحمس (¬3). وكيف يُظَنُّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول: لا حرج؟ من غير أن يسأله عن معشوقته أهي ممن يحل له أم لا؟ فقبَّح الله واضعَه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أجرأَه على النار! فصل * قال صاحب الغناء: فقد روي أن أعرابيًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنشده: قد لَسَعَتْ حيَّةُ الهوى كَبِدِي ... فلا طبيبٌ لها ولا رَاقِي إلَّا الحبيب الذي شُغِفْتُ به ... فعنده رُقْيتي وَتِرْيَاقِي فتواجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند سماعه (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "الاستقامة" (1/ 296). (¬2) الثُّنْيان: الذي يكون دون السيّد في المرتبة. (¬3) الأحمس: القوي الشديد. (¬4) أخرجه ابن طاهر في "صفوة التصوف"، وأورده السهروردي في "عوارف المعارف" (ص 121) وقال: "يخالج سرّي أنه غير صحيح، ويأبى القلب قبوله". وذكر أَبو موسى المديني والنووي وابن تيمية وغيرهم أنه حديث باطل لا أصل له. انظر "تذكرة الموضوعات للفتني" (ص 197 - 198) و"المقاصد الحسنة" (ص 333) =

قول صاحب القرآن: هذا أيضا كذب مفترى، وهو من شعر المتأخرين البارد

* قال صاحب القرآن: وهذا الحديث أيضًا من الطراز الأول، فليتبوأ واضعُه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مقعدَه من النار. سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "هذا كذبٌ مفترىً موضوع باتفاق أهل العلم" (¬1). قلت: وركاكة شعره وسماجته وما تجد عليه من الثقالة، من أبين الشواهد على أنه من شعر المتأخرين البارد السَّمج، فقبَّح الله الكاذبين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد اختلف الناس في كفر من كذب عليه وقتله على قولين مشهورين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيرهم، والذين ذهبوا إلى كفره وقتله احتجوا بالأثر المشهور أن رجلًا جاء إلى قوم من العرب، فقال: إني رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم أن تزوِّجوني، فزوَّجوه وأكرموه، ثمّ أرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّا قد فعلنا ما أمرتَنا به، فأمر بقتله (¬2). ¬

_ = و"تنزيه الشريعة" (2/ 233) و"ميزان الاعتدال" (3/ 164) و"مجموع الفتاوى" (11/ 563). (¬1) انظر "الاستقامة" (1/ 297). (¬2) أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 352، 353) وابن عدي في "الكامل" (4/ 1371) وابن الجوزي في "مقدمة الموضوعات" (1/ 55، 56) عن بريدة. وفي إسناده صالح بن حيان القرشي، وهو ضعيف. قال ابن عدي: هذه القصة لا أعرفها إلا من هذا الوجه. وانظر "مجمع الزوائد" (1/ 145) و"البدر المنير" (9/ 206).

قالوا: وقد توعده بأنه يتبوأ مقعدَه من النار (¬1)، والمباءة المكان اللازم له الذي لا يفارقه. قالوا: وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس كذبٌ عليَّ ككذبٍ على غيري" (¬2)، فلو كان الكذب عليه إنما يوجب التعزير، والكذب على غيره يوجبه، لكانا سواءً أو متقاربين. قالوا: ولأن الكذب عليه يرجع إلى الكذب على الله، وأن هذا دينه وشرعه ووضعه، والكذب على الله أقبح من القول عليه بلا علم، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات (¬3)، بل هو في الدرجة الرابعة من المحرمات. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فذكر سبحانه المحرمات الأربع مبتدئًا بالأسهل منها، ثم ما هو أصعب منه، ثم كذلك، حتى ختمها بأعظمها وأشدِّها، وهو القول عليه بلا علم، فكيف بالكذب عليه؟ ¬

_ (¬1) حديث "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" حديث صحيح متواتر عن جماعة من الصحابة، وقد جمع طرقه الطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 352 - 372) وابن الجوزي في "مقدمة الموضوعات" (1/ 55 - 92) والسيوطي في "تحذير الخواص" (ص 8 - 57). (¬2) أخرجه البخاري (1291) ومسلم (4) عن المغيرة بن شعبة. (¬3) بعده في الأصل: "الأربع، مبتدئا بالأسهل منها، ثم ما هو أصعب منه، ثم كذلك". وقد شُطب عليها، وستأتي.

قول صاحب الغناء: روي أن أصحاب الصفة سمعوا يوما فتواجدوا ومزقوا ثيابهم

قالوا: ولأن الكذب عليه بأنه قال كذا ولم يقلْه، نسبةٌ للقول المكذوب إليه بأنه قاله (¬1)، فالكاذب يعلم أن ما اختلقَه كذِبٌ، فإذا نسبه إلى رسول الله فقد نسب إليه الكذب. وهذا المذهب كما ترى قوةً وظهورًا. فصل * قال صاحب الغناء: وقد رُوي أن أصحاب الصُّفَّةِ سمعوا يومًا فتواجدوا، ومزَّقوا ثيابهم. ولنا الأسوة فيهم. * قال صاحب القرآن: هذا أيضا من جِراب الكذب الذي فتحه البهَّاتون الدجّالون، ولم يكن في القرون الثلاثة لا بالمدينة ولا بمكة ولا بالشام ولا باليمن ولا بمصر ولا خراسان ولا العراق، مَن يجتمع على هذا السماع المحدَث، فضلًا عن أن يكون نظيره كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا كان أحد يُمزِّق ثيابه من السلف الصالح، وهم كانوا أعلمَ بالله وأفقهَ في دينه من أن يُقدِموا على محرَّم في الشريعة باتفاق الأمة، وهو إتلاف المال وإضاعته، ويعدُّونه قربةً إلى الله تعالى، ولا كان فيهم رقَّاصٌ، بل لمَّا حدثَ التغبيرُ في أواخر المائة الثانية، وكان أهله من خيار طائفتهم، وكان مبدأ حدوثه من جهة المشرق التي منها يطلع قرن الشيطان، وبها الفِتَن (¬2)، قال الشافعي: "خلّفت ببغداد شيئًا أحدثتْه الزنادقة يسمّونه التغبير، يصدُّون به الناس عن القرآن". ¬

_ (¬1) في الأصل: "بأنه وأنه قاله". (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (3511، 7093) ومسلم (2905) عن ابن عمر.

قول صاحب الغناء: من أنكر السماع مطلقا فقد أنكر على سبعين صديقا

فصل * قال صاحب الغناء: قال أبو طالب المكي في كتابه "القوت" (¬1): "مَن أنكر السماعَ مطلقًا غيرَ مقيَّد فقد أنكر على سبعين صدّيقًا". هذا في زمانه، ولا ريبَ أن المنكر بعده يكون إنكاره على أضعاف هؤلاء. * قال صاحب القرآن: إن كان قد حضره وفعله سبعون صدّيقًا، فقد أنكر عليهم سبعون وسبعون وأكثر، والمنكرون عليهم أعظم علمًا وإيمانًا وأرفعُ درجة، فليس الانتصار لطائفةٍ من الصديقين على نظائرهم، لاسيما على مَن هو أكبر منهم وأجلُّ وأكثر عددًا، بأَوْلَى من العكس، وحينئذ فيُعارَض قولك بما هو أولى منه. ويقال: من أقرَّ على هذا السماع أو استحبه وأنكر على مَن أنكره، فقد أنكر على سبعين وسبعين وسبعين وأكثر من الصديقين والعلماء. وأيضًا فالذين حضروا هذا اللهو متأولين من أهل الصلاح والزهد والخير، غَمَرتْ حسناتهُم ما كان فيهم من السيئات والخطأ من هذا ومن غيره، وهذا سبيل كل صالح في هذه الأمة في خطئه وزَلَلِه، قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33 - 35]. ¬

_ (¬1) "قوت القلوب" (2/ 61) وفيه: "تسعين صادقًا". والمؤلف تبع شيخه في "الاستقامة" (1/ 299).

لا يجوز اتباع المتأولين فيما فعلوا

وهذا كالمتأولين من صالحي الكوفيين في النبيذ المُسْكِر وإن كان خمرًا، وكذلك المتأولين من صالحي أهل مكة في المتعة والصرف، وإن كان سبيلهما سبيل الزنا والربا، وهم من أبعد الناس عن ذلك، وكذلك المتأولون في حِلِّ ما حرَّمه الشارع من الأطعمة من أهل المدينة وغيرهم، وكذلك المتأولون في مسألة حشوش النساء، وكذلك المتأولون في القتال في الفتنة، إلى أمثال ذلك مما تأول فيه قوم من أهل العلم والدين، من مطعوم أو مشروب أو منكوح أو مسموع أو عقد ونحو ذلك، مما قد عُلِم أن الله ورسوله حرَّمه، لم يَجُز اتّباعُهم في ذلك، وإن كان مغفورًا لهم، أو من السعي الذي يُؤجَرون عليه لاجتهادهم أجرًا واحدًا، فالرب سبحانه يمحو السيئات بالحسنات، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات. فصل وهاهنا أصل يجب اعتماده، وهو أن الله سبحانه عَصَم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولم يَعْصِم آحادها من الخطأ لا صدِّيقًا ولا غيره، لكن إذا وقع في بعضها خطأ فلابدَّ أن يقيم الله فيها مَن يكون على الصواب، لأن هذه الأمة شهداء الله في الأرض، وهم شهداء على الناس يوم القيامة، وهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلابد أن تأمر بكل معروف وتنهى عن كل منكر، فإذا كان فيها مَن يأمر بمنكر متأولًا، فلابد أن يقيم الله فيها مَن يأمر بذلك المعروف.

وجوب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله

فأمّا الاحتجاج بفعل طائفة من الصديقين في مسألة نازعهم فيها مثلُهم أو أكثرُ منهم فباطل، بل لو كان المنازع لهم أقلَّ منهم عددًا وأدنى منزلةً، لم تكن الحجة مع أحدهما إلا بكتاب الله وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الأمة أُمِرَتْ بذلك، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. فإذا تنازع الأمراء والعلماء والزهّاد والعبّاد في شيء، فعليهم جميعهم أن يردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله. ومن المعلوم أن الصديقين الذين أباحوا بعض المسكرات، والصديقين الذين استحلُّوا نكاحَ المتعة، واستحلُّوا الصَّرفَ، واستحلُّوا نكاح التحليل، واستحلُّوا بعض المطاعم التي حرَّمها الشارع، واستحلُّوا قتالَ أهل القبلة، هم أسبقُ من هؤلاء وأكبر وخير منهم وأعلم بالله ورسوله، فإذا نهى مَن خالفهم عما نهى الله ورسوله عنه من ذلك لم يكن لأحد أن يقول: هذا إنكارٌ على كذا وكذا من الصديقين وأئمة المسلمين، فإن هذا الإنكار من نظرائهم أو من هو أعلم بذلك منهم، وإن كانوا أعلمَ منه بشيء آخر، فالصديقون أنكر بعضهم على بعض، وردَّ بعضهم على بعض، وخطَّأ بعضهم بعضًا، بل قاتل بعضهم بعضًا، وكل ذلك لله وفي الله وفي مرضاته. فصل وهاهنا نكتة ينبغي التفطُّن لها، وهي أنَّ الله سبحانه لما سبق في قضائه وقدره وعلمه السابق أنَّ الأمة لابدّ أن تختلف، ويكون فيها من

يستحلُّ بعضَ ما حرَّمه بالتأويل، جعل المختلفين سلفًا صالحًا خفي عليهم بعضُ ما جاء به رسوله فخالفوه متأولين، وهم مطيعون لله ورسوله، وإن أخطأوا حكمَه في بعض ما اختلفوا فيه للاشتباه والخفاء، كما يكون من خفيت عليه القبلة فصلى بالاجتهاد إلى غير جهتها مطيعًا لله ورسوله، فلولا اختلاف المتقدمين لهلك المتأخرون. ومن كمالِ نعمته وتمامِ رحمته أن جعل في الأمة من يعرف ما خفي على الآخر من الصواب، وكذلك هذا أيضًا قد يخفى عليه الصواب في شيء آخر، ويعرفه ذلك. فمجموع الحق عند مجموع الأمة. ووقوعُ مثل هذا التأويل ممن وقع منه من الأئمة المتبوعين أهلِ العلم والإيمان، صار من أسباب المحنة التي امتحن الله بها عباده، وفتنَهم بها، وصار فتنةً لطائفتين: طائفة اتبعتْهم على ذلك وقلَّدوهم فيه، معرضين عما أمرهم الله ورسوله من اتباع الحق، وحملَ التعصبُ لكثيرٍ من أتباعهم على أنهم لم يقفوا عند الحد الذي وقف أولئك عنده وانتهوا إليه، بل اعتدَوا في ذلك، وزادوا زياداتٍ لم تصدُرْ من تلك الأئمة، ولو رأوا من يفعلُها ويستحلُّها لأنكروا عليه غاية الإنكار. وطائفة أخرى علموا تحريمَ ما أحلَّه أولئك الأئمة بالتأويل، ووضحتْ لهم فيه السنةُ، فاعتدَوا على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم، وتبعهم مقلِّدون لهم، فزادوا في الذمّ واعتدَوا، ولم يقفوا عند الحد الذي انتهى إليه من قلدوه.

مسألة السماع وما حصل فيها من الاختلاف

والقول الوسط والصراط المستقيم بين هذا وهذا: معرفةُ المراتب وإعطاء كل ذي حق حقه، واتباع القول الموافق لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعُذْرُ من خالفه مجتهدًا متأولًا. واعتبرْ ذلك بمسألة السماع التي وقع فيها النزاع، فإنَّ الله سبحانه شرع للأمة من السماع ما أغناهم به عما لم يَشرعْه، حيث أكملَ لهم دينَهم وأتمَّ عليهم نعمتَه ورضيَ لهم الإسلام دينًا، وهو سماع القرآن الذي شرعه لهم في الصلاة وخارجها مجتمعين ومنفردين، حتى كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى: "يا أبا موسى ذكِّرنا ربَّنا" (¬1). فلما انقرضت القرون الفاضلة حصلَتْ فترةٌ في هذا السماع المشروع الذي به صلاح القلوب وسعادة الدارين، وصار أهل الفتور فيه أحدَ رجلين: رجل أعرض عن السماع المشروع وغير المشروع، فأورثه ذلك قسوةً، وفواتَ حظِّه من حقائق الإيمان وأذواقه ومواجيده. ورجل أقبل على سماع الأبيات والقصائد، وجعل شربه وذوقه منها. والرجلان منحرفان، وخير منهما وأصحُّ سماعًا من جعل سماعه وذوقه ووَجْدَه من الآيات. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (ص 81).

البدع التي زادها أهل السماع، فاشتدت بها الفتنة

وأقام الله سبحانه من أنكر على أهل السماع المحدَث المبتدَع، وكان في المنكِرين المقتصدُ والجافي والغالي، وصار على تمادي الأيام يزداد المحدَثُ من هذا السماع، ويكثر الحدَثُ فيه، ويزداد التغليظُ من أهل الإنكار، حتى آل الأمر إلى أنواع من التفرق والاختلاف والمعاداة. ومن ثبَّته الله بالقول الثابت أعطى كلَّ ذي حق حقَّه، وحفظَ حدودَ الله فلم يَعتدِها، ومن يتعدَّ (¬1) حدودَ الله فقد ظلم نفسه. وحصلت الزيادةُ في جميع أنواع البدع، وازدادت على الأيام تغليظًا، فإنَّ أصل سماع القصائد كان تلحينًا بإنشاد قصائد مُرقِّقة للقلوب، تتضمن تحريكَ المحبة والشوق والخشية والحزن والأسف وغير ذلك، وكانوا يشترطون له المكان والإمكان والخلَّان، ويشترطون أن يكون المجتمعون لهذا السماع من أهل الطريق المريدين لوجه الله والدار الآخرة، وأن يكون الشعر المسموع خاليًا عما تَحظُر الشريعةُ سماعَه وتكرهه، وبعضهم كان يشترط أن يكون القوَّال منهم، وبعضهم يشترط كون الذي أنشأ القصيدة من أهل الطريق، إلى غير ذلك من الشروط والأوضاع التي احترزوا بها من مُفسِدات السماع. ولكن لما كان الأصل غيرَ مشروعٍ آل الأمرُ إلى ما آل إليه من الفساد الذي لا يعلمه إلا الله، لأنَّه من عند غير الله، فليس عليه حارسٌ وحافظ من الله، بل هو بمدرجة كل سالكٍ في الباطل، وهو مجمَعُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولم يتعد".

المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السَّبُع وما ذُبِح على النُّصُب. ثمّ إنهَّم أضافوا إلى هذا الصوت ما يُنفِّذه ويُوصِله إلى شَغَاف القلب، من الآلات التي أخفُّها التغبير، وهو ضربٌ بقضيب على جلد أو مخدَّةٍ على توقيع خاص، فعظُمَ إنكارُ الأئمة لذلك كالشافعي وأحمد، فقال الشافعي: "هو من إحداث الزنادقة"، وقال أحمد: "بدعة". ثمّ لم يقتصروا على هذه الحركة، فتعدَّوها إلى حركة الدُّفوف، وهي أقبح من حركة التغبير، وفيها ما فيها، وزيادة التشبه بالنساء، فإنَّ الدفّ في الأصل إنما هو للنساء عادة ورخصة، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبّهين من الرجال بالنساء (¬1). ثمّ لم يقتصروا على هذه الحركة حتى تعدَّوها إلى حركات الأوتار والعِيْدان، التي هي في الأصل من إحداث الفلاسفة أعداء الرسل، ثمّ ضمُّوا إلى ذلك حركة الرقص، التي سببها استخفاف الشيطان لأحدهم، وركوبه على كتفه، ودقُّه برجليه في صدره، وكلما دقَّه برجليه ورقَص على صدره رقصَ هو كرقص الشيطان عليه، وقد شاهد ذلك بعض أهل البصائر عيانًا، ثمّ ضمُّوا إلى صوت الغناء صوتَ اليَراع والشبابة وغيرها. فاقتضت هذه الهيئة الاجتماعية حركةً باطنة، فإنَّ استماعَ الأصوات المطربة يُثير حركةَ النفس بحسب تلك الأصوات، ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس.

وللأصوات طبائع متنوعة بتنوع آثارها في النفس، وكذلك للكلام المسموع نظمه ونثره، فيجمعون بين الصوت المناسب والحرف المناسب، فيتولد من بينهما حركاتٌ نفسية تُثِير كامنَها وتُزعِج قاطنَها، وهذا أمر يشترك فيه بنو آدم من المؤمنين والكفار والأبرار والفجار، ويُثير من قلب كل أحدٍ ما فيه. ومعلوم أنَّ النفوس فيها الشهوات كامنة، ولكنها مقهورة مقيَّدةٌ لا بقيود الأوامر، فإذا صادفها السماع أحياها وأطلقها من قيودها، وافْتكَّها من أَسْرها، وأجلب عليها بكل مُعِين ومُمِدّ. وهذا أمر لا ينكره إلا أحد رجلين: إما غليظ كثيف الحجاب، وإما مكابر. فمضرة هذا السماع على النفوس أعظم من مضرَّة حُمَيّا الكُؤوس. ولما كانت المفسدة فيه ظاهرة معلومة، أخرجه أهلُه في قالَبٍ يُلطِّف ما فيه من المنكر، فجمعوا عليه أخلاطًا من الناس، وقالوا: إنَّ هذا الاجتماع شبكةٌ نصطاد بها النفوسَ إلى التوبة، ونسوقُها بها إلى الله والدار الآخرة. ونعم واللهِ هو شبكة وأيُّ شبكة! يصطاد بها الشيطانُ النفوسَ المُبطِلة إلى ما هو أعظم من المعاصي الظاهرة، ويقودها بها إلى الغيّ والهوى، فلهذا نصَبه (¬1) هؤلاء الفسَّاق من المخانيث والزُّناة وعُشّاق الصور، فجعلوه شبكة لهم لصيدِ الأَغْيَد والغَيْداء والغَزَالِ والغزالة، ووضعوه على ما يليق بمقاصدهم من الأوضاع، فشرطوا أن يكون المغنِّي أمردَ جميلا، تدعو صورتُه وصوته وشكله ودَلُّه وحركاتُه إلى تعلق القلوب به وعشقه، فإن فاتَ فامرأةٌ كذلك، وإذا جمعَ السماعُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "نسبه".

العاشقَ والمعشوقَ، وتقابلَا وتعانَقَا في الرقص: فظُنَّ شرًّا ولا تسألْ عن الخبرِ (¬1) وإذا حضر المُردان الحِسان هذا السماعَ فهو عندهم الغاية (¬2)، ولاسيما إذا ألبسوهم المُصبغاتِ، وزيَّنوهم كما تُزيَّن العرائسُ، وأخلَوا لهم طابق (¬3) الرقص، ودار حولهم العشّاق والفسَّاق كالهالة حول القمر، وأداروا عليهم من الأعين النِّطاق، فللشيطان لا للهِ كم من زَعْقةٍ وصَرْخةٍ وزَفْرةٍ وأنَّةٍ وحَسْرة ووَجْدٍ وأسفٍ وحزنٍ، وكم من قلوبٍ تُشقَّق قبل الجيوب، وعبراتٍ تُسكَب في غير رضا علام الغيوب، فيا لها حضرةً ما أحبَّها إلى الشيطان! وما أبغضَها إلى الرحمن! ويتزايد الأمر حتى يُغنُّوا بأشعارٍ طالما عُصِيَ الله بها في الأرض، من أشعار الفسّاق والفجّار، المتضمنة لتهييجِ النفوس على ما يُبغِضه الله ويَمقُت عليه، ومدْح ما حرَّمه ولعنَ فاعله، والابتهاجِ به، والافتخارِ بنيله، والتَبجُّح بالوصول إليه. وربما تعدَّوا ذلك إلى الغناء بالأشعار الكفرية التي تُحادُّ ما أنزل الله، كأشعار أهل الإلحاد من الاتحادية والحلولية، والأشعار المتضمنة لكثير من ألفاظ القرآن، ¬

_ (¬1) تمام البيت لابن المعتز في ديوانه (3/ 49): فكان ما كان مما لستُ أذكره ... فظُنَّ خيرّا. . . . . (¬2) في الأصل: "الثايغة". (¬3) في الأصل "طايق". والمثبت كما في "الاستقامة" (1/ 307) و"مجموع الفتاوى" (11/ 599).

كقوله: قمتُ ليلَ الصُّدودِ إلا قليلا ... ثمّ رتَّلتُ ذِكرَكم ترتيلَا إلى أن يقول: قل لِرَاقِي الجفونِ إنَّ لجَفْنِي ... في بحارِ الدُّموع سَبْحًا طَوِيلا (¬1) ومرَّ في السورة يستعرضها هكذا إلى آخرها. وهذا فِعلُ من لا يرجو لله تعالى ولا لكتابه وقارًا، بل قد سقطتْ حرمة القرآن والدين من قلبه، وكثيرًا ما يُغنّون بأبيات تتضمن اعتقادَ الكفار، وقد لا يدري المغني ولا السامعون، بل قد يُغنّون بما لا يستجيزه الكفار من أهل الكتاب، ولولا الإطالة لذكرنا من أشعارهم هذه كثيرًا. وزادوا أيضًا في آلات اللهو، حتى تعدَّوا إلى آلات اليهود والنصارى والمجوس والصابئة على اختلاف أنواعها، وعظُمت البليةُ، واشتدّت بذلك الفتنة، حتى ربا فيها الصغيرُ وهَرِمَ فيها الكبير، واتخذوا ذلك دَيْدَنًا ودينًا، وجعلوه من الوظائف الراتبة بالغدو والآصال، وفي الأماكن والأوقات الفاضلات، واعتاضوا به عن سماع الآيات وعن إقامة الصلوات، ووقعوا تحت قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59]، وتحت قوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، فإنَّ "المكاء" هو الصفير وتوابعه من الغناء، و"التصدية" التصفيق بالأيدي وتوابعه. فإذا كان ¬

_ (¬1) الأبيات لابن النبيه في ديوانه و"معاهد التنصيص" (4/ 145).

السماع المحدث دائر بين الكفر والفسوق والعصيان

هذا سماعَ المشركين الذي ذمه الله في كتابه، فكيف إذا اقترن بالمكاء المواصيلُ والشباباتُ، وبالتصديةِ الدفوفُ المصلصلاتُ، والرقصُ والتكسُّر والتثنِّي بالحركات الموزونات؟ فكأنَّ القوم إنما حلَّ لهم المكاء والتصدية لما انضمَّت إليه هذه المؤكدات، فهناك ذهب حرامه وبقي حلاله، وزال نقصُه وخلَفَه كمالُه. ثمّ يتفاقم أمره إلى أن يشتمل على ما يتضمن الكفر بالرحمن، والاستهزاء بالقرآن، والطعن في أهل الإيمان، والاستخفاف بالأنبياء والمرسلين، والتحضيض على جهاد المؤمنين، ومعاونة الكفار والمنافقين، واتخاذ المخلوق إلهًا من دون رب العالمين، وجعل ذلك من أفضل أحوال العارفين. ويفعلون في هذا السماع ما لا يفعله اليهود ولا النصارى ولا الصابئة ولا المجوس. فصار السماع المحدث دائرًا بين الكفر والفسوق والعصيان، ولا حول ولا قوة إلّا بالله، وكفره من أعظم الكفر وأشدِّه، وفسوقه من أعظم الفسوق وأبلغه، فإنَّ تأثيره في النفوس من أعظم التأثير يُغذّيها ويُغنيها، ولذلك سُمِّي غناءً، ويُوجب للنفوس أحوالًا عجيبة يظن أصحابها أنها من جنس كرامات الأولياء، وإنما هي من الأمور الطبيعية المُبعِدة عن الله، والشيطان يُمِدُّ أصحابهَا في هذا السماع بأنواع الإمداد، كما قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202]، وقال للشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] وصار في أهل هذا السماع المحدَث الذين اتخذوا دينهم لهوًا

قواعد المحرمات الأربع في القرآن، واشتمال السماع عليها

ولعبًا، ضدَّ ما أحبه الله وشرعه من دينه الحق، الذي بعثَ به رسله وأنزل به كتبه، من عامة الوجوه. إذ صار مشتملًا على أكثر ما حرَّمه الله ورسوله، فإنَّ الله تعالى قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]، فاشتمل هذا السماع على هذه الأمور الأربعة التي هي قواعد المحرمات، فإنَّ فيه من الفواحشِ الظاهرة والباطنة والإعانة على أسبابها، والإثمِ والبغي بغير الحق، والشركِ بالله ما لم يُنزِّلْ به سلطانًا، والقولِ على الله بغير علمٍ = ما الله به عليم، فإنَّه تنوعَ وتعددَتْ طرقه، وتفرق أهله فيه وصاروا شيعًا، لكل قوم ذوقٌ ومشربٌ وطريق يُفارِقون به غيرهم، حتى في الأشعار والألحان والحركات والأذواق، وصار من فيه من العلم والإيمان ما ينهاه عما فيه من أنواع الكفر والفسوق والعصيان، يريد أن يَحُدَّ له حدًّا يَفصِل فيه بين ما يَسُوغ منه وما لا يسوغ، فلا يكاد ينضبط، حتى إنَّ منهم مَن شرطَ شروطًا تتعذرُ ويندُر وجودها، حتى إنَّه اجتمع مرة ببغداد في حال عمارتها ووجود الخلافة بها أعيانُ الشيوخ الذين يحضرون السماع المصُونَ، فلم يجدوا من يصلح له إلا ثلاثةُ نفرٍ أو أربعة. وسبب هذا أنَّه ليس من عند الله، فوقع فيه الاضطراب والاختلاف، وصار أهله من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيَعًا، كل حزبٍ بما لديهم فرحون. ثمّ المصيبة العظمى والداهية الكبرى أنَّه -مع اشتماله على

المحرمات كلها أو أكثرها أو بعضها- يَرون أنَّه من أعظم القُرُبات وأجلِّها قدرًا، وأنَّ أهلها هم صفوة أولياء الله وخِيَرته من خلقه، ولا يَرضَون بمساواة السابقين الأولين من سلف الأمة وأئمتها حتى يتفضَّلوا عليهم، وفي غُلاتِهم وزنادقتهم من يُساوون أنفسَهم بالأنبياء والمرسلين، وفيهم من يُفضِّل نفسَه عليهم، إلى غير ذلك من أنواع الكفر. وجماع الأمر أنه صار فيه وفيما يَتْبَعه في وسائله ومقاصده وصفته ونتيجته، شَبَهٌ مما في السماع الشرعي وما يَتْبَعه في ذلك، فاشتبه الأمر والتبس الحق بالباطل، ونفوسُ أهله غالبًا لا تمييزَ لها ولذا أكثر أهله أهل الجهل وضعفاء العقول، ممن قلَّ نصيبه من العلم والإيمان، وأجدبَ قلبُه من حقائق القرآن، كالنساء والصبيان وأهل البوادي وجَهَلة الأعراب، ولهذا كان أهله إذا عَقَدُوه يَنزِل عليهم المقْتُ، وحَفَّتْ بهم الشياطين، وغَشِيَتْهم السخطةُ، وذكرهم إبليسُ فيمن عنده. وأهل السماع الإيماني القرآني، إذا حضروه تنزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمة، وحفَّتْ بهم الملائكةُ، وذكرهم الله فيمن عنده (¬1)، فتَقْذِفُ الملائكة في قلوب أهل هذا السماع ما يزدادون به علمًا وإيمانًا، وفي قلوب أهل ذلك السماع ما يزدادون به نفاقًا وعصيانًا، حتى إن آثارَ الشياطين لتُوجَد على أهل هذا السماع، يراها كل صاحب بصيرةٍ في صفحات وجوههم، ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (2700) عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.

المفاسد التي تقترن بالسماع

وفَلتاتِ ألسنتهم وحركاتهم وأحوالهم، حتى إن كثيرًا منهم ليَصْعَق كما يَصعَق المصروع، ويُزبِد كما يُزبِد المصروع، ويجري على لسانه من الكلام ما لا يُفهَم معناه ولا هو بلُغَته كما يجري للمصروعين، كما وُجِد ذلك في أقوام كانوا يتكلمون في سماعهم بلغات التتار الكفار، وذلك لتنزُّلِ شياطينِهم عليهم، وتَكلُّمِهم على ألسنتهم، وهم يظنون أنهم بذلك من أولياء الله، وإنما هم أولياء الشيطان وحزبُه، ولهذا يفعلونه على الوجه الذي يحبه الشيطان ويكرهه الرحمن. وذلك من وجوه: أحدها: أن العبادات الشرعية مثل الصلاة والصيام والاعتكاف والحج، قد شُرِع فيها من مجانبة مباشرة النساء المباحة في غيرها ما هو من كمالها وتمامها، وأعظم ذلك الحج، فليس من محرمٍ يباشر فيه النساء، ولا ينظر إليهن لشهوة، والمعتكف قريب منه، والصائم دونه، والمصلي لا يُصَافُّ المرأة بل تتأخر عنه، بل مرورها بين يديه داخلَ السترة يَقطَع صلاتَه بالنص (¬1)، ومسُّ المرأة لشهوةٍ ينقض الطهارة عند الجمهور، ومطلقًا عند الشافعي. فإذا كان هذا في النظر والمباشرة المباح في غير حال العبادة، نهى الله عنه حالَ العبادة لمنافاته لها، فكيف بالنظر إلى الصور المحرمة من الرجال والنساء؟ والاستمتاع بأصواتهن إذا كانوا هم المغنين؟ ولا يتم واجب السماع عند القوم إلا بذلك، وإلا كان سَمِجًا باردًا، فحضور الشاهد في السماع من باب ما لا يتمُّ الواجب إلا به عندهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (511) عن أبي هريرة، وفي الباب أحاديث أخرى.

وقد كان بعضهم يصلي بالليل وقد أوقد شمعةً على وجهِ أمردَ مليحٍ جميلِ الصورة، يَسْتَجلي محاسنَه في الصلاة، ويجد في قلبه من الباعثِ على الصلاة والسَّهَرِ في العبادة أمرًا عجيبًا، ويَعُدُّ ذلك من عباداته وقُرُباتِه. ولا ريب أن النفس تتحرك عند رؤية الصورة الحسنة وسماع الصوت الحسن ما لا تتحرك لغيرهما، فالأحوال والهمة التي يُثيرها سماعُ الألحان بمنزلة الأحوال والهمة التي يُثيرها استجلاءُ محاسن الصور سواء، وللشيطان بَراطيلُ ومَداخلُ، فيُلقِي في قلب الرجل أنك لا تَنظُر للفسق، ولا تسمع لِلَّهو، وإنما تنظر للعبرة، وتتذكر ما أعدَّ الله لعباده وأوليائه عند لقائه من الصور المستحسنات. فاستدل بالشاهد على الغائب، وعلى الباقي بالفاني، ألا ترى إلى قول القائل فيمن يحبه: فإذا رآك العابِدونَ تيقَّنُوا ... حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ (¬1) ويقول له: إنما تسمع أيضًا للفكرة والعبرة، وتأخذ من السماع ما لا يأخذ غيرك. وأخبرني غير واحد ممن يجد من حاله وقلبه وهمَّته عند هذا السماع وعند رؤية الصور الجميلة ما لا يجده في غيره، فحركة القلب عند السماع كحركته عند رؤية الصور التي أمر الله أن يغضَّ بصره عنها، فهل يقول عارف باللهِ وأَمْرِه أن هذه الحركة بالله ولله؟ كلّا والله، إن هي ¬

_ (¬1) البيت لأبي إسحاق الصابي في يتيمة الدهر (2/ 259). وسبق مع بيت آخر.

خلو العبادات من ملابسة الصور والتعلق بها

إلا بالنفس وللشيطان، وغايتُها أن تكون حركةً ممزوجةً مركبةً مما لله وللنفس والشيطان، هذا أعلى مراتبها. والذي يَكشِفُ لك قِناعَ هذه المخبَّأَة ويُسْفِرُ لك عن وجهها: أنك تجد كثيرًا ممن يُعاني الأعمالَ الشاقَّة، إذا تعلق قلبه بصورة جميلة، أو سمع صوتًا حسنًا ازداد حرصُه وقوته وهمته على ما يُعانيه من الأعمال، وحَمل منه ما لا يَحمِله الخليُّ، واستلذَّ سهَرَ الليالي وركوبَ الأهوال، فإن الحب يُطيِّر، والرجاء يُسيِّر، فتُصادف تلك الصورة والصوت من قلبه حبًّا كامنًا لما هو بصدده، فيُزْعِجه ويُثيره حتى تَطوَّعَ له نفسُه ببذل ما لا تَطوَّع من غيره، فيُصادف سماعُ الأصوات المطربة ورؤيةُ الصور الجميلة من قلب المريد نوعَ محبةٍ لله والدار الآخرة، فيُثيرها ويُزعِجها، لكن يَقْلِبها نفسانيةً، ويَدخُل نصيبُ الشيطان وحظُّ النفس فيزاحمها، وتَشتبِكُ إحدى المحبتين بالأخرى وتلتبس بها. وأكثر المريدين حظُّهم ناقص من العلم والتمييز، ويجد أحدهم للمحبة وجدًا وذوقًا، وليس له تمييز بين صحيحها وسقيمها، ولا يجد (¬1) عند من يلومه ويَعذِله شيئًا من المحبة والذوق والأنس الذي وجده، فيشتد نِفارُه منه، ولا يُصغِي إليه، ولا يُعرِّجُ عليه. فصل وأنت إذا تأملتَ العباداتِ من الصلاة والحج والاعتكاف والصيام والوضوء، رأيتَ شأنَ الصور المباحة منافيًا لها غايةَ المنافاة. فالحج ¬

_ (¬1) في الأصل: "ولا يجد له".

مُنِعَ المحرِمُ فيه من النكاح والمباشرة والوطء والأسباب الداعية إليه، وفسدَ حجُّه ببعض ذلك، وكذلك الاعتكاف نُهِيَ فيه عن مباشرة الحلال من الصور، والصيام دون ذلك، وفي الصلاة مُنعت المرأة أن تؤمَّ الرجال، وأن تُسمِعَهم صوتَها بالتسبيح عندما يَنُوب في الصلاة، وأن تَقِفَ في صفهم، بل تتأخر عن صفوف الرجال، وجُعِلَ مرورُها بين يدي المصلي قاطعًا لصلاته، ومسُّها بشهوةٍ مُبطِلًا لوضوئه عند الجمهور، وعند الشافعي مبطلٌ للوضوء مطلقًا. كل هذا لتخلو العباداتُ من ملابسة الصور والتعلق بها، ويصير تعلق القلب كله بالله وحده، فبدَّل الذين ظلموا دينًا غير الذي شُرِع لهم، وجعلوا حضورَ الشاهد المليح والأصوات المطربة المهيِّجة على عشق الصور قربةً تُقرِّبهم بزعمهم إلى الله، وتُدنِيهم من رضاه، وهذا من أعظم تبديل الدين ومتابعة الشيطان. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحَه يحكي (¬1) عن بعض الملوك، أنه قال لشيخ رآه قد عمل مثل هذا السماع، وأحضر فيه من الصور الجميلة والأصوات المطربة ما أحضره: يا شيخ! إن [كان] هذا طريقَ الجنة فأين طريق النار؟ وحكى لي شخص آخر [أنَّ] مُغنِّيًا عزمَ على التوبة، فقيل له: عليك بصحبة الفقراء، فإنهم يعملون على حصول الآخرة والزهد في الدنيا، ¬

_ (¬1) انظر "الاستقامة" (1/ 317).

الثاني: التطريب بالآلات الملهية

فصحبهم، فصاروا يستعملونه في السماع، ولا تكاد التوبة تنتهي إليه لتزاحمهم عليه، فترك صحبتهم، وقال: أنا كنتُ عمري تائبًا ولا أدري! الوجه الثاني: أن التطريب بالآلات المُلهِية محرَّمٌ في السماع الذي يحبه الله ورسوله وهو سماع القرآن، فكيف يكون قربةً في السماع الذي لم يشرعه، بل ذمَّه وذمَّ أهله؟ وهل يصحُّ في عقل أو فطرةٍ مذمومٌ عند الله ينضمُّ إلى مذموم آخر فيصير المجموع محبوبًا مرضيًّا؟ فهذه الآفات ونحوها التي في السماع أعظم من آفات الكبائر الظاهرة، والله المستعان. الوجه الثالث: كثرة إيقاد النيران بالشموع وغيرها، المفرِّق للقلوب القاطع لها عن جمعيتها على الله، حتى لو كان في الصلاة لفرَّق القلبَ وشَتَّتَه. الوجه الرابع: التنوع في المطاعم والمشارب والمسموعات (¬1) على اختلاف أنواعها، وليس هذا شأنَ أرباب العبادات، وإنما هو شأن أصحاب الشهوات. الخامس: ما يقارنه من الرقص والتكسُّر والتخنيث الذي هو سِمة النساء، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء (¬2). السادس: ما يُقارنه من آلات اللهو والمعازف، وقد ثبت في صحيح البخاري (¬3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون في هذه الأمة قوم ¬

_ (¬1) في الأصل: "المسمومات" تحريف. (¬2) أخرجه البخاري (5885) عن ابن عباس. (¬3) رقم (5590).

السابع: ما يقارنه من عشراء السوء وخلطاء الشر الذين يضيعون الصلوات ويتبعون الشهوات

يَستحلُّون الخمرَ والحريرَ والمعازف"، فجعل استحلال المعازف بمنزلة استحلال الخمر ولبس الحرير، والمعازفُ آلات اللهو كلها من الشبّابة والطُّنبور والعُود ونحوها. السابع: ما يُقارنه من عُشَراء السوء وخُلَطاء الشر الذين يُضِيْعون الصلوات، ويتبعون الشهوات، فزَبُون هذه السِّلعة وفرسان هذا الميدان كلُّ بطّالٍ وباطولٍ، ليس في قلبه محبة الله وخشيته والاستعداد للقائه، بل ولا معرفته ومعرفة دينه، بل زَبونُه وفرسانه كلُّ عاشقٍ ومعشوق، ومن قلبه هائمٌ في أودية اللهو واللعب، وهمَّته عاكفةٌ على محبة المليح والمليحة. الثامن: ما يقارنه من حركات النفوس المختلفة، والأصوات المنكرة، والحركات العظيمة التي لا يُمكن ردُّها ودفعها بعد قيام موجبها التام، كما لا يمكن دفعُ السُّكْر عن النفس بعد تعاطي أسبابه. التاسع: أنه مُضادٌّ لمقصود الصلاة وذكر الله، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والسماع يأمر بالفحشاء والمنكر، ومَن أنكر ذلك بلسانه فقلبه أعلم. وأهل هذا السماع يعلمون من نفوسهم من الفحشاء والمنكر ما يعلمونه، ولهذا يتقاضى من كل أحد من الفواحش بحسب استعداده، فيتقاضى من بعض هؤلاء صحبةَ الأحداث الحِسان الصور ومشاهدتهَم ومعاشرتهَم، وتمتلئ قلوبهم من عشقهم وتألُّههم، ويُبرطِلُهم إبليسُ بالعفة عن الفجور بهم، وقد ظَفِرَ منهم بما هو أحبُّ إليه من فجورهم بهم بكثير، فإنه قد جعلهم تماثيل بين القلب وبين الله،

الرد على من يقول: أنا لا أنظر لشهوة بل لعبرة

فهم لها عاكفون بقلوبهم. وصاحب الفجور الذي قد قضى شهوته، وفرغ قلبه، ولم يجعل تلك الصورة تمثالًا بين قلبه وبين الله، أحسنُ حالًا منهم. فليتدبر اللبيب هذه اللطيفة، وليصرخْ إلى مقلِّب القلوب ومصرِّفها أن يُثبِّت قلبَه على دينه، وُيصرِّفه على طاعته. وقد ثبت في الصحيح (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العينانِ تزنيان وزناهما النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرِجْل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ويشتهي، والفرج يُصدِّق ذلك أو يُكذِّبه". فجعل لكل عضو من هذه الأعضاء زِنًا يخصُّه، فكيف يتقرب إلى الله بزنا العين؟ وإن قال الناظر: أنا لا أنظر لشهوة بل لعبرة. قيل له: فلِمَ نهاك الله عن النظر، وأمرك بغضِّ البصر؟ وقيل له: أمّا ما دامت النفس حيةً، والشيطان موجودًا، والطباع على حالها، فكلَّا. وقيل له: صاحبُ الشرع أعلمُ بأحكام هذا النظر منك، حيث يقول: "لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى، وليست لك الأخرى" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6243) ومسلم (2657) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 351 - 352، 357) وأبو داود (2149) والترمذي (2777) وقال: حسن غريب، والحاكم في "المستدرك" (2/ 194) وصححه على شرط =

وقيل له: الشيء متى كان في نفسه مفسدةً، أو داعيةً إلى المفسدة، فإن الشارع يُحرِّمه مطلقًا حكمةً منه وصيانةً وشفقةً وحِمْيةً. وقيل له: كم قد هلك قبلك من هالكٍ بهذا الظن الفاسد، ظن أنه ينظر عبرة، فأوقعه نظره في أعظمِ الحسرة، كما قيل (¬1): وأنا الذي جَلَبَ المنيةَ طَرْفُه ... فمَن المطالَبُ والقَتِيل القَاتلُ وقال آخر (¬2): وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَك رائدًا ... لقلبِك يومًا أَتعبتْك المناظرُ رأيتَ الذي لا كلُّه أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عن بعضِه أنتَ صابرُ قلت: ولي من قصيدة (¬3): يا مُرسِلًا لسهام اللَّحْظِ مجتهدًا ... أنتَ القتيلُ بما تَرمِيْ فلا تُصِبِ أرسلتَ طرفَك ترتادُ الشِّفاءَ فما ... وافىَ رسولُك إلا رائدَ العَطبِ ¬

_ = مسلم والبيهقي في "السنن" (7/ 90) عن بريدة. وفي إسناده شريك النخعي وهو سيء الحفظ. والحديث حسن، لوروده من طريق آخر، أخرجه أحمد (1/ 159) والدارمي (2709) وابن حبان (5570) والحاكم (3/ 123) عن علي. (¬1) البيت للمتنبي في ديوانه (3/ 367). وانظر "روضة المحبين" (ص 156). (¬2) البيتان في حماسة أبي تمام (2/ 15) و"عيون الأخبار" (4/ 22) بلا نسبة. وانظر روضة المحبين (ص 154، 328). وفي الأصل: "أبعتك المناظر" تحريف. (¬3) انظرها في "بدائع الفوائد" (2/ 818 - 819) والفوائد (ص 107 - 109)، والبيتان في روضة المحبين (ص 154).

سرعة تأثير الصوت والصورة في النفوس الضعيفة

ولاسيما النفوسُ التي فيها رقةٌ ولطافة ورياضة، فإن الصوت والصورة أسرعُ تأثيرًا فيها من النار في يابس الحطَب، حتى إنها لتتقوَّتُ بذلك أحيانًا. وبهذا رضيَ الشيطانُ من هذه الطائفة، فإنه (¬1) لم يُبالِ بعدَ أن أوقعهم فيما يُفسِد قلوبهَم وأسماعَهم وأبصارهم، أن لا يَشْغَلَهم بجمع الأموال وطلب الجاه والولايات، فإن فتنة أحدهم بذلك أعظمُ من فتنته بهذه الأمور، فإن جنس هذه الأمور مباح، وقد يُستعان بها على طاعة الله، وأمّا ما شَغَلَ به هؤلاءِ نفوسَهم، فإنه دينٌ فاسد منهيٌّ عنه، مضرته راجحة على منفعته. ولو لم يكن في هذا السماع من المفسدة إلا تشبُّه الرجال بالنساء، فإن الغناء في الأصل إنما جُعِل للنساء، ولذلك ما شُرِع منه في الأعراس والأعياد إنما شرع للنساء والجواري والصغار والولدان الحديثي الأسنان، فإذا تشبَّه بهم الرجل كان مخنَّثًا، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المخنثين من الرجال (¬2). وكذلك من يحضرون في السماع من الشاهد فيهم من التخنيث بقدر ما تشبَّهوا به من أمر النساء، وعليهم من اللعنة بقدر نصيبهم من ذلك التشبه. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراج المخنثين ونَفْيهم، وقال: "أخرِجُوهم من بيوتكم" (¬3)، فكيف بمَن يُقرِّبهم ويُعظِّمهم ويتعبد قلبه بهم، ويجعلهم طواغيتَ يُعظَّمون بالباطل الذي ¬

_ (¬1) في الأصل: "فإن". (¬2) أخرجه البخاري (5886، 6834) عن ابن عباس. (¬3) ضمن الحديث السابق.

تعظيم المغنين والمغنيات يعرض لغضب الله ومقته

حرَّمه الله ورسوله، وأمر بعقوبة أهله وإذلالهم؟ وهل هذا إلا مضادَّةٌ لله في أمره! وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حالتْ شفاعتُه دون حدّ من حدود الله، فقد ضَادَّ اللهَ في أمره" (¬1). فإذا كان هذا في الشفاعة بالكلام، فكيف بمَن يُعظِّم المعتدين لحدود الله ويُعِينهم في ذلك ويجعله دينًا؟ لاسيما إذا كان التعظيم بما هو من جنس الفواحش، فإن مَن يُعظِّم القيناتِ المغنيات والمغنّين ويجعل لهم نوعَ رئاسة وعزّ لأجل ما يستمتع به منهن من الغناء وغيره، فقد تعرض من غضب الله ومَقْتِه وسَلْبِ نِعَمِه عنه إلى أمر عظيم. وللهِ كم زالت بهؤلاء نعمة عمَن أنعم الله عليه فما رعاها حقَّ رعايتها، وقد شاهد الناس من ذلك ما يطول وصفه، وما امتلأت دار من أصوات هؤلاء وألحانهم وأصوات معازفهم ورَهَجِهم، إلا وأعقب ذلك من حزن أهلها ونكبتهم وحلولِ المصائب بساحتهم ما لا يفي بذلك السرور من غير إبطاء، وسَلِ الوجودَ يُنبِئْك عن حوادثه، والعاقل مَن اعتبر بغيره. الوجه العاشر: أن رفع الأصوات بالذكر المشروع مكروه، إلا حيث جاءت به السنّة، كالأذان والتلبية، وفي الصحيح (¬2) عن أبي موسى قال: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 70) وأبو داود (3597) والبيهقي في السنن (6/ 82 و 8/ 332) عن ابن عمر. وصححه الحاكم (2/ 27)، ووافقه الذهبي. وروي موقوفا، وهو أصح. انظر: علل ابن أبي حاتم (2/ 183) وعلل الدارقطني (13/ 108). (¬2) البخاري (2992، 6610) ومسلم (2704).

العاشر: رفع الصوت بالغناء

كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنا إذا علونا ارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: "يا أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تَدْعُون أصمَّ ولا غائبا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقربُ إلى أحدكم من عُنُقِ راحلته". وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]. وقال الحسن البصري: "رفع الصوت بالدعاء بدعة" (¬1). ونص عليه الإمام أحمد وغيره. وقال قيس بن عُبَاد من كبار التابعين: "كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند الجنائز وعند القتال" (¬2). وهذه المواطن الثلاثة تطلب فيها النفوسُ الحركةَ الشديدة: عند الذكر والدعاء لما فيه من الحلاوة ومحبة ذكر الله ودعائه، وعند الجنائز بالحزن والبكاء، وعند القتال بالغضب والحميَّة. ومضرةُ رفع الصوت بذلك أعظم من منفعته، بل قد يكون ضررًا محضًا، وإن كانت النفس تشتفي به، وتبرَّأ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصالقة (¬3)، وهي التي ترفع صوتها بالمصيبة، فكيف بالمغنية التي ترفع صوتها بالغناء! ¬

_ (¬1) أخرجه عنه ابن المبارك في الزهد (140) والطبري في تفسيره (10/ 247، 248) بلفظ: "كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما سُمِع لهم صوت". (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (12/ 462). (¬3) أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري.

وأمّا القتال فالسنّة فيه أيضًا خفض الصوت، وأمّا هذه الدبادب (¬1) والأبواق والطُّبول فإنها لم تكن على عهد الخلفاء الراشدين ولا من بعدهم من أمْرِ المسلمين، وإنما حدثت من جهة بعض ملوك المشرق من أهل فارس، وانتشرت في الأرض، وتداولها الملوك، حتى رَبَا فيها الصغيرُ وهرِمَ الكبيرُ، لا يعرفون غير ذلك، وينكرون على مَن ينكره. ويزعمُ بعض الجهال أن هذا من إحداث عثمان، وليس الأمر كذلك، بل ولا مِن فعْل مَن بعده من الخلفاء، وإنما ورثتْه الأمةُ من الأعاجم، ولم يكن منه بدٌّ تحقيقًا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتأخذَنَّ أمتي مأخذَ الأمم قبلَها شبرًا بشِبْر وذراعًا بذراع"، قالوا: فارس والروم؟ قال: "ومَنِ الناسُ إلا هؤلاء؟ " (¬2). وكما في الحديث الآخر: "لتركبُنَّ سَننَ من كان قبلَكم حذوَ القُذّةِ بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمَن؟ " (¬3). والحديثان في الصحيح. فأخبر أنه لابدَّ من أن يكون في الأمة من يتشبه باليهود والنصارى وبفارس والروم، وظهور هذا الشبه في الطوائف إنما يعرفه من عرف الحقَّ وضدَّه، وعرف الواجب والواقع، وطابقَ بين هذا وهذا، ووازن بين ما عليه الناس اليوم وبين ما كان عليه السلف الصالح. فإذا كان رفع الصوت في مواطن العبادات بالذكر والدعاء الذي يحبه الله ¬

_ (¬1) جمع دبداب، وهو الطبل. وفي الاستقامة (1/ 325): "الدقادق" تحريف. (¬2) أخرجه البخاري (7319) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه البخاري (3456، 7320)، ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري.

الحادي عشر: أنه يأمر بعشق الصور وينهى عن العفة وغض البصر

ويرضاه بدعةً مكروهة لا يتقرب بها إلى الله، فكيف يكون رفعُه بالغناء الذي هو قرآن الشيطان قربةً وطاعة؟ وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - صوتًا فاجرًا أحمق، ونهى عنه (¬1). الوجه الحادي عشر: أنه يأمر بعشق الصور الذي كرهه الله، وينهى عن العفة وغض البصر الذي أمر الله به، فإن الغناء يتضمن التحريضَ على الفسق، وذِكْرَ محاسنِ المعشوق ووصفها، وذِكْرَ طيبِ وصاله وعذاب هَجْره، ولو غنَّى المغَني بأشعار العفة والتخويف من عذاب الله والترغيب في العمل الصالح وذمِّ الفواحش، لاستسمجَه الحاضرون، واستثقلوه وتبرَّموا به، وقالوا: هذا مبتدع مخالف لسنّة الغناء، ونعم هو مخالف لسنّة الفساق. الوجه الثاني عشر: أنه يتضمن من الصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة ما هو معلوم من شأنه، فإنَّ غالبَ زَبونه وفُرسانه لا يُصلُّون، ومَن صلَّى منهم فإنه من الذين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]. ومن صلى منهم لله، فإن صلاته صلاة خَرْجية (¬2) خالية عما ذكرناه من ذوق الصلاة ومواجيدها وحقائقها، لأن قواه انصرفتْ إلى ذوق السماع، وصار شربه ووجده فيه، ولا يجتمع الذوقانِ والوَجْدانِ والحلاوتانِ في قلب واحد أبدًا، بل الأمر كما قيل: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) نسبة إلى الخرج بمعنى الإتاوة أو الضريبة.

فصل: قول صاحب الغناء: حسن الصوت مما أنعم الله به، والصوت الفظيع مما ذمه

سارتْ مُشرِّقةً وسِرْتُ مغرِّبًا ... شتَّانَ بينَ مشرِّقٍ ومُغرِّبِ (¬1) والله يعلم أنَّا لم نتعدَّ وصفَهم، ونعلم أنهم كذلك بالجملة، فمفاسد السماع من جنس مفاسد عشق الصور، وهي أكثر من أن يحصرها العدُّ، وإنما يشهدها القلب الحيُّ، وإلا فَـ ما لجرع بميِّتٍ إيلامُ (¬2) فصل * قال صاحب الغناء (¬3): حسن الصوت مما أنعم الله به على صاحبه من الناس، قال تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر: 1]، قيل في التفسير: إنه الصوت الحسن (¬4). وذم الله تعالى الصوت الفظيع، فقال: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. * قال صاحب القرآن: كون الشيء نعمةً لا يقتضي إباحةَ استعماله فيما شاء المُنْعَم عليه، [بل] فيما أحب المُنْعِم به ورَضِيه،، فذلك شكر هذه النعمة التي يستوجب بها المزيدَ من شكرها، فيقيِّد بالشكرِ موجودَها، ويُحصِّل به مفقودها، فهذه النعمة تقتضي استعمالَ الصوت الحسن في قراءة القرآن، كما كان أبو موسى الأشعري يفعل ذلك، حتى ¬

_ (¬1) البيت بلا نسبة في "البصائر والذخائر" (8/ 178) و"طبقات الشافعية" للسبكي (4/ 228). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 507). (¬4) انظر "تفسير القرطبي" (14/ 320) و"الدر المنثور" (12/ 251).

ذم الصوت الفظيع ليس مطلقا

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع لقراءته وقال: "مررتُ بك البارحةَ وأنت تقرأ، فجعلتُ أستمع لقراءتك"، فقال: لو علمتُ أنك تسمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا. وقال: "لقد أوتي هذا مِزمارًا من مزامير آل داود" (¬1). وأما استعمال النعم في المباح المحض فإنه لا يكون طاعةً، فكيف في المكروه أو المحرم؟ وأيضًا فمن المعلوم أن المال نعمة، والجمال نعمة، والقوة نعمة، فهل يسوغ لأحد أن يقول: كون ذلك نعمةً يقتضي جوازَ استعمالها فيما لم يأذن له فيه ربُّ النعمة؟ وهل الاستدلال بهذا إلا بمنزلة الاستدلال بنعم الله من السلطان والمال والقوة، على ما تتقاضاه الطباع من الظلم والفواحش ونحوها؟ فاستعمال الصوت الحسن في الأغاني، بمنزلة استعمال الصورة الحسنة في الفواحش، واستعمال الجاه والمال في الظلم والعدوان. وأيضًا فإن هذه النعمة يستعملها الكفار والفساق في أنواع من الكفر والفسوق، وأكثر ما يستعملها المؤمنون في الإيمان، فإن استمتاع الكفار والفساق بالأصوات المطربة أكثر من استعمال استمتاع المسلمين، فإن عند المسلمين من وازعِ الإيمان والعوض بالقرآن ما ليس عندهم، فأي حمدٍ لهذه النعم بذلك إن لم يستعمل في طاعة الله؟ وقولك: إن الله ذمَّ الصوت الفظيع، فغلطٌ بيِّن، فإن الله سبحانه لا يذمُّ العبد على ما ليس من كسبه وفعله، كما لا يذمُّه على دَمامتِه وقُبْح (¬2) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) تكررت "وقبح" في الأصل.

شكله، وإنما يذمُّ العبد بأفعاله الاختيارية دون ما لا اختيار له فيه. وإنما ذمَّ سبحانه ما يكون باختيار العبد من رفع الصوت الرفيع المنكر، كما يوجد ذلك في أهل الغِلَظ والجفاء من الفدَّادين والصخَّابين بالأسواق، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الجفاء والغِلَظُ وقسوةُ القلب في الفدَّادين من أهل الوبر" (¬1). وهم الصياحون صياحًا منكرًا. وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ ولا صخَّابٍ في الأسواق" (¬2). وقال تعالى عن لقمان في وصيته لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]، فأمره أن يَغُضَّ من صوته وأن يَقصِدَ في مشيه، كما أمر المؤمنين أن يغضُّوا من أبصارهم، وأصحابُ السماع لا هذا ولا هذا ولا هذا، بل إطلاق البصر ورفع الأصوات والرقص. فصل * قال صاحب الغناء (¬3): استلذاذ القلوب الأصواتَ الطيبة واسترواحُها إليها مما لا يمكن جحوده، فإن الطفل يسكن إلى الصوت الطيب، والجِمال تُقاسِي تعبَ السير ومشقةَ الحمولة فيهونُ عليها بالحُدَاء قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3498) ومسلم (51) عن أبي مسعود. (¬2) أخرجه البخاري (4838) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: في التوراة. . . (¬3) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 507).

قول صاحب الغناء: استلذاذ القلوب الأصوات الطيبة مما لا يمكن إنكاره، وحكاه إسماعيل بن علية عن الشافعي

وحكى إسماعيل بن عُلَية قال: كنت أمشي مع الشافعي وقت الهاجرة، فجُزْنا بموضع يقول فيه قوّالٌ شيئًا، فقال: مِلْ بنا إليه، ثم قال لي: أيُطْرِبك هذا؟ فقلت: لا، فقال: ما لك حسٌّ. *قال صاحب القرآن: لقد كنتَ أيها السماعي غنيًّا أن تستشهد على هذه المسألة بحكاية مكذوبة مختلَقةٍ على الشافعي، يَعلم كذِبَها من له معرفة بالناس وطبقاتهم. والشافعي أخذ عن إسماعيل بن عُلَية، وهو من أكبر شيوخه، وأما ابنه إبراهيم تلميذ عبد الرحمن بن كيسان الأصم فكان الشافعي يذمُّه، ويقول فيه: "أنا مخالفٌ لابن عُلَية في كل شيء، حتى في قول لا إله إلا الله، فإني أقول: لا إله إلا الله الذي كلَّم موسى من وراء حجاب، وهو يقول: لا إله إلا الله الذي خَلق في الهواء كلامًا أسمعَه موسى (¬1). وهذا هو الذي يُذكر له أقوال شاذة في الفقه وأصوله، ويظن من لا علم عنده أنه إسماعيل، وليس الأمر كذلك. فإن أباه إسماعيل من أجلِّ شيوخ الشافعي وأحمد وطبقتهما. ثم لو صحَّت هذه الحكاية لم يكن فيها إلا ما هو مُدرَك بالإحساس، من أنّ الصوت الطيب لذيذ مُطرِب، وهذا أمر يشترك فيه جميع الناس، ليس مما يحتاج أن يستدل فيه بشهادة الشافعي، بل ذِكرُ الشافعي في مثل هذا غضٌّ من منصبه. كما ذكر ابن طاهر عن مالك تلك الحكاية المشهورة (¬2)، ولولا شهرة زهد أحمد وورعه لوضعوا عليه ¬

_ (¬1) انظر "مناقب الشافعي" للبيهقي (1/ 409) و"لسان الميزان" (1/ 35). (¬2) انظر "كتاب السماع" لابن طاهر (ص 66).

كون الصوت الحسن موجبا للذة أمر حسي، لا يحتاج إلى الاستشهاد بمثل هذه الحكاية ولا دليل فيه على إباحة السماع

حكاية في إباحة السماع. وأهل المواجيد والفساق والمبطلون أعلم بهذه المسألة ولذةِ السماع وطِيبهِ من أئمة الدين الذين رفع الله في العالمين أقدارهم وأعلى منازلهم، فما لكم وللاستشهاد بهم في أمرٍ أنتم أعرف به منهم؟ وهلَّا استشهدتم بهم في حكم هذه المسألة ومحلِّها من الشرع كما استشهدنا بكلامهم؟ فإن (¬1) كون الصوت الحسن موجبًا للذة أمر حسي، لكن أي شيء في هذا مما يدل على الأحكام الشرعية من كونه مباحًا أو مكروهًا ومحرمًا أو كون الغناء طاعة وقربة؟ وهل هذا إلا نظير قول القائل: استلذاذُ النفوس للوطءِ أمر لا يمكن جحوده، ولذلك استلذُّوها بالنظر والمطاعم والمشارب والملابس، فأي دليل في هذا لمن هداه الله إلى ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به ويأذن فيه؟ وهل هذا إلا شبهة للإباحية الذين خَلَعُوا رِبْقةَ الشريعة من أعناقهم، القائلين: ما الذي حالَ بين الخليقة وبين رسوم الطبيعة؟ ومن المعلوم أن جميع هذه الأجناس فيها الحلال والحرام والمعروف والمنكر. ثم المناسب لطريقة الزهد والفقر والتصوف الاستدلالُ بذلك على كراهتها والبعد منها، وأن يستدل بكون الشيء لذيذًا مشتهًى على كونه مباينًا لطريق الإرادة والتصوف التي مبناها على الزهد في الحظوظ، وهذه الطريقة وإن لم تكن صحيحة في الشرع فهي أقرب إلى طريقتكم وأصولكم من الاستدلال بها على الإباحة والقربة، وكلا الاستدلالين ¬

_ (¬1) في الأصل: "في".

العمل لا يمدح أو يذم بمجرد اشتماله على اللذة وعدمها

باطل، فكون الشيء لذيذًا أو مشتهًى أو مما تستروح إليه النفوس لا يدل على كونه حلالًا ولا حرامًا، ولهذا ذمَّ الله من اتبع الشهوات وذمَّ من تقرب إليه بترك ما أباحه منها، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنفر الذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أفتر، وقال الاَخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الاَخر: أما أنا فلا آكل اللحم فقال: "لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكلُ اللحمَ، فمن رَغِبَ عن سنتي فليس مني" (¬1). والعمل لا يُمدح أو يُذَمّ بمجرد اشتماله على اللذة وعدمها، بل إنما يمدح منه ما كان للهِ أطوعَ، ولعامله في الدارين أنفعَ، سواء كان فيه لذة أو مشقة، فكم من لذيذ هو طاعة ومنفعة، وكم من مُشِقّ هو معصية ومضرة وبالعكس. والمناسب أن يُستدل بهذا على تحسين الصوت بالقرآن لا على تحسينه بالغناء، فإن الاستعانة بجنس اللذات على الطاعات والقربات مما جاءت به الشريعة، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البقرة: 172]. وفي الصحيح (¬2): "إن الله ليرضَى عن العبد يأكل الأَكْلةَ يحمده ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5063) ومسلم (1401) عن أنس بن مالك. (¬2) أخرجه مسلم (2734) عن أنس بن مالك.

عليها، ويشرب الشَّربةَ يحمده عليها". فيرضى عمن استعان باللذات على شكره وحمده، ولذلك جعل في مجامعة الرجل لأهله أجرًا وقربةً لاستعانته بهذه اللذة على العفة (¬1)، والله سبحانه خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا وتمامها، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، وهي من نِعَمه علينا، إذ بها بقاء نفوسنا وقوانا، لنستعملها في طاعته ونتقوى بها على مرضاته، وخلق فينا شهوة النكاح ولذته وهي من نعمه علينا، إذ بها تكثير النسل الذي يكون منه من يذكر الله ويعبده، فإذا استعملنا هذه القوة فيما يحبه الله ويرضاه كان ذلك سعادتنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم، وإن استعملناها فيما حرم علينا كنا ظالمين معتدين. والله سبحانه خلق الصوت الحسن، وجعل النفوس تحبُّه وتلتذ به، فإذا استعنّا بذلك على استماع ما أمرنا باستماعه وهو كلامه، وحسَّنَّا أصواتنا بتلاوته كما أمر نبينا، كنا ممن استعمل نِعَمَه في طاعاته، كما كان الصحابة يأمرون أبا موسى أن يُسمِعَهم كلام الله بصوته الطيب الذي استلذَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستمع له، وشهد له بأنه من مزامير آل داود. ففي مثل هذا السماع كانوا يستعملون الصوت الحسن، ويجعلون التذاذهم به عونًا على طاعة الله وعبادته باستماع كتابه، فيثابون على هذا ¬

_ (¬1) كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (1006) عن أبي ذر، وفيه: "وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ".

فصل: أصل غلط أهل السماع أنهم يجعلون الخاص عاما والمقيد مطلقا

الالتذاذ باللذة المأمور بها، كما يُثابون على لذاتها بالأكل والشرب واللباس والنصر والظفر المعينة لهم على طاعته، وكما يُثابون على لذات قلوبهم بالعلم والإيمان، وحلاوته وطيبه ونعيمه، فإنها أعظم اللذات، وحلاوته أصدق الحلاوات، ونفس التذاذه وإن كان متولدًا عن سعيه، وهو في نفسه ثواب سعيه، فهو مُثابٌ عليه أيضا، فإن المؤمن يثاب على عمله وعلى ما يتولد من عمله وعلى ما يلتذ به من ذلك بما هو أعظم لذةً منه، فلا يزال متقلِّبًا في نِعَم ربه وفضله، وهي في نُموٍّ وتولُّدٍ، يُولِد له بعضُها بعضًا كالتجارة والزراعة، فأما أن يُستدل بمجرد التذاذ الإنسان للصوت، أو ميل الطفل إليه، أو استراحة البهائم به، على جوازه واستحبابه في الدين، وأنه قربة إلى رب العالمين، فهذا من الضلال المبين. وإذا كانت الأطفال والبهائم تَستروح بالأكل والشرب، فهل يدل ذلك على حِلِّ كل مأكول ومشروب؟ فصل وأصل غلط هذه الطائفة أنهم يجعلون الخاصَّ عامًّا والمقيد مطلقًا، فيجيئون إلى ألفاظ في كلام الله ورسوله قد أباحتْ أو حَمِدتْ نوعًا من السماع فيُدرِجون فيها سماعَ المكاء والتصدية، ويجيئون إلى المعاني التي دلَّت على الإباحة أو الاستحباب في نوع من الأصوات والسماع، فيجعلونها دالةً على نوع يُضادُّها. وهذا جمعٌ بين ما فرَّق الله ورسوله بينه، بمنزلة من قاس الربا على البيع، والسفاح على النكاح، ونظائر ذلك من الأقيسة الباطلة التي عُبِدَتْ بنظائرها الشمسُ

من أصول الشرك والضلال

والقمر، وجعلَ أربابهُا لله أندادًا سَوَّوهم برب العالمين. وكذلك من عَدَلَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرًا يطيعه في كل ما أمر، أو عدلَ بكلام الله كلامًا آخر أو بشرعِه شرعًا آخر، فهذا كله من أصول الشرك والضلال. وهذا مقامٌ ينبغي لمن نصحَ نفسَه وعَمِلَ لمعاده تدبُّره والتوقفُ فيه، فإنَّه ما بُدِّلتِ الأديانُ في سالف الأزمنة وهَلُمَّ جرًّا إلا بمثل هذه المقاييس، فمن عَمَدَ إلى كلام الله الذي أنزله وأمر باستماعه، فعَدَلَ به سماعَ بعض الأشعار وآثره عليه، وأخذ ذوقَه ومواجيدَه وصلاحَ قلبه منه، فهو ممن اتخذ من دون الله أندادًا يحبهم كحبّ الله، والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله. ويا عجبًا لمن ذاق طعم الإيمان كيف يَعدِلُ بالكلام الذي فَضْله على غيره كفضل الله على خلقه (¬1)، وبالكلام الذي ما تقرَّب العباد إلى الله بأحب إليه منه (¬2)، كلامًا نزَّه الله رسولَه وأولياءه (¬3) عنه، وجعله صلاةً للمشركين وقرآنًا لهم، وقرآنًا لعدوه الشيطان، ورقيةً لمحارمه، ¬

_ (¬1) ورد في حديث أخرجه الترمذي (2926) عن أبي سعيد، وقال: "هذا حديث حسن غريب". وفي إسناده محمد بن الحسن بن أبي يزيد وعطية العوفي، وكلاهما ضعيف. قال أبو حاتم: هذا حديث منكر، ومحمد بن الحسن ليس بالقوي. انظر "العلل" (1738) والسلسلة الضعيفة (1335). (¬2) إشارة إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (5/ 268) والترمذي (2911) عن أبي أمامة. وفيه: "وما تقرَّب العِبادُ إلى الله بمثل ما خرجَ منه". قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك وتركه في آخر أمره. وانظر "السلسلة الضعيفة" (1957). (¬3) في الأصل: "ورسوله وأولياءه ".

استدلال بعض الجهال بكون الجمال نعمة على جواز التمتع بالصور الجميلة

ومادةً للنفاق. وما أحرى هذا أن يكون من الذين يقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]. ونظيرُ هذا سواءً ما وقع فيه طوائف من الجهال ممن ينتسب إلى معرفة وإرادة وزهد، من الاستدلال بكون الجمال نعمةً على جواز التمتع بالصور الجميلة مشاهدةً ومُسارَّةً (¬1) وعشقًا، فهؤلاء في الصور، وأولئك في الأصوات، لكنِ الواقعون في فتنة الصوت منهم من له من العقل والدين والمعرفة ما ليس في الواقعين في فتنة الصور، فإنَّه ليس في أهل الصور رجلٌ مشهور بين الأمة بعلم ودين وسلوك وخير، بخلاف أهل الأصوات، ولكن أهل الأصوات طَرَّقُوا لأهل الصور الطريقَ، ونَهَجُوا لهم السبيلَ، ونَقَطُوا لهم فخطُّوا، وارتادوا لهم المنازلَ فحطُّوا، وطيَّبوا لهم السيرَ فساروا، وجدُّوا بهم إلى مطارح الجمال فطاروا، ودَبْدَبُوا (¬2) لهم فطاب لهم اللعب، وغنَّوا لهم فاستفزَّهم إلى المليح والمليحة الطربُ، ووصفوا لهم سمرَ القدود ووردَ الخدود وتفلُّكَ النهود وسواد العيون وبياض الثغور، ونادَوا: "حيَّ على الوصال" فما وصلُ الحبيب بمحظور، فأجاب القوم مناديَ الهوى إذ نادى بهم بحيَّ على غير الفلاح، وباعوا أنفسَهم بالغَبْن وبذلوها في مرضاةِ الصور الجميلة بذلَ المحبِّ أخي سماح، تاللهِ ما حَمِدُوا عقبى سيرِهم لما حَمِدَ القومُ السُّرى عند الصباح. ¬

_ (¬1) في الأصل: "منشارة". ولعل الصواب ما أثبتُّه. (¬2) أي ضربوا الدبادب والطبول.

ولقد رأيتُ من هؤلاء من يحتجُّ بقوله: "إن الله جميل يحب الجمال" (¬1)، وينسى قوله: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (¬2)، وينسى قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وينسى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غضَّ بصرَه أورثه الله حلاوةً يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه" (¬3)، أو كما قال. ويحتجون بحديث "من عَشِقَ وعفَّ وكتمَ فمات مات شهيدًا" (¬4)، ولم يعلموا أنَّه خبر موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اتُّهِم به النقاش ورُمي لأجله بالعظائم (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (91) عن ابن مسعود. (¬2) أخرجه مسلم (2564) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 314) والقضاعي في "مسند الشهاب" (292) عن حذيفة مرفوعًا. وصححه الحاكم فتعقبه الذهبي بقوله: إسناده واهٍ، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه. (¬4) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 364، 6/ 48، 11/ 295، 13/ 85)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 195)، وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 256 - 258)، و"العلل المتناهية" (2/ 285 - 286) من طريق جماعة عن سويد بن سعيد. (¬5) انظر كلام المؤلف عليه في "روضة المحبين" (ص 266 - 270) و"زاد المعاد" (4/ 252 - 256)، و"الداء والدواء" (ص 568 - 573). والنقاش هو أبو بكر محمد بن الحسن المفسر، ولكن الذي اتهُّم بهذا الحديث هو سويد بن سعيد الحارثي، فلعله خطأ أو وهمٌ من المؤلف.

ويحتجون بحديث روي فيه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع ذلك المنشد ينشده: هل عليَّ ويحَكُما ... إن عَشِقتُ من حرجِ فقال: "لا إن شاء الله". وهو حديث وضعه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الفساق كما تقدم (¬1). ويحتجون بأنَّ العشق والمحبة غير داخلٍ تحت الاختيار، ولا يملك العبدُ دفعَه عن نفسه، وما كان هكذا فإنَّ الله لا يُعذِّب عليه. وينسَون أنَّ تولُّعَهم به وتعاطِيَهم لأسبابه مقدور، وبه يتعلق التكليف، فلما خانت أعينُهم وتمنَّتْ أنفسُهم وأتبَعُوا النظرةَ النظرةَ تمكَّن داء العشق منهم، فعزَّ على الأطباء دواؤه، كما قيل: تولَّع بالعشق حتى عَشِقْ ... فلما استقلَّ به لم يُطِقْ رأى لُجَّةً ظنَّها مَوجةً ... فلما توسَّط منها غَرِقْ (¬2) ويُكرِمون صاحب الصورة المليحة على ما يبذل لهم من صورته وشهوده وتوابع ذلك، كما يُكرِم أصحاب السماع ذا الصوت الحسن على ما يبذل لهم من صوته، وإن اجتمع فيه الأمران نال عندهم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) البيتان من أربعة أبيات من إنشاد ابن نحرير البغدادي في ذم الهوى (ص 586) و"تاريخ الإسلام" للذهبي (10/ 66). وذكرهما المؤلف في روضة المحبين (ص 225) والداء والدواء (ص 498).

من الكرامة أعلاها ومن الحُظْوة منتهاها، ولهذا إذا رأى هؤلاء من جمع بين الصورة الجميلة والصوت اللذيذ من غلامة وغلام، علقوا بقلوبهم وهِمَمِهم عليه، وانقادتْ أسرارهم وجوارحهم إليه، وشَقّوا عليه القلوب قبل الجيوب، وبذلوا في مرضاته كل مطلوب. وقد زيَّن الشيطان لكثير من هؤلاء أنَّ عشق الصور الجميلة إذا لم يقارنه فاحشة محبة محمودة، وأنها محبة لله وفي الله، وهم نظير أصحاب الأصوات المطربة، فالطائفتان "رَضِيعَا لِبانٍ ثَدْيَ أمٍّ تقاسَما" (¬1). والعارف يعلم أنَّ هذا أعظم من مواقعة الكبيرة، فإنَّها معصيةٌ أدنى أحوالِه أن يَذُمَّ نفسَه ويلومَها عليها، ويخاف مقتَ الله وغضبه ولعنته، وأما هذا فمتقرب متعبد بالعكوف على تمثال الجمال، وقد حال بين قلبه وبين ذي العظمة والجلال. فأين مؤمن فاسق قد جمع سيئةً وحسنةً، خلط عملًا صالحا وآخر سيئًا، يخاف ذنوبًا لم تَغِبْ عن وليِّه ... ويرجوه فيها فهو راجٍ وخائفُ (¬2) من مبتدع ضالٍّ يجعل ما نهى الله عنه قربةً، وما كره الله دينًا، وهو يرى المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، قد زُّينَ له سوءُ عمله فرآه حسنًا. ومن جعل ما لم يأمر الله به ولا أحبه محبوبًا له، فقد شرع دينًا لم يأذن الله به، وذلك باب الشرك، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ ¬

_ (¬1) شطر بيت سبق تخريجه. وفي الأصل: "رضيع لبان". (¬2) البيت لعبد الله بن محمد بن يوسف (ابن الفرضي) في "بهجة المجالس" (1/ 380) و"الآداب الشرعية" لابن مفلح (2/ 33) و"نفح الطيب" (2/ 129).

فصل: مجرد الحسن لا يثيب الله عليه ولا يعاقب

اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، فإن محبة الصور تعظم حتى تصير أندادًا وطواغيتَ يتدين بها أهلها، ويُشْرَبُ في قلوبهم أعظمَ من حب الذين أُشرِبوا في قلوبهم العجلَ. وكم بين محبة عجلٍ إلى محبة غزالٍ أغيدَ تَسبِيْ محاسنُه القلوبَ وتَأسِرُ العقول؟ فهؤلاء أُشرِبوا في قلوبهم الخِشْفَ، كما أُشرِبَ أولئك في قلوبهم العجلَ. وهذا بخلاف من مالت نفسه إلى المحرمات مؤمنًا بأنَّ الله حرَّمها، ويَمقُتُ عليها، ويخاف عقابه على فعلها، وأنه لا يحبُّها محبةً محضة، بل عقله وإيمانه يُبغِض ذلك ويكرهه وينهى عنه، ولكن غلبة طبعه وهواه يدعوه إلى ارتكابها على خوفٍ ووجلٍ من الله، فهذا يُرجَى له رحمة الله، إما بأن يُوفِّقه لتوبة نصوح تُكفِّر عنه سيئاته، أو يستعمله في طاعة كثيرة وحسنات ماحيةٍ ترجح بسيئاته، وإما بمصائبَ يبتليه بها يُكفّر بها عنه، وإما بغير ذلك من الأسباب التي يرحمه بها. بخلاف من اعتقد أنَّ هذه المحبة لله، فإنَّ طباعه واعتقاده يتعاونان على قوتها وزيادتها، ويجتمع فيها داعي الطبع وما يعتقده من داعي الشرع، وهذا الداء العضال الذي هلك به من هلك، ونجا من سبقت له من الله الحسنى. فصل ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ مجرد الحسن لا يُثِيبُ الله عليه ولا يعاقب، وليس في دين أحدٍ من الأنبياء محبةُ أحدٍ لحسنه، ولو كان الحسن مما يرفع الله به درجةَ صاحبه ويزيده به ثوابًا لكان يوسف الصديق أفضلَ من غيره من الأنبياء لحسنه. [وإذا] استوى شخصان في

الأعمال الصالحة وكان أحدهما أحسنَ صورةً أو أحسنَ صوتًا كانا عند الله سواء، فإنَّ أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ولكن صاحب الصورة الجميلة إذا صان جمالَه عن محارم الله وعفَّ عنها كان أفضلَ من غيره من هذا الوجه، وهو بمنزلة صاحب المال والقدرة إذا عفَّ عن قدرة، فإنَّه أفضلُ ممن عفافُه عفافُ عجز، فإنَّ ما امتحن به صاحب القدرة والمال والجمال من الأسباب الداعية إلى اتباع الهوى أو قضاء الشهوة أعظمُ مما امتحن به مَنْ خلا من ذلك، فجهادُ هذا وصبرُه أعظم. وهذا عام في جميع الأمور التي أنعم الله بها على بني آدم وابتلاهم بها، فمن كان فيها شاكرًا صابرًا كان من أولياء الله المتقين، وكان أفضل ممن لم يُمتحَن، وإن لم يكن المبتلَى صابرًا شكورًا بل فرَّط فيما أُمِر به ونُهِي عنه كان له حكم أمثاله، وكان من سَلِمَ من هذه المحنة خيرًا منه، فمن امتُحِن وصبر فهو خير الأقسام، ويليه من سَلِمَ من المحنة، والثالث من امتُحِن فوقع، فهو المأخوذ المعاقَب إلا أن يتداركه الله. فمن كان له مال يتمكن من إنفاقه في الفواحش والظلم، فخالف هواه وأنفقه فيما يبتغي به وجهَ الله، فهو نظيرُ من كان له حسن وجمال فعفَّ به عن محارم الله وصانَه من الفواحش، ونظيرُ من كان له صوت حسن فصانه عن الغناء ومزامير الشيطان واستعمله في تزيين كتاب الله والتغني به، كان كل واحد من هؤلاء يُثاب على عمله الصالح الذي يشاركه فيه من ليس له مثل ذلك الجمال والصوت والمال، ويُثاب ثوابًا آخر على صَرْفِه ما يتقاضاه من الصورة والصوت والقوة إلى مرضاة الله،

وتعطيلِها عن مساخطِه، فثوابُه يُشبِه ثوابَ المجاهد، فصاحب الصوت الطيب المطرب الذي يمكنه أن يُغنّي بالشعر، إذا قرأ القرآن بصوته الطيب وتغنَّى به أُثِيبَ ثوابَ من تغنَّى بكتاب الله وترك التغني بالشعر، ويثاب أيضًا على قصده إسماعَ أهل الإيمان كتابَ الله ولذتهم بقراءته وانتفاعهم بها، فيثاب ثلاثةَ (¬1) أنواع من الثواب بالقصد والنية: ثواب المجاهد، وثواب التالي، وثواب المحسن النفَّاع لغيره، فإن شهد مع ذلك أَذَنَ اللهِ -عز وجل- لقراءته واستماعَه لها، فقرأه بصوته الطيب ليأذن الله له ويستمع لقراءته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أذِنَ الله لشيء كأَذَنِه لنبي حسنِ الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به" (¬2)، وقال: "لَلّهُ أشدُّ أَذَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَينةِ إلى قَيْنتِه" (¬3)، فثوابُ ذلك أمر آخر. ومن كان له جمال وحسنٌ فعفَّ عما حرم الله، وخالف هواه، وكسا جمالَه وحسنَه لباسَ التقوى الذي هو خير اللباس، كان من هذا الوجه (¬4) أفضلَ ممن لم يُؤتَ مثلَ هذا الجمال، ولم يُمتحَن بهذه المحنة، ولهذا تجد وجهَ المطيع لله قد كُسِيَ من الجمال والحسن والملاحة ما لم يُكْسَه وجهُ العاصي، فإن كان جميلَ الوجه ازداد جمالًا إلى جماله الخلقي، وأُلقِيَتْ عليه من المحبة والجلالة والحلاوة ما لم ¬

_ (¬1) في الأصل: "ثلاث". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في الأصل: "هذه الوجه".

تقسيم الوجوه إلى أربعة أقسام من حيث الجمال

يُلْقَ على غيره، وإن حُرِمَ جمالَ الوجه وحُسنَه أُلبِسَ من جمال الطاعة وبهجتها ونورها وحلاوتها أحسنَ مما فاته من الجمال الظاهر، وكلّما كبر وطعن في السن ازداد حسنًا وحلاوة وملاحة. وأمّا جميل الوجه إذا لم يَصُنْ جمالَه وحسنه، وبذلَه وتبذَّلَ به، فإنه كلّما كبر وطعن في السنِّ ازداد وحشةً وظلمة وقبحًا، وكلّما ازداد من الفواحش والمعاصي ازداد حتى تَكْسِفَ ظلمةُ المعصية شمسَ حسنهِ، وتَخْسِفَ قمرَها، ويعلو قبحُها وسوادُها الجمالَ الصوري، فتراه على السِّنّ لا يزداد إلا قبحًا ووحشةً ونفرةً عنده. وفي هذا المقام الوجوهُ أربعة: وجه جُمِع له بين اللباسين: لباس الجمال ولباس التقوى، فذلك أجمل الوجوه. ووجه جمع له بين لباسِ القبح ولباس المعصية، فهو أقبح الوجوه. ووجه أُلبِسَ لباسَ الجمال الظاهر ولم يُكْسَ لباسَ التقوى. ووجه ألبِسَ لباسَ التقوى وإن لم يُلبَسْ لباسَ الجمال. فإن قلتَ: من أين اكتسبت الوجوهُ الحسنَ والقبحَ من الأعمال؟ قلت: إن لم يكن لك فراسةُ أهل الإيمان فتدبَّرْ قوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29]، وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]، قال ابن عباس وغيره: "هم المتفرِّسون الذين

يأخذون بالسيما وهي العلامة" (¬1). وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]. فهذه ثلاث آيات في الفراسة. واسمع قول المتوسمين من هذه الأمة: قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "ما أضْمَرَ رجلٌ شيئًا إلا أظهره الله على صفحات وجهه، وفَلَتاتِ لسانه" (¬2). ودخل عليه رجل فقال له عثمان: يدخل أحدكم والزنا في عينيه، فقال: يا أمير المؤمنين! أوَحْيٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: [لا] ولكن ما عَمِل آدمي [عملًا] إلا ألبسه الله رداءه". أو كما قال (¬3). وقال ابن عباس: "إن للحسنة لنورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوةً في البدن، وزيادةً في الرزق، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة لظلمةً في القلب، وسوادًا في الوجه، وضعفًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق" (¬4). وهذا الأمر يكون كامنًا في القلب في الدنيا، ويَفِيضُ على صفحات الوجه، فيراه مَن له فراسة صادقة، فإذا كان يوم القيامة صار هو الظاهر ورآه كل أحد عيانًا، قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ¬

_ (¬1) انظر "تفسير الطبري" (14/ 94، 95) و"الدر المنثور" (8/ 638، 639). (¬2) انظر تفسير ابن كثير (7/ 3224). (¬3) أخرجه أحمد في "الزهد" (157) وابن أبي شيبة في "المصنف" (12/ 558) والبيهقي في "شعب الإيمان" (12/ 270 - 271). (¬4) انظر "تفسير ابن كثير" (7/ 3224) و"الاستقامة" (1/ 351) و"الوابل الصيب" (ص 67).

[آل عمران: 106]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، فالأول: من نضرة (¬1) النعيم وبهجته، والثاني: من النظر. وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42]. وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)} [المطففين: 22 - 24]. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 26 - 27]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ المسألة بأحدهم حتى يجيء يومَ القيامة وليس في وجهه مُزْعَةُ لحمٍ" (¬2). وقال: "من سأل الناس وله ما يكفيه جاءت مسألته خُدوشًا أو كُدوحًا في وجهه يوم القيامة" (¬3). وقال: "أولُ ¬

_ (¬1) في الأصل: "نظرة". (¬2) أخرجه البخاري (1474) ومسلم (1040) عن ابن عمر. (¬3) أخرجه أحمد (1/ 388) وأبو داود (1626) والترمذي (651) والنسائي (5/ 97) وابن ماجه (1840) عن ابن مسعود. وقال الترمذي: حديث حسن، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث.

أظهر السمات على الوجوه سمة الصدق والكذب

زُمرةٍ تَلِجُ الجنةَ على صورة القمر ليلة البدر، ثمّ الذين يَلُونهم كأشدِّ كوكبٍ في السماء إضاءةً" (¬1). وأمثال هذا كثير مما فيه وصف وجوه أهل السعادة بالحسن والبهاء والجمال والنضرة، ووجوه أهل الشقاوة بالقبح والسواد والوحشة والسوء. وأظهر هذه السِّماتِ على الوجوه سمَةُ الصدق والكذب، فإن الكذاب يُكسَى وجهُه من السواد بحسب كَذِبه، والصادق يُكسَى وجهُه من البياض بحسب صدقه. ولهذا رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتعزير شاهد الزور بأن يُسوَّد وجهُه، ويُركبَ مقلوبًا على الدابة (¬2)، فإن العقوبة من جنس الذنب، فلما سَوَّد وجهَه بالكذب وقَلَبَ الحديثَ سُوِّد وجهُه وقُلِبَ في ركوبه، وهذا أمر محسوس لمَن له قلب، فإن ما في القلب من النور والظلمة والخير والشر يَسْرِي كثيرًا إلى الوجه والعين، وهما أعظم الأعضاء ارتباطًا بالقلب. وتأمل قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30]، فهذا التعريف داخل تحت المشيئة معلَّق بها، ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]، فهذا قسم محقق لا شرط فيه، وذلك أن ظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظمُ من ظهوره على وجهه، لكنه يبدو في الوجه بُدوًّا خفيّا يراه الله، ثمَ يقوى حتى يصير صفةً ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3246، 3254)، ومسلم (2834) عن أبي هريرة. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 58) وعبد الرزاق في "المصنف" (8/ 326).

فصل: تقسيم الجمال إلى ثلاثة أنواع

في الوجه يراها أصحاب الفراسة، ثم يقوى حتى يظهر لجمهور الناس، ثم يقوى حتى يُمسَخ الوجه على طبيعة الحيوان الذي هو على خلقه من قردٍ أو خنزيرٍ، كما جرى على كثير من الأمم قبلنا، ويجري على بعض هذه الأمة، كما وعد به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى. فصل وأهل جمال الصور يُبتلَون بالفاحشة كثيرًا، واسمها ضدّ الجمال، فإن الله سماها فاحشة وسُوءًا وفسادًا وخبثًا وشبهةً وإجرامًا، وهذه الأشياء ضدُّ الجمال، فعُلِم أن الجمال الذي يحبه الله ليس جمالَ الصورة، فإن الله لا ينظر إلى مجرد الصورة، فكيف يكون محبوبًا له؟ والجمال منه ما يحبه الله ومنه ما يبغضه، فإن الله يُبغِض التجمل بلباس الحرير والذهب، ويُبغِض التجمل بلباس الخيلاء وإن كان ذلك جمالًا. فالجمال ثلاثة أنواع: جمالٌ خالٍ عن معارضة مفسدة، فهذا يحبه الله. وجمال مشتمل على مفسدة مبغوضة لله، فهذا يكرهه الله. وجمال فيه شائبة من هذا وهذا، فهذا يكرهه الله من وجه ويحبه من وجه. هذا إذا كان جمالًا كسبيًّا، وأمّا إن كان جمالًا خلقيًّا لا يتعلق بكسب العبد، فهذا لا يتعلق به ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم ولا حب ولا بغض، إلا إذا استعان به على ما يحبه الله أو يكرهه كما تقدم،

العلاقة بين الخلق والخلق في الجمال والقبح

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال" (¬1)، وقال: "إن الله يُبغِض الفاحشَ البذِيء" (¬2)، وقال: "إن الله لا يُحِبُّ الفُحشَ ولا التفحُّشَ" (¬3). وكل واحد من الجمال والقبح له متعلَّقا الخَلْقِ والخُلُقِ، والخلق يظهر أثره في القول والعمل، فهاهنا ثمانية أقسام: جمال في الخَلْق والخُلُق والقول والفعل، فصاحبه أحمدُ الخلق وأحبُّهم إلى الله. ويُقابله قُبحٌ في الخَلْق والخُلُق والقول والفعل، فصاحبه أقبح الخلق وأبغضهم إلى الله. ثم قد يُركَّب بعض هذه الأقسام (¬4) مع بعض، فيكون للرجل جمالٌ في شيء وقبحٌ في غيره، وقد يكون جمالُه أكثر من قبحه فيغطِّيه ويستره، وبالعكس، وقد يتعادل فيه هذا وهذا. ومن تأمل أحوالَ الخلق وجدهم كذلك، وفي الغالب يكون بين جمال الظاهر والباطن تلازم، وبين قبح الظاهر والباطن تلازم، فإن لكل باطن عنوانًا من الظاهر يدل عليه ويُعرف به. وقد جعل الله سبحانه بين الخَلْق والخُلُق والظاهر والباطن ارتباطًا والتئامًا وتناسبًا، ومن ههنا تكلّم الناس في الفراسة، واستنبطوا علمها، وهو من ألطف العلوم وأدقِّها، وأصله معرفة المشاكلة والمناسبة والأخوة التي عقدها الله ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه الترمذي (2002) عن أبي الدرداء، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) أخرجه مسلم (2165) عن عائشة. (¬4) في الأصل: "هذا الأقسام".

سبحانه بين المتشاكلين، ومَن لم يكن له نصيبٌ منها لم يكَدْ ينتفع بنفسه ولا بغيره. وأنت إذا تأملتَ العالم فقلَّ أن ترى خَلْقًا مشوَّهًا إلّا وثَمَّ خُلُق قبيح وفعلٌ يناسبه وقول يناسبه، اللهم إلا لمعارضٍ من تأدُّبٍ وتعلُّمٍ يُخرِجه من مقتضى طبعه، كما يحصل لكثير من الحيوان البهيم من التعليم والتأديب والتمرين ما يخرجه عن مقتضى طباعه، وقلَّ أن ترى خَلْقًا جميلًا إلا وثمَّ خُلُق وفعل وقول يناسبه، اللهم إلا لمعارضِ سوءٍ أخرجه عن مقتضى طبعه، كالطفل الذي وُلد على الفطرة، فلو خُليِّ لما نشأ إلّا على فطرة الإسلام، لكنَّ معارضَ الكفر أخرجه عن فطرته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الله جميلٌ يحب الجمال (¬1)، للفرق بين الكِبْر الذي يُبغِضه الله وأنه ليس من الجمال، وبين الجمال الذي يحبه، فإنه لما قال: "لا يدخل الجنةَ من في قلبه مثقالُ ذرة من كِبْر". قالوا: يا رسول الله! الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا، أفمن الكِبْر ذلك؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس" (¬2). فأخبر أن تحسين الثوب والنعل قد يكون من الجمال الذي يحبه الله، كما قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. فإذا كان الظاهر جميلًا والباطن جميلًا أحبه الله، وإذا كان الباطن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه.

قول صاحب الغناء: استمع الله ورسله للصوت الحسن

جميلًا والظاهر غير جميل لم يضرَّه عند الله شيئًا، وإن كان كاسدًا عند الناس فإنه عند الله عزيز غالٍ. فإذا كان للعبد صوت حسن ولو من أحسن الأصوات، وبَذَا بصوته واستعمله في الغناء، أبغضَ الله صوته، كما يُبغِض الصورةَ المستعملة في الفواحش ولو كانت من أجمل الصور وأحسنها. فهذا فصل نافع جدًّا في الفرق بين الجمال الذي يحبه الله ويكرهه. فصل * قال صماحب السماع (¬1): إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن ربه أنه يستمع للصوت الحسن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - استمع صوت أبي موسى وأعجبه وأثنى عليه، وقال: "قد أُوتي هذا مِزمارًا من مزامير آل داود"، فقال له أبو موسى: لو علمتُ أنك تسمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا" أي زيّنتُه وحسَّنتُه، ومنه البُرد المحبَّر. وقد روي أن داود كان يستمع لصوته الحسنِ الإنسُ والجن والطير والوحش، وكان يُحمَل من مجلسه أربعمائة جنازة ممن قد مات من قراءته. *قال صاحب القرآن: عجبًا لكم أيها السماعاتية ولاستدلالكم! فلو أن المنكرين عليكم كرهوا حُسنَ الصوت وعابوه وذموه مطلقًا، لكان في ذلك احتجاجٌ عليهم، كيف وهم أحبُّ الناس في الصوت الحسن، لكن الشأن فيما يُؤدَّى بالصوت. ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 508).

فهذه الآثار التي ذكرتموها وأكثر منها إنما تدل على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، ومن نازع في هذا فالاستدلال بها على تحسين الصوت بالغناء الذي هو قرآن الشيطان ومادة النفاق ورقية الفواحش أفسدُ من قياس الربا على البيع، فإن بين الغناء والقرآن من التباين أعظمَ مما بين البيع والربا، ومما بين النكاح والسفاح، ومما بين الشراب الحلال والشراب الحرام، فأين سماع المكاء والتصدية الذي ذمه الله في كتابه، وأخبر أنه سماع المشركين، من (¬1) سماع أنبيائه ورسله وأوليائه وحزبه المفلحين؟ وأين سماع المخانيث والقَيْنات والفساق والمغنين من سماع الخلفاء الراشدين والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؟ واقتفَوا طريقتَهم المثلى وسبيلَهم الأقوم، وسلكوا منهاجهم الواضح. وكيف يقاس مؤذنُ الشيطان الداعي بحيَّ على غير الفلاح، على مؤذن الرحمن الداعي إلى السعادة والنجاح؟ وقد تقدم ذكر الحديث الذي رواه الطبراني في معجمه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان قال: يا ربِّ اجعلْ لي قرآنًا، قال: قرآنُك الشعر، قال: اجعلْ لي مؤذنًا، قال: مؤذنك المزمار (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلى". (¬2) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (8/ 207) عن أبي أمامة الباهلي، وفي إسناده علي بن يزيد الألهاني وعبيد الله بن زحر، وهما ضعيفان.

بطلان قياس الغناء على القرآن

فمن قاس قرآن الشيطان ومؤذنه على قرآن الرحمن ومؤذنه فالله حَسيبه ومُجازيه، وسيعلم يوم الحشر أيَّ بضاعةٍ أضاع، وعند الميزان أيَثقُل أم يَخِفُّ بما قَدِم به من السماع. وهاهنا الناس أربعة أقسام: أحدها: من يشتغل بسماع القرآن عن سماع الشيطان. والثاني: عكسه. والثالث: من له نصيب من هذا وهذا. والرابع: ليس له نصيب لا من هذا ولا من هذا. فالاشتغال بالسماع القرآني الرحماني حال السابقين الأولين وأتباعهم ومن سلك سبيلهم. والثاني: حال المشركين والمنافقين والفُجَّار والفُسَّاق والمبطلين ومن سلك سبيلهم. والثالث: حالُ مؤمنٍ له مادتان، مادة من القرآن ومادة من الشيطان، وهو للغالب عليه منهما. والرابع: حال الفارغ من ذوق هذا وهذا، فهو في شأنٍ وأولئك في شأنٍ. فهذه الآثار التي تضمنت مدحَ الصوت الحسن بالقرآن وما يحبه الله، مَن احتج بها على السماع الشيطاني فقد بَخَسَ حظَّه من العلم والمعرفة.

قول صاحب الغناء: الصوت الحسن يطيب السير ويقطع المشاق

فصل * قال صاحب الغناء (¬1): الصوت الحسن يُطيِّب السير، ويقطع المشاقّ، ويَحمِل سامعُه معه ما لا يحمله بدونه، ولهذا لما حَدَا ذلك الغلام بالإبل قطعَتْ مسيرة ثلاثة أيام في يوم، فلما حطَّ عنها أحمالها ماتت، فإن طيب الصوت هوَّن عليها مشقةَ الحمول فلم تُحِسَّ بها، فلما وضعت عنها أحمالها فرغت قواها. قال أبو بكر الدُّقِّي (¬2): وحدا هذا الغلام بجَملٍ، فهامَ على وجهه، وقطعَ حباله، قال: ولم أسمع صوتًا أطيبَ منه، ووقعتُ لوجهي حين سمعته، حتى أشار عليه سيدُه بالسكوت، فسكت. * قال صاحب القرآن: لا ريبَ أن الصوت المتناهي في الحسن يُحرِّك النفوس تحريكًا عظيمًا جدًّا خارجًا عن العادة، وقد شاهد الناس وسمعوا من ذلك ما هو معلوم، والأصوات من أعظم المحركات للنفوس، ولا يُعادِلُها شيء في حركة النفوس إلا الصور، فإذا اتفق قوة المؤثر واستعداد المحل قوي التأثير، حتى يغيب عن الحسِّ أحيانًا، ويحول بين سامعه وبين مباشرة المؤلم المؤذي، فلا يَشعُر به. وإذا صادف محلًّا مستعدًّا كصِغَرٍ أو أنوثةٍ أو جزعٍ أو فرحٍ أو قوةِ حبٍّ أو رياضةٍ ولطافةِ روحٍ، حرَّكهُ غايةَ الحركة، وأزعجَ قاطنَه، وأثار ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" (ص 508، 509). (¬2) في الأصل: "الرقي"، وفي تاريخ بغداد (5/ 266): "الزقي". والتصويب من الرسالة القشِيرية وطبقات الصوفية للسلمي (ص 448) والأنساب للسمعاني (5/ 337).

دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب

ساكنَه، وهذا لا يدل على جواز ولا تحريم ولا مدح ولا ذم، بل دلالته على الذم والمنع أقرب من دلالته على الجواز والاستحباب، فإن هذا يُفسِد النفوس أكثر مما يُصلِحها، ويضرها أكثر مما ينفعها، وإن كان فيه منفعة يسيرة فآفته ومضرته أكبر من نفعه، وقد قال تعالى للشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64]، فالصوت الشيطاني يَستفِزُّ بني آدم، وصوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله، نُسِبَ إلى الشيطان لأمره به ورضاه به، وإلا فليس هو الصوت نفسه، فصوت الغناء وصوت النوح وصوت المعازف من الشبابات والأوتار وغيرها كلها من أصوات الشيطان، التي يَستفِزُّ بها بني آدم فيَستخِفُّهم ويُزعِجُهم. ولهذا قال السلف في هذه الآية: "إنه الغناء". ولا ريبَ أنه من أعظم أصوات الشيطان التي يَستفِزُّ بها النفوسَ ويُزعِجها ويُقلِقها، وهو ضدُّ القرآن الذي تطمئن به القلوب وتسكنُ وتُخبِتُ إلى ربها، فصوت القرآن يُسكِّن النفوسَ ويُطَمْئِنُها ويُوقرها، وصوت الغناء يَستفِزُّها ويُزعِجُها ويُهيِّجُها، كما قيل: حاملُ الهوى تَعِبُ ... يَستفِزُّه الطَّرَبُ كلَّما انقضَى سببٌ ... عادَ منك لي سَبَبُ تَضْحَكِينَ لاهيةً ... والمحِبُّ يَنْتَحبُ تَعجَبِين من سَقَمِيْ ... صِحَّتِي هي العَجَبُ (¬1) ¬

_ (¬1) الأبيات لأبي نواس في ديوانه (227).

فلو لم يكن دليل على أن صوت الغناء والمعازف هو صوت الشيطان لما يستفزّ به السامع ويُقلِقه به ويُزعِجه ويُزِيل طمأنينتَه لكفى به دليلًا. وكذلك صوته الذي يَستفِزُّ به النفوسَ عند المصيبة وهو النوح، فيستفزُّها بهذا الصوت إلى الحزن والأسف والسخط بما قضى الله، ويستفزُّها بذلك الصوت إلى الشهوة والإرادة والرغبة فيما يبغضه الله، فينهاها بصوت النوح عما أمرها الله به، ويأمرها بصوت الغناء بما نهاها الله عنه. وهذا الصوت هو أحد الأسباب الخمسة التي أقسم الشيطان أن يَحتنِكَ بها ذريةَ آدم ويستأصلهم إلا قليلًا، وهي استفزازهم بصوته، والإجلابُ عليهم بخيله ورَجلِه، ومشاركتهم في أموالهم وأولادهم (¬1). فكل راكب في معصية الله فهو خَيَّالةُ الشيطان، وكل ماشٍ في معصية الله فمن رَجَّالتِه، وكل مالٍ أُخِذ من غير حلِّه وأُخرِج في غير حقه فهو شريك صاحبه فيه، وكل ولدٍ من نطفة زنا فهو شريك أبيه فيه. فتبارك من جعل كلامه شِفاءً لصدور المؤمنين، وحياةً لقلوبهم، ونورًا لبصائرهم، وغذاءً لقلوبهم، ودواءً لسقامهم، وقرةً لعيونهم، وفتح به منهم أعينًا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا وقلوبًا غُلْفًا، وأمطر على قلوبهم سحائبَ دِيمهِ، فاهتزَّتْ ورَبَتْ وأنبتتْ من كل زوج بهيج، فأشرقتْ به الوجوه، واستنارتْ به القلوب، وانقادتْ به الجوارح إلى طاعته ومحبته، فصبغَ ¬

_ (¬1) كما في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64].

قول صاحب الغناء: نحن نتحاكم إلى سيد الطائفة الجنيد الذي أباحه

القلوبَ به معرفة وإيمانًا، وملأها حكمة وإيقانًا، {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: 138]، لا كصبغة السماع التي تملأ القلوب هوى وشهوة وظلمة وشركًا، وتُعوِرُ بصيرةَ القلب وتَطْمِسُ نوره وتُنكِّسه وتُخنِّث عزمَه. فقلَّ أن ترى سماعيًّا إلا وهو مخنَّث العزيمة، يلوحُ التخنيثُ على شمائله وحركاته. وقد سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت الغناء صوتًا فاجرًا أحمق (¬1)، فوصفه بالفجور والحمق، فالفجور: الظلم، والحمق: الجهل. وقال لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]، والمغني والرقاص أبعد الناس من هذا، فلا هذا غضَّ من صوته، ولا هذا قصدَ في مشيه. فصل * قال صاحب الغناء (¬2): نحن نتحاكم في هذه المسألة إلى سيد الطائفة الجنيد، قال أبو عمر (¬3) الأنماطي: سمعته يقول وقد سُئل: ما بالُ الإنسان يكون هادئًا فإذا سمع السماع اضطرب؟ فقال: إنَّ الله لما خاطب الأرواح في الميثاق الأول بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، استفرغتْ عذوبةَ سماع [الكلام] الأرواحُ، فإذا سمعوا السماع حرَّكهم ذِكرُ ذلك. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 509). (¬3) كذا في الأصل وتاريخ بغداد (12/ 73): "أبو عمر" وفي القشيرية: "أبو عمرو".

قول صاحب القرآن: هذا إذا كان ثابتا عنه فهو نقل عن غير معصوم

* قال صاحب القرآن: من دُعي إلى تحكيم الله ورسوله وما أُنزِل على نبيه من الكتاب والحكمة، فلم يرضَ بذلك، ودعا إلى تحكيم من يصيب ويخطئ، ولم يُولِّه الله الحكمَ فيما شجر بين المتنازعين، فقد بخسَ حظَّه وأضاعَ نصيبَه. فهذا النقل إن كان ثابتًا عن الجنيد فهو نقل عن غير معصوم، وإن لم يكن ثابتًا عنه وهو الأليق بمثل جلالته ومعرفته فهو نقل غير مصدَّق عن قائلٍ غير معصوم، فكيف يكون حجةً؟ والجنيد أعرفُ بالله من أن يقول مثل هذا، فإنَّ هذا الاضطراب يكون لجميع الحيوان ناطقه وأعجمه، ويكون للكفار والمنافقين والفساق والفجار، ثمّ الاضطراب قد يكون لحلاوة الصوت ومحبته واستلذاذه، وقد يكون للخوف منه وهيبته، وقد يكون للحزن والجزع، وقد يكون للغضب. وأيضًا فمن المعلوم قطعًا أنَّ الصوت المسموع ليس هو ذلك الخطاب الأول، ولا هو متعلق به، ولا هو منه بسبيل. وأيضًا فإنَّ هذا الاضطراب على قرآن الشيطان والغناء الذي هو مادة النفاق ورقية الفجور، كيف يُحرِّك للخطاب بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؟ وأيضًا فإنَّ العبد لو سمع كلام الله بلا واسطة كما سمعه موسى بن عمران لم يكن (¬1) سماعه بعدُ لأصواتِ الألحان والغناء محرِّكًا لذلك مذكِّرًا به. بل المأثور أنَّ موسى مَقَتَ الآدميين وأصواتهم وكلامهم لما ¬

_ (¬1) في الأصل: "يكون".

وقر في مسامعه من كلام ربه جل جلاله (¬1). وأيضًا فإنَّ استلذاذ الصوت أمر طبيعي لا تعلق له بكونهم سمعوا خطاب الرب في الأزل أصلًا. وأيضًا فإنَّ أحدًا لا يذكر ذلك السماع أصلًا إلا بالخبر عنه. وأيضًا فإنَّ معنى الآية ينبُو عما حملها من قال بهذا القول من وجوه متعددة: منها: أنَّه قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، ولم يقل: من آدم، ولا قال: من ظهره، ولا قال: من ذريته. ومنها: أنَّه أشهدهم على أنفسهم، ولابدّ أن يكونوا عند هذا الإشهاد موجودين، والنفوس البشرية إنما تُحدَثُ عند خلق أبدانها، لا أنها مخلوقة قبل الأبدان. ومنها: أنَّ المقصود بهذا الإشهاد إثبات الحق وإقامة الحجة، وهذا إنما حصل بعد خروجهم إلى هذه الدار وإقامة الحجة عليهم من الرسل، وبما رُكِّب فيهم من العقول ونُصِب لهم من الأدلة، وكيف تقوم الحجة عليهم بأمر لا يذكره أحد منهم؟ ومنها: أنَّه قال: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} أي حِذارَ أن يقولوا ولئلا يقولوا، فأخبر أنَّ هذا الإشهاد والتقرير لئلا ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (12650) والبيهقي في "الشعب" (10527) عن ابن عباس. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/ 203): "فيه جويبر، وهو ضعيف جدًّا".

كان للجنيد في السماع أحوال

يحتجوا عليه (¬1) سبحانه يومَ القيامة بغفلتهم عنه، فكيف تقوم عليهم الحجة بأمرٍ كلهم عنه غافل لا يذكره أحد منهم؟ ومنها: أنَّه قال: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173]، فأخبر أنَّه أقام عليهم الحجة لئلا يحتجوا عليه بتقليد الآباء، فلو أهلكهم لأهلكهم بذنوب غيرهم، وهذا كله حصل بعد إرسال الرسل (¬2) وإنزالِ الكتب وتركيبِ العقول والأسماع والأبصار فيهم، فكيف يحصل بهذا العهد الذي لا يذكره أحد؟ ثمَّ إنَّ الجنيد في السماع كان له أحوال: أولها حضوره، ثمّ المنع من التكلُّف له، والرخصة لمن صادفه. قال القشيري (¬3): "سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر، يقول: سمعت أبا بكر بن ممشاذ، يقول: سمعت الجنيد، يقول: السماع فتنةٌ لمن طلبه، ترويحٌ لمن صادفه. فأخبر أنَّه فتنةٌ لمن قصده، ولم يجعله لمن صادفه قُربةً ولا مستحبًّا. بل جعله من نوع الراحة، فكيف يقول مع هذا إنَّه يُذكِّر الخطاب المتقدم؟ ثمّ إنَّ الجنيد ترك السماع وتاب منه، ومنع منه أصحابه، كما تقدم حكاية ذلك (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصل: "عليهم". (¬2) في الأصل: "الرسول". (¬3) "الرسالة القشيرية" (ص 44)، (¬4) انظر (ص 44).

قول صاحب الغناء: استحب مشايخ الصوفية السماع

فصل * قال صاحب السماع: فهذا أبو علي الدقاق من شيوخ القوم وساداتهم يقول ما حكاه عنه القشيري (¬1)، قال: سمعته يقول: السماع حرام على العوام لبقاء نفوسهم، مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم، مستحب لأصحابنا لحياة قلوبهم. * قال صاحب القرآن: إن كان أبو علي الدقاق من شيوخ القوم، فأبو علي الروذباري -الذي شهد فيه القشيري بأنه أظرف المشايخ وأعلمهم بالطريقة، وقد صحب الجنيد والطبقة الثانية، وكان يقول: أستاذي في التصوف الجنيدُ، وفي الفقه أبو العباس ابن سُريج، وفي الأدب ثعلب، وفي الحديث إبراهيم الحربي- سئل عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال، لأني قد وصلتُ إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال، فقال: نعم، وقد وصل لَعمري ولكن إلى سَقَر (¬2). فقول أبي علي: "هو مباح للزهاد لحصول مجاهداتهم" هو الذي أنكره أبو علي بعينه. ثمّ إنَّ هذا التقسيم مما تردُّه الشريعة، فإنَّ ما حرمه الله ورسوله يستوي في تحريمه العامة والخاصة كسائر المحرمات، فلم يحرم الله على العامة شيئًا ويبيحه للخاصة، ثمّ يستبيحه لخاصة الخاصة، وهل ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" (ص 509). (¬2) "الرسالة القشيرية" (ص 119).

كون الفعل حراما على العامة مباحا للخاصة مستحبا لخاصة الخاصة مخالف للشرع

هذا إلا من جنس التلاعب بالدين؟! فلو قال قائل: الخمر حرام على العوام لبقاء نفوسهم وما يقع فيها من العربدة والشر، مباح لمن جاهد نفسَه عن ذلك، مستحب لمن قلبه حيٌّ لا يؤثر فيه شربه، [لما] كان فرقٌ بينه وبين هذا التقسيم، وأين في شرع الله ورسوله فعل مباح لبعض المكلفين، حرام بعينه على بعضهم، مستحب لبعضهم، مع استوائهم في التكليف وأسبابه؟ هذا مما لا يمكن مجيء الشرع به. وإذا اختلفت الأحكام باختلاف المكلفين اختلفت باختلاف أوصافها، كتحريم نكاح الإماء على القادر الواجد لنكاح حرة، وإباحته للعاجز الخائف العَنَتَ، وكوجوب الصوم على المقيم والمرأة الطاهر، وإباحة الفطر للمسافر ووجوبه (¬1) على الحائض، وكوجوب الزكاة على المالك للنصاب وسقوطها عن (¬2) العاجز عنه، وتحريم النكاح والوطء على المحرم وإباحته للحلال، وتحريم دخول المسجد على الجنب وإباحته للطاهر. فهذا هو الذي تجيء به الشرائع، وهو تعليق الأحكام بالأوصاف واختلافها بسببها. فأما أن يكون الفعل حرامًا على العامة مباحًا للخاصة مستحبًّا لخاصة الخاصة، فهذا شرعُ دينٍ لم يأذن به الله، ثمّ ما الضابط المفرِّق بين من يحرم عليه ويباح ويستحب؟ وما هو العامي الذي يحرم عليه والخاص الذي يباح له والخاص الخاص الذي يستحب له؟ وهل هذا ¬

_ (¬1) في الأصل: "ووجوه". (¬2) في الأصل: "على".

النقل عن أضعاف أضعاف هؤلاء الصوفية لا يجدي شيئا في المسألة

وأمثاله إلّا فتح باب تبديل الدين وتغييره؟ والله المستعان. * قال صاحب الغناء (¬1): فهذا ذو النون المصري من سادات القوم ومشايخ الطريق، سُئل عن الصوت الحسن فقال: مخاطبات (¬2) وإشارات أودعها الله في كل طيب وطيبة. وسئل مرة أخرى عن السماع، فقال: واردُ حقّ يُزعِج القلوبَ إلى الحق، فمن أصغى إليه بحقٍّ تحقَّقَ، ومن أصغَى إليه بنفسٍ تزندق. * قال صاحب القرآن: الحكاية عن أضعافِ أضعاف هؤلاء لا تُجدِي عليك شيئًا، فلِمَ ذا التكثر بما لا يفيد؟ ثمّ إنَّ هذا الكلام لا تُعرَف صحتُه عن ذي النون، والكذب على المشايخ كثير جدًّا، وقد رأى أهل العلم وسمعوا من ذلك ما لا يُحصِيه إلا الله. ثمّ لو سُلِّمَتْ صحةُ هذا عن ذي النون فله حكم أمثاله من غير المعصومين الذين يجوز عليهم بل يجب وقوع الخطأ منهم، وغاية أحدهم أن يُعذَر فيما صدر منه باجتهاده، ويكون ذلك العمل منه مغفورًا بنيته وصدقه وحسناته وغير ذلك، وأما أن يُجعَل قدوةً للناس في ذلك فكلَّا ولمَّا. وذو النون قد نُقِل عنه أنَّه لما دخل بغداد اجتمع إليه الصوفية فيهم قوَّالٌ، فاستأذنوه في أن يقول بين يديه، فأذن له، فابتدأ يقول: صغيرُ هواك عذَّبني ... فكيفَ به إذا احتَنَكا ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" (ص 509). (¬2) في الأصل: "مخاطبًا".

وأنت جمعتَ في قلبي ... هوًى قد كان مشتركا أما تَرْثِي لِمُكْتَئِبٍ ... إذا ضحِكَ الخليُّ بكى فقام ذو النون، وسقط على وجهه، والدم يقطُر من جبينه ولا يسقط على الأرض، ثمّ قام رجل من القوم فتواجد، فقال له ذو النون: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218]، فجلس الرجل (¬1). قال أبو علي الدقاق: كان ذو النون صاحب إشرافٍ على ذلك الرجل، حيث نبَّهه أن ذلك ليس مقامه، وكان ذلك الرجل صاحب إنصافٍ حيث قَبِلَ ذلك منه وقعد. وذو النون أحد الشيوخ الذين حضروا السماع تأويلًا، وليس ذو النون بأجلَّ من سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله، ومِسْعَر بن كِدام، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم من أئمة الكوفة الذين استحلُّوا النبيذ المسكر تأويلًا، ولا بأجلَّ من عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما ممن استحلَّ المتعة والصرف، ولا بأجلَّ من الأعمش والطائفة ممن استحلَّ الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر، ولا بأجلَّ ممن استحلَّ أكلَ ذي الناب من السباع والمخلب من الطير، ولا بأجلَّ ممن استحلَّ إتيانَ النساء في أدبارهن، ولا بأجلَّ ممن جوَّز للصائم أكلَ البَرَد، ولا بأجلَّ ممن جوَّز نكاحَ الزانية مع استمرارها على البغاء، وجوَّز نكاحَ البنت المخلوقة من مائه سفاحًا، وغير ذلك ¬

_ (¬1) "الرسالة القشيرية" (ص 513).

ميزان أهل العلم والاعتدال

بالتأويل، وكذلك الذين استحلُّوا قتالَ علي بن أبي طالب من أهل الشام، وكذلك الذين قاتلوا معه من أهل العراق والحجاز، إلى أمثال ذلك مما تنازعتْ فيه الأمة. فليس لأحدٍ أن يحتجَّ لأحد القولين بمجرد قول أصحابه وفعلهم، وإن كانوا من أهل العلم والدين، وليس لعالمٍ أن يترك الإنكارَ عليهم وبيانَ ما بعث الله به رسوله لأجل محلهم من العلم والدين، ولا لأحدٍ أن يَقدَح فيهم ويُفسِّقهم لما هم عليه من العلم والدين، فلا يحتج بقولهم ولا يُؤثِّمهم ولا يترك الإنكار عليهم. فهذا ميزان أهل العلم والاعتدال، والسالك الذي يريد الله ورسوله والدار الآخرة لا يُقنِعه في مثل هذا اتباعُ مَن ليس قوله بحجة، بل عليه أن يتبع الصراط المستقيم، وما دل عليه كتاب الله وسنّة رسوله، وكان عليه أصحاب نبيّه. فهذه الأصول الثلاثة منها وصل السائرون إلى الله وبها تمسكوا، وما خالفها فهو من السبل التي (¬1) على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: "الذي". (¬2) كما في الحديث الذي أخرجه أحمد (1/ 435، 465) والدارمي (1/ 67) والنسائي في "الكبرى" (11174) وابن حبان (6، 7) والحاكم في "المستدرك" (2/ 318) عن ابن مسعود بإسناد حسن، وفيه: خطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: "هذه السبل، ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه".

فصل الوجه الثاني (¬1): قوله: "إن الصوت الحسن مخاطبات وإشارات أودعَها الله كلَّ طيب وطيبة"، لا يجوز أن يراد به أن كل صوتٍ طيّبٍ كائنًا ما كان فإن الله أودعه مخاطباتٍ يخاطب بها عباده، فإن هذا القول كفر صريح، فإن ذلك يستلزم أن تكون الأصوات الطيبة التي يستعملها المشركون وأهل الكتاب في الاستعانة بها على كفرهم قد خاطب الله بها عباده، وأن تكون الأصوات الطيبة التي يَستفزُّ بها الشيطان لبني آدم قد أودعها الله مخاطباتٍ يُخاطِب بها عبادَه، وأن تكون أصوات الملاهي قد أودعها الله مخاطباتٍ يخاطب بها عباده. ومن المعلوم أن هذا لا يقوله عاقل. ثمّ لو كان الأمر كذلك فلِمَ فات الأنبياءَ والصديقين وأئمةَ الإسلام سماعُ هذه الأصوات الطيبة لينالوا ذلك الخطاب منها؟ فإن استماع مخاطبات الحق من أفضل القُربات، فلا يصح أن يكون إطلاق هذا الكلام وعمومه حقًّا. بقي أن يقال: هذا خاصٌّ ومقيدٌ بالصوت الحسن إذا استُعمِل على الوجه الحسن، فهذا حق، مثل أن يزيّن به كلام الله، فالصوت الحسن إذا تُلي به كتابُ الله فإنه يكون حينئذٍ قد أُودِعَ مخاطباتٍ وإشاراتٍ تضمنها الكلام، والصوت الحسن أعان على وصولها وتنفيذها إلى القلب، ¬

_ (¬1) من الرد على كلام ذي النون، وما سبق هو الوجه الأول.

فهاتان مرتبتان لحمل هذا الكلام، إحداهما باطلة قطعًا، والثانية صحيحة قطعًا، تبقى بين عموم تلك المرتبة وخصوص هذه مراتبُ عديدة: منها: أن يُحمَل ذلك على ما يجد المستمع في قلبه من المخاطبات والإشارات من الصوت وإن لم يقصده المصوِّت، فهذا كثيرًا ما يقع لهم، وأكثر الصادقين الذين حضروا هذا السماع يشيرون إلى هذا المقصد، وصاحب هذه الحال يكون لما يسمعه مُذكِّرًا له بما كان في قلبه من الحق. وهذا يكون على وجهين: أحدهما: من الصوت المجرد الذي لا يُفهَم معناه، كأصوات الطيور والرياح والآلات وغيرها، فهذه الأصوات كثيرًا ما يُنزِلها السامع على حاله، فيُحرِّك منه ما يناسبه من فرح أو حزن أو غضب أو شوق وغيره، كقول بعضهم (¬1): رُبَّ ورقاءَ هَتُوفٍ في الضُّحَى ... ذاتِ حُسنٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ ولقد أبكِيْ فلا أُفهِمُها ... وَهْيَ قد تبكي فلا تُفهِمُني غيرَ أني بالجَوَى أعرِفُها ... وَهْيَ أيضًا بالجَوَى تَعرِفُني ¬

_ (¬1) الأبيات لأبي بكر الشبلي في "اللمع" للطوسي (ص 379) و"طبقات الشافعية" للسبكي (3/ 177) وانظر ديوانه (ص 152). والرواية: "ذات شجو" بدل "ذات حسن". ورواية البيت الثاني في المصادر: ولقد تشكو فما أَفهمُها ... ولقد أشكو فما تَفهمُني وفي بعضها: "ولقد تبكي. . . . ولقد أبكي. . . .".

والثاني: أن يكون من الصوت المشتمل على الحروف المنظومة التي لها معنى يُفهَم، فيُنزلها السامع على ما يليق بحاله دون ما قصده به القائل، مثل أن يكون في الشعر عتاب وتوبيخ، أو أمرٌ بالصبر على المكروه، أو ذمٌّ على التقصير في القيام بحقوق المحبة، أو تحزينٌ على ما فرَّط فيه مفرِّطٌ من الحقوق، أو غضبٌ وحميَّةٌ على جهاد العدو أو مقاتلته، أو أمرٌ ببذل النفس والمال في نيل المطلوب ورضا المحبوب، أو غير ذلك من المعاني المجملة المشتركة. وربما قرعَ السمعَ حروفٌ أخرى لم ينطق بها المتكلم، ولكن هي على وزن حروفه التي نطق بها، كما نقل عن بعضهم أنه سمع قائلًا يقول: "سَعْتَر بَرِّي" فحصل له وجدٌ، فقيل له: ماسمعتَ؟ فقال: سمعتُ اسْعَ تَرى بِرِّي (¬1). وكل واحد إنما يسمع من حيث هو، كما يُحكى أن عتبة الغلام سمع قائلًا يقول: سبحانَ ربِّ السماء، إن المحبَّ لفي عَناءِ. فقال عتبة: صدقتَ. وسمع رجل آخر ذلك القول، فقال: كذبت (¬2). فكل منهما سمع على ما شاكل حاله. وهذه هي التي يُسمِّيها القوم إشاراتٍ ومخاطباتٍ، [والمخاطبات] من جنس دلالات الألفاظ، والإشارات من جنس دلالات القياس، وهذه يستعملها القوم كثيرًا فيما يرونه ويسمعونه، وبعضهم يغلو فيها ¬

_ (¬1) الخبر عن أبي سليمان الدمشقي في "الرسالة القشيرية" (ص 516). (¬2) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 516).

الإشارات تصح بثلاثة شروط: أن يكون المعنى صحيحا في نفسه، وأن لا يكون في اللفظ ما يضاده، وأن يكون بينه وبين معنى اللفظ الذي وضع له قدر مشترك يفهم بواسطته

غلوًّا مُفرِطًا، وكثير من الناس يَنبُو فهمُه عنها، والصواب فيها التوسط، وهي تصح بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون المعنى صحيحًا في نفسه. الثاني: أن لا يكون في اللفظ ما يُضادُّه. الثالث: أن يكون بينه وبين معنى اللفظ الذي وضع له قدرٌ مشترك يفهم بواسطته. فإذا كانت دلالة الإشارة مؤيَّدةً بهذه الأصول الثلاثة فهي إشارة صحيحة، ولنذكر لذلك أمثلة: منها قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]، فحقيقة هذا أنه لا يمسُّ محلَّه (¬1) إلا المطهَّرُ، وإشارته أنه لا يجد حلاوتَه ويذوق طعمَه ويُباشِر حقائقَه (¬2) إلا القلبُ المطهَّر من الأنجاس والأدناس، وإلى هذا المعنى أشار البخاري في صحيحه (¬3)، فهذه من أصح الإشارات. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]، إشارة هذه الآية أن برَّ القلب يُوجِب نعيمَ الدنيا، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} إشارة هذه ¬

_ (¬1) في الأصل: "ملحة". (¬2) في الأصل: "حقائقه قلبه". (¬3) (13/ 508) (مع الفتح) قال: "لا يمسُّه: لا يجد طعمه ونفعَه إلّا من آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقِّه إلّا الموقن".

الآية أن فجوره يوجب جحيمها، وهذا قد يقال: إنه مراد من النعيم والجحيم الأكبرين، وقد يقال: إنه مفهوم بإشارة الآية وهو أظهر. ومنها قوله عن نبيّه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فمن أصح الإشارات إشارة هذه الآية، وهي أن مَن صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به بقلبه وعمله وإن لم يصحبه ببدنه فإن الله معه. ومنها قوله تعالى لرسوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، فإشارة هذه الآية أن محبة الرسول وحقيقة ما جاء به إذا كان في القلب فإنّ الله لا يعذّبه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإذا كان وجود الرسول في القلب مانعًا من تعذيبه فكيف بوجود الرب (¬1) تعالى في القلب؟ فهاتان إشارتان. ومنها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، فدلالة لفظها أنه لا يغيِّر نِعَمَه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيِّروا طاعته بمعصيته، كما قال في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53]. وإشارتها أنه إذا عاقب قومًا وابتلاهم، لم يغيِّر ما بهم من العقوبة والبلاء، حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم من المعصية إلى الطاعة، كما قال العباس عمُّ ¬

_ (¬1) في الأصل: "رب".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نزلَ بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفِعَ إلا بتوبة" (¬1). ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة" (¬2). فإذا مَنع الكلب والصورة دخولَ الملك إلى البيت، فكيف تدخل معرفة الرب ومحبته في قلب ممتلئ بكلاب (¬3) الشهوات وصورها؟ وكذلك قوله: "لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ" (¬4)، فإذا حرم بيت الرب على الحائض والجنب، فكيف بمعرفته ومحبته والتنعم بذكره على حائض القلب وجنبه؟ فهذه إشارات صحيحة، وهي من جنس مقاييس الفقهاء، بل أصح من كثير منها. فصل وأما قوله: "إن السماع واردُ حقٍّ يُزعِجُ القلوبَ إلى الحق، فمن أصغى إليه بحقٍّ تحقَّق، ومن أصغى إليه بنفسٍ تزندق"، فهذا الكلام ظاهره متناقض، لأن قائله وصفه بأنه واردُ حق يُزعج القلوبَ إلى الحق، ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (26/ 359) من دعاء العباس بن عبد المطلب بلفظ: "اللهم إنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنب، ولم يُكشَف إلا بتوبة. . . .". وإسناده ضعيف جدًّا. (¬2) أخرجه البخاري (4002) ومسلم (2106) عن أبي طلحة. (¬3) في الأصل: "بكتاب" تحريف. (¬4) أخرجه أبو داود (232) عن عائشة. وفيه جسرة بنت دجاجة العامرية لم يوثقها سوى العجلي، وذكرها ابن حبان في "الثقات" (4/ 121).

تزندق بالسماع طوائف لا يحصيهم إلا الله كما تزندق بالكلام

ثم حكم عليه بأن من أصغى إليه بنفسٍ تزندق، وواردُ الحقّ [الذي] يزعج القلوب إلى الحق لا يكون الإصغاء إليه موجبًا للتزندق. والذي يصح حمل كلام هذا القائل عليه أن السماع الذي قَصَدَه أولًا هو السماع الذي يَقصِده أهل الإرادة لله، فهو يُحرِّك قلوبَهم إلى الله الذي يريدون وجهه، وهو معبودهم ومحبوبهم ونهاية مطلوبهم، فهم (¬1) يسمعون بالله ولله، فسماعهم يُزعِجُ قلوبهم إلى الله لما فيها من محبته وإراداته، والسماع يُحرِّك نارَ الإرادة ويُضرِمُها. ثم قال: من أصغى إليه بنفسٍ تزندق، فإن أصغى إليه بإرادة العلو في الأرض والرئاسة، وجعل محبة الخالق من جنس محبة المخلوق، وجعل ما يطلب من قرب الرب تعالى والوصول [إليه] من جنس ما يطلب من قرب المخلوق والوصول إليه، أوجبَ له ذلك تزندقًا في الاعتقاد، فيصير صاحبه منافقًا زنديقًا. ولهذا تزندقَ بالسماع طوائفُ لا يُحصِيهم إلا الله، كما تزندق بالكلام، ولم يكن أضرّ على الأمة من هاتين الطائفتين: أهل السماع وأهل الكلام، وقد ذمَّ الشافعي -رحمه الله- الطائفتين وبالغ في ذمّهم، وشهد على إحداهما بأن طريقتهم من إحداث الزنادقة، وحكم على الأخرى بأن تُضرَب بالجريد والنعال ويُطافَ بها في القبائل والعشائر، لعلمه - رضي الله عنه - بالضرر الداخل على الأمة والدين من الطائفتين. ¬

_ (¬1) في الأصل: "فهو" خطأ.

ويكفي شهادةُ هذا الذائق للسماع بأن من أصغى إليه بنفسٍ تزندق. والنفس إما أن يُراد بها ذاتُ الإنسان، أو روحُه المدبِّرة لبدنه، أو صفاتهُا من الشهوة والغضب والهوى وغيرها، فإن البشر لا يخلو من ذلك، ولو فُرِضَ أن قلبه يخلو عن حركات هذه القوى فعدمُها شيء وسكونها شيء آخر، والعدم ممتنع عليها، وغايتها أن تسكن، ومن شأن السماع أن يحرِّك الساكنَ ولابدَّ، فكيف يُمكِن الإنسانَ أن يسكُنَ لشيء مع ملابسته لما يوجب حركته؟ هذا من المحال عادةً، وهو من التفريق بين الملزوم ولازمه، أو الجمع بين الشيء وضدِّه. وهو نظيرُ أن يقال: أَدِمِ النظرَ إلى هذه المرأة الشابة الحسناء الجميلة، من غير أن تُحرِّك نفسَكَ لإرادتها وطلبها، وهل الآمر بهذا إلا من أحمق الناس؟ ولهذا قال بعض العارفين: إن أحوال السماع بعد مباشرته تبقى غير مقدورة للإنسان، بل خارجة عن حد التكليف، وهذا غير معذور فيه لمباشرته أسبابه، فهو كمن زال عقله بالسُّكْر اختيارًا. وقوله: "ومن أصغَى إليه بحقٍّ تحقَّق"، عليه فيه أمران: أحدهما: أن يقال: الإصغاء إليه بحق لا يخالطه باطل، أمرٌ غير مقدور عليه لبشرٍ، وغاية ما في قوة صاحب الرياضة والصفاء التام أن يكون حالَ الإصغاء لا يجدُ في نفسه إلا طلبَ الحق وإراداته، ولكن من أين يَثِقُ بنفسه أنه يبقى على ذلك؟ والواقع أنه إذا سمع خالط (¬1) الإصغاءَ بالحق الإصغاءُ بالنفس، فإن تجرُّدَ الإنسان عن صفاته اللازمة ¬

_ (¬1) في الأصل: "خالطا".

امتحان أهل الغناء بأهل القرآن

لذاته ممتنع. الأمر الثاني: أن يقال لك: ومن أين لك أن كل من أصغى إليه بحق تحققَ؟ بل المُصْغِي إليه بحق قد يحصل له من الزندقة والنفاق علمًا وحالًا ما لا شعورَ له به، كما قال عبد الله بن مسعود: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل" (¬1). والنفاق هو الزندقة. وامتحَن (¬2) أهلَ الغناء بأهل القرآن، وأهلَ القرآن بأهل الغناء، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) يبدو أن هنا سقطًا، فإن الكلام غير متصل بما قبله. وهذا مكان تغيير الورقة، فالظاهر سقوطُ ورقةٍ أو أكثر. وفي الاستقامة (1/ 393) بعد قوله: "والنفاق هو الزندقة": ومن المعلوم أن البقل ينبت في الأرض شيئًا فشيئًا لا يُحِسّ الناس بنباته، فكذلك ما يبدو في القلوب من الزندقة والنفاق قد لا يشعر به أصحاب القلوب، بل يظنون أنهم ممن تحقق، ويكون فيهم شبه كثير ممن تزندق. ويوضح هذا أن دعوى التحقق والتحقيق والحقائق قد كثرت على ألسنة أقوام، هم من أعظم الناس زندقة ونفاقًا، قديمًا وحديثًا، من الباطنية القرامطة، والمتفلسفة الاتحادية، وغير هؤلاء. وكذلك قوله: "هو وارد حق يزعج القلوب إلى الحق". يقال له: إن كان قد تنزعج به بعض القلوب أحيانًا إلى الحق، فالأغلب عليه أن يزعجها إلى الباطل، وقلما يزعجها إلى الحق محضًا. بل قد يقال: إنه لا يفعل ذلك بحال، بل لابد أن يُضم إلى ذلك شيء من الباطل، فيكون مزعجًا لها إلى الشرك الجليّ أو الخفيّ، فإن ما يزعج إليه هذا السماع مشترك بين الله وبين خلقه، فإنما يزعج إلى القدر المشترك، وذلك هو الإشراك بالله. =

وابتلىَ كل واحد من الفريقين بالآخر. فلا يصطلحان إلا إذا ترك أحدهما ما عنده لما عند الآخر، وامتحن كلًّا من الإنسان والشيطان بالآخر، وسلَّط كلًّا منهما على الآخر وأعانه عليه، فأعان الإنسانَ على الشيطان بطاعته وذكره وتقواه وصبره واستعاذته بربه منه، وأعان الشيطانَ على الإنسان بفجوره ونسيانه لربه ومعصيته لأمره. وامتحن بدنَ الإنسان وجوارحه بنفسه، ونفسَه ببدنه وجوارحه. ولا تزال الخصومة بين يدي الرب تعالى بين هؤلاء الممتحن بعضهم ببعض، حتى تختصم الروح والبدن بسبب ذلك الامتحان والفتنة، فيحكم بينهما بأعدل الحكم. ¬

_ = ولهذا لم يذكر الله هذا السماع في القرآن إلا عن المشركين، الذين قال فيهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35]، فلا يكون مزعجًا للقلوب إلى إرادة الله وحده لا شريك له، بل يزعجها إلى الباطل تارةً، وإلى الحق والباطل تارةً. ولو كان يزعج إلى الحق الذي يحبه الله خالصًا أو راجحًا، لكان من الحسن المأمور به المشروع، ولكان شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو فعله، ولكان من سنة خلفائه الراشدين، ولكان المؤمنون في القرون الثلاثة يفعلونه، لا يتركون ما أحبه الله ورسوله، وما يحرّك القلوب إلى الله تحريكًا يحبه الله ورسوله. وأيضًا فهذا الإزعاج إلى الحق، قد يقال: إنه إنما قد يحصل لمن لم يقصد الاستماع، بل صادفه مصادفة سماع شيء يناسب حاله، بمنزلة الفأل لمن خرج في حاجة. فأما من قصد الاستماع إليه والتغنّي به، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن".

الكلام على قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك}

وجعل سبحانه حكمة هذه الفتنة والمحنة استخراجَ صبرهم وصدقهم، فمن صبر وصدق كانت الفتنة في حقه عين كماله وسعادته، ومن لم يصبر ولم يصدق كانت هذه المحنة سببَ هلاكه، فهذه المحنة عينُ حكمته، فهي كالكِيْر الذي ميَّز بين الطيب والخبيث، ولولا هذا الامتحان لما تميز هذا من هذا. وإذا عرف العبد هذا فما أولاه بالصبر والتأسي إذا علم أن العالم كله في محنة! وبالله التوفيق. وسمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الانشراح: 1 - 4]، فقال: شرح الله صدرَ رسوله أتمَّ الشرح، ووضع عنه وِزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع، وجمل لأتباعه حظًّا من ذلك، إذ كل متبوع فلأتباعه حظ ونصيب من حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له. فأتبعُ الناس لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أشرحُهم صدرًا، وأوضعهم وزرًا، وأرفعهم ذكرًا، وكلما قويتْ متابعتُه علمًا وعملًا وحالًا وجهادًا، قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبُها أشرحَ الناس صدرًا، وأرفعهم في العالمين ذكرًا. وأما وضعُ وِزرِه فكيف لا يوضع عنه ومن في السماوات والأرض ودوابُّ البر والبحر يستغفرون له؟ وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، كما أضدادها متلازمة، فالأوزار والخطايا تَقبِضُ الصدر وتُضيِّقه، وتُخمِلُ الذكرَ وتَضَعُه، وكذلك ضيق الصدر يضع الذكر ويجَلِبُ الوِزرَ، فما وقع أحد في الذنوب والأوزار إلا من ضيق صدره وعدم انشراحه، وكلما ازداد الصدر ضيقًا كان أدعى

إلى الذنوب والأوزار، لأن مرتكبها إنما يقصد بها شرْحَ صدره، ودَفْعَ ما هو فيه من الضيق والحرج، وإلا فلو اتسع بالتوحيد والإيمان ومحبة الله ومعرفته وانشرحَ بذلك لاستغنى عن شرحه بالأوزار، ولهذا أكثرُ من يُواقِع المحظورَ إنما يدفع به عن نفسه ما فيها من الهمّ والغمّ والضيق، وكثيرًا ما تَبرُد شهوته وإرادته، ومع هذا يَحرِصُ على المعاودة تداويًا منه بزعمه، كما أفصح عن هذا شيخُ الفسوق أبو نواس بقوله (¬1): وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأخرى تداويتُ منها بها فإذا حمل العبد الأوزار أوجب له ذلك ضيقَ الصدر وخمولَ الذكر، ثم خمولُ الذكر يوجب له ضيقَ الصدر، فلا يزال المعرض عن طاعة الله ورسوله مترددًا بين هذه المنازل الثلاث، كما لا يزال المطيع لله ورسوله الذي باشر قلبه روحَ التوحيد وتجريدَه ومحبةَ الله ورسوله وامتثالَ أمره دائرًا بين تلك المنازل الثلاث. وإذا ثَقُلَ الظهر بالأوزار منع القلبَ من السير إلى الله، والجوارحَ من النهوض في طاعته، وكيف يقطع مسافةَ السفر مُثْقَلٌ بالحمل على ظهره؟ وكيف ينهض إلى الله قلب قد أثقلته الأوزار؟ فلو وُضِعت عنه أوزاره لنهض وطار شوقًا إلى ربه، ولانْقلبَ عسرُه يسرًا، فإن ضيق الصدر وحمل الوزر وخمول الذكر من أعظم العسر، ومعه يسرٌ يقلبه إليه، وهو تجريد التوحيد وتجريد الطاعة بمتابعة الرسول، وهما ¬

_ (¬1) البيت ليس لأبي نواس، بل للأعشى في ديوانه (ص 173) من قصيدة مشهورة له.

الكلام على سورة العصر

الأصلان اللذان ختم بهما السورة، فقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح: 7 - 8]، فالنصب: التفرغ للعبادة والطاعة. والرغبة إلى الله وحده: تجريد توحيده. فمتى قام بهذين الأصلين حصل له من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر بحسب ما قام به، وبُدِّل عُسْرُه يسرًا. وسمع قارئًا يقرأ: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، فقال: لو أن الناس أخذوا كلهم بهذه السورة لوَسِعتْهم أو كفتْهم، كما قال الشافعي - رضي الله عنه -: "لو فكَّر الناس في سورة والعصر لكفتْهم" (¬1). فإنه سبحانه قسَّم نوع الإنسان فيها قسمين: خاسرًا ورابحًا، فالرابح من نصح نفسه بالإيمان والعمل الصالح، ونصح الخلق بالوصية بالحق المتضمنة لتعليمه وإرشاده، والوصية بالصبر المتضمنة لصبره هو أيضًا، فتضمنت السورة النصيحتين والتكميلين وغاية كمال القوتين، بأخصر لفظ وأوجزه وأهذبه وأحسنه ديباجةً وألطفه موقعًا. أما النصيحتان فنصيحة العبد نفسه، ونصيحته أخاه بالوصية بالحق والصبر عليه. وأما التكميلان فهو تكميله نفسه وتكميله أخاه. وأما كمال القوتين فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والنظر، ¬

_ (¬1) انظر "تفسير ابن كثير" (8/ 3852).

قول صاحب الغناء: ما غرضك بهذه الشواهد وتكثيرها؟ وما علاقتها بمسألة السماع؟

وكمالها بالإيمان، وقوة الإرادة والحب والعمل، وكمالها بالعمل الصالح، ولا يتم ذلك لها إلا بالصبر. فصار ههنا ستة أمور: ثلاثة يفعلها في نفسه ويأمر بها غيره، تكميل قوته العلمية بالإيمان، والعملية بالأعمال الصالحة، والدوام على ذلك بالصبر عليه، وأمره لغيره بهذه الثلاثة، فيكون مؤتمرًا بها آمرًا بها متصفًا بها معلِّمًا لها داعيًا إليها، فهذا هو الرابح كل الربح، وما فاته من الربح بحسبه وحصل له نوع من الخسران، والله المستعان وعليه التكلان. فصل * قال صاحب الغناء: لا ندري ما غرضك بهذه الشواهد وتكثيرها؟ ولا ندري ما تعلقها بمسألة السماع وارتباطها بها نفيًا وإثباتًا؟ * قال صاحب القرآن: الغرض بهذه الشواهد التنبيه على فتح سماع القرآن وما يثيره من كنوز العلم والإيمان، والاستغناء عن فتح سماع الشعر وما يثيره من النفاق والشهوات، والموازنة بين هذا الذوق في القرآن الذي ذكر منه دون سَمِّ الخياط بالنسبة إلى ما وراءه وبين ذوق سماع الشعر، فهل يجد صاحب الغناء في سماعه لطيفةً من هذه اللطائف التي نبَّهنا عليها أدنى تنبيه؟ وهل يمكنه أن يستثمر من الغناء فائدة من هذه الفوائد التي تُنبِت الإيمان في القلب كما يُنبِت الماء البقل؟ فإن وجد شيئًا من هذا الذوق فليُفِدنا إيّاه وليضع فيه كتابًا أو أوراقًا، أفلا يستحيي العاقل من نفسه إن لم يَستَحْيِ من الله ورسوله

قول صاحب الغناء: أين في السنة كراهية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغناء ومنعه منه

وعباده المؤمنين أن يعرض عن مثل هذا الذوق والمعرفة إلى ذوق الغناء الذي هو قرآن الشيطان؟ ثم لا يقنع بذلك حتى يراه قربةً وطاعة وزيادة في حاله وإيمانه، ثم لا يقنع بذلك حتى يرجحه على (¬1) سماع القرآن من وجوه متعددة، فوالله لو كان الأمر كما تزعمون لما سبقتم صاحبَ القرآن إليه، ولزاحمكم عليه أشدَّ مزاحمة، ولكن كلام الله عنده أجلُّ وأوقر وأعظم أن يزاحمه بقرآن الشيطان أو يجمع بينه وبينه، فإنه لا تجتمع بنتُ رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحدٍ أبدًا (¬2). * قال صاحب الغناء: فأَوجِدُونا في السنّة كراهيةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للغناء ومَنْعَه منه أصرحَ مما ذكرتم، لنزداد بصيرة. * قال صاحب القرآن: في بعض ما ذكرنا كفاية لمَن بصَّره الله، وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده (¬3) من حديث أبي برزة قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فسمع رجلين يتغنيان، فقال: من هذان؟ فقيل له: فلان وفلان، فقال: اللهم ارْكُسْهما في الفتنة رَكْسًا، ودُعَّهما إلى النار دَعًّا". فلو كان الغناء مباحًا أو قربة لم يَدْعُ عليهما. ¬

_ (¬1) في الأصل: "عن". (¬2) يشير إلى حديث سبق تخريجه. (¬3) رقم (7437). وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "المصنف" (15/ 232 - 233) وأحمد في "المسند" (4/ 421)، والبزار في مسنده (3859). وإسناده ضعيف جدًّا، مسلسل بالضعفاء والمجاهيل: يزيد بن أبي زياد ضعيف، وسليمان بن عمرو ابن الأحوص مجهول، وأبو هلال لا يعرف.

وقد روى الطبراني في معجمه (¬1) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال إبليس لربه: يا ربِّ قد أُهبِط آدم، وقد علمتُ أنه سيكون كتابٌ ورسلٌ، فما كتابهم ورسلهم؟ قال: رسلهم الملائكة والنبيون منهم، وكتبهم التوراة والزبور والإنجيل والفرقان. قال: فما كتابي؟ قال: كتابك الوشم، وقرآنك الشعر، ورسلك الكهنة، وطعامك ما لا يذكر اسم الله عليه، وشرابك كل مسكر، وصدقك الكذب، وبيتك الحمام، ومصايدك النساء، ومؤذِّنك المزمار، ومسجدك الأسواق". وقال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] فقال عبد الله: هو والذي لا إله غيره: الغناء. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الغناء. صح ذلك عنهما (¬2). قال أبو عبد الله الحاكم: تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع (¬3). وقال ابن مسعود: إذا ركب الرجل الدابةَ فلم يذكر اسم الله عليه ¬

_ (¬1) رقم (11181). قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 114): فيه يحيى بن صالح الأيلي، ضعفه العقيلي. وأخرجه أيضًا أبو نعيم في الحلية (3/ 278، 279) عن الطبراني وقال: هذا حديث غريب من حديث عبيد الله بن عمير وإسماعيل بن أمية، تفرد به عنه يحيى بن صالح الأيلي. (¬2) سبق تخريج الأثرين. (¬3) قال في المستدرك (2/ 258): ليعلم طالب العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند.

رَدِفَه الشيطان، فقال له: تغنَّ، فإن لم يُحسِنْ قال له: تمنَّ (¬1). وفي سنن ابن ماجه (¬2) أن رجلًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتأذنُ لي في الغناء من غير فاحشة؟ فإني لا أُرزَق إلا من دفِّي بكفِّي، فقال: " [لا] آذنُ لك ولا كرامةَ، كذبتَ عدوَّ الله، لقد رزقَك حلالًا طيبًا، فاخترتَ ما حرّم الله من رزقه مكانَ ما أحلَّ الله، أمَا إنك إن نلتَ بعد التقدمة منه شيئًا ضربتُك ضربًا وجيعًا، وحلقتُ رأسك مُثلة، ونفيتُك من أهلك، وأحللتُ سَلَبَك نهبةً لفتيان المدينة". فقام وبه من الشر والخزي ما لا يعلمه إلا الله، فلما ولَّى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هؤلاء العصاة مَن مات منهم بغير توبة حشره الله يوم القيامة كما كان، مخنثًا عريانًا لا يستتر من الناس بهُدْبةٍ، كلّما قام صُرِعَ". وفي الغيلانيات (¬3) عن علي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثتُ بكسر المزامير، وأقسم ربي لا يشرب عبد في الدنيا خمرًا إلا سقاه الله يوم ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (10/ 397) والطبراني في "المعجم الكبير" (8781) عنه موقوفًا. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 131): رجاله رجال الصحيح. (¬2) رقم (2613). قال البوصيري في الزوائد: في إسناده بشر بن نمير البصري، قال فيه يحيى القطان: كان ركنًا من أركان الكذب. وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وكذا قال غيره. ويحيى بن العلاء، قال أحمد: يضع الحديث، وقريب منه ما قال غيره. (¬3) برقم (84). وأخرجه أيضًا الآجري في تحريم النرد والشطرنج (ص 191). وفي إسناده موسى بن عمير، كذَّبه أبو حاتم وضعَّفه ابن عدي. انظر "ميزان الاعتدال" (4/ 215).

القيامة حميمًا بعدُ معذبًا أو مغفورًا له". ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَسْب المغنية والمغني حرام، وكسب الزانية سُحْت، وحقٌّ على الله أن لا يُدخِل الجنةَ بدنًا نَبَتَ من سُحْتٍ". فلو كان الغناء حلالًا لم يكن [كسبُه] حرامًا، ولم يقرن بينه وبين كسب الزانية، وبين عمله وعمل الزانية. وفي مسند مسدد بن مسرهد (¬1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُمسَخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردةً وخنازيرَ"، قالوا: يا رسول الله! أمسلمون هم؟ قال: "نعم، يشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويصدقون ويصلُّون"، قالوا: فما بالهم يا رسول الله؟ قال: "اتخذوا المعازفَ والقيناتِ والدفوف، وشربوا هذه (¬2) الأشربة، فباتوا على شرابهم ولهوهم فأصبحوا قد مُسِخوا". وفي مسند الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه (¬3) عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل شراء المغنيات ولا بيعهن ولا تعليمهن ولا تجارة فيهن وثمنهن حرام"، وتلا هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (15/ 164) وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (89) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 119). وإسناده حسن. (¬2) في الأصل: "على هذه". (¬3) أخرجه أحمد (5/ 264) والترمذي (1282، 3195) وابن ماجه (2168). وقال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما يروى من حديث القاسم بن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث. قلت: وفي إسناده عبيد الله بن زحر، وهو أيضًا ضعيف.

قول صاحب الغناء: أثر ابن عمر في سد أذنيه وإقراره لنافع على سماع صوت الزمر يدل على أنه ليس حراما

الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان: 6]. وفي صحيح البخاري (¬1) عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كَذَبني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليكوننَّ في أمتي أقوام يستحلُّون الحرير والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوام إلى جَنْب عَلَمٍ يروحُ عليهم بسارحةٍ لهم، فيأتيهم رجل لحاجةٍ فيقولون له: ارجعْ إلينا غدًا، فيبيِّتُهم الله -عز وجل-، ويضع العَلَمَ عليهم، ويَمْسَخ آخرين قِردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة". وهذا حديث صحيح لا مطعنَ فيه، وأخطأ مَن طعن فيه بأن البخاري علَّقه ولم يسنده، فإن البخاري في صحيحه احتج به، وجزمَ بروايته عمن علَّقه عنه، فقال: "وقال هشام بن عمار". وقد لقي البخاري هشام بن عمار وروى عنه، وقد رواه عن هشام ثقتان ثبتان لا مطعن فيهما فهو صحيح متصل عند أهل الحديث (¬2). فصل * قال صاحب الغناء: قد روى الإمام أحمد (¬3) عن نافع قال: كنا ¬

_ (¬1) برقم (5590). (¬2) انظر "فتح الباري" (10/ 52 وما بعدها). (¬3) في "المسند" (2/ 8، 38). وأخرجه أيضًا أبو داود (4924) وابن ماجه (693)، وقال أبو داود: هذا حديث منكر. قال العظيم آبادي في "عون المعبود" (4/ 434): هكذا قاله أبو داود، ولا يُعلَم وجه النكارة، فإن هذا الحديث رواته كلهم ثقات، وليس بمخالف لرواية أوثق الناس.

قول صاحب القرآن: هذا حجة عليكم لا لكم

مع ابن عمر في سفر، فسمع صوتَ زامرٍ فوضع إصبعيه في أذنيه وعَدَلَ عن الطريق، ثم قال: يا نافع أتسمع؟ قلت: لا، فراجع الطريق، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل". فلو كان صوت الزمر حرامًا لما أقرَّ عبد الله نافعًا على أن يسمعه، وإنما سدَّ ابن عمر أذنيه تورُّعًا وكراهةً، وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا ثبت حِلُّ الزمر فالشبابات والمواصيل والدفوف المصلصلة مثله. * قال صاحب القرآن: عجبًا لكم أيها السماعاتية! كيف تَدَعون المحكم وتتمسكون بالمتشابه؟ وهذا شأن كل مبطل، وهذا الحديث هو إلى أن يكون حجةً عليكم أقربُ من أن يكون حجةً لكم على ما تقررونه من سماع ما حرمه الله ورسوله. فإنَّ سد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأذنيه من أبين الأدلة على أنَّ هذا الصوت منكر، وهو من الأصوات التي ينبغي سدُّ الآذان عند سماعها، لأنها مما يُبغِضه الله ورسوله. وسَدُّ الأذنين عند هذا الصوت نظيرُ غضِّ البصر عند رؤية المحرمات. وأما كونه لم يأمر نافعًا بسدِّ أذنيه عنده، فلأن المحرم إنما هو الاستماع والإصغاء، لا السماع من غير إصغاء واستماع، فلا يجب على الإنسان سدُّ أذنيه عند سماع الأصوات المحرمة، وإنما الذي يحرم قصد استماعها والإصغاء إليها. ونظير هذا احتجاجكم بغناء الجويريتين في بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه سمعه ولم ينكره، فأخطأتم في النظر، ولم تفرقوا بين فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعلكم، ولا بين فعل نافع وفعلكم، فأنتم تقصدون الاستماعَ، والسماع

غير الاستماع، وكذلك فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع، فاستحبوه للمستمع، ومنهم من أوجبه عليه، بخلاف السامع. والسامع هو الذي يصل الصوت إلى مسامعه من دون قصدٍ إليه، والمستمع المصُغِي بسمعه إليه، والأول غير مذموم فيما يذم استماعه، ولا ممدوح فيما يمدح استماعه، وقد قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، فمدحهم على الإعراض عنه، ولم يذمَّهم على سماعه إذا كان عن غير قصد منهم. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صُبَّ في أذنيه الآنُكُ يومَ القيامة" (¬1). أو كما قال. وكذلك ما رواه الحافظ أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي في الجزء الثاني من حديثه (¬2): حدثنا أبو نعيم -هو عبيد بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (7042) عن ابن عباس. وفي الأصل: "من حديث". (¬2) هذا الحديث أخرجه بهذا الطريق ابن حزم في "المحلى" (9/ 57)، وقال: هذا حديث موضوع مركب فضيحة، ما عُرِفَ قطُّ من طريق أنس، ولا من رواية ابن المنكدر، ولا من حديث مالك، ولا من جهة ابن المبارك. وكل من دونَ ابن المبارك إلى ابن شعبان مجهولون. قال الحافظ ابن حجر في "اللسان" (5/ 349) معقِّبًا عليه: لم يُصب في دعواه أنهم مجهولون، فإن أبا نعيم ويزيد بن عبد الصمد مشهوران. وقد أخرج الدارقطني الحديث المذكور في غرائب مالك من طريقين آخرين عن أبي نعيم، وقال: تفرد به أبو نعيم عن ابن المبارك، ولا يثبت هذا عن مالك ولا عن ابن المنكدر. وقال الإمام أحمد: هذا حديث باطل. انظر "العلل" رواية المروذي (ص 255) و"المنتخب من العلل" للخلال (ص 43).

هشام الحلبي، وقال فيه أبو حاتم: صدوق (¬1) -حدثنا [ابن] المبارك عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قعد إلى قَينةٍ يسمع منها صُبَّ يومَ القيامة في أذنيه الآنك". وفي بعض ألفاظه: "من قَعدَ إلى قَينةٍ يستمع منها". وكذلك ما مدح من المستمع إنما هو الاستماع والإصغاء، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18]، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29]. وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]. ولا يختص بحاسة السمع، بل بما يتعلق بحاسة السمع، بل ما يتعلق بحاسة الشمّ والنظر واللمس كذلك، فإنَّ المحرم لا يحرم عليه شيء من الطيب إذا حَمَلتْه الريح وألقَتْه في خياشيمِه، ولا يجب عليه سدُّ أنفِه كذلك، وإنما الذي مُنِعَ منه القصد لشمِّه واستنشاقِه وتروُّحه، وهذا شيء، ومجردُ شمِّه من غير قصدٍ شيءٌ آخر. وكذلك النظر، إنما المحرم منه قصد النظر وإتباعُ النظرةِ النظرةَ، لا نظر الفُجاءةِ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُتبِع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى" (¬2)، وقال علي: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري (¬3). ¬

_ (¬1) انظر "الجرح والتعديل" (6/ 5). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هذا الحديث أخرجه مسلم (2159) بهذا اللفظ عن جرير بن عبد الله، لا عن =

نسبة الغناء إلى الشريعة من الدواهي

وكذلك اللمس إنما المحرَّم منه قصد مسِّ بَشَرتِه بشرةَ المحرَّم، فلو وقعت بَشَرتُه على بَشَرةِ المحرَّم من غير قصد لزحمةٍ أو غيرها لم يكن ذلك حرامًا. ولكن هل سمعتم معاشرَ أصحاب الغناء أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحدًا من أصحابه استحضر مغنيًا أو مغنية، وجلس إليها قصدًا، أو كان جالسًا ناحيةً أو مارًّا في طريق، فسمع صوتَ جويرياتٍ أو زمَّارةٍ، ولم يقصد استماعه؟ فطفرتم القنطرةَ، وجعلتم هذا حجةً في استحضار القينات والمغنين والرقاصين والشبابات والمواصيل، وجعلتم لهم الأجرة والحِبَاء والكرامة والخِلَع، ومزَّقتم عليهم القلوب قبل الثياب، وجُدْتُم لهم بما بخلتم على الأرملة والمسكين واليتيم بالحبة منه، وزعمتم أنَّ ذلك قربة وطاعة، وصدقتم هو قربةٌ إلى الجحيم وطاعة للشيطان الرجيم، ثمّ جلستم منه منصتين، وقمتم له على الأقدام متواضعين معظمين. والمصيبة العظمى والداهية الكبرى نسبتكم ذلك إلى شريعة خاتم الرسل، التي هي أكمل شريعة طرقت العالم إباحة واستحبابًا، ومعاذ الله وحاشا شريعتَه من نسبة ذلك إليها، وليس العجب من جاهلٍ قلبُه في غِطاءٍ عن العلم لا يفرق بين ما فعله الرسول وما يفعله هؤلاء، ولكن العجب ممن نَصبَ نفسه للعلم والتأليف، ويَعُدُّ نفسَه من الأئمة الهداة المرشدين، لا يفرق بين هذا وهذا، ويحتجُّ على جواز الاستماع ¬

_ = علي. وحديث علي هو الحديث السابق.

قول صاحب الغناء: ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغناء في العرس

على الوجه المذكور بسماع صوت الزمارة، وسماع غناء الجويريتين، فهلَّا فعلتم مثل فعل الجويريات؟ وأخذتم الدفوف، وضربتم بها في الطرقات، وغنيتم بغنائهن، واقتصرتم على ذلك، ولم تضمُّوا إليه سائرَ المحرمات والقبائح؟ فلو فعلتم ذلك مع قبحه لكان أسهلَ وأقلَّ إثمًا وأدنى إلى الخلاص. فصل * قال صاحب الغناء: فقد روى الإمام أحمد في مسنده (¬1) عن عائشة أنَّ جارية من جواري الأنصار أُهدِيتْ إلى زوجها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الذي قالوا؟ قالوا: لم نقل شيئًا، فقال: الأنصار قوم فيهم غزلٌ، ألا قلتم: أَتَيناكم أَتَيناكم ... فحَيُّونا نُحيِّيْكم فهذا ندبٌ منه إلى الغناء، وتعليلٌ بأنَّ القوم الذين فيهم غزل لا يصبرون عن الغناء. * قال صاحب القرآن: هذا الحديث أولًا قد ضعَّفه الإمام أحمد ولم يصححه، ثمَّ لو صحَّ فهو ترخيص في الغناء العارض، وهو في ¬

_ (¬1) (3/ 391) من طريق أجلح عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة .. ، وأخرجه أيضًا النسائي في "السنن الكبرى" (5566)، والبزار كما في "كشف الأستار" (1432) بهذا الطريق. وأجلح ضعيف يعتبر به. وأصل الحديث ثابت في الصحيح، فقد أخرجه البخاري (5162) من طريق عروة عن عائشة.

لم يلزم منه الرخصة للرجال ولا في عموم الأحوال

الأعراس للنساء بغناء الأعراب، وأين ذلك من هذا السماع أو الغناء المعتاد؟ فبينه وبين غناء الأعراب المرخَّص فيه كما بين المُسْكِر والشراب الحلال، وكما بين الميتة والمذكَّاة. وأيضًا فإنَّ غاية ما فيه قول الشعر: أتيناكم أتيناكم، ومن حرَّم مثل هذا وإن سُمّي غناء؟ ثمّ لو ثبت أنَّه غناء لم يلزم منه الرخصة للرجال ولا في عموم الأحوال، وقد كان عمر بن الخطاب إذا سمع صوتَ دُفٍّ قصد إليه، فإن كان في عُرسٍ تركه، وإلَّا أنكره (¬1). فصل * قال صاحب الغناء (¬2): السماع ألطفُ غذاءٍ للأرواح عند أهل المعرفة والذوق، وما كان بهذه المنزلة كيف يُمنع منه؟ * قال صاحب القرآن: صدقتَ، فإنَّ السماع فيه تغذية للنفوس، بل هو من أقوى أغذيتها، حتى قيل: إنَّه لم يُسَمَّ غناءً إلا لأنَّه يُغني النفس. لكن الكلام معك في مقامين: أحدهما: أن يقال: هل هو غذاء للنفس أو غذاء للروح على (¬3) أصلك؟ فإن ادَّعيتَ أنَّه غذاء للروح كانت دعوى مجردة، لا يمكنك ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 510). (¬3) في الأصل: "إلى على".

هو مجرد حظ النفس وغذاؤها

تصحيحُها البتةَ، فإنَّ ما يجده صاحبه به من التغذية أمر معلوم، ولكن من أين له أنَّه غذاء لقلبه وروحه وليس غذاءً لنفسه؟ ثمَّ نتبرع لك بالدليل على أنَّه من أعظم أغذية النفس، فإنَّه محض حقها وحظها وشهوتها، وليس من الحق الواجب عليها المراد منها، وما هذا شأنه فهو مجرد حظ النفس وغذاؤها. وهذا بيِّن لمن له فُرقانٌ بين قُوتِ قلبه وروحه وقُوتِ نفسه. وقبيح بالسالك الصادق أن يُؤثِر حظَّ نفسه وإرادتها على حق ربه ومراده منه، حتى يفنى بحظه عن الحق الذي عليه، بل يبلغُ به تلبيسُ النفس والشيطان إلى أن يُصيِّر محضَ حظِّه وقُوتَ نفسه هو الطريق إلى الله، ويجعله طريقَ (¬1) الخواص، وطريقةَ الأمر واتباع الرسول عنده طريقةَ العوام. ولهذا جعل الجنيدُ الزاعمين أنهم يَصِلُون إلى الله بهذه الطريق واصلين إلى سَقَر (¬2). وصدق فإنَّ الله لا يصل إليه [أحدٌ] إلا من الطريق التي فَتحَها ونَهَجَها على ألسُن رسله (¬3)، ونصبَها لعباده، وسدَّ جميع الطرق إليه دونها، فلم يفتح لأَحد قط إلا من تلك الطريق، فالسالك من غيرها لا يصل إليه أبدًا، وكل من لم يصل إليه فهو واصل إلى سقر. قال أبو القاسم الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريق ¬

_ (¬1) في الأصل: "الطريق". (¬2) سبق نحوه عن أبي علي الروذباري. (¬3) في الأصل: "رسوله".

انقسام أغذية النفوس إلى طيب وخبيث، وحلال وحرام

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). وقال: "يقول الله -عز وجل-: "وعزَّتي وجلالي، لو أتَوني من كل طريق واستفتحوا من كل باب ما فتحتُ لهم حتى يدخلوا خلفك"" (¬2). المقام الثاني: أن أغذية النفوس تنقسم إلى طيب وخبيث، وحلال وحرام، كما تنقسم أغذية الأبدان، وليس كل ما يُغذى به الإنسان في بدنه أو نفسه يكون طيبًا. ولا ريبَ أن سماع الألحان والمعازف المحرمة يتغذى به أهله تغذيةً قوية، وكلما كان السامع أجهل كان غذاؤه به أقوى، كما يُغذى به الأطفال وضعفاء العقول، ولهذا يشتدُّ تأثيره في النساء وأهل البوادي والأعراب وكل من ضعف عقله ومعرفته. فأما السماع الشرعي فهو أصلح الأغذية وأطيبها وأنفعها للعارفين، وهو غذاء قلوبهم الذي لا يُشبَع منه، كما قال إمام أهل هذا السماع عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: "لو طَهُرتْ قلوبنا لما شبِعتْ من كلام الله" (¬3). وفي صفة القرآن: "لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء" (¬4). ¬

_ (¬1) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 79). و"حلية الأولياء" (10/ 257). (¬2) ذكره المؤلف في "طريق الهجرتين" (ص 9) و"جلاء الأفهام" (ص 359). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) كما في الحديث الذي أخرجه الدارمي (3331) والترمذي (2906) والبزار في "مسنده" (836) من طريق أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث عن الحارث الأعور عن علي مرفوعًا. وأبو المختار وابن أخي الحارث مجهولان. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. . . وإسناده مجهول، وفي حديث الحارث مقال. وأخرجه أحمد (1/ 91) والبزار (834) وأبو يعلى (367) من طريق ابن =

قول صاحب الغناء: شأن المشايخ شأن آخر، وإشاراتهم غير إشارات أهل اللهو والبطالة، كما تدل عليه أقوال كبار الصوفية

فهو قوتُ القلب (¬1) وغذاؤه، ودواؤه من أسقامه وشفاؤه، وأما السماع الشعري الشيطاني فهو سُحْتٌ، وقلب تَغذَّى بالسُّحت بعيدٌ من الله، غير الله أولى به. فصل * قال صاحب الغناء (¬2): شأن القوم الذين أنكرتم عليهم السماع شأن آخر، وإشاراتهم التي يتلقَّونها من السماع غير إشارات أهل اللهو والبطالة، وإن كان ظاهره محذورًا أو مكروهًا. ولهذا سئل الشبلي عن السماع فقال: ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارات حلَّ له السماع بالعبرة، وإلا فقد استدعى الفتنةَ وتعرض للبلية. ولهذا قال بعض العارفين: لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حيٌّ، فنفسُه ذُبِحَتْ بسيوف المجاهدة، وقلبُه حيَّ بنور المشاهدة. وسئل أبو يعقوب النهرجوري عن السماع، فقال: حال تُبدِي الرجوع إلى الأسرار من حيث الإحراق. وقالوا: السماع على قسمين: ¬

_ = إسحاق قال: وذكر محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور به. والحارث ضعيف كما ذكرنا، ثم هو منقطع بين ابن إسحاق ومحمد بن كعب. (¬1) في الأصل: "القلوب". والمثبت يناسب ما بعدها. (¬2) انظر "الرسالة القشيرية" (ص 510). والنصوص المنقولة عن الصوفية كلها فيها.

سماع بشرط العلم والصحو، فمن شرطِ صاحبه معرفة الأسماء والصفات، وإلا وقع في الكفر المحض. وسماع بشرط الحال، فمن شرطِ صاحبه الفناء عن أحوال البشرية والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة. وسئل رُوَيم عن وجود (¬1) الصوفية عند السماع، فقال: يشهدون المعاني التي تَعزُب عن غيرهم، فتشير إليهم إليَّ إليَّ، فيتنعمون بذلك من الفرح، ثم يقع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء، فمنهم من يَخرِق ثيابه، ومنهم من يصيح، ومنهم من يبكي، كل إنسان على قدره. وقال الحصري: أيشٍ أعملُ بسماع ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ ينبغي أن يكون سماعك سماعًا متصلًا غير منقطع، وينبغي أن يكون ظَمَأ دائم، فكلما ازداد شربه ازداد ظمؤُه (¬2). وقالوا: السماع نداء، والوجدُ قصْد. وقال أبو عثمان المغربي: قلوب أهل الحق حاضرة وأسماعهم مفتوحة. وقال أبو سهل الصعلوكي: المستمع بين استتارٍ وتجلٍّ، فالاستتار يوجب التلهُّب، والتجلِّي يوجب الترويح، والاستتار يتولد منه حركات ¬

_ (¬1) جمع وَجْد. أو مصدر بمعنى التواجد. (¬2) في الأصل: "ازدادوه". خطأ.

المريدين، وهو محل العجز والضعف، والتجلي يتولد منه سكونُ الواصلين، وهو محل الاستقامة والتمكين، وذلك صفة الحضرة، ليس فيها إلا الذبول تحت موارد الهيبة. قال تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29]. وقال أبو عثمان الحِيري: السماع على ثلاثة أوجه: فوجه منها للمريدين والمبتدئين، يستدعون بذلك الأحوالَ (¬1) الشريفة، ويُخشَى عليهم في ذلك الفتنةُ والمراآةُ. والثاني: للصادقين، فيطلبون الزيادة في أحوالهم، ويستمعون من ذلك ما يوافق أوقاتهم. والثالث: لأهل الاستقامة من العارفين، فهؤلاء لا يختارون على الله فيما يرد على قلوبهم من الحركة والسكون. وقد حكي عن أحمد بن أبي الحواري أنه قال: سألت أبا سليمان عن السماع، فقال: من اثنين أحبُّ إليَّ من واحد. وأبو سليمان ممن لا يُدفَع محلُّه عن الإمامة والمعرفة. وسئل أبو الحسين النوري عن الصوفي، فقال: من سمع السماع وآثر الأسباب. وقال أبو عثمان المغربي: من ادَّعى السماع ولم يسمع صوت ¬

_ (¬1) في الأصل: "أحوال".

قول صاحب القرآن: الكلام على كلمات هؤلاء الصوفية من وجهين: مجمل ومفصل

الطيور وصرير الباب وصفير الرياح، فهو مفترٍ مدَّعٍ. وكان بعض المشايخ ممن صحب الجنيد يحضر موضعَ السماع، فإن استطابه فرشَ إزاره وجلس، وقال: الصوفي مع قلبه، وإن لم يستطبه قال: السماع لأرباب القلوب، وأخذ نعله ومرَّ. * قال صاحب القرآن: الكلام على ما ذكرتَه من هذه الكلمات من وجهين: مجمل ومفصل. أما المجمل: فإنه ليس فيها من أدلة الشرع التي تَثبُت بها الأحكام الخمسة، فليس فيها ما يقتضي إباحةً ولا استحبابًا ولا مدحًا ولا ذمًّا، وغايتها حكايات عن أقوام، أخبر كل منهم عن حاله ووجده في السماع، فأيُّ برهانٍ في هذا؟ وأي دليل لمن نصح نفسه وألهم رشده ووقاه الله شرَّ نفسه، حتى يجعل هذه الحكايات قدوة، ويدعو الناس بها إلى قرآن الشيطان وسماعه والتقرب به إلى الله؟ فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ ... وإن كنتَ تدري فالمصيبةُ أعظم (¬1) وأما الوجه المفصل فنذكر ما في كل جملة من هذا الكلام من الحق والباطل، وما يحتمل الأمرين، ونعطي كل ذي حق حقَّه، قضاءً بحق النصيحة، واتباعًا لمرضاة الرب تعالى، وبراءةً من العصبية، وإيثارًا للعلم والعدل، ولا قوةَ إلا بالله. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

أما قولك: "إن القوم لهم في السماع شأن آخر غير شأن أهل اللهو والبطالة"، فصدقتَ، ولكن لهم فيه خطر آخر غير خطر أهل اللهو والبطالة، فهم فيه على خطر عظيم، زلَّت فيه أقدام، وتعثَّرتْ فيه بأذيالها عقول وأحلام، ونصبَ لهم به إبليسُ شبكتَه، وأحكمَها بأنواع الحبائل والمصايد، فلو رأيت القوم فيها يَخبِطون لم يتخلص منهم إلا الواحد بعد الواحد، فسَلْ ناجيَهم عما لاقى مع القوم في شبكةِ السماع يُخْبِرك خبرًا مسندًا لا إرسال فيه ولا انقطاع. أما ما حكيتَ عن الشبلي فهو نقلٌ مجمل، غير معلوم الصحة، عن غير ثابت العصمة، فليَهْنَ المتمسك به نصيبه من العلم والهدى. والشبلي ومن هو أكبر من الشبلي من الشيوخ، لابدَّ من عرضِ أحواله وأقواله على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق، فيُقبل منها ما وافق الحق، وُيردّ منها ما خالفه، وما احتمل الأمرين جُعِل من المحتملات التي لا تُقبَل مطلقًا ولا تُردُّ مطلقًا، وبهذا الميزان يوزن كلام مَن دونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله كائنًا من كان. والشبلي كان يَعرِض له أحيانًا ما يُزِيل عقلَه، ويختلط حتى يُذهبَ به إلى المارستان. ومن كان بهذه الحال لا تكون أحواله وأفعاله حجة في طريق الحق والسلوك إلى الله، وله مع ذلك أقوال وأفعال حسنة جدًّا ومتوسطةٌ وبينَ بينَ، فلا تهُدَرُ بما غلط فيه، ولا يُلحَق ما غلط فيه بها، فيجعل محجة (¬1) وطريقًا، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا. ¬

_ (¬1) في الأصل: "محبة" تحريف.

وشيخه أبو القاسم الجنيد بن محمد شيخ القوم غير مدافع، أعرف بهذا الشأن منه، وأصحُّ طريقًا وأقرب إلى الاتباع، قد أخبر أن السماع فتنة لمن طلبه. فإذا كان لابد من التقليد فليقلَّد الجنيدُ أولى من تقليد الشبلي، وقد أطلق القول بأنه فتنةُ طالبه، وليس مراده أنه فتنة في الظاهر فقط، فإنه إنما يتكلم على صلاح القلوب وفسادها، وإنما أراد أنه يَفتِنُ القلبَ لمن طلبه، وهذا نهي وذم لا إطلاق وإباحة. وقوله: "من عرفَ الإشارة حلَّ له السماع بالعبرة"، يُضاهِي قولَ من قال: هو حرام على العامة مباح للخاصة مستحب لخاصة الخاصة، مما لا يأتي به شريعةٌ، وتأبى حكمة الله أن تشرعه، فيكون الحل والحرمة تبعًا للعموم والخصوص. وكان شيخنا قدَّس الله روحه يقول: ما أعلم أحدًا من المشايخ المقبولين يُؤثَر عنه في السماع نوعُ رخصةٍ وحَمْدٍ [إلا] ويُؤثرَ عنه الذم والمنع (¬1). وهذا من رحمة الله بعباده الصالحين، حيث يردُّهم في آخر أمرهم إلى الحق الذي بعث الله به رسوله، ولا يجعلهم مُصرِّين على ما يخالف الحق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. فإن قيل: ما معنى قوله: "مَن عرف الإشارة حلَّ له السماع ¬

_ (¬1) انظر الاستقامة (1/ 405)، ومنه زيادة ما بين المعكوفتين.

بالعبرة". قيل: الإشارة هي الاعتبار والقياس، بأن يجعل المعنى الذي في القول مثلًا مضروبًا لمعنى حقٍّ يناسب حال المستمع، ولهذا قال: "باطنه عبرة" أي يعتبر به، ولكن من أين لهذا القائل أن كل ما أمكن أن يعتبر به الإنسان يكون حلالًا؟ فإن الاعتبار قد يكون بما يسمع ويرى من المحرمات، فهل يحلُّ لأجل أن يعتبر أن يقصد النظر إلى الصور المبتدعة بالجمال التي حرم الله النظر إليها؟ ويقول: نظري إليها عبرةٌ أعبرُ منها إلى ما أعدّ الله لعباده في جنته! كما قال القائل: وإذا رآك العابدونَ تيقَّنُوا ... حُورَ الجِنانِ لدى النعيمِ الخالدِ (¬1) ويسمع الأصوات اللذيذة المحرمة، ويقول: هي عبرة! إلى أمثال ذلك. فصل وأمّا قول القائل: "لا يصلح السماع إلا لمن كانت له نفس ميتة وقلب حي"، فيقال له: أيَّ السماعين تعني؟ سماع الآيات أو سماع الغناء والأبيات؟ فإن أردتَ السماع الأول فهو سماعُ (¬2) أحياءِ القلوب، وأمّا أموات القلوب فلا نصيبَ لهم من هذا السماع، قال: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل: 80]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ¬

_ (¬1) البيت لأبي إسحاق الصابي في "يتيمة الدهر" (2/ 259). وسبق ذكره. (¬2) في الأصل: "السماع".

الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36]. فجعل الناس في هذا السماع قسمين: أهل استجابة وهم الأحياء، وأموات وهم المعرضون عنه سماعًا وإجابة. وإن أردتَ السماع الثاني فلا ريب أنه يُحيِي النفس، ويُميت القلب، ولكن أصحابه يَغلَطون، فيظنون أن الذي حيَّ منهم قلوبهم وإنما هو نفوسهم، وآية ذلك أنه لو أُحيي منهم قلوبهم لملأها من حب كلامه وسماعه والإصغاء إليه والاشتغال به وتدبر معانيه، فإن زمن الحياة يَضِيقُ عن استغراقه بل عن استغراق بعضه، فلا يبقى في القلب الحيِّ متَّسعٌ لغيره أبدًا، وهذا أمر معلوم بالذوق كما قال: لو كان في قلبي كقَدْر قُلامةٍ ... فضلًا لغيرك ما أتَتْك رسائلِي (¬1) فصل وأما قول القائل: "إن السماع حالٌ يُبدِي الرجوع إلى الأسرار من حيث الإحراق"، فهذا وصف منه لما يعتقبه السماع من الأحوال الباطنة، وقوة الحرارة والإحراق، وهذا أمر يُحِسُّه المرء ويجده في السماع، ولكن ليس في ذلك ما يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا إباحة ولا تحريمًا، إذ مثل هذا قدر مشترك بين السماع الكفري والفسقي والإيماني، فعُبَّاد الصلبان والأوثان والنيران والشيطان يجدون في سماعهم مثل هذا، وعُشَّاق المردان والنسوان والأهل والأوطان يجدون مثل هذا وأقوى ¬

_ (¬1) البيت لجميل بثينة في الأغاني (8/ 100، 115) وديوانه (ص 180).

منه، نعم السماع الذي يختص بالأحوال المختصة بأهل الله وخاصته هو سماع القرآن، فإنه إذا أعقبَ حالًا كانت مختصةً بالمؤمنين العارفين بالله لا يَشْرَكهم فيها من سواهم، فلا نجعل المشترك خاصًّا ولا الخاص مشتركًا. فصل وأمَّا قول القائل: "السماع على قسمين: سماع بشرط العلم والصحو، فشرط صاحبه معرفة الأسماء والصفات، وإلا وقع في الكفر" إلى آخره، فمراده بالأسماء والصفات أسماء الرب تعالى وصفاته، فإذا كان المسموع هو الأبيات الشعرية التي يذكر فيها أسماء المخلوقين وصفاتهم ومحاسنهم، وأنتم تأخذون مقصودكم منها بطريق الإشارة والاعتبار، فهذا مع ما فيه من الخطر العظيم المُوقِف لصاحبه على شفا جُرُفٍ هارٍ، يحتاج أن يفرِّق بين ما يوصف به الرب تعالى وبين ما لا يوصف به، لئلا يُنزِّل ما يسمعه من صفات المخلوق ونعوتهم على صفاته تعالى، فيقع في الفتنة والكفر. هذا إذا كان صاحبه صاحيًا يعلم ما يقول المغنّي، فإذا كان غيرَ راسخ في معرفة ما يوصف الله به وما لا يوصف، وأسكره السماع، ونزَّل ما يسمعه من المغنّي على أسماء ربّه وصفاتِه، فقد تعرّض من ربه تبارك وتعالى لغاية المقْتِ والطرد والبعد عنه، ولا يَسلَم من فتنة وكفر، وأحسن أحواله أن يكون صادقًا جاهلًا، فينجو بصدقه ويُرحَم لجهله، وأمّا أن يكون من خواص أولياء الله وسادات العارفين به ممن يُقتدى به

في هذا الشأن، فمعاذ الله! وكيف يليق بمَن يَدَّعي محبةَ الله والسلوكَ إليه أن يعتبر أسماءه وصفاته من أبيات الغناء، التي أحسنُ أحوالها أن تكونَ قيلتْ في امرأةٍ أو جاريةٍ حلال؟ وغالب أحوالها قِيلتْ في الحرام وشُبِّبَ بها فيه، ويَدَعُ تلقيَ ذلك من كلامه الذي تعرَّفَ به إلى عباده، وتجلىَّ فيه بأسمائه وصفاته وأفعاله لقلوبهم، لولا مرض مُزمِن في القلوب وشهوة يريد صاحبها تنفيذها تجاه الأسماء والصفات، هيهات هيهات! بل هي فتنة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ونحن لا ننكر وجود ذلك، فالمحبُّ يعتبر بكل ما يراه ويسمعه، ويكاد يخاطبه عن حبيبه ويخبره عنه، وإنما ينكر رِضَى الحبيب بذلك ومحبته له وتقريبه لصاحبه، فهذا لون ووجود الاعتبار لون. فصل وأمّا قوله: "وسماع بشرط الحال، فمن شرط صاحبه الفناء عن أحوال البشرية، والتنقي من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة"، فعند القوم أن أحكام العلم شيء، وأحكام الحال شيء آخر، أي وواجبُ هذا غير واجبه، ولهذا جعلوا سماع صاحب العلم غير سماع صاحب الحال، وشرطوا في أحدهما غير ما شرطوه في الآخر، فشرطوا في سماع صاحب العلم معرفتَه بالأسماء والصفات، وشرطوا في سماع صاحب الحال الفناءَ عن أحوال البشرية، والتنقيَ من آثار الحظوظ بظهور أحكام الحقيقة، ومرادهم بهذا فناؤه عن نفسه، وشعوره

بأوصافها وأحكامها، ثم فناؤه عن حظوظه وإرادتِه التي لها، وذلك إنما يكون عند توليةِ سلطانِ الحقيقة على سِرِّه، وظهور أحكامها التي تنسخ أحكامَ البشرية. والحقيقة التي يشيرون إليها هي حقيقة التوحيد التي يفنَى صاحبها عن شهود السِّوى، وإرادة السوى، فلا يبقى لقلبه شهودُ غير الله، ولا مرادٌ سواه. فهذا شرح كلامهم. فيقال أولًا: لا يمكن الاستغناء عن أحوال البشرية مادامت البشرية موجودةً، فإن الفقر إلى لوازم البشرية أمر ذاتي، وما بالذات لا يَستغني عنه البتّةَ، قد يستغني لشهود الفقر المطلق إلى الغني بذاته الذي كل شيء مفتقر إليه، ويفنى بشهود فقره إليه عن فقره إلى ما سواه، فيكون في غناه فقيرًا إليه، وفي فقره غنيًّا به. ويقال ثانيًا: إذا كان في هذه الحال التي قد فني بها عن أحوال البشرية، فكيف يصح له العبور في هذا السماع الذي كله أحوال البشرية إلى شهود الحقيقة وأحكامها؟ وهي إنما نالها من طريق هذا السماع، ودخل إليها من بابه، فلا يحصل له ذلك حتى يفنى عن الكائنات، ولا يبقى له شهودٌ بالأحوال البشرية، ويفنَى عن الحظوظ البشرية كلها. ويقال ثالثًا: لا يصل إلى هذا الحدّ إلا إذا ظهر سلطان التوحيد على قلبه، وهو المشار إليه بقوله: "بظهور أحكام الحقيقة"، ومعلوم قطعًا أن مع ظهور سلطان التوحيد لا يبقى له سعةٌ إلى الغناء وسماع الأبيات، فإن سلطان التوحيد قد قهر حواسَّه، وملك عليه مشاعره، وصار التصرف له وحده، فهو في هذه الحال في شغلٍ عن كثير من

الفتنة في السماع من وجهين: من جهة البدعة في الدين، ومن جهة الفجور

أوراده بواردِه، فضلًا عن فراغه لصفاتِ ليلى وسُعدى ومَيّ، والعبور من هذا السماع إلى الأسماء والصفات. فما هذا التناقض واللعب؟ وهل يُبقيْ سلطانُ التوحيد وظهور أحكام الحقيقة في القلب والسمع موضعًا لسماع غير كلام المحبوب وذكر أسمائه وصفاته؟ ويقال رابعًا: لو كان هذا الذوق والاعتبار صحيحًا، لكان حصوله وتناوله من كلام المحبوب الذي لهذا القصد تكلّم الله به، وأنزله إلى عباده، وتعرَّف به إليهم، ودلهَّم به عليه، وهداهم به إليه. وأمَّا سماع الغناء فإنما وُضِعَ لأمر آخر، فلا يُلبِّسوا على أهله وعلى أهل القرآن، فإنه إنما وُضِع للفتنة لا للعبودية، وللنفاق لا للإيمان، وللفسوق والزنا لا للرشد والصلاح، وما جاء منه غير ذلك فبالعرض لا بالقصد. والفتنة فيه من وجهين: من جهة البدعة في الدين، ومن جهة الفجور. أمَّا البدعة فما يحصل به من الاعتقادات الفاسدة التي لا تَصلُح لله (¬1)، هذا مع ما يصدُّ عنه من الاعتقادات الصالحة والعبادات النافعة، إمّا بطريق المضادَّة، وإمّا بطريق الاشتغال، فإن النفس تشتغل وتستغني بهذا عن هذا. وأمّا الفجور في الدنيا فلِما يحصل به من دواعي الزنا والفواحش والإثم، فأصول المحرمات الأربعة قد تحصل فيه، وهي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ ¬

_ (¬1) في الأصل: "إلا الله" تحرف المعنى.

الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33]. فصل وأمّا قول رُوَيم: وقد سئل عن وجود الصوفية عند السماع فقال: "يشهدون المعاني التي تَعزُب عن [غيرهم]، فتشير إليهم إليَّ إليَّ"، فهذا وصف لما يعتريهم من الحال، وليس في ذلك ما يقتضي مدحًا ولا ذمًّا. وغايتهم أنهم يشهدون بقلوبهم معاني يفرحون بها، والفرح يتبع المحبة، فمَن أحَّب شيئًا فرحَ بوجوده وتألم بفقده، والمحبوب المفروح به قد يكون نافعًا وقد يكون ضارًّا، فإذا كان نافعًا كانت محبته حقّا، وإن كان ضارًّا كانت محبته باطلًا. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]. وقال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93]. وقد يكون العبد محبّا لله صادقًا في ذلك، لكن يكون ما يشهده من المعاني المفرحة خيالاتٍ لا حقيقةَ لها، فيفرح بها، ويكون فرحُه بغير الحق، وذلك مذموم، فيكون له نصيب من قوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]. وما أوفرَ نصيبَ السماعاتية من هذا الفرح والمرح! وما أشدَّ الخوفَ عليهم مما ذكر بعده! وإلى [الله] الرغبة في التوفيق.

وقد عُلِمَ أن سماعَ المكاءِ والتصدية مما ذكر الله في القرآن من المشركين، ولا يخلو من نوع شرك جلي أو خفي، ولهذا تَضِلُّ عنهم تلك الأمور الباطلة أحوجَ ما كانوا إليها، حتى يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، حتى يرونها: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]. ومع هذا فقد يكون في تلك المعاني التي تشهد وتحتجب من حقائق الإيمان ما يفرح به المؤمنون أيضا، ولولا ما فيه ما التبس أمره على فريق من المؤمنين، ولكن لُبِّسَ فيه الحق بالباطل، وبالحق الذي فيه نفَقَ على من نفَقَ عليه من المريدين، لكن لضعف إيمانهم نفَقَ عليهم، ولو تحققوا بكمال الإيمان لتبين لهم ما فيه من موادِّ الشرك والنفاق والفسوق ولَبْسِ الحق بالباطل، وقد يبيّن الله سبحانه ذلك لمن أراد أن يُكمِل إيمانه منهم، فتابوا منه كما يتاب من الفواحش والمعاصي الظاهرة، كما تاب مَن تاب من أكابر العلماء مما دخلوا فيه من البدع الكلامية، وأبى غيرهم إلا إصرارًا وإقامة ما هو ميسَّرٌ لهم، تظهر بهم وفيهم حكمةُ الله وحِلمُه، وهو أحكم الحاكمين. فصل وأما قول الحصري: "أيش أعملُ بسماعٍ ينقطع إذا انقطع من يسمع منه؟ " إلى آخره، فهذا الكلام من أبين العيب والذم لأهل هذا السماع، فإنه منقطع، ومن يسمع منه منقطع، والمؤمن عمله دِيْمَةٌ كما قال النبي

- صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ العمل إلى الله ما داومَ عليه صاحبُه" (¬1). وهذا إنما هو في السماع القرآني لا في السماع الشعري، فإنَّه دائم بدوام المتكلم به، تزول الدنيا بأهلها وهو دائم لا يزول، وإذا سمعه المؤمنون في الجنة من الرحمن -عز وجل- فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك، وتُنسِيهم لذةُ سماعه ما هم فيه من النعيم حتى يستفرغ جميع ما هم فيه من النعيم، كما يُنسِيهم ذلك لذةُ نظرِهم إلى وجهه، وما أقلَّ نصيبَ أصحابِ الصور والأصوات من هذا النظر والسماع! نَزِّهْ لِحاظَكَ عن سِواه إن تُرِدْ ... نظرًا إليهِ في محلِّ ثوابِهِ وكذاك سَمْعَك صُنْه عن سَمْعِ الغِنا ... لِيَلَذَّ يومَ لقائِهِ بخِطابِهِ أترُومُ رؤيتَه بمُقْلةِ خائنٍ ... هيهاتَ إنَّ مُطيعَه أولى بِهِ ويَرُوم سَمْعٌ قد تَمَلىَّ بالغِنا ... أن يَستلِذَّ خِطابَه بكتابه هيهاتَ ما أدنَى المحالَ من الأُلىَ ... طلبوا الوصولَ وما أتوا من بابِهِ (¬2) وقوله: "ينبغي أن يكون لصاحب السماع ظمأٌ دائم وشرب دائم، كلما ازداد شربه ازداد ظمؤه" حق، ولكن ظمأٌ إلى ماذا؟ وشربٌ من ماذا؟ فمحبُّ الرحمن وكلامه، الذي فَنيَ بكلام محبوبه عن كلام غيره، وبسماعه عن سماع غيره، وبمراده عن مراد نفسه، له ظمأٌ دائم إلى كلام محبوبه، لا يزال عطشان، كلما ازداد شربًا ازداد ظمأً، وكلما ازداد له ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5861) ومسلم (782) عن عائشة. (¬2) لعل الأبيات للمؤلف.

سماعًا وتلاوةً ازداد فيه ذوقًا وحلاوة، وكلما قطع عَلَمًا من أعلامه بَدَا له عَلَمٌ آخر إلى غير نهاية. فيَسمعُه والقلبُ قد زادَ شوقُه ... يقول أَهَلْ بعد السماع تَدَاني فيشرب منه القلبُ معناه ظَامِئًا ... فيا عُظْمَ ما يَلْقَى من الهَيَمانِ فيذكر شيئًا قاله بعضُ من خلا ... تمَالَا عليه القلبُ والأُذنانِ كأن رقيبًا منك يَرعَى خواطرِي ... وآخرَ يَرعَى مقلتي ولساني فما نظرتْ عينايَ بعدَكَ منظرًا ... من الحسن إلا قلتُ قد رَمَقَانى ولا سمعتْ أُذْنايَ بعدك مسمعًا ... من القولِ إلا أمسكا بعِناني (¬1) فصل وأما قوله: "السماع نداء والوجد قصد" فهذا الكلام مطلق مجمل، فإنَّ المستمع يناديه ما يسمعه بحقٍّ تارةً وبباطلٍ أخرى، والواجد قاصد مجيبٌ للمنادي الذي قد يدعو إلى حق، وقد يدعو إلى باطل، فإنَّ الواجد يجد في نفسه إرادةً وقصدًا للإجابة لمن ناداه، إلى (¬2) ما تدعوه نفسه إليه، فأهل الوجد والقصد الصحيح قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا ¬

_ (¬1) يبدو أن الأبيات للمؤلف. ضمنها البيتين الرابع والخامس لغيره، وهما للبحتري في "مصارع العشاق" (2/ 195)، وفي "الزهرة" (1/ 213) لبعض أهل العصر. ونظر في البيتين الأولين إلى بيتي ابن الرومي في "روضة المحبين" (ص 52، 131). والأبيات أوردها محقق ديوان البحتري في ذيل الديوان (ص 2682). (¬2) في الأصل: "إلا".

يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193 - 194]. أجابوا مناديَ الإيمان إذ ناداهم: حيَّ على الفلاح، وواصلوا السيرَ إليه مع الدليل بالغُدوِّ والرَّواح، وفَنُوا بمراده عن مرادهم، فبذلوا أنفسَهم في مرضاته بَذْلَ المحبِّ بالرضا والسماح، وسيَحْمدون عند اللقاء مَسْرَاهم، فإنما يَحمَدُ القومُ السُّرَى عند الصباح (¬1). وأهل الغناء ناداهم منادي الشيطان: حيَّ على رُقيةِ الزنا ورائدِ الفسوق والعصيان، فأجابوه بلبَّيكَ داعيَ الشهوات وسَمْسَارَ اللذات! ها نحن لدعوتك مستجيبون، وفي مرضاتك مسارعون، نحن قوم ندورُ حولَ قُطبِ رَحَا الطيبات، ونقطع هذه الأوقات بما يناسب الأوقات، إذا أبدَتْ لنا الطيباتُ ناجذَها طِرْنا إليها زَرافاتٍ ووُحدانًا (¬2)، فإذا لاح لنا وجهُ الشاهد انقادت له قلوبنا محبةً وإذعانا، فما لنا ولثقيل الدم كثيف الطباع؟ يأمر بالاشتغال بالتلاوة والتسبيح وأوراد العبادة، وينهانا عن السماع، كأنه ما سمع قول شاعرنا: يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرُني ... والوجدُ أصدقُ نهَّاءٍ وأَمَّارِ ¬

_ (¬1) سبقت الإشارة إلى أنه مثل في أول الكتاب. (¬2) نظر المؤلف إلى البيت المشهور لقُريط بن أُنَيف: قومٌ إذا الشرُّ أبدَى ناجذَيْه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانَا انظر حماسة أبي تمام (1/ 58).

وإن أُطِعْكَ وأَعْصِ الوجدَ رُحْتُ عَمًى ... عن اليقين إلى أوهامِ أخبارِ (¬1) ولا قول من تقدمه: خُذْ ما تراه ودع شيئا سمعتَ به ... في طلعةِ البدر ما يُغْنيكَ عن زُحَلِ (¬2) والله يشهد وكفى بالله شهيدًا أنَّ هذا حال كثير من السماعاتية لا كلهم، ويحتجُّون على حِلّ هذا السماع بحضور من حضره من الصادقين، الذين برَّأَهم الله من هؤلاء الأراذل براءةَ المسيح من عُبَّادِ الصليب، ولكن سماع الغناء اسم جنسٍ هذا فردٌ من أفراده، وهو سماعُ كثير ممن يتقرب بالسماع ويراه صلاحًا لقلبه، أو أكثرِهم في هذا الزمان. ولا أعني بذلك أصغرِيهم ... ولكنِّي أريدُ به الذَّوينا (¬3) فصل وأما قول أبي عثمان المغربي: "قلوب أهل الحق حاضرة وأسماعهم مفتوحة"، فكلام صحيح، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، قالوا: معناه: حاضر القلب ليس بغائبه. وتأملْ قوله -عز وجل-: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ¬

_ (¬1) البيتان للعفيف التلمساني كما في "مجموع الفتاوى" (2/ 259، 473) و"الجواب الصحيح" (4/ 398) و"نقض التأسيس" (2/ 539). (¬2) البيت للمتنبي في ديوانه (3/ 205). وقد سبق الشطر الأول منه. (¬3) البيت للكميت بن زيد الأسدي في ديوانه (2/ 109) و"خزانة الأدب" (1/ 139)، وبلا نسبة في "مدارج السالكين" (2/ 370).

أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}، فجعله ذِكرى لمن جمع بين القلب الحيّ وأصغى بسمعه وحضر بقلبه، كما يفعله كثير من السماعاتية عند السماع الشيطاني، كيف تَنفتِحُ له صدورهم، وتُصغي إليهم أسماعُهم، وتَشهدُ قلوبهم، فإذا جاء السماع الإيماني فهم صُمٌّ بكمٌ عميٌ {فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. والظاهر -والله أعلم- أنَّ أبا عثمان إنما أراد أهلَ السماع الإيماني القرآني، فإنهم أهل الحق، ولم يُرِدْ أهلَ السماع الشعري الشيطاني، فإنَّهم لا قلوبٌ حاضرة ولا أسماعٌ مفتوحة. فصل وأما قول أبي سهل الصعلوكي (¬1): "المستمع بين استتارٍ وتجلٍّ" إلى آخر كلامه، فهو كلام دال على أحوال أهل السماع، وهو مطلق يتناول السماع الشرعي والبدعي، لكن هو إلى وصف حال أهل السماع المحدث أقربُ، وهو وصف لبعض أحوالهم، فإنَّ أحوالهم أضعافُ ذلك. وأما استدلاله بالآية فما أبعَدها مما استدل به عليه! فإنَّ الآية إنما سِيْقَتْ للإخبار عن الجن الذين صرفهم الله إلى رسوله يستمعون القرآن، ليقيم عليهم حجةً وليبلِّغوا مَنْ وراءهم، فأنصتوا لاستماعه، ليعلموا حقيقته ويفهموه ويحفظوه، ولهذا قال: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. فصاروا باستماعه مؤمنين، وبتبليغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل: "الصعوكي" تحريف.

منذرين، وهذا شأن كل مَنْ سمع مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلَّغ عنه. فصل وأما قول أبي عثمان: "السماع على ثلاثة أوجه" إلى آخره، فهو كلام مطلق، يحتمل سماع الآيات، ويحتمل سماع الأبيات، ويحتمل ما هو أعمُّ من ذلك، ولكن هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها لا تحصل إلَّا بالسماع الذي يحبه الله ويرضاه، فإنَّ الأحوال الشريفة إنما تُستثمَر من شجرته ويُؤتَى إليها من بابه، ولا يُخشَى على أهله فيه فتنة ولا مُراآة إلَّا كما يُخشَى عليهم في سائر الطاعات، ودواؤهم باستعمال الصدق والإخلاص. وكذلك السماع للطائفة الثانية الذين يطلبون به الزيادة في أحوالهم، فإنَّ أحوالهم إن كانت مستقيمة محبوبة لله مرضية له، لم يحصل فيها الزيادة إلا بالسماع الذي يحبه ويرضاه، وإن كانت غير مستقيمة أمكن حصول المزيد فيها بالسماع الشعري. وأما سماع أهل الاستقامة من العارفين فلا يمكن أن يكون غير السماع الذي تكمل به استقامتهم ومعارفهم، وإلا لم يكونوا مستقيمين ولا عارفين، وهو السماع الذي قال الله تعالى فيه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]. فصل وأما ما حُكي عن أبي سليمان أنه قال: "السماع من اثنين أحبُّ إليَّ من واحد"، فنقل مجمل منقطع لا نعلم صحته، عن غير معصوم، فلا

يفيد إلا تسويدَ الورق والوجوه، ثمّ لو صحَّ فليس فيه ذكر المسموع. والظاهر أنَّه أراد سماع القرآن، لا السماع الشيطاني سماع الغناء. فإنَّ أبا سليمان قدس الله روحه لم يكن من رجال سماع الغناء ولا معروفًا بحضوره، كما أنَّ الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم ومعروفًا الكرخي وأمثالهم لم يكونوا من أهل هذا السماع، بل هم من أعظم الناس براءةً منه. وهذه (¬1) مسألة اختلف فيها أهل العلم، وهي قراءةُ الجماعة بصوت واحدٍ، فكرهها طائفة، واستحبُّوا قراءة الإدارة وهي: يَقرأ هذا ثمّ يسكت، فيقرأ الآخر، حتى ينتهوا. واستحبتها طائفة، وقالوا: تعاونُ الأصواتِ يكسو القراءة طيبًا وجلالةً وتأثيرًا في القلوب. وتأملْ هذا في تعاون الحركات بالآلات المطربة كيف يُحدِثُ لها كيفيةً أخرى؟ فإنَّ الهيئة الاجتماعية لها من الحكم ما ليس لأَفرادها. وفصَّلتْ طائفة، وقالوا: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فلم يكونوا يقرأون جملةً، ولم يكونوا يُدِيرون القراءة، القارئ واحد، والباقون مستمعون، ولا ريب أنَّ هذا أكمل الأمور الثلاثة، والله أعلم. فصل وأما قول أبي الحسين النوري: "الصوفي من سمع السماعَ وآثر الأسباب"، فهذا أيضًا من جنس ما قبله، فلا يُعتمد عليه. ولعل النوري ¬

_ (¬1) في الأصل: "وهذا".

إنما أراد به الصوفي المذموم لابسَ ثوبيَ الزور، فإنه جمع بين إيثار السماع الذي يدل على البطالة وضعف الإرادة والعبادة، وآثر الأسبابَ التي تُضعِف توكُّلَه واعتماده على المسبب، فضعف من قلبه سلطانُ "إياك نعبد" بإيثار السماع والبطالة، وسلطانُ "إياك نستعين" بإيثار الأسباب وضعفِ التوكل. وإلا فالنوري أجلُّ من أن يجعل هذا شرطا في الصوفي المحقق. فصل وأما قول أبي عثمان المغربي: "من ادعى السماعَ ولم يسمع صوتَ الطيور (¬1) وصريرَ الباب وصفيرَ الرياح فهو مفترٍ مُدّع"، فظاهره مُنكَر مستبشَع، ومراده به أن اعتباره بالسماع لا يختص بنوع واحد، بل أي نوع سمعه من الأصوات المجردة أو الأصوات التي معها الحروف حرَّك ساكنَه وأزعجَ قاطِنَه، فإن في قلبه من الحب ولهيب الشوق ما لا يَقْصُر تحريكه على نوع واحد من المسموع، بل كل مسموع يُحرِّكه، بخلاف المفتون، فإنه يقتصر على السماع الذي يحبه أهل الفتنة، ولا يحُرِّكه سواه، ولا يتأثر بغيره، فهذا يدل على أنه مُدَّع مفترٍ. فهذا مَحمل كلامه، وليس فيه بيانُ مرتبة المسموع، والفرق بين ممدوحه ومذمومه وحلاله وحرامه، وإنما فيه تحريكه باختلاف أنواعه لصاحب المحبة واعتباره به. وقد تقدم إشباع الكلام في ذلك. ¬

_ (¬1) في الأصل: "الطنبور". والمثبت هو الملائم للسياق.

فصل وأما كون ذلك الصوفي "كان يحضر مواضعَ السماع فإن استطابه فرشَ إزارَه وجلس، وقال: الصوفي مع قلبه، وإن لم يَستطِبْه مرَّ وأخذ نعليه"، فيا عجبًا! أيشٍ في هذه الحكاية ما يدل على حكم السماع؟ وإن كان صاحبها صادقًا صالحًا فليس بمضمون العصمة، وله أسوةُ أمثاله من السماعاتية. على أن هذا الفعل وأمثاله عليه بينة في طريق القوم، فإن وقوف المريد مع [ما] يَستطِيبه قلبُه عينُ حظِّه وإرادته، وهذه الطريق كثير من القوم يسلكها، وهي المشي مع طِيْبِ القلب وذوقه ووَجْده من [غير] اعتبارِ ذلك بالكتاب والسنة، وهذا ضلال بعيد في الطريق، وهو مبدأ ضلالِ من ضلَّ من العبَّاد والنسَّاك والمنتسبين إلى طريق الفقر والتصوف. وحقيقة هذه الطريق اتباع الهوى بغير هدى من الله، وهذا هو الذي ذمَّه العارفون بالله وبأمره من مشايخ الطريق، ومجردُ طِيْب القلب ليس دليلًا على أنه إنما طاب بما يحبه الله ويرضاه، بل قد يطيب بما لا يحبه الله ويرضاه بل بما يكرهه ويسخطه، لاسيما القلوب التي أُشرِبَتْ حبَّ الأصوات الملحنة، فإنها طُيِّبتْ بما يُنبِتُ النفاقَ في القلب. وإطلاق القول بأن الصوفي مع قلبه هو من جنس ما ذُمّ به هؤلاء، حتى جُعلوا من أهل البدع، لأنهم أحدثوا في طريق الله أشياءَ لم يشرعها الله ولا رسوله.

أئمة الصوفية أهل العلم والاتباع من ورثة الأنبياء، وكلماتهم دواء للقلوب، وكلامهم في الوصية باتباع الكتاب والسنة كثير

وقد ذكر الخلال (¬1) بإسناده عن عبد الرحمن بن مهدي وذكر هؤلاء، فقال: "لا تُجالِسوهم ولا أصحابَ الكلام، وعليكم بأصحاب القَماطِر، فإنهم بمنزلة المعادِن والغواصين، هذا يُخرِج دُرةً، وهذا يخُرِج قطعة ذهب". وكان الشافعي سيءَ الظن بالطائفتين شديدَ الطعن فيهم: طائفة المتكلمين وأهل البدع من الصوفية، وكلامه فيهما مشهور، حتى قال: لو تصوَّفَ في أول النهار لم يأتِ نصفُ النهار إلا وهو أحمق (¬2). وأما أئمة الصوفية أهل العلم والاتباع والتعبد بالكتاب والسنة فهم من ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكلماتهم دواءٌ للقلوب، وهم حجة على هؤلاء، وكلامهم في الوصية باتباع الكتاب والسنة كثير، مثل قول شيخهم على الإطلاق أبي القاسم الجنيد: من لم يقرأ القرآنَ ويكتب الحديثَ فلا يُقتدَى به في هذا الشأن (¬3). وقوله: الطرق كلها مسدودةٌ على الخلق إلا من اقتفَى أثرَ الرسول. وقول أحمد بن أبي الحواري: كل من عَمِلَ عملًا بلا اتباعِ سنةٍ فباطل عمله. وقول سهل بن عبد الله: كلُّ فعلٍ يفعله العبد بغير اقتداء فهو عيشُ النفس، وكل فعل يفعله بالاقتداء فهو عذابٌ على النفس. ومثل هذا كثير، فالمهتدون من مشايخ الصوفية دائمًا يَحرِصون على العلم، ويُوصُون باتباعه، لما علموا ¬

_ (¬1) أخرجه من طريقه ابن بطة في "الإبانة" (483 - الإيمان). (¬2) انظر "تلبيس إبليس" (ص 371)، و"صفة الصفوة" (1/ 15). (¬3) هذا القول والأقوال التّالية سبق ذكرها وتخريجها في الكتاب.

في الخروج عن العلَم من المهالك والمتالف. والله أعلم. وقد سئل أبو علي الرُّوذْباري عن السماع فقال: ليتنا تخلَّصنا منه رأسًا برأسٍ (¬1). وهذا الكلام من مثل هذا الشيخ الذي هو من أجلّ مشايخ القوم الذين صحبوا الجنيد وطبقته، يدل على [أن] حضورَ الرجل منهم للسماع لا يدل على مذهبه واعتقاده، وهذا مما غَلِطَ فيه كثير منهم، فإن كثيرًا من المشايخ الذين نُقل عنهم إنما نُقِل عنهم حضوره، وذلك لا يدل على أن مذهبهم إباحته فضلًا عن استحبابه، فإن أحدهم قد يكون حضره معتقدًا إباحته، وقد يحضره معتقدًا كراهته، وقد يعتقد تحريمه ويحضره، فإنه ليس بمعصوم من المعصية. وقد يتأول وقد يُقلِّد من يراه جائزًا، وقد يعتقد التوبة منه بعد حضوره، وقد يأتي بحسناتٍ ماحية لذنبه، فمن أين لكم أن مجرد حضور الشيخ له يدلُّ على مذهبه واعتقاده وإباحته فضلًا عن استحبابه؟ فهذا أبو علي الروذباري كان يحضره، وقد قال فيه هذه المقالة، وتمنَّى أن يكون لا له ولا عليه، ولو كان عنده من جنس القُرُبات (¬2) والمستحبات لم يقل ذلك فيه، كما لا يقول قائم الليل وصائم النهار وتالي القرآن: ليتني تخلَّصتُ من ذلك رأسًا برأس، ولكن يتمنَّى الخلاص رأسًا برأسٍ لتقصيره وتفريطه فيما أُمِر به ونُهي عنه، ويرى أن هذه الطاعات لا تُنجِيه، فيودُّ أنها قابلتْ تفريطَه وسَيئاتِه، وراح ¬

_ (¬1) "انظر" الرسالة القشيرية" (ص 510). (¬2) في الأصل: "قربات".

حضور من حضر منهم في مجالس السماع لا يدل على مذهبه

رأسًا برأسٍ، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: وَدِدتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كفافًا لا لي ولا عليَّ (¬1)، يريد الخلافة، خشية أن لا يكون قد قام بحقوقها، فخوفُه كان يَحمِله على ذلك القول، ولم يقل ذلك في أبي بكر، بل ما زال يشهد له في القيام في الخلافة بالحق. وبالجملة، فحضور من حضرَ السماعَ من القوم لا يدلُّ على مذهبه. وقد اختلف الفقهاء هل يؤخذ مذهبُ الإمام من فعله؟ ولأصحاب أحمد في ذلك وجهان، والذين قالوا: لا يؤخذ من فعله مذهبُه، قالوا: قد يفعله تقليدًا أو يكون متأولًا أو ناسيًا أو مخطئًا. ومع هذه الاحتمالات لا يجوز أن يضاف إليه فعلُه مذهبًا. والله أعلم. آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3700) ضمن قصة مقتل عمر بن الخطاب وبيعة عثمان، وأخرجه أيضًا برقم (7218) مختصرًا.

§1/1