الكشف المبدي

محمد بن حسين الفقيه

ترجمة المؤلف

المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده ونشأته اسمه: هو محمد بن حسين بن سليمان بن إبراهيم الفقيه. وقد يُقال له: الفقي والمشهور بالفقيه، وأسرته تعرف الآن بعائلة الفقيه. مولده: ولد الشيخ محمد بن حسين الفقيه سنة 1304 هـ في دمنهور بمصر، وقد نصَّ على سنة ولادته الشيخ محمد نصيف.

نشأته: نشأ المؤلف- رحمه الله- بدمنهور، حيث وُلِدَ بها. مات أبوه وهو صغير جداً فتربى عند عمه الشيخ إبراهيم بن سليمان بن إبراهيم، وكان عمه هذا عالماً، فربَّاه ونشأه على العلم وغرس فيه حب التعلم، لما لمسَ فيه من النبوغ وسرعة التحصيل فَحفظه القرآن وشيئاً من العلوم، ثم سافر للَحج وطاب له الجلوس في جُدة، ونزل على بيت الشريف مهنا ثم أخذ يتلقى العلم من علمائها.

المبحث الثاني: صفاته

المبحث الثاني: صفاته لقد كان المؤلف- رحمه الله- كفيف البصر منذ ولادته، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى رزقه وعوَّضه عن نعمة البصر بنعمة البصيرة، والذكاء، وقوة الحافظة. ومِمَّا يدل لهذا ما حدَّثني به ابنه حيث قال: (كان أبي يعرف مواضع الكتب وأماكنها من مكتبته) . وما قاله أيضاَ تلميذه حمزة سعداوي: (كان شيخنا- رحمه الله- الشيخ محمد أُوتي قوة حافظة عجيبة، وسرعة تذكُر، فكان إذا سمع الصوت مرة واحدة لا ينساه وربما يعرف القادم من خلال مشيه وخطواته) . ويدلُّ لهذا ما ذكره- رحمه الله- في كتابه هذا من الكتب الكثيرة، وسرد أسمائها وأسماء مؤلفيها من حفظه. وكان- رحمه الله- ربعة من الرجال، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، كان نحيفاَ، ويمتاز بهيئته في المشي. فإذا مشى مشى ممشوق القائمة شامخاَ برأسه، ولم يكن - رحمه الله- كثير شعر اللحية، بل كان خفيف العارضين، وربما إذا مشى مسك عصى بيده، وقد يأتي أحياناَ ويكون معه قائدٌ يقوده من بيته إلى مسجده. ولباسه لباس العلماء في ذلك الوقت- الجبة والعمامة-. كان صوته أقرب إلى الخفض، إلا أنه كان مسموعاً هادئاَ يبعث سماعه على الطمأنينة والراحة. ولم يكن- رحمه الله- ممن يكثر الاختلاط بالناس، إلا بقدر الحاجة من نصح وإرشاد. كان كثير الصوم والصلاة، دائم التضرع والابتهال إلى الله. حدثتني ابنته تقول: (كان يقضي غالب وقته في مكتبته مع بعض تلاميذه، فإذا جاء الليل شغله بالذكر والقرآن والصلاة ويحرص حرصا شديدا على صيام أيام التطوع) .

أخلاقه: عاش الشيخ- رحمه الله- عيشة الفقراء، فأثر ذلك في أخلاقه وطِبَاعِه، كان متواضعاً جداً لا تُعْجبه حياة الترف والثراء، ينهى دائماً عن الإكثار من الدنيا ومتاعها، وغالباً ما يوجه طلابه وتلاميذه إلى التقلل من الدنيا. وقد عُرف عن الزهد فيما في أيدي الناس مع حاجته- رحمه الله-. ومن أخلاقه: تمتعه بقوة الصبر والتحمل، وشدة التواضع، ومن أمثلة تواضعه وصبره أن يقف للمرأة تستفتيه وتسأله، ويقف للعامة من الناس- وربما أطال الوقوف- رحمه الله- في شدة الحر، وكان يسمع بعض الكلام ممن يُنْكِرُ عليهم من الصوفية، لا يزيد على قول: اللهم اهدهم. ومن تواضعه أنه كان يرد السلام على كل من سلم عليه بوجه بشوش طَلْق، فلذلك أحبه الناس مع إنكاره عليهم؛ لأنه كان يُنكِر بحكمة ولين، فأصبح مرجع الناس في حل مشاكلهم وفتاويهم. كان- رحمه الله- ملازماَ للتقوى، لا يُحب الكلام في الآخرين والقدح فيهم ويترحم على الميتين ويلتمس الأعذار لمن أخطأ عليه.

المبحث الثالث: أنموذجه اليومي

المبحث الثالث: أنموذجه اليومي كان الشيخ- رحمه الله- حريصاَ على طلب العلم، شغوفاً لسماع كلام أهل العلم، كما وصفه بهذا الشيخ محمد نصيف، فكان- رحمه الله- مُقَسماَ يومه للاستفادة والتحصيل، فيبدأ يومه بصلاة الفجر، يصلي غالباً في المسجد الملاصق لبيته، وربما صلى في مسجد عكاش، ثم يجلس بعد الصلاة يتلو القرآن ويسبح الله- عز وجل- حتى شروق الشمس. وبعد ذلك يعود إلى بيته. وأحياناً يذهب إلى بيت الشيخ إبراهيم الصنيع، فيجلس مع بعض أصدقائه، ثم يذهب إلى بيته ويجلس في مكتبته، ويأتيه بعض تلاميذه يقرأون عليه، ويستفيدون منه، وكثيراً ما يذهب إلى مكتبة الشيخ محمد نصيف، ويجلس حتى الظهر فيعود ويصلي في مسجد عكاش، وقد يصلي في مسجد المعمار، حيث كان قريباً من بيت الشيخ نصيف، ثم يذهب إلى بيته ويرتاح قليلاً ويصلي صلاة العصر فيعود إلى مكتبته، وقبل المغرب يذهب إلى مسجد عكاش حيث كان إماماً له في المغرب والعشاء والجمعة فقط، فيجلس- رحمه الله- من بعد صلاة المغرب للدرس والإفتاء، وبعد صلاة العشاء يعود إلى بيته ... وهكذا- رحمه الله- كان يومه عامراً بذكرِ الله- عز وجل- وتوجيه الناس للخير.

المبحث الرابع: أسرته ومسكنه

المبحث الرابع: أسرته ومسكنه أسرته: يرجع المؤلف- رحمه الله- إلى عائلة الفقيه، وهي مشهورة بهذا الاسم، وقد يُقال له أيضاً: الفقي، ومعناه: المعلم: فلكونه معلّمَا وفقيهاَ اشْتُهِرَ بالفقيه. تزوج المؤلف- رحمه الله- مرات كثيرة، ولكنه لم يرزق أولادا إلا من زوجتين فقط، وقد مات عنهما. مسكنه: عاش الشيخ- رحمه الله- في مدينة جُدة، وكانت جُدة في ذلك الوقت صغيرة، ويقع مسكنه الآن في وسط مدينة جُدة، وتسمى الآن جُدة القديمة في حارة تسمى حارة المظلوم. يتكون بيته من ثلاث طوابق، وكانت المكتبة تشغل الطابق الأوسط وجزءاً من الأول، وقد ذهبتُ لهذا البيت وشاهدته، ولا يزال بعض أبنائه وبناته يعيشون فيه.

المبحث الخامس: حياته العلمية

المبحث الخامس: حياته العلمية نستطيع أن نقسم حياة المؤلف- رحمه الله- العلمية إلى مرحلتين. وتشمل المرحلة الأولى: من حين نشأته وقدومه إلى جدة واتصاله بعلمائها حتى سفره إلى دمشق. والمرحلة الثانية: انتقاله من جدة إلى دمشق. وهذه المرحلة التي استفاد منها حيث اتصل بعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي. المرحلة الأولى: فكما تقدَّم أن الشيخ- رحمه الله- ولد سنة 1304 هـ في مدينة دمنهور بمصر، وجلس بها مدة، وتلقى فيها تعليمه الأوليّ، فحفظ القرآن الكريم بالكتاتيب كغيره من أقرانه، وشيئاً من مبادئ العلوم. ثم عزم على أداء فريضة الحج مع والدته، وكان هذا في حدود سنة 1320 هـ. وبعد أن قضى مناسك الحج، جلس في مدينة جدة، وأما أمه فحدثني ابنه حامد إنها توفيت بعد الحج. اهتم الشيخ- رحمه الله- في هذه المرحلة بالقرآن الكريم: حفظاً وتفهُّمًا. واتصل بعلماء جدة، ولازم دروس العلماء، واهتم أولاً بتعلم القراءات السبع، ولازم فيها العالم العلاَّمة الشيخ أحمد الزهرة، حيث كان مُلما بالقراءَات السبع. وقد نال الزهرة الشهادة العالمية بها من الأزهر، وتعلَم عليه أيضاً مبادئ النحو، فكان يُقَوِّم ألْسنَة طلابه؛ لأنه كان غيوراً على النحو، فلا يكاد يسمع خطأ حتى يمتلئ بالغضب. وتلقى عليه أيضاً العلوم التي كانت تُدرَس في تلك الفترة من الحديث والتفسير، حيث كان الزهرة يدرس العلوم بمسجد الشافعي، وجَدَ في تعلم القراءات، فتعلم على الشيخ أحمد حامد أبو تِيجْ المدني، فقد كان من كبار القرَّاء. ومع اهتمامه في بداية الطلب بالقرآن والقراءات، اهتم أيضاً بتلقي العلوم الشرعية الأخرى، فقد لازم عالم جدة المشهور في ذلك الوقت الشيخ أحمد ابن الشيخ علي باصبرين، وكان يُدرِّس الفقه على المذاهب الأربعة، واتصل بالعلماء الآخرين.

وكان الشيخ في هذه المرحلة حريصاَ على الطلب، ويرجع هذا لما آتاه الله من حب للعلم. ويظهر حرصه على العلم بما وصفه به نصيف حيث قال: (كان الشيخ محمد لا يفوته درس من دروس العلماء والمشايخ أثناء طلبه للعلم، كان شديد الحرص على ذلك بالغاً فيه الجَهد والغاية، مع أنه كان كفيفَ البصر) . ومما يدلُّ له أيضاَ: اقتصار صاحب كتاب "تراجم علماء جُدة من الحضارمة " على ذكره عندما تكلم عن أبرز طلاب الشيخ باصبرين، فلم يذكر إلا هو والشيخ عبد القادر التلمساني، وهذا مما يدلُّ على أنه كان حريصاَ ملازماً. المرحلة الثانية: وتبدأ هذه المرحلة برحلته العلمية إلى دمشق، حيث عالمها الشهير جمال الدين القاسمي. فبعد أن تلقى المؤلف- رحمه الله- تعليمه على علماء جدة- كما قلَّمنا- أراد الاستزادة من هذا العلم، فتوجه إلى الشام، وكان هذا في حوالي سنة 1325 هـ. اتصل - رحمه الله- بالشيخ جمال الدين، ولازمه مدة امتدت إلى خمس سنوات أو ست سنوات، استفاد فيها فائدة عظيمة ظهرت آثارها في حياته وسلوكه، وفي كتابه أيضا. فقد أتقن علم الحديث والتمييز بين الصحيح والضعيف. ويدُل لهذا ذكره للأحاديث الكثيرة في كتابه مع الاعتناء بذكر الصحيح منها، حيث لم يذكر في كتابه إلا الصحيح، وقد يذكر الضعيف مع التنبيه على ضعفه. كما استفاد- رحمه الله- من شيخه القاسمي: "العقيدة الصحيحة والسلفية والدعوة إليها والرد على المخالفين "، من معتزلة، وأشعرية، وجهمية، وبالغ في الرد على الصوفية، وتحرر من التقليد الأعمى، وحاربه أشد محاربة، وكان يتردد على مكتبة دمشق في ذلك الوقت وكانت عامرة بالكتب، فاستفاد من النظر فيها والأخذ منها. ثم رجع إلى جُدة- رحمه الله- وكان هذا في حدود سنة 1331 هـ أو قبلها بقليل، فانكبَّ على التحصيل والمطالعة في مكتبته العظيمة. وقد استمر في جُدة مرجعاً للناس في العلم والفُتْيَا، ومدرساً وإماماً في مسجد عكاش حتى توفَّاه الله.

المبحث السادس: مكانته العلمية وثناء أهل العلم عليه

المبحث السادس: مكانته العلمية وثناء أهل العلم عليه تعرف مكانة الشخص العلمية بشيوخه ومؤلفاته. فالشيخ- رحمه الله- تتلمذ على أكابر العلماء في وقته، وقد ذكرنا ما وجدناه منهم، ولا يبعد أن يكون تتلمذ على غيرهم مما لم نجدهم، لا سيما من كانوا في جُدة، ومن أعظم من أخذ عنه: الشيخ جمال الدين القاسمي، كما ذكر هو عنه نفسه. وقد تأثَّر به- رحمه الله- تأثراً بالغاً، ففهم هذا الدين كما كان يفهمه الصحابة والتابعون، ومن نظر في كتابه يدرك مدى هذا التأثر. ومما يدلُّ على علمه ومكانته، اقتنائه لهذه الكتب العظيمة. فقد كان الشيخ- رحمه الله- مُغْرَماً بشراء الكتب من مصر والهند، حتى كوَّن مكتبة عظيمة في وقت قلَّ فيه رؤية الكتاب، فضلاً عن اقتنائه. فأفاده هذا سعة اطلاع على كلام لعلماء ومؤلفاتهم، وكسَبَ شخصية علمية قويَّة. ويدلُّ على تمكُنِهِ من العلم، تأليفه لهذا الكتاب العظيم، وقد ألَفَه وهو في سن التاسعة والعشرين من عمره. وحدَّثني ولده أنه كان يحب المناظرة في العلم، فقد كان في جُدة عالم كبير اسمه محمد حسين مطر فكان الشيخ ينتصر عليه دائماَ ويُرجعه إلى المسألة في مكانها من كتب العلماء. وقد بلغ منزلة علمية أهَلته لتصدر المجالس والفُتْيَا، حتى كان مرجعَ الناسِ في جدة، يسألونه عن أمور الطلاق والحلال والحرام، وكان خطيباً في مسجد عكاش، أكبر المساجد في ذلك الوقت، وحلقته في هذا المسجد معروفة يحضرها طلاَب العلم والقُضاة، فاستفاد الناس منه ومن مُجالسته. يقول تلميذه حمزة سعداوي: (انتفع بعلمه خلق كثير، كانت حلقته غاصَة بالناسِ من طلاب العلم ومن العوام، فأحيا الله به قلوباً ميّتة بعيدة عن منهج الله، فصحَّح

للناس عقائدهم وسلوكهم وأرجعهم للدين الصحيح نقياً كما كان عليه سلف الأمة) . ثناء أهل العلم عليه ممن عرفه أو درس عليه: قال عنه الشيخ نصيف: (واظب الشيخ محمد على دروس العلماء وحرص أشد الحرص على التحصيل، فقلَّمَا يفوته درس مع أنه كان كفيفَ البصر، وانتفع بالمواظبة، وصار عالماً، واقتنى مكتبة كبيرة، وأصبح يدرس الناس علوم التفسير، والحديث، وانتفع بعلمه خلق كثير) . وقال عنه تلميذه حمزة سعداوي: (أُوتي الشيخ علْماً عظيماً، فلم يكن أحد يوازيه علماَ مع قوة الحفظ واستحضار الآيات والأدلة، لا سَيما وقت الْخُطبة وكان لا يُعْلَى عليه في ذلك الوقت) . وقال عنه تلميذه محمد باشميل: (كان الشيخ عالماً كبيراً، وبالأخص في علم الفقه والحديث. ذهب إلى سوريا لطلب العلم، ثم رجع وقد أُوتي علماً جما، ولم نسمع من يقول قوله، وإذا أخذ يدرَّس وذكرَ اسم صحابي كأنك حاضر مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يأتي بكل شيء عن هذا الصحابي: فضائله، وإسلامه) . وقال عنه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه "تاريخ مدينة جُدة ": (كان الشيخٍ محمد حسين حريصاً على طلب العلم جاداَ فيه، واقتنى مكتبة كبيرة، وأصبح عالما يشار إليه بالبنان، ودرس للناس التفسير والحديث، وانتفع بعلمه خلق كثير ووصفه كثير من طلابه وممن كان يحضر دروسه بأوصاف كثيرة) .

المبحث السابع: طريقته في دروسه

المبحث السابع: طريقته في دروسه كان الشيخ- رحمه الله- يدرِّس علوماً كثيرة في مسجده- مسجد عَكاش- ومن أهم هذه العلوم: الحديث، والتوحيد، والتفسير، والسيرة، كان يقرأ في صحيح البخاري، ومسلم، وتفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وزاد المعاد ... وغيرها. وكانت دروسه غالباً ما تبدأ بعد صلاة المغرب، وطريقته: أن يقرأ أحد التلاميذ في الكتاب، ثم يتولى الشيخ الشرح والبيان، وربما ألقى الأسئلة على الطلاب، وبعد ذلك يتلقى الأسئلة والاستفسارات عن بعض المسائل، وبعد صلاة العشاء يجلس أحياناً للجواب عن أسئلة الناس وحل مشاكلهم. وفي رمضان، يكون الدرس بعد صلاة العصر، ويكون غالباً يتعلق بالأحكام التي تخص رمضان.

المبحث الثامن: شيوخه

المبحث الثامن: شيوخه مما لا شك فيه أن معرفة شيوخ العالم تدل على مكانته العلمية. وقد أخذ الشيخ عن علماء كانوا بارزين في عصره ومتضلعين في فنونهم. فممن استفاد منه وأخذ عنه: 1- الشيخ جمال الدين أو محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، من سلالة الحسن السبط، المعروف بـ "جمال الدين القاسمي " إمام الشام في عصره، علْماً بالدين، وتضلعاً من فنون الأدب. ولد بدمشق سنة 1283 هـ، كان سلفي العقيدة، لا يقول بالتقليد. أفاد الناس في قُرى دمشق، وقد انتدبته الحكومة لإلقاء الدروس العامة في القرى والبلاد السورية أربع سنوات. رحل إلى مصر، وزار المدينة، انقطع للتعليم والتأليف في بيته، فصنَّف كُتباً كثيرة، منها: "المطبوع والمخطوط "، من أعظمها: "تفسير القرآن المسمى "محاسن التأويل " في 17 مجلداً. وقد ذكر في مقدمته أنه على عقيدة السلف والإمام أحمد، و"قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث " وهو مطبوع، و"إصلاح المساجد من البدع والعوائد" مطبوع، و"تعطير المشام في مآثر دمشق والشام) مخطوط في أربع مجلدات، وقد تتلمذ عليه الشيخ، وذكر في كتابه فقال: ( ... وقد سمعت شيخنا الأستاذ محمد جمال الدين القاسمي بدمشق يقول ... فقلت له: يا سيدي قد روى البخاري. إلخ) . توفي- رحمه الله- في سنة 1332 هـ. 2- الشيخ أحمد بن محمد الزهرة أو الزهراء الشافعي الدمياطي، ولد بمدينة دمياط حوالي سنة 1280 هـ، وطلب العلم بها وتلقى علم القراءات، ونال الشهادة العلمية، ثم رحل في صدر شبابه إلى الشام في زمن الدولة العثمانية، ثم انتقل إلى

الحجاز فأقام مدة بالمدينة، ومنها ارتحل إلى جُدة في عام 1307 هـ، واستوطن بها أربعين عاما متوالية درَّس العلوم بمسجد الشافعي بجدة بعد صلاة المغرب من كل ليلة، كما كان يقوم بالتدريس بداره أيضا. يمتاز بحسن القراءة، وإجادة التلاوة في صوت حسن رخيم، وعنده غيرة على القرآن والنحو فلا يكاد يسمع خطأ حتى يمتلئ بالغضب، على أنه كان مع ذلك لطيف المحضر، طريف المجلس، كان كفيف البصر ضئيل الجسم أقرب إلى القصر ويلبس زي العلماء المصريين، وله تلاميذه يحبونه ويخدمونه؛ لأنه لم يكن له زوجة. كان مُجوِّدًا عالماً بالقراءات السبع، وله ثروة عظيمة. يملك أعظم ثلاث بيوت في جُدة، ولما مات أوصى بهذه البيوت لمدارس الفلاح بجدة. توفي بالمدينة في شهر رمضان من عام 1364 هـ عن عمر يناهز الثمانين. 3- الشيخ أحمد بن علي أبو صَبْرينِ الحضرمي الشافعي، ولد سنة 1280 هـ بحضرموت، ثم أرسله والده الشيخ علي- الذي كان يُعتبر من أبرز علماء جدة- إلى مصر لطلب العلم، وحينما عاد الشيخ أحمد إلى جدة حوالي عام 1318 هـ اختبره والده، ثم أنابه عنه في بعض دروسه، فأصبح عالم جدة في وقته، وفقيهها المنقطع لتعليم العلم. فتح دروسه في الفقه فكان يُدَرس الفقه على المذاهب الأربعة، واستفاد منه طلاب العلم، ومنهم: الشيخ محمد بن حسين بن إبراهيم الفقيه. وكان الشيخ مولعاَ بالنظم والنثر. في تآليفه حثاَ وترغيباَ للطالبين للعلم والتعليم، ومن الملازمين له: الشيخ عبد القادر التلمساني - رحمه الله- له عدة كتب، منها: كتاب جمع فيه أعيان

البلاد وأرباب الدولة، ومنها: كتاب "فقه المذاهب الأربعة" لا يزال مخطوطًا، ثم بعد سنين كثيرة نحو عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، سافر إلى عدن وكان من عادة طالب العلم أن يصحب كتبه معه، لِمَا لها عنده من المحبَّة والتعلُق والحاجة، لأنها سلوته وعدته فلعبت بها الأيدي في حالة حداثة سن ولديه وصغرهما فذهبت عليهما، أجزل الله- تعالى- أجرهما، ورحم والدهما، وأخلف عليهما ما فقداه من نفيس تآليف والدهما، وكانت وفاته على وجه التقريب سنة 1332 هـ، وذكر نصيف أنه توفي سنة 1339 هـ. 4- الشيخ أحمد حامد أبو تِيج المدني المصري من أكابر القراء.

المبحث التاسع: تلاميذه

المبحث التاسع: تلاميذه كان- رحمه الله- يُدرّس في مسجد عكاش- كما أسلفنا-، وقد أفاد الناس بما نشره من علم، وكانت حلقته مليئة بالناس من سائر الطبقات. ولما كان على المكانة العلمية التي وصفنا، فقد لازمه كثير من طلاب العلم، ومن أبرز هؤلاء: (1) الشيخ بكر إدريس تكروني، لازمه ملازمة تامة، فهو الذي كان يقرأ عليه في الدرس، ويقرأ عليه في مكتبته، ويكتب له أيضاَ، وكان إدريس عالما وهو مأذون الأنكحة في حياة شيخه، ومن التلاميذ الكبار، تولى الإمامة والخطابة في مسجد عكاش بعد وفاة شيخه، ودرس أيضا في مدارس الفلاح بجدة، ثم في المدرسة السعودية. ثم عاد إلى الفلاح، وتوفي بجدة. وكان الشيخ محمد حسين- رحمه الله- يثق فيه ثقة تامة؛ لعلمه وفضله، حتى إنه يُخَلِفه في إمامة وخطابة المسجد إذا مرض، وكانت ولادة الشيخ تكروني بجدة حوالي سنة 1325 هـ، وتوفي عام 1402 هـ تغمده الله برحمته وغفر له. (2) الشيخ حمزة سعداوي، ممن درس عليه واستفاد منه. قال عن نفسه: (كنت حريصا كل الحرص على الدروس مهما كان عندي من الصوارف) . وقال: (استفدت منه تصحيح بعض الأمور التي كنَّا نفعلها مثل: بدع الجنائز والجلوس للتعزية وغيرها) . ولد حمزة سنهْ 1332 هـ بجدة، ودرَس في مدارس الفلاح بجدة، وتخرج منها عام 1350 هـ، ثم واصل التدريس فيها قُرابة 50 سنة. تولى إمامة مسجد عكاش بجدة، لا يزال إلى الآن إماما فيه.

بارك الله في بقية عمره، وأحسن الله لنا وله العمل. إنه جواد كريم. (3) الشيخ محمد صالح أبو زناده، ولد في جدة عام 1314 هـ، وتلقى تعليمه في مكتب صادق، ثم انتدب للعمل في مدينة بومباي، وكان أحد كبار التجار العرب في الهند، ثم عاد إلى جدة وكان تاجراً يعمل في استيراد الأرزاق كالدخن، وله مشاريع خيرة ونافعة في مدينة جدة. وكان ممن تتلمذَ على الشيخ محمد حسين وحضر دروسه واستفاد منه، كان ممن يؤمون الناس في مسجد عكاش، توفي أبو زناده بعد صلاة الفجر من صباح يوم 17/3/1387 هـ بجدة، ونقل جثمانه إلى مسجد عكاش واشترك في الصلاة عليه وتشييع جثمانه الجموع الكثيرة- رحمه الله وأحسن جزاءه-. (4) الشيخ محمد بن يوسف بن علي باشميل، ولد في حضرموت سنة 1317 هـ، ثم قدم إلى جدة وطلب العلم بها، ولازم الشيخ محمد حسين في المسجد وفي البيت أيضاً، فكانوا يقرأون في زاد المعاد، وتفسير ابن كثير ... وغيرها. كان باشميل حريصاً على قراءة الكتب مثل: صحيح البخاري والبداية والنهاية. وقد زُرته في بيته وأفادني كثيراً عن شيخه. نسأل الله أن يُمتع في بقية عمره، وأن يتوفاه على الإسلام.

المبحث العاشر: مؤلفاته ومكتبته

المبحث العاشر: مؤلفاته ومكتبته أولا: مؤلفاته مع غزارة علم الشيخ وسعة اطلاعه على الكتب العظيمة، فلم نجد له سوى هذا الكتاب، وقد قرأت الكتاب من أوله إلى آخره لعلِّي أجد له مؤلفا فلم أجد، وقد سألت ابنه وسألت تلاميذه وجميع من اتصلت به فكلهم لا يعرفون أن للشيخ مؤلفات. ومع هذا أنا أتوقع أن يكون للشيخ كُتب غير هذا لأن المؤلف- رحمه الله- لا ينقصه شيء. فالكتب عنده موجودة في مكتبته، وأيضا هو متمكن من التأليف؛ ولأنه قد أنهى كتابه هذا عام 1333 هـ، كما نص عليه هو في آخر المخطوط. والمؤلف توفي عام 1355 هـ، فهذا يدل على أن في العمر فسحة ومتسعا للتأليف، ولعلنا فيما بعد وبالبحث والسؤال نجد له شيئا. ثانيا: مكتبته الشيخ- رحمه الله- قد أُولعَ بشراء الكتب واقتنائها. وأدلّ دليل على هذا ذكره لهذه الكتب العظيمة في كتابه. وقد حدَّثني ابنه وابنته أن الشيخ كان يقضي جلّ وقته في مكتبته، وكان مسكنه يتكون من ثلاث طوابق، وكانت المكتبة تشغل الطابق الأوسط كله، وشيئا من الطابق الأول. وحدثني تلميذه حمزة سعداوي أنه كان عنده مكتبة كبيرة. وقالت ابنته: كانت الكتب تأتيه من مصر عن طريق أعمامه وأبناء أعمامه أيام الحج، وبعضها عن طريق الشيخ محمد نصيف. وقد ذكر صاحب كتاب "ماضي الحجاز وحاضره " ... قال: (وأول نبأ حقيقي عن مكتبة خاصة وصل إلى علمي يتمثل فيما رواه الشيخ محمد نصيف من أن الشيخ محمد بن حسين بن إبراهيم أحد علماء جدة في أوائل القرن الرابع عشر، كان قد اقتنى مكتبة كبيرة ولا ندري ماذا حدث لها بعدئذٍ) . وقد سألت أولاد الشيخ عن هذه المكتبة فقالوا: بعدما تُوفي الوالد، كان الوصي علينا بكر إدريس، كان يبيع الكتب وينفق منها، وبعضها ذهب إلى مكتبة الشيخ نصيف، وبعضها لعبت بها الأيدي.

المبحث الحادي عشر: عقيدته وجهوده في نشرها

المبحث الحادي عشر: عقيدته وجهوده في نشرها عقيدة المؤلف- رحمه الله- هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن نظر في كتابه، وجد هذا واضحا. فكان يرد على أهل الكلام من معتزلة وأشاعرة وغيرهم وسفّه قولهم: إنَّ المقدم هو الدليل العقلي. قال- رحمه الله-: ( ... وقد سمُّوا أنفسهم علماء التوحيد والأصول، وقرروا قانوناً بينهم لا تجوز مخالفته ألبتة، وهو: إذا تعارض دليل سمعي ودليل عقلي جُمع بينهما إن أمكن، فإن تعذر الجمع أول الدليل السمعي ولو بتكلف، فإن تعذَّر التأويل رُدَّ الدليل السمعي إن كان من السنة ولو صحيحا من جهة السند، ويقولون: هذا خبر آحاد، فبسبب هذا القانون أولوا أسماء الله وصفاته التي ذكرها في كتابه ووصف بها نفسه ووصفه بها رسوله وقالوا: إن اعتقاد ظواهر النصوص كفر صريح، ثم ذكر صفات كثيرة مما يؤولونها مثل: الرحمة، واليد، والنزول، والمجيء، والضحك، والغضب ... وغيرها. ثم قال: فسبحانك هذا بهتان عظيم!. فسبحان من أعمى بصائرهم! وطبع على قلوبهم! فهل يقول مسلم أو كافر إن فروخ الأعاجم أعلم من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!. ولعلنا بهذا النقل قد بينا معتقد الشيخ. والكتاب مليء بالرد على هؤلاء وغيرهم من الصوفية والمبتدعة. بذلَ الشيخ- رحمه الله- جهوداً في نشر هذه العقيدة وبثها بين طلابه ومستمعيه. قال الشيخ حمزة سعداوي: (إن الشيخ- رحمه الله- أوقف نفسه على نشر العقيدة السلفية وصحح للناس عقائد، ووجَد عند الناس قابلية لهذه العقيدة. وكان يحذر من أهل البدع بجميع أصنافهم، ومن هؤلاء: الصوفية، فقد كان يُبين للناس أن هؤلاء ضلال وقال أيضاً: (كان الناس عندهم بدع في زيارة القبور، وفي المآتم، وبعض الناس كان يتمسح بالضريح المنسوب لأمنا حوَّاء. وكان الشيخ- رحمه الله- ينهاهم عن هذه الأفعال، ويقول لهم: (وقَالَ رَبكمُ ادْعونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ ... ) .

ويوجد عند الناس بعض البدع: من التجمع للتعزية وغيرها، فيوضح الشيخ عليه رحمة الله أن هذا لم ترد به السنَّة. وحدثني تلميذه باشميل أنه كان يحارب ما يحصل من البدع عند القبور، وكان هناك قبر لرجل اسمه أبو سرير. وكذلك كان الشيخ- رحمه الله- يدعو إلى الله بالرفق والحكمة، ويذهب إلى أماكن تجمُّع الصوفية- ولا سيما في مسجد يقال له مسجد البدوي-. وقال باشميل: (كان بعض هؤلاء الصوفية يكرهون الشيخ، ويتكلمون عليه، ويقولون له ولأصحابه. إنهم وهابية) . وحدثني عبد الرحمن القويز - وهو ممن رأي الشيخ- قال: (كان الناس قبل دخول العهد السعودي يحلفون بالنبي- عليه الصلاة والسلام- وعندهم بدعة الاحتفال بمولد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان الشيخ يُبصِّر الناس بهذه البدع وينهاهم عنها، وكان يكره هذه الأمور- عليه رحمة الله-) . وقال أيضاً: (كان هناك صوفية كثيرون، وكانوا يمشون في الأسواق يغنون وهم أجناس وأخلاط من الناس، فكان الشيخ يُنكِرُ على هؤلاء ويبيِّن للناس حقيقتهم وبدعتهم) . هذه بعضٌ من جهود الشيخ في نشر العقيدة وتوضيحها للناس.

المبحث الثاني عشر: مذهبه

المبحث الثاني عشر: مذهبه المؤلف- رحمه الله- كان يحارب التقليد الأعمي الذي يكون بدون دليل، وإنَما مجرد نُصْرة الأمام، ومن خلال قراءتي في كتابه لم يتبين لي مذهبه بوضوح. فقد كان رحمه الله يُبَجل العلماء ويُقَدرهم وإذا ذَكَر أبو حنيفة قال: قال إمامنا، وكذلك الشافعي، ومالك، وأحمد كلهم يقول عنهم: قال إمامنا. ولكن أميل إلى أنه مالكي المذهب، لأنه عندما ذكر ابن عبد البر قال عنه: (إنه من أجلّ أصحابنا) . قال أيضاً: ( ... وأما إمامنا مالك بن اْنس) . المبحث الثالث عشر: وفاته كان من عادة المؤلف- رحمه الله- في بعض الأحيان يَطيب له الجلوس مع بعض أصدقائه في منزل الشيخ إبراهيم الصنيع. وبعد أن خرج من منزل الصنيع أحسَّ بشيء وألم في قلبه، فذهب إلى بيته وسقط- رحمه الله- عند باب بيته، وقد أصابته نوبة قلبية - رحمه الله- وكان ذلك في صبيحة يوم الأربعاء الموافق للسابع من شهر صفر من سنة 1355 هـ. وقد كان يوماً مشهوداَ حضره الناس العامة والخاصة، وقال تلميذه باشميل: لم يَعْرِف الناسُ قدره إلا بعد أن دفنوه- عليه رحمة الله -. وقد صُليَ عليه فيِ مسجد الشافعي صلاة الظهر، وأم الناس في الصلاة الشيخ محمد صالح شيخه، ودُفن- رحمه الله- في مقبرة الأسد. فرحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة وأسكنه فسيح جناته، وتجاوز عنه بمنّه وكرمه- إنه جواد كريم.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} ، {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} ، الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهدي فلا مضل له، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، إله واحد، ورب شاهد، ونحن له مسلمون، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي كمَّل الله له الدين، وأتم عليه نعمته، وفرض عليه أن يُبين للناس ما نُزِّل إليهم، وأوجب عليهم طاعته، وشرطَ محبته باتباعه في هديه وقوله؛ فقال ـ تعالى ـ {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} ، وعلى آله وأصحابه الذين {صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا} . أما بعد؛ فيقول أحقر العباد وأحوجهم إلى عفو ربه الكريم محمد بن حسين بن سليمان بن إبراهيم، عامله الله ووالديه والمسلمين باللطف العميم: إني لما من الله علي بالاطلاع على كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» الذي ألفه الإمام المحدث المفسر الناقد الخبير بصحيح السنة وسفيمها الحافظ الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي روح الله روحه ونوّر ضريحه؛ فوجدته كتابًا مفردًا في

سبب تأليف ابن عبد الهادي كتابه الصارم

بابه خطيبًا في محرابه، جمع من الفوائد مفردات الشوارد والأوابد ما لا يوجد في غيره من الكتب المصنفة في هذا الشأن. وهذا الكتاب قد ألفه الحافظ ابن عبد الهادي في الرد على قاضي القضاة أبي الحسين تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الذي سماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ، زعم فيه أنه رد على شيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني [الدمشقي] ؛ لأنه زعم أنه حرَّم الزيارة؛ فقام الإمام ابن عبد الهادي فردَّ عليه ردًّا وافيًا بين فيه حال الأحاديث التي استدل بها السبكي وبنى عليها كتابه، وانتصر لشيخ الإسلام وبيَّنَ أنه ما حرَّم الزيارة ولا كرهها بل أمر بها في مناسكه وغيرها. وحيث إن الإمام ابن عبد الهادي قد اخترمته المنية قبل إكماله حين وصل إلى الباب الرابع من كتاب السبكي، وكتاب السبكي في عشرة أبواب، ولم أرَ من تصدَّى لإكماله، وقد طلبتُ من بعض أصحابي تكملته فاعتذر بأعذار؛ منها: أن طريقة الحافظ ابن عبد الهادي في هذا الكتاب لا يسلكها إلا مهرة الحديث العالمون بالصحيح

في زيارة القبور

والمعلول والموضوع، وأين توجد هذه الكتب التي استحوذ عليها هذا الإمام واستفاد منها، فلما لم أرَ من يلبي طلبي؛ استخرت الله ـ سبحانه وتعالى ـ وتوكلت عليه وشمرت عن ساعد الجد والحزم، وقمت في هذا الميدان بأقوى جنان وأصدق عزم، علمًا مني بأن الصعب قد مضى في كتاب هذا الحافظ المذكور؛ فلم يبقَ إلا هذه الفروع التي فرَّعها السبكي من تلك الأصول الواهية، فإذا قد بطل الأصل بطل الفرع، وعلى أي شيء يُبنى والأساس ساقط، وخروجًا من عهدة الكتمان، فهذا ما أمكنني تحريره في هذه المسألة؛ فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريء، {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} . وسميته «الكشف المبدي لتمويه أبي الحسين السبكي في تكملة الصارم المنكي» ، واللهَ أسال أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم؛ إنه جواد كريم. فأقول وبالله أصول وأجول، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: فصل الحافظ ابن عبد الهادي بلغ في كتابه إلى الكلام على الباب الرابع من كتاب السبكي الذي عقده في ذكر أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس على مشروعية شَدّ الرحال والسفر إلى الزيارة؛ فتكلم ـ رحمه الله ـ على الأصول الأربعة، وقد افتتحت من الموضوع الذي وقف عليه؛ فقلت وبالله التوفيق ومنه الإعانة والتأييد: قال المعترض بعد كلام لا حاجة لنا فيه: «واعلم أن زيارة القبور على أربعة أقسام: القسم الأول: أن تكون لمجرد تذكر الآخرة، وهذا يكفي فيه رؤية القبور من غير معرفة بأصحابها ولا قصد أمر آخر؛ من الاستغفار لهم ولا من التبرك بهم! ولا

من أداء حقهم. فهو مستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ؛ وذلك لأن الإنسان إذا شاهد القبر تذكَّر الموت وما بعده، وفي ذلك عظة واعتبار، وهذا المعنى ثابت في جميع القبور، ودلالة القبور على ذلك متساوية، كما أن المساجد غير الماسجد الثلاثة متساوية، ولا يتعتين شيء منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض. القسم الثاني: زيارتها للدعاء لأهلها؛ كما ثبت من زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأهل البَقيع. وهذا مستحب في حق كل ميِّت من المسلمين. القسم الثالث: [زيارتها] للتبرك بأهلها، إذا كانوا من أهل الصلاح والخير، وقد قال أبو محمد الشارِمساحي المالكيّ: «إنَّ قصدَ الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين» . [وهذا الذي استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين] صحيح، وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، ولا ضرورة بنا هنا إلى تحقيق الكلام فيه؛ لأن مقصودنا أن زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء للتبرك بهم مشروعة، وقد جزم به. القسم الرابع: [زيارتهم] لأداء حقهم؛ فإنَّ من كان له حق على الشخص فينبغي له بِرّه في حياته وبعد موته، والزيارة من جملة البر؛ لما فيها من الإكرام، ويشبه أن تكون زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبر أُمِّه من هذا القبيل؛ كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وذكر حديث مسلم الصحيح في استئذانه صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أُمِّه فأذن له ... إلى آخر ما قال» اهـ.

جواب المؤلف على تقسيم السبكي للقبور

والجواب أن يقال: لا يخفى على كل منصف أن هذا التقسيم مشتمل على حق وباطل، ولكن حيث إن المعترض مراده بهذا التقسيم نصر ما ذهب إليه من الرأي الفاسد وخلط الحق بالباطل، ونحن ـ إن شاء الله تعالى ـ نُبَيِّن ما في ذلك من المقبول منه والمردود؛ فأقول: إنَّ القسمين الأولين ـ وهمها: تذكر الموت والآخرة بزيارة القبور، والقسم الثاني: زيارتها للدّعاء لأهلها والترحّم عليهم ـ؛ هذا أمر مجمع عليه بين السلف والخلف، لا يختلف فيه اثنان، إلا شيء ورد عن بعض السلف، وهذا المورود لأدلة في ذلك؛ فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» ، وقوله: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ... وغير ذلك. فلعلَّ القائلين بعدم جواز زيارة القبور لم يبلغهم الناسخ للنهي الأول. وشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ لا ينكر زيارة القبور، ولا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، بل ولا وزيارة قبر غيره من الأنبياء والصّالحين، بل ولا زيارة قبور الكافرين؛

بيان زيارة القبور الشرعية

وحجته ظاهرة من حديث: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ؛ فإن العلة التي شُرعت لأجلها زيارة القبور موجودة في زيارة قبر المسلم والكافر، وأما الدعاء لأهلها فهو خاص بقبور المؤمنين. وأيضًا: فزيارة القبور تكون شرعية وبدعية؛ فالشرعية: [هي] أن يقف الزائر عند قبر المَزُور ويُسلم عليه كما كان يسلم عليه في الدنيا ويدعو له؛ كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل، وصفة زيارته صلى الله عليه وسلم للقبور مشهورة مستفيضة في كتب السُّنَّة، فمن زاد على ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله؛ فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله؛ {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} . وأما الزيارة البدعية: فسنبينها ـ إن شاء الله تعالى ـ في القسم الثالث الذي ذكره المعترض، والله الموفّق. وقد تبيَّن مما أسلفناه أن القسمين الأولين اللذين ذكرهما هذا المعترض؛ هما اللذان بيَّنهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله؛ حيث يقول: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» ، وفعله الذي كان يفعله إذا أراد زيارة أهل البَقيع من الدعاء لهم والتّرحّم عليهم والسّلام. وفي هذا كله لا تعود فائدته إلا على المزور؛ لأن الميت ينتفع بالدعاء له والتّرحّم عليه. نعم؛ ينتفع الزائر إذا أراد بزيارته تذكّر الآخرة، وهذا يحصل بزيارة أي قبر، ولو قبر كافر، وينتفع أيضًا بثواب الدعاء الذي كان يدعوه للأموات، ولكن ليس للميت في هذا دخل؛ لأن المُثيبَ على الدعاء هو الله، وكل امرئٍ إذا دعا لإخوانه المسلمين بظهر الغيب يكون له مثل ما دعا به؛ كما ورد في حديث هذا معناه، وقد يدخل في القسم الثاني من الأقسام الأربعة التي ذكرها الخصم. القسم الرابع: وهو أن تكون الزيارة لأداء حقهم من باب اللُّزوم؛ فإن الزائرَ إذا زار أيَّ قبر ودعا لصاحبه وترحَّم وسَلَّم عليه؛ فقد أدَّى حَقَّه، سواء كان

صديقه أو من آحاد المؤمنين؛ فإن للمؤمن حقوقًا، فقط يتأكد في جانب الوالد والشيخ والصديق؛ فإذا أتى الزائر المقبرة وسَلَّم وترحَّمَ على أهلها ودعا لهم؛ فقد أدَّى حق والده وشيخه إذا كانا مدفونين بها، وأيضًا فقد أدَّى حق جميع المؤمنين الذين في هذه الجُبَّانة؛ فجَعْلُ تأدية حق الميت قِسمًا مستقلًّا فيه تساهل وذهول كما بيَّناه. وأما قوله: «القسم الثالث: زيارة القبورللتبرك بأهلها إن كانوا من أهل الخير والصلاح ... » إلخ. أقول: لا أدري ما الذي أراده هذا المعترض من هذا القسم؛ فإنه أتى بلفظ مُجْمَل يحتمل حقًّا وباطلًا، فإن أراد حصول المنفعة للزائر بتذكر الآخرة عند زيارته للقبر؛ فهذا لا يختص بقبور المؤمنين؛ بل تحصل العِظَة أيضًا بزيارة قبور الكافرين، وهذه المنفعة إنما حصلت للزائر من الله ـ عز وجل ـ لا من صاحب القبر؛ فإنَّ من لم يرد الله انتفاعه من زيارة القبور لم ينتفع بها ولو زار القبور في اليوم عشرين مرة. وكم أُناس يزورون القبور ولا ينتفعون بزيارتها؛ بل تراهم مشتغلين باللهو واللعب وإتيان الفواحش في وسط المقبرة، وغير ذلك مما يعلمه من تتبع أحوالهم. وإن أراد أن الزائرَ ينتفع بثواب الدعاء لهم والترحم والسلام عليهم؛ فهذا صحيح، ولكن أي مدخل لصاحب القبر فيه؛ لأنَّ المُثيب على الدعاء هو الله ـ

مذهب شيخ الإسلام في زيارة القبور

عز وجل ـ، وهذا لا يختص بالميت، حتى لو دعا الحي بظاهر الغيب حصل له الثواب كما قدَّمنا، وإن أراد التبرك بصاحب القبر بمعنى أنَّ الميَت يُعطيه خيرًا من حصول علم ورزق، وشفاء [مرض] ، وتفريج كرب، ومغفرة [ذنب] ، وغير ذلك مما لا يعطيه إلا الله، أو حاجة من حوائج الدنيا التي كان يقدر عليها وهو حي؛ فهذا ـ وايم الحق ـ لهو الشرك بعينه ومنشأ ضلال المُضِلِّين، وهو الذي كان السبب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور في أول الأمر، كما كان [يعمله أهل] الجاهلية، فلما وقر الإيمان والتوحيد في قلوب أصحابه؛ أَذِنَ لهم، وهذه الزيارة التي يزورها بعض الناس اليوم لقبور الصّالحين لا يريدون بها إلا حصول جميع ما ذكرناه! الذي من شأنه أن لا يُطلب إلا من الله ـ وحده ـ لا من صاحب هذا القبر، يعرف ذلك من وقف عند قبور الصّالحين؛ فيسمع ويرى ما تقشعر منه جلود الموحدين؛ فيسمع الوائد يقول: يا سيدي! أنا في حَسبِك لا تَرُدني خائبًا، العارف لا يُعرَّف، والشكوى على أهل البصيرة عيب! وترى الزائر يُمَرغ خده على عتبه القبر ويلثُمَه ويتمسح به ويطوف حوله، وغير ذلك من الأفعال والأقوال المنكرة، التي زادت بأضعاف على ما كان المشركون يفعلونه عند أصنامهم، ولا نطيل في هذا البحث؛ فإن الزيارة البدعية قد بيَّنها الرسول وأصحابه، والعلماء من بعدهم إلى يومنا هذا؛ فجزاهم الله عن المسلمين خيرًا. فصل وقد يتوهم من لم يعرف مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية في زيارة القبور من إيراد السبكي هذا التقسيم في هذا الباب؛ أنه ينكر زيارة القبورل ويجعلها بدعة مطلقًا من غير تفصيل، وليس كذلك. وها أنا أنقل جملة من جوابه الذي أجاب به السائل عن بيان حكم زيارة القبور، وإن كان قد يُكْتَفى بما ذكره الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب

«الصارم المنكي في الرد على السبكي» . فلطول المقام وزيادة الفائدة أقول: قال شيخ الإسلام وبركة الأنام المحدث المفسِّر المجتهد أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية ـ رَوَّح الله روحه ونَوَّرَ ضريحه ـ بعد كلام طويل ما نصه: «وأمَّا زيارة القبور المشروعة؛ فهو أن يسلم على الميت، ويدعو له، وهذا بمنزلة الصلاة على جنازته، كما كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل ديار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين مِنَّا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِن رجل يَمُرّ بقبر رجل كان يعرفه فيسلِّم عليه إلا رَدَّ الله عليه روحه حتى يَرُدَّ عليه السلام» . والله ـ تعالى ـ يُثيب الحي إذا دعا للميت المؤمن، كما يثيبه إذا صلَّى على جنازته؛ ولهذا نُهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بالمنافقين؛ فقال عَزَّ مِن قَائِلٍ: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ} . فليس في الزيارة الشرعية حاجة الحي إلى الميت، ولا مسألته ولا توسله؛ بل فيها منفعة الحي للميت، كالصلاة عليه، واللهُ ـ تعالى ـ يرحم هذا بدعاء هذا وإحسانه إليه، ويثيب هذا على عمله؛ فإنه ثبت في الصحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ماتَ ابنُ ادم انقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عِلْم ينتفعُ به من بعده، أو ولد صالح يدعو له» . فصل ثم إنه بعد أن ذكر الزيارة السنية؛ أعقبها بذكر الزيارة البدعية، وأطال في ذلك بما فيه كفاية ومقْنَع لمن أراد الله هدايته. فإن أردت الوقوف عليه فارجع إليه في رسالته المسماة: «زيارة القبور والاستنجاد

بعض ما يفعله عباد القبور عندقبورهم

بالمقبور» ـ التي طبعت بمصر ـ؛ تجد فيها ما يثلج الصدر ويوضح الأمر؛ فإنه ـ رحمه الله تعالى ـ بسط فيها القول بسطًا وافيًا، مؤيدًا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ فقطع بها شُبَه المبتدعين، وأدحض حُجَج المعاندين، ولأجل أنها مطبوعة ومشهورة اكتفيت بالإشارة إليها والعزو إليها، وهكذا أفعل في كل كتاب يكون مطبوعًا ومشهورًا؛ فإني أكتفي في تأليفي هذا بالإشارة إليه، وربما أذكر منه جملة وأنبه على بقية ما فيه؛ روم الاختصار وتسهيلًا على من يريد الإرشاد؛ فإني لو ذهبت أذكر [كل ما] ورد من الرد على الزيارة البدعية وما قالته العلماء قديمًا وحديثًا في بيانها وكشف حالها؛ لاحتجت إلى سفر ضخم؛ فأكتفي بالإشارة إلى الكتب التي أُلفت في هذا الباب؛ ليقف الناظر عليها، ويرجع في ذلك إليها، وحيث أن أكثرها ـ ولله الحمد ـ قد طُبعَ وانتشرَ فلا حاجة بي إلى نقل جميع عباراتها، والله الهادي. ولقد فتح هذا المعترض على المسلمين الموحدين بابًا عظيمًا من الشرك والضلال بهذا القسم الثالث ـ أعني: قوله: «زيارتها للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الخير والصلاح» ـ، وجاء بعده علماء سوء فزادوا في الطنبور نغمة وفي الطين بِلْة؛ فجوَّزوا للناس تقبيل القبور، ومسحها والطواف بها، والنذر والذبح لها، والاستغاثة بأهلها؛ فلا تكاد تسمع عند قبور الصّالحين ذكر الله أبدًا؛ بل تسمع الزائرين يهتفون بأسماء أهلها، ويطلبون منهم حوائج الدنيا والآخرة؛ فتراهم ركَّعًا سجَّدًا يبتغون فضلًا من صاحب القبر ورضوانًا، سيماهم السواد في وجوههم من أثر السجود لغير الله؛ فإنها ما عُفِّرت ولا مُرِّغَت لأجله، وتراهم متذللين خاشعين خاضعين ناكسي رؤوسهم، فوالله لو فعلوا ذلك لله ـ عز وجل ـ في صلاتهم وعبادتهم؛ لكانوا من الفائزين المفلحين. وهذا الذي ذكرته بعض ما رأيته وسمعته. فنعوذ بالله من أن نعبد غيره أو نستعين بأحدٍ سواه. وقد أخبرني الثقة من أهل حضرموت أنهم في بلادهم يأتون إلى القبور الصّالحين من السادة وغيرهم، ومعهم العقائر من الإبل وغيرها؛ فيقفون عند صاحب القبر ويقولون: يا فلان! ـ يسمونه باسمه ـ هذه عقيرتك؛ فيضربون قوائمها

ذكر بعض العلماء الذين ألفوا في الزيارة الشرعية والبدعية

بالآلات الحديدية حتى تنخَذِل قوائمها وتبرك، ثم يذبحونها، وليتهم كما ذبحوا لغير الله أحسنوا الذبحة ـ القِتْلَة ـ كما قال عليه الصلاة والسلام: «إذا قَتلتم فأحسِنُوا القِتْلَة» ، وقد سألتُ كثيرًا من أهل حضرموت فاعترف به، والله المستعان! فصل فممن ألف في ذلك وبيَّن ما هنالك: شيخ الإسلام ابن تيمية، وله في ذلك رسائل عديدة، بعضها قد طبع بمصر والهند، وبعضها لم يطبع حتى الآن. ومنهم: تلميذه الإمام المجتهد الحافظ المتقن ناصر سنة سيد المرسلين وسيف الله على أعناق المبتدعين شمس الدين ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» ، وكتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين» ، وكتابه «زاد المعاد في هدي خير العباد» . ومنهم: الحافظ محمد بن عبد الهادي المقدسي في كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» . ومنهم: الإمام المتقن السيد محمود شكري الآلوسي في كتابه «غاية الأماني في الردِّ على النبهاني» . ومنهم: الإمام الكبير البركوي الحنفي

صاحب الطريقة المحمدية في رسالته «حكم زيارة القبور» ، وقد طبعت بمصر مع جملة رسائل؛ فقد أحسن فيها وأجاد وأرضى بها رب العباد. ومنهم: الإمام عبد اللطيف النجدي في كتابه «منهاج التأسيس والتقديس في الرد على داود بن جرجيس» . ومنهم: الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في

تفسير القرآن. ومنهم: الأستاذ الحكيم السيد محمد رشيد رضا

في مجلة «المنار» . ومنهم: الأستاذ النحرير الشيخ أبو بكر خوقير المكي في كتابه «فصل المقال» الذي طُبعَ بمصر. ومنهم: العلامة السويدي في كتابه الذي ألفه في إخلاص التوحيد. ومنهم: الإمام المجتهد المطلق السيد صديق حسن خان في كتابه

أحوال من جاء بعد السبكي ممن وافقه في قوله

«الدين الخالص» وغيره من كتبه. وغيرهم مما لم أطلع على مصنفاتهم؛ فكلٌّ منهم قد أجاد وأفاد؛ فلعل المسترشد إذا رجع إلى أي كتاب من هذه الكتب التي ذكرناها لم يبقَ عنده شبهة من الشُّبَه التي راجت على الجهَّال، وإن كانوا قد سمَّوا أنفسهم علماء؛ فإن العالم هو الذي يقف عند ما شرعه الله ورسوله ولم يتجاوزه إلى رأي أحد من الناس كائنًا من كان. فصل وهؤلاء الذين جاءوا من بعد السبكي وأضرابه لم يكتفوا بما ذكرناه عنهم من جواز تقبيل القبر ومسحه والتبرك بترابه؛ بل اعتقدوا في أهلها أنهم لهم قدرة على الإحياء والإماتة والعطاء والمنع، وإليك ما قاله كبيرهم ـ هو أحمد بن حجر المكي ـ في كتابه «الفتاوي الحديثية» ؛ فقد ذكر فيها عن الشيخ عبد القادر الكيلاني أنه أحيا دجاجة! فانظر ـ رحمك الله ـ إلى هذ الجاهل كيف أدَّاه جهله إلى مثل هذه السخافات والتُّرهات، وليت شعري! إذا كان الشيخ عبد القادر الكيلاني له قدرة على إحياء دجاجة؛ فلِمَ لم يُحْيي إمامًا من الأئمة الأربعة ـ مثل: مالك والشافعي وأحمد ـ؛ حتى ينتفع الناس بعلمه، ويُصلح الدين مما طرأ عليه من البدع والمفاسد التي لا يحصيها إلا الله ـ عز وجل ـ؟! وفي زمانه ـ رحمه الله تعالى ـ قد كثرت البدع

بعض المصائب التي تحصل بسبب التعصب للأئمة

وعظمت؛ حتى طعن أهلها في أهل الحديث ورموهم بالحشو والتجسيم. ارجع في ذلك إن شئت إلى كتاب «الغُنْيَة» ؛ تجد بها ما ذكرته لك. وليس عندهم مما ذهبوا إليه شيء يصلح للاستدلال من كتاب أو سنة حتى يُنظَر فيه؛ بل محض تقليد أعمى أو اتباع لآراء سلفهم من غير دليل كما وصفنا؛ فقد بنوا أقوالهم على قول السبكي: «تُزار القبور للتبرك بأهلها» ؛ فهو وإن كان لم يقل ما قالوا بل وافق أبا محمد المالكيّ في قوله: «إنَّ قصد الانتفاع بقبر الميت بدعة إلا قبور الأنبياء» ؛ أقره بقوله: «صحيح» ، ولكن رمى فيها كلمة هي كانت سبب ضلال المضلين وهلاك الهالكين؛ أعني قوله عقب ذلك: «وإن كان فيما قاله نظر» ؛ فالمتأخرون ذهبوا يبينون هذا النظر، وزادوا عليه ما بيناه سابقًا. فهكذا شأن البدعة؛ تظهر صغيرة ثم تربو وتنمو حتى يُقَيض لها الله من يجتثها من أصولها؛ فهذا السبكي قد سَنَّ للناس سُنَّة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء ـ كما جاء في الحديث ـ. فصل وهذه ليست بأول مصيبة أُصيب بها الإسلام والمسلمون بسبب تقليد الأحياء للميتين؛ فكم آية من القرآن بسبب التقليد قد تركت، وسنة لآراء الرجال قد رُدَّت وهُجرت! وقبور من دون الله قد عُبدت! وآراء على القرآن والسنة قد رُفعت! وممالك للمسلمين في يد العدو قد سقطت! ودماء بين المسلمين قد سُفكت! ورجال للعلم قد أُهينت وسجنت بل قتلت! فإلى الله المشتكى من هذه المصيبة التي كادت

أن تهدم أصول الدين، وتُوقع الناس في العذاب المهين؛ فكأن أسلاف هؤلاء المبتدعين قد تقاسموا بالله وتعاهدوا وتعاونوا على تخريب هذا الدِّين، ونقض عُراه عُروة عُروة، وقد انقسموا قسمين: قسم سمُّوا أنفسهم علماء التوحيد والأصول وقرروا قانونًا بينهم لا تجوز مخالفته؛ وهو: إذا تعارض دليل سمعي ودليل عقي جمع بينهما إن أمكن، فإن تعذر الجمع أُوِّل الدليل السمعي ولو بتكلف، فإن تعذَّر التأويل رُدَّ الدليل السمعي إن كان من السنَّة ولو صحيحًا من جهة الإسناد، ويقولون: هذا خبر آحاد لا يُقَدَّم على العقل؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والدليل العقلي يقين؛ فلا يترك اليقين للظنَّ! ولولا أن يخافوا من المسلمين لقالوا ذلك في الدليل القرآني! ولو قالوه فلا بدْع؛ لأن شيخهم جهم بن صفوان قال ذات يوم وهو يقرأ في المصحف

{الرحمن على العرش استوى} : لو أمكنني حكها من المصحف لحككتها! روى ذلك عنه البخاري في كتاب «خلق أفعال العباد» ؛ فارجع إليه. فبسبب هذا القانون الذي ذكرناه عنهم؛ أوَّلوا أسماء الله وصفاته التي ذكرها في كتابه، ووصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنَّ اعتقاد ظواهر هذه النصوص كفر صريح! بل لا بُدَّ من تأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ ففسَّروها بآرائهم وما أدَّته إليه عقولهم؛ ففسَّرُوا اسمه (الرحمن الرحيم) : بلازم أثر ذلك من إثابة المؤمنين، ومنعوا أن تكون لها معاني تليق به ـ سبحانه وتعالى ـ، وفسَّرُوا (العرش) : بالملك، و (الاستواء) : بالاستيلاء، واليد: بالقدرة، والنفس: بالعقاب، والنزول: بنزول الملك، والمجيء: بمجيء أمره، وقالوا: لا يُوصف الله بأنه خلف أو أمام أو يمين أو شمال أو أسفل أو فوق، ولا يُقال في السماء ولا فوق العرش ولا تحته ولا داخل العالم ولا خارجًا عنه، ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل من عنده شيء، ولا يتولى حساب العباد بنفسه، ولا يكلم المؤمنين، ولا يضحك لهم، ولا يغضب ولا يرضى، وغير ذلك من الصفات الثابتة له ـ عز وجل ـ بالكتاب والسنة الصحيحة، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا، ولم يقتصروا على ما ذكروه؛ بل جعلوا طريقتهم هذه ـ أي: طريقة العدم والنفي والتعطيل ـ أعلم وأحكم من طريقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل الحديث أجمعين! فسبحانك هذا بهتان عظيم! فسبحان من أعمى بصائرهم وطبع على قلوبهم! فهل يقول مسلم أو كافر: إن فروخ الأعاجم أعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاني القرآن والسنة؟! ولو أخذنا نردّ هذا الضلال المبين لطال بنا الكلام، وإن شئت الوقوف على

من سموا أنفسهم علماء الفقه والفروع

ذلك فارجع إلى كتاب البخاري ومسلم و «خلق أفعال العباد» وتفسير ابن جرير، وغيرها من كتب السلف التي ألَّفوها [لبيان السنة] وللرد على أهل البدع والشُّبَه الذين يريدون أن يُبدلوا كلام الله. فصل وأما القسم الثاني: فقد سمَّوا أنفسهم علماء الفقه والفروع، وقرَّرُوا قاعدة؛ وهي: إذا جاء النص مخالفًا لقول متبوعهم يؤول إن أمكن، وإلَّا حاولوا ردَّهُ إمَّا: بطعن في أحد رجال إسناده ولو بشيء لا يُعَدّ طعنًا وجرحًا في الحقيقة. وتراهم إذا كان الحقَّ هم يُعَدِّلون هذا الراوي وإنْ جرحه عدد كثير. فخلاصة قاعدتهم: أنَّ ما ذهبَ إليه أصحابه هو الأصل، والنصوص الشرعية هي الفرع، فإن وافق الفرع الأصل قُبِل وإلَّا فلا! هذا ما قاله أبو الحسن الكرخي الحنفي. وحيث إن جميعهم قد علموا أن ضلالهم هذا لا يخفى على من رزقه الله فهمًا في كتابه واطلاعًا على سنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ منعوا الناس بل حرَّموا عليهم الاهتداء بالكتاب والسُّنَّة، ولو بلغ في العلم أعلى درجات الغاية،

وقالوا: إنَّ باب الاجتهاد والأخذ بالدليل قدانسدَّ، وليس عليكم إلا أن تدينوا الله بما في هذه الكتب التي وضعناها لكم، ولا تقرؤوا القرآن إلا للأموات والتعبد! ولا كتب الحديث إلا لإنزال المطر ودفع الوباء والبلاء وكل شدَّة! ومن جاءكم يستدلّ بشيء في القرآن والسنة فارموه بالتبديع والتضليل والتشنيع وشهروه بين الناس بأنه رجل يبغض الأئمة الأربعة؛ لينفر الناس عنه ويجتنبوه، ولا يسمعو قوله ولو تلا عليهم القرآن العظيم من أوله إلى آخره، وأتاهم بألف دليل! فانظر ـ هداك الله ـ إلى هذا المنكر العظيم! فوالله؛ لو أحيا الله أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد في هذا الزمان؛ لتبرؤوا إلى الله من المنتسبين إليهم، وحماهم الله من أن يجعلوا أقوالهم مُقَدَّمة على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن طالعَ كتب الأئمة المنسوبة إليهم؛ وجد فيها شِدَّتهم على تاركي السُّنَّة، والحث على اتباعها، والتبرؤ إلى الله من تقديم أقوالهم عليها، وكيف يُظَنُّ بهم ذلك وهم أئمة الهدة ومصابيح الدّجى؟! فرضي الله عنهم أجمعين! ونفعنا بعلومهم وحشرنا في زمرتهم، آمين.

وإذا أردتَ الوقوف على نهيهم عن التقليد وكراهتهم له، وحث الناس على الأخذ بالدليل، فإن وافق قولهم الدليل قُبِلَ وإلا فيُرَدُّ قولهم بحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فعليك بكتاب «جامع بيان العلم وفضله» للحافظ ابن عبد البر، وكتاب «إعلام الموقعين» للحافظ ابن القيم، و «محاورة المصلح والمقلد» للسيد رشيد رضا، وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا الباب. فصل واعلم أني لا أقصد بالذمِّ إلا من كان متصفًا بهذه الصفات التي ذكرتها، وهو مرادي دائمًا في هذا المجموع؛ إذا ذكرتُ أقوامًا وشنَّعت عليهم فلا أقصد إلا مَن خالفَ الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ولا أعمم سائرهم بالذمِّ والتشنيع؛ فإن ذلك خطأ عظيم؛ فمرادي بالرد على أهل هذين القسمين هو: ما حكيناه عنهم؛ وإلا فكثير من أتباع الأئمة الأربعة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ كانوا هادين مهديين، عاملين بأقوال الأئمة إذا كانت موافقة للكتاب والسنة، وإذا جاء الحديث مخالفًا لشيء من أقوالهم تركوا أقوالهم للسَّنة الصحيحة، فهؤلاء هم الذين اتبعوا الأئمة على الحقيقة؛ فرضي الله عنهم وشكر سعيهم. وأما من وصفنا حالهم في القسمين السابقين؛ فأولئك لا يقال لهم أتباع الأئمة؛ بل أناس اتبعوا أهواءهم وآراءهم من غير بيِّنة ولا توفيق من الشارع، ولا يَجْعَل أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم وحاشاهم أن يأمروا أحدًا أن يجعل أقوالهم هي الأصل والكتاب والسنة هما الفرع؛ فإن وافق

شيء منها أقوالهم فذاك؛ وإلا فليس له مخرج. وهذ االذي ذكرته إنما هو شيء يسير من المفاسد التي حصلت من أهل التقليد. بل هناك مفاسد أخرى تزيد بأضعاف مضاعفة عمَّا وصفته؛ فكم أُخرجت رجال من العلماء من بلادهم ظلمًا وعدوانًا، وكم تركت رجال من العلماء في غيابات السجن؛ فمنهم من مات فيه، ومنهم من فرَّج الله عنه، وكم من دماء قد سفكت، وبلاد للمسلمين في يد العدو قد سقطت. وهذا كله إنَّما هو من شؤم التقليد والانتصار لغير الله ورسوله. فلو أراد هؤلاء بفعلهم هذا الانتصار لله ورسوله؛ ما حصل من ذلك شيء؛ لأن الله يقول ـ وبقوله يهتدي المؤمنون ـ: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} ، وقال ـ تعالى ـ: {كتب الله لأغلبنَّ أنا ورُسلي} ، وقال جلَّ ثناؤه: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} ؛ فقوله حق ووعده صدق، فلما تغلب العدو على بلاد هؤلاء وغيرها من البلدان التي كانت عند المسلمين ـ وحيث أنه لم يكن ذاك كذلك ـ؛ علمنا قطعًا أن هرؤلاء ما أرادوا بفعلهم هذا وجه الله؛ بل أرادوا التقرب إلى الملوك والولاة وأرباب الدينا؛ فإذا وَلِيَ إمام حنفي قاموا لنصرة أبي حنيفة وأتباعه، وطعنوا [في] الشافعية؛ لأنهم إذ ذاك أهل شوكة، وإذا وَلِيَ إمام شافعي قامت الشافعية على الحنفية؛ فاقتصوا منهم بأضعاف ما فعلت الحنفية فيهم؛ جزاء وفاقًا، وهكذا كلَّما حُبِّبَ إلى أيّ إمام شيء من العلوم تراهم يهرعون إليه، يحسنون هذا العلم له، ويضعون فيه الكتب والرسائل؛ فأين هؤرء من علماء السلف الذين كانوا إذا طُلِبُوا هَربوا، وإذا دُعوا إلى أبواب الأمراء لم يُجِيبوا؛ فكم حُبِسَ بعضهم وضُرِبَ من أجل أنه لم يقبل القضاء! ورُوي عن الإمام مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه لما طلبه الخليفة هارون الرشيد إلى بغداد ليسمع منه الموطأ؛ فأرسل له مالك بقوله: «يا بَني العباس

العلم عنكم أُخذ والعلم يُؤتَى ولا يَأتي» ؛ فلما بلغه كتاب مالك قال: صدق؛ وتوجه إلى المدينة؛ فسمع منه الموطأ، ثم أعطاه صلة عظيمة من الدنانير؛ فأخذها ووضعها في بيته ولم يتصرف فيها، ثم توجه أمير المؤمنين إلى مكة فحجَّ البيت ثم عاد إلى المدينة، وكلَّف الإمام بالذهاب معه إلى بغداد؛ فقال له مالك: «أما أنا فلا أخرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الدنانير التي أعطيتنيها فهي موجودة لم أتصرف في شيء منها» . وهذا الإمام أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ لمَّا طُلِبَ إلى القضاء فلم يقبل فحُبِسَ وضُرِبَ على ذلك. فهكذا تكون العلماء؛ كما قال بعض الصّالحين: «ما أحسن الأمير عند باب [العالم] ! وما أقبح العالم عند باب الأمير» . فصل وهذا الذي قلته إنَّما هو بعض ما قاله أهل العلم في وصف هؤلاء المفتونين المغرورين، وقد رأيت من الصواب أن أنقل بعض عبارات من كلام الإمام حجَّة الإسلام أبي حامد الغزالي ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ في كتابه «الإحياء»

قال ما نصه: «الباب الرّابع: في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف، وتفصيل آفات المناظرة والجدل وشرط إباحتها: اعلم أنّ الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولّاها الخلفاء الرّاشدون المهديّون، وكانوا أئمّة علماء بالله ـ تعالى ـ، فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلّين بالفتاوى في الأقضية؛ فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلَّا نادرًا في وقائع لا يُستغنى فيها عن المشاورة، فتفرّغ العلماء لعلم الآخرة، وتجرّدوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلّق بأحكام الخلق من الدُّنيا، وأقبلوا على الله ـ تعالى ـ[بكنه]

اجتهادهم ـ كما نُقل من سيرهم ـ، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام؛ اضُطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التّابعين مَن هو مستمرّ على الطّراز الأوّل، وملازم صفو الدِّين، ومواظب على سمت علماء السّلف؛ فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا؛ فاضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات؛ فرأى أهل تلك الأعصار عِزّ العلماء وإقبال الأئمّة الولاة عليهم، مع إعراضهم عنهم؛ فاشرأبّوا لطلب العلم؛ توصّلًا إلى نيل العِزّ ودرك الجاه من قبل الولاة؛ فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصّلات منهم؛ فمنهم مَن حُرم، ومنهم مَن أنجح، والمنجح لم يخل من ذلّ الطّلب ومهانة الابتذال؛ فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السّلاطين أذِلّة بالإقبال عليهم، إلَّا مَن وفّقه الله ـ تعالى ـ في كلّ عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأمصار على علم الفتاوى والأقضية؛ لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصّدور والأمراء مَن يستمع مقالات النّاس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحُجج فيها؛ فعُلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام؛ فأكبّ النّاس على الكلام، وأكثروا فيه التّصانيف، ورتّبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين الله، والنّضال عن السُّنّة، وقمع المبتدعة، كما زعم مَن قبلهم: أنّ غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدّين وتقلّد أحكام المسلمين؛ إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم! ثم ظهر بعد ذلك من الصّدور مَن لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولّد من فتح بابه من التّعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشّافعيّ وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهما ـ على الخصوص؛ فترك النّاس الكلام وفنون العلم، وأقبلوا على المسائل الخلافيّة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ

وغيرهم، وزعموا أنّ غرضهم استنباط دقائق الشّرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التّصانيف والاستنباطات، ورتّبوا فيها أنواع المجادلات والتّصنيفات، وهم مستمرّون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يُحدث الله فيما بعدنا من الأعصار! فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيّات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدُّنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمّة، أو إلى علم آخر من العلوم؛ لمالوا أيضًا معهم، ولم يسكنوا عن التعلّل بأنّ ما اشتغلوا به هو علم الدِّين، وأنّ لا مطلب لهم سوى التّقرّب إلى ربّ العالمين. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم» اهـ من إحياء علوم الدين. قال شارحه السّيّد محمد مرتضى الزبيدي ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ عند قول المصنف: «وليس ندري ما الذي قدَّر الله فيما بعدنا من الأعصار» . قلتُ: «ثم تعاظم الأمر في ذلك، وأوسعوا فيه الكلام ومالوا إليه مرة واحدة بحيث لا يعد العالم فيما بينهم إلا إذا استكمل الخلاف والجدل، وحصلت المناظرات بين الحنفية والشافعية، وترتب على ذلك تخريب بعض البلاد، وإجلاء بعض العلماء، ومن أعظمها ما حصل بمرو [أم] مدن خراسان بسبب ابن السمعاني وغيره، فهذا الذي ذكرته هو الباعث لهم على الإكباب والإقدام على الخلافيات والمناظرة

والجدل لا غير» ، إلى أن قال كلامًا حاصله: أن الملوك كلما مالوا إلى علم سواء كان من علم الشرع أو من علم الفلاسفة مالوا معهم، زاعمين أنهم قد أرضوا بفعلهم رب العالمين، وهم في ذلك من الخاطئين. وكُلٌّ يَدَّعِي وَصْلًا بِلَيْلَى ... ولَيْلَى لَا تُقِرُّ لهم بِذَاكَا» انتهى. قلتُ: ما ذكره الشارح من وقوع الفتن والقلاقل بين الشافعية والحنفية في مرو أم مدن خراسان بسبب ابن السمعاني له قصة غريبة تضحك الثكلى، ذكرها الشيخ تاج الدين عبد الوهاب السبكي بن علي السبكي الذي نحن بصدد الرد عليه، في «طبقات الشافعية الكبرى» له، وحاصلها: أن الإمام المظفر ابن السمعاني كان في بادئ أمره حنفيًّا تفقه على والده وغيره في الفقه الحنفي، وناظر وناضل، ثم رأى في منامه رب العزة جل جلاله؛ فقال له: أما آن لك أن ترجع إلينا يا أبا المظفر! فلما أصبح أوَّلَها

بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يريد منه الانتقال من مذهب أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ إلى مذهب الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ؛ فقامت القيامة بين الحنفية والشافعية من أجل الإمام؛ فغلق المسجد القديم، ومُنِعَت الشافعية من إقامة الجمعة! فبالله عليك! تأمَّل منصفًا في هذه القصة؛ فهل يقول أحد من سفلة الناس فضلًا عن أهل العلم: أن مذهب أبي حنيفة خطأ وضلال واتباع غير دين المسلمين، حتى أن الله يقول لأبي المظفر: أما آن لك أن ترجع إلينا! بمعنى أن تترك مذهب أبي حنيفة وترجع إلى مذهب الشافعي، ليس لها تأويل إلا هذا؟! وكان من الممكن بل هو التحقيق إن صحَّت هذه الرؤيا لابن السمعاني؛ فتأويلها ـ والله أعلم ـ أن ابن السمعاني كان مشتغلًا بعلم الكلام المتضمن تأويل نصوص الصفات والمناظرة بالجدل انتصارًا لأبي حنيفة؛ فأراد الله هدايته وإنقاذه من المهلكات التي نهى الله عنها ورسوله؛ فأراه في نومه ما أراه. ومعنى «أن ترجع إلينا» بمعنى: أن ترجع إلى كتابنا وسنَّة نبينا؛ فتناظر وتناضل عنهما وتنتصر لهما، ولا تقدم قول أحد من الناس كائنًا من كان عليهما؛ فإن وافق قول متبوعك شيئًا منهما قُبِل، وإلا فيرد بكتابنا وسنة نبينا. هذا هو التأويل اللائق برؤيا هذا الإمام؛ وقد أدرك ذلك وفهمه ـ رحمة الله تعالى عليه ـ فرجع إلى مذهب أهل الحديث، وتخرج فيه، ونبغ وبرع وصنَّف التصانيف النافعة. والحامل لنا على تأويل هذه الرؤيا أسبابٌ: مِنها: أن المذاهب هذه لم تكن معروفة في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ؛ بل حدثت في أواخر المائة الثانية، هذا بالنسبة إلى وجود الأئمة الأربعة؛ وإلا فالتقليد لم يستفحل أمره إلافي المائة الرابعة؛ يُعْلَم ذلك من تتبع كتب الحديث وكتب الأئمة الذين كانوا قريبًا من عهد الأئمة الأربعة؛ كمختصر المزني

والمدونة، وغيرهما. فكيف يظنّ أحد أن الله ـ تعالى ـ يأمر أحدًا من خلقه باتباع غير كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ومنها: أن مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ليس بعضها بأولى من بعض؛ إذ ما من مذهب من المذاهب إلا وفيه حق موافق للقرآن والسنة، وفيه من الرأي والاستحسان ما هو مخالف للنصوص الشرعية، ولكن يقال: بعضها أكثر صوابًا من بعض، ولكن خطأهم مغفور لهم خاصة دون غيرهم؛ لأنهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لم يألوا جهدًا في تمحيص الحق وتوضيحه، وقد أفرغوا وسعهم في ذلك، و {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} ، وقد فعلوا ذلك لأنفسهم؛ خروجًا من التقليد المنهي عنه؛ إذ كان قبلهم من هم أعلم منهم، ولكن لما علموا علمًا ضروريًّا أن الله ـ عز وجل ـ لم يوجب على الناس إلا اتباع الكتاب العزيز وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المعصوم عن الخطإ، بخلاف غيره من الناس؛ فإنه يجوز عليه الخطأ مهما عَظُمَ قدره؛ إذ لا عصمة لغير الأنبياء ـ صلوات الله تعالى عليهم ـ، وأما من أتى بعد الأئمة الأربعة أو غيرهم فلا يغفر خطأه بتقليده لهم، ما لم يتبع طريقتهم في استنباط الأحكام، ويدأب في تحصيل ذلك كما دأبوا، ويتجشم الصعب لذلك كما تجشَّمُوا، ومن لم يكن عنده قدرة على ذلك فلا يجوز له أن ينتصر لأحد منهم بغير علم ولا سلطان بيِّن؛ بل عليه أن يسأل أهل العلم الموصوفين بهذه الصفات، والأمة لم تُعدَم ـ ولله الحمد ـ في كل زمان من هو موصوف بهذه الصفات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يَضُرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة مَن يُجَدِّد للناس أمرَ دينها» ؛ فلا تخلو الأرض في كل زمان ـ ولله الحمد ـ من

قائم لله بحجة. وأما أهل الحديث ـ كَثَّرهم الله تعالى ـ في كل مكان في القديم والحديث؛ فهم أولى الناس بالله ـ تعالى ـ وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبالصحابة وبالتابعين وبالأئمة المجتهدين؛ لأنهم لم يقدموا قولًا على قول الله ـ تعالى ـ ورسوله، وجعلوا ذلك هو الأصل، وأقوال الناس هي الفرع؛ فإن وافقت هذا الأصل قُبَلَت وإلَّا رُدَّت؛ فإنها أحقر من أن تكون مساوية لقول الله ورسوله، فضلًا عن أن تُقَدَّم عليه؛ فهذا هو الذي نَدِين الله به وندعو الناس إليه. فصل وقد ذكر الإمام الغزالي للمناظرة آفات عشر، وهي أم الرذائل والفواحش؛ منها: النفاق، والحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء ... إلى غير ذلك، إلى أن قال: «وهذه غير ما يقع بين المتناظرين من الشتم والضرب وتمزيق الثياب وجر اللحا ... » إلى آخره. [وأنا أقول] : هذا كله صحيح مشاهد لنا بالعيان، ولكن أقول: لا تُترك المناظرة والمناضلة عن الحق إذا حُسنت النية، وكان القصد نُصْرَة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا تغضب لترك الآية القرآنية والسنة الصحيحة النبوية، والله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} ، وقال ـ تعالى ـ: {وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} ؟! ومن المعلوم أن نصر الله ورسوله هو نصر كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خشية أن تقضي عليهما آراء الرجال، وهذ االاختلاف والتنازع لا يرتفعان أبدًا [إلا بالتحاكم إلى الكتاب والسنة] ؛ لقوله ـ تعالى ـ: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} ، وقوله ـ تعالى ـ: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} ؛ فقد أخبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بوقوع التنازع والاختلاف، ولكن هذا التنازع والاختلاف لا يضر؛ لوجود

القرآن والسنة الصحيحة بين أظهرنا؛ فالرد إليهما يسيرٌ سهلٌ جدًّا على من أراد الله هدايته. وأما التنازع والاختلاف المضران؛ فهما: الرد إلى آراء الرجال واستحساناتهم؛ فهذا هو المضر؛ لأن الآراء والأفهام لا تنحصر ولا تنضبط؛ ولذلك كان يقول أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ: «هذا رأي رأيناه فمن جاءنا بأحسنَ منه قبلناه» . وهنا أسباب توجب الاختلافَ تَفاوتَ الناسُ في فهمها؛ وهي أسباب ثمانية ذكرها الإمام ابن رشد والإمام المرتضي شارح «الإحياء» ، وهذا نصه؛ قال في الشرح المذكور: «ثم إن الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر سبب الإقبال على علم الخلاف والانكباب عليه، ولم يذكر الأسباب الموجبة للخلاف في هذه الملة؛ وهي ثمانية: الأول: اشتراكم الألفاظ والمعاني، الثاني: الحقيقة والمجاز، الثالث: الإفراد والتركيب، الرابع: الخصوص والعموم، الخامس: الرواية والنقل، السادس: الاجتهاد فيما لا نقل فيه، السابع: الناسخ والمنسوخ، الثامن: الإباحة والتوسيع» . قلتُ: هذه الأسباب الثمانية هي التي يدور عليها قطب رحى علم أصول الفقه، ويا حبذا لو قصروا الكلام عليها كما فعل الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في رسالته التي وضعها في الأصول؛ بل ضموا إلى ذلك أقوال المعتزلة والفلاسفة وأهل

الكلام؛ حتى كأنه علم كلام محض! كما أفاد ذلك السيد بدر الدين النعساني في كتابه «الإرشاد والتعليم» ، وهذه الأسباب كلها موجودة في الكتاب العزيز والسنة النبوية؛ فلا محيص عنها، ولكن قد قَلَّ الخلاف فيها بين المُحَدِّثين؛ لأنهم لم يدخلوا في شيء من الرأي والاستحسان؛ فأحكام القرآن متفقون عليها فيما أعلم، وأما أحكام السنَّة فالخلاف بينهم بين حديث صحيح وحسن، وضعيف وموضوع، وناسخ ومنسوخ، وبعضهم يرى هذا حديثًا صحيحًا، وبعضهم يراه حسنًا فقط. وبعضهم يقول: هذا حديث ضعيف لا تقوم به حجة، ولو كثرت طرقه، وبعضهم يقول: إذا تعددت طرقه قوَّى بعضها بعضًا وصلح للاحتجاج. وبعضهم يقول: يعمل بالضعيف في فضائل الأعمال، وبعضهم يقول: لا يعمل به مطلقًا. وبعضهم يقول: هذا حديث موضوع، وبعضهم يقول: ليس هذا بموضوع؛ وله شواهد ومتابعات ترفعه عن درجة الوضع. فهذا الخلاف قريب الاتفاق؛

لأنهم قد وضعوا علمًا لذلك سمَّوه (علم مصطلح الحديث) ، يدخل فيه علم الجرح والتعديل؛ فمن رجع إلى هذا الفن رَدَّ الخلاف إليه؛ فلم يبقَ بعد ذلك عنده شك في أن هذا الحديث إما صحيح أو حسن، أو ضعيف أو موضوع. والله الموفّق. هذا خلاف المحدثين في فروع الفقه، وأما في العقائد فلم يختلفوا قط؛ بل كلهم مجمعون على إثبات الصفات لله ـ تعالى ـ التي جاء بها القرآن وصحَّت بها الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير تأويل ولا تمثيل؛ فرحم الله الإمام السفاريني الحنبلي حيث يقول في عقيدته التي سمَّاها «الدرة المضية» : ألم ترَ اختلاف أهل النظرِ ... وحُسْن ما نحاه أهلُ الأثرِ فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى ... نبيهم فاقنع بهذا وكفى فصل ولعلَّ قائلًا يقولُ: قد ذكرتَ فيما مضى أنّه لا بُدّ من وقوع التنازع والاختلاف في الأحكام الشرعية كما أخبر الله، وكيف يستقيم هذا والله ـ سبحانه وتعالى ـ نهانا عن التفرق في الدين بقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} ، وقوله: {ولا تكونوا

بيان أن السلف لم يختلفوا في العقائد وإن اختلفوا في الفروع الفقهية

كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات} ، وقوله: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء} ... إلى غير ذلك من الآيات الصريحات في النهي عن التفرق والاختلاف؟! فالجواب: قد قدَّمْنَا أنَّ التنازعَ والاختلافَ الذي أخبر الله بوقوعه معناه: إذا اختلفنا في شيء ن الأحكام بعضنا يقول فيه: هذا حلال، وبعضنا يقول فيه: هذا حرام، والبعض يقول: هذا مكروه؛ فأمرنا ـ تعالى ـ أن نَرُدَّ هذا الاختلاف إلى الكتاب والسنة؛ فإذا وجدنا دليلًا يدلُّ على التحريم أو الحلّ أو الكراهة قلنا به، وهذا لا حرج فيه ولا ضرر؛ لأن الكتاب والسنة الصحيحة لها أول وآخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الحلالُ بَيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ وبينهما أمور مشتبهات ... » الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحلَّ اللهُ في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو؛ فاقبلوا من الله عافيته؛ فإن الله لم يكن ينسى شيئًا» ، وتلا: {وما كان ربُّك نسيًّا} [مريم: 64] . فإن قلتَ: إذا كان الحلال بيِّنًا والحرام بيِّنًا من الكتاب والسنة؛ فما وجه التنازع والاضطراب والاختلاف؟! فالجواب: أن أدلة الأحكام الشرعية على قسمين: جليٌّ وخفيٌّ؛ فالجلي: ما يفهمه كل أحد، والخفي هو: [ما] انفرد بفهمه العلماء المتبحرون الماهرون في علم الكتاب والسنة؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} ، و (أولو الأمر) : هم العلماء، والاستنباط لا يكون إلا في الشّيء الذي خَفِيَ دليله. فصل وأما التفرق والاختلاف اللذان ذمَّهما الله ـ تعالى ـ ونهى عنهما؛ فهو الاختلاف في الآراء التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة؛ فإن الآراء لا نهاية لها، والعقول تتفاوت

وكذا الأفهام؛ كما قال مالك الإمام: «أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما أنزل الله ـ تعالى ـ على محمد صلى الله عليه وسلم لجَدله؟!» ، ومعلوم أن هذا الاختلاف هو الذي يوجب الشقاق وتفريق كلمة المسلمين وينشئ العداوة والشحناء والحقد والبغضاء؛ لأنَّ كل أحد يرغب أن يكون رأيه أحسن من رأي غيره. فإن قلتَ: إنَّ الذين كانوا يناظرون ويناظرون عن أهل المذاهب ما فعلوا ذلك إلا لنصرة الكتاب والسنة؛ فكيف ذمَّهم الإمام حُجّة الإسلام الغزاليّ؟! فالجواب: ليس ذلك كذلك؛ إنَّما كان قصد كل واحد منهم نصرة إمام مخصوص؛ ولذلك تراهم يردُّون ويتكلفون التآويل البعيدة للنصوص من أجل أنها خالفت قول متبوعهم، وأما لو كان مقصودهم نصرة الحق لما نتصروا لإمام معين؛ بل يدورون مع الدليل حيث دار؛ فإن كان النص وافق أبا حنيفة أو مالكًا أو الشافعي قالوا به ورَدُّوا قول الإمام بالحديث. فإن قلتَ: إنَّ الأئمة المجتهدين ـ رضي الله عنهم ـ ما خرجوا عن الكتاب والسنة، فالانتصار لهم انتصار للكتاب والسنة. فالجواب: هذا كلام صحيح، ولكن الإحاطة بأدلة الأحكام لا تثبت لأحد منهم؛ وإنَّما يقال: إنَّ مجموعهم قد أحاط بأدلة الشرع إلا أشياء قليلة جدًّا، وتأمَّل قول مالك ـ رحمه الله تعالى ـ لهارون الرشيد لما أراد أن يحمل الناس على ما في «الموطأ» : «دع الناس وما اختاروا لأنفسهم؛ فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرَّقُوا في الأمصار، وعند كل أحدٍ من العلم ما لا يوجد عند الآخر» ؛ فعُلِمَ بهذا أن كل إمام عنده [علم] في السنة، وقد يوجد عند غيره أكثر منه، وقد يتفاوتون في علم السنة؛ كما يعلمه من تتبع مصنفاتهم؛ فمالك أكثر سنة من أبي حنيفة، والشافعي أكثر من مالك، وأحمد أكثر من الشافعي؛ علمنا ذلك من مسند الإمام أبي حنيفة وموطأ مالك، وكتاب الأم وغيره للشافعي، ومسند الإمام أحمد؛ فإنه أجمع وأعظم من كتب الأئمة المذكورين ـ رضي الله عنهم ـ. والسبب في ذلك أن علم السنة لم يكن مدونًا في عصر الصحابة ولا

التابعين؛ لاشتغالهم بالحروب والفتوحات الإسلامية؛ بل كان محفوظًا في صدور الرجال، فلما كتب الناس في زمن عمر بن عبد العزيز فصار كل يكتب ما وصل إليه من علم، وحيث أن الإمام أبا حنيفة هو أول الأئمة الأربعة وكان علم السنة في زمانه قليلًا؛ فلذلك قَلَّت روايته للحديث، ثم لا زال الناس يكتبون ويتوسعون في علم السنَّة حتى نما هذا العلم وكَثُر أهله؛ فكان مالك أكثر رواية من أبي حنيفة، ثم الشافعي أكثر رواية من مالك، ثم أحمد أكثر رواية من الشافعي، ثم كان علم السنَّة في عصر البخاري ومسلم وأهل السنن أكثر مما كان في عصر الأئمة الأربعة، فلم تمَّ نمو هذا العلم وبلغ أشده واستوى في القوة؛ أخذ يضمحل شيئًا فشيئًا؛ حتى صرنا لا نكاد نرى رجلًا من أهل الحديث! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. إذا تقرر هذا؛ علمنا أن الأئمة المجتهدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ لا لوم عليهم في شيء ما؛ لأن كل واحدٍ تكلَّم في الدين بما وصل إليه علمه؛ فقد يكون الحديث لم يبلغه بالكلية، أو بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، وأما أتباعهم الذين جاءوا من بعدهم فاللوم كل اللوم عليهم إذا قَدَّموا قول متبوعهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن نما وكَثُرَ هذا العلم وصُنِّفَت الكتب المختلفة في أنواعه؛ فكان الواجب عليهم أن ينصروا علم الكتاب والسنَّة ويجعلوا قول إمامهم تبعًا لهما؛ فإن وافقها قُبِل وإلا فلا. فإن قلتَ: هذه طريقة أتباع الأئمة سواء بسواء. فالجواب: نعم؛ هذه طريقة بعض ... أتباع الأئمة، لا كلهم؛ كالإمام المزني

أمثلة لما قدم فيه قول الإمام على الحديث الصحيح

والبيهقي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف والحافظ ابن عبد البر، وغيرهم، والبعض الآخر كان على خلاف ذلك؛ كما وصفنا حالهم فيما مضى. فصل فإن قال قائل: هل يمكن أن تذكر لنا شيئًا مما قدَّم فيه هذا البعض الآخر قول الإمام على الحديث الصحيح؟ فالجواب: هذا ممكن لنا أن نذكر لك شيئًا منه، وأما استقصاؤه فلا يمكنني، وحسبي أن أذكر لك أمثلة من هذا أثبت بها ما قلته. فمن ذلك: ما ذكرَتْهُ الحنفية في مسألة المياه: إن الماء إذا لم يكن عشرًا في عشر فإنه يستعمل. وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسه شيءٌ إلا ما غلبَ على لونِه أو طعمه أو ريحه» ،

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا بلغَ الماء قُلَّتين فلا يحمل الخَبَث» . ومثلَ قولهم فيمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح فقد بطلت صلاتُه. وهذا مخالف للحديث الصحيح: «مَن أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومَن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» . وما أبردَ ما أوَّل به الطحاوي هذا الحديث حيث قال: «من أدرك» يعني: من الإدراك؛ وهو البلوغ، لا من الإدراك الذي هو من إدراك الشّيء! يعني: تحصَّل عليه. وما أبعدَ ما عَلَّل به صدر الشريعة في كتاب «الوقاية» له؛ فإن ذلك تعليل في مقابلة النص، ومتى وُجِدَ النصّ فلا قياس ولا تعليل، ولِمَ لم يفرق بين الصبح والعصر وكلّه أمرٌ واحدٌ؟! ومثل قولهم: إذا اشترى المُصَرَّاة ثم أراد ردَّها فلا يلزمه شيء. مع قوله صلى الله عليه وسلم: «يردّ معها صاعًا من تمر» . إلى غير ذلك. ومثل

قول المالكيّة بكراهة البسملة في الفرض، مع الأحاديث الكثيرة الواردة في قراءة البسملة، التي أقلّ مراتبها أن تكون سنَّة. ومثل قولهم في إرسال اليدين في الصلاة، مع ورود ثمانية عشر حديثًا في قبضها، بعضها في الصحيح، وبعضها في السنن والجوامع والمسانيد. إلى غير ذلك. ومثل قول الشافعية في المياه بنية الاغتراف، وهذه لفظة لم تنقل لنا في حديث ولا عن صحابي؛ بل الأحاديث الصحيحة تَرُدُّها؛ منها: حديث ميمونة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كنتُ أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من جفنة واحدة تختلف أيدينا فيه فأقول: دع لي» ، وتوضأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم من فضل بعض نسائه، ولم يذكر أنه نوى الاغتراف. ومثل قولهم: ينتقض الوضوء من مَسّ النساء باليد، مع

ورود الأحاديث الصحيحة بخلافه؛ منها: ما رواه البخاري في صحيحه أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «كان يصلي بالليل وعائشة ـ رضي الله عنها ـ معترضة بين يديه، فإذا سجد غمز رجلها لتقبضها» . وما أبعدَ تأويلَ من أوَّله بقوله: «لعله كان بحائل» ! ويَرد هذا التأويل ما جاء في الحديث الصحيح: «أن عائشة فقدت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فالتمسته حتى وضعت يدها على قدميه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد» ؛ فمضى في صلاته ولم يتوضأ، وحديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم «كان يُقَبِّل بعض نسائه ثم يُصلي ولا يتوضأ» . ومَن قال: إنَّ هذا خصوصية له صلى الله عليه وسلم لا تجوز لغيره؛ قلنا له: إنَّ الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، وأين هو؟! ومثل قولهم: إنَّ التسمية على الذبيحة سنَّة لا واجبة، مع قوله ـ تعالى ـ: {فكلوا مما ذُكِرَ اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} ، وفي الأخرى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} ، مع الأحاديث الصحيحة الدَّالَّة على اشتراط التسمية. ومثل قولهم: العبرة بالألفاظ لا بالمقاصد، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمال بالنيات وإنَّما لكل امرئ ما نوى» ... إلى غير ذلك. وبالجملة: ففي كل مذهب ما هو موافق وما هو مخالف؛ فعلى العاقل المنصف الذي يعلم قدر عظمة الله ـ تعالى ـ وقدر رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يُقَدِّمَ قول أحد من الناس كائنًا مَن كان على قول الله ـ تعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو اتِّباع الأئمة لا غير؛ فإنهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ قد أمَرُوا بذلك، ونَهوا عن تقليدهم بالوصف الذي ذكرنا سابقًا؛ يعلم ذلك كل مَن قرأ كتبهم وتأمَّلها. ولنا ـ إن شاء الله تعالى ـ عودة ثم عودة إلى هذه المباحث؛ لأنَّها هي المقصودة بالذات، وأما الزيارة فلا يخالف في مشروعيتها أحدٌ فيما علمنا.

جزاء من ترك الكتاب والسنة

وهذه المباحث هي التي كان يُنَاظِر عليها شيخ الإسلام، فلما عَلِمَت أعداؤه أنَّ ذلك حقٌّ يلزمهم القول به؛ عَمدُوا إلى كلمة مشتبهة من كلامه ـ وهي مسألة الزيارة ـ، وأخذوا يشنِّعُون عليه بسببها؛ ليشينوه ويُنفِّرُوا الناس منه، وهي في الحقيقة لا تُعَدُّ طَعنًا فيه؛ بما سنبينه. والله الموفّق. فصل وإذا تقرر لك أن أهل القسمين قد اتفقوا على ترك النصوص الشرعية إذا خالفت عقولهم وآراء متبوعيهم؛ فأقول: لا شكّ عندي أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد عاقبهم على ترك كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهم شيعًا وأحزابًا متفرقة؛ فانقسم أهل القسم الأول ـ أعني: الذين سمَّوا أنفسهم علماء التوحيد والأصول ـ إلى فِرَق كثيرة؛ كالأشعرية والماتريدية والمرجئة والقدريّة

والجبريّة والأزارقة والمعتزلة ... وإلى غير ذلك من الفرق. وأخذت كل فرقة تؤيد ما ذهبت إليه بما أدَّاه إليها عقلها؛ لأنَّ العقول تتفاوت في الدرجات والمراتب، وكل فرقة تزعم أن العقل يشهد بما ذهبت إليه وتطعن في مخالفيها، حتى كفَّر بعضها بعضًا، ولعن بعضهم بعضًا، وخطَّأ وضلَّل بعضها بعضًا. وتباينهم في العقائد والآراء معلوم لمن رجع إلى كتب المقالات والنِّحَل؛ مثل: كتاب «الفَرْق بين الفِرَق» للجرجاني، وكتاب «الفِصَل في المِلَلِ والأهواءِ والنِّحَلِ» للإمام ابن حزم، وكتاب «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني؛ فإذا رجع الناظر إلى هذه الكتب يجد بها من العقائد والأقوال ما يضحك الثكلى والصبيان؛ فبعضهم يقول: إنَّ هذا القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا مخلوق! وبعضهم يقول: بل هو عبارة عن كلام الله. وبعضهم يقول: تسميته بكلام الله مجاز لا حقيقة، والتوراة والإنجيل

والزبور وجميع الكتب المنزَّلة بهذا المعنى؛ فأنكروا أن يكون لله كلام بيننا يُتلى. وبعضهم يقول: إن إيمانه كإيمان أبي بكر وجبريل وميكائيل، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وغير ذلك من المقالات الفظيعة الشنيعة، المناقضة لكلام الله ـ تعالى ـ وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم. وحيث أن هذه المقالات العاطلة والآراء الكاسدة مبسوطة في الكتب التي أشرنا إليها؛ فلا نطيل بذكرها اكتفاءً بها. والله الموفّق. فصل وأما أهل القسم الثاني ـ وهم الذين سمَّوا أنفسهم علماء الفقه والفروع ـ؛ قد عاقبهم الله ـ تعالى ـ أيضًا على سوء صنيعهم؛ بأن فرَّقهم على أحزاب من نحوما تقدَّم؛ فاختلفوا على مذاهب شتى: إلى حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وظاهرية وزيدية وجريرية ... وغير ذلك من المذاهب التي يعلمها من اطلع على كتب القوم الذين جمعوا فيها اختلاف المذاهب؛ مثل كتاب: «التذكار في اختلاف مذاهب الأمصار» ، وكتاب «الإشراف على مذاهب الأشراف» ، وغيرها مما يطول ذكرها

وتعدادها. وأخذَ أهل كل مذهب يناضلون وينافحون عن مذهبهم؛ فوقع لهم قريب مما وقع لأهل القسم الأول من الطعن والسبّ والتضليل والتخطئة ما لا يحصيه إلا الله ـ تعالى ـ، وتغالى بعض الحنفية حتى طعن في نسب الشافعي، وتغالى بعضهم فقال: إن الحنفي لا يكون كفؤًا لبنت الشافعي وبالعكس! وترك بعضهم الصلاة خلف بعض! وقام بعضهم على بعض بالسيوف لأجل الجهر بالبسملة والقنوت

وغير ذلك من مسائل الخلاف! فهذا جزاء من ترك الكتاب والسنَّة، وطفق ينتصر لآراء الرجال التي ما عليها أثارة من علم؛ فنسأله ـ تعالى ـ أن يعافينا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه، آمين. ولم يعلم هؤلاء الجهال أن الأئمة ـ رضوان الله عليهم ـ كان يصلي بعضهم خلف بعض، ويثني بعضهم على بعض، وإن كان يعلم أنه يخالفه في بعض المسائل؛ فإنه معذور في المخالفة؛ لأنه ما خالف صاحبه إلا بدليل، وإن كان مخالفه لا يراه دليلًا؛ فالكل منهم مأجور معذور، وخطؤه مغفور؛ لأنَّه لم يأل جهدًا في طلب الحقّ؛ فالذي أصاب فيه له أجران، والذي أخطأ فيه له أجر ـ كما جاء في الحديث ـ. هذا في حدِّ نفسه، وأما غيره فلا يشاركه في هذا؛ لأنَّه مُقصِّر في طلب الحق، ولم يأخذ من حيث أخذ. فإن قال هذا المقصِّر: أنا لم أبلغ درجته حتى آخذ من حيث أخذ؛

الرد على الصوفية

فيقال له: كيف انتصرت له وقدمته على غيره من غير علم ولا سلطان بيِّن، وشنَّعت على مخالفك؟! والكلام في هذا يطول جدًّا. وليس غرضنا الردّ على هؤلاء ـ فإنَّ ذلك يحتاج إلى أسفار ـ؛ وإنَّما غرضنا من إيرادنا هذا هنا الإشارة إلى المفاسد التي حدثت في الإسلام بسبب التقليد وسدّ باب الاجتهاد والأخذ بالدليل. والله المستعان. فصل ثم جاء من بعدهم أقوام أعياهم طلب علم الكتاب والسنة وما يحتاج لهما من علوم الآلات، وأَلِفُوا البطالة والكسل وقلَّة العمل في أمر المعاش؛ فعمدوا إلى شيء سموه علم التصوف؛ وهو عبارة عن: لبس الصوف والخشن من الثياب، والزهد في

الدنيا مطلقًا، وتعليق السبح في العنق، ولبس الخرقة، والجلوس في الخلوة، ويذكر الله بالذكر الذي لم يرد به الشرع؛ مثل أن يذكره ـ تعالى ـ بالاسم المفرد كقول: الله الله، أو: هو هو، وزعموا أن المريد إذا تَجَرَّدَ إلى الله ـ تعالى ـ بهذه الصفة التي ذكرناها عنهم وجلس يذكر الله؛ فإنه يرتفع عنه الحجاب، ويسمع الله ـ تعالى ـ يقول: {يا أيها المدثر * قم فأنذر} ، وتأتيه العلوم من غير واسطة! ولذلك يقول بعضهم:

حدثني قلبي عن ربي! وغير ذلك من الأحوال والأفعال التي ورد بها الشرع؛ بل جاء بضدها، ولما علموا أن الشرع لا يوافقهم على ذلك أخذوا يقسمون العلوم إلى قسمين: ظاهر وباطن؛ فعلم الشرع عندهم من علم الظاهر، وعِلْمهم من علم الباطن، وسمّوا علماء الشرع علماء الرسوم، وأخذوا يفسرون القرآن والسنة تفسيرًا يلائم حالهم، زاعمين أن لكل حرف من القرآن ظاهرًا وباطنًا؛ فأهل الشرع عرفوا الظاهر منه وهم عرفوا الباطن! فمن راج عليه صنيعهم هذا ـ بسبب قصوره في علم الشريعة الحقَّة ـ؛ سلَّم لهم جميع ما يقولونه ويفعلونه، ولو تكلم بالألفاظ الكفرية، وأتى الفواحش علنًا، وترك الصلاة والصيام وغير ذلك من الأمور التي جاء الشرع بها! فتجده يلتمس له الأعذار الباردة؛ مثل قوله: هذا من علماء الباطن فلا يعترض عليه في جميع ما يقول ويفعل! ومثل: أن يلتمس لأقواله الكفرية تأويلات كاسدة، ومثل قوله إذا رآه يفعل الفواحش: هذه فاحشة في الظاهر وفي الباطن هي طاعة وعبادة! ومثل قوله إذا رآه يترك الصلاة: هذا رجل من أهل الخطوة فيخطو الدنيا بخطوة واحدة؛ فلا يبعد أن يصلي الصلوات الخمس في الحرم المكي أو المدني! ومثل قوله: هذا رجل له أربعون جسمًا؛ [فهذا الذي رأيته يترك الصلاة جسمًا واحدًا] ، وتسعة وثلاثون جسمًا يصلُّون في أماكن متعددة. وغير ذلك مما سوَّد وجه الدين، وألجأ اليهود والنصارى والمشركين على الطعن فيه، وصدَّهم عن الدخول فيه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإذا أردتَ بسطَ ذلك؛ فعليك بكتاب «تلبيس إبليس»

ذكر من مدح الصوفية ودافع عنهم

لأبي الفرج ابن الجوزي، وشرح «منازل السائرين» لابن القيم، وغيرهما من كتب العلماء. فصل ثم جاء من بعدهم: أقوام عريقون في الجهل؛ فأخذوا ينتصرون لهم ويشيدون بطريقتهم، وتبعهم على ذلك أناس لا يحصيهم إلا الله ـ عز وجل ـ، وصنَّفُوا لهم في ذلك التصانيف الكثيرة المحشوَّة بالأحاديث المكذوبة والحكايات الملفقة المخترعة، وسمّوها كتب التصوف، وضموا إليها شيئًا من الجبر والاحتجاج بالقدر؛ حتى قال بعضهم: «طلبك منه اتهام له» ! وقال أيضًا: «اشتغالك بما ضمن لك دليل على انطماس البصيرة منك» ! وغير ذلك مما يورث الناس الكسل وترك العمل. وألَّفوا أيضًا لأسلافهم كتبًا جمعوا فيها كراماتهم وأحوالهم وما أُفيض عليهم، وسمّوها كتب المناقب، ونسبوا لهم أشياء لا تجوز نسبتها إلَّا لله ـ عز وجل ـ، لا يشاركه فيها أحد ـ كالإحياء والإماتة والعطاء والمنع والهداية والإضلال وإغاثة الملهوف وإجابة المضطر، وغير ذلك مما لم يقدر عليه أحد إلا الله وحده ـ! وكقول بعضهم: «كان للشيخ سبعون ألفًا من الملائكة إذا أراد أن يرسل أحدًا من تلامذته لقضاء حاجته يوكلهم بحفظه حتى يرجع» ! ... وغير ذلك مما هو مسطر في كتب المناقب التي تقرأ في محافل الناس. وطفقوا يبنون المساجد والقباب على قبور مشايخهم، ويوقدون عليها السُّرُج،

الرد على من تنقص الكتاب والسنة وقال إنهما لا يفيان بحال الناس اليوم

ويقدمون لها الذبائح والنذور، وغير ذلك مما وصفناه سابقًا؛ فعُبدت من دون الله في سائر الأقطار؛ حتى كاد لا يخلو قطر من أقطار المسلمين من مثل هذا، ولم ينكر عليهم أحد؛ إمَّا لقلة العلم، أو خوفه من العامة؛ فإن الأكثرين قد ولعوا بهذه البدع المضلّة. فصل ثم رأى فريق من الناس أن هذه الكتب ـ أعني: كتب الفقه ـ المؤلفة في المذاهب الأربعة وغيرها لا تفي بحال الناس، ولا تلائم حالهم في كل زمان ومكان، وقالوا: إنَّ الشريعة ليست كفيلة بمصالح الناس! وذلك نشأ عن جهلهم بالشرع ومعناه لغة واصطلاحًا، وفهموا أن الشرع محصور في هذه الكتب المؤلفة في الفقه، وأن علوم القرآن والسنَّة قد أحاطت هذه الكتب بها، واحتوت عليها. كلَّا ثم كلَّا؛ بل هذه الكتب مشتملة على ما هو حق وَرَدَ به الشرع، وعلى ما هو باطل مناقض للشرع أعظم تناقض، فلما لم يفهم هذا الفريق ما وصفناه؛ نسب القصور إلى الشرع، وتركوه جملة، وابتدعوا للناس قوانين ملفقة من آراء النصارى والمسلمين، وأوجبوا على الناس التعامل بها والحكم بما فيها، ومن خالفَ أو نازع في شيء منها؛ فإنه يُهَدَّد بالجزاء والحبس والقتل. وهذا القسم لا نطيل البحث فيه؛ لأنَّ [ما] كل ما يعلم يُقال. فهذا الذي ذكرناه بعض ما طرأ على الإسلام والمسلمين من الأسباب التي أخَّرت المسلمين عن الترقي في العلم والعمل أمام الغربيين، وأوقعت بين أنفسهم العداوة والبغضاء والشحناء، واجتثت عروق المحبة والمودة بينهم؛ فتراهم لا يرحم بعضهم بعضًا،

ولا يألف بعضهم بعضًا إلا لعِلَّة أو غرض، ولا يتحابون في الله ولا يتباغضون لله. فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزق الإسلام والمسلمين بمن يرشدهم ويبصرهم بعيوبهم وينبههم، آمين. وإذا أردتَ معرفة الأسباب التي أضعفت الإسلام مستوفاة؛ فعليك بكتاب «سِجِل أمِّ القُرَى» وكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» ، وكلاهما للفاضل السّيد عبد الرحمن الكواكبي. فصل وقد عاقبَ الله ـ تعالى ـ هذا الفريق ـ أعني: الذين سمّوا أنفسهم علماء التصوف ـ بأن فرقهم أحزابًا وشيعًا؛ فتفرَّقُوا على فِرَق كثيرة: إلى أحمدية نسبة إلى الشيخ أحمد البدوي، وقادرية نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، ودسوقية نسبة إلى السيد إبراهيم الدسوقي، ورفاعية نسبة إلى السيد أحمد الرفاعي، وشاذِلية،

وخَلْوَتِية، ونقشبندية، ورشيدية، وبيومية، وتيجانية، وغير ذلك من الفِرَق التي يكثر تعدادها. وأَخَذَت كل فرقة تدَّعي أنها أفضل من أختها، وأن شيخها أفضل من غيره من الشيوخ؛ فطعن بعضها على بعض؛ فهذه تقول: إن شيخها يأخذ عن الله بلا واسطة! وأخرى تقول: إن شيخها يطلع على اللوح المحفوظ ويأخذ منه! وأخرى تقول: إن شيخها يأخذ عن الخضر ـ عليه السلام ـ! وأخرى تقول: إن شيخها يأخذ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مشافهة! والكل لا يعتمدون في مسائل الدين إلا على كتب مشايخهم؛ حتى قال لي بعض من يدَّعي علم التصوف: إن طريقة الصوفية في مسائل الدين أعظم وأفضل من طريقة المُحَدِّثين؛ لأن الصوفية ما تكلموا في الدين إلا عن مكاشفة ومشاهدة، وأما المُحَدِّثون إنَّما يتكلمون من جهة الاستدلال، والدليل قد يكون صحيحًا وخطأ [في نفس الأمر] ؛ فغاية أمره أن يَغْلِبَ عليه جانب الصحة بقرائن

بيان أن الله قد تكفل لدينه بالحفظ

قامت عندهم! وحيث أن الناس قد ولعوا كثيرًا بأهل هذا الفريق؛ فإن شاء الله ـ تعالى ـ لنا عودة نبين فيها حالهم وما هم عليه من ترك الكتاب والسنَّة. والله الموفّق. فصل وحيث أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد تكفَّل لدينه بالحفظ، وقضى بأنه لا يخلي الأرض من قائم له بحجة؛ كما جاء في الحديث: «إنَّ اللهَ يبعث على رأس كل قرن أو مائة سنة من يجدد للناس أمر دينهم» ؛ قَيَّضَ لهذا الدين رجالًا هم صفوة خلقه وخيرته من عباده؛ ألا وهم علماء الحديث، كثَّرهم الله ـ تعالى ـ في القديم والحديث؛ فقاموا في وجوه المبتدعين، وذبُّوا عن كتاب الله ـ تعالى ـ وسنَّة نبيه تحريف الجاهلين، وتأويل المبطلين؛ فمن قام [بالرد] على المتكلمين في التوحيد والأصول قديمًا إلا مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ويزيد بن هارون وعبد العزيز بن يحيى الكناني والإمام الحجَّة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري والدارمي وغيرهم. ومن بعدهم بقليل مثل: الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد البر والإمام أبي محمد علي ابن حزم

وابن بطّة وأضرابهم. ثم جاء بعدهم شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيمية؛ فقام لله قيامًا مُخْلِصًا في قوله وعمله؛ فمزق شملهم وفرَّق جمعهم. وجاء بعده الإمام الحافظ ابن القيم؛ فنحا نحوه وقام قيامه، ومثله الإمام ابن الوزير اليماني، وغيرهما. وجاء بعدهم الإمام شيخ الإسلام أبو الفضل شهاب الدين أحمد ابن حجر العسقلاني ثم المصري؛ فنَصَرَ الله به السنَّة وخذَّل البدعة. وقريبًا منه الإمام المتقن سعد الدين التفتازاني، وغيرهما. ثم جاء بعدهم الإمام المتقن جلال الدين عبد

الرحمن بن أبي بكر السيوطي وابن المقري الشافعي اليماني، وغيرهما. ثم جاء بعدهم الإمام المحدث محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني والإمام محمد بن علي الشوكاني، وغيرهما. ثم جاء بعدهم في زماننا الإمام المجتهد المطلق أبو الطيب السيد صديق حسن خان، والعلامة المحدِّث شمس الحق الدهلوي، والفاضل الأستاذ الشيخ محمد عبده ـ مفتي الديار المصرية ـ، والأستاذ المصلح السيد محمد رشيد رضا ـ صاحب مجلة المنار ـ، والأستاذ الجامع بين النسبين السيد محمود شكري الألوسي، والسيد محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي، وغيرهم مما يطول ذكرهم. وحيث أن المشارب والمذاهب مختلفة؛ اختلف الرادُّون على أهل هذه

الفرق ممن ذكرنا؛ فمنهم من تصدَّى للرد على المتكلمين، ومنهم من ردَّ على المقلِّدين، ومنهم من ردَّ عليهم جميعًا، ومنهم من ردَّ على المتصوفة، ومنهم من ردَّ على الذين قالوا: إن باب الاجتهاد قد انسد وأنكروا أن يكون الاجتهاد في كل زمان فرض. وهم ـ وإن كانوا قليلين في كل زمان ومكان ـ فهم الأكثرون الفائزون؛ {أولئك حزب الله ألا إنَّ حزب الله هم المفلحون} ، وإليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء» . وأهل الفِرَق التي ذكرناها فهم ـ وإن كانوا أكثرين في العدد ـ؛ فهم الأقلُّون في العلم والعمل، وتراهم إذا ناظرهم المُحدِّثون نكسوا رؤوسهم وأمالوا ذقونهم، وأخذوا يشنِّعون عليهم، ويقولون فيهم ما يشهد الله ـ تعالى ـ وملائكته وأولوا العلم أنهم منه براء، وطفقوا يغرون بهم الجهَّال من الملوك والحكَّام؛ فهددوهم بالنفي والسجن والقتل، وما صدهم ذلك عن القيام بالحق؛ علمًا منهم بأن فتنة الناس ليست كعذاب الله، وهؤلاء الجهَّال الذين آذوا أهل الله وأولياءه وحزبه وأنصار نبيه سيلقون من الرذائل ما يعجز عن وصفه الواصفون؛ لأن الله قد أخبر عن نفسه بأن من آذى له وليًّا فقد بارزه بالمحاربة؛ فهؤلاء الجهال الذين عادوا أهل الحديث إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يقبِضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعه؛ ولكن يقبضه بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناسُ رؤساء جهَّالًا؛ فسئلوا فأَفْتَوا بغير علم؛ فضَلُّوا وأضَلُّوا» ؛ فلا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.

الطريق لمن أراد نهج النبي والصحابة

فصل فإن قلتَ: قد أطلتَ الكلام في التشنيع على المتكلمين والمقلدين والمتصوفة؛ فهل كا ما أودعوه بكتبهم ضلال وخطأ؟ فالجواب: لا أقول ذلك؛ ولكن أقول في المقلدين والمتكلمين: قد اشتملت كتبهم على ما هو حق مقبول، وما هو باطل مردود، وليس كل المتصوفة والمقلدين والمتكلمين بالوصف الذي ذكرناه عنهم؛ بل فيهم رجال عالمون بالكتاب والسنَّة قائمون بهما، ورَادُّون على مخالفهما، ولكن نحن ما عنينا بردِّنا هذا إلا الذين وصفنا حالهم. والله الهادي. فإن قال قائلٌ: أنا كيف أعرف ما هو الحق في هذه الكتب فأتبعه، وما الباطل فأجتنبه وأطرحه؟! فالجواب: معرفة هذا سهل على من أراد الله ـ تعالى ـ هدايته، ومعرفة ذلك أيسر من معرفة أي مذهب من أهل المذاهب الذي تستفرغ فيه جميع عمرك! وإن قال قائلٌ: أي طريقة تختارها لي من هذه الطرق التي ذكرتَها؟ فأقول: عليك بطريقة المُحَدِّثين؛ حَمَلَتْ علم الرسول في التوحيد وغيره من الأصول والفروع والتصوف؛ فإنهم ـ والله ـ أعلم بكتاب الله وسنة نبيه من غيرهم بأضعاف مضاعفة، وهم أتقى الناس لربهم وأخوفهم منه من غيرهم، وقد حفظهم الله ـ تعالى ـ من التفرق والتحزب والتشيع الذي وقع لغيرهم، ولله در من قال: ألم ترَ اختلاف أهل النظرِ ... وحُسْن ما نحاه أهلُ الأثرِ فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى ... نبيهم فاقنع بهذا وكفى إذا تبين لك أيها المسترشد حالهم؛ فعليك أن تتيع وتسلك طريقتهم، وتشد عليها يديك، وتعض عليها بالنواجذ. وإياك والآراء لا تلعب بك الرجال، ولا يُمِيلُكَ الهوى عن سبيلهم فتهلك مع الهالكين! وإن قال قائل: أي كتاب من كتب التفسير والتوحيد والحديث والتصوف أعتمد عليه في معرفة الحق؛ فإن الكتب في هذه الفنون

قد كثرت حتى خرجت عن العدد والإحصاء؟ فأقول ـ وبالله التوفيق ـ: إذا أردتَ معرفة السبيل في تمييز الحق من الباطل والصحيح من السقيم؛ فاعلم أن كتب التفسير أعظمها وأحسنها ما رويت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة؛ مثل ما أودعه المُحَدِّثون في كتبهم، ثم ما رويت عن الصحابة والتابعين من بعدهم ـ رضوان الله عليهم ـ بالطرق المتعددة. فمن الكتب التي جمعت ما ذكرنا: تفسير الإمام البخاري، وتفسير عبد الرزاق، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وتفسير الإمام الكبير أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ـ المتوفى سنة ثلاث مائة وإحدى عشر ـ؛ وهو أحسنها وضعًا وأكثرها جمعًا وأعظمها نفعًا؛ كما قال غير واحد من السلف. ثم جاء بعده الإمام المُحدِّث المتقن

الحافظ العماد ابن كثير؛ فجمع كتابه من هذه التفاسير؛ فهو عندي أكثر فائدة وأجدى نفعًا من غيره؛ لأنه تكلم فيه على علل الحديث وبين المقبول منها والمردود. وأما كتب الحديث: فأعلاها قدرًا وأقواها صحة وأغزرها علمًا: الصحيحان؛ لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج؛ فإن الأكثرين من علماء هذا الشأن قد قدعوا بصحة ما في هذين الكتابين ما عدا بعض أحاديث فيهما قليلة متنازع فيها، وقد جمعها الحفظ أبو الفضل ابن حجر في مقدمة «فتح الباري» ، وأجاب عنها حديثًا حديثًا. وبعدهما في الرتبة: موطأ الإمام مالك بن أنس، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، والمختارة للضياء، والمنتقى لابن الجارود، ومستدرك الحاكم

بشرط أن يكون قد أقرَّه الذهبيّ؛ وإلا ففيه أحاديث ضعيفة بل موضوعة. وبعد هذه الطبعة كتب السنن والمسانيد، وأعظمها وأصحها: مسند الإمام أحمد بن حنبل. وهذه الكتب ـ أعني: كتب السنن والمسانيد ـ لم يلتزم أهلها إخراج الصحيح فقط؛ بل يوجد فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع؛ يعرف هذا من اعتنى بها ودأب في تحصيلها كما يدأب في تحصيل كتب المذاهب. وأما كتب التوحيد: فأحسنها كتب السلف التي ردُّوا بها على المبتدعين؛ مثل: «خلق أفعال العباد» للبخاري، وكتاب «الإبانة عن أصول الديانة» لأبي الحسن الأشعري، وكتاب «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة، و «إيثار الحق على الخلق» للسيد مرتضى اليماني، و «العَلَم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ» للشيخ صالح المقبلي، و «الفِصَل لابن حزم، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الإمام ابن القيم؛ فإذا رجعتَ إليهما تعرف حقيقة ما كان عليه المُحَدِّثونَ من صحة الاعتقاد، وأنهم ما خرجوا عن نهج نبيهم، لا في المسائل الاعتقاديات ولا في العمليات. وأما كتب التصوف: فأحسنها رسالة أبي القاسم القشيري، و «غنية الطالب» للجيلاني، و «إحياء علوم الدين» للغزالي، إلا

في بعض المسائل يعرفها من تبحَّر في علم الكتاب والسنَّة، وكتاب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي، وكتب ابن القيم التي ألَّفها في التصوف؛ كشرحه لـ «منازل السائرين» للهروي، و «إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان» ، وكتاب «الهجرتين» ، وغيرها من الكتب التي هي قريبة من زمان السلف؛ فكلما كانت لزمان السلف أقرب؛ فهي للصواب أقرب. والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل. وقد أطلنا الكلام في هذه المباحث لشدة حاجة الناس إليها؛ ولتكون كالمقدمة إلى ما سيتلوها بعد؛ فإني قد أحيل

الحكمة من زيارة القبور ومعنى التبرك

عليها. ولنرجع إلى المقصود من ردِّ شُبه هذا المعترض؛ فنقول ـ وبالله نتأيد ـ: فصل وقد تبيَّن مما أسلفنا أن حكمة مشروعية زيارة القبور إنَّما [هي] لتذكر الآخرة والاستغفار والدعاء لأهلها ليس إلا، وهذان القسمان هما اللذان جاء الشرع بهما. وأما القسم الثالث الذي ذكره الخصم ـ وهو: زيارتها للتبرك بأهلها إن كانوا من أهل الخيرو الصلاح ـ فهذا القسم لم يرد به كتاب ولا سنَّة؛ بل هو مناقض لشرع الله ورسوله، وما ذكرناه فيه من أنه لفظ مجمل يحتمل حقًّا وباطلًا إنَّما هو من باب تحسين الظن بهذا المعترض، ومن باب دفع التأويلات البعيدة التي لا يحتملها اللفظ. وإليك ما ذكره أهل اللغة في معنى (تبرك به) . قال صاحب «القاموس» وشارحه مرتضى وصاحب كتاب «البحر المورود» : تبرك به: تيمن، وتبرك به: فاز منه بالبركة، تبارك بالشّيء: تفاءل به. فإذا عرفت هذا تبين لك أن المعترض لم يرد بهذا القسم إلا المعنى الذي ذكرناه عن أهل اللغة. وكيف يطلب الزائر تحصيل البركة والفوز بها من صاحب القبر، وقد انقطع عمله بموته؟! فما هذا إلا فتح باب شر على المسلمين لما وصفنا، وقد نقل هذا المعترض نفسه عن الإمام أبي محمد الشارمساحي المالكيّ: «أن قصد الانتفاع بقبر الميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين» ، وهذا الذي

استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين صحيح، وأما حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر، ولا ضرورة بنا هنا إلى تحقيق الكلام فيه؛ لأنَّ مقصودنا أن زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرك بهم مشروعة وقد صرَّح به» . فانظر؛ كيف وافق هذا المعترض أبا محمد الشارمساحي المالكيّ على قوله هذا، فلِمَ لم يوافقه مقلدوه على الاقتصار في التبرك بقبور الأنبياء والمرسلين بل أجازوا ذلك وزادوا عليه الذي ذكرناه عنهم سابقًا في قبور غيرهم؛ [فلعلهم تمسكوا بقول السبكي عقب كلام أبي محمد: «وأما حكمه في قبور غيرهم] ففيه نظر» . وهذا صحيح لو سلم له صحة ما ادَّعاه: من أن قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين يُزار للتبرك به، وأن زيارته لهذا الغرض مشروعة، وأنى يسلم له ذلك، ونحن نعلم أنه ليس لأحد بعد الله ورسوله أن يشرع في الدين ما ليس فيه؛ لقوله ـ تعالى ـ: {اليوم أكملتُ لكم دينكم} ، وقوله ـ تعالى ـ: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ـ وفي رواية: في ديننا ـ ما ليس منه فهو ردٌّ» . وقد تتبعنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة؛ فلم نجد فيها أن القبور تُزارُ لطلب الخير من أهلها؛ بل وجدنا في القرآن والسنة ما يناقضه ويباينه أشد مناقضة ومباينة، وأنه من جنس أفعال المشركين التي كانوا يفعلونها بقبور صالحيهم؛ ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك، وسأل ربه ـ تعالى ـ «أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد» .

وإذا كان ما ذكره السبكي جائزًا مشروعًا؛ فكيف يُسَلَّم له ما ادَّعاه مع نهيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن اتخاذ القبور مساجد، وطلبه من ربه أن لا يجعل قبره وثنًا يُعبد؟! وإذا سلمنا للسبكي ما قاله؛ فقد عارضنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحكمنا عليه بأن الله لم يستجب له دعاءه! فأي عبادة للقبر أعظم من طلب حوائج الدنيا والآخرة من صاحبه، والاستغاثة والالتجاء له في جلب المنافع ودفع المضرات، فما هذا إلا من محض الرأي الفاسد؛ فنعوذ بالله من اتباع الهوى. وقوله: «مشروعة» استنادًا إلى ما قاله الشارمساحي في غاية البعد؛ لأنه لا يليق بالشارمساحي ولا غيره من الناس كائنًا من كان أن يكون مُشَرِّعًا ومحدثًا في دين الله ما ليس منه، بل نهى الله ورسوله عنه. وأما زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من النبيين والمرسلين [فهي تُزار] كغيرها من قبور سائر المؤمنين [للدعاء] وطلب الرحمة لهم والسلام عليهم؛ فهي مشروعة، وشيخ الإسلام لم ينكر هذا؛ وإنَّما أنكر شد الرحل لمجرد الزيارة، وقد سبقه إلى ذلك أئمة السلف؛ كما ببَّنَه الحافظ النووي في شرحه لمسلم، والغزالي في «الإحياء» ، والحافظ ابن عبد الهادي في كتاب «الصارم

حقيقة الخلاف بين شيخ الإسلام والسبكي

المنكي في الرد على السبكي» ، فجاء شيخ الإسلام وانتصر لأهل هذ القول، واحتجَّ له بالأحاديث الصحيحة الثابتة المروية في الصحيحين وغيرها؛ كما ستقف عليه ـ إن شاء الله تعالى ـ. فإذا ثبت لديك أن شيخ الإسلام لم ينكر زيارة قبور المرسلين ولا غيرهم من المسلمين، بل ولا قبور الكافرين؛ بل ذكر بيان الزيارة الشرعية والبدعية بما نقلناه عنه؛ تبين لك أن نسبة إنكاره زيارة القبور [إليه] وجعلها بدعة من السبكي ظلم وميل عن الحق، وما قصد بنسبة ذلك إلى الشيخ إلا التشنيع عليه والوقوع في عِرْضه من غير علم ولا سلطان بيِّن. فصل فإن قال قائل: إنّ السبكي لم يحكم بمشروعية التبرك بقبر النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقبور غيره من الأنبياء والمرسلين بمجرد قول أبي محمد الشارمساحي المالكيّ فقط؛ وإنَّما حكم به للآيات والأحاديث التي أوردها في الأبواب السابقة. فالجواب: أنّ هذه المسألة خارجة عن محل النزاع؛ وإنَّما المسألة المتنازع فيها بينه وبين شيخ الإسلام ابن تيمية هي: هل شد الرحل لمجرد زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبور غيره من الأنبياء والصّالحين مشروع أم لا؟ فهذا المعترض يقول: إنَّ شد الرحل لجميع ما ذكر مشروع، وشيخ الإسلام ومن تقدمه يخالفونه، وحُجَّة هذا المعترض الآية القرآنية ـ أَعني: قوله ـ تعالى ـ: {ولو أنَّهم إذ ظلموا أنفسهم} إلى قوله: {رحيمًا} ـ، والأحاديث التي أوردوها سابقًا. وأجاب مخالفوه بقولهم: إن الآية لا تدلُّ على ما ذهب إليه هذا المعترض؛ لأنها خاصة به صلى الله عليه وسلم في حال حياته؛ كما نقل ذلك عن جميع المفسرين من السلف.

الرد على السبكي في أن قبور الأنبياء تزار للتبرك بها

وأما الأحاديث المتقدم ذكرها؛ فالصحيح منها لا يدلُّ على مقصوده؛ فغاية ما يُستفاد منها أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وغيره مشروعة، ونحن لا نخالف في هذا، والذي يدلُّ منها على ما ذهب إليه هذا المعترض ضعيف أو موضوع لا تقوم به حُجَّة ولا يصح للاستدلال في مورد النزاع؛ يعلم ذلك من رجع إلى كتاب «الصارم المنكي في الرد على السبكي» . وأمَّا المسألة التي ذكرها هذا المعترض هنا ـ وهي: أن التبرك بقبور الأنبياء والمرسلين أمر مشروع ـ؛ فهذا ما تقدم له دليل يُستفاد منه ذلك. فقد تبيَّن أنه لم يستند في مشروعية ذلك إلا إلى قول أبي محمد المالكيّ ـ كما وصفنا ـ، وأنت تعلم أن الأصول التي تدور عليها أحكام الشرع أربعة: اثنان متفق عليها بين كافة المسلمين، واثنان مختلف فيهما بينهم؛ فالاثنان المتفق عليها بين كافة المسلمين: الكتاب والسنة، والاثنان المختلف فيها: الإجماع والقياس، وقد نظرنا في هذه الأصول الأربعة فلم نجد فيها دليلًا يسوغ للسبكي أن التبرك بالقبور أمرٌ مشروع محبوب لله ورسوله؛ بل وجدنا فيها ما يناقض ذلك ويأباه. وهذا الذي ذهب إليه السبكي ـ وهو مشروعية التبرك بقبر النّبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ وغيره ـ هو الذي أنكره شيخ الإسلام وغيره من أئمة المسلمين، وحججهم ظاهرة مستفيضة في

الكتاب والسنة والإجماع. وهذا المخالف لم يأتِ بشيء يصلح للاستدلال على ما قاله؛ فبطل ما ادَّعاه، وبالله نتأيد. ثم أطال هذا المعترض في هذا الباب بأشياء خارجة عن الغرض؛ كالاستدلال على استحباب زيارة القبور والخلاف فيه، والتعريفات الفقهية. وهذا القدر لا يحتاج إلى مناقشة؛ لأنَّ شيخ الإسلام لم ينكر ذلك؛ وإنَّما أنكر شد الرحل لمجرد الزيارة، وأنكر أيضًا التبرك والانتفاع بالمقبور، وهذا المعترض لم يأتِ بدليل شرعي يجوز له ذلك ـ كما قدمنا ـ، وإطالته في هذا الباب بالوصف الذي ذكرناه مغالطة وخروج عن المقصود؛ لأنَّ الشيخ لم ينكر زيارة القبور ولا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا قبر غيره من الأنبياء والمرسلين؛ يعرف هذا من نظر في كتبه؛ وإنَّما أنكر الزيارة البدعية؛ وهي قصد الانتفاع بالميت وطلب حوائج الدنيا والآخرة منه، وهذا الذي أنكره هو الذي دلَّ عليه الكتاب والسنَّة الصحيحة والإجماع، وقد أجاز السبكي جميع ما أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ندب إليه ورغَّبَ فيه من غير دليل شرعي ولا فعل صحابي من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم معروف بالعلم والفُتيا، فمن كان هذه صفته فلا يحتاج إلى ردٍّ ولا نضيع فيه وقتًا؛ لأنَّنا لسنا متعبدين إلا بما جاء في كتاب الله وصحَّ عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالإسناد الصحيح العاري عن العلة والشذوذ، وما عدا ذلك فهو محل نظر واجتهاد، والله الموفّق. فإذا تأمَّلت بعين الإنصاف في الكتاب العزيز والسنَّة الصحيحة وأفعال الصحابة؛ علمتَ أن زيارة القبور المشروعة [هي:] الدعاء والترحم والسلام على الأموات وتذكُّر الآخرة وذكر الموت برؤية القبور، ليس إلا. وأما زيارتها للتبرك بأهلها وطلب حوائج الدنيا والآخرة من أهلها فأمرٌ محدَث في الدين؛ ما ورد به كتاب ولا سنَّة، ولا دلَّ عليه أثر عن صحابي معروف بالعلم والفُتيا، بل جاء في القرآن العظيم وسنَّة النّبيّ

الكريم وقول الصحابة ما يناقض ذلك، وكيف يكون هذا الأمر مشروعًا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما هو أقل من ذلك؛ كاتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، وتحريم تجصيصها، والحلف بغير الله، والنذر لمخلوق؛ فصلى الله على مَن بُعِثَ لمحو الشرك جليله ودقيقه، وقطع شجرته من أصولها، ولأجل أن يكون الدين كله لله. فإن كنتَ يا هذا تدَّعِي محبَّة الله ورسوله؛ فلا تقدِّم على قولهما رأي أد من الناس كائنًا من كان، وإن كنتَ ممن لا يعرف الدليل ولا يفهم معاني القرآن الحكيم، ولا يعلم ما جاء في السنَّة من صحيح وسقيم؛ فالأولى بك أن تبكي على نفسك على ما فاتك من هذا الخير الجسيم؛ فإنك مهما كنت عالمًا بآراء الرجال فإنَّك لا تعد من أهل العلم عند المحققين؛ بل أنت عندهم كحاطب ليل وجارف سيل، تحسب القربة حطبة، والحصا مرجانًا، والنور ظلامًا، والظلامُ نورًا، فإن صواب الرأي وخطأه لا يعرفان إلا بمعرفة الدليل. وإياك ـ متى كنتَ بهذا الوصف ـ أن تخوض في أعراض العلماء أئمة الدين، وحُماتِه من آراء الغالطين؛ فإنَّك بهذا تكون مرتكبًا إثمين: إثم الجهل، وإثم الخوض في أعراض العلماء العاملين. فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعلنا

السفر لزيارة القبور

وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. فصل ثم قال المعترض: «الباب السادس: في كون السفر إليها قُربة. وذلك من وجوه: أحدها: الكتاب العزيز: في قوله ـ تعالى ـ {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك} الآية. وقد تقدَّم تقريرها في الباب الخامس. والمجيء صادق على المجيء من قرب ومن بعد، بسفر وبغير سفر، ولا يُقال: إنَّ (جاءوك) مطلق، والمطلق لا دلالة له على كل فرد وإن كان صالحًا؛ لأنَّا نقول: هو في سياق الشرط فيعم ممن حصل منه الوصف المذكور وجد الله توابًا رحيمًا. الثاني: السنَّة. من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري» ؛ فإنه يشمل القريب والبعيد، والزائر عن سفر وعن غير سفر، كلهم يدخلون تحت هذا العموم، لا سيّما قوله في الحديث الذي صححه ابن السكن: «من جاءني زائرًا لا تحمله حاجة إلا زيارتي» ؛ فإن هذا ظاهر في السفر، بل في تمحيص القصد إليه وتجريده عما سواه، وقد تقدَّم [أن حالة الموت] مراده منه، إما بالعموم وإما هي المقصود. فإ'ذا كانت كل زيارة قربة؛ فالسفر إليها قربة. وأيضًا فقد ثبت خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة لزيارة القبور، وإذا جاز الخروج إلى القريب جاز إلى البعيد. فمما ورد في ذلك: خروجه إلى البَقيع ـ كما هو ثابت في الصحيح ـ، وإذا ثبت مشروعية [الانتقال] إلى قبر غيره [فقبره] صلى الله عليه وسلم

أولى. الرابع: الإجماع. لإطباق السلف والخلف؛ فإن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجَّهون إلى زيارته ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ـ كما ذكرنا في الباب الثالث ـ. فإن قلتَ: إنَّ هذا ليس مما يسلمه الخصم؛ لجواز أن يكون سفرهم ضم فيه قصد عبادة أخرى إلى الزيارة، بل هوا الظاهر؛ كما ذكر كثير من المصنفين في المناسك: أنه ينبغي أن ينوي مع زيارته التقرُّب بالتوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه. والخصم ما أنكر أصل الزيارة؛ إنَّما أراد أن يبين كيفية الزيارة المستحبة؛ وهي: أن يضم إليها قصد المسجد؛ كما قاله غيره. قلتُ: أما المنازعة فيما يقصد الناس؛ فمن أنصف من نفسه وعرف ما الناس عليه؛ عَلِمَ أنهم إنَّما يقصدون بسفرهم الزيارة من حيث يعرّجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلا ببال قليل منهم، ثم مع ذلك هو مغمور بالنسبة إلى الزيارة في حق هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزيارة حتى لو لم يكن ربما لم يسافروا، ولهذا قلَّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ... » ، وأخذ يتكلم في إيضاح ذلك إلى أن قال: «وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل [كل] من توجَّه إلى المدينة ما قصد بذلك ... » ، وأطال الكلام في هذا الباب جدًّا، ومعظمه قد تقدَّم في الباب الثالث والرابع والخامس؛ فليس في إعادته هنا فائدة، ولكن هذا المعترض أراد بذلك تكبير حجم كتابه. وليس من غرضنا الرد على جميع ما ذكره ـ فإن ذلك يجرنا إلى الملل ـ؛ ولكن نتكلم على المهم منها؛ وهي الأصول الخمسة التي ذكرها هنا، ونترك له الكلام على ما عدا ذلك، إلا إذا رأينا محل شبهة له فنتكلم عليها، وهو ما بنى هذه الفروع الفقهية والأصولية إلا على هذه الأصول التي ذكرها هنا، ونحن ـ إن شاء الله تعالى ـ نتكلم

الرد على قول السبكي أن السفر لزيارة القبور قربة

عليها جميعًا، وننقضها واحد ة واحدة؛ لنستغني بذلك عن إبطال الفرع؛ لأنه متى بطل الأصل بطل الفرع؛ فهو وإن كان الإمام الحافظ ابن عبد الهادي أبطل هذه الأصول في أول الباب الخامس؛ فكان يحسن بنا أن نكتفي بما قاله، ولكن رأينا من الصواب أن نخوض مع هذا الخصم الذي تارة يجعل نفسه مجتهدًا، وتارة يجعل نفسه مقلدًا، وإذا تأملتَ في هذه الجمل التي نقلناها عنه في هذا الباب؛ رأيتَ فيها من الخلل والتناقض والتحامل واتباع الهوى ما يعلمه كل منصف، ولو صح له من هذه الأصول شيء؛ لما أحوجنا إلى ذكر شيء معه، ولكن أنى يسلم له ذلك؛ ومبانيها كلها مختلَّة ـ كما ستراه إن شاء الله تعالى ـ، ومن الله التوفيق. فصل في الكلام على الأصل الأول؛ وهو: الآية الكريمة ـ أعني: قوله ـ تعالى ـ: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الآية ـ قبل الخوض في تفسير هذه الآية: نسأل هذا الخصم: هل هو من المجتهدين أو من المقلدين؟ فإن كان من الأول؛ فقد خالف ما عليه أصحابه؛ فإنهم قد أجمعوا على سدِّ باب الاجتهاد، واختلفوا: متى سدّ؟ فقال بعضهم: ليس لأحدٍ بعد الأئمة الأربعة أن يستدلَّ على أي حكم من الأحكام بالكتابو السنة، وبعضهم قال: إنَّ باب الاجتهاد قد انسدَّ بعد المائة الخامسة، ولهم في ذلك عبارات مختلفة. ومعلوم أن الخصم كان في المائة الثامنة؛ فعلى كل قول ما أدرك زمان فتح باب الاجتهاد! وإن كان يقول: أنا لا أسلم أنَّ باب الاجتهاد قد انسدَّ؛ بل هو باقٍ إلى يقوم القيامة؛ فنقول له: هذا مسلَّم، ولكنكم قد شرطتم للمجتهد شروطًا؛ منها: أن يكون عالمًا بمسائل الإجماع لئلا يخرقه، وكيف أنت خرقت هذا الإجماع بتفسيرك للآية بهذا التفسير الذي ما سبقك إليه أحد، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم؟! فهذه التفاسير التي جمعت أقوال السلف وغيرهم ليس فيها هذا الذي فهمته من الآية. وإن كان من الثاني؛ فنقول له: أوجِد لنا هذا الذي قلَّدته في فهم الآية، ولِمَ لَم

يكن يفهم الإمام الشافعي من الآية هذا الفهم الذي فهمته؟ فهل أنتَ أعلم بمعاني القرآن منه؟ بل من ابن عباس، وأُبَيّ، وعلي، وابن مسعود، ومجاهد، وعلي بن طلحة، والضحاك بن مزاحم، والسدي، وابن أبي نُجيح،

وابن [أبي] مليكة، وابن أبي حاتم، والبخاري، وابن جرير، والرازي، وغيرهم ممن لهم قدم في التفسير؟! فإنَّ هؤلاء كلهم ما فسَّروها هذا التفسير الذي فسرتها به؛ فهل يُقال: هؤلاء كلهم جهلوا معنى الآية وعلمه السبكي؟!!! فسبحانك هذا بهتان عظيم! فهل يقول عاقل أو مسلم أن السبكي وأضرابه أعلم بمعاني كتاب الله ـ تعالى ـ من ابن عباس الذي ضمه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدره ودعا له بقوله: «اللهم علِّمه الفقه والتأويل» ؟! أو أعلم من ابن مسعود الذي كان يقول: «والذي لا إله غيره؛ ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيتُه» ؟! وغيرهما ممن يطول ذكرهم. والحاصل: أن من يجعل نفسه أعلم بمعاني القرآن من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد نادى بفضيحته وكشف عورته أمام الناس؛ فإن ذلك ضرب من الهوس، ولكن من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. وإن قال: ليس من شرط المجتهد أن يوافق غيره؛ بل كل أحد أداه اجتهاده إلى استنباط حكم من القرآن والسنَّة فله ذلك. فنقول له: ولِمَ لَم تسلم هذا لمخالفك ـ وهو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ، وقد شهد له بالاجتهاد المطلق

سبعون مجتهدًا في زمانه؟! وأما أنتَ لا نعلم أحدًا شهد لك بالاجتهاد المقيد فضلًا عن المطلق، إلا ولدك في «طبقات الشافعية» ! وإليك ما قاله أهل التفسير في هذه الآية الشريفة: قال العلامة المحقق خاتمة المحدثين ومجدد القرن الثالث عشر، أبو الطيب، السيد صديق خان، في تفسيره المسمى بـ «فتح البيان» ، المطبوع في المطبعة الأميرية بمصر، ما نصّه: « {وما أرسلنا من رسول} : (مِن) زائدة للتوكيد، قاله الزجاج. والمعنى: ما أرسلنا رسولًا إلا ليطاع فيما أمر به ونهى عنه، وهذه لام كي، والاستثناء مفرغ؛ أي: ما أرسلنا لشيء من الأشياء إلا للطاعة، (بإذن الله) : بعلمه، وقيل: بأمره، وقيل: بتوفيقه. وفيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا بحكم الطاغوت. {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} : بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك من الطاغوت وغيره. {جاءوك} : متوسلين إليك، تائبين من النفاق متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم؛ {فاستغفروا الله} : لذنوبهم بالتوبة والإخلاص، وتضرعوا إليك حتى قمتَ شفيعًا لهم فاستغفرت لهم؛ وإنَّما قال: {واستغفر لهم الرسول} على طريقة الالتفات لقصد التفخيم بشأن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيمًا لاستغفاره وإجلاله لا للمجيء إليه؛ {لوجدوا الله توابًا رحيمًا} ؛ أي: كثير التوبة والرحمة لهم. وهذا المجيء يختص بزمان حياته صلى الله عليه وسلم. وليس المجيء إليه بمعنى مرقده المنور بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مما تدلُّ عليه هذه الآية؛ كما قرره في «الصارم المنكي» ؛ ولهذا لم يذهب إلى هذا الاحتمال البعيد أحد من سلف الأمة وأئمتها، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تبعهم بالإحسان» انتهى. وقد أحببنا إيراده بحروفه ليعلم [المنصف] أنه لم يستدلّ أحد من السلف ولا من الخلف على استحباب السفر إلى زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمجرد الزيارة ولا لقبر غيره من الأنياء والصاحين لهذه الآية، اللهم إلا أن يكون أناس قد قلَّدُوا السبكي في هذا

الاستدلال من غير نظر، علمًا منهم بأن السبكي قد قلَّد غيره. وقد علمتَ بما سلف أنه لم يفهم هذا أحد من المفسرين؛ فعلم قطعًأ أن هذا الرجل قد فسَّر الآية برأيه وهواه؛ فقد دخل في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود في «سننه» : «من فسَّر القرآن برأيه ـ وفي رواية: بغير علم ـ؛ فليتبوأ مقعده من النار» ؛ فهذا الحديث ـ وإن كان في سنده مقال ـ فلم يحكم عليه أحد من أهل الحديث بالوضع؛ ولكن أوَّلُوه بمن فسَّر القرآن بالآراء الفاسدة التي لا يشهد لها كتاب ولا سنَّة ولا قول صحابي ـ كما فسَّر به المعترض الآية ـ! ولَيْتَهُ كان فسرها بما هو أقرب إلى الآية من هذا؛ كأن يقول: لما شرط الله ـ تعالى ـ في قبول توبة الظالم لنفسه من المنافقين في حياته صلى الله عليه وسلم المجيء والاستغفار عنده واستغفار الرسول له ـ عليه الصلاة والسلام ـ؛ اعتبر هذا أيضًا بعد موته؛ بأن من ظلم نفسه بعد وفاته ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتقديم آراء الرجال على الكتاب والسنَّة وجعلهما تبعًا وآراء متبوعه أصلًا؛ استغفر الله ـ تعالى ـ من هذا الذنب العظيم، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم؛ بمعنى: جاء إلى سنته، وعمل بها، وقدمها على قول كل أحد؛ كما قال ـ تعالى ـ: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} . قال أهل التفسير: الرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرجوع إلى سنته. فاستقام بهذا التفسير. {واستغفر لهم الرسول} بمعنى: رضي فعلهم هذا ودعا لهم وقرَّبهم وأدناهم منه يوم اليامة؛ فإنه قد ورد في الحديث أن أقوامًا يردون عليه الحوض؛ فيقول صلى الله عليه وسلم: «هلموا أصحابي» ؛ فيُقال له: «أما تدري ما أحدثوا بعدك؛ بدَّلُوا وغيَّرُوا» ؛ فيُقال لهم: «سحقًا سحقًا» . ويكون حكم هذه الآية

مستمرًا في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته؛ فإنه ـ تعالى ـ ما ذمَّ المنافقين إلا على ميلهم عن حكمه، ورجوعهم إلى التحاكم بالطاغوت، وتخلفهم عن المجيء إليه صلى الله عليه وسلم. ويقال حينئذ: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ وهو الحق ـ، والعلة الموجودة في المنافقين الذين كانوا في زمانه صلى الله عليه وسلم [هي مخادعتهم] للناس باللسان [و] التي ذمَّهم الله ـ تعالى ـ بسببها؛ موجودة في الذين أظهروا حبه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وأبطنوا حب متبوعهم؛ ولذلك تراهم يقدمون آراءهم على الكتاب والسنَّة، وإذا نقم عليهم أحد يقولون: نحن ما تركنا الكتاب والسنّة؛ ولكن قدَّمنا آراء مشايخنا؛ لأنَّهم أحاطوا علمًا بالكتاب والسنَّة! وقد أودعوا علم ذلك في كتبهم. فهذه دعوة منهم مجردة عن الدليل، وتظهر بادي الرأي أنها أوهى من بيت العنكبوت، والكلام في ردِّها يطول جدًّا، وقد رد عليها كثير من العلماء قديمًا وحديثًا، وبيَّنوا ما فيها من التزوير والتلبيس، وأنها لا تجديهم نفعًا ولا تقيم لهم عذرًا؛ بل الحجة لله ولرسوله قائمة عليهم. والغرض من هذا: أنَّ السبكي لو فسَّر الآية بالتفسير الذي ذكرناه لكان أقرب للصواب، ولكن تغافل عن حمله على ما ذهب إليه حب الهوى والتعصب على أئمة المسلمين؛ فأي حجة له في هذه بعد هذا البيان يقيمها على شيخ الإسلام ومَن وافقه؟! ونعوذ بالله من الخذلان واتباع الهوى؛ فكأنّ هؤلاء الذين فسَّروا القرآن بآرائهم وبما يوافق أهواءهم؛ جعلوا القرآن موافقًا لطبق مرادهم؛ فالذي لهم فيه هوى ورغبة يقولون القاعدة المشهورة؛ وهي: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والذي يصادم آراءهم وأهواءهم يقولون فيه: هذا خاص بالكافرين والمنافقين؛ ولذلك جرى السبكي في تفسير الآية على القاعدة التي ذكرناها. وأما مثل قوله ـ تعالى ـ: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم

الكافرون} ، وفي الآية الثانية: {الظالمون} ، وفي الآية الثالثة: {الفاسقون} ، وفي مثل قوله ـ تعالى ـ حكاية عن الذين اتخذوا له الوسائط والشفعاء: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} ، وقوله ـ تعالى ـ: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وأمثال ذلك مما يطول ذكره؛ هذا خاص بالكفار قاصر على ما ورد فيه، ويمنعون أن يكون هذا متناولًا لكل من اتصف بهذه الصفات ومن قال قولهم، واتخذوا له الوسائط والشفعاء زعمًا أن هذا ليس بعبادة؛ وإنما يسألون الله له حوائجه؛ لأنهم مقبولون عنده، ولا يردُّ سؤالهم. ويقولون في مثل ما ورد في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرضوا بحكمه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيتَ ويسلموا تسليمًا} : هذا خاص بالمنافقين الذين نزلت فيهم هذه الآية، ومنعوا أن تكون متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله وبما جاء في السنة، ولم يقدم ذلك على آراء الرجال وأهوائهم، ويقابلوه بالتسليم وانشراح الصدر له، والتبرؤ إلى الله مما يخالفه. فقد دخلوا بفعلهم في الذين قال الله فيهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ، وفي الذين قال الله فيهم: {وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} . جعلنا الله ـ تعالى ـ بكرمه من الذين قال الله فيهم: {إنما كان قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون} . واعلم أن كلمة (لو) من جملة معانيها: أنها حرف امتناع لامتناع، ومعناها على تفسير السلف ظاهر؛ فإن قبول الله ـ تعالى ـ توبتهم متوقفة

على مجيئهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارهم الله ـ تعالى ـ واستغفار الرسول لهم؛ فإن لم يحصل منهم ذلك لم تحصل توبة الله عليهم، وهذا صحيح؛ كما تقول ممثلًا لذلك: «لو جاءني لأكرمته» ؛ فامتنع إكرامك له لامتناع مجيئك إليك. وعلى تفسير السبكي ومن وافقه من أن الآية حكمها مستمر؛ فكما أن مجيء من ظلم نفسه إليه صلى الله عليه وسلم في حياته واستغفاره عنده واستغفار الرسول له شرط لقبول توبته؛ فهو شرط أيضًا في قبول توبة من ظلم نفسه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فلا بد من مجيئه إلى قبره صلى الله عليه وسلم واستغفاره عنده واستغفار الرسول له. ولا يخفى ما في هذا من المناقضة لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنَّة نبيه وما عليه المسلمون: فأما وجه مناقضته للقرآن العزيز؛ فإن الله يقول: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} ، وقوله ـ تعالى ـ: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} ، وغير ذلك من الآيات المتضمنة لحصول توبة الله ـ تعالى ـ على عبده إذا استغفره وأناب إليه وأقلع عن ذنبه، ولم يشترط لقبول ذلك مجيئه عند قبره صلى الله عليه وسلم وتوبته عنده، ولو كان قبول التوبة متوقفًا على هذا؛ لكان فيه من العسر والشدَّة ما لا يحتمله إلا القليل من الناس، ولكان مخالفًا لما جاءت به الشريعة السمحة السهلة، العارية عن الإصر والعسر والشدة، وإذا لم يكن ذلك كذلك؛ وجب حمل الآية على ما فسَّر به السلف ـ كما مرَّ ـ، وعدم الالتفات إلى ما قاله السبكي وأضرابه، وأنهم لا دليل لهم في الآية على استحباب السفر وشد الرحل لمجرد زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غير قصد الصلاة في مسجده كما ذهبوا إليه. وبالله التوفيق.

خلاصة الكلام في قوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ... } الآية

فصل وجماع القول في هذه الآية الكريمة: هو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد شرط لِوَجْدِه توابًا رحيمًا للمنافقين، الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وما أُنزل على رسوله ويريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ويصدون صدودًا عن حكم الله ورسوله؛ ثلاثة شروط: بمجيئهم إليه صلى الله عليه وسلم، واستغفارهم عنده، واستغفار الرسول لهم؛ فلو أخلُّوا بشرط من هذه الشروط الثلاثة لم يقبل الله توبتهم. ومعلوم أن هذا الحكم قد انقطع بوفاته صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين؛ فلم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف أنه قال: من شروط التوبة المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم ولو من الأماكن النائية، والاستغفار عنده، واستغفار الرسول لهم، ولو قال أحد هذا لكان مناقضًا لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولإجماع المسلمين؛ لأنَّ الله يقول: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} ، والأحاديث الواردة في فضل التوبة مشهورة، وليس فيها اشتراط المجيء إلى قبر أحد؛ فعلم بهذا أن قول السبكي قول ساقط ليس عليه أثارة من علم ولا سبقه إلى مثله أحد من أهل التفسير، ولو كان معنى الآية كما زعم هذا المعترض؛ لكان المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم والسفر إليه فرضًا كالصلاة والحج، ومن تخلف عنه يموت عاصيًا؛ إذ هو لم يتب من ذنبه ولو تاب في اليوم مائة مرة؛ لأنَّ ذلك لم تتوفر فيه هذه الشروط الثلاثة المتقدمة، وهذا السبكي لا يقول بهذا؛ فكيف يجعل هذا مستحبًّا فقط. وقوله: «لأن المجيء يصدق على المجيء من بعد ومن قرب ومن سفر» . فجوابه: نعم؛ هذه المعاني كلها يحتملها لفظ (المجيء) ، ولكن لما كان هذا ليس شرطًا مستمرًا لقبول توبة كل من تاب؛ فتعين حمل (المجيء) بهذه المعاني على: المجيء إليه في حياته صلى الله عليه وسلم ـ كما بينّا ـ. وقوله: «لأنَّ العلة وجد أن الله ـ تعالى ـ توابًا رحيمًا» . فجوابه أن يُقال: ليس هذا مختصًّا بزمان دون زمان ومكان دون مكان؛ بل متى أقبل العبد على ربه، وجاءه مستغفرًا، مقلعًا عن ذنبه، صادقًا من قلبه، خاشعًا

بجوارحه، مقدِّمًا أمام الله ذلك حمد الله ـ تعالى ـ والصلاة والسلام على نبيه، وختمها بمثل ذلك؛ فهذه باتفاق المسلمين توبة نصوح؛ لا يردّ الله ـ تعالى ـ من أتى بها، ويجده توابًا رحيمًا، سواء كان هذا التائب بهذه الصفة إلى ربه في مصر أو في الشام أو في اليمن. فهل يستحب هذا السبكي السفر من جميع هذه الأماكن التي سميناها لكل من أراد أن يتوب ليجد الله توابًا رحيمًا؟! أو يقول: أنه متى تاب العبد إلى ربه وأقبل عليه في أي مكان وفي أي زمان؛ وجدَ الله توابًا رحيمًا؟ فإن قال هذا؛ فقد رجع عن قوله باستحباب السفر إلى مجرد الزيارة، وإن قال: بل لا بُدَّ من سفره إلى القبر المعظم لأجل أن يتوب هناك؛ فقد خالف بقوله هذا ما عليه عامة المسلمين، وتبين أنه لا حجَّة [له] في هذه الآية على ما ذهب إليه، وأنَّ شيخ الإسلام مُحِقٌّ في قوله. وبالله نتأيد. واعلم أننا غير مرة ذكرنا طريقة شيخ الإسلام في الزيارة؛ وبيَّنَّا أنه لا ينكرها؛ بل يستحبها كغيره من العلماء؛ وإنَّما أنكر السفر وإعمال المطي إلى مجرد الزيارة من غير قصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ عملًأ بالحديث الصحيح المروي في الصحيحين وغيرهما، ولم ينفرد هذا الإمام بهذا القول؛ بل سبقه إليه أبو هريرة، وبصرة الغفاري، وابن سيرين، والشعبي،

نقض استدلال السبكي بحديث: "من زار قبري ... "

والنخعي، ومالك بن أنس، وابن الجويني، والقاضي حسين، وطائفة. فأي ملامة على هذا الشيخ إذا ذهب إلى هذا القول، سيّما وقد علمتَ من سبقه إليه من الأئمة؟! فإن كان مقلدًا في ذلك فكفاه هؤلاء الأئمة، وهم يجوزون تقليد إمام واحد ولو خالف بقوله سائر الأئمة؛ فكيف بمن قلد أئمة الصحابة والتابعين ومن بعدهم؟؟! وإن كان مجتهدًا؛ فدليله ظاهر من حديث الصحيحين؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، ولم يأتِ مخالفوه بشيء يصلح للاستدلال، وقد بيَّنَّا أن الآية الكريمة لا حجة لهم فيها. والله وليّ التوفيق. فصل الأصل الثاني: السنَّة. قوله: «وأما السنَّة: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «من زار قبري» ، والزيارة اسم جامع يصدق على الزائر من بعد ومن قرب ومن سفر ... » إلخ. فالجواب: أنّ هذه الأحاديث ليس فيها شيء يعتمد عليه؛ بل هي أحاديث ملفقة مختلقة الأسانيد، والسند ما بين ضعيف شديد الضعف وموضوع؛ فكيف يستدلّ بأحاديث هذا حالها على حكم شرعي من أحكام الله ـ تعالى ـ؟! فإن قال قائلٌ: قد ذكر بعض الناس: أن الحديث الضعيف إذا كثرت طرقه يرتقي من درجة الضعف إلى درجة الحسن، ويكون من باب الحسن

لغيره. فالجواب أن يقال: هذا القول ليس ما اتفق عليه؛ بل للعلماء في الحديث الضعيف ثلاثة أقوال: الأول: أنه لا يقبل مطلقًا، ولو بلغت طرقه في الكثرة ما بلغت. فممن قال ذلك: مالك، والبخاري، ومسلم، وابن حزم، وداود. وهذا يعرفه من رجع إلى مصنفاتهم؛ فإنَّهم لم يدخلوا فيها إلا ما صحَّ عندهم. وحجتهم على هذا القول ظاهرة واضحة؛ وهو أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يتعبدنا إلا بما صح عندنا، وتبيَّن صحة مأخذه، وأما المشكوك في صحته فنحن مأمورون بتركه؛ لقوله ـ تعالى ـ: {ولا تقف ما ليس لك به علم} ؛ فهذا الحديث الضعيف لا علم لنا بصحته؛ فكيف نثبت به حكمًا شرعيًّا في دين الله، وهو يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} ، وفي القراءة الأخرى: (فتثبتوا) ، وحيث أننا لم نتمكن من التثبت ولم يتبيَّن لنا صحته؛ فوجب علينا تركه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلا ما لا يريبك» . القول الثاني: أنه يقبل إذا تعددت طرقه واختلف مخرجه بحيث إذا اجتمعت يتحصل منها أن للحديث أصلًا. وهو قول الحافظ ابن حجر العسقلاني. القول الثالث: أنه يعمل به في فضائل الأعمال من ترغيب وترهيب. ومحل هذا الخلاف ما لم يكن في إسناده كذابون أو متهمون بالتدليس والوضع. فإذا عرفتَ هذا؛ فهذه الأحاديث لا تقوم بها حجة عند المحققين من العلماء، وقد بيَّن حالها الحافظ ابن عبد الهادي في أول كتابه «الصارم المنكي في الرد على السبكي» ؛ فلا حاجة بنا هنا

للكلام عليها، ويكفينا عن بيان حالها عدم تصريح أحد من أهل السنن الذين أخرجوا الصحيح والحسن والضعيف؛ فدلَّ ذلك على أن هذه الأحاديث لم يكن لها أصل عندهم؛ وإلا لو كان لها أصل ما وسعهم تركها وهي مستقلة بإثبات حكم شرعي، وهل يقول عاقل: إن البخاري ومسلمًا ومالكًا والنسائي وأبا داود والترمذي وابن ماجه وابن الجارود وابن خزيمة وغيرهم ممن صنفوا في جمع الأحاديث قد أخلُوا كتبهم من هذه المسألة؟! سيّما وهم يعلمون أنها ذات خلاف بين السلف ـ كما بيَّنَّاه سابقًا ـ؛ فلما لم يعرّج أحد منهم عليها علمنا أنها لا تصلح للاستدلال، وذكر مثل الدارقطني والبيهقي لها لا يفيدها قوة؛ لأنَّ الدارقطني

ما قصد في سننه إلا جمع الغرائب؛ ولذلك تراه يذكر الصحيح والسقيم والموضوع؛ فتارة يبين حال الرواية وقد لا يبين حالها؛ اتكالًا على ظهوره عنده، وقد كتب عليها في زماننا العلامة شمس الحق العظيم آبادي الدهلوي حاشية سمَّاها: «التعليق المغني على سنن الدارقطني» ؛ أجاد فيها وأحسن. وأما البيهقي فقد جمع في سننه مثل الدارقطني؛ ولذلك احتوت سننه على الغث والسمين، وقد اختصرها الحافظ شمس الدين الذهبي؛ فجردها من الأحاديث الواهية، وللإمام علاء الدين المارديني التركماني ردّ عليها في سفرين سمَّاه: «الجوهر النقي في الرد على البيهقي» . فقد تبيَّن لك حال هذه الأحاديث التي ذكرها السبكي. وعلى تسليم ثبوتها؛ فهي لا تفيد إلا مشروعية الزيارة فقط، وشيخ الإسلام لا ينكر مشروعية الزيارة ـ كما شهد له بذلك هذا المعترض نفسه ـ؛ وإنَّما النزاع في مسألة: استحباب شدّ الرحل إلى مجرد الزيارة من غير قصد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وهذه الأحاديث لا تفيد بمنطوقها إلا الزيارة، وقول السبكي: «إنّ لفظ (الزّيارة) يتناول شدّ الرحل وغيره من المعاني» ؛ فمردود بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه ما ثبت عنه في حديث صحيح ولا ضعيف ولا مكذوب أنه شد رحله إلى زيارة قبرٍ من قبور الأنبياء ولا غيرهم من قبور المؤمنين، ومعلوم أن قبور الأنبياء وغيرهم كانت موجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم وفي زمان أصحابه؛ فما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يزور قبور أهل البَقيع وغيرهم، من غير شد رحل ولا سفر؛ فهل يقول مسلم: إنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه تركوا أمرًا مشروعًا محبوبًا لله ـ سبحانه وتعالى ـ واهتدى إليه السبكي وأضرابه؟؟! فسبحانك هذا بهتان عظيم. وكيف ينطبق هذا على قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعلمكم بالله وأتقاكم له» ، وعلى قوله ـ تعالى ـ: {اليوم أكملت لكم

أقول أهل العلم في مسلم بن سالم الجهني

دينكم} ؟! فلو كان شدّ الرحل إلى زيارة القبور أمرًا مستحبًّا في الشرع ولم يفعله الرسول ولم يبينه لأمته؛ لكان هذا الدين لم يكمل إلا من بعد مجيء السبكي! فنبرأ إلى الله من هذا! وكيف يكون مستحبًّا وقد نهى عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ؟؟! فلما لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر أمته به بل نهاهم عنه؛ تبيَّن أن شد الرحل لمجرد الزيارة أمر غير مشروع؛ بل هو محدَث في الدين، ولم يعرف في زمان سلفنا الصّالحين. وأما قوله: «ومنها: الحديث الذي رواه الطبراني وصححه ابن السكن» ؛ يشير إلى الحديث الثالث الذي ذكره في الباب الأول؛ وهو: «من أتاني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي؛ كان حقًّا عليَّ أن أكون له شفيعًا يوم القيامة» . فالجواب: هذا الحديث لو سلمت له صحته؛ لكان نصًّا في المسألة، ولارتفع النزاع، ولم يحتج معه إلى ذكر شيء يريد به ما ذهب إليه. وأنَّى يسلم له ذلك وقد بيَّن هو نفسه حاله في أول الكتاب؛ وذكر أنه حديث مختلف في متنه وسنده، ولكن لما كان هذا الحديث حجة له؛ لم يتكلم عليه من كل وجه؛ بل ذكر شيئًا وسكت عن أشياء، وناقشه فيه الحافظ ابن عبد الهادي. وحيث أن الحافظ ابن عبد الهادي لم يتكلم على بيان حال مَن يدور عليه إسناد هذا الحديث؛ وهو مسلم بن سالم الجهني، إمام مسجد بني حرام ومؤذنهم، ولم يزد على قوله: «هو رجل مجهول الحال» ؛ أردت أن أبيِّن لك حاله وما

قاله أهل العلم فيه؛ فأقول ـ وبالله التوفيق ـ: مسلم بن سالم الجهني: قال في «تهذيب التهذيب» : بصري، كان يكون بمكة، روى عن عبد الله بن عمر العمري، وعن أخيه عبيد الله بن عمر، وغيرهما. وعنه: عبد الله بن محمد العباداني، ومسلم بن حاتم الأنصاري، وغيرهما. قال أبو داود: ليس بثقة. ويقال فيه: مسلمة أيضًا؛ بزيادة هاء في آخره. وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال في نقد أسماء الرجال» ما نصه: مسلم بن سالم الجهني، كان يكون بمكة، قال أبو داود السجستاني: ليس بثقة. قلتُ: ما أبعد أن يكون مسلمة بن سالم الجهني البصري إمام مسجد بني حرام، الذي أخرج له الدارقطني في سننه ما أخبرنا علي بن الفقيه وإسماعيل بن عبد الرحمن قالا: حدثنا ابن الصباح، أخبرنا ابن رفاعة،

أخبرنا الخلعي، أخبرنا أبو النعمان تراب ابن عمر، حدثنا أبو الحسن الدارقطني، حدثنا يحيى بن صاعد، حدثنا عبد الله بن محمد العبادي سنة خمسين ومائتين بالبصرة، حدثنا مسلمة بن سالم إمام مسجد بني حرام، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه مرفوعًا: «من جاءني زائرًا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقًّا عليَّ أن أكون له شفيعًا يوم القيامة» ، رواه أبو الشيخ عن محمد بن أحمد بن سليمان الهروي، حدثنا مسلم بن حاتم الأنصاري، حدثنا مسلمة بهذا. فانظر

ـ رحمك الله ـ إن كنتَ ممن يتثبت في دينه: هل مثل هذا الحديث المضطرب المتن والسند الذي مداره على رجل حاله كما بيَّنَّا تقوم به حجة في محل النزاع؟؟ اللهم إلا أن يكون هذا وأمثاله يروج على رجل لم يعرف الاستدلال وليست له خبرة بأحوال الرجال. فإن راج هذا على السبكي وأضرابه؛ فلا يروج على شيخ الإسلام ابن تيمية حامل لواء هذا الفن وإمامه؛ حتى قيل فيه: إنَّ الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية ليس بحديث! وعلى تسليم ثبوته؛ فهو معارض بحديث الصحيحين وغيرها ـ وهو: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرِّحال ... » الحديث ـ، وما قلنا هذا إلا على سبيل التنزُّل؛ وإلا فغاية الأمر أنا لو أحسسنا الظنّ بمسلم الجهني فيكون الحديث ضعيفًا، ولا تعارض بين ضعيف وصحيح، بل ولا بين حسن وصحيح؛ وإنَّما لا يُقال: حديثان متعارضان إلا إذا استويا في الرتبة؛ فحينئذ يذهب إلى الترجيح بأمور خارجة عن الصحة ـ ذكرها أهل الأصول ـ، وأما هنا؛ فلا يُقال: تعارض الحديثان؛ لما علمتَ. والله الهادي. فقد علمتَ مما تقدّم أنَّ العلماء لم يتفقوا على العمل بالحديث الضعيف؛ بل لهم فيه ثلاثة أقوال ـ كما مرَّ ـ. والذي يظهر لي: أنّ أولاها بالصواب قول مَن قال: لا يُعمل بالحديث الضعيف مطلقًا ـ وقد بينَّا حجتهم ـ. وإن كان قول مَن قال: يُعمل به إذا تعددت طرقه حتى بلغت في الكثرة مبلغًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب؛ ليس بعيدًا عن الصواب، ولكن أهل القول الأول أسعد بالحّجة. وأما قول مَن قال: يُعمل به في فضائل الأعمال من ترغيب وترهيب ـ ويدلّ عليه قول الإمام أحمد؛ حيث يقول: «إذا روينا في الحرام والحلال شدّدنا، وإذا روينا في غير ذلك تساهلنا» ـ؛ فهذا القول في النفس منه حزازة؛ لأنّ

بيان بعض المفاسد التي تحصل بسبب الأحاديث الضعيفة

الترغيب في فعل شيء يفيد مشروعيّته، ومتى كان مشروعًا كان من الدِّين، والترهيب عن ترك شيء يفيد أنّ هذا الشّيء ليس مشروعًا فعله وليس هو من الدِّين، ولا يجوز لأحد البتة كائنًا مَن كان أن يُدخل في الدِّين ما ليس منه أو يُخرِج من الدِّين ما هو منه، وهذا لا يكون إلا بشيء صحيح تقوم به الحُجّة؛ فهو مثل الحرام والحلال؛ فيجب التثبت فيه كما يجب في الحرام والحلال؛ فكم وقع الناس في أشياء بسبب التساهل في الأحاديث الضعيفة والموضوعة في العبادات ـ كالصلاة وتلاوة بعض السُّوَر من القرآن والذِّكر والزُّهد والإنفاق والصيام ... وغير ذلك ـ؛ فاشتغلوا بهم حتى أدَّاهم ذلك إلى ترك المطلوب منهم، وبسبب الأحاديث الواهية الواردة في فضل صلاة الرغائب؛ ترك الناس صلاة الصبح؛ فإنَّهم يشتغلون بها أكثر الليل ثم يغلب عليهم النّوم فينامون عن صلاة الصبح! وبسببها اشتغل النّاس بالمحافظة على تلاوة بعض السُّوَر حتى أنساهم بقيّة القرآن، وبسببها بالغ النّاس في الزُّهد حتى تركوا العمل وصاروا عالة على الأغنياء، علمًا منهم بأنّ هذا هو المطلوب من العباد، ونسوا الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة في فضل الكسب وذمّ المسألة، وبسببها بالغ النّاس في الإنفاق؛ فأنفقوا جميع ما عندهم! فالحاصل أن مساوئ هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة لا تُحصى، وقد كان في الزمان الأوّل لا تنفق على أحد؛ لأنّ دولة الحديث

كانت قائمة، فلما تقادم الزّمان وطال الأمد ومات رجال الحديث؛ اختلط الضّعيف بالصّحيح والطّيب بالخبيث والغثّ بالسّمين؛ فقلّ المميز لهذا من هذا؛ فلا تكاد تجد رجلًا يميز بين صحيح وسقيم، اللهم إلا أفرادًا قليلين يعدون على الأصابع؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وترى كثيرًا من الناس مشهورًا بالعلم ويشحن مؤلفاته بالأحاديث الواهية والموضوعة، من غير أن ينبّه عليها ويبيّن حالها؛ فهذا ذنب عظيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار» ، وفي رواية: «متعمّدًا» ـ وهذه اللفظة أنكرها الزّبير بين العوام؛ وقال: إنكم تزيدون متعمّدًا؛ وإنِّي والله ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «متعمِّدًا» ـ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن حدَّث عني حديثًا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» ؛ فإذا كان الأمر كما وصفتُ؛ فيجب على كلّ أحد يريد أن يروي حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون عالمًا بصحته حتى يسلم من هذا الوعيد الشديد. وحيث أن الهمم في هذا الزّمان قد قصرت عن معرفة الصّحيح من السّقيم، وتمييز الطّيب من الخبيث؛ أردتُ أن أذكر لك أنموذجًا لتعرف به طبقات الكتب المصنّفة في الحديث ـ وإن كنتُ أشرتُ إليها فيما سبق ـ؛ لتكون على بصيرة في دينك؛ فأقول ـ وبالله التوفيق ـ: اعلم ـ رحمك اللهُ تعالى ـ أنّ الكتب المصنّفة في الحديث كثيرة جدًّا، لا تكاد تُحصى عددًا، ولكن أصحّها وأنقاها: الصحيحان للبخاري ومسلم، وموطأ مالك بن أنس، وصحيح أبي

عوانة، والمستخرجات على الصحيحين، وصحيح ابن خزيمة، والمنتقى لابن الجارود، والمختارة للضياء المقدسي، وهذه الكتب يفضل بعضها بعضًا. ويلي هذه الطّبقة: كتب السنن الأربعة، ومسند الإمام أحمد، والدارمي، وابن حبّان، وهذه الطّبقة لم تلتزم إخراج الصحيح فقط؛ بل فيها غيره كالحسن والضعيف والمنكر والموضوع، لكنه قليل جدًّا. ومنها: مستدرك الحاكم على الصحيحين، وفيه تساهل كثير؛ حتى قال الإمام الذهبيّ: «إنّ نصفه

ذكر بعض الكتب التي لم يتحاش مؤلفوها من أراد الأحاديث الضعيفة فيها

يسلم له صحته، وربعه مختلف فيه، وربعه موضوع» ، وقد اختصره هذا الإمام الجليل، وبيّن ما فيه من هذه الأنواع. وما عدا هذه الطّبقة ففيها الغثّ والسّمين؛ مثل: الحلية لأبي نُعَيم، ومصنف ابن مندة، وابن أبي الدُّنيا، والدَّارَقُطنيّ، والبيهقيّ، والطبرانيّ، وبقية المسانيد والأجزاء والمغازي والتّفسير والملاحم والوعظ والتّصوّف، يعرف هذا مَن مهر في هذا الفنّ الشّريف. ثم جاء قوم من المتأخّرين؛ فجمعوا بين هذا وهذا، تارة يبيّن حال الحديث وقد لا يبيّن؛ فقلّدهم النّاس مِن غير علم ولا سلطان بيِّن؛ فخبطوا خبط عشواء، وركّبوا متن عمياء، ضمن الجامعين المكثرين في المتأخّرين: جلال الدين السيوطيّ؛ فصنّف: «الجامع الكبير» ؛ الذي التزم أنّه يذكر فيه الأحاديث النّبويّة بأسرها، واختصر منه «الجامع الصّغير» ،

وله مصنّفات في الحديث والتفسير كثيرة، ولكن لم يتحاش فيها من إخراج الصّحيح والضّعيف والموضوع؛ فتارة يُنَبِّه على حال الحديث، وفي الكثير لا ينبِّه اتِّكالًا على الكتب التي عزا إليها، وكثير ما يوجد فيها الموضوع، خصوصًا في «الجامع الكبير» و «الصّغير» ، وفي تفسيره المسمّى بـ «الدُّرّ المنثور في التّفسير بالمأثور» ، والحال أنّه قال في ديباجة «الجامع الصّغير» : «لا أذكر فيه إلا الصّحيح والحسن» ، والحال أنّه قد ذكر منه أحاديث في كتاب «اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» ! ونبّه على وضعها، وبالجملة: إنّك ـ يا أخي ـ لا تغترّ بكل حديث رأيتَه في كتاب ـ ما عدا الصحيحين؛ فإنّ جميع ما فيها مقطوع بصحّته عند المحققين، إلا أحاديث قليلة؛ ذكرها الحافظ ابن حجر في مقدّمة «فتح الباري» ـ، أو سمعتَه من عالم؛ خصوصًا في زماننا هذا؛ فإنّ العالِمين بالحديث قليلون جدًّا؛ بل من قرون عديدة، وليس كلّ مَن مهر في فنّ يكون ماهرًا في سائر الفنون؛ بل كلّ فنّ له رجال مشهورون به؛ فهذا حُجّة الإسلام الغزاليّ ـ مع جلالة قدره ـ كانت بضاعته في الحديث مُزجاة؛ كما شهد به هو على نفسه! وهذا الزمخشريّ ـ مع كثرة تفنّنه ـ كان قليل البضاعة في الحديث؛ يدلّك على ما قلنا في هذين الإمامَين: كتاب «الإحياء» للغزاليّ، وسائر مصنفاته؛ فإنّها

مشحونة بالأحاديث الضّعيفة والموضوعة؛ يعلم هذا مَن رجع إلى تخريج أحاديث «الإحياء» للحافظ العراقيّ، وإلى شرحه للسيد مرتضى الزبيديّ، وكتاب «الكشاف» للزمخشريّ؛ فإنّه ذكر فيه أحاديث موضوعة باتّفاق أهل الصّناعة الشريفة، وتبعه فيها القاضي البيضاويّ في «تفسيره» ، وقد خرّج جميع ما فيه من أحاديث الحافظ جمال الدين الزّيلعيّ ـ صاحب كتاب «نصب الرّاية» ـ، واختصره الحافظ

ابن حجر في مجلّد ـ رأيتُه أنا بمكتبة دمشق ـ، وهذا الرَّازي ـ مع سعة علومه ـ قد ذكر في «تفسيره» أحاديث موضوعة، وهذا السُّبكي ـ الذي نحن بصدد الرّدّ عليه ـ قد شحن كتابه هذا مع صغر حجمه بالأحاديث الواهية والموضوعة. فإذا عرفتَ هذا؛ فأقول لك: إنّ هذه الأحاديث التي أوردها السُّبكي مستدّلًا بها على أنّ السّفر لمجرد الزيارة الخالية عن الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم قُربة من أعظم القُربات؛ في غاية البُعد والسُّقوط، وإنّ تصحيح ابن السكت هذا الحديث لا يُلتفت إليه؛ لمخالفته أهل الفنّ، وكيف يكون هذا الحديث صحيحًا وفيه ثلاث عِلَل: الكلام في مسلم بن سالم الجهني الذي يدور عليه إسناده، والاضطراب في متنه وسنده ـ وكلها قادحة ـ، وأيضًا ليس هذا الحديث من مرويات الصحيحين، ولا من مرويات أحد من أهل الطّبقة العُليا ولا التي تليها؛ فإذا انضمّ ما قلناه إلى الذي قاله صاحب «الصّارم المُنكي في الرّد على السُّبكي» ؛ [تبيّن] ردّ كل هذه الأحاديث التي ما عليها أثارة من الصّحّة. فإن قلتَ: قد احتجّ مَن يرى استحباب زيارة القبر الشّريف وقبور سائر المسلمين بهذه الأحاديث. فالجواب: أنّهم لم يحتجّوا بها؛ بل احتجّوا على ذلك بالأحاديث الصّحيحة المرويّة من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم؛ فمنها: قوله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القُبور؛ فزوروها» ، وقوله: «زوروا القبور؛ فإنّها تذكّركم الآخرة» ، وفعله صلى الله عليه وسلم من زيارة أهل البَقيع وغيرهم، وقبره صلى الله عليه وسلم داخل في مسمّى القبور؛ لأنّه اسم جنس

خلاصة القول في زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -

يشمل كلّ قبر، وإنّما منعنا من السّفر وشدّ الرّحل لمجرد زيارتها من غير قصد شيء آخر معها؛ للحديث الصّحيح الوارد في النّهي عن ذلك، وتَتَبّعنا ما ورد في زيارته صلى الله عليه وسلم لقبور المسلمين الذين كانوا في زمانه، وزيارة أصحابه من بعده لقبور إخوانهم من المؤمنين؛ فما وجدنا فيها شيئًا يدلّ على أنّه صلى الله عليه وسلم سافر أو شدّ رحلًا لزيارة قبر أحد من الأنبياء ولا غيرهم، ولا فعل هذا أحد من أصحابه؛ فعلمنا قطعًا أنّ السّفر لمجرد زيارة القبور ليس مشروعًا؛ بل هو منهيّ عنه، ومعاذ الله أن يكون أمرًا مشروعًا في الدِّين محبوبًا لله ولا يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه ـ الذين هم صفوة هذه الأمّة وخيرة الله من خلقه بعد المرسَلين ـ، ويفعله هذا السُّبكيّ وأضرابه! فخلاصة القول: أنّ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبور غيره مشروعة من غير سفر ولا شدّ رحل؛ بل يقصد المسافر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فإن شاء ضمّ لنيّته هذه نيّة الزّيارة وقت السّفر، وإن شاء أخَّرها؛ حتى إذا وصل إلى المسجد الشّريف وصلَّى فيه؛ زار قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر وقبور أهل البَقيع، وغيرهم من قبور المسلمين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة، وعليه تدلّ الأحاديث الصّحيحة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وفعل أصحابه من بعده. وأما قبور سائر المسلمين ما عدا ذلك؛ فلا يُسافر إليها بقصدها؛ بل إذا قصد بلدة لحاجة من حوائج الدُّنيا أو الدِّين؛ فإنّه يُستحب له أن يزور القبور التي فيها سواء كانت قبور صالحين أو غيرهم. فهذا الذي نقوله ونديه الله به؛ فلا نزيد على ما ورد في الشَّرع ولا ننقص منه شيئًا. وأما التّبرّك بالقبور؛ فهذا شيء لا نقول به ولا ندين الله به؛ بل نزور القبور لتذكّر الآخرة، والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها والاستغفار لهم ـ كما جاءت به السُّنَّة المطّهرة ـ. والله أعلم. وقوله: «فإنّ لفظ (الزّيارة) يتناول الزّائر من بُعد ومن قُرب وسَفر» . فالجواب: هذا صحيح، ولكننا لما نظرنا في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وأفعال أصحابه؛ فلم نجد فيها شيئًا يُستدلّ به على استحباب السّفر لمجرد الزّيارة؛ علمنا يقينًا أنّ السّفر لمجرد الزّيارة

ليس مشروعًا؛ إذ لو كان مشروعًا لم يتركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم أحرص النّاس على فعل الواجب والمندوب وكيف يكون هذا مستحبًّا ولم يثبت عن أحد منهم أنّه شدّ رحله وسافر لزيارة قبر من القبور، لا قبر نبيّ ولا غيره، ومعلوم أنّ القبور موجودة كثيرة في كلّ زمان ومكان، وهذا لو فُرِضَ أنّه لم يأتِ نهيٌ في ذلك؛ فكيف وقد جاء النهي مصرّحًا به في الصحيحين وغيرهما؛ وهو حديث: «لا تُشَدّ ... » ـ بصيغة الفعل المضارع المبني للمجهول للمؤنثة الغائبة، لا بصيغة الأمر [للجمع من الذُّكور]ـ « ... الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ؛ فعُلِمَ بهذا تخصيص عموم لفظ (الزّيارة) لو سلم عمومه، وأما الزّيادة التي جاءت من طريق مسلم بن سالم الجهنيّ؛ فقد علمتَ ما فيه من كلام العلماء، ومقلها لا يثبت به حكم شرعيّ، ولو صحّت هذه الزّيادة؛ لكانت نصًّا في الرّسالة لم يحتج معه إلى قيل وقال، ولكن حيث أنها موافقة لرأي السُّبكيّ وسكت عما لها وما عليها، ونحن قد بيّنّا ـ فيما مضى ـ سقوطها؛ فلم يبقَ إلا عموم لفظ الزّيارة، وقد تقرّر في الأصول: أنّ اللفظ إذا كان محتملًا لعدّة معان؛ حُمِلَ على معنى منها بقرينة؛ لأنّ استعمال اللفظ في جميع معانيه لا يسوغ، وحيث أنّنا بيّنّا كيفية زيارته صلى الله عليه وسلم وأصحابه للقبور، وليس فيها شدّ رحل ولا سفر؛ تعيّن حمل اللفظ على معنى واحد؛ وهو الزّيارة من غير سفر ولا شدّ رحل ـ كما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ، وهذا كافٍ في التّخصيص؛ فكيف وقد جاء المخصّص لهذا العموم ـ وهو حديث الصحيحين (كما مرّ ذكره) ـ؟! وقوله: «فإن كانت كل زيارة قُربة؛ كان كلّ سفر إليها قربة» : صحيحٌ لو سلمت هذه الزّيادة من التّخصيص المتقدّم ذكره ـ وهو: نهيه صلى الله عليه وسلم عن إعمال المطي إلى غير المساجد الثّلاثة ـ؛ فعليه؛ لا يكون السّفر لمجرد الزّيارة قُربة، وكيف يكون قُربة وينهى عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يفعله ولو في العمر مرّة، ولا يفعله أحد من أصحابه؟! وهل يقول

نقض دليل القياس الذي توهمه المعترض- السبكي-

عاقل هذا القول؟! فعُلِمَ بها عقم هذه النتيجة. والله المستعان. وقوله: «إذا جاز الخروج إلى القريب؛ جاز إلى البعيد» : فانظر إلى تخليط هذا الرّجل وتغافله واتّباع هواه! كيف يجوّز ويمنع برأيه من غير نصّ ولا استناد إلى فعل أحد من الصحابة الذين هم أعلم النّاس بمقاصد نبيّهم؟! فإذا كان السّفر وشدّ الرّحل إلى القبور جائزًا؛ فلِمَ لم يفعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومَن بعده؟! فهل كانوا لا يعلمون جواز ذلك؛ فقصّروا في فعل أمر هو قُربة من القرب، وفعله السُّبكيّ وأضرابه؟! فنبرأ إلى الله من الاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فهذا هو التنقيص لهم بعينه، لا الذي يتمسّك في جميع الأمور الدينيّة بالكتاب والسُّنّة وأفعال الصّحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ؛ فقد عسكوا الأمر بجعلهم المتمسّك بنصوص الشّريعة المطهّرة، المقدّم لها على رأي كلّ أحد من النّاس؛ ضالًّا بدعيًّا! والذي يجعل نصوص الشّريعة تابعة لرأيه وآراء متبوعه؛ هاديًا مهديًّا، معظّمًا لله ـ تعالى ـ ونبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ! سبحانك هذا بُهتانٌ عظيمٌ! والآثار التي ذكرها عقب هذا، الدّالّة على خروجه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لزيارة قبور الشّهداء؛ صحيحة، ولكن ليس فيها سفر ولا شدّ رحل؛ فكيف يستدلّ بها على جواز شدّ الرّحل والسّفر المتنازَع فيه؟! فقد علمتَ ـ بما سلفَ ـ أنّ هذا المعترض لا حُجَّة له في السُّنَّة الصّحيحة على ما ذهب إليه، كما أنّه لا حُجَّة له في الآية الشّريفة التي استدلّ بها على مقصوده، بل القرآن والسُّنَّة الصّحيحة يصادمان ويناقضان مقصوده أشدّ تصادُم. فصل وأما الأصل الثالث (وهو: القياس) ـ وكان حقّه أن يؤخّر عن (الإجماع) ؛ لأنه يليه في الرُّتبة، ولكن حيث أنّه قدّمه هو فوجب أن نتكلّم عليه ـ؛ وهو قوله: «وإذا ثبت مشروعيّة الانتقال إلى قبر غيره؛ فقبره صلى الله عليه وسلم أولى» . وجوابه أن يُقال: هذه مُغالطة بيّنة؛ لأنّا نقول: الذي ثبت مشروعيته إنَّما

هو زيارة القبور لتذكّر الآخرة، والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها والاستغفار، من غير سفر ولا شدّ رحل؛ فإن جعلنا هذا الأصل وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم مقاسة على هذا الأصل؛ فلا يُشرع لها السّفر ولا شدّ رحل، كما أنّه لا يشرع ذلك للأصل والفرع تبعًا للأصل؛ فلا يكون الفرع مختصًّا بأشياء على أصله؛ وإلا لاختلّ القياس، والزيارة المُجرّدة عن شدّ الرّحل والسّفر، سواء كان زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره لا ينكرها شيخ الإسلام ابن تيمية؛ بل يستحبّها ويندب إليها ـ كما ذكر ذلك في غير كتاب من كتبه ـ، ولكن منع شدّ الرّحل والسّفر إليها إذا كانت مجرّدة من غير قصد شيء آخر؛ اتباعًا لظاهر الحديث الصحيح المتقدّم، وموافقته لأئمة السلف، وعند التأمّل تجد الخلاف بينه وبين مخالفه يسيرًا جدًّا لا يحتاج إلى تأليف كتاب؛ لأنه يقول هو ومَن تقدّمه بهذا القول: ينبغي لمن شدّ رحله وسافر إلى المدينة المنوّرة ـ على ساكنها أفضل صلاة وأزكى تحيّة ـ أن يقصد بسفره وشدّ رحله الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، ثم إذا أتى إلى المسجد الشّريف صلَّى فيه، ثم انثنى لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه وقبور أهل البقيع وغيرهم، والمسافر لهذا القصد مخيَّر إمّا أن ينوي الزيارة مع الصلاة في المسجد الشريف حال شدّ الرّحل، أو يؤخّرها حتى إذا وصل نواها وفعلها ـ عملًا بالحديث الصحيح الوارد في ذلك، وخروجًا من خلاف العلماء ـ؛ فأي ملامة تلحق هذا الإمام على قوله هذا؟! بل كلّ منصف يعلم أنّ هذا القول هو الأحوط، ولكن هذا السّبكيّ وأضرابه أرادوا أن يوسّعوا الخرق بكثرة القلاقل، ويعظّموا هذا الأمر بشيء لا طائل تحته ولا فائدة فيه إلا التّفرّق والاختلاف بين المسلمين، حتى أدّى ذلك إلى معاداة وتباغض، وغير ذلك من المفاسد التي لا يحصيها إلا الله ـ عزّ وجلّ ـ، وشنّعوا على هذا الإمام بغير حقّ ـ كما علمتَ ـ. وفي الحقيقة ما شنّعوا عليه فقط؛ بل على أبي هريرة، وبصرة الغفاريّ، والشعبيّ، وابن سيرين،

وإبراهيم النخعيّ، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة ـ الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «تُضرب أكباد الإبل فلا يجدون عالمًا سوى عالم المدينة» ؛ فحمل هذا الحديثَ أهلُ العلم على هذا الإمام؛ وذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ـ، وابن الجوينيّ، والقاضي حسين، وطائفة غيرهم. فلو فَقِهَ هذا المعترض وأضرابه ما قلناه؛ لم يتسرّع إلى الطعن في عرض الإمام محيي السُّنّة الذي شهد بفضله واجتهاده سبعون مجتهدًا في زمانه، لم يشهد منهم أحد بهذا للسبكيّ ـ الذي تصدّى للرّد عليه ـ؛ بل قام في وجهه كثير؛ مثل: الإمام الصرصريّ، والإمام اليافعيّ الشافعيّ، وغيرهما؛ يعلم هذا مَن رجع إلى كتاب «الرّد الوافر» لناصر الدّين الدمشقيّ، وكتاب «الكواكب

الدّريّة» للشيخ مرعي. والذي يظهر لي: أنّه ما حمل السبكيّ على الرّدّ على هذا الإمام ـ الذي علمتَ فضله بشهادة أهل العلم النّبويّ ـ إنّما هو محضّ التّعصّب والحسد؛ لأنّه لم يفعل ذلك مع الذين تكلّموا في الدّين بالكلمات الكفريّة؛ بل جعلوهم أولياء لله، وأوّلوا كلامهم بما يوافق أهواءهم تأويلًا كاسدًا يخالف ما عليه المسلمون؛ فهذا الغزاليّ الذي قال: «ليس في الإمكان أبدع مما كان» ، وهو القائل أيضًا: «مَن لا منطق له لا ثقة بعلمه» ، ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما كانوا يعلمون المنطق؛ بل صحّ النّهي عنه عن الشافعيّ ومالك؛ فهل يقول مسلم: لا ثقة بعلم مالك والشافعيّ؟! وهذا ابن عربيّ القائل: «والعبد رب والرب عبد؛ ليت شعري مَن المكلّف؟» ، وهذا ابن عطاء الله السكندريّ القائل في حكمه: «طلبك منه اتهام له» ، وقوله فيها أيضًا:

«اشتغالك بما ضمن لك دليل على انطماس البصيرة منك» ، ومعلوم لدى كلّ أحد أنّ الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ وغيرهم من صالحي هذه الأمّة أنّهم كانوا يطلبون من الله ـ تعالى ـ ويسألونه حوائجهم، ويطلبون المعيشة والكسب والعمل؛ فهل يقول مسلم: إنّ هؤلاء اتهموا الله ـ تعالى ـ بطلبهم منه حوائجهم، وانطمست بصائرهم بالاشتغال في أمر معيشتهم؟! فيا لله العجب! هؤلاء يُعَدُّون من الأولياء، ويُؤوّل كلامهم هذا، وشيخ الإسلام لا يُعذر في كلامه! لو فرضنا أنّه أخطأ في مسألة من المسائل، والحال قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنّه مأجور؛ حيث يقول: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن اجتهد وأصاب فله أجران» . ومعلوم ـ عند المخالف والموافق ـ أنّ هذا الإمام ما تكلّم في مسألة ما إلا بالدليل الشّرعيّ؛ فلا ملامة عليه إن أخطأ؛ لأنّه من أهل الاجتهاد، ولكن كما قال الشاعر: الرّضا عن كلّ عيب كليلة ... كما أنّ عين السّخط تُبدي المساويا وكما قال الآخر: إذا كان المحبّ قليل حظّ ... فما حسناته إلا ذنوب فيجب على كلّ أحد ألَّا ينتصر لأحد غير الله ورسوله بمجرّد اتباع الهوى والعصبيّة الجنسيّة أو المذهبيّة، ويكون قيامه بنصر الحقّ بالحقّ حتى يكون محبوبًا لله ورسوله وللمؤمنين؛ فنسأله ـ تعالى ـ أن يتضمنا في سلك عباده المتّقين.

الرد على المعترض- السبكي- في حكاية الإجماع وأن الناس لا يسافرون إلا لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -

فخلاصة القول في هذا الأصل الثالث (وهو: القياس) أَن يُقال: إذا جعلنا الأصل مشروعيّة زيارة القبور بالنّصوص الشرعيّة الصحيحة، وزيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم مقاس عليها؛ فلا يُشرع في المقاس زيادة على أصله؛ لأنّ الأصل لم يشرع فيه شدّ رحل ولا سفر؛ وإنّما شُرع فيه الزيارة المُجرّدة عنهما؛ فالمقاس عليه مثله. وعند التّحقيق يظهر أنّه لا قياس؛ لأنّا نقول: لفظ «زوروا القبور» لفظ عام يشمل كلّ قبر حتى قبره صلى الله عليه وسلم وقبر غيره من الأنبياء والمرسلين ـ صلوات الله عليهم ـ، ولكن لم يرد دليل في الشّرع على استحباب شدّ الرّحل والسّفر لمجرد زيارة القبور من غير قصد شيء آخر؛ فلم نقل به، وإن كان لفظ الأمر يشمل السّفر وشدّ الرّحل للزّيارة، والزّيارة من قرب ومن بعد ـ كما قال السّبكيّ ـ، ولكن فعله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور يخصّص هذا العموم، ويصيره قاصرًا على الزّيارة من غير سفر ولا شدّ رحل؛ إذ لو كان هذا مستحبًّا لم يتركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من بعده مع وجود القبور البعيدة في زمانهم، وهذا لو فرض عدم مجيء النهي في ذلك؛ كيف وقد جاء النّهي مصرّحًا ـ كما تقدّم ـ؟! والله الموفّق. فقد تبيّن بما قلناه أنّ السّبكيّ لا دليل له من القرآن، ولا من السُّنّة الصّحيحة، ولا من القياس المعتبر؛ على استحباب شدّ الرّحل والسّفر للزّيارة المُجرّدة عن كلّ قصد سواها ـ كما علمتَ ـ. فصل الأصل الرّابع (الإجماع) ـ وإليه الإشارة بقوله: «وأمّا الإجماع: لإطباق السّلف والخلف؛ فإنّ النّاس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجّ يتوجّهون إلى زيارته صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره» ـ. فجوابه من وجوه: الأول: هذا الإجماع لا حُجّة فيه؛ لأنّه محتمل أنّهم يتوجّهون عقب الحجّ إلى الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وبعدها يزورون قبره صلى الله عليه وسلم، وقصدوا مع السّفر للصّلاة في المسجد الشّريف الزّيارة، ونحن لا ننازع في هذا، ويحتمل على سبيل التّنزّل مع السّبكيّ أنّهم قصدوا بسفرهم الزّيارة المُجرّدة عن الصّلاة في المسجد وغيرها من

أنواع القرب، فإذا كان هذا السّفر محتمل لجميع هذه المعاني كلها؛ فليس حمله على معنى منها بأولى من حمله على غيره، وقد تقرّر عند أهل الأصول: أنّ «الدّليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال» ؛ فلا حُجّة له حينئذ في هذا الإجماع، وهذا لو سلمنا للسّبكيّ أنّ هذا إجماع، وكيف يسمّى إجماعًا وقد شرط أهل الأصول للإجماع شروطًا، وبيّنوا ما يسمى إجماعًا وما لم يُسَمّ، وقد اختلف المسلمون في الاستدلال بالإجماع؛ فقال بعضهم: لا حُجّة فيه إذا كان مخالفًا للكتاب والسُّنّة، وبعضهم قال: معرفته ليست ممكنة، ولهم في هذا تفاصيل كثيرة، وإليك بعض ما قالوه: (مبحث الإجماع) : يتُكَلَّم في الإجماع من وجوه: كبيان معناه شرعًا، وبيان جواز وقوعه، وإمكان العلم به ونقله، وبيان ركنه وشروطه، وحجّيته، ومستنده، ومراتبه. الإجماع شرعًا: اتفاق مجتهدي أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في عصر على حكم شرعيّ، وليس هو ولا العلم به ولا نقله إلينا مستحيلًا؛ فإنَّا قاطعونت بإجماع أهل كلّ عصر على تقديم القاطع على المظنون، حتى صار ذلك من ضروريّات الدّين، ولا اعتبار بخلاف النّظَّام وبعض الشيعة في ذلك ـ مستندين لأمور واهية ـ. ركن الإجماع: تكلُّم المجتهدين على الحكم في العصر الذي حصل الإجماع فيه أو فعلهم كما أجمعوا عليه كذلك، كشروعهم في المزارعة والمساقاة، أو تكلُّم البعض أو فعلُه وسكوت الباقي بعد علمه، ومُضِيّ مدّة التّأمّل التي أقلّها ثلاثة أيام. انتهى من كتاب «أقرب طرق الوصول إلى قواعد علم الأصول» . والحاصل: أنّ للأمّة كلامًا كثيرًا في الإجماع، ونحن نقول بجواز وقوعه وحُجّيته، ولكن أي دليل لهذا المعترض فيما ادّعى فيه أنّه إجماع، والحال قد نقضه هو بنفسه ـ كما سنبيّنه ـ. وقبل المناقشة معه نذكر لك أمورًا تعلم منها أنّ هذا ليس إجماعًا؛ وهي: أنّهم قد عرَّفوا الإجماع بأنّه: «اجتماع مجتهدي هذه الأمّة على حكم شرعيّ، لا يُعلم لهم مخالف في هذا الحكم» ، ومعلوم أنّ مسألتنا هذه ليس لها نصيب من هذا التّعريف؛ لأنّ الخلاف فيها مشهور

معروف بين السّلف والخلف، وقد بيّنّا ـ فيما مضى ـ نقل الخلاف بينهم؛ فممّن لم يجوّز شدّ الرّحل والسّفر إلى غير المساجد الثّلاثة من الصّحابة: أبو هريرة وبصرة الغفاريّ، وممّن كره زيارة القبور من التّابعين ومَن بعدهم: محمد بن سيرين، وإبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، ومالك بن أنس ـ إلَّا أنّه نُقِلَ عنه الرّخصة في زيارتها ـ. فإن قلتَ: إنّ التّابعين الذين كرهوا زيارة القبور لم يكرهوا زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فالجواب: الذين نقلوا عنهم كراهة ذلك لم يذكروا استثناء؛ فعُلِمَ أن ترك الاستثناء يفيد كراهة العموم. وأما إمامنا مالك بن أنس؛ فقد نقل عنه صاحب «المبسوط» كراهة الزيارة مطلقًا ـ كما بيّنه الحافظ ابن عبد الهادي ـ. وممّن نُقل عنه كراهة شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور من غير استثناء من المتأخّرين: ابن الجوينيّ، والقاضي حسين، وطائفة ـ كما ذكره الغزاليّ في «الإحياء» ، والنّوويّ في «شرح مسلم» ، وشيخ الإسلام ومَن وافقه من أهل زمانه ـ. فإذا تبيّن لك هذا؛ علمتَ أنّ المسألة ذات خلاف قديمًا وحديثًا، وأنّها ليست من الإجماع في شيء، ودعوى السّبكيّ أنّها من المسائل المجمع عليها في غاية السّقوط والبعد بما بيّنّاه، ولا أدري: هل هذا المعترض كان يجهل معنى الإجماع أو يتجاهل؟! والذي يظهر لي: أنّه كان يتجاهل؛ لأنّ معنى الإجماع لا يخفى على مثله، ولكن حمله على ترك بيانه تعصّبه على شيخ الإسلام، وكيف يجعل معناه وهو نفسه قد نقل الخلاف في زيارة القبور، وقبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم داخل بالعموم، وقد

صرّح به مالك ـ كما تقدّم ـ، ولكن اتّباع الهوى يحمل الإنسان على إنكار الحقّ! فنعوذ بالله من اتّباع الهوى. فقد علمتَ بما تقدّم من تعريف الإجماع ـ وأنّه: «اتّفاق مجتهدي هذه الأمّة في عصر على حكم شرعيّ» ـ؛ فعُلِمَ بهذا التّعريف: أنّه لو خالف واحد لا يُسمّى إجماعًا؛ فكيف وقد خالف عدد كبير، وقد ذكرنا أسمائهم فيما مضى؟! والذي يظهر ويتّجه: أنّ شيخ الإسلام هو السعيد بدعوى الإجماع لو ادّعاه، وإليه يرشد قول مالك في «المبسوط» حيث يقول: «أكره أن يقول الرجل: زرنا قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم» . ومن المعلوم أنّ مالكًا من أجلَّاء علماء المدينة، وقبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ فلو كانت هذه التّسمية سائغة ذائعة عند السّلف؛ ما أنكرها مالك؛ فدلّ قول مالك أنّ أهل المدينة لم يعرفوا لفظة زيارة القبر الشّريف؛ وإلَّا لو كانوةا يعرفونها لما جاز لمالك كراهتها. فإن قلتَ: إنّما كره مالك لفظة: «زرنا قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم» لما فيها من التّحقير؛ فالأولى أن يقولوا: حججنا وقصدنا قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أوَّل [ما قاله] مالك بهذا التأويل خلقٌ من أتباعه. فالجواب: أنّ مالكًا أجلّ وأعظم قدرًا من أن يتنزّل إلى مثل هذا؛ لأنّ مثل هذا القول لا يصدر إلّا عن رجل جاهل بالكتاب والسُّنّة ولغة العرب، وحاشا أن يكون مالك جاهلًا بلغة قومه؛ فإنّ لفظة (الزّيارة) استُعْمِلَت بكثرة في القرآن والسُّنّة ولغة العرب؛ [فمما] ورد في السُّنّة: «زيارة المؤمنين ربّهم في الجنّة» ؛ فهل يقول أحد في مثل هذا: لا يُقال ذلك لأنّه يُشعر بالتّحقير، وأنّ الزّائر أفضل من المزور؟! اللهمّ إلَّا أن يكون هذا القائل مُتَفَيقهًا أو مُتَمَعْلِمًا؛ فإنّ العالم بالفقه هو الذي يعرض ما يقوله على الكتاب والسُّنّة ولغة العرب، ومالك أجلّ قدرًا من أن يقصد بقوله هذا المعنى، وكيف يقصد هذا التّأويل المخالف لما عليه عامّة أهل اللّسان العربيّ، وينُكر لفظًا

وردت به السُّنّة المطهّرة في زيارة المؤمنين لربّهم ـ كما تقدّم ـ، ووردت في الأحاديث الضّعيفة التي أوردها السّبكيّ للاستدلال على مشروعيّة الزّيارة؟! فهل يكون مالك أعلم بلغة العرب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد نطق بها ورواها عنه أصحابه من غير تأويل كما أوَّلها هؤلاء المتشدّدون؟! فما هذا إلَّا جناية على الله ورسوله وأئمّة الدّين، ولو كان ما أوَّلُوا به مقالة مالك صحيحًا؛ لجاء ذلك في القرآن والسُّنّة؛ لأنّ لفظة (الحجّ) ما جاءت في القرآن والسُّنّة إلَّا للبيت الحرام؛ فانظر ـ رحمك الله ـ كيف أدّى الجهل بالمسلمين إلى مثل هذا حتى صنّفوا كتابًا سمّوها «حجّ المشاهد» ـ يريدون بذلك: زيارة قبور الصّالحين ـ؛ فترفَّعُوا عن قولهم: زرنا قبر فلان ـ علمًا منهم أنّ هذا تحقيرًا له ـ؛ فعدلوا به إلى قول: حججنا! فمَن وصل به الجهل إلى مثل هذه ـ كما علمتَ ـ. بل هي من المسائل المتنازَع فيها قديمًا وحديثًا، وشيخ الإسلام لم ينكرها؛ بل هو مسبوق بها؛ وإنّما اختار منها القول الذي ذكرناه عنه، وانتصر له بالدليل الشّرعيّ والنظّريّ، ولا مَلامة تلحقه في ذلك؛ لأنّه مجتهد، وليس من شرط المجتهد أن يوافق فيما اجتهد فيه أحدًا من النّاس؛ بل له أن يجتهد في الحكم الشّرعيّ ـ وإن خالف غيره من المجتهدين ـ؛ فهذا أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد وغيرهم من أئمّة الدّين؛ كلّ منهم قد خالبف مسائل لا يوافقه عليها أحد غيره؛ فهل قال أحد: لا يُقبل اجتهاده فيما خالف فيه غيره؛ فكلٌّ منهم مأجور ومعذور فيما أخطأ فيه، وقد قدّمنا أنّ هذا الإمام قد شَهِدَ له بالاجتهاد المطلق سبعون مجتهدًا في زمانه؛ فلا بدع إن خالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل؛ كيف وقد علمتَ مَن وافقه عليها من السّلف والخلف، ومَن تتبّع كتب المتقدّمين؛ وجد فيها ما قلناه، وأنّهم كانوا يستعملون بعد أداء النُّسُك لفظ: (قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم) ـ كما حكاه السّبكيّ وغيره ـ؛ فلم يستعمل لفظ (الزّيارة) بعد الحجّ إلا المتأخّرون وقليل من المتقدّمين من أهل الحديث، لم يذكروا منها لفظًا واحدًا في كتبهم؛ بل اقتصروا فيها على ذكر فضل المساجد الثّلاثة، والنّهي عن شدّ الرّحل [لغيرها]ـ بعد كتاب المناسك ـ؛ فهذا الإجماع لو ادّعاه أحد؛ لكانت له شبهة قويّة؛ فممّن لم يذكر لفظة (الزّيارة) في كتابه ـ بل اقتصر على ما قلناه ـ: البخاريّ، ومسلم، ومالك، والنّسائيّ، والتّرمذيّ، وابن ماجه، وخلق سواهم، وأمّا أبو داود فقد ذكرها، ولكنّه لم يستدلّ

بشيء من هذه الأحاديث؛ بل استدلّ بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا سَلَّم عليَّ أحد عند قبري؛ ردَّ الله عليّ روحي حتّى أرُدَّ عليه السّلام» ـ أو كما قال ـ، وقوله: «فإنّ النّسا لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجّ يتوجّهون إلى زيارته صلى الله عليه وسلم» . أقول: هذا الذي ذكره مَن توجّه النّاس في كلّ عام بعد قضاء الحجّ صحيح، ولكن مِن أين لهم علم سرائرهم وأنّهم ما يتوجّهون إلَّا للزّيارة المُجرّدة عن كلّ قصد سواها ـ كالصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ـ؟! فإن قال: إنّ النّاس يقصدون بتوجّههم هذا الزيارة مع الصّلاة في مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد وافق شيخ الإسلام ولا نزاع حينئذ؛ فإنّ شيخ الإسلام قائل بذلك. وإن قال: لا يتوجّهون إلَّا لقصد الزّيارة ليس إلَّا؛ فقد خالف بقوله هذا ما عليه المسلمون، وجنى عليهم جنابة عظيمة بتحكّمه على مقاصدم ونيّاتهم التي لا يعلمها إلَّا خالقهم، والحال أنّ أفعالهم في المدينة تبيّن لكلّ أحد مقاصدهم؛ فإنّهم إذا شدُّوا الرّحل وسافروا إلى المدينة المنوّرة أتوا مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصلُّوا فيه، ثم انثنوا بعد ذلك إلى زيارة القبر المعظم، وكذا قبر أبي بكر وعمر، وهذا الذي يقوله شيخ الإسلام وعامّة المسلمين، ومَن تأمّل حال النّاس اليوم وقبل اليوم؛ عَلِمَ يقينًا أنّهم لا يفعلون غير ما وصفنا، سواء في ذلك العالم منهم والجاهل من غير فرق. وقوله: «معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة» : أقول: نعم ـ وبه يقول شيخ الإسلام ـ إذا كان شدّ الرّحل والسّفر إلى ما وصفنا، وهو ـ ولله الحمد ـ لا يفعل غيره؛ فإنّ العالم من النّاس لا يتوجّه إلَّا لقصد الزّيارة والصّلاة في المسجد ـ كما علمتَ ـ،

والجاهل ـ وإن قصد بسفره غير ذلك ـ فهو ـ ولله الحمد ـ لا يفعل إلَّا ما يرى العلماء يفعلونه من الصّلاة والزّيارة وغير ذلك، ومعلوم لدى كلّ منصف أنّ العبرة بفعل العلماء ومقاصدهم، وأمّا الجاهل فلا التفات لفعله ولا لقصده؛ فإنّ العوام تبعٌ للعلماء، وقد نظرنا في كتب العلماء قديمًا وحديثًا فلم نجد فيها غير ما وصفنا، ولم نجد فيها أحد يقول: لا يقصد بالسّفر وشدّ الرّحل إلَّا للزّيارة من غير قصد إتيان المسجد والصّلاة فيه، ولو قاله أحد لكان بقوله هذا معلنًا بين العلماء لما يلزم على قوله هذا من مخالفة الحديث الصّحيح المتّفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» . فعلى قوله هذا: لا يلزم أحد أن يأتي مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يُصَلِّي فيه، فإن عمَّم المسجدين الآخرين؛ فقد تغالى في مخالفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وإن قال: بل يُشدّ الرّحل إلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأما مسجده صلى الله عليه وسلم لا يُقصَد بشدّ الرّحل ولا بالسّفر؛ بل يُقصد بالزّيارة للقبر الشّريف فقط؛ فقد شَهِدَ بجهله وفضيحته أمام العلماء، وكلّ أحد له أدنى فهم يعلم بطلان هذا القول. وإن قال: أنا لا أقول ذلك؛ وإنّما أقول: يقصد بسفره المسجد والزّيارة، فإذا وصل يُصَلِّي في المسجد الشّريف، ثم يزور قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقد رجع عن قوله ووافق شيخ الإسلام وغيره. فقط يبقى بينه وبينهم خلاف قليل في النّيّة، لا تأثير له إذا كان الفعل مُطابقًا على فعل مَن نوى بسفره الزّيارة والصّلاة في المسجد ـ كما علمتَ ـ؛ فتأمّل. وقوله: «وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرق ومغاربها على مرّ السّنين، وفيهم العلماء والصُّلحاء وغيرهم؛ يستحيل أن يكون خطأ» : أقول: [ما] ذكره إن

تقسيم المؤلف السفر وشد الرحل إلى ثلاثة أقسام

أراد به إطباقهم على ما وصفنا؛ فهو صحيح، وعليه يدلّ ما ذكروه في مصنفاتهم قديمًا وحديثًا ـ كما سبق ـ، ورأيناه في فعلهم، لا فرق في ذلك بين عالم وجاهل، وهذا هو الذي يستحبّه شيخ الإسلام ابن تيميّة وغيره. وإن أراد بهذا الإطباق أمرًا آخر غير ما ذكرنا؛ بأنّهم أطبقوا على شدّ الرّحل والسّفر إلى الزّيارة المُجرّدة من غير أن يُصَلِّي في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فهذا ـ وايم الحقّ ـ قول لا يقول به أحد من العلماء، ولا يفعله أحد، ولو كان من أجهل الجاهلين؛ بل رأينا ـ ولله الحمد ـ كلّ أحد يفعل ما قاله شيخ الإسلام وغيره من إتيان المسجد الشّريف ويُصَلِّي فيه، ثم يزور قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وإن عجز عن تعبير ما في ضميره؛ فعُلِمَ بهذا أنّ السّلف والخلف متّفقون ومجمعون على ما ذهب إليه شيخ الإسلام قولًا وفعلًا؛ فأمّا القول: فما ذكروه في كتبهم من صفة الزّيارة، وإن اختلفت عباراتهم، وأمّا الفعل: فكما رأيناه وسمعناه نحن ومَن قبلنا، ولا تكاد ترى أحدًا يفعل سوى ما ذُكِرَ في كتب العلماء من صفة الزّيارة، وهذا الذي وصفناه وذكرناه هو الإجماع الذي يستحيل معه الخطأ، وشيخ الإسلام أسعد به من مخالفه. والله الموفّق. والذي يتحصّل من هذ االكلام الطويل؛ أنّ في المسألة ثلاثة أقوال: الأول: شدّ الرّحل والسّفر يُقصد به الزّيارة والصّلاة في المسجد. الثاني: شدّ الرّحل والسّفر بنيّة الزّيارة فقط، وإذا وصل هذا المسافر المدينة أتى المسجد وصلّى فيه، وزار قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم. الثالث: شدّ الرّحل والسّفر إلى الزيارة المُجرّدة، من غير قصد الصّلاة في المسجد، والتّمادي على هذه النّيّة حتى يزور، من غير أن يُصَلِّي في المسجد، ثم ينصرف.

فالقول الأول: هو الأحوط والأولى، وعليه يدلّ كلام أهل العلم قديمًا وحديثًا، ولا تكاد ترى في كتب العلماء غيره، وإليه أشار السّبكيّ فيما يأتي، وعليه يدلّ الحديث الصحيح ـ وهو: «لا تُشَدُّ الرِّحال ... » الحديث ـ. وأما القول الثاني: فهو ـ وإن خالف القول الأول بتركه نيّة الصّلاة مع الزّيارة حال شدّ الرّحل ـ؛ لكنّه وافق في فعل ما هو المطلوب؛ فهذا أرجو أن لا بأس به؛ لأنّ المقصود من شدّ الرّحل والسّفر قد حصل ـ وهو الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره الشّريف ـ، وإن لم ينوِ الصّلاة حال شدّ الرّحل. وأما القول الثالث: فهذا مخالف لما عليه عامّة المسلمين، وأظنّ لا أحد يقوله، اللهمّ إلَّا مَن غلا في العِناد وترك السُّنّة. فأمّا القولان الأولان فيقول بهما شيخ الإسلام ابن تيميّة، وعليهما يدلّ كلامه، ويرى أنّ السّفر وشدّ الرّحل على هذين القولَين قُربة. فإن قلتَ: قد نقل النّاس عنه أنّه كان يفتي بتحريم شدّ الرّحل والسّفر للزّيارة المُجرّدة عن الصّلاة في المسجد الشّريف. فالجواب: نعم؛ أفتى بذلك، ومقصوده بالتّحريم إذا تمادى المسافر على هذه النّيّة حتى وصل المدينة، وزار قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وانصرف من غير أن يُصَلِّي في مسجده الشّريف ـ كما أشرنا إليه في القول الثالث ـ. وأمّا لو نوى الزّيارة حال شدّ الرّحل فقط، ولكنّه لما وصل المدينة فعل ما هو المطلوب من الصّلاة في المسجد والزّيارة؛ فهذا لا يحرم السّفر لمثله؛ فهو ـ وإن كان السّفر بهذه النّيّة غير مشروع؛ لأنّ زيارة القبور المُجرّدة عن كلّ قصد سواها لا يشرع؛

بل يكون معصية مخالفة لنصّ الحديث الصحيح ـ، ولكن حيث إنّه لما فعل ما هو المطلوب والمقصود من شدّ الرّحل والسّفر كالصّلاة والزّيارة ـ كما تقدّم ـ؛ قلنا بأنّ هذا السّفر قربة من القُرب. فإن قلتَ: هذا مشكل جدًّا؛ كيف يكون السّفر بقصد الزّيارة المُجرّدة عن كلّ شيء سواها معصية، ثم إذا أتبعها بقصد شيء آخر يكون قُربة؟! أقول: لا إشكال هنا؛ فإنّ هذا له أمثلة جاء الشّرع بها: فمنه: قوله ـ تعالى ـ في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلَّا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا * إلَّا مَن تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} . فانظر؛ كيف بدَّل الله لمن تاب عن الأعمال السّيئة وعمل عملًا صالحًا السّيئة حسنة! ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن هَمَّ بحسنة فعملها كُتِبَت له عشر حسنات، ومَن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كُتِبَت له حسنة» . فانظر؛ كيف كتب الله له همّه بالسّيئة ـ وهو معصية ـ حسنة؛ حيث إنه تركها ولم يعملها. ومسألتنا هذه ـ وإن كانت ليس من هذا الباب من كلّ وجه ـ؛ ولكن لما كان السّفر لمجرد زيارة القبور غير مشروع؛ بل هو معصية لمخالفة الحديث الصّحيح، ولكن فعل ما هو المراد والمقصود من شدّ الرّحل والسّفر ـ وهو الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ـ؛ فإنّ ذلك مشروع ومطلوب. وأمّا الزّيارة فهي مشروعة أيضًا، ولكن لم يشرع لها شدّ رحل ولا سفر، بخلاف الصّلاة في المساجد الثّلاثة، فلما فعل هذا ما ليس مشروعًا ثم أتبعه بفعل ما هو المشروع والمرغّب فيه؛ انقلب سفره هذا طاعة بعد أن كان معصية؛ لأنّه صار حينئذ وسيلة إلى ما هو مشروع؛ إذ الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم مشروع لها السّفر، وحيث إنّ هذا لم يقصده بالسّفر، ولكن فعل ما هو المراد من السّفر، وزار القبر الشّريف وغيره من القبور ـ وزيارتها

السبب الذي أدى شيخ الإسلام للكلام على مسألة شد الرحل

مشروعة له إذا وصل ـ؛ فلا شكّ أن يكون فعله هذا كله طاعة وتقرُّبًا إلى الله ـ عزَّ وجَلَّ ـ؛ فتفطّن، والله يؤيّدك. فصل واعلم أنه لم يكن من غرض شيخ الإسلام الكلام في هذه المسألة؛ ولكن اضطرّ للكلام فيها لما سُئِلَ عن حكم شدّ الرّحل والسّفر إلى قبور الأنبياء والصّالحين؛ فأفتى بعدم جوازه؛ محُتجًّا على ذلك بحديث الصحيحين المتقدّم؛ فجادله خصماؤه؛ مُحتَجّين عليه بالأحاديث المتقدّمة المتضمّنة لاستحباب شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ومشروعية زيارته؛ وقالوا له: إذا كان هذا مشروعًا في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم؛ فقبور غيره من الأنبياء والصّالحين مُقاسة عليه؛ فانجبر على الكلام في هذه المسألة، وتكلّم على الأحاديث التي أوردوها، وبيَّن ما فيها من صحيح وضعيف وموضوع، وأنّ الصّحيح منها لا يُفيد مشروعيّة شدّ الرّحل والسّفر بقصد الزّيارة، والضّعيف منها لا يفيد إلَّا مشروعيّة الزّيارة المُجرّدة عن شدّ رحل وسفر، وذلك بعد جمع طرقه ـ جريًا على القول بأنّ الحديث الضّعيف يُعمل به إذا كثرت طرقه وتعددت ـ، وأنتَ خبير بأنّ قبور غيره لا تُقاس عليه؛ لأنّا نقول: المسافر إلى المدينة إمّا بنيّة الزّيارة وحدها فقط، وإمّا بنيّة الزّيارة والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وعلى كلٍّ؛ فلا بُدّ أن يأتي المسجد الشّريف ويُصَلِّي فيه، ثم يزوروها؛ فالمقصود من شدّ الرّحل والسّفر إلى المدينة قد حصل، نوى ذلك أم لم ينوِه. وأمّا المسافر إلى قبور الأنبياء والصّالحين فلا قصد له إلَّا الزّيارة، ولا شيء هناك يقصد سواها، فلما علمنا ذلك؛ نظرنا في قوله وفعله صلى الله عليه وسلم؛ ولم نجد إلَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» ، وقوله: «زوروا القبور؛ فإنّها تُذَكِّر الآخرة» ، وهذا لا يفيد إلَّا العِظَة وتذكّر الآخرة، ولا يختصّ به قبر دون قبر؛ بل أي قبر زاره ورآه حصل له ذلك، وأي بلد من بلدان المسلمين حتّى الكافرين خالية من المقابر؛ فليس في السّفر إلى زيارة القبور فائدة؛ لأنّ المقصود من زيارة القبور يحصل من القريبة كما يحصل من البعيدة؛ إذًا العِلّة واحدة. وتتبّعنا فعله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور؛ فلم نجد فيه أنّه صلى الله عليه وسلم شدّ رحله وسافر إلى زيارة قبر أحد الأنبياء والصّالحين؛ بل اقتصر على زيارة أهل البقيع

والشّهداء ممن كانت قبورهم بالمدينة، وكذا تتبّعنا آثار أصحابه صلى الله عليه وسلم؛ فلم نجد فيها أحدًا منهم فعل ذلك؛ فعلمنا قطعًا أنّ شدّ الرّحل والسّفر لزيارة القبور غير مشروع أصلًا؛ إذ لو كان مشروعًا لما تركه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، [ولفعله ولو] مرة واحدة في عمره، وكذا أصحابه من بعده ـ كما تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق ـ. والله الهادي. وأمّا قوله: «فإن قلتَ: إنّ هذا ليس مما يُسَلِّمه الخصم؛ لجواز أن يكون سفرهم ضُمَّ فيد قَصد عبادة أخرى إلى الزّيارة، بل هو الظّاهر؛ كما ذكر كثير من المُصَنّفين في المناسك: أنّه ينبغي أن ينوي مع زيارته التّقرّب بالتّوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصّلاة فيه، والخصم ما أنكر أصل الزّيارة؛ إنّما أراد أن يبيّن كيفية الزّيارة المستحبّة؛ وهي أن يضُمّ إليها قَصد المسجد ـ كما قاله غيره ـ» : أقول: هذا الذي ذكره العلّامة السّبكيّ هو الذي ذكره عامّة المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في صفة الزّيارة، حتى المتعصّبون على شيخ الإسلام ـ كابن حجر المكيّ؛ في شرحه لـ «مناسك النّوويّ» ، وكتابه «الجوهر المنظم» ـ، وهو الذي قال به شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فأيّ إجماع أعظم من هذا؟! وقد شهد به السّبكيّ نفسه؛ فلا خلاف ـ حينئذ ـ بين شيخ الإسلام وبين غيره من سائر العلماء من المتقدّمين والمتأخّرين؛ ومنه تعلم أنّ تشنيع السّبكيّ وابن حجر عليه في غير محلّه؛ فانظر ـ رحمك الله ـ بعين الإنصاف إلى السّبكيّ؛ كيف أنكر الحقّ ومال عنه، بعد أن شَهِدَ به وعزاه إلى أكثر المُصَنّفين في المناسك، ثم أخذ يُبطل هذا بقوله: «قلتُ: أمّا المنازعة فيما يقصده النّاس؛ فمَن أنضف نفسه وعرف ما النّاس عليه؛ علم أنّهم إنّما يقصدون بسفرهم الزّيارة من حين يُعرِّجون إلى طريقة المدينة، ولا يخطر غير الزّيارة من القربات إلَّا ببال قليل منهم، ثم مع ذلك هو مغمور بالنّسبة إلى الزّيارة في حقّ هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزّيارة، حتّى لو لم يكن ربما لم يسافروا؛ ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس» انتهى!

الجواب عن قول السبكي: إن الناس لا يقصدون بسفرهم إلا زيارة القبر فقط

والجواب أن يُقال له: ما أردتَ بالنّاس؟ فإن أردتَ بالنّاس العلماء؛ فهم قد ذكروا ما قاله شيخ الإسلام في كتبهم؛ من استحباب السّفر للزّيارة والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ـ كما ذكرتَه أنتَ في الجملة الأولى ـ، وما كانوا ليذكروا شيئًا في كتبهم ويخالفونه بأفعالهم؛ فإنّ هذا ليس من شأن العلماء؛ فلأنّ العالم هو الذييوافق فعله قوله، وحاشاهم أن يقولوا شيئًا ويخالفونه بفعلهم ضدّه. وإن أردتَ بالنّاس العوام الذين لا علم لهم؛ فهؤلاء لا عبرة بخلافهم؛ فإنّا مأمورون بالاقتداء بأهل العلم، لا بأهل الجهل! وقد تتبّعنا مُصَنّفات العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة؛ فلم نجد فيها غير الذي نقلتَه أنتَ عنهم. وأمّا كونهم قصدوا غير ذلك؛ فهذا لا يعلمه إلَّا الله ـ عزَّ وجلَّ ـ؛ فإنّنا لسنا مُكَلّفين إلَّا بما ظهر لنا من أقوال العلماء، وأمّا قصدهم ونيّتهم؛ فمفوّض إلى الله ـ تعالى ـ. قوله: «ولا يخطر غير الزّيارة من القربات إلَّا ببال قليل منهم» : أقول: القليل منهم الذي ذكرتَه هم العلماء، والعبرة بأقوالهم، وقد ذكروها في كتبهم ـ كما علمتَ ـ، وما عداهم من النّاس فلا التفات إليهم. وقوله: «وغرضهم الأعظم هو الزّيارة ... » إلى آخره: أقول: هذا تحكّم محض على مقاصد العلماء ونيّاتهم التي لا يعلمها إلَّا خالقهم. فإن قال: لم أذكر هذا إلَّا أخذًا من أقوالهم: فالجواب أن يقال: إنّك نقلتَ عنهم قريبًا أنّهم لم يذكروا في كتبهم إلَّا استحباب السّفر والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وعزوتَه للكثير من العلماء الذين صَنّفوا في المناسك؛ فمن أين لك أنّ مقصودهم الأعظم هو الزّيارة فقط، حتّى إذا لم يكن هناك قبره صلى الله عليه وسلم؛ فلم يُسافر إلى مسجده صلى الله عليه وسلم للصّلاة فيه أحد؟! فهل يقول هذا أحد، وينسب كافة المسلمين إلى مخالفة السُّنّة الصّحيحة، وترك العمل بها وتفويت فضلها، وهم يروون عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه» ؟! فحاشاهم من ذلك؛ وإنّما الذين يُظَنُّ بهم: أنّهم قصدوا بالسّفر زيارته صلى الله عليه وسلم والصّلاة في مسجده ـ كما ذكروا ذلك في كتبهم، ونقله عنهم السّبكيّ وغيره، ورأينا في مصنفاتهم في المناسك ـ، والله أعلم بما هناك. ثم أخذ يقرّر هذا بكلام لا يُجاوَب عليه؛ لأنّه حُكْمٌ على ما في ضمائر النّاس، وهذا لا يعلمه أحد إلَّا الله ـ تعالى ـ. وأمّا قوله: «وأمّا ما ذكره المُصَنّفون في المناسك؛

فإنّهم لم يريدوا به أنّه شرط في كون السّفر للزّيارة قُربة، ما قال هذا أحد منهم، ولا يتوهّمه، ولا اقتضاه كلامه» : فالجواب أن يقال: ما هذا التغافل والتّعامي من هذا الشّيخ؟! كيف نقل عنهم فيما مرّ أنّهم ذكروا في كتبهم استحباب السّفر للصّلاة والزيارة، ثم نفاه عنهم، وحكم عليهم هنا أنّه ما قاله منهم أحد ولا توهّمه ولا اقتضاه كلامه؟! فما هذا التّناقض، وهل مثل هذا يحتاج إلى ردّ ومناقشة؟! كلَّا؛ ولكن أقول له: إنّ كتب المتقدّمين من أهل الحديث وغيرهم لم يذكر فيها مُصَنّفوها بعد المناسك إلَّا فضل مسجده صلى الله عليه وسلم وفضل الصّلاة فيه، من غير أن يذكروا لفظة (الزّيارة) ، وأمّا كتب المتأخّرين من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم؛ لم يذكروا في صفة الزّيارة إلَّا ما نقلتَه أنتَ عنهم ورأيناه؛ فكيف يليق بك أن تقول: ما ذكره أحد ولا توهّمه ولا اقتضاه كلامه؟! تقول شيئًا ثم تنقضه في ورقة واحدة! فما هذا إلَّا تعصّب وميل عن سبيل الجادة؛ فالله يحفظنا! وكلّ مَن رجع إلى كتب المُحَدّثين الذين صَنّفوا في الصّحيح والحسن وغيرهما ـ مثل: البخاريّ، ومسلم، وأهل السُّنَن، وغيرهم ـ؛ لم يجد فيها إلَّا ذكر المدينة وفضلها، وفضل الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وذكر شدّ الرّحل إليه، من غير لفظ (الزّيارة) ؛ فهذا يدلّ على أنّهم ما أرادوا إلَّا شدّ الرّحل والسّفر للصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، من غير قصد شيء آخر؛ وإلّا لو أرادوا شيئًا غير الصّلاة لذكروه، سيّما وأنتَ تقول: إنّ شدّ الرّحل والسّفر للزّيارة المُجرّدة هو الأصل، وهو المراد بالسّفر، والصّلاة في مسجده الشريف تابع لها! فكيف يُظَنُّ بأهل الكتب السّتّة وغيرهم أنّهم تركوا الأصل ولم يُعَرِّجوا عليه، وذكروا ما هو تابع له؟! فلا يُكتفى بذكر المتبوع عن التّابع! وقد سمعتُ شيخنا الأستاذ محمد جمال الدين القاسميّ بدمشق يقول: «ما

ترك البخاريّ ومسلم حديثًا إلَّا وله علّة قادحة منعتهما عن إخراجه» ؛ فقلتُ له: يا سيدي! قد رُوي عن البخاريّ أنّه قال: «ما تركتُ من الصّحيح أكثر» ، ورُوي عنه أنّه قال: «ألّفتُ كتابي هذا من مائتي ألف حديث صحيح» ، ومعلوم لكلّ من سبر كتابه؛ يعلم أنّه ما يبلغ مِعْشار عُشر هذا. فقال لي: مراده ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله: «ما تركتُ من الصّحيح أكثر» ؛ يعني بذلك: ما إذا كان في الباب عشرة أحاديث ـ مثلًا ـ؛ فإنّه يكتفي بذكر حديث أو حديثين منها، وأمّا أنّه يترك حديثًا صحيحًا هو أصل في الباب ونصّ على حكم شرعيّ، لم يتقدّم له نظير؛ فبعيد جدًّا، ومن تأمّل صنيعَه في «صحيحه» ؛ علم ما قلناه؛ لأنّه كثيرًا ما يذكر الحديث مستدلًّا به على المسألة الثانية، لم يحتج إلى تكرار. فعُلِمَ بذلك أنّ البخاريّ ما ترك حديثًا صحيحًا في كتابه هو أصل إلَّا وذكره؛ فكيف إذا انضمّ له مسلم ومالك وأهل السُّنَن وغيرهم؟! فهل يقول قائل: إنّ هؤلاء كلهم قد أجمعوا على ترك حديث هو أصل في بابه، لم يتقدّم له نظير، حتّى يكتفي به عن ذكر ما تركوه، ويذكروا حديثًا هو تابع لهذا الأصل الذي تركوه؟! كلَّا؛ فوالله ثم والله؛ لو صَحَّ عندهم حديث نصّ في الزّيارة؛ لذكروه عند ذكرهم فضل المدينة وفضل الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يقول السّبكيّ: ما قاله أحد ولا توهّمه ولا اقتضاه كلامه؟! وهذا الإمام الشّافعيّ في كتاب «الأمّ» لم يذكر بعد الحجّ (الزّيارة) ـ كغيره من المتأخّرين ـ، ومثله سحنون في «المدونة» ؛ فلو كان لفظ (الزّيارة) شائعًا، وأنّه يُقصَد بشدّ الرّحل والسّفر في مسجده صلى الله عليه وسلم إلَّا ناس بعد هذه الطبقة ـ أعني: طبقة البخاريّ ومسلم والشّافعيّ وسحنون وابن القاسم وأهل السُّنَن ـ؛ وذلك لما ظهرت هذه

الأحاديث الواهية والموضوعة التي أوردها السّبكيّ في كتابه هذا، وقلدّهم النّاس في ذلك، حتّى إذا عمّت مصيبة التّقليد؛ تركوا ما هو الأصل والمراد من شدّ الرّحل والسّفر، وذكروا الذي لم يُشرَع له ذلك، حتّى قال السّبكيّ ما قال! وأمّا قوله «وما قاله منهم أحد» : أقول: [هل] لم يطّلع السّبكيّ على ما قاله الغزالي في كتبه عن ابن الجوينيّ والقاضي حسين وطائفة ـ وكذا ذكره عنهم النّوويّ في «شرحه لصحيح مسلم» ـ، وأنّهم حرّموا شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصّالحين، من غير استثناء في ذلك؟! وما ظننتُ أنّ التّعصّب يفضي بصاحبه إلى هذا، سيّما ابن الجوينيّ والقاضي حسين [وكذا الغزاليّ] من أئمّة الشافعيّة! وأمّا قوله: «وإنّما أرادوا أنّه ينبغي أن يقصد قربة أخرى؛ ليكن سفرًا إلى قُربَتين؛ فيكثر الأجر بزيادة القُرَب، حتّى لو زاد من قصد القُربات زادت الأجور ... » إلخ: فالجواب أن يقال: من أين لك أنّهم ما جعلوا ذلك شرطًا، وأنّهم أرادوا أنّه ينبغي أن يقصد قُربة أخرى ... إلى آخر ما قلتَ؟! وهم قد أطلقوا كلامهم؛ فلِمَ جعلتَ الأصل من كلامهم شدّ الرّحل والسّفر إلى الزّيارة، والصّلاة في المسجد تبعًا له، من غير دلسل يدلُّك عليه من كلامه؟! فإذا قال رجل لآخر: اذهب إلى زيد وعمرو؛ فهل يقول أحد: إنّ زيدًا هو الأصل وعمرًا تبع له ـ والحال أنّ الواو جمعت بينهما ـ؟! ولو قاله أحد؛ لكان مخالفًا بقوله هذا ما هو المعلوم والمعروف من لغة العرب! فغاية ما يُقال: إنّ الأمر بشدّ الرّحل والسّفر يتناول الأمرين: الزّيارة والصّلاة في المسجد الشّريف؛ فكيف خصّصتَ الأمر بشيء دون شيء بغير مخصّص؟! ولولا ما ذكرتَه عن الأكثرين ممن صَنَّف في المناسك؛ لم تُعَرِّج على ذكر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولكن منعك منه امتلاء كتب القوم به. وما ذكره عن ابن الصّلاح: فإن صَحَّ؛ حُمِلَ على تغاليه في التّقليد، مع جلالة قدره في الحديث،

مناقشة المؤلف ابن الصلاح في قوله: لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة

ويُقال له: إنّك من أهل الحديث العالمين بالصّحيح منه والسّقيم؛ فهل رويتَ لنا حديثًا في موطإ مالك، أو في صحيح البخاريّ ومسلم، أو في السُّنّن الأربعة، أو المُنتقى لابن الجارود، أو المختارة للضياء المقدسيّ، أو المستدرك للحاكم ـ على ما فيه ـ؛ يدلّك على ما ذهبتَ إليه من مشروعيّة شدّ الرّحل والسّفر إلى مجرد الزّيارة من غير قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؟! وما نراك رويتَ لنا في هذه الكتب التي سمّيناها إلَّا حديث: «لا تُشَدّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» ، وحديث فضل المدينة، وفضل الصّلاة في مسجدها! فإن كنتَ رويتَ حديثًا يخالف هذه الأحاديث الصّحيحة ويُقَدّم عليها؛ فأوجده لنا؛ حتى ننظر فيه، وإن كنتَ ما رويتَ في ذلك إلَّا الأحاديث الملفّقة والواهية والموضوعة، وزعمتَ أنّ العمل بمقتضاها يُقَدّم على العمل بمقتضى الأحاديث الصّحيحة التي تقدّمت الإشارة إليها؛ فقد خالفتَ بقولك هذا ما عليه أئمّة الحديث والأصول؛ إذ لا نسبة بين موضوع وضعيف، وبين ضعيف وصحيح، فضلًا عن أن يُقَدَّم عليه! وكنتُ أتعجّب من الحافظ أبي عمرو ابن الصّلاح هذا لما نقلوا عنه قوله: «ولا يجوز تقليد غير الأئمّة الأربعة؛ لأنّ مذاهبهم لم تدوّن ولم تُحَرّر مثل مذاهب الأربعة» ! فلو قالها أحد غيره من أهل الفقه فقط؛ فلا غرو؛ لأنّهم لم يُعانوا صناعة علم الحديث، وأمّا مثل ابن الصّلاح فغريب منه صدور مثل هذا عنه؛ ومن المعلوم لدى كلّ مَن مارس علم السُّنّة واطّلع على دواوين أهل الإسلام المؤلّفة في الحديث ـ كموطإ مالك والأصول السّتّة والمسانيد ومُصَنّف عبد الرّزّاق وابن أبي شيبة وغيرها ـ أنّ هذه الكتب كلّها مشحونة بأقوال الصّحابة والتّابعين وغيرهم ممّن أتوا بعدهم غير الأربعة! فإن قال: لا يُعبأ بتلك الأقوال؛ لأنّنا لسنا على ثقة من صِحّتها ونسبتها إلى أهلها؛ فالجوابُ أن يقال: الذي روى الأحاديث النّبويّة التي فيها روى هذه الأقوال عن أهلها، فلِمَ صدّقناه في رواية الحديث واتّهمناه في رواية هذه الأقوال عن أهلها؟! فإن كنّا قد صدّقناه في رواية الحديث؛ فقد وجب علينا أن نُصَدّقه في رواية

الجواب عن الأصل الخامس الذي ذكره السبكي وهو وسيلة القربة قربة

تلك الأقوال؛ فتأمّل. وغاية ما يُقال في ابن الصّلاح: أنّه ـ وإن كان إمامًا في الحديث ـ لكنّه كان يَغْلِب عليه التّعصّب للمذاهب كغيره ممّن اعتنى بهذا الشّأن، ولم يقدّمه على أقوال الرّجال! والحال أنّنا نقول: إنّ التّقليد في أمثالهم حرام؛ لأنّهم أعلى قدرًا من أن يُقَلِّدوا أحدًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم عالمون بصحيح السُّنّة وسقيمها، لايختلف في هذا اثنان، ولكن كما قيل: «حُبّك الشّيء يعمي ويصمّ» ! فنسأل الله أن يرحمهم ويُجازيهم على حسن نيّاتهم. وقد علمتَ مما مرّ أنّ السّبكيّ لا دليل [له] في القرآن ولا في السُّنّة ولا في القياس ولا في الإجماع على جواز شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور، من غير قصد شيء آخر يكون السّفر مشروعًا له، فضلًا عن استحبابه! وأنّ شيخ الإسلام أسعد بصحّة الحُجّة على ما ذهب إليه من تحريم شدّ الرّحل والسّفر لزيارة القبور المُجرّدة عن كل قصد سواها، وأنّ زيارة القبور مشروعة من غير شدّ رحل وسفر؛ فهما مسألتان؛ فاحذر من جعلهما مسألة واحدة ـ كما بيّنّاه فيما سبق ـ. والله وليّ التّوفيق. فصل ثم ذكر السّبكيّ بعد الإجماع أصلًا خامسًا؛ أشار [إليه] بقوله: «الخامس: وسيلة القُربة قُربة» ، وأطال الكلام جدًّا في تقرير هذا الأصل؛ مستدلًّا عليه بأحاديث نبويّة ومباحث أصوليّة لا تحتاج إلى مناقشة؛ لأنّه لا حاجة بنا إلى ردّ شبهته؛ لوجهين: أحدهما: أنّنا قد أبطلنا حُجّته من الأصول الأربعة على ما ذهب إليه، وهو ما بنى هذا الأصل الخامس إلَّا على تصحيح ما ادّعاه بالأصول الأربعة، وإذا تبيّن لك بطلان ما ادّعاه، وأنّ الأصول الأربعة شاهده على سقوط دعواه؛ علمتَ قطعًا سقوط احتجاجه بالأصل الخامس. الثاني: أن يُقال: وسيلة القُربة قُربة إذا كانت الوسيلة إليها مشروعة، وبحيث يتوقّف فعل القُربة على هذه الوسيلة، وأمّا إذا كانت هذه الوسيلة غير مشروعة، أو أنّ فعل القُربة لا يتوقّف عليها؛ فليست مشروعة. فإذا تقرّر هذا الأصل؛ فنقول: إنّ مسألتنا هذه ليست من هذا الباب؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ الزّيارة مشروعة، ولكنّ شدّ الرّحل والسّفر

ذكر بعض العلماء الذين ناقشوا شبه السبكي

إليها منهيّ عنه؛ فتكون ـ حينئذ ـ مشروعة في حقّ القريب، وفعلها لا يتوقّف على هذه الوسيلة؛ لأنّه ما من بلد إلَّا وفيها قبور؛ فالفائدة التي تحصل من الزّيارة المقصودة بالسّفر وشدّ الرّحل تحصل بزيارة قبور البلدة. وأعني بالفائدة: تذكّر الآخرة بزيارتها، والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها. وهذا هو الذي صحّ في السُّنّة من قوله وفعله صلى الله عليه وسلم. ومَن ادّعى شيئًا آخر زائدًا على هذه الفائدة الحاصلة من زيارة القبور؛ فعليه الدّليل. وأيضًا يُقال في الجواب: ليست كلّ قُربة يُشرع إليها السّفر وشدّ الرّحل؛ فهذه الصّلاة من أعظم القُربات وأفضلها، ولكن لم يُشرَع لها شدّ رحل ولا سفر لغير المساجد الثّلاثة، وهذا النّذر أصله قُربة ـ وهو: الإنفاق في أوجه الخير ـ، ولكن لم يُشرَع؛ بل نُهي عنه. وما أجاب به السّبكيّ لا يكفي في رَدّه؛ بل الحُجّة قائمة لمخالفيه، ولو أخذنا نناقشه في جميع ما أورده؛ لطال بنا الكلام، وردّه ظاهر من الأصل الذي قرّرناه في أوّل الفصل. والله الهادي. واعلم أنّ السّبكيّ قد أسهب جدًّا في تقرير هذه القاعدة بكلام لا طائل تحته، ويُورِد على نفسه إشكالات ويجاوب عنها بأجوبة ضعيفة، وحيث أنّنا ما وضعنا كتابنا هذا إلَّا لردّ ما ظنّه دليلًا من الكتاب والسُّنّة والإجماع والقياس؛ فلا تحتاج لردّ ما أورده من هذه المباحث؛ لأنّ الحُجّة في قول الله ورسوله، وحيث أنّنا قد بيّنّا ردّ ما استدلّ به منهما؛ فلا نحتاج لردّ ما بناه على ذلك؛ فإنّه بناه على باطل، وما بُني على باطل فهو باطل؛ فتدبّرها. ثم إنّ هذه الشُّبه والمباحث التي أوردها السّبكيّ في هذا الباب والذي بعده؛ قد ناقشه فيها كثير من العلماء؛ فمنهم: الإمام الحافظ شمس الدين ابن القيم في «نونيّته» وغيرها، ومنهم: الإمام الحافظ شاه ولي الله المحدّث الدهلويّ، ومنهم: العلّامة الشّيخ عبد اللّطيف النّجديّ في كتابه المُسمّى «منهاج

التّأسيس في الرّدّ على داود بن جرجيس» ، ومنهم: الإمام المفضال السّيد صدّيق حسن ملك بهوبال في كتابه المُسمّى بـ «رحلة الصّديق إلى البيت العتيق» ، وفي كتابه «عون الباري شرح أدلّة البخاريّ» ، وفي كتابه المُسمّى «السّراج الوهّاج بشرح مختصر [مطالب] بن الحجاج» ، وفي كتابه المُسمّى «الدّين الخالص» ، وغير ذلك من كتبه؛ فلقد أجاد وأفاد. ومنهم: الإمام السّيد محمود شكري الألوسيّ في كتابه المُسمّى بـ «غاية الأماني في الرّدّ على النبهانيّ» ، ومنهم: الإمام مفتي بغداد السيد نعمان في كتابه المُسمّى بـ «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين» ، وغيرهم من أئمّة الدّين قديمًا وحديثًا. وحيث أنّ هذه الكتب قد طبع أكثرها، بعضها بمصر وبعضها بالهند؛ فلا حاجة بنا إلى نقل ما فيها؛ لأنّ ذلك يفضي إلى التّطويل المُمِلّ، وحسبنا أنّنا أشرنا إليها، وهي متيسرة لمن أراد الرّجوع. ثم إنّ الإمام نعمان أفندي الألوسيّ ـ صاحب كتاب «جلاء العينين» ـ بعد أن ذكر أقوال العلماء وما رَدُّوا به على السّبكيّ وأضرابه؛ قال ما حاصله: «والذي أختاره: جواز شدّ الرّحل والسّفر إلى مرقده الشريف صلى الله عليه وسلم، وهذا خاصّ به؛ لا يجوز السّفر إلى زيارة قبر غيره» . والذي ذكر هذا الإمام هو

وجيه؛ إلَّا أنّنا نقول: الذي ندين الله به أنّ الأحوط والأولى: شدّ الرّحل والسّفر بنيّة الزّيارة والصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ـ كما قاله شيخ الإسلام ابن تيميّة ومَن وافقه من علماء المذاهب ـ؛ وذلك لوجهَين: أحدهما: أنّ المسافر إذا قصد بشدّ رحله الزّيارة والصّلاة في المسجد؛ حصل له ثواب النيّتين، بخلاف ما إذا قصد الزّيارة فقط. الثاني: أنّ قصد الزّيارة المُجرّدة فيه تعطيل للحديث الصّحيح ـ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرِّحال ... » الحديث ـ؛ فإنّه لو كان كلّ مَن سافر إلى المدينة لم يقصد بشدّ رحله إلَّا الزّيارة فقط؛ للزم منه ألا يكون أحد قد عمل بهذا الحديث. فإن قلتَ: الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم حاصلة لكلّ أحد نوى الزّيارة فقط؛ لأنّه [إذا] وصل المدينة قدّم الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم ثم زار قبره الشّريف. قلنا: هذه دعوى مقابلة بمثلها؛ فإنّا نقول: مَن نوى الصّلاة في المسجد والزيارة معًا، أو نوى الصّلاة في المسجد فقط؛ فلا بُدّ من فعل ما ذكرتُ في هذا الإشكال. وأمّا قصد الزّيارة الخالية عن قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ فالذي يظهر لي: أنّه قول ما قاله أحد، ولا دلّ عليه أثر يُعتمَد عليه. فإن قلتَ: يدلّ على هذا القول: ما رواه الطّبرانيّ من قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن أتاني زائرًا لا تُعمِله حاجة إلَّا زيارتي؛ كان حقًّا عليّ أكون له شفيعًا يوم القيامة» ؛ فهذا الحديث صريج في الجواز، بل استحباب السّفر إلى الزّيارة، من غير قصد عبادة سواها. أقول: هذا الحديث قد تقدّم الكلام عليه من الحافظ ابن عبد الهادي في أوّل كتابه «الصّارم المُنكي في الرّدّ على السّبكيّ» ، وقد تكلّمنا عليه أيضًا في أوّل هذا الباب عند ذكر السّبكيّ له، وبيّنّا أقوال العلماء على ما يدور عليه إسناده، وأنّه لا يصلح للاحتجاج في محلّ النّزاع، وعلى تقدير صلاحيته؛ فيكون معناه ـ

الفرق بين قبر الرسول وقبر غيره

والله أعلم ـ: لا تُعمِله حاجة من حوائج الدُّنيا ـ كالتّجارة ونحوها ـ ممّا هو ليس عبادة؛ فلا يتناول قصد الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي اخترناه هو الأحوط في هذه المسألة؛ جمعًا بين الأدلّة وخروجًا من الخلاف الوارد فيها، ولا تقيس قبور غيره من الأنبياء والصّالحين على قبره صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الفرق ظاهر؛ فإنّ زيارة قبره صلى الله عليه وسلم متضمّنة للصّلاة في مسجده، وأمّا قبور غيره فلا تقصد بشدّ رحل ولا سفر، ولا هناك شيء آخر قد شُرِعَ له ذلك، سيّما وقد آل الأمر بالنّاس إلى أمور منكرة مُبتدعة في زيارة القبور، وقد تركوا ما هو الحكمة في زيارة القبور، وعمدوا إلى طلب حوائج الدُّنيا والآخرة من أهلها، حتى عُبِدَت من دون الله ـ عزَّ وجلَّ ـ! فما لهذا شُرِعَة زيارة القبور؛ بل من أجله نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارتها في أوّل الأمر، ثم أَذِنَ فيه بعد أن وقر الإيمان والتّوحيد في قلوب أصحابه. والعجب من السّبكيّ كيف جزم بتخطئة الإمام النّوويّ في نقله الخلاف في هذه المسألة ـ عند شرحه حديث: «لا تُشَدّ الرِّحال ... » ، الوارد في صحيح مسلم ـ، وحكم بتغليطه! وقد غفل ـ رحمه الله تعالى ـ عمّا ذكره غيره من نقل الخلاف فيها قديمًا وحديثًا؛ فمِمّن ذكر الخلاف فيها، واختار القول بتحريم شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة: القاضي عياض ـ في شرحه لصحيح مسلم ـ، ومنهم: الإمام ابن عقيل الحنبليّ، ومنهم: ابن الجوينيّ، والقاضي حسين ـ من الشّافعيّة ـ، واختار المنع وإليه أشار: الإمام الغزاليّ ـ في كتابه «الإحياء» ـ. فقد تبيّن بما ذكرناه عن هؤلاء الأئمّة من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإمام النّوويّ ـ رحمه الله تعالى ـ لم ينفَرِد بذكر الخلاف في هذه المسألة؛ بل هو مسبوق به، كما أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم ينفَرِد

باختياره للقول بالمنع من شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة؛ بل اختاره غيره من المالكيّة والشّافعيةّ والحنابلة المُعاصرين له ـ رحمه الله تعالى ـ. فإن شئتَ الوقوف على هذا؛ فارجع إلى ما ذكره الشّيخ مرعي في كتابه «الكواكب الدّريّة في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيميّة» ، [وإلى كتاب «القول الجليّ في ترجمة الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة الحنبليّ» ] للإمام صفيّ الدّين الحنفيّ ـ نزيل نابلس ـ، والكتابان مطبوعان بمصر. وكنتُ عزمتُ على ترك الكلام على ما أورده السّبكيّ في الباب السّابع من الشّبهات والحطّ على أئمّة الدّين الذين نقلوا الخلاف في هذه المسألة، واختاروا القول بالمنع ـ كما تقدّم ـ؛ اتّكالًا على ما ردّ عليه غيري في كتبهم المتقدّم ذكرها، ثم رأيتُ من الواجب عليّ بيان ما ذكره في هذا الباب من الجور والميل عن سبيل العدل، وتغليط الأئمّة والحطّ عليهم بغير حقّ؛ فأقول ـ ومن الله أستمدّ [العون]ـ: قال المعترض السّبكيّ ـ رحمه الله تعالى ـ: «الباب السّابع: في دفع شُبه الخصم وتتبّع كلماته. وفيه فصلان: الأول: في شُبَهه. وله ثلاث شُبه» ، وأخذ يُبيّن الثّلاث الشّبه، وأطال الكلام في ذلك. وأنا لا أناقشه إلَّا فيما هو محلّ الفائدة؛ فأقول: قد سلّم المعترض ـ السّبكيّ ـ لشيخ الإسلام: أنّ الحديث دالٌّ على منع السّفر إلى أيّ بقعة من بقاع الأرض غير المساجد الثّلاثة بقصد إيقاع عبادة فيها، وإنّما نازعه في كون شدّ الرّحل إلى زيارته صلى الله عليه وسلم ليس داخلًا في هذا النّهي؛ لأنّه لم يقصد البقعة بعينها؛ وإنّما قصد الذي حلّ فيها! وأنا أقول: قد علمتَ مما سبق أنّ زيارة القبور مشروعة من غير شدّ رحل ولا سفر ـ كما استُفيد من الحديث الصّحيح ـ، وحيث أنّ السّبكيّ صحّح الاستدلال بهذا الحديث على منع شدّ

كلام شيخ الإسلام في الزيارة

الرّحل إلى أيّ بقعة من الأرض غير المساجد الثّلاثة؛ فيلزمه القول بما قاله شيخ [الإسلام] وغيره؛ فإنّ شدّ الرّحل والسّفر إلى زيارة القبور المُجرّدة عن كلّ قصد سواها لم يرد به دليل صحيح يصلُح للاحتجاج في محلّ النّزاع؛ فوجب أن يكون هذا الحديث عامًّا في منع شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة. وأمّا ما استدلّ به من قياس زيارة الميّت على الحيّ؛ ففيه نظر بيِّن، سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ عند الكلام على الشُّبَه التي تعلّق بها السّبكيّ. وإليك عبارة من كلام شيخ الإسلام تبيِّن لك ما ذكرناه؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ بعد كلام طويل: «ومَن سافر إلى المسجد الحرام أو المسجد الأقصى أو مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ فصَلّى في مسجده، وصلَّى في مسجد قباء، وزار القبور؛ كما مَضَت به سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا هو الذي عمل العمل الصالح. ومَن أنكر هذا السّفر؛ فهو كافر يُستتاب فإن تاب وإلَّا قُتِلَ. وأمّا مَن قصد السّفر لمجرد زيارة القبر، ولم يقصد الصّلاة في مسجده، وسافر إلى مدينته فلم يُصَلِّ في مسجده صلى الله عليه وسلم، ولا سَلَّم عليه في الصّلاة؛ بل أتى القبر ثم رجع؛ فهذا مُبتدع ضالّ مخالف لسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع أصحابه ولعلماء أُمّته، وهو الذي ذكر فيه القولان: أحدهما أنّه محرّم والثّاني [أنّه] لا شيء عليه ولا أجر له. والذي يفعله علماء المسلمين هو الزّيارة الشّرعيّة: يُصَلّون في مسجده صلى الله عليه وسلم، ويُسَلّمون عليه في الدُّخول للمسجد وفي الصّلاة، وهذا مشروع باتّفاق المسلمين. وقد ذكرتُ هذا في المناسك وفي الفُتيا، وذكرتُ أنه يسلِّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وهذا هو الذي لم أذكر فيه نزاعًا في الفتيا، مع أنّ فيه نزاعًا؛ إذ من العلماء مَن لا يستحبّ زيارة القبور مطلقًا، ومنهم مَن يكرهها مطلقًا؛

لم يكن السفر إلى القبور موجودا في القرون الثلاثة

كما نُقِلَ ذلك عن إبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، ومحمد بن سيرين، وهؤلاء من أجِلّة التّابعين، ونُقِلَ ذلك عن مالك، وعنه: أنّها مباحة ليست مستحبّة ... وأمّا إذا قُدِّر [أن] مَن أتى المسجد فلم يُصَلِّ فيه، ولكن أتى القبر ثم رجع؛ فهذا هو الذي أنكره الأئمّة ـ كمالك وغيره ـ، وليس هذا مستحبًّا عند أحد من العلماء، وهو محلّ النّزاع: هل هو حرام أو مباح؟ وما علمنا أنّ أحدًا من علماء المسلمين استحبّ مثل هذا» ، ثم ذكر ـ عليه الرّحمة ـ حكم السّفر إلى القبور، ومن كلامه في «الجواب الباهر» قال: «وأما السّفر إلى قبور الأنبياء والصّالحين؛ فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن مالك؛ وإنّما حدث هذا بعد القرون الثّلاثة ـ قرن الصّحابة والتّابعين وتابعيهم ـ، فأمّا هذه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن هذا ظاهرًا فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشّرك. ولهذا لما سأل سائل مالكًا عن رجل نذر أن يأتي قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إن كان أراد المسجد فليأتِه وليُصَلّ فيه، وإن كان أراد القبر؛ فلا يفعل؛ للحديث الذي جاء: «لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد» . وكذلك مَن يزور قبور الأنبياء والصّالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدُّعاء، أو يقصد الدُّعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنّه؛ فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا غيره. وإذا كان مالك يكره أن يطيل [الرجل] الوقوف عنده [صلى الله عليه وسلم] للدُّعاء؛ فكيف بمن لا يقصد لا السلام عليه ولا الدعاء له؛ وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه ويرفع صوته [عنده] ؛ فيؤذي الرسول ويشرك بالله ويظلم نفسه، ولم يعتمد الأئمّة [لا] الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها بعض الناس في ذلك؛ مثل ما يروون أنّه قال: «مَن زارني في مماتي فكأنّما زارني في حياتي» ، ومن قوله: «مَن زارني وزار أبي إبراهيم في سنة واحدة؛ ضمنت له [على الله] الجنة» ، ونحو ذلك؛ فإنّ هذا لم يروه أحد من أئمّة المسلمين، ولم يعتمدوا عليها، ولم يرووها، لا أهل الصّحاح ولا أهل السُّنَن التي يُعتمَد عليها ـ كأبي داود والنّسائي ـ؛ لأنّها ضعيفة بل موضوعة،

إبطال القياس في أن زيارة الميت مثل زيارة الحي

كما قد بيّن العلماء الكلام عليها. ومَن زاره في حياته [صلى الله عليه وسلم] كان من المهاجرين إليه، والواحد بعدهم لو أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم و [لا] نصيفه، وهو إذا أتى بالفرائض لا يكون مثل الصّحابة؛ فكيف يكون مثلهم في النّوافل، أو بما ليس قُربة، أو بما هو منهيّ عنه» ، وقد أطال الكلام في هذا المقام ـ عليه الرّحمة والرِّضوان ـ بما يقطع شُبه المعاندين ويجعلها هباء وسرابًا في أعين النّاظرين. والحاصل أنّ السّبكيّ قد اعترف بأنّ حديث: «لا تُشدّ الرِّحال ... » عامّ في النّهي عن شدّ الرّحل إلى أيّ بقعة ما عدا المساجد الثّلاثة ـ كما قال شيخ الإسلام وغيره ـ؛ فهذا القدر يكفينا منه للإذعان للحقّ. وأمّا ما حاول به في إخراج شدّ الرّحل إلى زيارة القبور من هذا النّهي؛ فقد بناه على الأحاديث التي استدلّ بها على استحبابه، وقد بيّنّا حالها؛ وأنّها ساقطة عن درجة الحسن والصّحّة معا، بل عن درجة الضّعيف المنجبر؛ فلا تقوم بها حُجّة، ولا تقوى بها دعوى؛ فلزمه القول بما قاله مخالفوه. وأمّا قياسه زيارة الميّت على الحيّ؛ فهذا قياس فاسد الاعتبار، والفرق بينهما ظاهر ببادئ الرأي؛ فشتان بين مَن يزور الحيّ لأخذ العلم والإيمان منه، ويفوز برؤيته، ويحظى بصحبته وسماع كلامه والجلوس بين يديه، وغير ذلك من المنافع والمصالح التي كانت تحصل للوافدين إليه صلى الله عليه وسلم، وبين مَن يزور الميّت فلا يرى شيئًا من هذا كلّه؛ فمن ادّعى غير ذلك؛ فعليه بيانه بالنّقل والعقل، ونحن نعلم أنّ زيارة القبور لم تُشرَع إلَّا لتذكّر الآخرة والدُّعاء لأهلها والتّرحّم والسّلام عليهم، ليس إلَّا، ومَن ادّعى مشروعيّتها لغير ذلك؛ فعليه أن يثبت ما ادّعاه بالكتاب والسُّنّة وإجماع الأُمّة، وهذه الزّيارة لا تحتاج إلى سفر وشدّ رحل، وليست هذه الزّيارة مشروعة باتّفاق العلماء؛ بل منهم مَن استحبّها ـ وهم الأكثرون ـ إذا خلت عن شدّ رحل وسفر،

بيان أن عامة الأدلة التي استدل بها السبكي قد أخذها من القاضي الإخنائي

ومنهم مَن كرهها مطلقًا، ومنهم مَن أباحها إذا عريت عمّا تقدّم: فحُجّة الفريق الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور؛ فإنّها تذكّركم الآخرة» ، وقوله: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ فزوروها» ، وفعله صلى الله عليه وسلم من زيارة قبور أهل البقيع والشّهداء، والدُّعاء لهم والتّرحّم والسّلام عليهم. وعلى هذا؛ فمعلوم أنّ الزّيارة إذا خلت عن تذكّر الآخرة والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهل القبور؛ فغير مشروعة اتّفاقًا؛ لأنّ العلّة تدور مع الحكم نفيًا وإثباتًا. وأمّا حُجّة مَن كرهها: فلعلّ النّاسخ لم يبلغهم. وأمّا حُجّة مَن أباحها: ورود الإذن بعد النّهي؛ لأنّ صيغة (افعل) بعد الحظر لا تفيد إلَّا الإباحة عند كثير من أهل الأصول. وحيث أنّ قياس زيارة الميّت على الحيّ هو الذي اغترّ به السّبكيّ، وأطال في تقريره؛ أردتُ أن أورد لك عبارة من كلام شيخ الإسلام في تفنيده وردّه؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ في «الجواب الباهر» ما نصّه، وقبل نقل عبارته أذكر لك فائدة؛ وهي: أنّ جميع ما أورده السّبكيّ في كتابه هذا قد أخذه عن القاضي المالكيّ الذي ردّ ـ بزعمه ـ على شيخ الإسلام؛ حيث أفتى بمنع شدّ الرّحل إلى مجرّد زيارة القبور؛ فقد وقع ردّه في يد شيخ الإسلام، وردّ عليه بكتاب حافل سمّاه «الجواب الباهر لمن سأل عن شدّ الرّحل إلى زيارة المقابر» ؛ فما ترك فيه للمعاند مجالًا؛ بل سدّ عليه الأبواب، وألقمه الأحجار، وألزمه السّكوت؛ فلا أدري هل السّبكيّ رأى هذا الكتاب أم [لا] ؟ فإن كان رآه؛ فكيف ساغ له الإتيان بالشّبه المردود عليها والمقطوع أصولها؟! وإن كان لم يره؛ فنحن قد نقلنا لك شيئًا منه ـ والكتاب موجود ـ. وقد قلتُ: إنّ السّبكيّ أخذ كتابه عن القاضي المالكيّ الذي رَدّ عليه شيخ الإسلام؛ لعلمي أنّ السّبكيّ لم يؤلّف

كلام شيخ الإسلام في إبطال قياس زيارة الميت على زيارة الحي

كتابه هذا إلَّا بعد وفاة شيخ الإسلام؛ دلّني على ذلك قوله كثيرًا: «قال ابن تيميّة ـ رحمه الله تعالى ـ كذا وكذا» ؛ فلو كان حيًّا إذ ذاك ما ساغ له قول ذلك؛ لأنّ هذه الجملة الدُّعائيّة لا تُستعمل ـ غالبًا ـ إلَّا في حقّ الميّت. ولنرجع إلى المقصود؛ لنقل كلام شيخ الإسلام في هذا الكتاب؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ، بعد أن ذكر المعترض المالكيّ هذا القياس الذي ذكره السّبكيّ هنا، غير أنّ المالكيّ قد استدلّ له بما أخرجه مسلم في صحيحه (في فضل الذي زار أخًا له في الله) ، قال الشيخ ابن تيميّة: «والجواب: أمّا زيارة الأخ الحيّ في الله ـ كما في الحديث ـ؛ فهذا نظير زيارته في حياته؛ يكون الإنسان بذلك من أصحابه، وهم خير القرون، وأمّا جعل زيارة القبر كزيارته حيًّا ـ كما قاسه هذا المعترض ـ؛ فهذا قياس ما علمتُ أحدًا من علماء المسلمين قاسه، ولا علمتُ أحدًا منهم احتجّ في زيارة قبره بالقياس على زيارة الحيّ المحبوب في الله، وهذا من أفسد القياس؛ فإنّه من المعلوم أنّ مَن زار الحيّ حصل له بمشاهدته وسماع كلامه ومخاطبته وسؤاله وجوابه وغير ذلك ما لا يحصل لمَن لم يشاهده ولم يسمع كلامه. وليس رؤية قبره أو رؤية الجدار الذي بني على بيته بمنزلة رؤيته ومشاهدته ومجالسته وسماع كلامه؛ ولو كان هذا مثل هذا؛ لكان مَن زار قبره مثل واحد من أصحابه، ومعلوم أنّ هذا من أباطل الباطل. وأيضًا؛ فالسّفر إليه في حياته إمّا أن يكون لمّا كانت الهجرة إليه واجبة ـ كالسّفر قبل الفتح ـ؛ فيكون المسافر إليه مسافرًا للمقام عنده بالمدينة، مهاجرًا من المهاجرين إليه، وهذا السّفر انقطع بفتح مكّة؛ فقال: «لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهاد ونية» ؛ ولهذا لمّا جاء صفوان بن أميّة مهاجرًا أمره أن يرجع إلى مكّة، وكذلك سائر الطّلقاء كانوا بمكّة لم يهاجروا. وإمّا أن يكون المسافر إليه وافدًا إليه ليسلم أو يتعلّم منه ما يبلغه قومه؛ كالوفود الذين كانوا يفدون عليه، لا سيّما سنة عشر سنة الوفود، وقد أوصى

الكلام على رجال حديث: "من زارني بعد مماتي"

في مرضه بثلاث؛ فقال: «أخرجوا [اليهود] والنّصارى من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم» ، ومن الوفود: وفد عبد القيس ... » وذكر قصّتهم، إلى أن قال: «وكان السّفر إليه في حياته لتعلّم الإسلام والدّين ولمشاهدته وسماع كلامه، وكان خير محضًا، ولم يكن أحد من الأنبياء والصّالحين عُبد في حياته بحضرته؛ فإنّه كان ينهى مَن يفعل ما هو دون ذلك من المعاصي؛ فكيف بالشّرك؟! كما نهى الذين سجدوا له ... » ، إلى أن قال: «ومعلوم أنّه لو كان حيًّا في المسجد؛ لكان قصده في المسجد من أفضل العبادات، وقصد القبر الذي اتّخذ مسجدًا ممّا نهى عنه، ولعن أهل الكتاب على فعله. وأيضًا؛ فليس عند قبره مصلحة من مصالح الدّين وقربة إلى ربّ العالمين إلَّا وهي مشروعة في جميع البقاع؛ فلا ينبغي أن يكون صاحبها غير معظم للرّسول صلى الله عليه وسلم التّعظيم التّامّ والمحبّة التّامّة إلَّا عند قبره؛ بل هو مأمور بهذا في كلّ وقت. وزيارته في حياته مصلحة راجحة لا مفسدة فيها، والسّفر إلى القبر بمجرّده بالعكس: مفسدة راجحة لا مصلحة فيها، بخلاف السّفر إلى مسجده؛ فإنّه مصلحة راجحة، وهنا يفعل من حقوقه ما يفعل في سائر المساجد، وهذا ممّا يتبيّن به كذب الحديث الذي يٌقال فيه: «مَن زارني بعد مماتي؛ فكأنّما زارني في حياتي» ، وهذا الحديث معروف من رواية حفص بن سليمان الغاضريّ ـ صاحب عاصم ـ، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن حجّ فزار قبري بعد موتي؛ كان كمَن زارني في حياتي» ، وقد رواه عنه غير واحد، وهو عندهم معروف من طريقه، وهو عندهم ضعيف في الحديث إلى

الغاية، حُجّة في القراءة، وقال يحيى بن معين: حفص ليس بثقة، وقال البخاريّ: تركوه ... » ، ثم سرد الشّيخ كلام الأئمّة فيه، وقال: «وقد رواه الطّبرانيّ في «المعجم» من حديث اللّيث بن أبي سليم عن زوجة جدّه عائشة عن ليث، وهذا اللّيث وزوجة جدّه مجهولان، ونفس المتن باطل؛ فإنّ الأعمال التي فرضها الله ورسوله لا يكون الرّجل بها مثل الواحد من الصّحابة؛ بل في «الصّحيحين» عنه أنّه قال: «لو أنفق أحدكم ... » الحديث؛ فالجهاد والحجّ ونحوهما أفضل من زيارة قبره باتّفاق المسلمين، ولا يكون الرجل بهما كمَن سافر إليه في حياته ورآه؛ كيف وذلك إمّا أن يكون مهاجرًا إليه كما كانت الهجرة قبل الفتح، أو من الوفود الذين كانوا يفدون إليه يتعلّمون الإسلام ويبلغونه عنهم إلى قومهم، وهذا لا يمكن لأحد بعدهم أن يفعل مثلهم. ومن شبّه مَن زار قبر شخص بمَن كان يزوره في حياته؛ فهو مصاب في عقله ودينه، والزّيارة الشّرعيّة لقبر الميّت مقصودها الدُّعاء له والاستغفار كالصّلاة على جنازته، والدُّعاء المشروع المأمور به في حقّ نبيّنا ـ كالصّلاة عليه والسّلام عليه وطلب الوسيلة له ـ مشروع في جميع الأمكنة؛ لا يختصّ بقبره؛ فليس عند قبره عمل صالح تمتاز به تلك البقعة؛ بل كلّ عمل صالح يمكن فعله في سائر البقاع، لكنّ مسجده أفضل من غيره؛ فالعبادة فيه فضيلة؛ لكونها في مسجده؛ كما قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلَّا المسجد الحرام» ، والعبادات المشروعة فيه بعد دفنه مشروعة فيه قبل أن يدفن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجرته، وقبل أن تُدخل حجرته في المسجد، ولم يتجدّد بعد ذلك فيه عبادة غير العبادات التي كانت على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغير ما شرعه هو لأُمّته ورغّبهم فيه

بيان ما يفعله بعض الجهلة عند قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -

ودعاهم إليه، وما يشرع للزّائر من صلاة وسلام ودعاء له وثناء عليه؛ كلّ ذلك مشروع في مسجده في حياته، وهي مشروعة في سائر المساجد، بل وفي سائر البقاع التي تجوز فيها الصّلاة، ومَن ظنّ أنّ زيارة القبر تختصّ بجنس من العبادة لم تكن مشروعة في المسجد وإنّما شُرعت لأجل القبر؛ فقد أخطأ؛ لم يقل هذا أحد من الصّحابة والتّابعين، وإنّما غلط في هذا بعض المتأخّرين، وغاية ما نقل عن بعض الصّحابة كابن عمر أنّه كان إذا قدم من سفر يقف عند القبر ويسلّم، وجنس السّلام مشروع في المسجد وغير المسجد قبل السّفر وبعده» . ثم قال بعد كلام طويل: «وأمّا السّفر لأجل القبور؛ فلا يُعرف عن أحد من الصّحابة؛ بل ابن عمر كان يقدم إلى بيت المقدس ولا يزور قبل الخليل صلى الله عليه وسلم وكذلك أبوه عمر ـ رضي الله عنه ـ ومَن معه من المهاجرين والأنصار؛ قدموا إلى بيت المقدس ولم يذهبوا إلى قبر الخليل ـ عليه السّلام ـ، وكذلك سائر الصّحابة الذين كانوا ببيت المقدس وسائر أهل الشام؛ لم يُعرف عن أحد منهم أنّه سافر إلى قبر الخليل ـ عليه السّلام ـ ولا غيره؛ كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وما كان قربة للغرباء فهو قربة لأهل المدينة، [وما] لم يكن قربة [لأهل المدينة؛ لم] يكن قربة لغيرهم، كاتّخاذ بيته عيدًا، واتّخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا، وكالصّلاة إلى الحجرة والتّمسّح بها وإلصاق البطن بها والطّواف، وغير ذلك ممّا يفعله جهّال القادمين؛ فإنّ هذا بإجماع المسلمين ينهى عنه الغرباء، كما ينه عنه أهل المدينة؛ يُنهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين. وبالجملة؛ فجنس الصّلاة والسّلام عليه والثّناء عليه صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما استحبّه بعض العلماء عند القبر للواردين والصّادرين؛ هو مشروع في مسجده وسائر المساجد، وأمّا ما كان سؤالًا له؛ فهذا لم يستحبّه أحد من

السّلف، لا الأئمّة الأربعة ولا غيرهم، ثم بعض مَن يستحبّ هذا من المتأخّرين يدعونه من البعد؛ فلا يختصّ هذا عندهم بالقبر، وأمّا نفس [داخل] بيته عند قبره؛ فلا يمكن أحد الوصول إليه، ولا يُشرع هناك عمل يكون هناك [أفضل] منه في غيره؛ ولو شُرع لفُتح باب الحجرة للأُمّة؛ بل قد قال: «لا تتّخذوا بيتي عيدًا، وصلّوا عليّ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» ، صلاة الله وسلامه عليه. وقد تقدّم ما رواه سعيد بن منصور في «سننه» ، عن عبد العزيز الدّراورديّ، عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب؛ فناداني فقال: رأيتُك عند القبر؟ فقلتُ: سلّمتُ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إذا دخلتَ المسجد؛ فسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتّخذوا بيتي عيدًا، وصلّوا عليّ حيثما كنتُم؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» ، ما أنتم ومَن بالأندلس إلَّا سواء. وكذلك سائر الصّحابة الذين كانوا ببيت المقدس وغيرها من الشّام ـ مثل: معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجرّاح،

لا يمكن زيارة قبر الرسول لعامة الناس كما تزار القبور

وعبادة بن الصّامت، وأبي الدّرداء، وغيرهم ـ؛ لم يُعرف عن أحد منهم أنّه سافر لقبر من القبور التي بالشّام، لا قبر الخليل ولا غيره، كما لم يكونوا يسافرون إلى المدينة لأجل القبر، وكذلك الصّحابة الذين كانوا بالحجاز والعراق وسائر البلاد ـ كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ـ. فإن قيل: الزّائر في الحياة إنّما أحبّه لله لكونه يحبّه في الله، والمؤمنون يحبّون الرّسول صلى الله عليه وسلم أعظم، وكذلك يحبّون سائر الأنبياء والصّالحين؛ فإذا زارهم أثيبوا على هذه المحبّة. قيل: حبّ الرّسول من أعظم واجبات الدّين ... » ، ثم ذكر الآيات القرآنيّة والأحاديث الصّحيحة النّبويّة؛ الموجبة لتعظيمه ومحبّته صلى الله عليه وسلم؛ حذفناها لأجل طولها، إلى أن قال: «لكن حبّه وطاعته وتعزيره وتوقيره وسائر ما أمر الله به من حقوقه؛ مأمور به في كلّ مكان؛ لا يختصّ بمكان دون مكان، وليس مَن كان في المسجد عند القبر بأولى بهذه الحقوق ووجوبها عليه ممّن كان في موضع آخر. ومعلوم أنّ مجرّد زيارة قبره كالزّيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة، ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأُمّة؛ لفُتح باب الحجرة، ومكّنوا من فعل تلك العبادة عند قبره، وهم لم يمكّنوا إلَّا من الدّخول إلى مسجده، والذي يُشرع في مسجده يُشرع في سائر المساجد، لكنّ مسجده أفضل من سائرها، غير المسجد الحرام ـ على نزاع في ذلك ـ. وما يجده مسلم في قلبه من محبّته والشّوق إليه والأنس بذكره وذكر أحواله؛ فهو مشروع له في كلّ مكان، وليس في مجرّد زيارة ظاهرة الحجرة ما يوجب عبادة لا تُفعل بدون ذلك، بل نهى عن أن يتّخذ ذلك المكان عيدًا، وأمر أن يصلّى عليه حيث يكون العبد ويسلّم عليه؛ فلا يخصّ بيته وقبره لا بصلاة عليه ولا بتسليم عليه؛ فكيف بما ليس كذلك؟! وإذا خصّ قبره بذلك؛ صار ذلك في سائر الأمكنة دون ما هو عند قبره ينقص حبّه وتعظيمه وتعزيه وموالاته والثّناء عليه عند غير قبره، عمّا يفعل عند قبره، كما يجد النّاس في قلوبهم إذا رأوا مَن يحبّونه ويعظّمونه؛ يجدون

في قلوبهم عند قبره مودّة له ورحمة ومحبّة أعظم ممّا يكون بخلاف ذلك، والرّسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله في كلّ مكان وزمان؛ فلا يؤمرون بما يوجب نقصّ محبّتهم وإيمانهم في عامّة البقاع والأزمنة، مع أنّ ذلك لو شُرع لهم؛ لاشتغلوا بحقوقهم عن حقّه، واشتغلوا بطلب الحوائج منه ـ كما هو الواقع ـ؛ فيدخلون في الشّرك بالخالق، وفي ترك حق المخلوقّ؛ فينقص تحقيق الشّهادتين: شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله. وأمّا ما شرعه لهم من الصّلاة والسّلام عليه في كلّ مكان، وأن لا يتّخذوا بيته عيدًا ولا مسجدًا، ومنعهم من أن يدخلوا إليه ويزوروه كما تُزار القبور؛ فهذا يوجب كمال توحيدهم للرّبّ ـ تبارك وتعالى ـ، وكمال إيمانهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم ومحبّته وتعظيمه، حيث كانوا لاهتمامهم بما أُمروا به من طاعته؛ فإنّ طاعته هي مدار السّعادة، وهي الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، وأهل الجنّة وأهل النّار؛ فأهل طاعته هم أولياء الله المتّقون وجنده المفلحون وحزبه الغالبون، وأهل مخالفته ومعصيته بخلاف ذلك. والذين يقصدون الحجّ إلى قبره وغبر غيره، ويدعونهم ويتّخذونهم أندادًا من أهل معصيته ومخالفته، لا من أهل طاعته وموافقته؛ فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنّوا أنّ هذا من موالاته ومحبّته، كما يظنّ النّصارى أنّ ما هم عليه من الغُلُوّ في المسيح والشّرك به من جنس محبّته وموالاته، وكذلك دعائهم للأنبياء الموتى ـ كإبراهيم وموسى وغيرهما (عليهم السّلام) ـ، ويظنّون أنّ هذا من محبّتهم وموالاتهم؛ وإنّما هو من جنس معاداتهم؛ ولهذا يتبرّؤون منهم يوم القيامة، وكذلك الرّسول صلى الله عليه وسلم يتبرّأ ممّن عصاه، وإن قصد تعظيمه والغُلُوّ فيه؛ قال ـ تعالى ـ: {وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمَن اتّبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إنّي بريء ممّا تعملون} ؛ فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرّؤوا من كلّ معبود غير الله ـ تعالى ـ ومن كلّ مَن عبده. قال ـ تعالى ـ: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براء منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحدَه} ، وكذلك سائر الموتى؛ ليس في مجرّد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبّة إلَّا لمَن عرف أحوالهم بدون ذلك؛ فيتذكر أحوالهم فيحبّهم،

والرّسول صلى الله عليه وسلم يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله وما منّ الله به عليه [ومنّ] به على أُمّته؛ فبذلك يزداد حبّهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر؛ ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصّالحين من أبعد النّاس عن سيرتهم ومتابعتهم؛ وإنّما قصد جمهورهم التّأكل والتّرأس بهم؛ فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رياسة ومأكلة، لا ليزدادوا لهم حبًّا وخيرًا. وفي «مسند الإمام أحمد» و «صحيح ابن حبّان» ، عن ابن مسعود، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من شرار النّاس مَن تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» . وما ذكره هذا من فضائله فبعضّ ما يستحقّه صلى الله عليه وسلم، والأمر فوق ما ذكره أضعافًا مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به، وطاعتنا له، واتّباع سُنّته، والتّأسي به، والاقتداء به، ومحبّتنا له، وتعظيمنا له، موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ فإنّ هذا هو طريق النّجاة والسّعادة، وهو سبيل الحقّ ووسيلتهم إلى الله ـ تعالى ـ، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره والشّرك بالله واتّباع غير سبيل المؤمنين السّابقين الأوّلين والتّابعين لهم بإحسان، وهو صلى الله عليه وسلم قد قال: «لا تُشدّ الرّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» ، وقال: لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يحذّر ما فعلوا، وقال: «لا تتّخذوا قبري عيدًا، وصلّوا [عليّ] ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» ، وقال: «خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمّد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة» ، وقال: «إنّه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنّتي وسُنّة

الخلفاء الرّاشدين من بعد؛ تمسّكوا بها وعَضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كلّ بدعة ضلالة» ، إلى غير ذلك من الأدِلّة التي تبيّن أنّ الحجّاج إلى القبور هم من المخالفين للرّسول صلى الله عليه وسلم، الخارجين عن شريعته وسُنّته، لا من الموافقين له المطيعين ـ كما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع ـ» . انتهى ما أردنا نقله من كلام شيخ الإسلام، وقد نقلناه بطوله؛ لتعلم منه دحض ما أورده السّبكيّ في هذا الباب من الشُّبهات والمشاغبات التي نقلها عن القاضي المالكيّ المتقدّم ذكره، وقد رَدّ عليه شيخ الإسلام بكتاب ضخم، نقلنا منه هذا الأنموذج. والله الموفّق. ثم إنّ السّبكيّ أخذ يذكر المذاهب في جواز شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة وعدمه، وهذا لا حاجة بنا إليه في هذا الموضع؛ لأنّ المقصود شدّ الرّحل إلى زيارة قبر من القبور جائز أم لا؟ وقد علمتَ أنّ مَن قال بجوازه لم يأتِ بحُجّة لا صحيحة ولا ضعيفة، ومَن قال بعدم جوازه فحُجّته ظاهرة من حديث: «لا تُشَدّ الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد» ، وأمّا تغليطه للإمام النّوويّ في نقله في هذه المسألة التي نحن بصددها في «شرحه لصحيح مسلم» ، وذكره التّحريم عن أبي محمد وغيره؛ أقول: إنّ السّبكيّ قد اتّبع هواه في تغليط هذا الإمام الجليل نصرة لرأيه، وقد علمتَ مما مرّ أنّ الإمام النّوويّ لم ينفرد بنقل الخلاف في هذه المسألة؛ بل سبقه إلى ذلك الإمام ابن عقيل ـ من الحنابلة ـ، وأبو عبد الله بن بطّة ـ من الحنابلة أيضًا ـ، والقاضي عياض ـ من المالكيّة ـ، والقاضي حسين ـ من الشّافعيّة ـ؛ فأيّ لوم يلحق الإمام النّوويّ على نقله

الخلاف كغيره ممّن تقدّمه، وقد رَدّ على السّبكيّ في تغليطه للنّوويّ الحافظُ ابن عبد الهادي في أوّل كتابه «الصّارم المنكي» ؛ فارجع إليه. وقوله: «لم أجد هذا ـ يعني: تحريم شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة ـ في كلام ابن عقيل، ولا في كلام الموفّق ابن قدامة» : فيُقال له في الجواب: قد علم غيرك وجهلتَ، وحفظ غيرك ونسيتَ، ومَن حفظ حُجّة على مَن لم يحفظ، وشيخ الإسلام أعلم بكلام أهل مذهبه منك؛ لأنّك لم تعانِ كتب الحنابلة كما عاناها هو؛ فغاية الأمر أنّك لم تطّلع على كلامهما؛ فجزمتَ برأيك أنّهما لم يقولا ذلك، ولو رأيتَ أقوالهم لغلطتهما كما غلطتَ الإمام النّوويّ؛ فأيّ فائدة للمسلمين في اطّلاعك وعدمه إذا كنتَ ملتزمًا هذه الطّريقة؟! وأمّا قوله: «لو فُرِضَ أنّ ابن عقيل قال ذلك؛ فكلامه يخصّص كما تخصّص الكتاب والسُّنّة» : فأقول: مَن كان يُعَمِّم ويُخَصّص بهواه ورأيه؛ فكلامه أحقر من أن يُشتغل بالرّدّ عليه، ومَن يُخَصّص بأدلّة شرعية؛ فهذا ـ لعمري ـ هو العلم، ومن أين للسّبكيّ دليل شرعيّ يُخَصّص به كلام ابن عقيل؟! وأمّا تحسين ظَنّه به؛ فهذا لا

افتراء السبكي على شيخ الإسلام وأنه يمنع من زيارة القبور عموما

يُخَصّص كلامه، ومتى كان ابن عقيل مخالفًا للنّصوص الشّرعيّة في هذه المسألة حتى تحتاج إلى تحسين الظّنّ به، اللهمّ إلَّا أن يكون السّبكيّ وأضرابه ممن يرى البِدعة سُنّة، ولم يميّز بين صحيح الأدلّة وسقيمها. وأمّا تكذيبه لفتيا علماء بغداد الذين أفتوا بصحّة ما قاله شيخ الإسلام، وقوله: «إنّها مختلفة» ؛ فهذا لا يثبت بالظّنّ والتّخمين، ولو جاز رَدّ أقوال العلماء بمثل هذا؛ لكان كلّ أحد لم يعجز عنه، وكيف يُظَنّ الاختلاف على علماء موجودين في ذلك الزّمان تبلغهم الكتابة؟! وأيضًا فإنّ الإمام ابن عبد الهادي قد قال في أوّل «الصّارم المنكي» : «قد اطّلعتُ على إفتاء علماء بغداد أنا وغيري، ورأينا خطوطهم عليها» ، ولكن مَن حمله تعصّبه إلى مثل هذا الهذيان؛ فلا بدع به أن يقول ما هو أعظم من ذلك، وقد ذكر فتيا أهل بغداد الشّيخ مرعي في كتابه «الكواكب الدّريّة في ترجمة ابن تيميّة» ـ المطبوع في مصر ـ؛ فلا نطيل بذكرها. وأمّا قوله: «إنّ ابن تيميّة لم يُنازع في شدّ الرّحل للزّيارة فقط؛ بل مقصود منع الزّيارة أيضًا» : أقول: هذا افتراء محض على شيخ الإسلام؛ لأنّ كلّ مَن طالع كتبه يجد فيها استحبابه زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا زيارة غيره من المسلمين، وإنّما قسّم الزّيارة إلى شرعيّة وبدعيّة ـ كما ذكره السّبكيّ نفسه عنه في هذه الجمل ـ. وأمّا قوله: «وقد بقي عليه قسم ثالث؛ وهو: زيارتها للتبرّك بها» : فيقال له: هذا القسم لم يُعَرّج عليه شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء الأعلام الذين جعلهم الله هداة للأنام؛ فإنّ هذا القسم قد دخل في فسم الزّيارة البدعيّة الشّركيّة؛ كما يعلمه مَن تتبّع النّصوص الشّرعيّة الواردة في زيارة القبور، فليس فيها استحباب زيارة القبور للتبرّك بأهلها؛ وإنّما فيها الزّيارة لأجل تذكّر الآخرة والدُّعاء والتّرحّم والسّلام على أهلها، ليس إلَّا، وإن كان السّبكيّ يقول: «هناك قسم آخر» ؛ فعليه الدليل، وأنّى له

السبكي يجوز التبرك بالموتى

ذلك؟! وقد رَكِبَ الصّعب من تأويل الآية القرآنية بتأويل لم يسبقه به أحد، وإيراد الأحاديث الضّعيفة والموضوعة ـ وقد مرّ بيان ذلك ـ. وقوله: «إنّ ابن تيميّة حكم عليها بالضّعف والوضع» ؛ فهذا قول ساقط؛ لأنّ شيخ الإسلام لم يحكم على هذه الأحاديث الواردة في الزّيارة بالضّعف والوضع من عند نفسه؛ بل ذكر أقوال العلماء أهل الجرح والتعديل في حال رجال إسنادها، وإذا رجعتَ إلى كتاب «الصّارم المنكي» للحافظ ابن عبد الهادي وإلى ما ذكرناه؛ علمتَ سقوط ما اعترض به السّبكيّ على شيخ الإسلام. وأمّا قوله: «ومن المعلوم من الدّين وسير السّلف الصّالحين التبرّك ببعض الموتى من المسلمين؛ فكيف بالأنبياء والمرسلين ... » إلى آخره: أقول: هذه دعوى ما عليها أثارة من علم؛ بل هي أصل ضلال المُضلّين وشرك المشركين، ويقال له: أوجد لنا دليلًا من الكتاب العزيز أو من سُنّة صحيحة أو أثر صحابيّ يدلّ على ما قلتَه؛ وإلّا فكيف يكون هذا الشّرك معلومًا من الدّين وسير السّلف، وهم كانوا أشدّ النّاس تحريًا وتباعدًا عن الشّرك؟! ولو كان ما قلتَه صحيحًا ومعلوم أنّ قبره صلى الله عليه وسلم أفضل القبور وأعظمها؛ فكيف نهاهم عن اتخاذه عيدًا، ولعن مَن يبني المساجد على قبور الصّالحين؟! فهل كان صلى الله عليه وسلم يعلم أنّ التبرّك بقبور الصّالحين خيرًا أم لا؟! فإن كان يعلم أنّه خير؛ فكيف ينهى أُمّته عن اكتساب هذا الخير وهو حريص على هداية أُمّته وعلى جلب الخيرات لها؟! وإن كان لا يعلم؛ فكيف اهتدى لهذا الخير السّبكيّ وأضرابه ممّن حسّنوا للنّاس العكوف على القبور، وطلب الحوائج من أهلها، وجوّزوا لهم التمسّح بها، والطواف حولها، وتقبيلها، والسّجود لها؟! فهل هذا معلوم عند السّبكيّ من الدّين؟ فسبحانك هذا بهتان عظيم!

وأيضًا؛ فقد نقلنا فيما سبق معنى التبرّك عند أهل اللّغة؛ وأنّ معناه طلب البركة منه؛ فأيّ عاقل ذاق طعم الإيمان يقول: إنّ الميت يُعطِي مَن يشاء ويمنع مَن يشاء؟! فما هذا إلَّا فتح باب شرّ على الإسلام وأهله، وهذا هو السّبب في منعه صلى الله عليه وسلم عن اتّخاذ القبور مساجد، وعن اتخاذ قبره عيدًا، ولعن مَن يفعل ذلك، كما لعن المُتّخذين عليها السُّرج، ومَن يذبح لغير الله، وهذا كلّه سدّ لباب الشّرك بالله العظيم، وجميع ما حذر منه صلى الله عليه وسلم قد وقع في زماننا وقبله بقرون عديدة؛ وما ذلك إلَّا بسبب فتيا من السّبكيّ وأضرابه، وما زال هذا الشّرّ يتفاقم شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى ما يُرى من العكوف على القبور، والاستنجاد بالمقبور، والذّبح لأهلها، والهتاف بأسمائها، والخشوع والتّضَرّع والتّذلّل والتّملّق عندها، والسُّجود لها، حتى أخبرني بعض النّاس أنّه رأى مَن يأتي بالكبش فيذبحه عند القبر، ورأى آخر مَن يأتي لإناء فيه سمن فيهريقه على القبر! ... وغير ذلك من المنكرات التي ما فعل المشركون مِعْشار عُشْرها، وما هذا إلَّا بسبب تحسين بعض علماء السّوء لذلك؛ فإنّ العوام لا علم عندهم يُمَيِّزون به بين ما هو من الدّين وما هو شرك برب العالمين؛ بل تَبعوا علماء السّوء على أقوالهم وأفعالهم، واغتروا بسكوتهم وإقرارهم على ما يرونه منهم، فوالله لو كان شدّ الرّحل إلى القبور والتّبرّك بها جائزًا؛ لكان بهذه المثابة التي وصفناها حرامًا؛ لأنّ القاعدة المقرّرة وهي: أنّ «درء المفاسد مُقدّم على جلب المصالح» ، فكيف والأمر فوق ما وصفنا بأضعاف مضاعفة؟! ولم أعلم أنّ السّبكيّ قد أجاز فعل جميع ما ذُكِرَ ... ؛ ولكن أعلم أنّه استحبّ التّبرّك ـ بمعنى: طلب البركة ـ من قبور الصّالحين؛ فجاء غيره بعده فزاد في الطنبور نغمة والطّين بلّة؛ فجوّز السُّجود للقبور ـ انظر كتاب: «الجوهر المنظم» للهيتمي ـ. وأجاز بعضهم تقبيل أعتابها وتقبيلها ـ انظر: الرسالة المطبوعة مع «شفاء السّقام» ، المطبوع بالمطبعة الأميرية بمصر ـ. وأجاز بعضهم طلب الحوائج من أهلها؛ وقال:

كلام العلامة البركوي في زيارة القبور

إنّ عند كلّ قبر من قبور الصّالحين ملَك وُكّل بهذا القبر يقضي حوائح السّائلين من صاحب القبور! ـ انظر: «حاشية الباجوري على جوهرة اللقانيّ» ـ. وغير ذلك مما يطول ذكره ويُعْيين حصره؛ فإلى الله المشتكى والمفزع مما ألصقه هؤلاء بالدّين، وشوّهوا به وجه المسلمين، حتى ضاهوا بفعلهم هذا فعل المشركين من قبل، {قاتلهم الله أنّى يؤفَكون} . وقد فهم كثير من النّاس أنّ إنكار هذا المنكر وردّ هذا الشّرك خاصّ بشيخ الإسلام ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم؛ كلَّا بل ردّه كثير من أهل المذاهب؛ وإليك ما قاله الإمام البركويّ الحنفيّ ـ صاحب «الطّريقة المحمّديّة» ـ في رسالته في زيارة القبور؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ: «وأمّا الزّيارة الشّرعيّة التي أَذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؛ فالمقصود منها شيئان: أحدهما: راجع إلى الزّائر؛ وهي: الاعتبار والاتّعاظ، والثاني: راجع إلى الميّت؛ وهو: أن يُسَلِّم عليه الزّائر، ويدعو له، ولا يطول عهده به؛ فيهجره وينساه، كما أنّه إذا ترك أحدًا من الأحياء تناسه، وإذا زاره فرح بزيارته وسُرَّ بذلك؛ فالميّت أولى به؛ لأنّه قد صار في دار هجر أهلها إخوانهم ومعارفهم؛ فإذا زاره أحد وأهدى إليه هبة من سلام ودعاء؛ ازداد بذلك سروره وفرحه. وأمّا الزّيارة البدعيّة: فزيارة القبور لأجل الصّلاة عندها، والطّواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود عليها وأخذ تُرابها، ودعاء أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النّصر والرّزق والعافية والولد وقضاء الدّيون، وتفريج الكُربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من الحاجات التي كان عُبَّاد الأوثان يسألونها من أوثانهم؛ فليس شيء من ذلك مشروعًا باتّفاق أئمّة المسلمين؛ إذ لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصّحابة والتّابعين وسائر أئمّة الدّين؛ بل أصل هذه الزّيارة البدعيّة الشّركيّة مأخوذة من عبادة الأصنام؛ فإنّهم قالوا:

الميّت المعظّم على هذا الوجه قربة ومزية عند الله ـ تعالى ـ، لا يزال تأتيته الألطاف من الله ـ تعالى ـ، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علّق الزّائر روحه به وأدناه منه؛ فاض من روح المزور على روح الزّائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشّعاع من المرآة الصّافية والماء الصّافي ونحوهما على الجسم المقابل له! ثم قالوا: فتمام الزّيارة أن يتوجّه الزّائر بروحه إلى الميّت ويعكف بهمّته عليه، ويوجه قصده وإقباله إليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره! وكلّما كان جمع الهمّة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به! وقد ذكر هذه الزّيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرّح به عُبّاد الكواكب، وقالوا: إذا تعلّقت النّفس النّاطقة بالأرواح العلويّة فاض عليها منها نور؛ ولهذا السّر عُبِدَت الكواكب، واتخذت لها الهياكل، وصُنّفت لها الدعوات واتخذت لها الأصنام» انتهى ما أردتُ نقله من

شرح المؤلف لحديث: "لا تشد الرحال ... "

الرّسالة المذكورة. والرسالة مطبوعة في مصر، وقد أطال فيها الكلام على الزّيارة البدعيّة؛ فارجع إليها؛ لأنّها مفيدة جدًّا في هذا الباب، وحيث إنّها قد نُشِرَت في البلدان؛ اكتفيتُ بذكر القليل منها؛ فرحمة الله على مؤلّفها. الحاصل: أنّ العلماء قديمًا وحديثًا قد قسّموا زيارة القبور إلى: شرعيّة، وبدعيّة؛ فالشّرعيّة: ما كانت لأجل تذكّر الآخرة والدُّعاء لأهلها والتّرحّم والسّلام عليهم، وهذا القدر لا يفتقر إلى شدّ رحل؛ إذ ما من بلدة إلَّا وفيها قبور، وأمّا قبره صلى الله عليه وسلم فهو أفضلها وأحقّ بالزّيارة، ولكن لا يُقصد بشدّ رحل استقلالًا؛ بل إذا نوى المسافر الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ سُنّ له أن يزور قبره الشّريف، وله أن ينوي الزّيارة مع نيّة شدّ الرّحل لأجل الصّلاة في المسجد ـ كما تقدّم تقريره ـ، وهذا هو الذي قاله شيخ الإسلام، ولم يأتِ في كلامه قط ما ينفي الزّيارة الشّرعيّة؛ عملًا بالحديث المرويّ: «لا تُشَدّ الرّحال ... » ، وتأويل السّبكيّ لهذا الحديث بالتّأويلات البعيدة لا يُخرجه عن المقصود منه؛ لأنّنا نقول: معنى قوله «لا تُشَدّ الرّحال» : خبر، ومعناه النّهي، «إلَّا إلى ثلاثة مساجد» : هذا استثناء مفرغ، والاستثناء منقطع؛ لعدم تقدّم مادة عليه يُستثنى منها، فمَن خَصّه بعدم جواز شدّ الرّحل إلى مسجد غير المساجد الثّلاثة فقد أخطأ؛ لأنّ المساجد ما تقدّم لها ذكر؛ فيبقى النّهي على عمومه؛ فإذا قلنا ـ مثلًا ـ: «لا يُسافَر إلَّا لمكة» ؛ فُهِمَ من هذا عدم جواز السّفر إلى غيرها مما جرت العادة بالسّفر إليه، ولا يُقال: هذا خاصّ بالبلدان دون الأشخاص؛ لأنّ البلدان والأشخاص من النّاس جرت العادة بالسّفر إليها؛ فلا يكون أحدهما هو المتعيّن بالنّهي عن السّفر إليهم. فإن قلتَ: يلزم على قولك هذا: عدم جواز السّفر إلى غير المساجد الثّلاثة، والحال: قد جاءت الأدلّة باستحباب السّفر إلى طلب العلم، وزيارة الإخوان، والتّجارة، وغير ذلك. فالجواب أن يقال: هذا الإشكال مدفوع من وجهين: أحدهما: أنّ حديث:

كلام المؤلف على أقسام السفر

«لا تُشَدّ الرّحال ... » عامّ مخصوص بهذه الأدلة المجوّزة لشدّ الرّحل والسّفر إلى ما ذكر، وقد بقي حكمه في منع شدّ الرّحل إلى زيارة أيّ قبر من القبور؛ حيث لم يأتِ دليل يجوّز السّفر إلى زيارة القبور. فإن قلتَ: قد وردت أحاديث تفيد استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم والسّفر إليه؛ فهي مُخَصصة لهذا الحديث. فالجواب: هذه الأحاديث بعضها ضعيف، وبعضها موضوع، وحديث: «لا تُشَدّ الرّحال ... » صحيح متّفق على صحّته، ولا يُخصص الصّحيح بالضّعيف؛ بل بصحيح مثله. وأيضًا؛ إنّ الأحاديث الواردة في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الثابت منها لا يفيد إلَّا استحباب الزّيارة فقط، وهذا لا ينكره شيخ الإسلام ولا غيره من العلماء إذا خلا عن شدّ رحل، وما يُفيد استحباب شدّ الرّحل للزّيارة منها فهو مُختلق موضوع، ومما يدلّ على أنّ شدّ الرّحل لزيارة القبور غير جائزة: عدم ورود دليل عنه صلى الله عليه وسلم، لا من قوله ولا من فعله، ولا من قول أصحابه ولا من فعلهم، ومعلوم أنّ قبور الأنبياء والصّالحين كانت في زمانه وفي زمان أصحابه، ولم يبلغنا أنّه صلى الله عليه وسلم شدّ رحله إلى زيارة قبر من القبور، ولا أمر به، ولا فعله أصحابه، مع أنّه صلى الله عليه وسلم سافر للتّجارة والغزو، وسافر موسى ـ عليه وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة والسّلام ـ لطلب العلم، وسافر الصّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ لطلب العلم، والتّجارة، وزيارة الإخوان في الدّين؛ فعُلِمَ بهذا أنّ حديث: «لا تُشَدّ الرّحال ... » لم يُخَصّ بهذه المذكورات؛ بل باقٍ على حكمه من المنع عن شدّ الرّحل إلى زيارة القبور. الوجه الثاني: أن يقال: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدّ الرّحال» : إلى أي بُقعة تُلتَمس منها بركة، أو تفعل فيها عبادة أو قُربة، «إلَّا إلى المساجد الثّلاثة» ، ومعلوم أنّ كلّ قبر من القبور في بقعة من البقاع، وهي غير المساجد الثّلاثة؛ فقد تبيّن بما قرّرناه أنّ تأويل السّبكيّ وأضرابه لهذا الحديث ساقط عن درجة الاعتبار، وأنّ ما ذهب إليه شيخ الإسلام وغيره هو الحقّ الذي لا غبار عليه عند كلّ مَن أنصف من نفسه وحكّم الدّليل، والله الهادي إلى سواء السّبيل. تتمة البحث في هذه المسألة: فإن قال قائل: يُفهم من شرحك لحديث: «لا تُشَدّ

الرّحال ... » أنّ السّفر ينقسم إلى: محرّم ومستحبّ فقط، والحال: أنّه قد يكون مباحًا. فالجواب أن يقال: نعم؛ قد قسَّم العلماء السّفر إلى ثلاثة أقسام: محرّم، ومستحبّ، ومباح. فالمحرّم: إذا كان سفر معصية ـ كسفر الآبق وقاطع الطّريق، وغير ذلك مما فيه معصية ـ. والمستحبّ: ما كان فيه خير دينيّ أو دنيويّ. ومباح: إذا كان خاليًا عن هذا كلّه. والذي يظهر لي: أنّه لا يكون مباحًا؛ بل أقلّ درجاته أن يكون مستحبًّا؛ لأنّه إن كان سفرًا لأجل طلب علم أو زيارة والد أو ذي رحم وغير ذلك من الأمور المندوب إليها شرعًا؛ فهو مطلوب، وإن كان سفرًا لأجل تحصيل رزق من وجه حلال ـ كالتّجارة ونحوها ـ؛ فهو مطلوب أيضًا؛ لقوله ـ تعالى ـ: {فامشوا في مناكبها} ... وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدّالّة على طلب الكسب من وجه الحِلّ، وأمّا كونه مباحًا: فلا يظهر لي؛ لأنّه إن خلا عن هذه الأمور كلّها؛ فهو عبث، وإضاعة مال، وتحمّل مشقّة فيما لا فائدة فيه. ولا يرد علينا: جواز السّفر بقصد السّياحة؛ فإنّا نقول: هذا السّفر من أهمّ أمور الدّين والدُّنيا معًا؛ فأمّا كونه من أهمّ أمور الدّين: فإنّه إذا رأى في سفره هذا ما فعله الله بالمكذّبين للرّسل من قبل ـ كقوم ثمود، وأصحاب الرّسّ، وغيرهم ممن قصّ الله علينا نبأهم في كتابه ـ؛ زاده هذا إيمانًا بربّه وتصديقًا بنبيّه؛ فعليه أن يقصد بسفره مثل هذا؛ لقوله ـ تعالى ـ محتجًّا على الكفّار: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذّبين} ، {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} ... إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالسّير في الأرض لأجل العظة والاعتبار بأحوال الذين مضوا. وإن كان المقصود من السّفر: الاطّلاع على أحوال النّاس اليوم الذين تقدّموا وترقُّوا في المعارف والصّنائع والعمران؛ فهذا من أهمّ أمور الدّين والدُّنيا، ولا

يَجعل هذا مُباحًا إلَّا مَن لم يتدبّر معاني القرآن والسُّنّة وسير السّلف. وإن تجرّد قصده بالسّفر عن هذا كلّه؛ فهو إلى التّحريم أقرب؛ لأنّنا منهيّون عن إضاعة المال، وعن الاشتغال بما لا يعني. فإن قلتَ: السّفر إلى زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فيه خير دينيّ؛ فيكون من باب السّفر المطلوب. فالجواب: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم هي من أعظم القربات، ولكن لم يأمرنا ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ إلَّا بشدّ الرّحال للصّلاة في المساجد الثّلاثة؛ فلو كانت زيارته صلى الله عليه وسلم كالصّلاة في مسجده لعطفها على المساجد، ولكن لمّا لم يذكر معها؛ علمنا أن حكمها غير حكم المساجد الثّلاثة، وأنّ الذي يُقصَد بشدّ الرّحل إنّما هو الصّلاة في مسجده والزّيارة معًا، وإن أخّر نيّة الزّيارة حتى وصل فلا بأس. فإن قال قائل: يلزم على قولك هذا: أنّ الزّيارة تابعة لا متبوعة، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم متبوع لا تابع؛ فزيارته كذلك! فجوابه أن يقال: هل المقصود من زيارة القبر الشّريف انتفاع الزّائر أو انتفاع النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فإن كان الأول: فمعلوم أنّ الصّلاة خير موضوع، وأنّها أفضل الأعمال ـ كما جاء ذلك في الأحاديث الصّحيحة ـ، وأنّها في مسجده أفضل من غيرها سوى المسجد الحرام؛ فهي أحقّ بالقصد من الزّيارة. وإن كان الثاني: فمعلوم أنّ الصّلاة حق لله والزّيارة حق للمخلوق، وحقّ الله أولى بالتّقدّم على حقّ المخلوق. وأمّا قول السّبكيّ: «ولو طُولب ابن تيميّة بالدّليل على هذا النّفي العام؛ لم يجد إليه سبيلًا» ! فجوابه: أمّا هذه الآثار التي أوردتَها؛ فقد تقدّم الكلام عليها مستوفى، وأمّا جوابنا على هذه الجملة فهو: لو كان السّفر لمجرد الزّيارة شائعًا ذائعًا بين الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم؛ ما كان يختصّ بفعله بلال وعمر بن عبد العزيز؛ بل كان يكون مما استفيض واشتهر، ولكان أئمّة الدّين من المتقدّمين ذكروه في كتبهم، وهذا مالك في «الموطأ»

والشّافعيّ في «الأُمّ» وأهل الكتب السّتّة وغيرهم؛ لم يذكر أحد منهم هذا السّفر؛ بل اقتصروا على ذكر: فضل المدينة، وفضل الصّلاة في مسجده، وذكروا حديث: «لا تُشَدّ الرّحال ... » ، ولما لم يذكروا شيئًا من ذلك؛ عُلِمَ أنّ السّفر لمجرد الزّيارة لم يكن معروفًا عندهم؛ وإنّما المعروف عندهم وصرّحوا به في كتبهم: السّفر إلى مسجده، وإذا صلّى فيه انثنى للسّلام عليه صلى الله عليه وسلم ـ كما فعل ابن عمر ـ، وأيّ دليل لابن تيميّة على ما ذهب إليه أعظم من هذا؟! ثم أطال الكلام بعد ذلك، وتركنا الكلام عليه؛ لأنّه بعينه قد ذكره القاضي المالكيّ الذي اعترض على شيخ الإسلام؛ فردّ عليه شيخ الإسلام بكتاب سمّاه «الجواب الباهر» ، وقد نقلنا منه شيئًا يُبطل كلام السّبكيّ الذي ذكره في هذا المقام ـ فيما سبق ـ؛ فلا حاجة بنا إلى إعادته. وأما قوله في الفصل الثاني: «إنّه رأى ورقة صورة فُتيا لشيخ الإسلام ابن تيميّة في هذه المسألة، وعليها عليها خطّ القاضي جمال الدّين. وحاصله أنّ ابن تيميّة يحرّم زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وزيارة غيره من الأنبياء والصّالحين ... » إلخ: فالجواب: هذا ـ والله العظيم ـ افتراء وكذب محض، ما قاله ابن تيميّة معتقدًا، ولا كتبه في كتبه محتجًّا، وقد بيّن الحافظ ابن عبد الهادي في «الصّارم» تكذيب نسبة هذا له، وذكر قوله في الزّيارة، ونحن أيضًا قدمنا ما هو واضح ومصرّح بسنيّة زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء وجميع المسلمين وحتى الكافرين من كلام شيخ الإسلام، وإذا تأمّلتَ صورة الفُتيا التي نقلها السّبكيّ عن شيخ الإسلام تبيّن لك أنّ هذا القول الذي ذكره عنه كذب وزور؛ أوقعهم فيه عدم فهم كلام هذا الإمام. نعم؛ حرّم شدّ الرّحال إلى الزّيارة المجرّدة عن قصد آخر يبيح السّفر، وشتان بين شدّ الرّحل والسّفر إلى الزّيارة، وبين زيارة القبور الخالية من ذلك؛ وقد أسلفنا أنّهما مسألتان؛ فمَن جعلهما مسألة واحدة وحكم

عليهما بحكم واحد، وطفق يُشنّع على مَن خالفه وينسبه للجهل والزّيغ والابتداع؛ فهو الأجدر بذلك؛ لأنّه ملوم بتقصيره في الفهم، مذموم على وقوعه في أعراض العلماء بغير حقّ ولا مسوّغ شرعيّ؛ بل حمله على ذلك التّعصّب والحسد وقلة الخوف من الله ـ عزّ وجلّ ـ؛ فنعوذ بالله ممن هذا حاله. وأمّا قوله في الرّد على الفُتيا: «إنّ ابن تيميّة جعل ابن عقيل من المتقدّمين والغزاليّ من المتأخّرين؛ ليوهم على العوام» : فجوابه: أنّ شيخ الإسلام قد عطف ابن عقيل على ابن بطّة القائلين بمنع شدّ الرّحل إلى زيارة القبور، ومعلوم أنّ ابن بطّة من المتقدّمين بلا خلاف؛ لأنه مات سنة ثلاثمائة وسبع وثمانين، وأمّا ابن عقيل فهو كان معاصرًا للغزاليّ ومات بعده؛ فمراده أنّ ابن عقيل وافق على ما قال ابن بطّة، ولم يتعرّض للتّاريخ، وأمّا جعله الغزاليّ من أصحاب الشّافعيّ المتأخّرين فهو الصّحيح؛ لأنّه مات سنة خمسمائة وخمس؛ فلا إيهام حينئذ. وأمّا ردّه على شيخ الإسلام في نقله الخلاف: فهو ساقط؛ وقد بُيّن فساده فيما سبق. وأمّا قوله عن شيخ الإسلام: «إنّه عزا حديث: «مَن زارني في مماتي كان كمَن زارني في حياتي» للدّارقطنيّ وابن ماجه» : فجوابه: أنّ هذه الفُتيا التي نقلها السّبكيّ في هذا الموضوع هي بعينها التي نقلها عن شيخ الإسلام الشّيخ مرعي الحنبليّ في كتاب «الكواكب الدّريّة في مناقب شيخ الإسلام ابن تيميّة» ، وعليها توقيعات من علماء بغداد من أهل المذاهب الأربعة، وكلّهم قد شهدوا أنّ ما قاله شيخ الإسلام في هذا الجواب هو حقّ لا مرية فيه، وأنا قد قرأتُ الجواب من أوّله إلى آخره؛ فلم أجد فيه أنّ شيخ الإسلام عزا هذا الحديث لابن ماجه؛ بل اقتصر على عزوه للدّارقطنيّ فقط. وقول السّبكيّ: «إنّه لم يرَ هذا الحديث في سنن ابن ماجه» : فهو حقّ؛ وهذا يدلّ على

دفاع المؤلف عن ابن بطة الذي شنع عليه السبكي

أنّه ساقط لا يصلح للاحتجاج في محلّ النّزاع؛ إذ لو كان هذا الحديث ثابتًا عند أهل الفنّ الشّريف لما أخلوا منه كتبهم؛ إذ هي الأصول السّتّة، وإذا كان ابن ماجه ـ مع تساهله في إيراد بعض الأحاديث الواهية ـ لم يخرّجه؛ فكيف غيره من أهل الصّحيح والسّنن. وأما إخراج الدّارقطنيّ له؛ فهو جريٌ على عادته في «سُننه» من إخراج غرائب السُّنن، وكم أودعها أحاديث ضعيفة بل موضوعة، وتارة ينبّه عليها، وقد لا ينبّه. وقد بيّن حال الأحاديث التي فيها الحافظ شمس الحقّ الدّهلويّ في كتابه «التّعليق المغني على سُنن الدّارقطنيّ» . ثم إنّ السّبكيّ بعد أن نقل جواب شيخ الإسلام على وجهه؛ أخذ يُحرّفه عند الرّدّ عليه؛ فمن ذلك قوله عنه: «إنّ العلماء قد حرّموا شدّ الرّحل إلى أيّ مسجد غير المساجد الثّلاثة، ولو نذره» ؛ فهذا تحريف بيّن من السّبكيّ؛ لأنّ شيخ الإسلام نقل الخلاف فيمَن نذر الصّلاة في مسجد غير الثّلاثة، وذكر وجوب الوفاء به عن مالك والشّافعيّ وأحمد ـ في الرّوايتين ـ، وذكر عن أبي حنيفة أنّه لا يجب الوفاء به؛ لأنّ قاعدة النّذر عنده: أنّه ما كان من جنسه واجبًا فالوفاء به واجب. واحتجّ شيخ الإسلام للجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومَن نذر أن يعصيه فلا يعصه» ، أخرجه البخاريّ. وإذا كان حال السّبكيّ هكذا من تحريف كلام العلماء من أجل مخالفتهم له؛ فلا ثقة بنقله في شيء؛ لأنّ هذا قادح فيه، سيّما والمسألة قريبة. وأمّا حطّه على ابن بطّة الحنبليّ، وذكره كلام الخطيب فيه؛ فهذا لا يقدح فيه؛ لأنّ المسألة من أبواب الفقه، والرجل فهو ـ وإن كان ضعيفًا في الحديث ـ فهو فقيه باتّفاق ـ كما سنبيّنه ـ. فإن

قلتَ: إذا كان ضعيفًا في الحديث؛ يلزم منه أن يكون ضعيفًا في الفقه. فالجواب: لا يلزم من كونه ضعيفًا في الحديث ضعفه في الفقه؛ لأنّ الرجل قد يغلب عليه فن فيُشغله عن إتقان غيره ـ كما وقع ذلك للكثير من الفقهاء ـ؛ وهذا حُجّة الإسلام أبو حامد الغزاليّ كان متبحرًا في الفقه وأصوله، وفي الحديث بضاعته مزجاة؛ حتى شحن كتبه بالأحاديث الضّعيفة والموضوعة، ومع هذا؛ لم يحط [من] قدره؛ لأنّ الله يقول: {وفوق كلّ ذي علم عليم} . وإليك ترجمة الإمام أبي عبد الله بن بطّة أثبتناها ليتبيّن صدق ما قلناه: ابن بطّة العُكبري الحنبلي، مصنّف «الإبانة» ، كُنيته أبو عبد الله، واسمه: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، تكلّموا فيه، سمع عبد الله بن سليمان ابن الأشعث، والبغويّ، وطبقته، وعنه: أبو القاسم بن البُسريّ، وغيره، توفي سنة ثلاثمائة وسبع وثمانين. انتهى من «القاموس» و «شرحه» للزّبيدي. وقال في «الميزان» : «عبيد الله بن محمد بن بطّة العُكبريّ، الفقيه، إمام، لكنّه ذو أوهام، لحق البغويّ وابن صاعد. قال ابن أبي الفوارس: روى ابن بطّة عن البغويّ عن مصعب عن مالك عن الزّهريّ عن أنس مرفوعًا: «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» ،

وهذا باطل. العتيقيّ: حدثنا ابن بطّة، أنبأنا البغويّ، أنبأنا مصعب، حدثنا مالك عن هشام عن أبيه ... فذكر حديث قبض العلم، وهو بهذا الإسناد باطل. وقد روى ابن بطّة عن النّجاد عن العطاردي؛ فأنكر عليه ابن ينال وأساء القول فيه؛ حتى همّت العامّة بابن نيال؛ فاختفى! وقال أبو القاسم الأزهريّ: ابن بطّة ضعيف. قلتُ: ومع قلّة إتقان ابن بطّة في الرواية؛ كان إمامًا في السُّنّة، إمامًا في الفقه، صاحب أحوال وإجابة دعوة، رضي الله عنه» اهـ. ومع هذا كلّه؛ فلم ينفرد ابن بطّة بذكر هذا الخلاف؛ بل ذكره أيضًا ابن عقيل والغزاليّ والقاضي عياض

قصر المؤلف للخلاف في شد الرحل على الصلاة في المسجد

والنّوويّ؛ فأيّ لوم يلحق بشيخ الإسلام على نقله الخلاف في هذه المسألة؟! وكيف يقول هذا من عند نفسه؟! وقد تقدّم نصوص هؤلاء الذين نقلوا الخلاف، ولا التفات لتغليط السّبكيّ النّوويَّ؛ فإنّه لم يسبقه لتغليطه النّوويَّ أحدٌ قبله. ثم إنّ السّبكيّ ـ رحمه الله تعالى ـ قد أطال الكلام بعد ذلك بذكر أشياء لا تدلّ على مقصوده؛ بل خارجة عن الموضوع؛ فغاية أمرها أنّها تفيد استحباب الزّيارة، ونحن ـ ولله الحمد ـ وشيخ الإسلام وكافّة المسلمين لا ننكر ذلك، ولكنّ الخلاف في مسألة: شدّ الرّحل، وقد عرفتَ أنّهما مسألتان، وعرفتَ أيضًا الفرق بينهما. وهنا أمر يجب التّنبيه عليه؛ وهو: أنّ شيخ الإسلام قد استحبّ زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وذكر ذلك في «مناسكه» و «فتاويه» ؛ فمَن نسب له أنه كره الزّيارة أو حرّمها؛ فهو كاذب عليه. نعم؛ أنكر شدّ الرّحل للزّيارة المجرّدة؛ محتجًّا بالحديث الصّحيح؛ وهو: «لا تُشَدّ الرّحال ... » ، ونقل فيه الخلاف، واختار القول بالمنع؛ وقال: يشدّ الرّحال بنيّة الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وإذا وصل زار القبر الأعطر، وكذا قبور الشّهداء وغيرهم، وإذا نوى بشدّ الرّحل الصّلاة في المسجد والزّيارة معًا؛ فلا بأس. فقط يمنع شدّ الرّحل بقصد الزّيارة من غير قصد الصّلاة في المسجد ـ كما تقدّم بيان ذلك بأدلّته مستوفاة. والله الموفّق. فصل واعلم أنّ هذه المسألة ليست من المسائل المنفصلة، والخلاف فيها شديد الخطر حتى يُتعمّق في تحريرها، وعند التأمّل يظهر أنّ الخلاف فيها قريب التّوفيق؛ إذ لا بُدّ من زيارته صلى الله عليه وسلم على كلّ قول من هذه الأقوال، سواء قصد بشدّ الرّحل الصّلاة في المسجد، أو الصّلاة والزّيارة معًا، ولم يقل أحد بشدّ الرّحل إلى الزّيارة من غير قصد الصّلاة في المسجد، كما لم يقل أحد بمنع الزّيارة؛ فالحاصل أنّ الخلاف يرجع إلى شيء واحد؛ وهو: الصّلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره المعظّم. فإن قلتَ: إذا كان

سبب قيام العلماء على شيخ الإسلام

الأمر على ما وصفتَ؛ فكيف قام العلماء على ابن تيميّة من أجل هذه المسألة، وصنّفوا فيها كتبًا عديدة؟! فالجواب: أنّ العلماء الذين قاموا على شيخ الإسلام ما كان سبب قيامهم عليه هذه المسألة؛ ولكنّ السّبب فيه: أنّ شيخ الإسلام قد صنّف كتبًا كثيرة في التّوحيد ردّ فيها على مشائخهم وساداتهم، وبيّن فيها ميلهم عن الكتاب والسُّنّة، وسلوكهم طريق الابتداع، والقول على الله بغير علم، وغير ذلك من البدع المنكرة التي ابتدعوها في أصول الدّين وفروعه؛ فشتّت شملهم، وسفّه أحلامهم، وضلّل سعيهم، وخطّأ رأيهم بالحُجج الدّامغة والبراهين السّاطعة، وقد تتبّع جميع شبهاتهم وأقوالهم؛ فضى عليها بالطّرد والرّدّ، وهذا كتابه المسمّى بـ «التّسعينيّة» ، وكتاب «السّبعينيّة» ، وكتاب «العقل والنّقل» ، وكتاب «منهاج السُّنّة» ، وكتاب «الرّدّ على الفلاسفة» ... وغير ذلك من الكتب التي صنّفها في الرّدّ على مَن خالف كتاب الله وسنّة رسوله؛ فلما رأى علماء زمانه ما حلّ بأسلافهم من هذا الإمام؛ أخذوا يشنّعون عليه بأشياء، منها ما هو بريء من نسبتها إليه، ومنها ما قاله بدليل ولكنّه لم يتقيّد فيها برأي أحد، وحيث إنّهم قد علموا أنّ ما قاله شيخ الإسلام في أسلافهم حقّ لا مرية فيه ـ لأنّه ما نقله إلا عن كُتبهم ـ، ورأوا أنّ دفع ذلك غير ميسور لهم؛ فعمدوا إلى مسألتين هما في الحقيقة من مسائل الفروع، المصيب فيها بأجرين والمخطئ فيها بأجر ـ أعني بها: مسألتي الطّلاق والزّيارة ـ، وقد ردّ الله كيدهم في نحورهم لما شنّعوا عليه

وأغروا به الحكّام بسببها، وقد انتصر له في كلّ زمان أئمّة من علماء الحديث والفقه، فأمّا مسألة الزّيارة: فقد استبان مذهبه فيها، وأمّا مسألة الطّلاق: فقد حقّقها كثير من أئمّة الإسلام قديمًا وحديثًا، حتى في زماننا، وبيّنوا أنّ شيخ الإسلام هو أسعد النّاس بإصابة القول فيها. وأمّا قوله: «ويلزم على قول ابن تيميّة: أنّ الأُمّة كلّهم مخطئون في سفرهم إلى الزّيارة، وأنّها عثرة لا تُقال، ومصيبة عظيمة ... » إلخ: فالجواب: قد تقدّم غير مرّة بيان استحباب شيخ الإسلام زيارة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ودعوى السّبكيّ أنّ الأُمّة لم يزالوا يسافرون إليها قديمًا وحديثًا؛ هذه دعوى منه، وتحكّم بحت على مقاصد النّاس، وكيف يُظَنّ بصفوة النّاس ـ وهم العلماء ـ أنّهم لم يسافروا إلا للزّيارة فقط من غير قصد الصّلاة في المسجد الشّريف. فإن قال السّبكيّ: كانوا يسافرون بقصد الصّلاة والزّيارة معًا. قلنا: هذا المراد ـ وهو الذي يقول به شيخ الإسلام ـ. وإن قال: كانوا لا يقصدون بسفرهم إلَّا الزّيارة فقط من غير قصد الصّلاة [في] المسجد. قلنا: معاذ الله أنّ الأُمّة كلّها قد أجمعت على ترك سُنّة عظيمة ـ وهي: شدّ الرّحل إلى مسجده الشّريف ـ، وهم يروون ذلك في جميع كتبهم؛ فما أحد حكم عليها بالخطإ إلَّا الذي قال: لا يُسافرون إلَّا للزّيارة فقط! وأمّا قوله: «إنّها عثرة لا تُقال ... » إلى آخره: فجوابه: أنّ شيخ الإسلام ما قال إلَّا عن دليل استبان له، وقد وافق غيره ممّن ذكرنا أسماءهم، وحيث إنّ المسألة محلّ اجتهاد؛ فالمصيب فيها له أجران والمخطئ له أجر؛ فهو مأجور على كلّ حال بشهادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فهب أنّه أخطأ فيها ـ على رأي السّبكيّ ـ؛ فهو مأجور؛ فكيف يُقال: «إنّها عثرة لا تُقال» ، سيّما والإنسان ومحلّ للنّسيان، والبشر يجوز عليهم الصّواب والخطأ؟! وعقد علمتَ ـ بما مرّ ـ أنّ شيخ الإسلام لم يتكلّم في المسألة بالتّشهي وهوى النّفس؛ بل تكلّم فيها بالأدِلّة النّقليّة والعقليّة، والرّجل من أئمّة الاجتهاد ـ كما شهد له بذلك سبعون مجتهدًا في زمانه؛ نقل ذلك شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر

العسقلانيّ وغيره ممّن يقدّرون للعلماء قدرهم، ولا يبخسون النّاس أشياءهم؛ فلا يعرف الفضل لأهل الفضل إلَّا أُولو الفضل ـ. وأمّا قوله: «مصيبة عظيمة» : فجوابه أن يُقال: ما أردتَ بقولك هذا؟! فإن أردتَ: أنّ ما أتى به شيخ الإسلام من الأدِلّة والبراهين الدّالّة على ما ذهب إليه في هذه المسألة وغيرها من المسائل مصيبة؛ فإن كانت على مَن لم يألف الدّليل، وألزم نفسه التّقليد واتّباع كلّ قال وقيل؛ فهو حقّ؛ فإنّ هؤلاء عندهم أنّ إيراد الأدِلّة والاشتغال بها مصيبة عظيمة؛ لأنّ ذلك مما يُخَرّب قواعدهم وأصولهم ويُحقّرهم في أعين العامّة، بعد أن كانوا رؤساء عظماء، ومن أجل ذلك؛ سدّوا باب الاجتهاد، وحرّموا على النّاس الاستهداء بالكتاب والسُّنّة، مهما بلغ أحدهم في العلم ما بلغ، وهذا شأن الغاشّين والمدلّسين في شريعة سيد المرسلين، وأنّهم ضدّ ما كان عليه أئمّة الدّين ـ كأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد ... وغيرهم (رضوان الله عليهم) ـ؛ فكلّ هؤلاء كان مقصدهم إصابة الحقّ وظهوره على يد أيّ أحد من النّاس؛ ولذلك كانوا لا يأمرون النّاس بتقليدهم وأخذ أقوالهم، ما لم يعلموا من أين أخذوها، وكلّ واحد منهم يقول: «إذا صَحّ الحديث فهو مذهبي» ؛ فبإخلاصهم لله في علمهم أبقى الله ذكرهم إلى يوم القيامة، وأمّا هؤلاء المنتسبون إليهم بالتّسمية ـ لا بالقول والفعل ـ؛ فالأئمّة بُراء منهم ومن أفعالهم؛ فإنّ المنتسبين مقصدهم بالعلم على ضدّ مقصد الأئمّة؛ يعلم ذلك من سبر سير هؤلاء وهؤلاء. وإن أراد السّبكيّ بقوله هذا: أنّ ذلك مصيبة على الإسلام والمسلمين؛ فكلّا ثمّ كلّا! وهل يقول عاقل: إنّ الذي يستدلّ على مسائل الدّين بالأدِلّة الصّحيحة، لا يقلّد فيها أحدًا من النّاس كائنًا مَن كان [أنّ فعله مصيبة] ؟! هذه ليست مُصيبة، إلَّا على مَن حُرِمَ التّوفيق وضلّ عن الطّريق. وكيف يكون ما أتى به شيخ الإسلام مصيبة على

الإسلام والمسلمين، وهو الذي حمى الإسلام والمسلمين، وذبّ عنه وقام لنصرته قيام مخلص متجرّد لله، ممتثلًا أمره، فارًّا من وعيده، كمَن لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذه كتبه في الرّدّ على اليهود والنّصارى والدّهريّين والفلاسفة والرّافضة والباطنية وأهل الكلام، وغيرهم من الطوّائف التي حادت عن طريق القرآن والسُّنّة، وكلّها تشهد بعلوّ همّته وقوّة جنانه وصدق عزمه؛ فقد نصر الإسلام بيده ولسانه وقلبه، ما عُلِمَ عليه يومًا أنّه هاب في ذلك سلطانًا أو كثرة جموع، أو قدّم قول أحد على آية أو سُنّة، أو حاب أحدًا أو جاراه على معتقده إذا كان على غير اعتقاد السّلف الصّالح؛ بل هجر في نصرة دين الله الأهل والوطن والخلّان والأصحاب، والدّنيا بزخرفها، ورضي بالقليل منها، وأضاع عمره ما بين تعلّم وتعليم وتصنيف، ومكابدة أهوال، ومشقة لحقته من أجل قيامه لربه في نصرة دينه؛ فكم هُدّد بالحبس والإخراج عن وطنه، وكم تحدّثوا بقتله ولم يصدّه ذلك كلّه عن الامتثال لأمر ربّه، حتى أتاه اليقين ـ وهو الموت ـ في غيابات السّجن؛ فأيّ مصيبة بعد هذا كلّه أتى بها للإسلام؟! فطيّب الله ثراه، ونصر مَن والاه، وخذل عدوه وأقصاه. وهب أنّه أخطأ في مسألة أو مسألتين أدّاه إلى ذاك اجتهاده؛ فذلك مغمور في بحر علمه وحسناته ـ أي: شيخ الإسلام ـ، وأمّا السّبكيّ وأضرابه: فهم على الضّدّ مما وصفنا من حال شيخ الإسلام؛ فجنايتهم على الله وعلى كتابه ـ وهو: القرآن ـ وعلى رسوله وعلى سُنّته وعلى المسلمين أشهر من أن تُشهر: فأمّا جنايتهم على الله: فإنّهم أنكروا جميع صفاته الخبريّة التي جاء بها القرآن العزيز والسُّنّة ـ من: العلو، والفوقيّة،

والإتيان، والمجيء، والنّفس، والوجه، واليدين، والعين، والسّاق، والحبّ، والرّضا، والسّخط، والتّعجّب، والاستهزاء، والضّحك، والنّزول، والاستواء على العرش، وغير ذلك مما وصف الله به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله؛ فعمدوا إلى جميع ذلك فأوّلوه بحسب ما أدّته إليه عقولهم، وسوّلت لهم به نفوسهم، وأوحته إليهم شياطينهم؛ فلم يقفوا عند ما أخبر الله عن نفسه، وأجروه على ظاهره من غير تأويل ولا تمثيل ولا تعطيل، ولم يَدْرُجوا على نهج السّلف في مثل ذلك؛ بل ابتدعوا للنّاس عِلمًا محدثًا مولدًا في الدّين، مأخوذًا عن اليهود والجعد بن درهم وبشر المريسيّ، وسمّوه: علم المنطق وعلم الكلام، ولما اغتروا بما أُوتوه من هذا العلم المذموم الملعون، الذي خرّب عقائد المسلمين؛ قالوا: هما طريقتان: طريقة السّلف وطريقة الخلف، ولكنّ طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السّلف أسلم، لكنّها ليست بأعلم ولا أحكم! وقد علمتَ أنّ طريقة السّلف في العقائد هي طريقة الكتاب والسُّنّة وطريقة الرّسول وأصحابه والتّابعين وسائر أئمّة الدّين، أمّا طريقة الخلف فهي تنقل عن بشر المريسيّ والجعد بن درهم، ويتصل سندها إلى اليهوديّ الذي سحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم. فإذا عرفتَ هذا؛ فأيّ الطّريقتين أعلم وأحكم وأسلم؟! فعلى طريقة الخلف هذه: يلزم عليها أنّهم أعلم من الرّسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه ومن تابعيهم، وأنّهم أفضل منهم؛ لأنّهم أتقنوا وأحكموا علم التّوحيد ـ الذي هو أشرف العلوم، ولأجله أُرسلت الرّسل، وأُنزلت الكُتب ـ! فسبحانك هذا بهتان عظيم! فهل

أمثلة لبعض جنايات السبكي وأضرابه على كتاب الله

يقول هذا عاقل أو مسلم أو كافر؟! فالإله عندهم عبارة عن العمى المحض؛ لأنّهم وصفوه بأنّه: لا فوق العرش ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله، ولا يُشار إليه من أيّ جهة من الجهات السّتّ، ولا داخل العالم ولا خارجه! ولا يوصف بحركة ولا سكون، ولا جوهر ولا عرض، ولا استوى على العرش! ولا يأتي ولا يجيء يوم القيامة والملَك صفًّا صفًّا! ولا له يدان ولا نفس ولا وجه ولا عين! ولا يضحك ولا يرضى ولا يغضب ولا يتعجّب ولا يفرح، ولا يُوصف بصفة يجوز وصف المخلوق بها؛ فرارًا من التّجسيم والتّمثيل؛ فأوّلوا هذه الصّفات بتأويلات لا تنطبق على النّقل ولا على العقل، وجهلوا أن يكون لها معانٍ تليق بجلاله ـ سبحانه وتعالى ـ؛ فكما أنّ ذاته ليست كالذّوات؛ فصفاته ـ تعالى ـ ليست كالصّفات. وهل العدم كلّ العدم إلَّا ما وصفوه به؟! وأمّا جنايتهم على القرآن: فمثل قولهم: إنّه ليس بكلام الله على الحقيقة؛ بل هو عبارة عن كلام الله، أو مدلول أو حكاية عن كلام الله، وأنّ هذه الحروف التي في المصاحف ونقرؤها بألسنتنا ونحفظها في صدورنا مخلوقة! وصرّح

بعضهم أنّه ليس لله كلام في الأرض. ومثل قولهم: إنّ نصوص القرآن لا تكفي وحدها في أدِلّة التّوحيد؛ بل لا بُدّ من دليل عقليّ معها! وكقولهم: إنّ القرآن والسُّنّة فيهما نصوص مَن اعتقدها على ظاهرها يكفر! ومثل قولهم: لا يُعمل بنصوص الكتاب والسُّنّة بعد الأئمّة الأربعة؛ بل يحرم على كلّ أحد أن يستدلّ على أيّ مسألة ما بآية أو سُنّة، ولا يُقرأ القرآن إلَّا للتّعبّد، ولأجل الحسنات التي تحصل للقارئ، ولأجل الموتى، واستخراج الأسرار من الحروف! وأمّا جنايتهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم: فمثل قولهم: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تكلّم بهذه الألفاظ الواردة في الصّفات ـ من: نزول الرّبّ ـ عزّ وجلّ ـ كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا، وأنّه فوق العرش وعرشه فوق سبع سماوات، وأنّه يصعد إليه الكلم الطّيب، وأنّ الملائكة يعرجون إليه وكذا روح المؤمن، ومثل قوله للجارية: «أين الله؟» فقالت له: في السّماء، وشهادته لها بأنّها مؤمنة ـ؛ قالوا في جميع ذلك وغيره: إنّ الرّسول تكلّم بهذه الألفاظ ـ ولم يبيّن معناها ـ على سبيل التّمثيل والتّقريب لعقول النّاس! فلمّا رسخت أقدامهم في الدّين؛ عرفوا الحقّ بأنفسهم؛ فصرفوا هذه الألفاظ عن ظواهرها! وأنّ الله ـ تعالى ـ ليس

مناقشة المؤلف لمنافاة علو الله من خلال حديث الجارية

موصوفًا بها؛ فهذا يلزم عليه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُدْخِل النّاس في الدّين إلَّا بالكذب المحض ـ والعياذ بالله ـ! وأنّهم عرفوا الحقّ من عند أنفسهم، لا من الرسول، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم؛ بل غشّهم وكتم عنهم ما فيه هدى ونور لهم! فأيّ كفر أعظم، وأيّ مصيبة أطمّ، وأيّ ذنب أقبح، وأيّ بلاء على الإسلام والمسلمين أعمّ من هذا؟! فالويل كلّ الويل لمن حاد عن طريقة القرآن والسُّنّة؛ {فبعدًا لقوم لا يؤمنون} . ومثل قولهم: إنّ الرّسول أقرّ الجارية على قولها موافقة لها على عقلها؛ لأنّ عقلها يقصر عن معرفة أدِلّة النّظر! فيُقال لهم: هل أقرّها صلى الله عليه وسلم على حقّ أم باطل؟ فإن كان الأوّل: فقد ارتفع النّزاع، ولزم أن تُجيبوا مَن سألكم بـ «أين الله؟» بقولكم: في السّماء، وتشهدون له بالإيمان، ونحن نراكم تُضلّلون وتكفّرون مَن سأل عن الله بـ «أين؟» ، والمجيب له بأنّ: الله في السّماء. وإن كان الثّاني: لزمكم القول بما ألزمنا سابقًا من أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقرّ النّاس على الكفر! بل يتكلّم بما ظاهره كفر صراح من غير أن يؤوّله لهم! وهل الكفر الذي ما فوقه كفر إلَّا مثل هذا؟! وهل ثَمّ تنقيص لرتبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم ولا أحطّ قدرًا من هذا؟! ومع هذا كلّه تقولون لمن أدّاه الدّليل إلى مسألة: أنّه لم يعظّم النّبيّ؛ بل نقصه عن رتبته؛ حيث لم يجوّز السّفر إلى زيارته من غير قصد الصّلاة في مسجده! فهل هذا إلَّا كما قيل: «رمتني بدائها وانسلّت» ؟! وهل هتك ستركم، وكشف عورتكم، وأظهر للنّاس سوء معتقدكم وما انتقصتم به ربّكم ونبيّه، وإعراضكم عن الكتاب الذي جاء به؛ إلَّا شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن تيميّة؛ فروّح الله روحه، ونوّر ضريحه. وأمّا جنايتهم على السُّنّة: فمنها: ما تقدّم في القرآن العزيز. ومنها: ردّ السُّنَن

الصّحيحة الواردة في الصّفات بقولهم: هذه أخبار آحاد! فلا يجوز وصف الباري ـ تعالى ـ بمثلها، ولا يُقبل في الصّفات إلَّا الأخبار المتواترة! وإذا جاءهم الخبر المتواتر أوّلوه بآرائهم. فالحاصل: أنّهم لا يقبلون الأحاديث الواردة في الصّفات، وإذا كانوا قد أوّلوا آيات الكتاب العزيز الواردة في صفات الله ـ عزّ وجلّ ـ؛ فالسُّنّة بطريق الأولى! ومنها: تقديمهم آراء متبوعهم عليها؛ حتى قال بعضهم: «إنّ كلام أصحابنا هو الأصل، وما جاء من السُّنّة إن كان موافقًا لهم قُبِل، وإلَّا فيؤوّل أو يهمل» . وبعضهم ممّن اشتغل بعلم الحديث، لكنّه لم يرفع به رأسًا؛ لغلبة التّقليد عليه؛ فترى هذا المسكين يتعصّب للمذهب بكل ما يقدر عليه؛ فتارة يضعّف الصّحيح، أو يؤوّله بما يوافق المذهب، وتارة يصحّح الضّعيف؛ فإذا اطّلعتَ على شرح «صحيح البخاريّ» ـ مثلًا ـ لعالم حنفيّ؛ قلتَ: كتاب البخاريّ كلّه أدِلّة لمذهب أبي حنيفة! وإن قرأتَه بشرح مالكيّ أو شافعيّ أو حنبليّ؛ قلتَ: هذا الكتاب كلّه لمذهب إمام الشّارِح! ومنها: قولهم: إنّ السُّنّة قد انقطع الاستدلال بها مِن سنة أربعمائة أو بعدها بيسير ـ على اختلاف بينهم في الزّمن الذي انسدّ فيه باب الاجتهاد ـ؛ فيحرم على النّاس استنباط حكم من آية أو سُنّة؛ ويجب عليهم تقليد مذهب معيّن، ولا يجوز لهم قراءة كتب السُّنّة ـ كـ «صحيح البخاريّ» وغيره ـ إلَّا لأجل التّبرّك وإنزال المطر ورفع الوباء والغلاء ودفع الشّدائد! ويقتنون الكتاب من كتب السُّنّة لأجل تكثير الدّراهم، وحفظًا للبيت من الاحتراق والسّرقة، وغير ذلك من الأشياء التي لم تُعهد في زمان السّلف! وليت شعري؛ مع هكذا كلّه؛ أمروا النّاس بالاستهداء بها وفهم معانيها، وأوجبوا عليهم العمل بما فيها، والرجوع إليها عند التّنازع والاختلاف، بل تراهم يقولون للنّاس: أنتم لا تفهمون معاني الكتاب والسُّنّة ـ كأنّهما لم يكون باللّسان العربيّ الفصيح العاري عن التّعقيد والغرابة ـ، وأنتم لا تعرفون المتواتر من الآحاد، ولا النّاسخ من المنسوخ، وغفلوا أنّ السُّنّة معظمها بل كلها ـ ما عدا حديث: «من

كذب عليّ متعمّدًا» ـ آحاد؛ كما قال ابن الصّلاح، وأنّ المنسوخ منها لم يزد على واحد وعشرين حديثًا؛ جمعها: أبو الفرج ابن الجوزيّ في جزء. ومنها: إذا رأوا رجلًا يستهدي بالكتاب والسُّنّة في جميع أصول الدّين وفروعه؛ رموه عن قوس واحدة بقولهم: هذا مجسّم حشويّ! وفي زماننا هذا يقولون له: أنتَ رجل وهابي! وغير ذلك من الألفاظ المنفّرة للنّاس عنه، سيّما إذا سمعوه يقول: إنّ الإمام الفلانيّ أو العالم الفلانيّ أخطأ في كذا؛ لمخالفته حديث كذا وكذا؛ شنّوا عليه الغارة؛ وقالوا: هذا رجل يستحقر الأئمّة وأتباعهم، وقد غفل المغرّرون عن قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو على المنبر للنّاس: لا تتغالوا في مهور النّساء؛ فقامت إليه امرأة وقالت له: يا أمير المؤمنين؛ أين أنتَ من قوله ـ تعالى ـ: «وآتيتُم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا» ، ومَن فيكم يعطينا قنطارًا؟! فوقف عند قولها أمير المؤمنين، وقال: «كلّ النّاس أعلم منك يا عمر، حتى المرأة» ! وكان أبو بكر يقول في كلّ مسألة يفتي فيها باجتهاده: «إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمنّي ومن الشّيطان؛ والله ورسوله منه بريء» ، وكان

جناية أرباب الحيل على الشرع.

الشّافعيّ يقول: «أنا راجع عن كلّ مسألة تخالف آية أو سُنّة، وإذا رأيتموني أروي حديثًا ولا آخذ به؛ فأشهدكم أنّ عقلي قد ذهب» ! والآثار في مثل ذلك عن الأئمّة كثيرة مستفيضة. وأمّا جنايتهم على المسلمين: فمنها: صدّهم لهم عن كتاب ربّهم وسُنّة نبيّهم، وتكثيرهم لهم من كتب الفقه والخلاف، وإلزامهم النّاس بقراءتها ودراستها، وأن يضيعوا فيها عمرهم، ويا حبذا لو كانت هذه الكتب التي سمّوها كتب الفقه خالية من المسائل التي لا يشهد لها نقل ولا يستحسنها عقل؛ بل هي مشتملة على ما هو حقّ وعلى ما هو باطل مخالف للشّرع؛ فلم يراعوا فيها حكمة التّشريع ولا علل الأحكام؛ ولذلك تراهم يجوّزون الحيل على إسقاط فرائض الله وعلى حقوق الآدميّين، وعلى التّعرّض للعنة سيد المرسلين لمن يفعل ذلك. فمنها: مسألة إسقاط الصّلاة التي ما جاء [بها] كتاب ولا سُنّة، ويقولون: إنّ فعل ذلك يسقط الصّلاة عن ذمّة الميّت! فصادموا بقولهم هذا ما ورد في الصّحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها؛ فلا كفارة لها إلَّا ذلك» . ومنها: تحايلهم على إسقاط الزّكاة بقولهم: إذا ملك الرّجل نصاب الزّكاة من ذهب أو وَرِق، وخشي أن يحول عليه الحول؛ فبدّله بذهب آخر أو وَرِق أو يوهبه لأحد من النّاس، ثم يسترده منه بعد قبضه له، أو يجعل النّصاب في شيء من المتاع أو الحنطة، أو يوهبه لأحد ثم يشتريه منه بعد ذلك! فإذا فعل شيئًا من هذه الحيل ـ ولو قبل الحول بيوم ـ؛ سقطت عنه الزّكاة، فقط في ذلك كراهة

تنزيهيّة؛ يعني: أنّها خلاف الأولى، ولا حرمة عليه في ذلك! والحيل على إسقاط الزّكاة لها ضروب عندهم كثيرة؛ فانظر ـ رحمك الله ـ إن كنتَ ممّن نوّر الله قلبه؛ هل هذا موافق لشرع ربّنا وسُنّة نبيّنا؟! وهل هذا يرضاه الله منّا أم مصادم للدّين مناقض له أعظم تناقض؟! وأين حكمة التّشريع في ذلك؛ حيث يقول في غير ما آية: «وآتوا الزّكاة» ، وقوله ـ تعالى ـ: {خذ من أموالهم صدقة تطّهرهم وتزكّيهم بها} ، وغير ذلك من الآيات المحرّضة على إيتاء الزّكاة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرني ربي أن آخذ صدقة من أغنيائهم فأجعلها في فقرائهم» ؟! فبالله عليك؛ هذا المحتال المنافق المخادع ـ لله ورسوله ـ هل فعل شيئًا من حكمة التّشريع أو أتى بما أُمِرَ به. ومثل: تحيّلهم على إسقاط الشّفعة، ولهم فيها حيل مختلفة. ومنها: تحيّلهم للمطلّقة من زوجها ثلاثًا؛ بأن يأتوا لها بالتّيس المستعار ـ الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ (وهو: المحلّل) ؛ ويقولون: إنّ هذا يُحلّها للأوّل. وغير ذلك من المسائل التي يستهجن ويستقبح ذكرها؛ مثل: قولهم في الإمامة وصاحب

الزوجة الحسناء يقدّم على مَن ليس كذلك، وصغر الذّكر يقدّم على الأكبر ذكرًا!!! فأنشدك بالله أيها المنصف الذي شمّ رائحة العلم؛ هل شرعنا يأمرنا بالتّجسّس على مَن زوجته حسناء أو قبيحة، وهل شرعنا يأمرنا أن نجسّ عورات بعضنا بعضًا لأجل أن نعرف مَن ذكره قصير أو طويل؟!! فهل هذا كلّه جناية على المسلمين أم لا؟! خصوصًا في التحيّل على إسقاط الزّكاة التي هي أحد أركان الدّين بعد الصّلاة، وأنّ منفعتها للمسلمين أعمّ من غيرها؛ فإذا كان كلّ غنيّ قرأ هذه الكتب، وعلم كيف يتحيّل على إسقاط الزّكاة؛ فماذا يصنع الفقراء والأصناف الثّمانية الذين تُصرف لهم الزّكاة؟! فهل يموتون جوعًا، أو يسرقون؟! بل يبتهلون إلى الله ـ تعالى ـ أن يعامل أرباب هذه الكتب بعدله، ويجازيهم على صنيعهم هذا بما هم أهله. فهل بعد هذا كلّه يُقال: إنّهم أهل السُّنّة والجماعة، وهم النّاجون والمعظّمون للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ولشريعته؟! وأمّا ابن تيميّة فقد أتى بعثرة لا تُقال ومصيبة عظمى! فكلَّا؛ ومعلوم لكلّ مَن قرأ كتب ابن تيميّة أنّه ما قصد في كتبه إلَّا محاربة هؤلاء الذين وصفنا حالهم، وأتى بالأدِلّة القاطعة لحججهم، والمُزيلة لشبههم، والمشتّتة لجمعهم، وأفنى عمره ـ رضي الله عنه ـ في نصرة دين الله وكتابه وسُنّة نبيّه؛ {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون} ؟ ومن حيلهم القبيحة والمذمومة: حيلتهم على أكل الرّبا باسم العينة،

وصية المؤلف لن يريد السعادة في الدنيا والآخرة

ومسألة أخرى مشهورة بدرهم عجوى، والخرقة، والسّبحة، وغير ذلك من الحيل التي كادت أن تهدم أصل الدّين. ولولا ما يلحقهم من لوم العامّة لتحيّلوا على إسقاط الصوم والحجّ والصّلاة وسائر العبادات! والحاصل: أنّهم أضرّ على الإسلام والمسلمين من اليهود والنّصارى الذين بدّلوا وغيّروا؛ فنسوا جميع قبائحهم هذه وأخذوا يشنّعون على أئمّة الدّين الذين أظهروا للنّاس مصائبهم؛ فكانوا ـ كما قيل في المثل السّائر على ألسنة العوام ـ: «تعبر الباغية تدهيك والذي فيها تجعله فيك» ! فالله يجازيهم بما يستحقّون! فصل ووصيّتي لك أيّها السُّنّيّ المريد سعادته في العاجل والآجل: أن تترك كتبهم هذه التي وضعوها في أصول الدّين وفروعه، وتعكف على القرآن العزيز وسُنّة النّبيّ الكريم، وتستعين على فهم ذلك بالتّفاسير المعتبرة ـ كتفسير ابن جرير وابن كثير ـ، وبأقوال الأئمّة المتقدّمين ـ كأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد ـ، وسائر أئمّة الحديث الذين لم يخلطوا الحقّ بالباطل، لا في الأصول ولا في الفروع. وإذا صار لك قدم راسخ في علم الكتاب والسُّنّة وأقوال سلف الأُمّة؛ فلك ـ حينئذ ـ أن تنظر في كتب هؤلاء المتأخّري؛ لتميّز بعلمك ما فيها من الحقّ والباطل، وعليك أن تتبع الحقّ أينما كان، ومع مَن كان، لا تتعصّب ولا تنتصر ولا تتشيّع إلَّا لله ورسوله. وإذا كان لم يكن عندك شيء من علم الكتاب والسُّنّة ولا أقوال السّلف في الأصول والفروع؛ فابكِ على نفسك! واحذر أن تخوض في أعراض العلماء تقليدًا للذين خاضوا؛ فتهلك كالذين هلكوا. ونحن لم تكن بيننا وبين شيخ الإسلام ابن تيميّة قرابة ولا نسب ولا غير ذلك مما تظنّ بسببه تهمة؛ ولكن رأينا الرّجل لا يتكلّم على مسألة من مسائل الدّين ـ أصوليّة أو

فرعيّة ـ إلَّا وأيّدها بالأدِلّة النّقليّة والعقليّة، ورأينا المُشنّعين عليه بخلاف ذلك؛ فتراهم يقلّد بعضهم بعضًا في التّشنيع والسّبّ والتّكفير ونقل الكذب الصّراح من غير تحاشي ولا نظر، وسمعنا الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة} ، وفي قراءة: (فتثبتوا) ... الآية، ونحن ـ بفضل الله ـ قد تبيّنّا وتثبّتنا في أمر ابن تيميّة وأمر مُخالفيه؛ فوجدنا الفرق أظهر من الشّمس في رابعة النّهار؛ فشتان بين مَن يتكلّم بالدّليل وبين مَن يتكلّم بقال وقيل! وأيضًا رأينا الذين أثنوا على شيخ الإسلام ابن تيميّة ومدحوه وشهدوا به بالعلم ـ على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ـ أعظم قدرًا وأجلّ معرفة من الذين طعنوا فيه. وهذا السّبكيّ مع كونه من ألدّ الخصوم للشّيخ؛ فقد اعترف بعلمه وبفضله! والفضل ما شهدت به الأعداء. وهذه كتب شيخ الإسلام قد انتشرت في جميع بقاع الأرض، شرقًا وغربًا، وانتفع بها المسلمون على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وأجناسهم، وكلّ منهم أثنى عليها وعلى مؤلفها، وحطّ على مَن طعن عليه وشانه بما هو منه بريء؛ كما شهدت له بذلك مصنّفاته التي يلوح النّور في كلّ ورقة منها.

ذم ابن حجر الهيتمي لشيخ الإسلام

فصل وأمّا ما عوى به ابن حجر المكيّ في كتابه «الجوهر المنظم» وشرحه لـ «مناسك النّووي» وكتابه «الفتاوى الحديثيّة» ؛ من التّشنيع والحطّ على شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فقد رأينا ـ أولًا ـ أن نطوي الكشح ونلوي عنان القلم عمّا نبح به؛ لأنّه أشبه بكلام الرّافضة في حقّ الشّيخين أبي بكر وعمر. وأين ابن حجر من شيخ الإسلام حتى يُقبل طعنه فيه؟! فلو وزنّا بينه وبين شيخ الإسلام؛ وجدنا الفرق كما بين السّماء والأرض، وكما بين الثّريا والثّرى، وكما بين حبّ اللؤلؤ والذّرة، ولكن لما رأينا بعض النّاس الجاهلين الأغبياء قد قلّدوا ابن حجر في هذيانه؛ رأينا أن نتكلّم على بعض ما قاله في حقّ هذا الإمام؛ فنقول: أولًا: أمّا طعن ابن حجر على شيخ الإسلام؛ فهو معارض بمدح الأئمّة الأعلام الذين عاصروا شيخ الإسلام؛ مثل: الإمام الحافظ أبي الحجاج المزّيّ، والإمام الذّهبيّ، وغيرهما ممّن ذكر أسماءهم الإمام ابن ناصر الدّين الدّمشقيّ الشّافعيّ في كتابه «الرّد الوافر» ؛ فارجع إليه؛ فقد ذكر جمعًا كثيرًا يقارب مائتي إمام، وكلّهم أثنوا على ابن تيميّة، وسمّوه شيخ الإسلام، وبعدهم بقليل؛ مثل: الحافظ شيخ الإسلام أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلانيّ، والحافظ بدر الدين محمود العينيّ الحنفيّ، ومفتي المالكيّة الإمام البساطيّ، والقاضي جلال الدّين البلقينيّ، وخلق سواهم، وكلّهم أثنوا على شيخ الإسلام، وبرّأوه مما نسبه إليه

أعداؤه الجاهليّون. وإذا أردتَ الوقوف على مَن أثنى على شيخ الإسلام ورثاه بعد موته بقصائد عديدة؛ فعليك بكتاب «الكواكب الدّريّة في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيميّة» للشّيخ مرعي الحنبليّ، وكتاب «القول الجليّ في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيميّة الحنبليّ» للشّيخ صفيّ الدّين الحنفي ـ نزيل نابلس ـ، والكتابان مطبوعان في مصر. وممّن ترجم لاشيخ الإسلام وأطال: الإمام شمس الدّين الذّهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» و «التّاريخ الإسلاميّ» ، والإمام ابن شاكر، والصّلاح الكتبيّ في «فوات الوفيات» ، والإمام ابن الورديّ في «تاريخه» ـ وله مرثيّة فيه تقطّع القلوب ـ وغيرهم من المتقدّمين قبل ابن حجر المكيّ. وأمّا في زمننا وقبله فخلق لا يُحصون. فإذا رجعتَ إلى هذه الكتب التي أشرنا؛ تبيّن لك ما قاله ابن حجر من الكذب والزّور والبهتان في حقّ هذا الإمام. ثانيًا: إنّ ابن حجر لم يعزُ ما قاله إلى كتاب من كتب شيخ الإسلام. والذي يظهر لي: أنّه ما رأى منها كتابًا واحدًا؛ وإلَّا لو رأى لاستحيا من الله أن يقول ما

قال؛ اللهمّ إلَّا أن يكون قد غلب عليه التّعصّب والعناد، وهل يليق برجل ينتسب إلى العلم يستحلّ الخوض في أعراض أئمّة الهدى من غير أن يعزي ما قاله إلى كتاب من كتبهم، بل كتبهم على خلاف ما قال هذا المفتري. ثالثًا: إنّ ابن حجر وأمثاله ممّن طعن في شيخ الإسلام لا يُقبل طعنهم فيه؛ لأنّهم جاهلون؛ بشهادتهم على أنفسهم أنّهم مُقلِّدون، مُحَرِّمون على أنفسهم وعلى النّاس الاستهداء بالكتاب والسُّنّة، مُقِرّون على أنفسهم أنّهم لا يفهمون معاني الكتاب والسُّنّة، ولا قدرة لهم على استنباط الأحكام من الأدِلّة! وأمّا شيخ الإسلام فقد شهد له بالاجتهاد المطلق، وأنّ شروط الاجتهاد قد توفرت فيه واستجمعها: سبعون مجتهدًا في زمانه؛ فكيف يليق بالجاهل العاجز عن فهم النّصوص أن يطعن في عِرض إمام مجتهد، كتبه تشهد له بالفضل الذي لم يشاركه فيه إلَّا القليل من النّاس؟! وما لك يا ابن حجر وما لهذا الإمام؟! أشفِق على نفسك وأرِحها من العناء؛ فشيخ الإسلام لا يحطّ من قدره ما هذيتَ به، وما أدري طعنك هذا إلَّا كما قال الشّاعر: كناطِحٍ صخرةً يومًا ليكلِمَها ... أشفِق على الرّأسِ لا تُشفِقْ على الحجرِ وكما قيل: لقد هَزلَتْ حتى بدا مِن هزالها ... كلاها وحتى سامها كلّ مفلِسِ وما مثل ابن حجر ومثل شيخ الإسلام في الفرق والبعد إلَّا كما قال أمير المؤمنين أبو الحسنين سيدنا عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ورضي عنه ـ، حين قسّم النّاس إلى ثلاثة أقسام؛ فقال: «النّاس ثلاث: عالم ربانيّ ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لا يستضيئون بنور العلم، مفتونة قلوبهم وقلوب مَن يعجبهم شأنهم ... » إلى آخر ما قال. فأمّا شيخ الإسلام فهو من القسم الأوّل والثّاني ـ بلا نزاع ـ؛ فإنّه كان عالمًا بالكتاب والسُّنّة، مقدمًا لهما على قول كلّ

رد المؤلف- القيم- على ابن حجر الهيتمي

أحد، زاهدًا في الدُّنيا معرضًا عن المناصب والوظائف، مختارًا للدّار الآخرة الباقية على الدّار الفانية؛ فصدق عليه أنّه عالم ربانيّ ومتعلّم على سبيل نجاة. وأمّا ابن حجر فكان على خلاف ذلك من حبّ الدُّنيا والشّهرة والتّفاخر، مقلدًا في دينه غيره من الأصول والفروع، إن أصاب مقلّده أصاب، وإن أخطأ أخطأ؛ فصدق عليه ما قاله أمير المؤمنين في وصف أهل القسم الثّالث. فصل وهذا أوان الشّروع في الرّد على ما قاله ـ وبالله التّوفيق ـ. وهنا تنبيه؛ وهو: أنّي إذا عبتُ المتأخّرين وكتبهم؛ فلا أقصد عامّتهم؛ بل أعني: الذين لم يعيروا الدّليل نظرهم ولا ينتصرون له؛ بل جمدوا على التّعصّب للمذهب، ولو أورد عليه مخالفه عشرين دليلًا لم يلتفت لشيء من ذلك! بل يقول: المذهب هكذا! ومعاذ الله أن أعيب على كافّة المتأخّرين وكتبهم؛ بل أقول: وكم من المتأخّرين مَن فاق بعض المتقدّمين بأضعاف مضاعفة، كما أنّي لا أمدح كافّة المتقدّمين ومصنّفاتهم؛ بل أقول: وكم في المتقدّمين مَن هو أصل بلاء الأُمّة. فالحاصل: أنّي إذا مدحتُ أو عبتُ؛ فإنّما مُرادي: الذين نصروا الدّليل وتشيّعوا لله ورسوله، ولم يُهملوا شيئًا من الأدِلّة الصّحيحة، لا في أصول الدّين ولا في فروعه، سواء كان من المتقدّمين أو من المتأخّرين، وكلّ مَن قدّم عقله وآراء الرّجال على الأدِلّة الشّرعيّة؛ فهو المعنيّ بالقدح والذمّ، سواء كان من المتقدّمين أو من المتأخّرين؛ فاحفظ هذا، والله يؤيّدك. قول ابن حجر: «فإن قلتَ: كيف تحكي الإجماع السّابق على مشروعيّة الزّيارة والسّفر إليها وطلبها، وابن تيميّة ـ من متأخّري الحنابلة ـ منكر لمشروعيّة ذلك كلّه، كما رآه

السّبكيّ في خطّه» . فجوابه أن يقال: في أيّ كتاب وفي أي فتوى لابن تيميّة حرّم فيها زيارة قبرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟! وهذه كتبه بأيدينا مطبوعة منتشرة في جميع أنحاء الأرض، وكلّها مصرّحة بمشروعيّة زيارة قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبور غيره من الأنبياء وكافّة المسلمين؛ وإنّما ذكر الخلاف في مسألة: شدّ الرّحل. فبالله عليك؛ إذا كان رجل قد قصر فهمه عن فهم كلام الأئمّة؛ فهل يليق به أن يطعن عليهم، وينسب إليهم أشياء لم يقولوها بل قالوا بخلافها؟! أمّا يستحي مَن هذا صنيعه، ويتذكّر موقفه بين يدي أحكم الحاكمين؟! وهل يجوز لهذا المعترض ـ بعد هذا البيان ـ التّشدّق بما أتى به من الهذيان من جهلة النّاس الطّغام الذين لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون؛ بل وجدوا مشائخهم على هذا الضّلال المبين؛ فقالوا: إنّا وجدنا أشياخنا على هذا قائلين، وإنّا على آثارهم مقتدون! فتبًّا لهاتيك العقول! وكيف ينتسب ابن حجر هذا لأهل العلم، وهذا حاله؛ مِن ترك التّثبّت في النّقل، والتّبصّر في النّقد. وكان دأب العلماء ـ رحمهم الله ـ التّثبّت في مسألة الجرح والتعّديل؛ فكانوا لا يحكمون بجرح الرّجل إلَّا إذا عرفوا حال الجارح، وبشرط أن يذكر ما جرحه به؛ ليُنظر فيه؛ فقد يكون ذلك جرحًا في الحقيقة، وقد لا يكون؛ مثل مسألتنا هذه؛ فالسّبكيّ التبس عليه وعسر عليه فهم فتوى ابن تيميّة؛ فظنّ أنّه حرّم الزّيارة وشدّ الرّحال معًا؛ فأخطأ؛ فجاء العلماء فبيّنوا مقصود ابن تيميّة من هذا الكلام؛ وأنّ مقصوده من هذا تحريم شدّ الرّحل إلى غير المساجد الثّلاثة ـ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ، فإذا شدّ الرّحل بنيّة الصّلاة في مسجده؛ استُحب له أن يزور قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا نواها مع الصّلاة؛ فلا بأس. فهذا ملخّص ما قال ابن تيميّة؛ فهل يقول أحد: إنّ هذا يفيد تحريم الزّيارة إلَّا مَن أعمى الله بصره وقلبه واتّبع الشّيطان وحزبه؟! وأمّا قوله: «كما رآه السّبكيّ في فُتيا له بخطّه» ؛ فجوابه: أنّ الفُتيا التي رآها السّبكيّ قد ذكرها بالحرف الواحد في كتابه «شفاء السّقام» ، ومذكورة أيضًا في عدّة كتب لشيخ الإسلام، وعليها خطوط علماء بغداد من أهل المذاهب الأربعة، وليس فيها ـ

ولله الحمد ـ حرف يوهم تحريم الزّيارة ـ كما زعمتَ ـ، ولولا طولها لأثبتُها هنا؛ ولكن حيث أنّ الكتب التي توجد فيها مطبوعة منتشرة؛ فلا حاجة بي لذكرها. نعم؛ قد توهّم السّبكيّ هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فشيخ الإسلام تمثّل بهذا البيت: عليك في العلم أن تبدي غوامضه ... غَلَطَ في فهم كلامه فأخذ يُغلّط غيره فأمّا شيخ الإسلام فلا ملامة عليه، ومَن لامه فهو المخطئ؛ لأنّه بيّن الحقّ بأوضح عبارة؛ وإنّما اللّوم على مَن لم يفهم كلام أهل العلم؛ فيغلّط ويخطّئ ويأخذ يشنّع عليهم، وابن حجر هذا قد نقل عبارات السّبكيّ كلّها من غير تصرّف، ونسبها إلى نفسه ـ والله أعلم بقصده ـ؛ فاتبّع غيره في خطيئته فضلّ وأضلّ، وهذا جاءه من شؤم التّقليد الأعمى؛ فنسأل الله ـ تعالى ـ السّلامة من الضّلال بعد الهدى، آمين. وقوله: «ومَن هو ابن تيميّة؟» فيُقال له: ومَن أنتَ يا ابن حجر؟! وهذه كتب طبقات الرّجال قد أوضحت لنا رتبته ورتبتك؛ فعلمنا أنّ الفرق بينك وبين ابن تيميّة كبعد المشرقين! وهذه مصنّفاته شاهدة بعظم فضله، وكلّها مؤيّدة ومقرّرة لهذا الدّين. وأمّا أنتَ فأين مصنّفاتك؟ وكلّها لم تبلغ معشار عشر مصنّفاته، لا في العلم ولا في الحجم، وأحسن ما في كتبك: كتاب «الزّواجر عن اقتراف الكبائر» ، إن صحّت نسبته لك؛ وقد رأيتُ أنا في كتاب «عقود الجوهر في تراجم مَن له خمسون مؤلّف فأكثر» ، ذكر فيه اسم هذا الكتاب ونسبه للحافظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلانيّ، شارح البخاريّ، ذكر ذلك في ترجمته. وإن صحّت نسبته لك؛ فأنتَ مسبوق به؛ فقد ألّف النّاس قبلك كتبًا في عدّ الكبائر؛ كالحافظ الذّهبيّ، والإمام

شمس الدّين ابن القيّم، وغيرهما. وأمّا ما أطال به من السّبّ والشّتم لشيخ الإسلام؛ فإنّي أتركه له؛ لأنّه هو الأجد والأحرى به. ولما أفلس من الجواب؛ أخذ يُشَنّع بالشّتم والسّباب، وهذا شأن سفلة النّاس لا شأن أهل العلم، والسّبّ لا يظهر علمًا ولا يبني حقًّا؛ ولذلك لم نشتغل بمكافأته عليه. وأمّا تعريضه ـ في أثناء سبّه ـ بقوله: «وجاء بعده من الحنابلة ممّن هو على مذهبه» ؛ يعني به: الحافظ شمس الدّين ابن عبد الهادي، صاحب كتاب «الصّارم المنكي في الرّد على السّبكيّ» ، وهو كتاب ليس له نظير في بابه؛ بيّن فيه حال الأحاديث التي أوردها السّبكيّ في الزّيارة شاهدًا لها بالصّحّة؛ فبيّن ضعفها ووضعها، كما بيّن ما افتراه السّبكيّ على شيخ الإسلام. فكان يلزم هذا المعترض بدل أن يشتغل بالسّبّ يشتغل بالرّدّ على هذا الكتاب، إن كان عنده علم؛ وإلَّا فكان يسعه السّكوت، ومن أين لك ذلك، والحافظ ابن عبد الهادي لم يتكلّم على هذه الأحاديث إلَّا بكلام أهل الفنّ فيها؛ فما ذنبه؟! وقوله: «وأطال الكلام بما تَمُجّه الأسماع» ـ يعني: ابن تيميّة ـ! وجوابه: نعم؛ أمثالكم الذين لم يألفوا الدّليل، وحرّموا عىل أنفسهم وعلى النّاس الاستهداء بالكتاب والسُّنّة؛ فلا يستطيعون سماع الأدِلّة إذا تواردت عليهم؛ لأنّها مخرّبة لبنيانهم، وهادمة لقواعدهم، مزعزعة لأصولهم، وأمّا المقتدون المتّبعون للدّليل؛ فإنّهم يجدون حلاوة واطمئنانًا في أنفسهم عند سماع الدّليل، وتنقبض نفوسهم عند سماع قال وقيل، ومِن المعلوم أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم يتكلّم في هذا الكتاب الذي ردّ به على القاضي المالكيّ في مسألتنا هذه ـ بل وفي سائر كتبه ـ إلَّا بصريح الأدِلّة النّقليّة والعقليّة، مع استفراغ الوسع في استنباط الأحكام منها.

فأيّ لوم يلحقه في ذلك، وهو مأجور على كلّ حال، أصاب أو أخطأ، وأمّا ابن حجر فلا حظّ له من ذلك؛ لأنّه حرّم على نفسه العمل بالدّليل وألزمها التّقليد، وشتّان بين الرّجلين؛ فإنّ المجتهد هو الذي يكون مأجورًا في الحالين ـ أصاب أم أخطأ ـ، وأمّا مَن قلّده فليس له ذلك؛ لأنّ الله يقول ـ وهو أصدق القائلين ـ: {واتّقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا} . وأمّا قوله: «وسوّلت له نفسه حتى ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ... » إلخ: فجوابه أن يُقال: أمّا شيخ الإسلام فقد شهد له بالاجتهاد في زمانه سبعون مجتهدًا؛ أنّ شروط الاجتهاد قد استجمعها وزيادة؛ كما دلّت على ذلك مصنّفاته التي ملأت الآفاق، وشهد بحسن جودتها المخالف والموافق؛ فلا غرو بعد هذا أن يدّعي الاجتهاد. ويقال أيضًا لابن حجر: هذا باب الاجتهاد الذي سددتموه؛ من الذي أمركم بسدّه؟ وفي أي زمان كان سدّه؟ أمّا تستحون من هذا المقال الذي لا يصدر إلَّا عن جاهل محتال؟! فكم من خير عن الأُمّة بمقالكم هذا منعتموه، وكم من بدع وخرافات وترهات ألصقتموها بالدّين بسبب هذا الافتراء العظيم، منعتم الناس أن يستهدوا بكتاب ربّهم وسُنّة نبيّهم وأقوال سلفهم؛ لتروج عليهم بضاعتكم المزجاة، وتنفقوا عليهم سلعتكم؛ توسلًا لحبّ المال والجاه! فلمّا رأى شيخ الإسلام ما حلّ بالدّين وأهله من سوء صنيعكم هذا؛ قام لله بصدق عزم، وقوة حزم، ومعه تلميذه الإمام شمس الدّين ابن القيّم، وفي أثرهم الحافظ ابن عبد الهادي، والحافظ ابن كثير والحافظ ابن الوزير اليمانيّ، وتبعهم الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر السعقلاني، والحافظ السّخاوي، والحافظ جلال الدّين السّيوطيّ، وفي أثرهم جاء الحافظ شيخ الإسلام محمد بن إسماعيل الأمير الصّنعاني، والحافظ شاه ولي الله المحدّث الدّهلويّ، والحافظ شيخ الإسلام قاضي اليمن محمد عليّ الشّوكانيّ، والإمام المحدّث السّيد صدّيق حسن خان، وخلق سواهم؛ وهجموا بأجمعهم وقوة عزمهم وجنانهم على باب الاجتهاد الذي سدّه أهل البغي والعناد؛ ففتحوه، وصار النّاس يدخلون في دين الله أفواجًا، حتّى النّصاري واليهود وأهل المِلل المختلفة، الذين كان لا يمنعهم عن الدّخول فيه إلَّا تشعّب الفرق والأحزاب والبدع والخرافات؛ فكانوا يحسبون أنّ هذا كلّه دين؛ فلمّا جاء هؤلاء الأئمّة الذين وصفنا حالهم، وبيّنوا للنّاس ما هو من الدّين وما هو بريء منه ـ بل يشتكي إلى الله من

نسبة هذا إليه ـ؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا؛ فقد سنّوا للنّاس سُنّة حسنة، يلحقهم ثوابها في قبورهم، وأمّا مخالفوهم الذين منعوا النّاس عن الاستدلال بالكتاب والسُّنّة، وأوجبوا عليهم قبول أقوالهم وإن كانت مصادمة للقرآن العزيز؛ فقد سنّوا للنّاس سُنّة سيّئة يلحقهم وزرها إلى قبورهم؛ {فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون} : الذين آمنوا بالله ورسوله، واتّبعوا ما أُنزل عليه وما بيّنه من قوله وفعله، وتمسّكوا بهديه، وأوجبوا على النّاس ذلك كلّه، وحرّموا عليهم أن يقدّموا عليه قول أحد من النّاس كائنًا مَن كان، أم الذين قالوا: يحرم على كلّ أحد بعد الأئمّة الأربعة أن يأخذ أو يستدلّ على مسألة ما بآية أو سُنّة؟! فنعوذ بالله من الخذلان، ونسأله السّلامة إلى دار السّلام.؟ وأمّا قوله: «هذا ما وقع من ابن تيميّة مما ذكروا ـ وإن كان عثرة لا تقال أبدًا، ومصيبة يستمرّ عليه شؤمها دوامًا سرمدًا ـ ليس بعجيب» ! أقول له في الجواب: هذا قد تقدّم الجواب عنه عند قول السّبكيّ له؛ وبيّنّا أنّ شيخ الإسلام ما قال ذلك عن هوى وتشهي؛ بل قاله عن اجتهاد وتفحّص [للأدِلّة] الشّرعيّة العقليّة؛ ولذلك حكمنا له بأنّه مأجور ـ أصاب أم أخطأ ـ؛ بشهادة الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يحلقه لوم ولا شؤم، وأمّا أنتم فأهل اللّوم والذّمّ؛ لأنّكم ما حكّمتم الدّليل في شرع الملك الجليل؛ بل قلّد بعضكم بعضًا في أصول الدّين وفروعه؛ فجنايتكم على الدّين وأهله أشهر من أن تُشهر، وأوضح من أن تُذكر ـ وقد سبق منّا بيان بعض ذلك ـ. وقوله: «إنّه خالف إجماعهم في مسائل كثيرة» . وجوابه أن يُقال: أوجد لنا مسألة من مسائله التي خالف فيها إجماع الأُمّة حتى ننظر فيها! وأمّا هذا القول المجمل فلا يُطالب بالجواب عنه. ومن أين لك معرفة بالأجماع؟! والدّليل على جهلك به: نقلك مثل هذا عن شيخ الإسلام؛ فإن كان قد قلتَ هذا مقلّدًا لغيرك؛ فهو جهل على جهل! وإن كان قلتَه بعد اطّلاعك على مسائله التي خالف فيها غيره؛ فهو أعظم دليل لنا على أنّك لا تعرف الإجماع ولا مواقعه، وأنّى يُسلّم لك هذا الافتراء؛ وما من مسألة خالف فيها شيخ الإسلام إلَّا هو مسبوق بها، وهب أنّه لم يُسبق بمَن قال مثل قوله؛ ولكن ما قال ذلك إلَّا بدليل صحيح؛ فأيّ لوم عليه ونحن مطالبون بالعمل بالحديث الصّحيح، سواء عمل به الكثير أو القليل، أو لم يُعرف أحد عمل به، والإجماع لا ينسخ

ولا ينسخ به ـ على فرض تسليم وقوعه؛ ودون ذلك خرط القتاد ـ! وأمّا قوله: «وتدارك على أئمّتهم، سيّما الأئمّة الرّاشدين» . فجوابه أن يُقال له: أولًا: إنّ تدارك العلماء بعضهم على بعض لم يزل بين الأُمّة معروفًا مشهورًا، قديمًا وحديثًا، لم ينفرد به شيخ الإسلام؛ فهذا الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ قد ردّ على أهل العراق وردُّوا عليه، وردّ على مالك في بعض المسائل وردّوا عليه، ولم يزل الردّ من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم مستعملًا إلى يومنا هذا؛ فلِمَ تركتَ كلّ هؤلاء وأخذتَ تشنّع على شيخ الإسلام؟! وقوله: «سيّما الخلفاء الرّاشدين» ؛ أقول: هذه المقالة كذب محض؛ لا تُعرَف في شيء من كتب شيخ الإسلام؛ بل الموجود في كتبه الذّبّ عن الصّحابة أجمعين، خصوصًا الخلفاء الهادين المهديّين، وهذا كتابه في الرّدّ على الرّافضة شاهد بذلك. وهب أنّه أستدرك عليهم بعض المسائل؛ فلا بدع؛ لأنّهم ما كانوا معصومين؛ بل يجوز أن يخطئ كلّ أحد منهم؛ كما يعرف هذا مَن تتبّع سيرهم وأقوالهم؛ فقد ثبت عن الخليفة أبي بكر الصّديق أنّه كان يقول أذا أفتى في مسألة ليس لها نصّ صريح: «إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشّيطان؛ والله ورسوله منه بريء» ، وقد رجع أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب عن بعض المسائل ـ وهذا معروف في كتب الحديث والفقه ـ، وكثير من المسائل التي كان يفتي بها بعض الصّحابة لم يعمل بها في المذاهب الأربعة، وهي ثابتة عنهم بالنّقل الصّحيح؛ مثل: ما ثبت عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ من جواز نكاح الرّجل ابنة زوجته إذا لم تكن في حجره؛ عملًا بظاهر القرآن، ومثل: ما ثبت ع نابن عباس وغيره من جواز نكاح المُتعة، وأنّه لم

يُنسَخ، وغير ذلك من المسائل التي يكول ذكرها؛ فلو خالف أحد شيئًا من هذه المسائل بدليل ظهر له؛ لم يكن منتقصًا لأحد من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا غيرهم؛ لأنّ الدّليل كما هو حجّة علينا؛ فهو حجّة على الصّحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ. ولعلّ ابن حجر يومئ بكلامه هذا إلى ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيميّة من أنّ الطّلاق الثّلاث إذا كان مجموعًا في كلمة واحدة؛ فلا يقع إلَّا طلقة واحدة، كما جاء ذلك في صحيح مسلم؛ ولفظه: كان الطّلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر: الثّلاث واحدة، حتى قال عمر: «إنّ النّاس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة؛ فلو أمضيناه عليهم؛ فأمضاه عليهم» ؛ فقال شيخ الإسلام ابن تيميّة عند هذا: إنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب فعل ذلك قبل أن يُفتح على النّاس باب التّحليل ـ الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعن فاعله، وسمّاه بالتّيس المستعار ـ، ولو كان يعلم ابن الخطّاب أنّ النّاس سيفعلون ذلك؛ ما أمرهم بوقوع الطّلاق ثلاثًا؛ وهذا مصداق ما قال بعض الصّحابة: «ما ضُيّعت سُنّة إلَّا وظهرت بدعة» ، وما زال أمر التّحليل يتفاقم حتى بلغ ما بلغ، وأقلّ مفاسده: التّعرّض للعنة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإفساد الزّوجة، وتغيير حكمة الشّرع التي شرع لها الزّواج، ومفاسد كثيرة جدًّا لا تحصى ـ ذكر بعضها الإمام ابن القيّم ـ؛ فلو بقي النّاس على ما كانوا في عهد نبيّهم صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر؛ لكان خيرًا لهم وأقوم، ولانسدّ عليهم باب مفاسد الحيل، التي كادت أن تُضيّع الدّين جملة، وقد أدخلوها في النّكاح، والصّلاة، والزّكاة، والصّوم، وفي أكل الرّبا والحقوق، وغير ذلك. والحاصل: أنّ قول الله ورسوله مقدّم على رأي كلّ أحد من النّاس كائنًا مَن كان. وأمّا من قوله: «حتى تجاوز إلى الجناب الأقدس ـ سبحانه وتعالى عن كلّ نقص، والمستحقّ لكلّ كمال ـ؛ فنسب إليه العظائم والكبائر، وخرق سياج عظمته وكبرياء جلالته؛

بما أظهره للعامّة على المنابر من دعوى الجهة والتّجسيم، وتضليل مَن لم يعتقد ذلك من المتقدّمين والمتأخّرين؛ حتى قام علماء عصره وألزموا السّلطان قتله أو حبسه وقهره، إلى أن مات؛ وخمدت تلك البدع وزالت تلك الظّلمات» ! انتهى كلامه بحروفه. وجوابه أن يُقال: أولًا: سبحانك هذا بهتان عظيم! ومَن قرأ كتب شيخ الإسلام ابن تيميّة في التّوحيد وغيره؛ علم قطعًا براءته مما نَسب إليه هذا الكذّاب المعتدي ـ وهو ابن حجر ـ؛ فقد ردّ فيها على المجسّمة والمشبّهة، وليس فيها حرف واحد يشعر بما قاله وافتراه هذا الرّجل. نعم؛ قد أثبت لله ـ سبحانه وتعالى ـ أسمائه وصفاته التي ورد بها القرآن والسُّنّة من غير تأويل ولا تمثيل ولا تعطيل، فإن كان هذا تجسيمًا وإثبات جهة عند ابن حجر؛ فلا يختصّ به شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ لأنّه ليس أوّل مَن قال به؛ بل هذه الصّفات نزل بها القرآن العربيّ، وتكلّم بها النّبيّ الأُمّيّ في وسط أصحابه ـ الذين هم أعلم العرب باللّغة الفصيحة ـ، ونقلها عنهم خلف عن خلف، ولم يثبت عن أحد منهم أنّه أوّل شيئًا من ذلك؛ فهل كانوا في ذلك مجسّمين ومثبتين للجهة ومنتقصين ربّهم؟! فإن اعتقد ابن حجر فيهم ما اعتقده في شيخ الإسلام فهو أصل الضّلال وأجهل الجهّال، وإن كان يقول: ما كانوا يعتقدون ذلك؛ فقد خالف ما يشهد به النّقل والعقل وإجماع الأُمّة. والحاصل: أنّ ردّه على شيخ الإسلام متضمن الرّدّ على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وتابعيهم والأئمّة المجتهدين ـ عرف ذلك أو جهله ـ، بل ردّ على الله ـ سبحانه وتعالى ـ: فأمّا ردّه على النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فلأنّه هو السّائل للجارية بقوله: «أين الله؟» ؛ فقالت: في السّماء؛ فقال لسيّدها ـ أي: مالكها ـ: «أعتقها؛ فإنّها مؤمنة» ، وهو القائل: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا ... » الحديث ... وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الصّفات؛ المفيدة أنّ الله في السّماء، وأنّه فوق العرش، وأنّه ـ سبحانه وتعالى ـ موصوف بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، والكيف في جميع ذلك غير

معقول. فهذا هو الذي كان عليه أئمّة سلفنا، وشيخ الإسلام لم يزد عليه؛ بل انتصر له، وردّ على مَن يخالفه ويتأوّله حتى وصف ربّه بصفات العدم المحض ـ فرارًا من التّجسيم بزعمه ـ! وألزمه أيضًا التّجسيم فيما أثبته لله ـ تعالى ـ من الصّفات ـ كالعلم والحياة والإرادة والسّمع والبصر والكلام (الذي ليس بحرف ولا صوت) ـ؛ لأنّ هذه الصّفات كما هي ثابتة لله ـ عزّ وجلّ ـ فهي ثابتة للمخلوقين. فإن قال: علم الله ـ تعالى ـ ليس كعلمنا، ولا حياته كحياتنا، ولا إرادته ولا سمعه ولا بصره ولا كلامه ... الجواب: قلنا له: كذلك استواؤه ـ سبحانه وتعالى ـ على عرشه ليس كاستوائنا، ولا نزوله، ولا وجهه، ولا عينه، ولا نفسه، ولا يداه، ولا قدمه، ولا ساقه، ولا إتيانه، ولا ضحكه، ولا رضاه، ولا غضبه، ولا فرحه، ولا تعجّبه، وأيّ فرق بين ما أثبته له وبين ما نقيته عنه من الصّفات التي ذكرناها، والثّابتة له ـ تعالى ـ بنصّ القرآن والسُّنّة الصّحيحة؛ فما هذه إلَّا مكابرة وتفريق من غير فرق. والحاصل: أنّ الرّدّ على هؤلاء في مثل هذه المسائل يطول جدًّا، وقد أراحنا فيه أئمّتنا المتقدّمون والمتأخّرون ـ كأبي حنيفة في «الفقه الأكبر» ، ومالك، والشّافعيّ، وأحمد، وغيرهم؛ مثل: البخاريّ، وأهل الحديث كلّهم (رضوان الله تعالى عليهم) ، فمن بعدهم شيخ الإسلام ابن تيميّة، والحافظ ابن القيّم، وغيرهما من المتأخّرين ـ؛ جزاهم الله خيرًا. ولشيخ الإسلام أن يتمثّل بقول بعضهم: إن كان تجسيمًا ثبوتُ صفاتِهِ ... فإنّي بحمد الله عبدٌ مجسّم وما ضرّه أن يقول فيه ابن حجر ما قال إذا كان قد اقتفى فيما ذهب إليه سلفه الصّالح، فإن كان إثبات هذه الصّفات خرقًا لسياج عظمة الله ـ تعالى ـ وكبريائه، وأنّ ذلك من نسبة العظائم والكبائر ـ كما قاله هذا الجاهل بربّه ـ؛ فهو ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي وصف نفسه بنفسه؛ فقال ـ تعالى ـ: {الرحمن على العرش استوى} ـ في سورة طه ـ، وقال ـ تعالى ـ: {أأمنتم من في السماء} ـ في سورة تبارك ـ، وقال ـ تعالى ـ: {إليه يصعد الكلم

افتراء ابن بطوطة على شيخ الإسلام في وصفه لنزول الله عز وجل.

الطّيّب} ، وقال ـ تعالى ـ: {تعرج الملائكة والرّوح إليه} ، وقال: {هل ينظرون إلَّا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} ، وقال ـ تعالى ـ: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} ، وقال ـ تعالى ـ: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} ، وقال: {واصطنعتُك لنفسي} ، {ولتصنع على عيني} ، {يوم يكشف عن ساق} ، {بل عجبت ويسخرون} ، {الله يستهزئ بهم} ، {بل يداه مبسوطتان} ، {لما خلقتُ بيديّ} ، وغير ذلك من آيات الصّفات؛ فهل كلّ ذلك قاله الله ـ تعالى ـ أو ابن تيميّة؟! فإن كان الله ـ تعالى ـ هو الذي قاله؛ فأيّ لوم يلحق ابن تيميّة؟! وأمّا قوله: «كان يقول ذلك على المنابر» . فجوابه: إذا كان يقوله على الوجه الذي ذكرنا؛ فلا لوم عليه؛ فإنّه مأمور بتعليم العامّة دينهم ـ سيّما التّوحيد ـ، وإن كان يقوله على الوجه الذي ذكره ابن بطوطة في «رحلته» لما دخل دمشق؛ فهو كذب

رد المؤلف على ابن بطوطة

وافتراء على الشّيخ؛ وكتبه على خلاف ذلك، وقد ردّ هذا وأنكر نسبته إلى الشّيخ ابن تيميّة الحافظ العينيّ ـ شارح البخاريّ ـ، وهو أعلم بمصنّفات شيخ الإسلام من ابن حجر بأضعاف، ولقرب عهده منه. وهذه الحكاية السّخيفة من نقل كذّاب عن كذّاب؛ فنعوذ بالله من حال مَن يخلق ما يقول. والحاصل: أنّ هؤلاء الذين عطّلوا الله عن صفاته الخبريّة، وأوّلوها بآرائهم؛ فإنّهم أولًا شبّهوا ثم عطّلوا؛ لأنّهم ما عقلوا من هذه الصّفات إلَّا صفات المخلوفين؛ فلذلك نزّهوا الله عنها زعمًا منهم أنّ إثبات ذلك يُفضي إلى التّجسيم، وما دروا أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ كما أنّ ذاته مخالفة للذّوات؛ فصفاته مخالفة للصّفات؛ فقالوا: إنّ إثبات صفة الكلام له ـ تعالى ـ يقضي أنّ له جارحة يتكلّم بها؛ لأنّه ما عهد كلام من غير جارحة، وغفلوا أنّ بعض المخلوقات قد تكلّمت من غير جارحة، كما أخبر الله عن السّماوات والأرض؛ إذ قال لها: {ائتيا طوعًا أو كرهًا} ؛ قالتا ـ السّماوات والأرض ـ: {أتينا طائعين} ، ومثل: تسبيح الحصى في كفّه صلى الله عليه وسلم، ومثل: شهادة الأعضاء على العباد يوم القيامة، وإخبار الأرض بما وقع عليها يوم القيامة أيضًا؛ فهل جميع ذلك كان لها لسان وفهم؟! كلَّا؛ فكيف بمَن هو على

كلّ شيء قدير؟! فيتكلّم كيف شاء ومتى شاء، وقد أرانا الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الدُّنيا مثالًا؛ وهو الفوتوغراف؛ يتكلّم ويقرأ من غير لسان، وهو صنعة لبعض المخلوقين؛ فلله المثل الأعلى. فلمّا لم يعقلوا كلامًا من غير جارحة؛ قالوا بالكلام النّفسيّ، ومنعوا أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يكون قد أسمع موسى كلامه؛ بل خلق الكلام في الشّجرة! وأنّه لم يتكلّم بهذا القرآن العربيّ الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه بأيدينا في مصاحفنا؛ وقالوا: هذا القرآن مدلول كلام الله أو عبارة أو حكاية! وأنّه يُطلق عليه كلام الله مجازًا لا حقيقة! ومنعوا أنّ الله ـ تعالى ـ يُسمِع كلامه بعض خلقه؛ كما روى ذلك البخاريّ في «صحيحه» ؛ عند تفسير قوله ـ تعالى ـ في سورة سبأ: {حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم} ، وكذلك سائر الصّفات منعوا إثباتها له ـ تعالى ـ؛ خوفًا من التّشبيه، وخفي عليهم ما قاله ابن عبّاس من أنّه: ليس شيء في الدّنيا يشبه ما في الجنة مما أعدّه الله لأوليائه المتّقين الصّالحين، إلَّا مجرّد الاشتراك في التّسمية. والحال: أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول ـ وهو أصدق القائلين ـ في وصف الجنّة: {فيهما فاكهة ونخل ورمّان} ، ومن المعلوم أنّ الدّنيا فيها نخل ورمّان، ولكن لما كان النّخل ليس كالنّخل الذي في الجنّة ولا الرّمّان كالرّمان؛ عُلم منه أنّه محض اشتراك في التّسمية فقط. والمقصود: أنّ هؤلاء لمّا حكّموا عقولهم في النّصوص الشّرعيّة وأوّلوها بأهوائهم؛ ضلّوا وأضلّوا، ولم ينفعهم قولهم: «إنّ خصومنا لا يمكن ردّهم إلَّا بأدِلّة العقل، وأمّا النّصوص السّمعيّة فلا تجدي معهم نفعًا» ؛ لأنّهم ـ في الحقيقة ـ لا للإسلام نصروا ولا لعدوهم كسروا؛ بل أوقعوا النّاس في الشّك والحيرة، ولو التزموا طريقة القرآن والسُّنّة؛ لكانوا هادين مهديّين، ناصرين للإسلام وأهله. فنسأله ـ تعالى ـ التّوفيق والعصمة. وأمّا قول ابن حجر: «حتّى قام عليه بعض علماء زمانه؛ فكلّموا السّلطان في حبسه وقتله» . فجوابه: هذا صحيح؛ وهذه سُنّة الله في حقّ كلّ مَن قام لله منتصرًا؛ لأجل أن يجعل له أسوة بالأنبياء والرّسل ـ صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ـ؛ لأنّ

العلماء ورثة الأنبياء، وقد قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا} ، وقال ـ تعالى ـ: {وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدوًّا من المجرمين} . والحاصل: أنّ عداوة أهل الجهل للعلماء معروفة، لا ينكرها أحد؛ فلو أقنعوه بالحُجج والبراهين النّقليّة والعقليّة؛ لأرضوا بفعلهم ربّهم والنّاس أجمعين، ولكن من أين لهم علم يقاومون به هذا الطّود العظيم؛ فلما عجزوا عن مناظرته أمام السّلطان في مصر؛ أخذوا يسعون في أذاه، ويُغرون به الملوك والأمراء؛ فكان له في ذلك أجر وعليهم وزر، وعند الله تجتمع الخصوم. وأمّا كونه مات في السّجن؛ فلا عجب، وكم من إمام حُبس في السّجن حتى مات، وهل أحد أُوذي في الله مثل أهل العلم؟! تأمّل في التّاريخ؛ تجد ما وقع للأئمّة المجتهدين وأهل البيت وغيرهم. فالشّيخ أراد الله ـ تعالى ـ له أن ينظمه في سلك الذين أُوذوا فيه وصبروا؛ ليوفيهم أجرهم بغير حساب. وأمّا قوله: «ثم انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأسًا، ولم يُظهر لهم جاهًا ولا بأسًا؛ بل ضربت عليهم الذّلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» ! فجوابه أن يُقال: قد ردّ الله ـ تعالى ـ هذا الكلام على قائله. وأمّا أتباع شيخ الإسلام؛ فقد أعلى الله ـ تعالى ـ قدرهم، ورفع ذكرهم، وانقاد النّاس لهم؛ حتى صاروا يهتفون ويترنمون في المجالس بذكرهم، ويفتخرون بالانتساب إليهم، وحقّق الله لهم ما قاله فيهم، وأنجز لهم وعده؛ حيث قال: {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين} ، وقوله: {فاصبر إنّ العاقبة للمتّقين} ؛ فكانت العاقبة لهم؛ بأن نشر كتبهم في الآفاق، وانتفع بها الخاصّ والعامّ من كلّ جنس، حتى النّصارى واليهود على اختلاف مللهم؛ فطُبعت في بلادهم، فضلًا عن بلدان أهل الإسلام من كلّ جنس ومذهب، وعكف النّاس عليها قراءة وتدريسًا وكتابة، وتبيّن لهم أنّها هي كتب الدّين الصّحيح، وشواهد الحال تشهد بما قلناه؛ فليخسأ هذا المعترض! ومن طالع كتاب «سجل أم القرى» الذي

بيان أن ما عليه أهل النفي والتعطيل ليس هو مذهب الأشعري

ألّفه السّيد عبد الرحمن الكواكبيّ؛ يعلم صدق ما قلناه، ولله الحمد في الأولى والآخرة. فصل ولا يظنّ ظانّ أنّ ما عليه أهل النّفي والتّعطيل هو ما كان عليه الإمام أبو الحسن الأشعريّ ـ رحمه الله تعالى ـ، كما يقولونه. نعم؛ كان عليه في أوّل أمره، ثم رجع عنه؛ وألّف كتابه «الإبانة عن أصول الدّيانة» ؛ أثبت فيها جميع الصّفات التي ورد بها القرآن والسُّنّة، ووافق فيها أهل الحديث؛ حتى قال فيها: إنّ فرعون كان أحسن معرفة بربّه من هؤلاء النّفاة؛ فقال: {يا هامان ابن لي صرحًا} الآية؛ وهذا دليل على أنّ موسى ـ صلوات الله عليه ـ كان يقول: إنّ إلهي في السّماء. وقد طُبِعَ هذا الكتاب بالهند مع «الفقه الأكبر» للإمام أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه ـ. والحاصل: أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم يأتِ منكرًا من القول وزورًا؛ بل وافق في معتقده ما كان عليه سلفنا الصّالح، ومَن طالع مصنّفاته في التّوحيد وغيره، وطالع كتاب «العُلُوّ» لشمس الدّين الذّهبيّ، وكتاب «خلق أفعال العباد» للإمام البخاريّ، و «شرح السُّنّة» للإمام البغويّ، و «الأسماء والصّفات» للإمام البيهقيّ؛ علم قطعًا أنّه لم

يخرج عن اعتقاد السّلف قيد شبر، وأمّا مخالفوه؛ فهم شاهدون على أنفسهم بأنّهم لم يتبعوا فيما اعتقدوه الكتاب والسُّنّة؛ بل قالوا: إنّ فيهما ما ظاهره كفر! ولهذا ذهبوا يؤوّلون ويحرّفون كلّ صفة أثبتها الله ـ تعالى ـ لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بما أدّتهم إليه عقولهم؛ فمَن أحقّ بالتّضليل والابتداع: الذي يُحكّم الدّليل السّمعيّ في أصول الدّين وفروعه، أم الذي يعتقد أنّ نصوص الكتاب والسُّنّة منها ما ظاهره كفر! ويأخذ يبتدع له عقائد على حسب رأيه وهواه؟! فنعوذ بالله ـ تعالى ـ من اتّباع الهوى ودرك الشّقاء، ونسأله ـ تعالى ـ أن يرزقنا التّقوى، ويجنبن طرق الردى، آمين.

في التوسل والاستغاثة

ادّعاء السّبكيّ أنّ الاستغاثة والتّوسل من الأمور الحسنة قال السّبكيّ: «الباب الثامن: في التّوسّل والاستغاثة والتّشفّع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم: اعلم أنّه يجوز ويحسن التّوسّل والاستغاثة والتّشفّع بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ربّه ـ سبحانه وتعالى ـ؛ وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكلّ ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السّلف الصّالحين والعلماء، والعوامّ من المسلمين، ولم ينكر ذلك أحد من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيميّة؛ فتكلّم في ذلك ... » إلى آخره! وجوابه أن يُقال: إنّ التّجويز والتّحسين ليسا من خصائص البشر؛ وإنّما ذلك من خصائص الله ورسوله؛ فما لم يشرعه الله ورسوله لا يُقال فيه: هذا جائز أو حسن. وقوله: «هذه المسألة مُجمع عليها، ومعروفة من سير الأنبياء والسّلف، إلى حدّ زمانه» ؛ فهذا قول تردّه الأدِلّة الصّحيحة الثّابتة في الكتاب والسُّنّة وسيرة السّلف: فأمّا القرآن: فمن أوّله إلى آخره ليس فيه آية تدلّ على ما قاله، ولا تومئ إليه؛ بل فيه ما يردّ ذلك؛ مثل: قوله ـ تعالى ـ في ردّه على المشركين حيث يقول: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وقوله ـ تعالى ـ: {أم اتخذوا من دون الله شفعاء} الآية، وقوله ـ تعالى ـ: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} . وأمّا السُّنّة: فلم يأتِ فيها حديث واحد يدلّ على طلب التّوسّل بالمعنى الذي أراده السّبكيّ، أو أنّه أفضل من سؤال الله ـ تعالى ـ والإقسام عليه بأسمائه وصفاته. وأدعيته صلى الله عليه وسلم الواردة في الصّحيح والضّعيف ليس فيها حرف يدلّ على استحسان ذلك أو جوازه. وأمّا الإجماع: فإليك ما ورد في «الصّحيح» من توسّل أمير المؤمنين عمر بن

الخطّاب بالعباس عمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حين أجدبوا، مع وجود قبر النّبيّ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ، والقصة مشهورة؛ فلا حاجة لنا بذكرها، وقد أقرّه الصّحابة على ذلك؛ فلو كانوا يعلمون أنّ في القرآن أو السُّنّة دليلًا على استحسان التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به بعد وفاته؛ لما ساغ لهم أن يتركوه ويعدلوا عنه، ويقرّوا أمير المؤمنين سيدنا عمر على قوله: «اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل [إليك] بنبيّنا فتسقينا؛ والآن نتوسّل إليك بالعباس عمّ نبيّنا؛ فاسقنا» ؛ فصحّ بهذا أنّ التّوسّل والاستغاثة [به صلى الله عليه وسلم] كانا معروفين عند الصّحابة في حياته صلى الله عليه وسلم، وأنّهما بمعنى: طلب الدُّعاء منه صلى الله عليه وسلم، فلمّا قُبِضَ ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فليس لنا أن نزيد في الدّين ونشرع فيه ما لم يأذن به الله؛ بل علينا أن نسأل الله ونقسم عليه بأسمائه وصفاته، ونتوسل إليه ـ تعالى ـ بصالح الأعمال؛ لقوله ـ تعالى ـ: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ، ولحديث الثّلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة وهم بالغار؛ فتوسّلوا إلى الله ـ تعالى ـ بصالح أعمالهم؛ فانفرجت عنهم. رواه مسلم.

حديث الأعمى في التوسل والكلام حوله

واعلم أنّه لم يأتِ حديث في جواز التّوسّل يصلح للاستدلال، إلَّا حديث الأعمى، الذي رواه التّرمذيّ وغيره، من طريق أبي جعفر الخطمي، وقال فيه: «هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلَّا من طريق أبي جعفر» . وقد تكلّم العلماء على هذا الحديث؛ فمنهم مَن خصّه بحياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن جعله خصوصيّة له. وسنتكلّم عليه عند إيراد السّبكيّ له ـ إن شاء الله تعالى ـ. واعلم أنّني أسلك في طريق التّوسّل والاستغاثة والتّشفّع مسلك التّرجيح بين الأدِلّة؛ بمعنى: ما ورد منها ثابتًا صحيحًا يقبل، وإلَّا فلا. وأمّا من جهة الاعتقاد؛ فأقول: إنّ التّوسّل المجرّد ليس فيه بأس إذا كان بلفظ ما ورد في حديث الأعمى؛ لأنّ المسؤول هو الله ـ تعالى ـ، سواء سألناه ـ تعالى ـ بأسمائه وصفاته، أو

الكلام على الحديث الأول مما استدل به السبكي

توسّلنا إليه بأنبيائه والصّالحين من عباده، غير أنّ الوقوف عند ما ورد هو خير وأحسن تأويلًا؛ فنحن لا نكون أعلم بالله ولا أورع ولا أتقى له من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ولو كان هذا معروفًا في زمانهم؛ لنقل إلينا نقلًا مستفيضًا، ولم يروهِ الآحاد فقط؛ إذ ما من أحد منهم إلَّا كان يدعو الله ـ تعالى ـ ويسأله حوائجه؛ فالخير في الاتّباع، والشّر في الابتداع. والحاصل: أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة لم ينكر شيئًا معروفًا في القرآن أو السُّنّة أو إجماع الصّحابة ـ كما قاله هذا المعترض ـ؛ بل سلك مسلك الموحّدين الواقفين عند ما شرعه الله ورسوله، ولم يتعدّوه إلى استحسانهم، وهذا هو تعظيم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّا الذي يجوّز ويستحسن شيئًا في الدّين برأيه وهواه؛ فهو منازع لله في شرعه، منتقص لرسوله صلى الله عليه وسلم باستدراكه عليه بعض الأحكام؛ فكأنّه لم يرضَ بحكمه ولم يكتفِ بشرعه، وقد ضمن الله ـ سبحانه وتعالى ـ محبّته لمن اتّبع نبيّه؛ فقال (تعالى) ـ وهو أصدق القائلين ـ: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله} الآية. وأمّا ما أورده السّبكيّ في هذا الباب من الأحاديث التي ظنّها أدِلّة وبراهين قاطعة، وأخذ يشنّع على شيخ الإسلام من أجل مخالفته لها؛ فسنتكلّم عليها ـ إن شاء الله تعالى ـ حديثًا حديثًا. وبالله التّوفيق.

فصل الكلام على الحديث الأوّل حديث الحاكم: عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لما اقترف آدم الخطيئة ... » إلخ.

تخريج هذا الحديث وكلام أهل الفن فيه، وموقفهم من تصحيح الحاكم

أقول: هذا حديث ضعيف باتّفاق، انفرد بتصحيحه الحاكم؛ جريًا على عادته في التّساهل؛ وكم صحّح أحاديث ضعيفة بل موضوعة. وإليك ما قاله أهل العلم في الحاكم هذا: لا يلتفت إلى تصحيحه ما لم يوافقه أحد من أئمّة الحديث. وكيف ساغ للحاكم تصحيحه وإلزام الشّيخين بإخراجه؛ وفيه عبد الرحمن بن زيد؟! قال في «تهذيب التّهذيب» : عبد الرحمن بن زيد ... وذكر تضعيفه عن مالك وأحمد وأبي زرعة وأبي طالب. وناهيك بهم. وقوله: «اعتمدنا فيه على تصحيح الحاكم» ؛ فكأنّه لا يدري ما قاله العلماء في تصحيح الحاكم، وإذا كان لا يدري؛ فما له وما للحديث ورجاله! وقوله: «ولعلّ ابن تيميّة إذا بلغه الحديث؛ يطعن فيه بعبد الرحمن بن زيد، [وعبد الرحمن] لم يبلغ به الضّعف إلى الحدّ الذي ادّعاه» . أقول: قد عرفتَ من تكلّم في عبد الرحمن بن زيد، ولم يأتِ السّبكيّ برجل واحد

ذكر ما ورد في تفسير الكلمات التي تلقاها ادم

عدّل عبد الرحمن بن زيد؛ فإذ كان يعدّل مَن شاء ويضعّف مَن شاء بعقله ورأيه؛ فهو الأجدر بالكلام في الدّين بالظّنّ والخرص، لا شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ فإنّه قد تكلّم في عبد الرحمن بكلام أهل العلم فيه، وما قاله هو الذي وجدناه في كتب الجرح والتّعديل. والذي صحّ في تفسير هذه الآية ـ أعني: قوله (تعالى) : {فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه} ـ هو ما قاله الفاضل الشّيخ أبو بكر خوقير في كتابه «فصل المقال» : قال ـ حرسه الله تعالى ـ: «بيان ما ورد في قوله ـ تعالى ـ: {فلتقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} ، في التّفسير الكبير للعلّامة الفاضل محمّد بن جرير الطبريّ: عن ابن زيد، تابعه أبو زهير ومجاهد وقتادة والحسن: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} . ابن عباس: «أي ربّ؛ ألم تخلقني بيديك؟ قال: بلى. قال: أي ربّ؛ ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. قال: أي ربّ؛ ألم تسكنّي جنّتك؟ قال: بلى. قال:

أي ربّ؛ ألم تسبق رحمتُك غضبَك؟ قال: بلى. قال: أرأيتَ إن أنا تبتُ وأصلحتُ؛ أراجعي أنتَ إلى الجنّة؟ قال: نعم» . وعنه أيضًا: «ربّ إن تُبتُ وأصلحتُ؟ فقال: إنّي إذا راجعك إلى الجنّة» . أبي العالية: «يا ربّ؛ أرأيتَ أنا تُبتُ وأصلحتُ؟ فقال الله: إذًا راجعك إلى الجنّة» . فهي من الكلمات. ومن الكلمات أيضًا: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين} . أسباط عن السّدي: «قال: ربّ ألم تخلقني بيديك؟ قيل له: بلى. ونفختُ فيّ من روحك؟ قيل له: بلى. قال: وسبقت رحمتُك غضبَك؟ قيل له: بلى. قال: ربّ؛ هل كنتَ كتبتَ عليّ هذه؟ قيل له: نعم. قال: ربّ؛ إن تبتُ وأصلحتُ؛ هل أنتَ راجعي إلى الجنّة؟ قيل له: نعم. قال الله: {ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى} » . سفيان عن عبد العزيز بن رُفيع عن عُبيد بن عُمير،

تابعه ابن سنان، ووكيع وخلافه: «قال آدم: يا ربّ؛ خطيئتي التي أخطأتُها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته [من] قِبَل نفسي؟ قال: بل شيء كتبتُه عليك قبل أن أخلقك. قال: كتبتَه عليّ؛ فاغفره لي» . عن [عبد الرحمن بن يزيد بن] معاوية: «اللهمّ لا إله إلَّا أنتَ، سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك؛ تبْ عليّ؛ إنّك أنت التّواب الرّحيم» . عن مجاهد: «اللهمّ لا إله إلَّا أنتَ، سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمتُ نفسي؛ فاغفر لي؛ إنّك خير الرّاحمين، اللهمّ لا إله إلَّا أنتَ، سبحانك وبحمدك، ربّ إنّي ظلمتُ نفسي؛ فاغفر لي؛ إنّك خير الغافرين، اللهمّ لا إله إلَّا أنتَ، سبحانك وبحمدك؛ ربّ إنّي ظلمتُ نفسي فتبْ عليّ؛ إنّك أنتَ التّواب الرّحيم» . وعنه أيضًا قال: «أيّ ربّ؛ أتتوب عليّ إن تبتُ؟ قال: نعم. فتاب عليه ربّه» . انتهى بحروفه.

الكلام في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي حديث توسل آدم

وقال أيضًا في الكتاب المذكور عند الكلام على هذا الحديث ـ لما استدلّ به الهنديّ ـ: «أقول: الذي في «الدّرّ المنثور» خمس، الخامس: ابن عساكر، يرويه جميعهم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جدّه عن عمر بن الخطّاب يرفعه، وليس عندي من كتب هؤلاء الحفّاظ إلَّا معجم الطّبرانيّ الصّغير، وإسناده فيه هكذا: عن محمد بن داود بن أسلم الصّدفيّ المصريّ، عن أحمد بن سعيد المدنيّ الفهريّ، عن عبد الله بن إسماعيل المدنيّ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جدّه، عن عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ. وبعد سياق المتن قال: لا يروى عن عمر إلَّا بهذا الإسناد؛ تفرّد به أحمد بن سعيد. انتهى. قال البيهقيّ: تفرّد به عبد الرحمن. انتهى. وقال بعضهم: صححه الحاكم. انتهى. وفي تصحيحه نظر؛ فليس كلّ ما صحّحه مقبولًا؛ قال المدارسيّ في «كشف الأحوال في نقد الرّجال» : إنّ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم

ضعيف باتّفاق، وكذا في «تقريب التّهذيب» . قال العلّامة حمد بن ناصر التيميّ في جوابه على رسالة الفاضل اليمنيّ محمد بن أحمد الحفظيّ، سنة ألف ومائتين وسبعة عشر، ما نصّه: وأمّا قول القائل: فقد أخرج الحاكم في «مستدركه» ـ وصحّحه ـ: أنّ آدم توسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فهو من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وضعّفه ابن المدينيّ جدًّا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلّهم ضعيف، وقال النّسائيّ: ضعيف،

وقال ابن عبد الحكم: سمعتُ الشّافعيّ يقول: ذكر رجل لمالك حديثًا؛ فقال: مَن حدّثك؟ فذكر إسنادًا له منقطعًا؛ فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد يحدّثك عن أبيه عن نوح ـ عليه السّلام ـ! وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقويّ في الحديث؛ كان في نفسه صالحًا وفي الحديث واهيًا، وقال ابن حبّان: كان يقلّب الأخبار وهو لا يعلم؛ حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف؛ فاستحقّ التّرك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث ضعيفًا جدًّا، وقال ابن خزيمة: ليس هو مما يحتجّ أهل العلم بحديثه، وقال الحاكم وأبو نعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال ابن الجوزيّ: أجمعوا على ضعفه. فهذا الحديث الذي استدلّ به تفرّد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع!

شرع من قبلنا وكلام ابن تيمية في ذلك

وقال الشّيخ تقيّ الدّين في ردّه على ابن البكريّ: وأمّا قول القائل: قد توسّل به الأنبياء آدم وإدريس ونوح وأيّوب؛ كما هو مذكور في كتب التّفسير وغيرها؛ فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها بإجماع المسلمين؛ فإنّ النّاس لهم في شرع مَن قبلنا قولان: أحدهما: أنّه ليس بحُجّة. الثّاني: أنّه حُجّة ما لم يأتِ شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم ـ كإخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم ـ. فأمّا الاعتماد على نقل أهل الكتاب أو نقل مَن نقل عنهم؛ فلا يجوز باتّفاق المسلمين؛ لأنّ في الصّحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم» . وهذه القصص التي ذكر فيها توسل الأنبياء بذاته ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصّحابة؛ وإنّما تذكر مرسلة؛ كما تُذكر في الإسرائيليّات التي تُروى عمّن لا يعرف. وقد بسطنا الكلام في

غير هذا الموضع على ما نقل في ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وتكلّمنا عليه، وبيّنّا بطلانه. ولو نقل ذلك عن كعب ووهب ومالك بن دينار ونحوهم ممّن ينقل عن أهل الكتاب؛ لم يجز أن يحتجّ به؛ لأنّ الواحد من هؤلاء ـ وإن كان ثقة ـ فغاية ما عنده [أن ينقل] من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم؛ فإنّه بينه وبين الأنبياء دهر طويل، والمرسل عن المجهول من أهل الكتاب الذي لا يعرف علمه وصدقه لا يقبل باتّفاق المسلمين، ومراسيل أهل زمننا عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند العلماء، مع كون ديننا محفوظًا محروسًا؛ فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس ونوح وأيّوب ـ عليهم السّلام ـ؟! والقرآن قد أخبر بأدعية الأدنبياء وتوباتهم واستغفارهم؛ وليس فيها شيء من هذا، وقد نقل أبو نعيم في «الحلية» أنّ داود ـ عليه السّلام ـ قال: «يا ربّ؛ أسألك بحقّ آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ فقال: يا داود؛ أي حقّ لآبائك عليّ» . فإن كانت الإسرائيليّات حُجّة؛ فهذا يدلّ على أنّه لا يسأل بحقّ الأنبياء، وإن لم تكن حُجّة؛ لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليّات. انتهى [كلامه] . فبيّن ـ رحمه الله ـ أن لم يصح في هذا شيء عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّ جميع ما رُوي في ذلك باطل لا أصل له. [اهـ] .

فصل وأمّا الكلام على حديث ابن عبّاس ـ وهو الحديث الثّاني ـ؛ فجوابه أن يقال: هذا الحديث أشدّ ضعفًا من الحديث الذي قبله ـ كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى ـ. الحديث الثّاني المرويّ عن ابن عبّاس: قال في «الميزان» في ترجمة عمرو بن أوس: يجهل حاله، وروى حديثًا فذكره بتمامه، وقال: رواه الحاكم من طريق جندل بن والق، وأظنّه موضوعًا، وأمّا جندل بن والق؛ فقال مسلم في «الكنى» : ضعيف، ومثله عن البزّار، وأمّا علي شيخ الحاكم وهارون بن العباس الهاشميّ؛ فلم أجدهما في رجال «التّهذيب» ، لكن ذكرهما في «الميزان» ، ونقل تضعيفها عن الدّارقطنيّ. انتهى.

الكلام على الحديث الثاني مما استدل به السبكي

فإذا تبيّن حال هذا الحديث؛ علم قطعًا جراءة الحاكم على تصحيحه، وأغرب منه موافقة السّبكيّ له انتصارًا لنفسه لا للحق، ومثل هذا لا يخفى عليه؛ فإنّ تساهل الحاكم لا يخفى على مَن له أدنى إلمام بهذا الفنّ، ولكن أداه تعصّبه إلى الإغضاء عن بيان حاله، كما حمل ابن حجر المكيّ تعصّبه على إنكار الحديث الوارد في إرخاء العَذَبة، وأخذ يشنّع على شيخ الإسلام وابن القيّم، وقد ردّ عليه في هذه المسألة الشّيخ عبد الرؤوف المناويّ، والشّيخ علي القاري، كلاهما في شرح شمائل التّرمذيّ. انتهى.

الفرق بين الاستغاثة والتوسل، وبيان خطأ من ادعى أنهما بمعنى واحد

وأمّا قوله: «فلا فرق في هذا المعنى بين أن يُعبّر عنه بلفظ التّوسّل أو الاستغاثة أو التّشفّع أو التّوجّه ... » إلخ. أقول: هذا كلام مَن لم يعرف أسلوب لغة العرب؛ لأنّ كلّ مَن له أقلّ معرفة بلغة العرب يظهر له الفرق بين التّوسّل والاستغاثة والتّوجّه، ولا يشكّ عاقل في أنّ التّوسّل هو سؤال الله ـ تعالى ـ متوسّلًا إليه ـ سبحانه ـ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أو الوليّ. [أمّا] الاستغاثة: فهي طلب الغوث من المُستغاث به، لا طلب الغوث من غيره؛ كما قال الله ـ تعالى ـ: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} ؛ فظهر الفرق. وأيضًا فإنّ مدّة التّوسّل لا تتعدّى إلَّا بالحرف؛ كقولك: «توسّلتُ بفلان إلى فلان» ، ومثله: «تشفّعت به وتوجّهتُ به» ، وتصير الباء على هذا بمعنى السّببيّة. وأمّا مادّة (الاستغاثة) ؛ فإنّها تتعدّى بنفسها وبالحرف، وكلاهما واحد؛ فنقول: «استغاثه واستغاث به» ، وكلا المعنيين: طلب الغوث من المُستغاث به؛ فظهر الفرق بين «التّوسّل» و «الاستغاثة» . وسيأتي لهذا مزيد بيان. وأمّا قوله: «فالمسؤول في هذه الدّعوات كلّها هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ» . أقول: هذه الدّعوات ليس فيها ما يدلّ على قصد هذا المعترض؛ لأنّ لفظ الحديث الأوّل [ليس فيه] إلَّا سؤال الله ـ تعالى ـ بأسمائه وصفاته، وفي حديث الغار ليس فيه إلَّا التّوسّل إلى الله ـ تعالى ـ بصالح الأعمال؛ فأيّ شخص في هذين الحديثين قد تُوسّل به إلى الله؟! فتأمّل!

فصل: في معنى حديث الأعمى، نقل عن الألوسي

الكلام على حديث التّرمذيّ هذا، وهو أصحّ شيء ورد في هذا الباب ذكر العلّامة السّيد محمود الآلوسيّ في كتابه «فتح المنّان» ـ الذي ردّ به على داود بن جرجيس ـ، قال ما نصّه ـ عند إيراده لهذا الحديث ـ: «والجواب: أنّ هذا الدّليل لا يفيد العراقيّ شيئًا؛ بل هو من نمط ما قبله، وببيان معنى الحديث يُعلم ذلك؛ فقوله: «اللهمّ إنّي أسألك» أي: أطلب منك، «وأتوجّه إليك بنبيّك محمد» ، صرّح به مع ورود النّهي عن ذلك تواضعًا منه؛ لكون التّعليم من قبله، وفي ذلك قصر السؤال الذي هو أصل الدُّعاء على الله ـ تعالى ـ الملك المتعال، ولكنّه توسّل بالنّبيّ؛ أي: بدعائه؛ ولذا قال في آخره: «اللهمّ فشفّعه فيّ» ؛ إذ شفاعته لا تكون إلَّا بالدُّعاء لربّه قطعًا» . ولو كان المراد التّوسّل بذاته فقط؛ لم يكن لذلك التّعقيب معنى؛ إذ التّوسّل بقوله: «بنبيّك» كافٍ في إفادة هذا المعنى؛ فقوله: «يا محمّد؛ إنّي توجّهتُ بك إلى ربّي» قال الطّيبيّ: الباء في (بك) للاستعانة. وقوله: «إنّي توجّهتُ بك» بعد قوله: «أتوجّه إليك» فيه معنى قوله: {مَن ذا الذي يشفع عنده إلَّا بإذنه} ؛ فيكون خطابًا لحاضر معاين في قلبه مرتبط بما توجّه به عند ربّه من سؤال نبيّه بدعائه الذي هو عين شفاعته؛ ولذلك أتى بالصّيغة الماضوية بعد الصّيغة المضارعيّة؛ المفيد كلّ ذلك أنّ هذا

الدّاعي قد توسّل بشفاعة نبيّه في دعائه؛ فكأنّه استحضره وقت ندائه؛ ومثل ذلك كثير في المقامات الخطابيّة والقرائن الاعتباريّة؛ فقوله: «في حاجتي هذه لتفضي لي» ؛ أي: ليقضها لي ربّي (بشفاعته؛ أي: في دعائه) . وذلك مشروع مأمور به؛ فإنّ الصّحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ كانوا يطلبون منه الدُّعاء، وكان يدعو لهم، وكذلك يجوز الآن أن تأتي رجلًا صالحًا فتطلب منه الدُّعاء لك؛ بل يجوز للأعلى أن يطلب من الأدنى [الدُّعاء] له؛ كما طلب النّبيّ صلى الله عليه وسلم الدُّعاء من عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ في عمرته؛ بأن قال له: «لا تنسنا يا أخي من دعائك» ؛ قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: «ما يسرّني [أنّ لي] بها حمر النّعم» . قال العلّامة المناويّ: «سأل الله أولًا أن يأذن لنبيّه أن يشفع، ثمّ أقبل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ملتمسًا شفاعته له، ثم كرّ مقبلًا على ربّه أن يقبل شفاعته. والباء في (نبيّك) للتعدية، وفي (بك) للاستعانة. وقوله: «اللهمّ فشفّعه فيّ» أي: اقبل شفاعته في حقّي. والعطف على مقدّر؛ أي: اجعله شفيعًا إليّ فشفّعه. وكلّ هذه المعاني دالّة على وجود شفاعته بذلك ـ وهو: دعاؤه صلى الله عليه وسلم له بكشف عاهته ـ، وليس ذلك بمحظور؛ غاية الأمر أنّه توسّل من غير دعاء؛ بل هو نداء لحاضر. والدُّعاء أخصّ من النّداء؛ إذ هو نداء عبادة شاملة للسّؤال بما لا يقدر عليه إلَّا الله؛ وإنّما المحظور السّؤال بالذّوات لا مطلقًا؛ بل على معنى أنّهم وسائل (لله) ـ تعالى ـ بذواتهم، وأمّا كونهم وسائل

لفظ التوسل فيه إجمال واشتراك، بيان ذلك من كلام ابن تيمية

بدعائهم فغير محظور، وإذا اعتقد أنّهم وسائل (لله) بذواتهم يسأل منهم الشّفاعة للتقرّب إليهم؛ فذلك عين ما كان عليه المشركون الأوّلون. فتبيّن أنّه لا دلالة في الحديث على جواز الاستغاثة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أصلًا. والعراقيّ نقل عبارة شيخ الإسلام محرّفة؛ وهذه هي عبارته في كتابه «اقتضاء الصّراط المستقيم» ؛ قال: «والميّت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره، وكذلك حديث الأعمى؛ فإنّه طلب من النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليردّ الله عليه بصره؛ فعلّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعاءً أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة [نبيه فيه؛ فهذل يدلّ على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم شفع [فيه] ، وأمره أن يسأل الله قبول الشّفاعة] ، وأنّ قوله: «أسألك وأتوجّه (إليك) بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة» أي: بدعائه وشفاعته؛ كما قال عمر: «كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا» ؛ فلفظ (التّوسّل) و (التّوجّه) في الحديثين بمعنى واحد. ثم قال: «يا محمّد يا رسول الله؛ إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيها؛ اللهمّ فشفّعه فيّ» ؛ فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيّه. وقوله: «يا محمّد يا نبيّ الله» ؛ هذا وأمثاله نداء يُطلب به استحضار المنادى في القلب؛ فيخاطب المشهود بالقلب؛ كما يقول المصلّي: «السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته» ، والإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا؛ يخاطب مَن يتصوّره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج مَن يسمع الخطاب. فلفظ (التّوسّل بالشّخص) و (التّوجّه به) و (السّؤال به) ؛ فيه إجمال واشتراك؛ غلط بسببه مَن لم يفهم مقصود الصّحابة: 1ـ يُراد به: التّسبّب به؛ لكونه داعيًا وشافعًا مثلًا، أو: لكون الدّاعي محبًّا له مطيعًا لأمره مقتديًا به؛ فيكون التّسَبّب إما بمحبّة السّائل له واتّباعه له، وإمّا بدعاء الوسيلة وشفاعته.

اختيار المصنف في قضية التوسل وبيان خطئه

2ـ ويراد به: الإقسام به والتّوسّل بذاته؛ فلا يكون التّوسّل لا [بشيء] منه ولا [بشيء] من السّائل؛ بل بذاته، أو بمجرّد الإقسام به على الله. فهذا الثّاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. وكذلك [لفظ] السّؤال بشيء: 1ـ قد يُراد به المعنى الأول: التّسبّب؛ لكونه سببًا في حصول المطلوب. 2ـ وقد يُراد به: الإقسام ... » إلى آخر ما قال. انتهى. والحاصل: أنّ هذا الحديث هو أحسن ما رُوي في هذا الباب، ومع هذا؛ فلا يدلّ إلَّا على جواز التّوسّل؛ وهو: سؤال الله ـ تعالى ـ بأحد من خلقه كالأنبياء وغيرهم عند قوم. وقال بعضهم ـ كالعزّ بن عبد السّلام ـ: «إذا صَحّ حديث الأعمى؛ فهو خاصّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يُقاس عليه غيره» ، وقال بعضهم: لا يدلّ على جواز التّوسّل أصلًا ـ كما تقدّم بيان ذلك ـ. وقال بعضهم: هو خاصّ بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته فقط؛ إذ هو توسّل بدعائه صلى الله عليه وسلم، ويدلّ عليه: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «وإن شئتَ دعوتُ» ـ بضَمّ التّاء في (دعوتُ) على أنّه ضمير المتكلّم فاعل، «وإن شئتَ صبرتَ» ـ بنصب التّاء في (صبرتَ) على أنّه ضمير المخاطَب. وعندي: أنّ التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والصّالحين جائز، لا فرق في ذلك

فتوى الشيخ محمد عبده في التوسل وبيان أنه ممنوع

بين أن يكونوا أحياء أو أمواتًا، عند مَن يفرّق بين (التّوسّل) و (الاستغاثة) ـ وقد بيّنّا الفرق بينهما ـ. فقد علم بهذا: جواز التّوسّل؛ إذ المسؤول هو الله ـ تعالى ـ لا غيره، ولا شكّ أنّ الأنبياء سيّما نبيّنا صلى الله عليه وسلم لهم الجاه العظيم، ولكن حيث إنّ بعض النّاس لم يفرّق بين التّوسّل الذي هو جائز وبين الاستغاثة التي هي شرك، إلَّا إذا كانت بالحيّ الحاضر؛ كما استغاث صاحب موسى ـ صلوات الله عليه ـ به فأغاثه، وكإغاثة بعضنا بعضًا في الشّيء الذي نقدر عليه؛ فهذا جائز بالاتّفاق. وأمّا بعد الموت؛ فلا يجوز طلب شيء من الميّت، سواء كان نبيًّا أو وليًّا أو صالحًا. وأمّا مَن جعل (التّوسّل) و (الاستغاثة) بمعنى واحد؛ فقد جنى على الدّين وأهله ـ والله ـ وعلى لغة العرب، وافترى على الله الكذب؛ والفرق بينهما ظاهر لمن له أدنى فهم، وهذا الذي ذكرناه واخترناه هو أعدل الأقوال وأوسطها؛ جمعًا بين الأدِلّة، سيّما والعقل لا يأبى ذلك؛ إذ لا شرك ولا شائبة شرك في سؤال الله ـ تعالى ـ بجاه نبيّ أو وليّ؛ وإنّما الشّرك والبليّة في طلب الحوائج من خير الدّنيا والآخرة من الأموات الذين انقطع عملهم إلَّا من ثلاث: علم يُنتفع به، وصدقة جارية، أو ولد صالح، والذين منعوا جواز التّوسّل أرادوا بذلك سدّ باب سؤال غير الله ـ تعالى ـ كي لا يقع أحد في الشّرك، سيّما العوام الذين لا يفرّقون بين (التّوسّل) و (الاستغاثة)

بالميّت؛ ولذلك إذا سمعتَه يقول: يا سيّدنا الحسين، أو: يا سيدتي خديجة، ومثل ذلك؛ وقلتَ له: يا شيخ؛ هذا حرام وشرك؛ لأنّ الله يقول ـ وهو أصدق القائلين ـ: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} ، {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضّرّ عنكم ولا تحويلًا} ؛ يجاوبك بقوله: اسكت يا شيخ؛ أنا لا أسألهم شيئًا؛ وإنّما أتوسّل بهم إلى الله ـ تعالى ـ! فإذا قلتَ له: إذا كان مقصودك التّوسّل بهم ليس إلَّا؛ فلا تنادِ أحدًا من المخلوقين الغائبين باسمه، ولا تذهب إلى قبره بقصد سؤاله؛ وإنّما غاية الأمر: أن ترفع يديك إلى الله ـ تعالى ـ الذي خلقك وخلقهم؛ وقل: يا رب؛ أسألك وأتوسّل إليك بفلان أو فلانة، وأمّا أنّك مُعرض عن سؤال الله ـ تعالى ـ وتقبل على المخلوق وتطلب منه ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ تعالى ـ، وتقول: هذا توسّل. كلَّا!

فصل: في قصة عثمان بن حنيف مع الأعمى وبيان ضعفها

فصل وأمّا أثر عثمان بن حنيف الذي علّم مَن له حاجة عند أمير المؤمنين عثمان بن عفّان؛ فهذا لا حُجّة فيه مِن وجوه: الأول: أنّها رواية شاذّة؛ والرّواية الصّحيحة هي التي أخرجها التّرمذيّ والحاكم ـ وأقرّها الذّهبيّ ـ. وأمّا ما تفرّد به الطّبرانيّ أو البيهقيّ من غير تنبيه على صحّة ذلك؛ ففيه نظر. الثاني: أنّ هذا ـ لو صَحّ ـ فهو رأي صحابيّ لا حُجّة فيه. الثالث: لو كان هذا شايعًا ذائعًا؛ لما اختصّ به عثمان بن حنيف وحده من دون الصّحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ، سيّما الخلفاء الرّاشدين. وأمّا ما أطال به من ذكر الآثار الدّالّة على جواز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم في حياته؛ فلا

حاجة بنا إلى المناقشة معه في ذلك؛ لأنّنا مسلّمون ومعتقدون جواز ذلك وطلبه حتى ممن هو أدنى من النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمراحل؛ وكيف يسوغ إنكاره والله يقول: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} ؟! وإنّما النّزاع في جواز الاستغاثة بالمخلوق بعد وفاته؛ بمعنى: طلب الغوث منه ـ كما تدلّ عليه لغة الكتاب والسُّنّة ـ؛ فهذا ما دلّ عليه أثر ولا جاء في خبر. والقول الفصل في هذه المسألة: أنّ الميّت إذا مات انقطع عمله من قول وفعل، ولم يبقَ له إلَّا ما قدّمه في حياته، لا فرق في ذلك بين نبيّ ووليّ وصالح؛ ومَن زعم أنّ الأنبياء والأولياء يفعلون أشياء في قبورهم يصل إليهم ثوابها كما كانوا في حياتهم؛ فعليه الدّليل؛ وأنّى له ذلك؟! وهذه المشغبات كلّها لا تجدي نفعًا؛ بل تفتح على النّاس باب الشّرك الأصغر بل الأكبر. وأمّا جعله (الاستغاثة) و (التّجوّه) و (التّشفّع) و (التّوسّل) بمعنى واحد؛ فهذا لا يقوله أحد مارس فنّ اللّغة؛ بل الفرق بين (الاستغاثة) و (التّوسّل) ظاهر ـ كما سبق لنا بيانه ـ. والله الموفّق والهادي إلى الصّواب.

فصل: في كلام الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ من رده على العراقي والقبورية

فصل قال الشّيخ عبد اللطيف في «منهاج التّأسيس والتّقديس» الذي رَدّ به على داود بن جرجيس العراقيّ، عند إيراده لكلام السّبكيّ هذا، وكلام السّمهوديّ في «تاريخ المدينة» ـ المسمّى «خلاصة الوفا» ـ، وكلام القسطلاني في «المواهب» ، وكلام ابن حجر في «الجوهر المنظم» ؛ في باب جواز الاستغاثة بغير الله ـ كالأنبياء والصّالحين ـ، وأنّها بمعنى التّوسّل، وبمعنى أنّهم وسائل ووسائط وأسباب، لا أنّهم فاعلون على الحقيقة؛ قال ما نصّه: «فأقول ـ وبالله الاستعانة، ومنه أستمدّ المدد والهداية ـ: أمّا ما في كلام العراقيّ من فساد التّركيب وبشاعة التّعبير؛ فلسنا بصدده، والكلام عليه يطول؛ والغرض: إبطال الدّعوى ومعارضتها ونقضها، والكشف عن حالها وحال أئمّته السّابقين إليها من الأُمم المعارضين للرّسل بآرائهم وأهوائهم الضّالّة الفاسدة. والجواب عن هذه الشّبه من وجوه: الأوّل: أنّ الله ـ سبحانه ـ إنّما خلق خلقه لعبادته؛ الجامعة لمعرفته ومحبّته والخضوع له وتعظيمه وخوفه ورجائه والتّوكّل عليه والإنابة إليه والتّضرّع بين يديه، وهذه زبدة الرّسالة الإلهيّة وحاصل الدّعوة النّبويّة، وهو الحقّ الذي خُلقت له السّماوات والأرض

الوجه الثاني: قولهم: إنهم مجرد وسائط هو قول المشركين

وأنزل به الكتاب، وهو الغاية المطلوبة والحكمة المقصودة من إيجاد المخلوقات وخلق سائر البريّات. قال ـ تعالى ـ: {وما خلقتُ الجنّ والإنس إلَّا ليعبدون} ، ودعا ـ سبحانه ـ عباده إلى هذا المقصود، وافترض عليهم القيام به حسب ما أمر، والبراءة من الشّرك والتّنديد المنافي لهذا الأصل الذي هو المراد من خلق سائر العبيد. قال الله ـ تعالى ـ: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ، وقال: {إنّه مَن يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النّار وما للظّالمين من أنصار} ، وقال: {ومَن يشرك بالله فكأنّما خرّ من السّماء فتخطفه الطّير أو تهوي به الرّيح في مكان سحيق} . فالقول بجواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الأنبياء والصّالحين، وجعلهم وسائط بين العبد وبين الله، والتّقرّب إليهم بالنّذر والنّحر والتّعظيم بالحلف وما أشبهه؛ مناقضة ومنافاة لهذه الحكمة التي هي المقصودة بخلق السّماوات والأرض وإنزال الكتب وإرسال الرّسل، وفتح لباب الشّرك في المحبّة والخضوع والتّعظيم، ومشاقّة ظاهرة لله ولرسله ولكلّ نبيّ كريم، والنّفوس مجبولة على صرف ذلك المذكور من العبادات إلى [مَن] أهّلته لكشف الشّدائد، وسدّ الفاقات، وقضاء الحاجات من الأمور العامّة التي لا يقدر عليها إلَّا فاطر الأرض والسّماوات. الوجه الثّاني: أنّ هذا بعينه قول عُبّاد الأنبياء والصّالحين من عهد قوم نوح إلى أن بُعث [إليهم] خاتم النّبيّين، لم يزيدوا عمّا قاله العراقيّ فيما انتحلوه من الشّرك الوخيم والقول الذّميم؛ كما حكى الله عنهم ذلك في كتابه الكريم؛ قال ـ تعالى ـ: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، وقال

الوجه الثالث: أمر الله بالالتجاء إليه وحده

ـ تعالى ـ: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} ، وقال ـ تعالى ـ {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانًا آلهة بل ضلّوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} ؛ فهذه النّصوص المحكمة صريحة في [أنّ] المشركين لم يقصدوا إلَّا الجاه والشّفاعة والتّوسّل ـ بمعنى: جعلهم وسائط تقرّبهم إلى الله وتقضي حوائجهم منه (تعالى) ـ، وقد أنكر القرآن هذا أشدّ الإنكار؛ وأخبر أنّ أهله هم أصحاب النّار، وأنّ الله حرّم عليهم الجنّة دار أوليائه الأبرار، وجمهور هؤلاء المشركين لم يَدّعوا الاستقلال [لآلهتهم] ولا الشّركة في توحيد الرّبوبيّة؛ بل قد أقرّوا واعترفوا بأنّ ذلك [كلّه] لله وحده؛ كما حكى ـ سبحانه ـ إقرارهم واعترافهم بذلك في غير موضع من كتابه. فحاصل ما ذكره العراقيّ من جواز الاستغاثة والدُّعاء والتّعظيم بالنّذر والحلف، مع نفي الاستقلال، وأنّ الله يفعله لأجله؛ هو عين دعوى المشركين وتعليلهم وشبهتهم؛ لم يزيدوا عليه حرفًا واحدًا، إلَّا أنّهم قالوا (قربانًا) و (شفعاء) ، والعراقيّ سمّى ذلك (توسّلًا) ؛ فالعلّة واحدة والحقيقة متّحدة. وما ذكره العراقيّ من الإسهاب مجرّد هوس وهذيان؛ لا يغير الحقائق، ولا يتوقّف كشف باطله على معرفة الغوامض والدّقائق! الوجه الثّالث: أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمر عباده بدعائه ومسألته والاستغاثة به وإنزال حاجتهم وفاقتهم وضرورتهم به؛ قال ـ تعالى ـ: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون} ، وقال ـ تعالى ـ: {وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخر ين} ، وقال ـ تعالى ـ: {أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه} الآية، وقال ـ تعالى ـ: {وابتغوا إليه الوسيلة} ، {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه} ، وقال ـ تعالى ـ: {يسأله مَن في السّموات والأرض كلّ

الوجه الرابع: أن الله دعا الناس إلى عبادته بعد ما قررهم بربوبيته

يوم هو في شأن} ، وقال ـ تعالى ـ: {فإذا فرغتَ فانصب * وإلى ربّك فارغب} ، وفي الحديث: «مَن لم يسأل الله يغضب عليه» ، وفيه: «الدُّعاء سلام المؤمن وعماد الدّين» ، وحديث النّزول كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا؛ يقول ـ تعالى ـ: «هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه؟» . وعلى مذهب هذا العراقيّ، وقوله باستحباب الاستغاثة بغير الله، وجعل الوسائط بين العباد وبينه ـ تعالى ـ؛ يهدم هذا الأصل، الذي هو أصل الدّين، ويسدّ بابه، ويُستغاث بالأنبياء والصّالحين، ويرغّب إليهم في حاجات الطّالبين والسّائلين، وضرورات المضطرين من خلق الله أجمعين. الوجه الرّابع: أنّ الله دعا عباده بربوبيّته العامّة الشّاملة لكليّات الممكنات وجزئياتها في الدُّنيا والآخرة، وانفراده بالإيجاد والتّدبير والتّأثير والتّقدير، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والعزّ والذّلّ، والإحياء والإماتة، والسّعادة والشّقاوة، والهداية والمغفرة، والتّوبة على عباده ... إلى غير ذلك من أفعال الرّبوبيّة وآثارها المشاهدة المصنوعة ـ إلى معرفته، وعبادته الجامعة لمحبّته والخضوع له وتعظيمه ودعائه، وترك التّعلّق على غيره محبّة وتعظيمًا واستغاثة؛ قال ـ تعالى ـ: {أمّن خلق السّموات والأرض وأنزل لكم من السّماء ماءً فأنبتنا به} إلى قوله ـ تعالى ـ: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم

صادقين} ، وقال ـ تعالى ـ: {قل لمن الأرض ومَن فيها إن كنتم تعلمون} إلى قوله: {فأنّى تُسحرون} ، وقال ـ تعالى ـ: {قل مَن يرزقكم من السّماء والأرض} إلى قوله: {أفلا تتّقون} ؛ فتأمّل هذه الآيات الكريمات، وما تضمّنته من تقرير أفعال الرّبوبيّة التي لا يخرج عنها فرد من أفراد الكائنات، واعرف ما سيقت [له] ودلّت عليه من وجوب محبّته ـ تعالى ـ، وعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما عُبد من دونه من الأنداد والآلهة، والبراءة من ذلك، وانظر: هل القوم المخاطبون بهذا زعموا الاستقلال لغير الكبير المتعال، أم أقرّوا له ـ سبحانه ـ بالاستقلال والتّدبير والتّأثير؟! وإنّما أتوا من جهة الواسطة والشّفاعة والتّوسّل بدعاء غير الله وقصد سواه فيما يحتاجه العبد وما يهواه، وهذا صريح من تلك الحُجج البيّنات، ونصّ هذه الآيات المحكمات؛ احتجّ ـ سبحانه ـ بما أقرّوا به من الرّبوبيّة والاستقلال على إبطال قصد غيره بالعبادة والدُّعاء والاستغاثة ـ كما يفعله أهل الجهل والضّلال ـ. فإن قيل: تجوز الاستغاثة بالأنبياء والصّالحين ودعاؤهم والنّذر لهم على أنّهم وسائط ووسائل بين الله وبين عباده، وأنّ الله يفعل لأجلهم! انهدمت القاعدة الإيمانيّة، وانتقضت الأصول التّوحيديّة، وانفتح باب الشّرك الأعظم، وعادت الرّغبات والرّهبات والمقاصد والتّوجيهات إلى سكان القبور والأموات، ومَن دُعي مع الله من سائر المخلوقات! وهذه هي الغاية الشّركيّة، والعبادة الوثنيّة؛ فنعوذ بالله من الضّلال والشّقاء، والانحراف عن أسباب الفلاح والهدى.

الوجه الخامس: أنه لا فلاح ولا سعادة إلا باتخاذ الله إلها وربا

الوجه الخامس: أنّه لا فلاح ولا صلاح ولا نجاح ولا نعيم ولا لذّة للعبد إلَّا بأن يكون الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو إلهه ومحبوبه ومستغاثه الذي إليه مفزعه عند الشّدائد، وإليه مرجعه في عامّة المطالب والمقاصد. والعبد به فاقة وضرورة وحاجة إلى أن يكون الله هو معبوده ومستغاثه، وإليه إنابته ومفزعه، ولو حصلت له كلّ الكائنات وتوجّه إلى جميع المخلوقات؛ لم تسدّ فاقته، ولا تدفع ضرورته، ولا يحصل نعيمه وفرحه ويزول همّة كربه وشقاؤه إلَّا بربّه؛ الذي مَن وجده وجد كلّ شيء، ومَن فاته فاته كلّ شيء، وهو أحبّ إليه من كلّ شيء، وهذه فاقة وضرورة وحاجات لا يشبهها شيء فتقاس به؛ وإنّما تشبه من بعض الوجوه حاجة العبد إلى طعامه وشرابه وقوّته الذي يقوم بدنه به؛ فإنّ البدن لا يقوم [إلَّا] بذلك، وفقده غاية انعدام البدن وموته. وأمّا فقد محبّة الله وعبادته ودعائه؛ فعذاب وشقاء وجحيم في الآخرة والأولى، لا ينفكّ [عنه] بحال من الأحوال. قال الله ـ تعالى ـ: {اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدوّ فإمّا يأتينّكم منّي هدى فمَن تبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى} إلى قوله: {ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى} ، وقال ـ تعالى ـ: {الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصّالحات طوبى لهم وحسن مئاب} ، وفي الحديث القدسيّ ـ حديث الأولياء ـ؛ يقول الله ـ تعالى ـ: «مَن عادى لي وليًّا فقد بارزني بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببتُه

الوجه السادس: أن الشريعة جاءت بسد الذرائع وشنعت على الشرك الأصغر، فمن باب أولى الشرك الأكبر

كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش ... » الحديث. وعلى القول بجعل الوسائط والشّفعاء بين العباد وبين الله؛ تقلع أصول هذا الأصل العظيم؛ الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركّب عليه البنيان؛ فأيّ فرح، وأيّ نعيم، وأيّ فاقة سُدّت، وأيّ ضرورة دُفعت، وأيّ سعادة حصلت، وأيّ أنس واطمئنان إذا كان التّوجّه والدُّعاء والاستغاثة والذّبح والنّذر لغير الله الحنّان المنّان؟! سبحان الله! ما أجرأ هذا المعترض على الله وعلى رسله وعلى دينه وعلى عباده المؤمنين! اللهمّ إنّا نبرأ إليك مما جاء به هذا المفتري، وما قاله في دينك وكتابك وعلى عبادك وأوليائك. قال الله ـ تعالى ـ: {لو كان فيهما آلهة إلَّا الله لفسدتا فسبحان الله ربّ العرش عمّا يصفون} ؛ فصلاح السّماوات والأرض بأن يكون الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو إلهها دون ما سواه، ومستغاثها الذي تفزع إليه وتلجأ إليه في مطالبها وحاجاتها، وقرّر المتكلّمون ـ هنا ـ: تمانع وجود ربّين مدبّرين؛ وأنّه لا صلاح للعالَم إلَّا بأن يكون الله قيومه ومدبّره، وقرّر غيرهم من المحقّقين: امتناع الصّلاح بوجود آلهة تُعبد وتُقصد وتُرجى. فالأوّل يرجع إلى الرّبوبيّة، والثّاني إلى الألوهيّة. الوجه السّادس: أنّ الشّرع الذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم، والسُّنّة التي سنّها في قبور الأنبياء والصّالحين وعامّة المؤمنين؛ تنافي هذا القول الشّنيع الذي افتراه هذا الجاهل، وتبطله وتعارضه؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم سنّ عند القبور ما صحّت به الأحاديث النّبويّة، وجرى عليه عمل علماء الأُمّة؛ من السّلام عند زيارتها، والدُّعاء لأصحابها، وسؤال الله العافية لهم، من جنس ما شرعه من الصّلاة على جنائزهم، ونهى عن عبادة الله عند القبور، والصّلاة فيها وإليها، وخصّ قبور الأنبياء والصّالحين بلعن مَن اتّخذها مساجد يُعبد فيها ـ تعالى ـ

ويُدعى، وتواترت بذلك الأحاديث، خرّجها أصحاب الصّحيحين وأهل السُّنَن ومالك في «موطئه» : فمنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وحديث ابن مسعود: «إنّ من شرار النّاس مَن تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» ، وحديث أبي هريرة: «قاتل الله اليهود؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وحديث جندب بن عبد الله، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: «إنّي بريء إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإنّ الله قد اتّخذني خليلًا كما اتّخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنتُ متّخذًا من أهل الأرض خليلًا؛ لاتخذتُ أبا بكر خليلًا، ألا وإنّ مَن كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد؛ ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد؛ فإنّي أنهاكم عن ذلك» ، وحديث عائشة: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اعتمّ بها كشفها؛ فقال ـ وهو كذلك ـ: «لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .

الوجه السابع: النهي عن الغلو

قالت عائشة: يحذّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره؛ ولكن خشي أن يتّخذ مسجدًا. وفي رواية لمسلم: «وصالحيهم» . وإنّما نهى عن الصّلاة عندها واتّخاذها مساجد لما يفضي إليه من دعائها والاستغاثة بها، وقصدها للحوائج والمهمّات، والتّقرّب إليها بالنّذر والنّحر ونحو ذلك من القربات. فجاء هذا العراقيّ؛ فهتك ستر الشّريعة، واقتحم الحمى، وشاقّ الله ورسوله، وقال: تُدعى ويُستغاث بها وتُرجى! ومن اشتمّ رائحة العلم، وعرف شيئًا مما جاءت به الرّسل؛ عرف أنّ هذا الذي قاله العراقيّ من جنس عبادة الأصنام والأوثان، مناقض لما دلّت عليه السُّنّة والقرآن، ولا يستريب في ذلك عاقل من نوع الإنسان. الوجه السّابع: أنّ الله ـ تعالى ـ نهى عن الغلوّ ومجاوزة الحدّ فيما شرعه من حقوق أنبيائه وأوليائه؛ قال ـ تعالى ـ: [ {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلَّا الحقّ} ، وقال تعالى: {قل] يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحقّ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيرًا وضلّوا عن سواء السّبيل} ، وعن عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النّصارى ابن مريم؛ إنّما أنا عبد؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» ، وعن ابن عبّاس في قوله ـ تعالى ـ: {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سُواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا * وقد أضلّوا كثيرًا} : «هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا؛ أوحى الشّيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصابًا وصوّروا تماثيلهم، فلمّا مات أولئك ونُسي العلم؛ عُبدت» . وقال ابن القيّم: «قال غير واحد من

الوجه الثامن: الالتجاء إلى غير الله سوء ظن بالله

السّلف: عكفوا على قبورهم، وصوّروا تماثيلهم، فلمّا طال عليهم الأمد عُبدت» . انتهى. فانظر إلى ما آل إليه الغلوّ بالتّصاوير والعكوف من غير دعاء ولا عبادة؛ فكيف بالدُّعاء والاستغاثة والتّوسّل؟! والقول بأنّ لله يفعل لأجلهم؛ هذا نفس الشّرك، والأوّل وسيلته التي حدث الشّرك بسببها، وقد قطع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وسيلة هذا الشّرك، وحمى الحمى، وسدّ الذّريعة حتى نهى عن الصّلاة عندها واعتياد المجيء إليها؛ بقوله في إشراف القبور: «لا تجعلوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» ، ونهى عن رفع القبور، وبعث عليّ بن أبي طالب [إلى اليمن] أن لا يدع تمثالًا إلَّا طمسه، ولا قبرًا مشرفًا إلَّا سوّاه، ونهى عن تعظيمها بإيقاد السّرج؛ كلّ هذا صيانة للتّوحيد وحماية لجنابه؛ فرحم الله امرءًا آمن بالجنّة والنّار، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامه ومعلّمه وقدوته، ولم يلتفت عمّا جاء به، ولا يبالي بمَن خالفه وسلك غير سبيله، وحنّ إلى ما كان عليه السّلف الصّالح وأئمّة الهدى في هذا الباب وفي غيره؛ {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} ، {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرّسول فإن تولّوا فإنّ الله لا يحبّ الكافرين} . الوجه الثامن: أنّ من أعرض عن الله وقصد غيره، وأعدّ ذلك الغير لحاجته وفاقته، واستغاث به، ونذر [له] ، ولاذ به؛ فقد أساء الظّنّ بربّه، وأعظم الذّنوب عند الله ـ تعالى ـ إساءة الظّنّ به؛ فإنّ المسيء به الظّنّ قد ظنّ به خلاف كماله المقدّس؛ فظنّ به ما يناقض

أسماءه وصفاته؛ ولهذا توعّد ـ سبحانه وتعالى ـ الظّانّين به ظنّ السّوء بما لم يتوعّد به غيرهم؛ كما قال ـ تعالى ـ: {عليهم دائرة السّوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جنّهم وساءت مصيرًا} ، وقال ـ تعالى ـ لمن أنكر صفة من صفاته: {وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين} ، وقال ـ تعالى ـ عن خليله إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ إذ قال لقومه: {ماذا تعبدون * أإفكًا ألهة دون الله تريدون * فما ظنّكم بربّ العالمين} ؛ أي: فما ظنّكم أن يجازيكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره، وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيّته من النّقص حتى أحوجكم إلى عبوديّة غيره؟! فلو ظننتم به ما هو أهله من أنّه بكلّ شيء عليم، وعلى كلّ شيء قدير، وأنّه غنيّ عن كلّ ما سواه، فقير إليه كلّ ما عداه، وأنّه قائم بالقسط على خلقه، وأنّه المنفرد بتدبير خلقه، لا يشرك فيه غيره، و [أنّه] العالم بتفاصيل الأمور؛ فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده؛ لا يحتاج [إلى معين، والرّحمن بذاته؛ فلا يحتاج] في رحمته إلى مَن يستعطفه؛ [ما اتخذتم الأنداد من دونه والوسطاء بينكم وبينه، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤوساء؛ فإنّهم محتاجون إلى مَن يعرّفهم أحوال الرعيّة وحوائجهم؛ من الوسطاء الذين يعينوهم على قضاء حوائجهم، وإلى مَن يسترحمهم ويستعطفهم بالشّفاعة؛ فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم، فأمّا القادر على كلّ شيء، الغنيّ بذاته عن كلّ شيء، العالم بكلّ شيء، الرّحمن الرّحيم، الذي وسعت رحمته كلّ شيء؛ فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقّص بحقّ ربوبيّته وإلهيّته وتوحيده، وظنّ به ظنّ السّوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وفبحه مستقرّ في العقول السّليمة فوق كلّ قبح.

المخالفون في الأسماء والصفات لم يقدروا الله حق قدره

يوضّح هذا: أنّ العابد معظّم لمعبوده متألّه له، خاضع ذليل له، والرّبّ ـ تبارك وتعالى ـ وحده هو الذي يستحقّ كمال التّعظيم والإجلال والتّألّه والخضوع والذّلّ، وهذا في خالص حقّه، فمن أقبح الظّلم أن يعطي حقّه لغيره، ويشرك بينه وبينه فيه، ولا سيّما إذا كان الذي جُعل شريكه في حقّه هو عبده ومملوكه؛ كما قال ـ تعالى ـ: {ضرب لكم مثلًا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} ؛ أي: إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه؛ كيف تجعلون لي [من] عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به ـ وهو الإلهيّة التي لا تنبغي لغيري، ولا تصحّ لسواي ـ؛ فمَن زعم ذلك؛ فما قدرني حقّ قدري، ولا عظّمني حقّ تعظيمي، ولا أفردني بما أنا منفرد به وحدي دون خلقي. فما قدر الله حقّ قدره مَن عبد معه غيره؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسّموات مطويّات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون} ؛ فما قدر مَن هذا شأنه وعظمته حقّ قدره مَن أشرك معه في عبادته مَن ليس له شيء من ذلك ألبتة؛ بل هو أعجز شيء وأضعفه؛ فما قدر القويّ العزيز حقّ قدره مَن أشرك الضّعيف الذّليل، وكذلك ما قدره حقّ قدره مَن قال: إنّه لم يرسل إلى خلقه رسولًا ولا أنزل كتابًا؛ بل نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه؛ من إهمال خلقه وتركهم سدى وخلقهم باطلًا عبثًا، ولا قدره حقّ قدره مَن نفى حقائق أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فنفى سمعه وبصره وإرادته واختياره، وعلوّه فوق خلقه، وكلامه وتكليمه لمَن شاء من خلقه بما

يريد، أو نفى عموم قدرته وتعلّقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم؛ فأخرجها عن قدرته ومشيئته وخلقه، وجعلهم يخلقون لأنفسهم ما يشاؤون بدون مشيئة الرّبّ ـ تبارك وتعالى ـ؛ فيكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون! تعالى الله ـ عزّ وجَلّ ـ عن قول أشباه المجوس علوًّا كبيرًا. وكذلك ما قدره حقّ قدره مَن قال: إنّه يعاقب عبده على ما [لا] يفعله العبد ولا له عليه قدرة ولا تأثير له فيها البتة؛ بل هو نفس فعل الرّبّ ـ جلّ جلاله ـ؛ فيعاقب عبده على فعله [هو] ، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ الذي جبر العبد عليه، وجبرُه على الفعل أعظم من إكراه المخلوقِ المخلوقَ! فإذا كان من المستقرّ في الفطر اولعقول أنّ السّيّد لو أكره عبده على فعل وألجأه إليه ثم عاقبه عليه؛ لكان قبيحًا؛ فأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأرحم الرّاحمين؛ كيف يجبر العبد على فعل لا يكون للعبد فيه صنع ولا تأثير، ولا هو واقع بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثمّ يعاقب عليه عقوبة الأبد؟! تعالى الله ـ عزّ وجَلّ ـ علوًّا كبيرًا. وقول هؤلاء شرّ من أقوال المجوس، والطّائفتان ما قدروا الله حقّ قدره. وكذلك ما قدره [حقّ قدره] مَن لم يصنه عن بئر ولا حُشّ ولا مكان يُرغب عن ذكره؛ بل جعله في كلّ مكان، وصانه عن عرشه أن يكون مستويًا عليه، يصعد إليه الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه، وتعرج الملائكة والرّوح إليه، وتنزل من عنده، ويدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثم يعرج إليه؛ فصانه عن استوائه على سرير المُلك، ثم جعله في كلّ مكان يأنف الإنسان بل غيره من الحيوان أن يكون فيه! وما قدره حقّ قدره مَن نفى حقيقة محبّته ورحمته ورأفته ورضاه وغضبه ومقته، ولا مَن نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله، ولا مَن نفى حقيقة فعله

ولم يجعل له فعلًا اختياريًّا يقوم به؛ بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه! فنفى حقيقة محبّته، وإتيانه، واستوائه على عرشه، وتكليمه موسى صلى الله عليه وسلم من جانب الطّور، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده بنفسه ... إلى غير ذلك من أفعاله وأوصاف كماله التي نفوها؛ وزعموا أنّهم بنفيها قدروا الله حقّ قدره! وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن جعل له صاحبة وولدًا، وجعله يحلّ في مخلوقاته، وجعله عين هذا الوجود! وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن قال: إنّه رفع أعداء رسله وأهل بيته وأعلى ذكرهم، وجعل فيهم المُلك والخلافة والعزّة، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلّهم وضرب عليهم الذّلة أين ما ثُقفوا! وهذا يتضمّن غاية القدح في الرّبّ ـ تبارك وتعالى عن قول الرّافضة علوًّا كبيرًا ـ. وهذا القول مشتقّ من قول اليهود والنّصارى في ربّ العالمين: أنّه أرسل ملكًا ظالمًا؛ فادّعى النّبوّة لنفسه وكذب على الله ـ تعالى ـ، ومكث زمنًا طويلًا يكذب عليه كلّ وقت، ويقول: قال كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وينسخ شرائع أنبيائه ورسله، ويستبيح دماء أتباعهم [وأموالهم] وحريمهم، ويقول: الله ـ تعالى ـ أباح لي ذلك، والرّبّ ـ تبارك وتعالى ـ يُظهره ويؤيّده ويُعليه ويقوّيه ويجيب دعواته، ويمكّنه ممّن يخالفه، ويقيم الأدلّة على صدقه، ولا يعاديه أحد إلَّا ظفر به؛ فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلّة تصديقه شيئًا بعد شيء! ومعلوم أنّ هذا يتضمّن أعظم القدح والطّعن في الرّبّ ـ سبحانه وتعالى ـ وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيّته ـ تعالى عن قول الجاحدين علوًّا كبيرًا ـ. فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرّافضة؛ تجد القولين: رضعا لبان ثدي أُمٍّ تقاسَما ... بأسحم داج عوض لا يتفرّق

وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن قال: إنّه يجوز أن يعذّب أولياءه، ومَن لم يعصه طرفة عين، ويدخلهم دار الجحيم، وينعّم أعداءه، ومَن لم يؤمن به طرفة عين، ويدخلهم دار النّعيم! وأنّ كلا الأمرين بالنسبة إليه سواء؛ وإنّما الخبر المحض جاء عنه بخلاف ذلك؛ فمعناه: الخبر، لا مخالفة حكمته وعدله. وقد أنكر ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه على مَن يجوّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوإ الأحكام. وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن زعم: أنّه لا يحيي الموتى، ولا يبعث مَن في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يُجازى [فيه] المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقّه من ظالمه، ويُكرم المتحمّلين المشاقّ في هذه الدّار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويُبيّن لخلقه الذين يختلفون فيه، وليعلم الذين كافروا أنّهم كانوا كافرين. وكذلك لم يقدره حقّ قدره مَن هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقّه فضيّعه، وذكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعته المخلوقَ أهمّ عنده من طاعته؛ فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، وسواه المقدّم في ذلك؛ لأنّه المهمّ عنده! يستخفّ بنظر الله إليه واطّلاعه عليه وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظّم نظر المخلوق إليه واطّلاعهم عليه بكلّ قلبه وجوارحه، يستحيي من النّاس ولا يستحيي من الله ـ عزّ وجلّ ـ، ويخشى النّاس ولا يخشى الله ـ عزّ وجلّ ـ، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله ـ عزّ وجلّ ـ عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة إلهه من البشر قام بالجدّ والاجتهاد وبذل النّصيحة، قد فرّغ له قلبه وجوارحه وقدّمه على كثير من مصالحه، حتى إذا قام في حقّ ربّه ـ إن ساعده القدر ـ قام قيامًا لا يرضاه مقله لمخلوق من مخلوقاته، وبدا له ما يستحيي أن يواجه به مخلوقًا مثله!!! فهل قدر الله حقّ قدره مَن هذا وصفه؟! وهل قدره

حقّ قدره مَن شارك بينه وبين عدوّه في محض حقّه من الإجلال والتّعظيم والطّاعة والذّلّ والخضوع والخوف والرّجاء؟! فلو جعل من أقرب الخلق إليه شريكًا في ذلك؛ لكان ذلك جرأة وتوثّبًا على محضّ حقّه، واستهانة به، وتشريكًا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلَّا له ـ سبحانه وتعالى ـ؛ فكيف وإنّما شرك بينه وبين أبغض الخلق إليه وأهونهم عليه وأمقتهم عنده؛ وهو عَدوّ على الحقيقة؛ فإنّه ما عُبد من دون الله إلَّا الشّيطان؛ كما قال ـ تعالى ـ: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألَّا تعبدوا الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} ، ولما عبد المشركون الملائكة ـ بزعمهم ـ؛ وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشّيطان، وهم يظنون أنّهم يعبدون الملائكة؛ كما قال ـ تعالى ـ: {ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون} ؛ فالشّيطان يدعو المشرك إلى عبادته ويوهمه أنّه ملك، وكذلك عبّاد الشّمس والقمر والكواكب يزعمون أنّهم يعبدون روحانيّات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم وتقضي لهم الحوائج! ولهذا إذا طلعت الشّمس قارنها الشّيطان ـ لعنه الله تعالى ـ؛ فيسجد لها الكفّار؛ فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها، وكذلك مَن عبد المسيح وأُمّه لم يعبدهما؛ وإنّما عبد الشّيطان؛ فإنّه يزعم أنّه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أُمّه ورضيها لهم وأمرهم بها؛ وهذا هو الشّيطان الرّجيم ـ لعنه الله تعالى ـ، لا عبد الله ورسوله. ونُزّل هذا كلّه على قوله ـ تعالى ـ: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشّيطان إنّه لكم عدوّ مبين} ؛ فما عبد أحد من

الوجه التاسع: أن القول بجواز الاستغاثة بغير الله تقول على الله بغير علم

بني آدم غير الله ـ عزّ وجلّ ـ كائنًا مَن كان إلَّا وقعت عبادته للشّيطان؛ فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضا الشّيطان؛ ولهذا قال ـ تعالى ـ: {ويوم نحشرهم جميعًا يا معشر الجنّ قد استكثرتم من الإنس} ـ من إغوائهم وإضلالهم ـ {وقال أولياؤهم من الإنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلتَ لنا قال النّار مثواكم خالدين فيها إلَّا ما شاء الله إنّ ربّك حكيم عليم} . فهذه إشارة لطيفة إلى السّرّ الذي لأجله كان الشّرك أكبر الكبائر عند الله ـ تعالى ـ، وأنّه لا يُغفر بغير التّوبة منه، وأنّه يوجب الخلود في النّار، وأنّه ليس تحريمه وقبحه بمجرد النّهي عنه؛ بل يستحيل على الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يشرع عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكيف يظنّ بالمنفرد بالرّبوبيّة والإلهيّة والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؟! تعالى الله ـ عزّ وجَلّ ـ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا» . انتهى. وإنّما سقنا هذا المبحث العظيم الذي تُعقد عليه الخناصر ويُعضّ عليه بالنّواجذ؛ لما فيه من الفوائد التي لا يستغني عنها مَن نصح نفسه، وإنّما الغرض بيان ما في التّوسّل والاستغاثة بالأموات والغائبين من سوء الظّنّ بالله ربّ العالمين. الوجه التّاسع: أنّ الله ـ تعالى ـ حرّم القول عليه بغير علم، وجعله أعظم من الشّرك؛ قال ـ تعالى ـ: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تُشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} الآية؛ فرتّب المحرّمات منتقلًا من الأدنى إلى الأعلى، وقال ـ تعالى ـ: {ومَن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أولئك يُعرَضون على ربّهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظّالمين * الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا وهم بالآخرة هم كافرون} ، ومَن عرف الشّرك حقّ المعرفة؛ يعلم أنّ مَن قال: تجوز الاستغاثة والتّوسّل بالأنبياء والصّالحين والنّذر لهم والحلف وما أشبهه

من التّعظيم؛ له نصيب وافر من الكذب على الله وعلى رسله، ومن الصّدّ عن سبيل الله وابتغاء العوج، والله المستعان. وقال الله ـ تعالى ـ: {قالوا اتّخذ الله ولدًا سبحانه هو الغنيّ له ما في السّموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدُّنيا ثمّ إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشّديد بما كانوا يكفرون} . ويتبيّن كذب هذا العراقيّ على الله وعلى رسوله وعلى عباده الصّالحين؛ بالكلام على ما ساقه هذا العراقيّ من الأدِلّة التي يزعم أنّها تدلّ على دعواه وتنصر ما قاله وافتراه: فأمّا قوله: «اعلم أنّ المجوّزين للاستغاثة بالأنبياء والصّالحين مرادهم أنّها أسباب ووسائل بدعائهم، وأنّ الله يفعل لأجلهم، لا أنّهم الفاعلون استقلالًا من دون الله؛ فإنّ هذا كفر بالاتّفاق» : فجواب هذا: تقدّم في الوجه الثّاني؛ وذكرنا أنّ المشركين من عهد نوح إلى عهد خاتم النّبيّين صلى الله عليه وسلم لم يقصدوا سوى هذا، ولم يدّعوا لآلهتهم غيره، وأنّهم ما زادوا حرفًا واحدًا على هذا العراقيّ وشيعته، وهو يظنّ أنّ النّزاع في: دعواه الاستقلال، وليس الأمر كذلك؛ فإنّ النّزاع بين الرّسل وقومهم إنّما هو في توحيد العبادة؛ فكل رسول أول ما يقرع أسماعه قومه بقوله: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ، وكان المشركون من الجاهليّة يقولون في تلبيتهم: «لبيك لا شريك لك، إلَّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك» ؛ فأثبتوا الشّركة في العبادة، واعتقدوا أنّ آلهتهم مملوكة لا مستقلّة. وهذا ظاهر في القرآن والسُّنّة، لا يجهله مَن عرف ما النّاس

فيه من أمر دينهم، وإنّما خفي ذلك على هذا المعترض لفرط جهله وكثافة فهمه، ولأنّه نشأ بين عبّاد القبور المتوسّلين بها وبأهلها؛ فظنّ أنّ هذا هو الإسلام! والمسكين لم يعرف ربّه وما يجب له من الحقوق على كافّة الأنام، ولم يتخرّج على إمام يعتمد في بيان الشّرائع والأحكام، مع أنّ عبّاد القبور في هذه الأزمان اعتقدوا التّدبير والتّصريف لمن يعتقدونه؛ فظائفة قالت: يتصرّف [في الكون سبعة، وطائفة قالت: يتصرّف أربعة، وطائفة قالت: يتصرّف] سبعون، واختلفوا في قُطبهم الذي إليه يرجعون! تعالى الله عما يقول الظّالمون: فأهل مصر يرون أنّه البدوي، وأهل العراق يرجّحون الشّيخ عبد القادر الجيلانيّ، والرّافضة يرون ذلك للأئمّة من أهل البيت، وهذا مشتهر عنهم لا ينكره إلَّا مكابر. وقد حكم العراقيّ بأنّ دعوى الاستقلال كفر بالاتّفاق، وعلى قول غلاة عبّاد القبور: مصدر التّصريف عنهم يستقلّون به؛ لأنّ الوكيل يستقلّ بتدبير ما وُكّل إليه، وحينئذٍ فإذا لم يعرف العبادة ومسألة النّزاع؛ كيف يجادل عن قوم جزم بكفرهم وحكى عليه الاتّفاق؟! فالرّجل مخلّط لا يدري ما يقول! وأمّا قوله: «ولا يخطر ببال مسلم جاهل فضلًا عن عالم» ؛ فيقال: أين العَنقاء

لُتطلب، وأين السّمندل ليُجلب؟! إذا صحّ الإسلام لم يرغب أهله إلى دعاء غير الله من العبّاد والأوثان والأصنام. وأمّا قوله: «بل ليس هذا خاصًّا بنوع الأموات؛ فإنّ الأحياء وغيرهم من الأسباب العاديّة ـ كالقطع للسّكين، والشّبع للأكل، والرّي، والدفء ـ لو اعتقد أحد أنّها فاعلة [ذلك] بنفسها من غير استنادها إلى الله يكفر إجماعًا» : فيُقال: إذا كان إسناد الفعل إليها استقلالًا يكفر فاعله إجماعًا، وهي من الأسباب العاديّة التي أودع الله فيها قوّة فاعلة؛ فكيف لا يكفر مَن أسند ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ من إغاثة اللهفات وتفريج الكربات وإجابة الدّعوات ـ إلى غير الله من الصّالحين أو غيرهم، وزعم أنّها وسائل، وأنّ الله وكّل إليهم التّدبير كرامة لهم؟! هذ أولى بالكفر وأحقّ به ممن قبله. ويُقال للعراقيّ: أنتَ لا ترضى تكفير أهل القبور لاحتمال العذر والشّبهة، وأنّه شرك أصغر يثاب مَن أخطأ فيه؛ فكيف جزمتَ بكفر مَن أسند القطع للسّكين من غير إسناد إلى الله؟؟!! وما الفرق بين مَن عذرتَه وجزمتَ بإثابته، وبين مَن كفّرته وجزمتَ بعقابه؟؟؟! ليست إحدى المسالتين بأظهر من الأخرى، وما يُقال من الجواب فيما أثبتَه من الكفر يُقال فيما نفيتَه: يومًا بحُزوي ويومًا بالعقيق ... وبالعُذيب يومًا ويومًا بالخُليصاء

أيّ مذهب وافق هواك تمذهبتَ به؟! ويُقال: جمهور العقلاء على الفرق بين الأسباب العاديّة وغيرها؛ فالشّبع والرّي والدفء أسباب عاديّة فاعلة، وإنّما يكفر مَن أنكر خلق الله لهذه الأسباب وقال بفعلها دون مدبّر عليم حكيم، وهذا البحث يتعلّق بتوحيد الرّبوبيّة، وأمّا جعل الأموات أسبابً يُستغاث بها وتُدعى وترجى وتعظّم على أنّها وسائط؛ فهذا دين عبّاد الأصنام؛ يكفر فاعله بمجرّد اعتقاده وفعله، وإن لم يعتقد الاستقلال؛ كما نصّ عليه القرآن في غير موضع؛ فالعراقيّ معارض للقرآن مصادم لنصوصه! وأمّا قوله: «إنّ السّبكيّ والقسطلانيّ والسّمهوديّ وابن حجر في «الجوهر المنظم» قالوا: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وبغيره في معنى التّوسّل إلى الله بجاهه ... » إلى آخره؛ فمسألة الاستغاثة به وبجاهه ليست هي مسألة النّزاع، ومراد أهل العلم: أن يسأل الله بجاه عبده ورسوله، لا أن يسأل الرّسول نفسه؛ فإنّ هذا لا يطلق عليه (توسّل) ؛ بل هو دعاء واستغاثة؛ وتقدّم أنّ لفظ (التّوسّل) صار مشتركًا؛ فعبّاد القبور يطلقون (التّوسّل) على: الاستغاثة بغير الله ودعائه رغبًا ورهبًا، والذّبح والنّر والتّعظيم بما لم يشرع في حقّ مخلوق، وأهل العلم يطلقونه على: المتابعة والأخذ بالسُّنّة؛ [فيتوسّلون إلى الله بما شرعه لهم من العبادات، وبما جاء به عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التّوسّل في عُرف القرآن والسُّنّة]ـ كما يأتيك مفصّلًا (إن شاء الله تعالى) ـ. ومنهم مَن يطلقه على: سؤال الله ودعائه بجاه نبيّه، أو بحقّ عبده الصّالح، أو

الموتى لا يعلمون بحال من يسألهم

بعباده الصّالحين، وهذا هو الغالب عند الإطلاق في كلام المتأخّرين ـ كالسّبكيّ والقسطلانيّ وابن حجر ـ. وبالجملة: فما نقله ـ هنا ـ عمّن ذكر؛ ليس من مسألة النّزاع في شيء، وإن كابر العراقيّ وزعم أنّهم قصدوا دعاء الأنبياء والصّالحين والاستغاثة بهم أنفسهم، وأنّ هذا يسمّى (توسّلًا) ؛ فهذا عين الدّعوى، والدّعوى يُحتجّ لها لا بها؛ فبطل كلامه على كلّ تقدير! وأمّا قوله: «أو بأن يدعو الله كما في حال الحياة؛ إذ هو غير ممتنع» ؛ فيُقال: هذا جرأة على الله وعلى رسوله، وتقدُّم إليه بما لم يشرعه ولم يأذن فيه، وأعلم الخلق به ـ أصحابه وأهل بيته وأئمّة الدّين من أُمّته ـ لم يفعل أحد منهم ذلك البتة، ولا نقله مَن يعتدّ به، وهم أعلم الخلق به وبدينه وشرعه وما يجوز وما يمتنع؛ فلا يخلو إمّا أن: تسلّم هذه المقامات؛ ويجزم بأنّ الخروج عن هديهم من أفضح الجهالات وأضلّ الضّلالات، أو: تسلّم تلك المقدّمات؛ ويُدّعى أنّ الخلف ـ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون ـ أحقّ بالصّواب والعلم والمتابعة في تلك المسائل والمقالات. وهذا انحلال عن جملة الدّين، وقدح في القرون المفضلة بنصّ سيد المرسلين، وكفى بهذا فضيحة وجهلًا لو كانوا يعلمون! وأمّا قوله: «مع علمه [بسؤال مَن سأله] ، والمستغيث يطلب من المستغاث به أن

يحصل له الغوث من غيره» : فيُقال: أمّا دعوى عموم العلم بسؤال السّائلين لمن يستغيث به جهلة القبوريّين؛ فالأخذ به وإطلاقه على غير الله كفر صريح باتّفاق أهل العلم؛ فإنّ مَن زعم إحاطة العلم وعمومه لغير الله، أو عموم القدرة أو الرّزق أوالخلق لغيره ـ سبحانه ـ يكفر كفرًا واضحًا ـ كما ذكره شرّاح الأسماء [الحسنى] وغيرهم من أهل العلم ـ. وأمّا دعوى تخصيص ذلك بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فهي ـ وإن كانت من جنس ما قبلها في الرّدّ والمنع ـ تُبطل مذهب عبّاد القبور ودعائهم لغير الله من الغائبين والأموات؛ فإنّ دعاء الغافل الذي لا يعلم بحال الدّاعي ولا يدريها ضلال مستبين؛ قال ـ تعالى ـ: {ومَن أضلّ ممّن يدعو من دون الله مَن لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون} . وأمّا قوله: «والمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ممّن هو أعلى منه، وليس لها في قلوب المسلمين غير ذلك ... » إلى آخره؛ فهذا يدلّ على جهل العراقيّ باللّغة والشّرع؛ فإنّ الدّاعي السّائل لغيره لا يسمى (مغيثًا) ، و (المغيث) : مَن يفعل الإغاثة ويحصل الغوث بفعله. قال شيخ الإسلام: مَن زعم أنّ مسألة الله بجاه عبده تقتضي أن يُسمى العبد (مغيثًا) ، أو يكون ذلك استغاثة بالعبد؛ فهذا جهل، ونسبته إلى اللّغة أو إلى أُمّة من الأُمم كذب ظاهر؛ فإنّ (المغيث) : هو فاعل الإغاثة ومحدثها، لا مَن تُطلب بجاهه وحقّه، ولم يقل أحد: إنّ (التّوسّل بشيء) هو الاستغاثة به؛ بل العامّة الذين يتوسّلون في أدعيتهم بأمور ـ كقول أحدهم: نتوسّل إليك بحقّ الشّيخ فلان أو بحرمته، أو باللّوح، أو بالقلم، أو بالكعبة ـ في أدعيتهم؛ يعلمون أنّهم لا يستغيثون بهذه الأمور، وأنّ المستغيث [بالشيء] طالب

منه سائل له، والمُتوسّل به لا يدعى ولا يُطلب منه ولا يُسأل؛ وإنّما يُطلَب به؛ فكلّ أحد يفرّق بين المدعو به والمدعو ـ وتقدّم ذلك ـ. وقول العراقيّ: «والنّبيّ مستغاث منه تسبّبًا وكسبًا» : فيُقال: نعم؛ هذا معتقد مَن يعبد الأنبياء والصّالحين ويستغيث بهم؛ يقول: هم سببي وواسطتي، يحصلون لي بكسبهم، والله هو الخالق، ولا أدعي غير ذلك! ولا نازع في الخلق والرّبوبيّة إلَّا فرعون والذي حاجّ إبراهيم في ربّه، وجمهور المشركين على الأوّل ـ كما تقدّم تقريره ـ؛ فبطل تعليله. وأمّا قوله: «ولا يعارض ذلك خبر أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: «قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم» ؛ لأنّ في سنده ابن لهيعة، [والكلام فيه مشهور] » : فيُقال: إنّ ابن لهيعة خرّج له البخاريّ ومسلم؛ فجاوز القنطرة، ولا يقدح فيما رواه ابن لهيعة إلَّا جاهل بالصّناعة والاصطلاح، وهو قاضي مصر وعالمها ومسندها، روى عن: عطاء بن أبي رباح، والأعرج، وعكرمة، وخلق، وعنه:

شعبة بن الحجّاج أمير المؤمنين في الحديث، وعمرو بن الحارث، واللّيث بن سعد، وابن وهبة، وخلق، ومَن طعن في ابن لهيعة بقول بعض النّاس فيه؛ لزمه الطّعن في كثير من الأكابر المحدّثين ـ كسعيد المقبريّ، وسعيد بن إياس الجريريّ، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبان، وأزهر بن سعد السّمّان البصريّ، وأحمد بن صالح المصريّ، وأبي اليمان، وأمثالهم ممّن خرّج لهم البخاريّ وغيره من الأئمّة ـ. ليس عُشَّك فادرُجي

أفعال العباد حقيقة وليست مجازية

فدع عنك الكتابةَ لستَ منها ... ولو سوّدتَ وجهكَ بالمدادِ وأمّا قوله: «وبفرض صحّته؛ فهو على حدّ قوله ـ تعالى ـ: {وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا حملتُكم؛ ولكنّ الله حملكم» » ؛ وهذا من نوادر جهل هؤلاء الضّلّال؛ فإنّ لفظ (الاستغاثة) : طلب الغوث ممّن هو بيده لمن أصابته شدّة ووقع في كرب، والأنجح والأولى لمن أصابه ذلك أن يستغيث بمَن يجيب المضطرّ إذا دعاه، الموصوف بأنّه غياث المستغيثين، مجيب المضطرّين، أرحم الرّاحمين؛ فلفظ (الاستغاثة) يستعمل في مخّ العبادة، وما لا يقدر عليه إلَّا الله عالم الغيب والشّهادة. فكَرِه صلى الله عليه وسلم إطلاقَه عليه فيما يستطيعه ويقدر عليه؛ حماية لحمى التّوحيد، وسدًّا لذريعة الشّرك، وإن كان يجوز إطلاقه فيما يقدر عليه المخلوق؛ فحماية جانب التّوحيد من مقاصد الرّسول، ومن قواعد هذه الشّريعة المطهّرة؛ فأين هذا من قوله: {وما رميتَ إذ رميتَ ولكنّ الله رمى} ؛ فإنّ (الرّمي) المنفيّ: هو إيصال ما رمى به إلى أعين المشركين جملتهم وهزيمتهم بذلك، و (الرّمي) المثبت: ما فعله النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رمي ما أخذ بكفّه الشّريفة من التّراب واستقبال وجوه العدوّ به. وأمّا قوله: «وكثيرًا ما تجيء السُّنّة بنحو هذا من بيان حقيقة العلم، ويجيء القرآن من إضافة الفعل إلى مكتسبه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد الجنّة بعمله» ، مع قوله ـ تعالى ـ: {ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون} » ؛ فالأمر ليس كما توهّمه العراقيّ؛ فإنّ (الباء) في الحديث: باء المعاوضة والمبادلة، و [ (الباء) في الآية] : هي بابء السّببيّة، لا باء المعاوضة؛ فالمنفي غير

المثبت ـ كما نصّ عليه أهل العلم وأهل التّفسير وكلّ فاضل وعارف بصير ـ، ونعوذ بالله من القول على الله وعلى كتابه بغير علم ولا سلطان منير. وأمّا قوله: «إنّ إطلاق لفظ (الاستغاثة) لمن يحصل منه غوث ولو تسبّبًا؛ أمر معلوم لا شكّ فيه لغة ولا شرعًا» ؛ فقد تقدّم كلام شيخ الإسلام في نفي الاستغاثة عمّن يسأل الله بجاهه وحقّه، وعمّن يدعو غيره، وأنّ مَن قال ذلك قد كذب على سائر اللّغات والأُمم، وأمّا مَن يسأل ويدعو وينادي ـ كما يفعله عبّاد القبور بمَن يدعونه ـ؛ فهذا [يسمّى] استغاثة، كما يسمّى عبادة لغير الله وشركًا بالله، وهذا النّوع ليس النّزاع في اسمه؛ وإنّما النّزاع في جوازه وحِلّه، وأمّا حديث الشّفاعة؛ فهو فيما يقدر عليه البشر من الدُّعاء، كما يُسأل الحيّ الحاضر أن يدعو الله وأن يستسقي. وأمّا كلام الشّيخ ابن تيميّة الذي نقله عن المصنّفين في أسماء الله؛ فهو حُجّة لنا على عبّاد القبور؛ فإنّهم استغاثوا بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَّا الله. وقوله: «وإن حصلت من غيره ـ تعالى ـ؛ فهو مجاز ... » ؛ جوابه: إنّ الاستغاثة التي هي من جنس الأسباب العاديّة التي يقدر عليها المخلوق وفي وسعه؛ فهذه ـ وإن حصلت من العبد ـ فهي حقيقة لا مجاز، ولا ينازع في هذا مَن عرف شيئًا من اللّغة، والعبد يفعل حقيقة؛ فيأكل حقيقة، ويشرب حقيقة، ويهب حقيقة، وينصر أخاه ظالمًا أو مظلومًا حقيقة، والله ـ سبحانه ـ خلق العبد وما يعمل، وهذا معروف من عقائد أهل السُّنّة والجماعة. وإنّما ينفي الفعل حقيقة عن فاعله وعمّن قام به: القدريّة المجبّرة الذين يزعمون أنّ العبد مجبور، وأنّه لا اختيار له ولا مشيئة ـ كما هو مبسوط في موضعه ـ، والعراقيّ صفر اليدين من هذه المباحث المهمّة! وكذلك قوله: «الاستغاثة بمعنى: أن يطلب منه ما هو اللّائق بمنصبه» ؛ لا ينازع فيها

مسلم؛ فاللائق بمنصبه الشّريف أن يطلب منه ما يستطيعه ويقدر عليه ـ كالدُّعاء وسائر الأسباب العاديّة ونحو ذلك ـ، وأمّا ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ كهداية القلوب، والمغفرة للذّنوب، والإنقاذ من النّار، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلَّا الله الواحد القهّار ـ؛ فهذا إنّما يليق بمقام الرّبوبيّة؛ قال ـ تعالى ـ: {إنّك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنّ الله يهدي مَن يشاء} ، وقال: {ومَن يغفر الذّنوب إلَّا الله} ، وقال ـ تعالى ـ: {أفأنتَ تنقذ مَن في النّار} ، وقال ـ تعالى ـ: {ليس لكَ من الأمر شيء} ، وقال رجل: أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمّد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «عرف الحقّ لأهله» . وأمّا قول العراقيّ: «وقد ذكر المجوّزون أنّ جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم متسبّبًا لا مانع من ذلك شرعًا وعقلًا» ؛ فهذه العبارة ركيكة التّركيب! والمجوّزون للاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَّا الله هم خصومنا؛ فلا حُجّة في كلامهم؛ بل الشّرع والعقل يرد مذهبهم ويبطله ـ كما مرّ تقريره عن شمس الدّين ابن القيّم ـ، وأمّا الأسباب العاديّة؛ فإنّها قد تُستحبّ وقد تُباح وقد تُكره، وليس الكلام فيها. والمستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلَّا الله لا ينجيه مجرّد اعتقاده أنّ ذلك بإذن الله؛ بل لا بُدّ من إخلاص الدُّعاء والاستغاثة، ودعاء المستغيث من أجلّ العبادات؛ فجيب إخلاصه لله. وقول العراقيّ: «ومَن أقرّ بالكرامة وأنّها بإذن الله؛ لم يجد بدًّا من اعترافه بجواز ذلك» ؛ يُقال له: بل البُدّ والسّعة واليسر في القول بأنّه: لا يُستغاث بالمخلوق فيما يختصّ بالخالق، ولو كان المخلوق قد ثبت له من الكرامة ما ثبت؛ فالكرامة فعل الله لا من فعل غيره، والمستغاث هو الله لا غيره، ولم يكن الصّحابة يستغيثون

ويسألون مَن ظهرت له كرامة أو حصلت له خارقة من الخوارق. فهذا الكلام الذي قاله العراقيّ جهل مركّب يليق بقائله؛ فإنّ كلّ إناء بالذي فيه ينضح! وأمّا قوله: «والأخبار النّبويّة قد عاضدته، والآثار قد ساعدته» ؛ فالبوقوف على ما مرّ من كلامنا؛ تعرف أنّ الأخبار النّبويّة قد عارضته وما عضدته ـ بل أبطلته ـ، والآثار السّلفيّة قد ردّته وما ساعدته! وأمّا قوله: «ومَن جعل اللهُ فيه قدرةً كاسبةً للفعل مع اعتقاده أنّ الله هو الخالق؛ كيف يمتنع عليه طلب ذلك الشّيء؟» : فجوابه: أنّ الله لم يجعل للعباد قدرة على ما يختصّ به من الإغاثة المطلقة، وأمّا الإغاثة بالأسباب اعلاديّة وما هو في طوق البشر وقدرتهم؛ فهذا ليس الكلام فيه، والأموات لا قدرة لهم على الأسباب العاديّة وما يطلب من الحيّ الحاضر؛ فما هنا ليس من ذلك القبيل؛ {وما يستوي الأحياء ولا الأموات} ، وقد يجعل الله للعبد قدرة على بعض الأشياء ويمنع من سؤاله وطلبه؛ وفي الحديث: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس على وجهه مزعة لحم» ، وفيه: «مَن يسأل النّاس وله ما يغنيه؛ جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا ـ أو خموشًا ـ في وجهه» ؛ فهذا له قدرة وقد مُنع السّائل الغني من سؤاله، بل والسّحرة جعل الله لهم قدرة على أنواع السّحر والشّعوذة، وسؤالهم ذلك من أكبر الكبائر؛ فبطل قول العراقيّ: «إنّ مَن جعل الله له قدرة لا مانع من سؤاله» ، وكون الله قد قرّر أنبياءه ورسله وأوجب على العباد برّهم وتعظيمهم؛ لا يفضي ذلك أن يُستغاث بهم أو يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله؛ والتّعظيم اللّائق بمناصبهم ليس من هذا الجنس؛ بل تعظيمهم: محبّتهم وطاعتهم وتعزيرهم وتوقيرهم والاقتداء بهديهم والأخذ بما جاءوا به، وعبّاد القبور تركوا هذا التّعظيم الواجب وعظّموهم بالاستغاثة

والعبادة والذّبح والنّذر؛ من جنس تعظيم أهل الكتاب لأنبيائهم ورهبانهم وأحبارهم! وهذا العراقيّ من جهله يدعو النّاس إلى طريقة الغلاة من أهل الكتاب، ويعرض عما جاءت به الرّسل، ويصدّ عن السُّنّة والكتاب؛ قال ـ تعالى ـ: {إنّ شرّ الدّوابّ عند الله الصّمّ البكم الذين لا يعقلون} . وأمّا قوله: «وقد خلق الله فيه قوة كاسبة» ؛ فإن أراد: القوّة العاديّة البشريّة الإنسانيّة؛ فليس النّزاع في هذا، وإن أراد: ما يعتقده عبّاد القبور في معبوداتهم من الصّالحين وغيرهم، وأنّ لهم قدرة على إجابة المضطر وإغاثة الملهوف وقضاء حوائج السّائلين؛ فهذا شرك في الرّبوبيّة لم يبلغه شرك المشركين من أهل الجاهليّة! بل هو قول غلاة المشركين الذين يرون لآلهتهم تصرّفًا وتدبيرًا، وإن أراد: أنّهم يُدعَون ويُسألون ويُستغاث بهم والله يعطي لأجلهم؛ فهذا هو قول أهل الجاهليّة من الأُمّيين والكتابيّين؛ وتقدّمت الآيات الدّالّة على ذلك، وتقدّم ما حكام الشّيخ من قول النّصارى: «يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الله» ؛ فهم طلبوا منها الشّفاعة والجه ليس إلَّا، وهذا من كفرهم وشركهم، مع ما هم عليه من القول [الشّنيع] في عيسى وأُمّه ـ قاتلهم الله ـ. فإن كان العراقيّ أراد هذا الثّاني؛ فهو شرك غليظ، وقد تقدّم له التّصريح بذلك، وعبارته هنا توهم الأوّل، وهو الغالب على عبّاد القبور في هذه الأزمان، نسأل الله العفو والعافية. وأمّا كون الأولياء والصّالحين في حال مماتهم كحال حياتهم يَدعون لمَن قصدهم، ويتسبّبون في إنقاذه؛ فهذا جهل عظيم وقول على الله بلا علم، لم يرد به كتاب ولا سُنّة ولا قاله ولا فعله أحد يُعتدّ به ويقتدى به من أهل العلم والإيمان، وقد مضت القرون الثّلاثة المفضّلة ولم يعهد عن أحد منهم أنّه قال ذلك أو فعله، وعندهم أشرف القبور على الإطلاق ولم يعرف عن أحد منهم أنّه سأل الرّسول صىل الله عليه وسلم أو دعاه، ولا غيره من الصّالحين. وخبر العتبيّ

قد تقدّم الكلام فيه، وإنّ فاعل ذلك أعرابيّ ليس ممّن يُقتدى به ويُحتجّ بقوله، وإن كان بعض المتأخّرين احتجّ بحكاية الأعرابيّ؛ فهو احتجاج مدخول، وقد نازعهم من هو أقدم منهم وأجلّ من الأكابر والفحول. وقول العراقيّ في قوله ـ تعالى ـ: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} : «فإن [قال] قائل: هذا في الحيّ، وله قدرة؛ قلنا: لا يجوز نسبة الأفعال إلى أحد حيّ أو ميّت على أنّه الفاعل استقلالًا من دون الله» ؛ فهذا الكلام أورده العراقيّ بناء على أنّ النّزاع في دعوى الاستقلال، وبزعمه أنّه إذا لم يعتقد الاستقلال؛ فالأسباب العاديّة كغيرها، ودعاء الأموات والغائبين يجوز عنده إذا لم يعتقد الاستقلال! هذه دعواه كرّرها مرارًا واحتجّ بها، والدّعوى تحتاج لديل ولا تصلح هي دليلًا، لا سيّما هذه الدّعوى الضّالّة الكاذبة الخاطئة، والله ـ سبحانه ـ حكى استغاثة المخلوق الحيّ الحاضر فيما يقدر عليه من نصره على عدوّه، وهذا جائز لا نزاع فيه. واعتقاد الاستقلال من دون الله، وأنّ العبد يخلق أفعال نفسه؛ هذه مسألة أخرى لم يقل بها إلَّا القدريّة النّفاة، والنّاس مختلفون في تكفيرهم بهذا القول. وبالجملة: فالنّزاع في غير هذه المسألة؛ وإنّما هو في: دعاء الأموات والغائبين، وإن لم يستقلّ بذلك المطلوب من دون الله. وقول العراقيّ: «وقد جعل الله الإغاثة في غيره» ؛ قول ركيك فاسد المعنى؛ فإنّ الله لم يجعل الإغاثة في غيره؛ بل هو المغيث على الإطلاق؛ وإنّما جعل للعباد عملًا وكسبًا في فرد جزئيّ مما يستطيعه العبد ويكون في قدرته. وعبارة العراقيّ في غاية البشاعة!

وقوله: «فلهذا [نفي] النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإغاثة ـ كما تقدّم ـ» ـ حيث قال: إنّه لا يُستغاث إلَّا بالله ـ؛ فليس النّفي لما ذكره العراقيّ؛ فإنّ المخاطبين يعلمون أنّ الله خالق أفعال العباد؛ وإنّما نفى الاستغاثة عنه حماية للتّوحيد وصيانة لجانبه؛ كما قال لمَن قال له: أنتَ سيّدنا وابن سيّدنا: «السّيد الله. إنّما أنا عبدٌ؛ فقولوا: عبد الله ورسوله» ، ولو كان كما زعم العراقيّ؛ لنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ فعل وكلّ قول صدر منه؛ لأنّه لا يفعله استقلالًا؛ قال الله ـ تعالى ـ: {والله خلقكم وما تعملون} . والعراقيّ قد خاض فيما لا يدريه، وما هو أجنبيّ عنه؛ فألحد في الألفاظ النّبويّة وحرّفها، وكابر الحسّ والمعقول، والمنفيّ في الحديث (الاستغاثة) لا (الإغاثة) ، وأظنّ المعترض لا يفرّق بينهما!» . انتهى ما أردتُ نقله من كلام هذا الفاضل في الكتاب المذكور، وقد آثرتُ نقله بطوله لما فيه من ردّ هذه الشّبهات التي تشاغب بها السّبكيّ وابن حجر المكيّ وداود العراقيّ والنّبهانيّ، وهؤلاء إنّما أخذوا هذه الشّبهات من كلام السّبكيّ، وقد تبيّن دحضها ـ ولله الحمد ـ. والقول الفصل في هذه المسألة: أنّه مَن تأمّل القرآن الحكيم من أوّله إلى آخره؛ لم يجد فيه آية تدلّ بمنطوقها أو بمفهومها على ما ذهب إليه السّبكيّ وأضرابه من جواز الاستغاثة بالمخلوق الغائب حيًّا كان أو ميّتًا، وطلب الحوائج منه؛ بل كلّ آيات القرآن الواردة في التّوحيد تنهى عن ذلك وتأمر بسؤال الله ـ تعالى ـ وحده، والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وكذا السُّنّة الصّحيحة؛ فإنّها موافقة للقرآن، فإن جاء شيء يخالف القرآن والسُّنّة الصّحيحة؛ فلا يُلتفت إليه؛ لأنّه معارض ومناقض للكتاب والسُّنّة الصّحيحة، والذين جوّزوا الاستغاثة لم يأتوا بشيء يصلح للاستدلال ـ كما علمتَ ـ.

فصل: في الفروق بين بعض الألفاظ المشتبهة

فصل وقد اشتبه على كثير من النّاس ـ حتى المنتسبين إلى العلم ـ معنى (الاستغاثة) و (الاستغانة) و (الاستجارة) و (التّوسّل) ؛ فنرى بعضهم يأتي بالألفاظ المتضمّنة للشّرك الظّاهر والغلوّ الزّائد ويقول: أنا متوسّل! ويقول [أحد مَن تسلّط الشّيطان] عليهم في حقّ الرّسول صلى الله عليه وسلم: منا سامَني الدّهرُ ضَيمًا واستَجرتُ بهِ ... إلَّا ونِلتُ جِوارًا منه لَم يُضَمِ ولا استلمتُ غنى الدّارين من يدهِ ... إلَّا استلمتُ النَّدى من خيرِ مُستلِمِ وقد عظّم بعض الجهّال ـ ممّن شرح هذه القصيدة ـ هذين البيتين، وجعل لهما خصائص وفوائد! فنعوذ بالله من الضّلال بعد الهدى. ومثل قول بعضهم في حقّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أيضًا: فمَن لي أرتجيهِ لكشف ضُرّي ... وغوثي في الشّدائِدِ والنّوالِ فانظر إلى هذا المتغالي في شعره، النّاسي لربّه؛ كيف لم يجعل له إلهًا يرتجيه لكشف الضُّرّ والشّدائد إلَّا الرّسول صلى الله عليه وسلم! وأمثال ذلك كثير معلوم لمن تتبّع شعر القبوريّين؛ وقد احتوت مجموعة النّبهانيّ ـ التي طبعها في بيروت ـ على أكثره! وقد عرفت الفرق بين (التّوسّل) و (الاستغاثة) بما مرّ، ومَن جعل (التّوسّل) و (الاستغاثة) و (التّشفّع) و (التّوجّه) كلّ ذلك بمعنى واحد؛ فهو من أجهل الجاهلين بلغة القرآن والسُّنّة، بعيد عن لسان العرب. وللإمام الفاضل المفسّر المحدّث ذي النّسبين السّيد محمود شكري الآلوسيّ في

كتابه «غاية الأماني» الذي ردّ به على النّبهانيّ ـ وهو كتاب لم يؤلّف مثله في هذا الباب ـ كلام نفيس؛ قاله ـ حرسه الله وأبقاه، ومن كلّ شرّ وهمّ نجّاه ووقّاه ـ عند نقل النّبهانيّ في كتابه «شواهد الحقّ» كلام السّبكيّ هذا وابن حجر المكيّ وأضرابها في جواز الاستغاثة والتّوسّل بالمخلوقين، وأنّهما بمعنى واحد: «أقول ـ ومن الله المعونة وبه أزمّة التّوفيق ـ: إنّ الكلام على ما حواه كلامه من الكذب والزّور والبطلان يطول جدًّا، فضلًا عمّا اشتملت عليه عبارته من الغلط وفساد التّركيب وسوء التّعبير؛ فكتابه كلّه ظلمات بعضها فوق بعض! فلو تكلّمنا على ذلك كلّه لطال الكلام، وكلّت عن رقمه الأقلام؛ فإنّ النّبهانيّ هذا هو من أعظم الغلاة المحادّين لله ورسوله، وكلامه كلّه باطل، وجهل مركّب، وبهت لأهل الحقّ، وليس فيه جملة واحدة توافق الحقّ أصلًا؛ فالحمد لله الذي خذل أعداء دينه وجعلهم عبرة لأوليائه وعباده المؤمنين. أمّا مشروعيّة الاستغاثة؛ ففيها تفصيل: إذ (الاستغاثة بالشّيء) ـ على ما ذكره بعض المحقّقين ـ: طلب الإغاثة والغوث منه، كما أنّ الاستعانة طلب الإعانة منه، فإذا كانت بنِدَاء من المُستغيث للمُستغاث؛ كان ذلك سؤالًا منه، وظاهر أنّ ذلك ليس توسّلًا به إلى غيره؛ إذ قد جرت العادة أنّ مَن توسّل بأحد عند غيره أن يقول لمُستغاثه: أستغيثك على هذا الأمر بفلان؛ فيوجّه السّؤال إليه، ويقصر أمر شكواه عليه، ولا يخاطب المُستغاث به ويقول له: أرجو منك أو أريد منك وأستغيث بك، ويقول: إنّه وسيلتي إلى ربّي. وإن كان كما يقول؛ فما قدر المتوسّل الله حقّ قدره، وقد رجا وتوكّل والتجأ إلى غيره؛ كيف واستعمال العرب يأبي عنه؛ فإنّ مَن يقول: صار لي ضيق فاستغثتُ بصاحب القبر فحصل الفرج؛ يدلّ دلالة جليّة على أنّه قد طلب الغوث منه، ولم يفد كلامه أنّه توسّل به؛ بل إنّما يُراد هذا المعنى إذا قال: توسّلتُ أو استغثتُ عند الله بقلان، أو يقول لمستغاثه: استغثتُ إليك بفلان؛ فيكون حينئذ مدخول (الباء) متوسّلًا به، ولا يصحّ إرادة هذا المعنى إذا قلتَ: استغثتُ بفلان، وتريد التّوسّل به، سيّما إذا كنتَ داعيه وسائله؛ بل قولك هذا نصّ على أنّ مدخول (الباء) مستغاث وليس مستغاثًا به؛ والقرائن التي تكتنفه من الدُّعاء وقصر الرّجاء والالتجاء شهود وعدول، ولا محيد عمّ شهدت به ولا عدول؛ فهذه الاستغاثة وتوجّه القلب إلى المسؤول بالسّؤال والإنابة محظورة

على المسلمين؛ لم يشرعها لأحد من أُمّته رسول ربّ العالمين، وهل سمعتم أنّ أحدًا في زمانه صلى الله عليه وسلم أو ممّن بعده في القرون المشهود لأجلها بالنّجاة والصّدق ـ وهم أعلم منّا بهذه المطالب وأحرص على نيل مثل تلك الرّغائب ـ استغاث بمَن يزيل كربته التي لا يقدر على إزالتها إلَّا الله؟! أم كانوا يقصرون الاستغاثة على مالك الأمور، ولم يعبدوا إلَّا إيّاه؟! ولقد جرت عليهم أمور مهمّة وشدائد مدلهمة في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته؛ فهل سمعتَ عن أحد منهم أنّه استغاث بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو قالوا: إنّا مستغيثون بك يا رسول الله؟! أم بلغك أنّهم لاذوا بقبره الشّريف ـ وهو سيّد القبور ـ حين ضاقت منهم الصُّدور؟! كلَّا؛ لا يمكن ذلهم ذلك، وإنّ الذي كان بعكس ما هنالك؛ فلقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم؛ فقال ـ عزّ من قائل ـ: {إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم} ؛ مبيّنًا لنا أنّ هذه الاستغاثة أخصّ الدُّعاء، وأجلى أحوال الالتجاء، وهي من لوازم السّائل المضطر الذي يضطر إلى طلب الغوث من غيره؛ فيخصّ نداءه لدى استغاثته بمزيد الإحسان في سرّه وجهره؛ ففي استغاثته بغيره ـ تعالى ـ عند كربته تعطيل لتوحيد معاملته. فإن قلتَ: إنّ للمُستغاث بهم قدرة كسبيّة وتسببيّة؛ فتنسب الإغاية إليهم بهذا المعنى. قلنا له: إنّ كلامنا فيمَن يُستغاث به عند إلمام ما لا يقدر عليه إلَّا الله، أو لسؤال ما لا يعطيه ويمنعه إلَّا الله. وأمّا فيما عدا ذلك ما يجري فيه التّعاون والتّعاضد بين النّاس واستغاثة بعضهم ببعض؛ فهذا شيء لا نقول به، ونعد منعه جنونًا، كما نعدّ إباحة ما قبله شركًا وضلالًا، وكون العبد له قدرة كسبيّة لا يخرج بها عن مشيئة ربّ البريّة؛ لا يُستغاث به فيما لا يقدر عليه إلَّا الله، ولا يُستعان به، ولا يُتوكّل عليه، ولا يُلتجأ في ذلك إليه، فلا يُقال لأحد حيّ أو ميّت قريب أو بعيد: ارزقني، أو: أمتنى، أو: اشفِ مريضي ... إلى غير ذلك ممّا هو من الأفعال الخاصّة بالواحد الأحد الفرد الصّمد؛ بل يُقال لمَن له قدرة كسبيّة قد جرت العادة بحصولها ممّن أهّله الله لها: أعِنّى في حمل متاعي، أو غير ذلك. والقرآن

من شبه القبورية: أنهم لا يعتقدون في الأموات الخلق والإيجاد بل هم وسائط وشفعاء

ناطق بحظر الدُّعاء عن كلّ أحد، لا من الأحياء ولا من الأموات، سواء كانوا أنبياء أو صالحين أو غيرهم، وسواء كان الدُّعاء بلفظ الاستغاثة أو بغيرها؛ فإنّ الأمور الغير مقدورة للعباد لا تُطلب إلَّا من خالق القدر ومنشئ البشر؛ كيف والدُّعاء عبادة، وهي مختصّة به ـ سبحانه وتعالى ـ، أسبل الله علينا ـ بفضله ـ عفوه ورضوانه؛ فالقصر على ما تعبّدنا فيه من محض الإيمان، والعدول عنه عين المقت والخذلان. وهذه خلاصة ما ذكروه من جعل الاستغاثة والاستشفاع بغير الله شركًا ظاهرًا لا يُغفر، ومتعاطيه جاعل لله ندًّا؛ فيُذبَح بأمر الله ـ تعالى ـ وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب ويستغفر. وبالجملة: فالاستغاثة والاستعانة والتّوكّل أغصان دوحة التّوحيد المطلوب من العبيد. بقي ـ هاهنا ـ شيء يورده المجيزون على هؤلاء المانعين؛ وهو: أنّه لا شكّ أنّ مَن عبد غير الله مشرك حلال الدّم والمال، وأنّ الدُّعاء المختصّ بالله ـ سبحانه ـ عبادة، بل هو مخّ العبادة، ولكن لا نسلّم أنّ طالب الإغاثة ممّن استُغيث بهم شرك مطلقًا؛ وإنّما يكون شركًا لو كان المستغيث معتقدًا أنّهم هم الفاعلون لذلك خلقًا وإيجادًا؛ فحينئذٍ يكون من الشّرك الاعتقاديّ قطعًا، أمّا مَن اعتقدهم الفاعلين كسبًا وتسبّبًا فليس بمسلّم، ولئن سلّمنا؛ فليس المقصود من طلب الإغاثة منهم وندائهم إلَّا التّوسّل بهم وبجاههم، وإن كان اللّفظ ظاهرًا يدلّ على الطّلب منهم وأنّهم المطلوبون بهذا النّداء، لكنّ مقصود المُستغيث التّشفّع والتّوسّل بهم إلى ربّهم، و [هو] صلى الله عليه وسلم من أشرف الوسائل إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وقد أمرنا ـ سبحانه ـ بتطلّب ما يتوسّل به؛ فقال ـ تعالى ـ: {وابتغوا إليه الوسيلة} ؛ فكيف تحظرونها بل تجعلونها شركًا مخرجً عن الملّة، وليس في قلوب المسلمين إلَّا هذا المعنى؟! وإنّ في ذلك تكفير أكثر النّاس من غير ارتياب والتباس، وكيف تحكون على أناس قد أظهروا شعائر الإسلام ـ من أذان وصلاة وصوم وحجّ

وإيتاء زكاة ـ، يأتون بكلمة التّوحيد، ويحبّون الله، ويحبّون سيد المرسلين، ويتبلغون بالقبول التّامّ ما جاء عنهما من أمور الدّين؟! وغاية الأمر: أنّهم لرهبتهم من ربّهم ومعرفتهم بعلوّ مرتبة نبيّهم وما وعده الله ـ سبحانه ـ من إرضائه في أُمّته ـ كما قال (سبحانه) : {ولسوف يعطيك ربّك فترضى} ـ، ولا يرضى صلى الله عليه وسلم إلَّا بأن يقف لأُمّته في مثل هذه التّوسّلات؛ فينالوا الرّغبات. وليس في أقوالكم هذه إلَّا تنقّص بحقّ هذا النّبيّ الذي أوجب الله علينا حبّه أكثر من محبّتنا لأنفسنا، وفي مثل ذلك بشاعة في القول وشناعة بطريق الأولى! فالجواب عنه منهم؛ أن قالوا: أمّا أوّل اعتراضكم وقولكم: «إنّه ليس مقصودهم إلَّا التّوسّل ـ وإن تكلّموا بما يفيد غيره ـ» ؛ فإنّه يدلّ على أنّ الشّرك لا يكون إلَّا اعتقاديًّا، وأنّه لا يكون كفرًا إلَّا إذا طابق الاعتقاد، وهذا يقتضي سدّ أبواب الشّرائع بأسرها، ومحو الأبواب التي ذكرها الفقهاء في الرّدة وزمحقها! كيف وأنّ الله ـ سبحانه ـ يقول: {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} ، وقال ـ سبحانه ـ: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} ، وقد ذكر المفسّرون أنّهم قالوها على جهة المزح؟! وكذلك العلماء كفّروا بألفاظ سهلة جدًّا، وبأفعال تدلّ على ما هو دون ذلك؟! ولو فتحنا هذا الباب؛ لأمكن لكلّ مَن تكلّم بكلام يُحكم على قائله بالرّدّة أن يقول: لِمَ تحكمون برِدّتي؟! فيذكر احتمالًا ـ ولو بعيدًا ـ يخرج [به] عمّا كفر فيه! ولما احتاج إلى توبة، ولا توجّه عليه لوم أبدًا! ولساغ لكلّ أحد أن يتكلّم بكلّ ما أراد؛ فتُسَدّ الأبواب المتعلّقة بأحكام الألفاظ ـ من: حدّ قذف، وكفارة يمين، وظهار ـ، ولانسدّت أبواب العقود ـ من: نكاح، وطلاق، وغير ذلك من الفسوخ والمعاملات ـ؛ فلا يتعلّق حكم من الأحكام بأيّ لفظ كان إلَّا إذا اعتقد المعنى، وإن أفيد بوضع الألفاظ!

وأمّا ما ذكرتم من أنّه «أشرف الوسائل» ؛ فهي كلمة حق أُريد بها باطل؛ كقلوكم: [إنّه] ذو الجاه العريض والمقام المنيع. ونحن أولى بهذا المقام منكم؛ لاتّباعنا لأقواله وأفعاله، واقتدائنا به صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، مقتفين لآثاره، واقفين عند أخباره؛ فهو صلى الله عليه وسلم نبيّنا وهادينا إلى سبيل الإسلام، ومنقذنا برسالته من مهاوي أولئك الجفاة الطّغام؛ فلا نعمل إلَّا بأمره، ونتلقّى ذلك بالسّمع والطّاعة في حلوه ومرّه، وقد أوجب علينا أن نتّبع سبيل المؤمنين، ونهانا عن الغلوّ في الدّين؛ فإن غلونا فإنّنا إذًا عن الصّراط ناكبون، ولئن عدلنا إذًا لخاسرون. وكيف يحسن طريق يؤدي إلى الإشراك؟! وأنّى يليق بالموحّدين هذا الوجه المؤدّي للارتباك؟! وهذا طريق سلفنا الصّالح، وهو الاعتقاد الصّحيح الرّاجح. هذا؛ وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ـ وأرواحنا له فداء ـ لا يرضى بما يُغضِب الرّبّ المتعال، وكيف لا وقد بُعث بحماية التّوحيد من هذه الأقوال والأفعال؟! وقد قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خُلُق النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان خُلُقه القرآن» ، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، فليس لنا وسيلة إلى الله إلَّا الدُّعاء المبنيّ على أصول الذُّلّ والافتقار والثّناء؛ فهو الوسيلة التي أمرنا الله ـ سبحانه ـ بالتّوسّل به، وجعله من أفضل الوسائل، وأخبرنا أنّه مخّ عبادته تحقيقًا لعبوديّتنا؛ فسدّ به عن غيره أبواب الذّرائع. وقد اختلف العلماء ـ بعد أن اتّفقوا على: استحباب سؤال الله ـ تعالى ـ[به] وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وبصالح أعمالنا التي حصلت لنا بمحض كرمه وإفضاله ـ في: جواز التّوسّل بالذّوات المنيفة، والأماكن والأوقات الشّريفة: فعن العِزّ بن عبد السّلام ومَن تابعه: عدم الجواز إلَّا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ حيث صحّ الحديث؛ فيجوز، ويكون ذلك خاصًّا به؛

نقل أقوال الحنفية في التوسل

لعلوّ مرتبته. وعن الحنابلة ـ في أصحّ القولَين ـ: مكروه كراهة تحريم. ونقل الفقهاء الحنفيّة عن بشر بن الوليد أنّه قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: «لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلَّا به» ، وفي جميع متونهم: أنّ قول الدّاعي المتوسّل بحقّ الأنبياء والرّسل وبحقّ البيت والمشعر الحرام: مكروه كراهة تحريم. [وقال القدوريّ] : المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنّه لا حقّ للمخلوق على الخالق، وأمّا حديث: «أسألك بحقّ السّائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، وبحقّ نبيّك والأنبياء من قبله» ؛ ففيها وهن، وعلى تسليمها؛ فالمراد بهذا

(الحقّ) : ما أوجبه الله ـ تعالى ـ على نفسه، وذلك من أفعاله؛ لأنّ حقّ السّائلين: الإجابة، وحقّ المطيعين: الإثابة، وحقّ الأنبياء: التّقريب والتّفضيل بما يخصّ أولئك العصابة ـ صلى الله تعالى عليهم وسلّم ـ؛ وذلك كقوله ـ تعالى ـ: {وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين} ، وقوله: {وعدًا عليه حقًّا في التّوراة والإنجيل والقرآن} ، وقوله: {كتب ربّكم على نفسه الرّحمة} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يعذّبهم» . أو: السّؤال بالأعمال؛ لأنّ المشيء إلى الطّاعة امتثالًا لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله ـ تعالى ـ: {يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} ؛ فمَن نظر إلى الأدعية الواردة في الكتاب والسُّنّة؛ لم يجدها خارجة عمّا ذكرنا؛ قال الله ـ تعالى ـ في دعاء المؤمنين: {ربّنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمِنوا بربّكم فآمنّا} ، وقوله ـ تعالى ـ: {إنّه كان فريق من عبادي يقولون ربّنا آمنّا فاغفر لنا وارحمنا وأنتَ خير الرّاحمين} ، وقوله ـ تعالى ـ عن الحواريّين: {ربّنا آمنّا بما أنزلتَ واتّبعنا الرّسول فاكتبنا مع الشّاهدين} ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «إنّك أمرتني فأطعتُك، ودعوتَني فأجبتُك؛ فاغفر لي» ، ودعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم الذي جمعه العلماء لا يخرج عن هذا النّمط، وخلاف ذلك يعدّ كالخروج عن جادّة الصّواب والشّطط؛ فاتّبع ـ أيّها النّاظر ـ نبيّك المصطفى تسلم من اللّغط والغلط.

تعريف العبادة لغة واصطلاحا

هذا ما كان من تحرير مدّعى المانعين، وتقريره على وجه أبان عن لباب تلخيصهم بتسطيره. ثم أخذ يذكر الجواب عمّا استدلّ به المجوّزون؛ فإن أردتَ الوقوف عليه؛ فارجع إلى كتاب «العقد الثّمين» . فتبيّن ممّا قلناه: أنّ الاستغاثة بمخلوق بما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ تعالى ـ ممّا لا يجوز؛ فإنّ الاستغاثة دعاء، والدُّعاء عبادة، بل مخّ العبادة، وغير الله ـ تعالى ـ لا يُعبَد؛ بل هو المخصوص بالعبادة؛ فإذا أصاب النّاسَ جدبٌ وقحطٌ؛ فلا يُقال: يا رسول الله؛ ارفع عنّا القحط والجدب، وإذا نزل بالنّاس بلاء أو وباء؛ فلا يُقال: يار رسول الله، أو: يا جبريل، أو: يا ميكائيل؛ ارفع عنّا البلاء والوباء، وإذا مرض أحد؛ فلا يُقال: يا رسول الله؛ شافني وعافني، ولا غيره، وإذا احتاج أحد إلى زرق؛ فلا يقول: يا رسول الله؛ [ارزقني، ولا غيره، وإذا لم يكن لأحد ولد؛ فلا يجوز له أن يقول: يا رسول الله] ؛ أعطني ولدًا، وإذا كان في شدّة في برٍّ أو بحرٍ؛ فلا يجوز أن يقول: يا رسول الله؛ أدركني، أو: ألتجئ إليك، أو: أستغيث بك، أو نحو ذلك؛ بل كلّ ذلك شرك مخرج عن الدّين؛ لأنّه عبادة لغير الله. ونحن نوضّح المسألة ـ فقد زلّت فيها أقدام ـ؛ فنبيّن ـ أولًا ـ: معنى العبادة، ثم نذكر ما هو من خصائص الألوهيّة ـ ومن الله نستمدّ التّوفيق ـ: أمّا العبادة: فهي ـ في اللّغة ـ: الذُّلّ والانقياد. واصطلاحًا: اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ كالتّوحيد ـ فإنّه عبادة في نفسه ـ، والصّلاة والزّكاة والحجّ وصيام رمضان، والوضوء، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والدُّعاء، والذّكر، والقراءة، وحبّ الله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصّبر لحكمه، والشّكر لنعمه، والرّضا بقضائه، والتّوكّل عليه، والرّجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وغير ذلك مما رضيه وأحبّه؛ فأمر به وتعبّد النّاس فيه.

قال العلّامة عمر بن عبد الرحمن الفارسيّ في كشفه على الكشّاف للزّمخشريّ، عتد تفسير قوله ـ تعالى ـ: {يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم} : «وهو خطاب لمشركي أهل مكّة، ونقل عن علقمة أنّ كلّ خطاب بـ {يا أيّها النّاس} فهو مكيّ، وبـ {يا أيّها الذين آمنوا} فهو مدنيّ» ؛ ما لفظه: «تحرير الكلام فيه: أنّ العبادة قد تُطلق على: أعمال الجوارح، بشرط قصد القربة؛ ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: «لفقيه واحد أشدّ على الشّيطان من ألف عابد» ، وهي على هذا غير الإيمان بمعنى التّصديق والنّيّة والإخلاص؛ بل مشروطة بها، وقد تُطلق على: التّحقّق بالعبوديّة بارتسام ما أمر السّيّد ـ جلّ وعلا ـ أو نهى، وعلى هذه؛ يتناول الأعمال والعقائد القلبيّة أيضًا؛ فيدخل فيها: الإيمان، وهو عبادة في نفسه وشرط لسائر العبادات» انتهى. وقال ابن القيّم في شرح «منازل السّائرين» ما نصّه: «فالعبادة تجمع أصلين: غاية الحبّ بغاية الذُّلّ والخضوع، والعرب تقول: طريق معبّد؛ أي: مذَلّل، والتّعبّد: التّذلّل والخضوع؛ فمَن أحببتَه ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومَن خضعتَ له بلا محبّة؛ لم تكن عابدًا له؛ حتى تكون محبًّا خاضعًا» . ثم قال ـ في مكان آخر من شرحه هذا ـ: «مراتب العبوديّة وأحكامها لكلّ واحد من القلب واللّسان والجوارح.

أصل العبادة ومراتب العبودية، وأنواعها

فواجب القلب: منه متّفق على وجوبه، ومختلف فيه: فالمتّفق على وجوبه: كالإخلاص والتّوكل والمحبّة والصبر والإنابة والخوف والرّجاء والتّصديق الجازم، والنّيّة للعبادة، وهذه قدر زائد على الإخلاص؛ فإنّ الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره. ونيّة العبادة لها مرتبتان: إحداهما: تميّز العبادة عن العادة. والثانية: تميّز مراتب العبادات بعضها عن بعض. والأقسام الثّلاثة واجبة. وكذلك الصّدق، والفرق بينه وبين الإخلاص: أنّ للعبد مطلوبًا وطلبًا؛ فالإخلاص: توحيد مطلوبه، والصّدق: توحيد الطّلب؛ فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسمًا، والصّدق: أن لا يكون الطّلب منقسمًا؛ فالصّدق: بذل الجهد، والإخلاص: إفراد المطلوب. واتّفقت الأُمّة على [وجوب] هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة، وكذلك النّصح في العبودية ـ ومدار الدّين عليه ـ؛ وهو: بذل الجهد في إيقاع العبوديّة على الوجه المحبوب للرّبّ المرضيّ له، وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقرّبين. وكذلك كلّ واحد من هذه الواجبات القلبيّة له طرفان: واجب مستحقّ ـ وهو مرتبة أصحاب اليمين ـ، وكمال مستحبّ ـ وهو مرتبة المقرّبين ـ» انتهى ما قاله في بعض عبوديّة القلب. وعقّبه بعبوديّة اللّسان ـ الواجب منها والمستحبّ ـ، وعبوديّة الجوارح ـ الواجب منها والمستحبّ أيضًا ـ، ومَن اشتغل بالنّظر إلى أنواع العبادات؛ هان عليه تمييزها. والله الهادي إلى سواء السّبيل. وبالجملة؛ فكلّ عبادة فهي مقصورة على الإله الواحد؛ من أعمال القلوب والجوارح؛ فكما لو صلّى لغير الله أو صام على وجه التّقريب إليه؛ كان كافرًا مشركًا عند

الواجب توحيد الله بالقلب والجوارح

جميع النّاس؛ فكذلك مَن تقرّب إليه بالأعمال القلبيّة المذكورة ـ من: التّوكّل والإنابة والخوف والرّجاء وغير ذلك ـ، لكن لما كانت هذه الأمور القلبيّة من التّألّه، وكان الأوّلون يتألّهون بها ويسمّون مَن تآله بها إلهًا، وكان مرجع كلّ ذلك إلى القلب وأعماله التي هي منبع التّوحيد ومصدر هذا الدّين والمرجع إليه في الشّك واليقين؛ ومع ذلك؛ فهي الفارقة بين الإله الحقّ الذي اختصّ بها على الدّوام، والإله الباطل الذي لا يحوم الموحّد حوله بهذا المقام؛ كان ذلك هو الدّاعي للتّخصيص والموجب للتّنصيص. وأيضًا؛ فالكلام على مَن حصل منه الشّرك بما تآلهه في قلبه ورسخ بفؤاده ولبّه من الأعمال الغير مختصّة بالمسلمين، وأمّا هذه الأعمال الظّاهرة الشّرعيّة المختصة بهم؛ فلا يتعاطاها أحد لمن سواه، ولم نرها تُعمَل إلَّا لله، ولم يعبدوا بها إلَّا إيّاه؛ فهذا هو الذي أوجب تخصيصهم لهذه الأعمال القلبيّة، وبعض البدنيّة ـ كالسُّجود وحلق الرأس عبوديّة ـ؛ وإلَّا فجميع العبادات ـ قلبيّها وقوليّها وبدنيّها ـ مختصّة به ـ سبحانه وتعالى ـ؛ لا تصلح إلَّا له. قال المحقّق السّعد التّفتازانيّ في شرحه لـ «المقاصد» ما نصّه: «اعلم أنّ حقيقة التّوحيد: اعتقاد عدم الشّريك في الألوهيّة وخواتمها، ولا نزاع بين أهل الإسلام أن خلق الأجسام وتدبير العالم واستحقاق العبادة من الخواصّ» ، ثم قال في آخر هذا المبحث: «وبالجملة: فإنّ التّوحيد في الألوهيّة واجب شرعًا وعقلًا، وفي استحقاق العبادة شرعًا؛ {وما أمروا إلَّا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلَّا هو سبحانه عمّا يشركون} » انتهى. وقد أفرد شيخ الإسلام لتحقيق معنى العبادة رسالة مفيدة ـ وهي: رسالة «العبوديّة» ـ؛ فراجعها. وأمّا الثّاني ـ أعني: ما هو من خصائص الألوهيّة ـ: فاعلم أنّ توحيد الله ـ تعالى ـ بالتّعظيم ـ كما قاله العلّامة القرافيّ

في كتاب «الفروق» ـ ثلاثة أقسام: واجب إجماعًا، وغير واجب إجماعًا، ومختلف فيه: هل يجب توحيد الله ـ تعالى ـ به أم لا؟ القسم الأوّل (الذي يجب توحيد الله ـ تعالى ـ به) : من التّعظيم بالإجماع. [فذلك كالصّلوات]ـ على اختلاف أنواعها ـ، والصّوم ـ على اختلاف رتبه في الفرض والنّفل والنّذر ـ؛ فلا يجوز أن يفعل شيئًا من ذلك لغير الله ـ تعالى ـ، وكذلك الحجّ ونحو ذلك؛ أي: كالاستغاثة والاستعانة والالتجاء، وكذلك الخلق والرّزق، والإماتة والإحياء، والبعث والنّشر، والسّعادة والشّقاء، والهداية والإضلال، والطاعة والمعصية، والقبض والبسط؛ فيجب على كلّ أحد أن يعتقد توحيد الله ـ تعالى ـ وتوحّده بهذه الأمور على سبيل الحقيقة، وإن أضيف شيء منها لغيره ـ تعالى ـ؛ فإنّما ذلك على سبيل الرّبط العاديّ، لا أنّ ذلك المشار إليه فعل شيئًا [حقيقة؛ كقلونا: قتله السّم، وأحرقته النّار، وأرواه الماء؛ فليس شيء من ذلك يفعل شيئًا] ممّا ذكر حقيقة؛ بل الله ـ تعالى ـ ربط هذه المسبّبات بهذه الأسباب كما شاء وأراد، ولو شاء لم يربطها، وهو الخالق لمسبّباتها عند وجودها، لا أنّ تلك الأسباب هي الموجودة. وكذلك إخبار الله ـ تعالى ـ عن عيسى ـ عليه السّلام ـ أنّه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص؛ معناه: أنّ الله ـ تعالى ـ كان يحيي الموتى ويبرئ عند إرادة عيسى ـ عليه السّلام ـ لذلك، لا أنّ عيسى ـ عليه السّلام ـ هو الفاعل لذلك حقيقة؛ بل الله ـ تعالى ـ هو الخالق لذلك، ومعجزة عيسى ـ عليه السّلام ـ في ذلك ربط وقوع ذلك الإحياء وذلك الإبراء بإرادته؛ فإنّ غيره يريد ذلك ولا يلزم إرادته ذلك؛

فاللّزوم بإرادته هو معجزته ـ عليه السّلام ـ، وكذلك جميع ما يظهر على أيدي الأنبياء والأولياء من المعجزات والكرامات الله ـ تعالى ـ هو خالقها. وكذلك يجب توحيده ـ تعالى ـ باستحقاق لعبادة والإلهيّة، وعموم تعلّق صفاته ـ تعالى ـ؛ فيتعلّق علمه بجميع المعلومات، وإرادته بجميع الكائنات، وبصره بجميع الموجودات الباقيات والفانيات» . انتهى ما أردتُ نقله من هذا الكتاب المذكور، وهو كتاب جليل مفرد في بابه، جعله مصنّفه في مجلّدين؛ أتى على كلّ شبهة تمسّك بها المبتدعون الذين أجازوا أن يُعبد مع الله غيره، وقد طُبع في مصر. وقد علمتَ بما نقلناه منه: الفرق بين (الاستغاثة) و (الاستعانة) و (التّشفّع) و (التّوجّه) و (التّوسّل) ، وأنّ الذي جعل ذلك كلّه بمعنى واحد فقد أخطأ وضلّ ضلالًا بعد الهدى. [ونسأل الله ـ تعالى ـ] أن يجنبنا طريق الردى، آمين.

رسالة الدر النضيد للشوكاني

فصل وممّا يوضّح هذه المسألة ويكشفها لمَن أرادها، ويكون هو فصل المقال فيها: ما قاله الإمام الفاضل صاحب كتاب «الدّين الخالص» ـ المطبوع في الهند ـ؛ قال فيه ما نصّه: «باب: في سؤال عن التّوسّل بالأموات وكذلك الأحياء، والاستغاثة بهم ومناجاتهم عند الحاجة، وتعظيم قبورهم، واعتقاد أنّ لهم قدرة على قضاء حوائج المحتاجين، وإنجاح طلبات السّائلين، وما حكم مَن فعل شيئًا من ذلك؟ وهل يجوز قصد قبور الصّالحين لتأدية الزّيارة ودعاء الله عندها، من غير استغاثة بهم؛ بل التّوسّل بهم فقط؟ والجواب عليه؛ قال ـ رضي الله عنه ـ: فأقول ـ مستعينًا بالله ـ: اعلم أنّ الكلام على هذه الأطراف يتوقّف على إيضاح ألفاظ هي منشأ الاختلاف والالتباس؛ فمنها: الاستغاثة ـ بالغين المعجمة والمثلّثة ـ، ومنها: الاستعانة ـ بالعين المهملة والنّون، ومنها: التّشفّع، ومنها: التّوسّل. فأمّا (الاستغاثة) ـ بالمعجمة والمثلثة ـ فهي: طلب الغوث؛ وهو: إزالة الشّدّة؛ كالاستنصار؛ وهو: طلب النّصر. ولا خلاف أنّه يجوز أن يُستغاث بالمخلوق فيما يقدر على الغوث فيه من الأمور، ولا يحتاج مثل ذلك إلى استدلال؛ فهو في غاية الوضوح، وما أظنّه يوجد فيه خلاف؛ ومنه: {فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه} ، وكما قال: {وإن استنصروكم في الدّين فعليكم النّصر) ، وكما قال ـ تعالى ـ:

معنى الاستغاثة

{وتعاونوا على البرّ والتّقوى} . وأمّا ما لا يقدر عليه إلَّا الله؛ فلا يُستغاث فيه إلَّا به؛ كغفران الذّنوب، والهداية، وإنزال المطر، والرزق، ونحو ذلك؛ كما قال ـ تعالى ـ: {ومَن يغفر الذّنوب إلَّا الله} ، وقال: {إنّك لا تهدي مَن أحببت ولكنّ الله يهدي مَن يشاء} ، وقال: {يا أيّها النّاس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السّماء والأرض} . وعلى هذا؛ يُحمل ما أخرجه الطّبرانيّ في «معجمه الكبير» : أنّه كان في زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين؛ فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّه لا يُستغاث بي؛ وإنّما يُستغاث بالله» ؛ فمراده صلى الله عليه وسلم: أنّه لا يُستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأمّا ما يقدر عليه المخلوق؛ فلا مانع من ذلك؛ مثل: أن يستغيث المخلوق بالمخلوق ليعينه على حمل حجر، أو: يحول بينه وبين عدوّه الكافر، أو: يدفع عنه سبعًا صائلًا، أو لصًّا، أو نحو ذلك. وقد ذكر أهل العلم: أنّه يجب على كلّ مكلف أن يعلم أن: لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلَّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وأنّ كلّ غوث من عنده، وإذا حصل شيء من ذلك على يد غيره؛ فالحقيقة له ـ سبحانه ـ، ولغيره مجاز، ومن أسمائه: المغيث والغياث. قال أبو عبد الله الحليميّ: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: يا غياث المستغيثين، ومعناه: المدرك عباده في الشّدائد إذا دعوه ومجيبهم ومخلّصهم، وفي خبر الاستسقاء في الصّحيحين: «اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا» ، إغاثة وغياثة وغوثًا،

معنى الاستغاثة والتشفع

وهو في معنى: المجيب والمستجيب؛ قال ـ تعالى ـ: {إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم} الآية، إلَّا أنّ الإغاثة أحقّ بالأفعال، والاستجابة بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر. قال شيخ الإسلام ابن تيميّة في بعض فتاواه ما لفظه: والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرّسول صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه؛ لا ينازع فيه مسلم، ومَن نازع في هذا المعنى فهو إمّا كافر وإمّا مخطئ ضالّ. وأمّا بالمعنى الذي نفاها صلى الله عليه وسلم أيضًا يجب نفيها، ومَن أثبتَ لغير الله ما لا يكون [إلَّا] لله؛ فهو أيضًا كافر إذا قامت عليه الحُجّة التي يكفر تاركها. ومن هذا الباب: قول أبي يزيد البسطاميّ: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشّيخ أبي عبد الله القرشيّ: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وأمّا الاستعانة وأمّا الاستعانة ـ بالنّون ـ فهي: طلب العون. ولا خلاف أنّه يجوز أن يُستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدُّنيا؛ كأن: يستعين [به] على أن يحمل معه متاعه، أو يعلف دابّته، أو يُبلّغ رسالته. وأمّا ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ جلّ جلاله ـ؛ فلا يُستعان إلَّا به؛ ومنه: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} . وأمّا التّشفّع بالمخلوق: فلا خلاف بين المسلمين أنّه يجوز طلب الشّفاعة من

المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدُّنيا؛ وثبت بالسُّنّة المتواترة واتّفاق جميع الأئمّة أنّ نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو الشّافع المشّفع، [و] أنّه يشفع للخلائق يوم القيامة، وأنّ النّاس يستشفعون به ويطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربّه، ولم يقع الخلاف إلَّا في كونها لمحو ذنوب المذنبين أو لزيادة ثواب المطيعين، ولم يقل أحد من المسلمين بنفيها قط. وفي سنن أبي داود: أنّ رجلًا قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: إنّا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله؛ فقال: «شأن الله أعظم من ذلك، إلَّا أنّه لا يُستشفع به على أحد من خلقه» ؛ فأقرّه عل ىقول: نستشفع بك على الله، وأنكر عليه قوله: نستشفع بالله عليك. وسيأتي تمام الكلام في الشّفاعة. أمّا التّوسّل إلى الله ـ سبحانه ـ بأحد من خلقه في مطلب العبد من ربّه: فقد قال الشّيخ عِزّ الدّين بن عبد السّلام: إنّه لا يجوز التّوسّل إلى الله ـ تعالى ـ إلَّا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، إن صحّ الحديث فيه. ولعلّه يشير إلى: الحديث الذي أخرجه النّسائي في «سننه» ، والتّرمذيّ في «صحيحه» ، وابن ماجه، وغيرهم: أنّ أعمى أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله؛ إنّي أُصبت في بصري؛ فادعُ الله لي؛ فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «توضأ، وصلّ ركعتين، ثم قل: اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد، يا محمّد؛ إنّي أستشفع بك في ردّ بصري، اللهمّ شفّع النّبيّ فيّ» ، وقال: «فإن كان لك حاجة فمثل ذلك» ؛ فردّ الله بصره. وللنّاس في معنى هذا قولان: أحدهما: أنّ التّوسّل هو الذي ذكره عمر بن الخطاب لمّا قال: «كنّا إذا أجدبنا نتوسّل

بنبيّنا إليك فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا» ، وهو في «صحيح البخاريّ» وغيره؛ فقد ذكر عمر ـ رضي الله عنه ـ أنّهم كانوا يتوسّلون بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستسقاء، ثم توسّل بعمّه العبّاس بعد موته، وتوسّلهم هو استسقاؤهم؛ بحيث يدعو ويدعون معه؛ فيكون هو وسيلتهم إلى الله ـ تعالى ـ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعًا وداعيًا لهم. والقول الثاني: أنّ التّوسّل به صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد موته وفي حضرته ومغيبه. ولا يخفاك أنّه قد ثبت التّوسّل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وثبت التّوسّل بغيره بعد موته بإجماع الصّحابة إجماعًا سكوتيًّا؛ لعدم إنكار أحد منهم على عمر ـ رضي الله عنه ـ في توسّله بالعبّاس ـ رضي الله عنه ـ. وعندي: أنّه لا وجه لتخصيص جواز التّوسّل بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم ـ كما زعمه الشّيخ عِزّ الدين بن عبد السّلام؛ لأمرين: الأوّل: ما عرّفناك [به] من إجماع الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ. والثّاني: أنّ التّوسّل إلى الله بأهل الفضل والعلم هو ـ في التّحقيق ـ توسّل بأعمالهم الصّالحة ومزاياهم الفاضلة؛ إذ لا يكون الفاضل فاضلًا إلَّا بأعماله. فإذا قال القائل: اللهمّ إنّي أتوسّل إليك بالعالم الفلانيّ؛ فهو باعتبار ما قام به من العلم، وقد ثبت في «الصّحيحين» وغيرهما: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حكى عن الثّلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة، أنّ كلّ واحد منهم توسّل إلى الله بأعظم عمل عمله؛ فارتفعت الصّخرة؛ فلو كان

رأي العز بن عبد السلام في التوسل.

التّوسّل بالأعمال الفاضلة غير جائز أو كان شركًا ـ كما يزعمه المتشدّدون في هذا الباب (كابن عبد السّلام ومَن قال بقوله من أتباعه) ؛ لم تحصل الإجابة من الله لهم، ولا سكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إنكار ما فعلوه بعد حكايته عنهم؛ وبهذا [تعلم] أنّ ما يورده المانعون من التّوسّل إلى الله ـ تعالى ـ بالأنبياء والصّلحاء من نحو قوله ـ تعالى ـ: {ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} ، ونحو قوله ـ تعالى ـ: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} ، ونحو قوله ـ تعالى ـ: {له دعوة الحقّ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} ؛ ليس بوارد؛ بل هو من الاستدلال على محلّ النزاع بما هو أجنبيّ عنه؛ فإنّ قولهم {ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} مصرّح بأنّهم عبدوهم لذلك، والمتوسّل بالعالم ـ مثلًا ـ لم يعبده؛ بل علم أنّ له مزية عند الله بحمله العلم؛ فتوسّل به لذلك. وكذلك قوله: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} ؛ فإنّه نهى عن أن يدعى مع الله غيره؛ كأن يقول: بالله وبفلان، والمتوسّل بالعالم ـ مثلًا ـ لم يدعُ إلَّا الله، وإنّما وقع منه التّوسّل إليه بعمل صالح عمله بعض عباده، كما توسّل الثّلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة بصالح أعمالهم. وكذلك قوله: {والذين يدعون من دونه} الآية؛ فإنّ هؤلاء دعوا مَن لا يستجيب [لهم] ، ولم يدعوا ربّهم الذي يستحبب لهم، والمتوسّل بالعالم ـ مثلًا ـ لم يدعُ إلا الله، ولم يدع غيره دونه، ولا [دعا] غيره معه. وإذا عرفتَ هذا؛ لم يخفَ عليك دفع ما يورده

المانعون للتّوسّل من الأدِلّة الخارجة عن محلّ النّزاع خروجًا زائدًا على ما ذكرناه؛ كاستدلالهم بقوله ـ تعالى ـ: {وما أدراك ما يوم الدّين * ثم ما أدراك ما يوم الدّين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} ؛ فإنّ هذه الآية الشّريفة ليس [فيها] إلَّا أنّه ـ تعالى ـ المنفرد بالأمر في يوم الدّين، وأنّه ليس لغيره من الأمر شيء، والمتوسّل بنبيّ من الأنبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أنّ لمَن توسّل به مشاركة لله ـ جَلّ جلاله ـ في أمر يوم الدّين، ومَن اعتقد هذا لعبد من العباد ـ سواء كان نبيًّا أو غير نبيّ ـ فهو في ضلال مبين. وهكذا الاستدلال على منع التّوسّل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء} ، {قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا} ؛ فإنّ هاتين الآيتين مصرّحتان بأنّه ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الله شيء، وأنّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا؛ فكيف يملك لغيره؟! وليس فيها منع التّوسّل به أو بغيره من الأنبياء أو الأولياء أو العلماء، وقد جعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم المقام المحمود ـ مقام الشّفاعة العظمى ـ، وأرشد الخلق إلى أن يسألوه ذلك ويطلبوه منه، وقال له: «سل تُعط، واشفع تُشفّع» ، وقيّد ذلك في كتابه العزيز بأنّ الشّفاعة لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا لمَن ارتضى. ولعلّه يأتي تحقيق هذا المقام ـ إن شاء الله تعالى ـ. وهكذا الاستدلال على منع التّوسّل بقوله صلى الله عليه وسلم، لما نزل قوله ـ تعالى ـ: {وأنذر عشيرتك الأقربين} : «يا فلان بن فلان؛ لا أملك لك من الله شيئًا، يا فلانة بنت فلان؛ لا أملك لكِ من الله شيئًا» ؛ فإنّ هذا ليس فيه إلَّا التّصريح بأنّه صلى الله عليه وسلم لا يستطيع نفع مَن أراد الله ـ تعالى ـ

اعتقاد العوام بأهل القبور

ضرّه، ولا ضرّ مَن أراد الله نفعه، وأنّه لا يملك لأحد من قرابته ـ فضلًا عن غيرهم ـ شيئًا من الله، وهذا معلوم لكلّ مسلم، وليس فيه أنّه لا يتوسّل به إلى الله؛ فإنّ ذلك هو طلب الأمر ممّن له الأمر والنهي؛ وإنّما أراد الطّالب أن يقدم بين يدي طلبه ما يكون سببًا للإجابة ممّن هو المتفرّد بالعطاء والمنع، وهو مالك يوم الدّين. وإذا عرفتَ هذا؛ فاعلم أنّ الرزيّة كلّ الرّزيّة، والبليّة كلّ البليّة؛ أمر غير ما ذكرنا من التّوسّل المجرّد والتّشفّع بمَن له الشفاعة، وذلك ما صار يعتقده كثير من العوام وبعض الخواصّ في أهل القبور، وفي المعروفين بالصّلاح من الأحياء؛ من أنّهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ جَلّ جلاله ـ، ويفعلون ما لا يفعله إلَّا الله ـ عزّ وجَلّ ـ، حتى نطقت ألسنتهم بما انطوت عليه قلوبهم؛ فصاروا يدعونهم تارة مع الله، وتارة استقلالًا، ويصرّحون بأسمائهم، ويعظّمونهم تعظيم مَن يملك الضّرّ والنّفع، ويخضعون لهم خضوعًا زائدًا على خضوعهم عند وقوفهم بين يدي ربّهم في الصّلاة والدُّعاء! وهذا إذا لم يكن شركًا فلا ندري ما هو الشّرك! وإذا لم يكن كفرًا فليس في الدُّنيا كفر! وها نحن نقصّ عليك أدلّة في كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ وفي سُنّة وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها المنع ممّا هو دون هذا بمراحل، وفي بعضها التّصريح بأنّه شرك، وهو بالنّسبة إلى هذا الذي ذكرناه يسير حقير. ثم بعد ذلك نعود إلى الكلام على مسألة السؤال. فمن ذلك: ما أخرجه أحمد في «مسنده» ، بإسناد لا بأس به، عن عمران بن حصين، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رأى [رجلًا] بيده حلقة من صُفر؛ فقال: ما هذه؟ قال من

الواهنة؛ قال: «انزعها؛ فإنّها لا تزيدك إلَّا وهنًا، ولو متَّ وهي عليك ما أفلحت» . وأخرج أيضًا، عن عقبة بن عامر مرفوعًا: «مَن تعلّق تميمة فلا أتمّ الله له، ومَن تعلّق ودعة فلا ودع له» ، وفي رواية: «مَن تعلّق تميمة فقد أشرك» .

ولابن أبي حاتم، عن حذيفة أنّه رأى رجلًا في يده خيط للحمّى؛ فقطعه وتلا: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلَّا وهم مشركون} . وفي «الصّحيح» ، عن أبي بشير الأنصاريّ أنّه كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره؛ فأرسل رسولًا: «ألا يبقينّ في رقبة بعير قلادة من وتر إلَّا قُطعت» . وأخرج أحمد وأبو داود، عن ابن مسعود: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الرّقى

والتّمائم والتّولة شرك» . وأخرج أحمد والتّرمذيّ، عن عبد الله بن عكيم مرفوعًا: «مَن تعلّق شيئًا وُكل إليه» . وأخرج أحمد، عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رويفع؛ لعلّ الحياة ستطول بك؛ فأخبر النّاس أنّ مَن عقد لحيته أو تقلّد وترا أو استنجى برجيع دابّة أو عظم؛ فإنّ محمّدًا بريء منه» . فانظر كيف جعل الرّقى والتّمائم والتّولة شركًا؛ وما ذلك إلَّا لكونها مظنّة لأن يصحبها اعتقاد أنّ لغير الله تأثيرًا في الشّفاء من الدّاء، وفي المحبّة والبغضاء؛ فكيفه بمَن نادى غير الله وطلب منه ما لا يُطلَب إلَّا من الله، واعتقد استقلاله بالتّأثير أو اشتراكه مع الله ـ عزّ وجلّ ـ. ومن ذلك: ما أخرجه التّرمذيّ ـ وصحّحه ـ، عن أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع

الذبح لغير الله

رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها وينوطون بها أسلحتهم، يُقال لها: ذات أنواط؛ فمررنا بسدرة؛ فقلنا: يا رسول الله؛ اجعل لنا ذات أنواط! فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنّكم قوم تجهلون} ؛ لتركبنّ سنن مَن كان قبلكم» . فهؤلاء إنّما طلبوا أن يجعل لهم شجرة ينوطون بها أسلحتهم كما كانت الجاهلية تفعل ذلك، ولم يكن من قصدهم أن يعبدوا تلك الشّجرة أو يطلبوا منها ما يطلبه القبوريّون من أهل القبور؛ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنّ ذلك بمنزلة الشّرك الصّريح، وأنّه بمنزلة طلب آلهة غير الله ـ تعالى ـ. ومن ذلك: ما أخرجه مسلم في «صحيحه» ، عن عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: «لعن الله مَن ذبح لغير الله، لعن الله مَن لعن والدَيه، لعن الله مَن آوى محدثًا، لعن الله مَن غيّر منار الأرض» . وأخرج أحمد، عن طارق بن شهاب، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخل رجل الجنّة في ذباب، ودخل النّار رجل في ذباب» ؛ قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «مَرّ رجلان

الحلف بغير الله والتفصيل في هذه القضية

على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرّب إليه شيئًا؛ فقالوا لأحدهم: قرّب ولو ذبابًا؛ [فقرّب ذبابًا] ؛ فخَلّوا سبيله؛ فدخل النار. وقالوا للآخر: قرّب؛ فقال: ما كنتُ لأقرّب لأحد غير الله ـ عَزّ وجلّ ـ؛ فضربوا عنقه؛ فدخل الجنّة. فانظر لعنَه صلى الله عليه وسلم لمَن ذبح لغير الله، وإخباره بدخول مَن قرّب لغير الله النّار، وليس في ذلك إلَّا مجرّد كون ذلك مظنّة للتّعظيم الذي لا ينبغي إلَّا لله؛ فما ظنّك بما كان شركًا بحتًا؟! وقال بعض أهل العلم: إنّ إراقة دماء الأنعام عبادة؛ لأنّها إمّا هدي أو أضحية أو نسك، وكذلك ما يُذبح للبيع ـ لأنّه مكسب حلال ـ؛ فهو عبادة. ويتحصّل من ذلك شكل قطعي؛ هو: أنّ إراقة دماء الأنعام عبادة، وكلّ عبادة لا تكون إلَّا لله؛ فإراقة دماء الأنعام لا تكون إلَّا لله، ودليل الكبرى: قوله ـ تعالى ـ: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} ، {فإيّاي فاعبدون} ، {إيّاك نعبد} ، {وقضى ربّك ألَّا تعبدوا إلَّا إيّاه} ، {وما أُمروا إلَّا ليعبدوا الله مخلصين له الدِّين} . ومن ذلك: أنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله؛ فقال: «مَن حلف فليحلف بالله أو ليصمت» ، وقال: «مَن حلف بملّة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالمًا» ـ

أو كما قال ـ. [و] سمع رجلًا يحلف باللّات والعزّى؛ فأمره أن يقول: لا إله إلَّا الله. وأخرج التّرمذيّ ـ وحسّنه ـ والحاكم ـ وصحّحه ـ، من حديث [ابن] عمر، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» . وهذه الأحاديث في دواوين الإسلام، وفيها أنّ الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام؛ ذلك لكون الحلف بشيء مظنّة تعظيمه؛ فكيف بما كان شركًا محضًا

يتضمّن التّسوية بين الخالق والمخلوق في طلب النّفع أو استدفاع الضّرّ، وقد يتضمّن تعظيم المخلوق زيادة على تعظيم الخالق ـ كما يفعله كثير من المخذولين ـ؛ فإنّهم يعتقدون أنّ لأهل القبور من جلب النّفع ورفع الضّرّ ما ليس لله ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ـ. فإن أنكرتَ هذا؛ فانظر أحوال كثير من هؤلاء المخذولين؛ فإنّك تجدهم كما وصف الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وإذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر

النهي عن اتخاذ القبور مساجد

الذين من دونه إذا هم يستبشرون} . ومن ذلك: ما ثبت في «الصّحيحين» عنه صلى الله عليه وسلم عند موته أنّه كان يقول: «لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يُحذّر ما صنعوا. وأخرج مسلم، عن جندب بن عبد الله، أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ مَن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم مساجد؛ ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد؛ إنّي أنهاكم عن ذلك» . وأخرج أحمد ـ بسند جيّد ـ وأبو حاتم في «صحيحه» ، عن ابن مسعود مرفوعًا: «إنّ من شرار النّاس مَن تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد» . والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها التّصريح بلعن مَن اتّخذ القبور مساجد، مع أنّه لا يعبد إلا الله؛ وذلك لقطع ذريعة التّشريك، ودفع وسيلة التّعظيم. وورد ما يدلّ على أنّ عبادة الله عند القبور بمنزلة اتّخاذها أوثانًا تُعبَد: أخرج مالك في «الموطأ» ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . وبالغ في ذلك حتى لعن زائرات القبور؛ كما أخرجه أهل السُّنَن، من حديث ابن عبّاس قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتّخذين عليها المساجد والسّرج» .

ولعل وجه تخصيص النّساء بذلك لما في طبائعهنّ من النّقص المفضي إلى الاعتقاد والتّعظيم بأدنى شبهة، ولا شكّ أنّ علّة النّهي عن جعل القبور مساجد وعن تسريجها وتجصيصها ورفعها وزخرفتها هي: ما ينشأ عن ذلك من الاعتقادات الفاسدة؛ كما ثبت في «الصّحيح» ، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّ أمّ سلمة ذكرت لرسول

بيان ضعف النهي عن اتخاذ السرج على المساجد وتوضيح أنه منهي عنه بأصول الشريعة

الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصّور؛ فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرّجل أو العبد الصّالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّرا فيه تلك الصّور؛ أولئك شرار الخلق عند الله» . ولابن خزيمة، عن مجاهد: {أفرأيتم اللَّات والعزّى} قال: «كان يلت له السّويق، فمات؛ فعكفوا على قبره» . وكلّ عاقل يعلم أنّ لزيادة الزّخرفة للقبور وإسبال السّتور الرّائقة عليها وتسريجها والتّأنّق في تحسينها تأثيرًا في طبائع غالب العوامّ؛ ينشأ عنه التّعظيم والاعتقادات الباطلة، وهكذا إذا استعظمت نفوسهم شيئًا ممّا يتعلّق بالأحياء؛ وبهذا السبب اعتقدت كثيرٌ من الطوائف الإلهيّةَ في أشخاص كثيرة! ورأيتُ في بعض كتب التاريخ أنّه قدم رسول لبعض الملوك على بعض خلفاء بني العبّاس؛ فبالغ الخليفة في التّخويل على ذلك الرسول، وما زال أعوانه ينقلونه من رتبة إلى رتبة؛ حتى وصل إلى المجلس الذي يقعد الخليفة في برج من أبراجه، وقد جمّل ذلك المنزل بأبهى الآيات، وقعد فيه أبناء الخلفاء وأعيان الكبراء، وأشرف الخليفة من ذلك البرج، وقد انخلع قلب ذلك الرسول ممّا رأى؛ فلمّا وقعت عيناه على الخليفة؛ قال لمن هو قابض على يده من الأمراء: أهذا الله؟! فقال ذلك الأمير: بل هذا خليفة الله. فانظر [ما] صنع ذلك التّحسين بقلب هذا المسكين!

قصة فيها بيان أن الغلو يورث الشرك

ورُوي لنا أنّ بعض أهل جهات القبلة وصل إلى القبّة الموضوعة على قبر الإمام أحمد بن الحسين ـ صاحب ذي بين ـ (رحمة الله) ؛ فرآها وهي مسرجة بالشّمع، والبخور ينفخ في جوانبها، وعلى القبر السّتور الفائقة؛ فقال عند وصوله إلى الباب: أمسيتَ بالخير يا أرحم الراحمين!!! وفي «الصّحيح» ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ، في قوله ـ تعالى ـ {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا} قال: «هذه أسماء [رجال] من قوم نوح، لمّا هلكوا أوحى الشّيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصابًا، وسمّوها بأسمائهم؛ ففعلوا، فلم يُعبدوا، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبِدَت» . وقال غير واحد من السّلف: «لمّا ماتوا عكفوا على قبورهم» . ومن ذلك: ما أخرجه أحمد ـ بإسناد جيّد ـ، عن قطن بن قبيصة عن أبيه، أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العيافة والطرق والطّيرة من الجبت» ، وأخرجه أبو داود والنّسائي

إتيان الكهان والعرافين

وابن حبّان أيضًا. وأخرج أبو داود ـ بسند صحيح ـ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن اقتبس شعبة من النّجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السّحر» . وأخرج النّسائيّ من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «من عقد عقدة ثم نفث فيها؛ فقد سحر، ومَن سحر فقد أشرك، ومَن تعلّق شيئًا وُكل إليه» . وهذه الأمور إنّما كانت من الجبت والشّرك؛ لأنّها مظنّة للتّعظيم الجالب للاعتقاد الفاسد. ومن ذلك: ما أخرجه أهل السُّنن والحاكم ـ وقال: صحيح على شرط الشّيخين ـ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أتى كاهنًا أو عرّافًا فصدّقه؛ فقد كفر بما أُنزل على محمّد» .

النهي عن قول: مطرنا بنوء كذا

وأخرج أبو يعلى ـ بسند جيّد ـ، موقوفًا: «مَن أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمّد» ، وأخرج نحوه الطّبرانيّ من حديث ابن عبّاس، بسند حسن. والعلة الموجبة للحكم بالكفر ليست إلَّا اعتقاد أنّه مشارك لله في علم الغيب، مع أنّه ـ في الغالب ـ يقع غير مصحوب بهذا الاعتقاد، ولكن مَن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه. ومن ذلك: ما في «الصّحيحين» وغيرهما، عن زيد بن خالد قال: صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصّبح على إثر سماء كانت من الليل، فلمّا انصرف أقبل على الناس بوجهه الشّريف؛ فقال: هل تدرون ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأمّا مَن قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأمّا مَن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن

النهي عن قول: ما شاء وشئت

بالكواكب» . ولا يخفى على العارف أنّ العلة في الحكم بالكفر هي: ما في ذلك من إيهام المشاركة، وأين هذا ممّن يصرّح في دعائه عندما يمسّه الضّرّ بقوله: يا الله ويا فلان، و: على الله وعلى فلان؛ فإنّ هذا يعبد إلهين ويدعو اثنين! وأمّا مَن قال: مُطرنا بنوء كذا؛ فهو لم يقل: أمطره ذلك النّوء؛ بل: أمطر به، وبين الأمرين فرق ظاهر. ومن ذلك: ما أخرجه مسلم، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله ـ عَزّ وجلّ ـ: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك؛ مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركتُه وشركه» . وأخرج أحمد، عن أبي سعيد مرفوعًا: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال» ؛ قالوا: بلى. قال: «الشّرك الخفيّ؛ يقوم الرجل فيزيّن صلاته لما يراه من نظر رجل» . ومن ذلك: قوله ـ تعالى ـ: {فمَن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدًا} ؛ فإذا كان مجرّد الرّياء الذي هو فعل الطّاعة لله ـ عَزّ وجلّ ـ، مع محبّة أن يطّلع عليها غيره أو يثني بها أو يستحسنها شركًا؛ فكيف بما هو محضّ الشّرك؟! ومن ذلك: ما أخرجه النّسائي أن يهوديًّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إنّكم تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة! فأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: «وربّ الكعبة» ، وأن يقولوا: «ما شاء الله ثم شئت» .

وأخرج النّسائي أيضًا، عن ابن عبّاس مرفوعًا: أنّ رجلًا قال: ما شاء الله وشئتَ؛ قال: «أجعلتني لله ندًّا؟! ما شاء الله وحده» . وأخرج ابن ماجه، عن الطفيل قال: رأيتُ كأنّي أتيتُ على نفر من اليهود؛ فقلت: إنّكم لأنتم القوم لولا أنّكم تقولون: عُزير ابن الله! وقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنّكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمّد! ثم مررتُ بنفر من النّصارى؛ فقلتُ: إنّكم لولا أنّكم تقولون: المسيح ابن الله! وقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنّكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد! [فلمّا أصبحتُ أخبرتُ بها مَن أخبرتُ، ثم أتيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه؛ قال: هل أخبرتَ بها أحدًا؟ قلتُ: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمّا بعد؛ فإنّ طفيلًا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنّكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنها كم عنها؛ فلا تقولوا: ما شاء محمد] ؛ ولكن [قولوا] : ما شاء الله وحده» . والوارد في هذا الباب كثير، وفيه: أنّ التّشريك في المشيئة بين الله ورسوله أو غيره من عبيده فيه نوع من الشّرك؛ ولهذا جُعل ذلك في هذا المقام الصّالح كشرك اليهود والنّصارى بإثبات ابن لله ـ عَزّ وجلّ ـ، وفي تلك الرّواية السّابقة أنّه إثبات ندّ لله ـ عَزّ وجلّ ـ.

النهي عن تصوير ذوات الأرواح

ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم لمَن قال: «مَن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومَن يعصمها فقد غوى» : «بئس خطيب القوم أنتَ» ، وهو في «الصّحيح» . وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس، في تفسير قوله: {فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} أنّه قال: «الأنداد أخفى من دبيب النّمل على صفاة سوداء في ظلمة اللّيل، وهو أن يقول: والله! وحياتِك يا فلان! وحياتي! ويقول: لولا كلبه هذا لأتانا [اللّصوص] ، ولولا البطّ [في الدار] لأتى اللّصوص، ويقول الرّجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. [لا تجعل فيها فلان؛ فإنّ] هذا كلّه شرك» انتهى. ومن ذلك: ما ثبت في «الصّحيحين» ، من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقل أحدكم: أطعم ربّك، وضئ ربّك، ولا يقل أحدكم: عبدي وأَمَتي؛ وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي» . ووجه هذا النّهي: ما يفهم من مخاطبة السّيد بمخاطبة العبد لربّه، والرّب لعبده، وإن لم يكن ذلك مقصودًا. ومن ذلك: ما ثبت في «الصّحيحين» ، من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله ـ تعالى ـ: ومَن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبّة أو شعيرة» . ولهما، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدّ النّاس عذابًا يوم

النهي عن رفع القبور

القيامة الذين يضاهون خلق الله» . ولهما، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلّ مصوّر في النار يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسًا يعذّب بها في جهنّم» . ولهما، عنه مرفوعًا: «مَن صوّر صورة في الدُّنيا كُلّف أينفخ فيها الرّوح، وليس بنافخ» . وأخرج مسلم، عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألّا تدع صورة إلَّا طمستَها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويتَه» . فانظر إلى ما في هذه الأحاديث من الوعيد الشّديد للمصوّرين؛ لكونهم فعلوا فعلًا يشبه فعل الخالق، وإن لم يكن ذلك مقصودًا لهم، وهؤلاء القبوريّون قد جعلوا بعض خلق الله شريكًا له ومثلًا وندًّا؛ فاستغاثوا به فيما لا يُستغاث فيه إلَّا بالله، وطلبوا منه ما لا يُطلب إلَّا من الله، مع القصد والإرادة. ومن ذلك: ما أخرجه النّسائيّ ـ بسند جيّد ـ، عن عبد الله بن الشّخّير قال: انطلقتُ في وفد بني عامر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقلنا: أنتَ سيّدنا؛ قال: «السّيد الله ـ تبارك وتعالى ـ» ، قلنا: وأفضلنا فضلًا، وأعظمنا طولًا؛ قال: «قولوا بقولكم [أو بعض قولكم] ، ولا يستجرينّكم الشّيطان ـ وفي رواية: لا يستهوينّكم الشّيطان ـ، أنا محمد عبد الله ورسوله؛ ما أحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله ـ عَزّ وجلّ ـ» . وبالجملة: فالوارد عن الشّرع من الأدِلّة الدّالّة على قطع ذرائع الشّرك وهدم كلّ

المشركون أقروا بخلق الله وتدبيره وأشركوا بالعبادة

شيء يوصل إليه في غاية الكثرة، ولو رمتُ حصر ذلك على التّمام؛ لجاء في مؤلّف بسيط؛ فلنقتصر على هذا المقدار، ونتكلّم على حكم ما يفعله القبوريّون من الاستغاثة بالأموات، ومناداتهم لقضاء الحاجات، وتشريكهم مع الله في بعض الحالات، وإفرادهم بذلك في بعضها؛ فنقول: اعلم أنّ الله لم يبعث رسله ولم ينزّل كتبه لتعريف خلقه بأنّه الخالق لهم والرّازق لهم ونحو ذلك؛ فإنّ هذا يقرّ به كلّ مشرك ... ثم ذكر الآيات القرآنيّة الدّالّة على إلإخلاص التّوحيد لله وحده، الذي من أجله أنزل كتبه وأرسل رسله ليكون الدّين كلّه له، وبيّن أنّ المشركين لم يكونوا يعتقدون في شركائهم الاستقلال بالضّرّ والنّفع؛ بل كانوا يعتقدون فيهم أنّهم وسائط وشفعاء إلى الله ـ عَزّ وجلّ ـ؛ كما أخبرنا عنهم بقوله: {ما نعبدهم إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى} ، {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} . فإذا وازنتَ بين ما يفعله النّاس اليوم ـ من نداء غير الله، والاستعانة به، والاستغاثة به، والالتجاء إليه في النّوائب والشّدائد، والخضوع له عند قبره ـ، وبين ما كانت تفعله المشركون بآلهتهم؛ لم تجد فرقًا بين الفريقين. إلى أن قال: وإذا تقرّر هذا؛ فلا شكّ أنّ مَن اعتقد في ميّت من الأموات أوحيّ من الأحياء أنّه يضرّه أو ينفعه ـ إمّا استقلالًا أو مع الله (تعالى) ـ، وناداه أو توجّه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق؛ فلم يخص التّوحيد لله، ولا أفرده بالعبادة؛ إذ الدُّعاء بطلب وصول الخير إليه، ودفع الضّرّ عنه هو نوع من أنواع العبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجرًا أو شجرًا أو ملكًا أو شيطانًا ـ كما يفعل ذلك الجاهليّة ـ، وبين أن يكون إنسانًا من الأحياء أو الأموات ـ كما يفعله الآن كثير من المسلمين ـ، وكلّ عالم يعلم هذا ويقرّ به؛ فإنّ العلّة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك معه غيره يكون للحيوان كما يكون للجماد، وللحيّ كما يكون للميّت؛ فمَن زعم أنّ ثمّ فرقًا بين مَن اعتقد في وثن من الأوثان

أنّه يضرّ أو ينفع، وبين مَن اعتقد في ميّت من بني آدم أوحيّ منهم أنّه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلَّا الله ـ تعالى ـ؛ فقد غلط غلطًا بيّنًا، وأقرّ على نفسه بجهل كثير؛ فإنّ الشّرك هو دعاء غير الله ـ تعالى ـ في الأشياء التي تختصّ به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التّقرّب إلى غيره بشيء مما لا يتقرّب به إلَّا إليه. ومجرّد تسمية المشركين لما جعلوه شريكًا ـ بالصّنم والوثن والإله ـ لغير الله زيادة على التّسمية بالوليّ والقبر والمشهد ـ كما يفعله كثير من المسلمين ـ؛ بل الحكم واحد إذا حصل لمَن يعتقد في الوليّ والقبر ما كان يحصل لمَن كان يعتقد في الصّنم والوثن؛ إذ ليس الشّرك هو بمجرّد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسمّيات؛ بل الشّرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختصّ به ـ سبحانه ـ، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهليّة، أو أطلق عليه اسمًا آخر؛ فلا اعتبار بالاسم قط، ومَن لم يعرف هذا فهو جاهل لا يستحقّ أن يُخاطب بما يُخاطب به أهل العلم! وقد علم كلّ عالم أنّ عبادة الكفّار للأصنام لم تكن إلا بتّعظيمها واعتقاد أنّها تضرّ وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة، والتّقريب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كلّه قد وقع من المعتقدين في القبور؛ فإنّهم قد عظّموها إلى حدّ لا يكون إلا لله ـ سبحانه ـ، بل ربّما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد مَن يعتقده أو قريبًا منه؛ مخافة تعجيل العقوبة من ذلك [الميّت] ! وربّما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو مسجد من المساجد أو قريبًا من ذلك! وربّما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبًا، ولم يحلف بالميّت الذي يعتقده! وأمّا اعتقادهم أنّها تضرّ وتنفع؛ فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدعُ أحد منهم ميّتًا أو حيًّا عند استجلابه لنفع أو استدفاعه لضرّ؛ قائلًا: يا فلان؛ افعل لي كذا وكذا، و: على الله وعليك، و: أنا بالله وبك!

بيان اشتراك المشركين والقبوريين في الفعل وشبه تعليلهم واحدة

وأمّا التّقرّب للأموات؛ فانظر ماذا يجعلونه من النّذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلّات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله ـ تعالى ـ؛ لم يفعل! وهذا معلوم يعرفه مَن عرف أحوال هؤلاء. فإن قلتَ: إنّ هؤلاء القبوريّين يعتقدون أنّ الله هو الضّارّ والنّافع، والخير والشّر بيده، وإن استغاثوا بالأموات؛ قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله ـ سبحانه ـ. قلتُ: وهكذا كانت الجاهليّة؛ فإنّهم يعلمون أنّ الله هو الضّارّ والنّافع، وأنّ الخير والشّرّ بيده، وإنّما عبدوا أصنامهم لتقرّبهم إلى الله زلفى؛ كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز. نعم؛ إذا لم يحصل من المسلم إلَّا مجرّد التّوسّل ـ الذي قدمنا تحقيقه ـ؛ فهو كما ذكرناه سابقًا، ولكن مَن زعم أنّه لم يقع منه إلَّا مجرّد التّوسّل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميّت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين، وزاد على مجرّد الاعتقاد؛ فتقرّب إلى الأموات بالذّبائح والنّذور، وناداهم مستغيثًا بهم عند الحاجة؛ فهذا كاذب في دعواه أنّه متوسّل فقط؛ فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك؛ فالمتوسَّل به لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح، ولا تعظيم [ولا اعتقاد؛ لأنّ المدعو هو الله ـ سبحانه ـ، وهو أيضًا المجيب، ولا تأثير لمَن وقع به التّوسّل قط؛ بل هو بمنزلة التّوسّل] بالعمل الصّالح؛ فأيّ جدوى في رشوة مَن قد صار تحت أطباق الثّرى بشيء من ذلك؟ وهل هذا إلَّا فعل مَن يعتقد التّأثير اشتراكًا أو استقلالًا؟ ولا عدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدّعاوي الباطلة العاطلة، بل مَن زعم أنّه لم يحصل منه إلَّا مجرّد التّوسّل وهو يقول بلسانه: يا فلان؛ مناديًا لمَن يعتقده من الأموات؛ فهو كاذب على نفسه، ومَن أنكر حصول النّداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالًا؛

الدعاء هو العبادة

فليخبرنا: ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من قولهم: يا ابن العجيل! يا زيلعي! يا ابن علوان! يا فلان! يا فلان! وهل ينكر هذا منكر، أو يشكّ فيه شاكّ؟! وما عدا ديار اليمن؛ فالأمر فيها أطمّ [وأعظم] وأعمّ! ففي كل قرية ميّت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم، حتى أنّهم في حرم الله ينادون: يا ابن عبّاس! يا محجوب! فما ظنّك بغير ذلك؟! فلقد تلطّف إبليس وجنوده ـ أخزاهم الله ـ لغالب أهل الملّة الإسلاميّة بلطفية تزلزل الأقدام عن الإسلام؛ فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. أين مَن يعقل معنى {إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} ، {فلا تدعوا مع الله أحدًا} ، {له دعوة الحقّ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء} ؟! وقد أخبرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنّ الدُّعاء عبادة في محكم كتابه؛ بقوله ـ تعالى ـ: {ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين} ، وأخرج أبو داود والتّرمذي ـ وقال: «حسن صحيح» ـ، من حديث النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الدعاء هو العبادة» ، وفي رواية: «مخّ العبادة» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية المذكورة. وأخرج [أيضًا] النّسائيّ وابن ماجه والحاكم وأحمد وابن أبي شيبة باللفظ

المذكور. وكذلك النّحر للأموات عبادة لهم، والنّذر لهم بجزء من المال عبادة لهم، والتّعظيم عبادة لهم، كما أنّ النّحر للنّسك وإخراج صدقة المال والخضوع والاستكانة عبادة لله ـ عَزّ وجلّ ـ بلا خلاف، ومَن زعم أنّ ثمّ فرقًا بين الأمرين؛ فليهده إلينا! ومَن قال: إنّه لم يقصد بدعاء الأموات والنّحر لهم والنّذر عليهم عبادتَهم؛ فقل له: فلأيّ مقتضى صنعتَ هذا الصّنيع؟! فإنّ دعاءك للميّت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبّر عنه لسانك؛ فإن كنتَ تهذي نزول بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم؛ فأنتَ مصاب بعقلك! وهكذا إن كنتَ تنحر لله؛ فلأيّ معنى جعلتَ ذلك للميّت، وحملتَه إلى قبره؟! فإنّ الفقراء على ظهر البسيطة في كلّ بقعة من بقاع الأرض! وفعلك وأنتَ عاقل لا يكون إلَّا لمقصد قد قصدتَه، أو أمر قد أردتَه؛ وإلا فأنتَ مجنون قد رُفِعَ عنك القلم! ولا نوافقك على دعوى الجنون إلَّا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين؛ فإن كنتَ تصدرها مصدر أفعال العقلاء؛ فأنتَ تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه؛ فرارًا عن أن يلزمك ما لزم عبّاد [الأصنام و] الأوثان الذين حكى عنهم الله في كتابه العزيز ما حكاه بقوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} ، وبقوله: {ويجعلون لما لا يعلمون نصيبًا ممّا رزقناهم تالله لتسألنّ عمّا كنتم تفترون} . فإن قلتَ: إنّ المشركين كانوا لا يقرّون بكلمة التّوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرّون بها! قلتُ: هؤلاء إنّما قالوها بألسنتهم وخالفوها بأفعالهم؛ فإنّ مَن استغاث بالأموات،

أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله ـ سبحانه ـ، أو عظّمهم، أو نذر عليهم بجزء من ماله، أو نحر لهم؛ فقد نزّلهم منزلة الآلهة التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال؛ فهو لم يعتقد معنى (لا إله إلَّا الله) ، ولا عمل بها؛ بل خالفها اعتقادًا وعملًا؛ فهو في قوله (لا إله إلَّا الله) كاذب على نفسه؛ فإنّه قد جعل إلهًا غير الله يعتقد أنّه يضرّ وينفع، وعبده بدعائه عند الشّدائد، والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له وتعظيمه إيّاه، ونحر له النّحائر، وقرّب إليه نفائس الأموال، وليس مجرّد قوله (لا إله إلَّا الله) من دون عمل بمعناها مثبتًا للإسلام؛ فإنّه لو قالها أحد من أهل الجاهلية وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلامًا. فإن قلتَ: قد أخرج أحمد بن حنبل والشّافعي في «مُسندَيهما» ، من حديث عبيد الله بن عديّ بن الخيار، أنّ رجلًا من الأنصار حدّثه أنّ رجلًا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه؛ فسارّه ييستأذنه في قتل رجل من المنافقين؛ فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلَّا الله؟» ؛ قال الأنصاريّ: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له! قال: «أليس يشهد أنّ محمّدًا رسول الله؟» ؛ قال: بلى، ولكن لا شهادة له! قال: «أليس يصلّي؟» ؛ قال: بلى، ولا صلاة له!

قال: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» . وفي «الصّحيحين» ، من حديث أبي سعيد، في قصة الرّجل الذي قال: يا رسول الله؛ اتّق الله. وفيه: فقال خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ: يا رسول الله؛ ألا أضرب عنقه؟ فقال: «لا؛ لعلّه أن يكون يصلّي» ؛ فقال خالد: كم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لم أومر أن أنقّب عن قلوب الناس ولا أشقّ قلوبهم» . ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة ابن زيد ـ رضي الله عنه ـ، لمّا قتل رجلًا من الكفّار بعد أن قال (لا إله إلَّا الله) ؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: «فما تصنع بـ (لا إله إلَّا الله) ؟» ؛ فقال: يا رسول الله؛ إنّما قالها تقيّة! [فقال: «هل شققتَ عن قلبه؟» . هذا معنى الحديث] ، وهو في «الصّحيح» . قلتُ: ولا شكّ أنّ مَن قال (لا إله إلَّا الله) ، ولم يتبيّن من أفعاله ما يخالف معنى التّوحيد؛ فهو مسلم محقون الدّم والمال، إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة [في

حديث] : «أُمرتُ أن أقاتل النّاس حتى يقولوا (لا إله إلَّا الله) ، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، ويحجّوا البيت، ويصوموا رمضان» ، وهكذا مَن قال (لا إله إلَّا الله) متشهدًا بها شهادة الإسلام ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام؛ فالواجب حمله على الإسلام؛ [عملًا] بما أقرّ به لسانه، وأخبر به مَن أراد قتاله؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد ما قال. وأمّا مَن تكلّم بكلمة التّوحيد، وفعل أفعالًا تخالف التّوحيد ـ كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات ـ؛ فلا ريب أنّه قد تبيّن من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتّوحيد. ولو كان مجرّد التّكلّم بكلمة التّوحيد موجبًا للدخول في الإسلام والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلّم بها ما يطابق التّوحيد أو يخالفه؛ لكانت نافعة لليهود مع أنّهم يقولون: عزير ابن الله، وللنّصارى مع أنّهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنّهم يكذّبون بالدِّين ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثّلاث يتكلمون بكلمة التّوحيد! بل لم تنفع الخوارج ـ فإنّهم من أكمل النّاس توحيدًا وأكثرهم عبادة ـ؛ وهم كلاب النّار، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم، مع أنّهم لم يشركوا [بالله، ولا خالفوا معنى (لا إله إلَّا الله) ؛ بل وحّدوا الله توحيده، وكذلك المانعون الزّكاة هم موحّدون لم يشركوا] ، ولكنّهم تركوا ركنًا من أركان الإسلام؛ ولهذا أجمعت الصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ على قتالهم؛ بل دلّ الدّليل الصّحيح المتواتر على ذلك؛ وهو الأحاديث الواردة بألفاظ؛ منها: «أُمرتُ أن أقاتل النّاس حتى يقولوا (لا إله إلَّا الله) ، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، ويحجّوا البيت، ويصوموا رمضان؛ فإذا فعلوا ذلك؛ فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلَّا بحقّها» ؛

الواجب على من رأى أناسا يدعون غير الله

فمَن ترك أحد هذه الخمسة؛ لم يكن معصوم الدّم ولا المال، وأعظم من ذلك: تارك معنى التّوحيد، أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال. اهـ. فإن قلتَ: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأنّ ما يفعلونه شرك؛ بل لو عُرض أحدهم على السّيف لم يقرّ بأنّه مشرك بالله، ولا فاعل لما هو شرك، ولو علم أدنى علم أنّ ذلك شرك لم يفعله! قلتُ: الأمر كما قلتَ، ولكنّ الأمر لا يخفى عليك، كما تقرّر في أسباب الرّدّة: أنّه لا يُعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله مَن جاء بلفظ كفريّ أو فعل فعلًا كفريًّا. وعلى كل حال؛ فالواجب على من اطّلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال التي اتّصف بها المعتقدون في الأموات: أن يبلّغهم الحُجّة الشّرعيّة، ويبيّن لهم ما أمره الله بيانه، وأخذ عليه الميثاق أن لا يكتمه؛ كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز؛ فيقول لمَن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث بهم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النّذور، وينحر لهم النّحور، ويعظّمهم تعظيم الرّبّ ـ سبحانه ـ: إنّ هذا الذي يفعلونه هو الشّرك الذي كانت عليه الجاهليّة، وهو الذي بعث الله رسوله بهدمه، وأنزل كتبه في ذمّه، وأخذ على النّبيّين أن يبلغوا عباده أنّهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التّوحيد ويعبدوه وحده؛ فإذا علموا بهذا علمًا لا يبقى معه شكّ ولا شبهة، ثم أصرّوا على ما هم فيه من الطّغيان والكفر بالرحمن؛ وجب عليه أن يخبرهم بأنّهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهداية؛ فقد حلّت دماؤهم وأموالهم، فإن رجعوا؛ وإلّا فالسّيف هو الحكم العدل؛ كما نطق به الكتاب والسُّنّة في إخوانهم من المشركين! فإن قلتَ: فقد ورد الحديث الصّحيح بأنّ الخلائق يوم القيامة يأتون آدم فيدعونه

ويستغيثونه به، ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمّدا صلى الله عليه وسلم. قلتُ: أهل المحشر إنّما يأتون هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله ـ سبحانه ـ ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف. وهذا جائز؛ فإنّه مَن طلب الشّفاعة والدُّعاء المأذون فيهما؛ وقد كان الصّحابة يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم؛ كما في الحديث: «يا رسول الله؛ ادعُ الله أن يجعلني منهم» ـ لمّا أخبرهم بأنّه يدخل الجنّة سبعون ألف ـ، وحديث: «سبقك بها عكّاشة» ، وقول أم سليم: «يا رسول الله؛ [خادمك أنس، ادعُ الله له» ، وقول المرأة التي كانت تُصره: «يا رسول الله؛] ادعُ الله لي» ، [وآخر الأمر] سألته الدُّعاء بأن لا تنكشف عند الصّرع؛ فدعا لها. ومنه: إرشاده صلى الله عليه وسلم لجماعة من الصّحابة بأن يطلبوا الدُّعاء من أويس القرنيّ

طلب الدعاء من الحي جائز

[الدُّعاء] إذا أدركوه. ومنه: ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، وغير ذلك مما لا يحصر، حتى إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر ـ لمّا خرج معتمرًا ـ: «لا تنسني يا أخيّ من دعائك» . فمَن جاء إلى رجل صالح واستمدّ منه أن يدعو له؛ فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات؛ بل هو سُنّة حسنة، وشريعة ثابتة، وهكذا طلب الشّفاعة ممّن جاءت الشّريعة المطهرة بأنّه من أهلها ـ كالأنبياء ـ؛ ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة: «سَل تُعطه، واشْفع تُشفّع» ، وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله به؛ كما في كتابه العزيز. والحاصل: أنّ طلب الحوائج من الأحياء جائز إذا كانوا يقدرون عليها، ومن ذلك: الدُّعاء؛ فإنّه يجوز استمداده من كلّ مسلم ـ بل يحسن ذلك ـ، وكذلك الشّفاعة من أهلها الذين ورد الشّرع بأنّهم يشفعون. ولكن ينبغي أن يعلم [أنّ] دعاء مَن يدعو له لا ينفع إلَّا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك [شفاعة] مَن يشفع لا تكون إلَّا بإذن الله ـ كما ورد بذلك القرآن العظيم ـ؛ فهذا تقييد للمطلق، لا ينبغي العدول عنه بحال. واعلم أنّ من الشّبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات: أنّهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهليّة؛ لأنّهم إنّما يعتقدون في الأولياء والصّالحين، وأولئك

نماذج لما وقع فيه الغلاة من الالتجاء لغير الله

اعتقدوا في الأوثان والشّياطين! وهذه الشّبهة داحضة، تنادي على صاحبها بالجهل؛ فإنّ الله ـ سبحانه ـ لم يعذر مَن اعتقد في عيسى ـ عليه السّلام ـ، وهو نبيّ من الأنبياء؛ بل خاطب النّصارى بتلك الخطابات القرآنيّة؛ ومنها: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلَّا الحقّ إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله} ، وقال لمن كان يعبد الملائكة: {ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت وليّنا من دونهم} ، ولا شكّ أنّ عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصّالحين الذين صار هؤلاء القبوريّون يعتقدونهم ويغلون في شأنهم، مع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكرم الخلق على الله، وسيّد ولد آدم؛ وقد نهى أُمّته أن يغلو فيه كما غلت النّصارى في عيسى [ـ عليه السّلام ـ] ، ولم يتمثلوا [أمره، ولم يمتثلوا] ما ذكره الله في كتابه العزيز من قوله: {ليس لكَ من الأمر شيء} ، ومن قوله: {وما أدراك ما يوم الدِّين * ثمّ ما أدراك ما يوم الدِّين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} ، وما حكاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وما قاله صلى الله عليه وسلم لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} ؛ فقام داعيًا لهم ومخاطبًا لكلّ واحد منهم؛ قائلًا: «يا فلان بن فلان؛ لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فلانة بنت فلان؛ لا أغني عنكِ شيئًا. يا بني فلان؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا» . فانظر ـ رحمك الله ـ ما وقع من كثير من هذه الأُمّة من الغُلُوّ المنهيّ عنه، المخالف لما في كتاب الله وسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما يقول صاحب «البردة» ـ رحمه الله تعالى ـ ما

نصّ هذا البيت: يا أكرم الخلق ما لي مَن ألوذُ به ... سواكَ عند حلول الحادث العمم! فانظر كيف نفى كلّ ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وغفل عن ذكر ربّه وربّ نبيّه؛ إنّا لله وإنّا إليه راجعون. وهذا باب واسع، قد تلاعب الشّيطان بجماعة من أهل الإسلام؛ حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشّرك في أبواب بكثير من الأسباب؛ ومن ذلك: قول مَن يقول مخاطبًا لابن العجيل: هات لي منك يا ابن موسى إغاثة ... عاجلًا في سيرها حثاثة! فهذا محض الاستغاثة ـ التي لا تصلح لغير الله ـ لميّت من الأموات قد صار تحت أطباق الثّرى منذ مئين من السّنين! ويغلب على الظنّ أنّ مثل هذا البيت والبيت الذي قبله؛ إنّما وقعا من قائليهما لغفلة وعدم تيقّظ، ولا مقصد لهما إلَّا تعظيم جانب النّبوّة والولاية، ولو نُبّها لتنبّها ورجعا وأقرّا بالخطأ، وكثيرًا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة؛ وقد سمعنا ورأينا. فمَن وقف على [شيء من] هذا الجنس لحيّ من الأحياء؛ فعليه إيقاظه بالحُجَج الشّرعيّة؛ فإن رجع؛ وإلَّا كان الأمر فيه كما أسلفناه. وأمّا إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثّرى؛ فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل، وقد وقع في

من أسباب الوقوع في الشرك إطباق الناس وتوارث الأجيال

«البردة» و «الهمزيّة» شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضا لمَن تصدّى لمدح نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ولمدح الصّالحين والأئمّة الهادين ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلّق بالاستكثار منه فائدة؛ فليس المراد إلَّا التّنبيه والتّحذير لمَن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد؛ {وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين} ، {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنتَ الوهّاب} . واعلم أنّ ما حرّرناه وقرّرناه من أنّ كثيرًا ممّا يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركًا قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفيًّا في نفسه؛ بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير وشبّ [عليه] الصّغير، وهو يرى ذلك [ويسمعه] ، ولا [يرى ولا] يسمع مَن ينكره، بل ربّما يسمع مَن يُرغّب فيه ويندب النّاس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشّيطان للنّاس من قضاء حوائج مَن قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة وللعامّة فيهم اعتقاد، وربّما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون النّاس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميّت؛ ليستجلبوا منهم النّذور، ويستدرّوا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النّحائر، ويستخرجوا من عوامّ النّاس ما يعود عليهم وعلى مَن يعولونه، ويجعلوا ذلك مكسبًا ومعاشًا، وربّما يهوّلون على الزّائر لذلك الميّت بتهويلات، ويجمّلون قبره بما يعظم في عين الواصلين إليه، ويوقدون في المشهد الشّموع، ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجمّ؛ فينبهر الزّائر ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القُرب من الميّت، والتّمسّح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والالتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات، ونجاح الطّلبات! مع خضوعهم واستكانتهم، وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف النّحائر! فبمجموع هذه الأمور، مع تطاول الأزمنة وانقراض القرن بعد القرن؛ يظنّ الإنسان ـ في مبادئ عمره وأوائل أيّامه ـ أنّ ذلك من أعظم القربات وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلّمه من العلم بعد ذلك؛ بل يذهل عن كلّ حُجّة شرعيّة تدلّ على أنّ هذا هو الشّرك بعينه،

التقليد للأئمة يورث الغلو فيهم والعصمة لهم

وإذا سمع مَن يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه؛ لأنّه يبعد كلّ البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطّاعات إلى كونه من أقبح المقبّحات وأكبر المحرّمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف ودبّ فيه الأخلاف، وتعاودته العصور وتناوبته الدّهور، وهكذا كلّ شيء يقلّد النّاس فيه أسلافهم، ويحكّمون العادات المستمرة، وبهذه الذّريعة الشّيطانية، والوسيلة الطّاغوتية بقى المشرك من الجاهليّة على شركه، واليهوديّ على يهوديّته، والنّصراني على نصرانيّته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وتبدّلت الأُمّة بكثير من المسائل الشّرعية غيرها، وألفوا ذلك، وتمرّنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم، ووأنسوا إليه حتى لو أراد مَن يتصدّى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشّرعيّة البيضاء النّقيّة التي تبدّلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طباعهم، ونالوا ذلك المرشد بكلّ مكروه، ومزّقوا عرضه بكلّ لسان، وهذا كثير [جدًّا] موجود في كلّ فرقة من الفرق، لا ينكره إلَّا مَن هو عنهم في غفلة. وانظر ـ إن كنتَ ممّن يعتبر ـ ما ابتليت به هذه الأُمّة من التّقليد للأموات في دين الله؛ حتى صارت كلّ طائفة تعمل في جميع مسائل الدين بقول عالم من علماء المسلمين، ولا تقبل قول غيره ولا ترضى به، وليتها وقفت عند عدم القبول والرّضا؛ لكنّها تجاوزت ذلك إلى الحطّ على سائر علماء المسلمين، والوضع من شأنهم، وتضليلهم وتبديعهم والتنفير عنهم، ثم تجاوزوا ذلك إلى التّفسيق والتّكفير، ثم زاد الشّرّ حتى صار أهل كلّ مذهب كأهل ملّة مستقلّة لهم نبيّ مستقلّ ـ وهو ذلك العالم الذي قلّدوه ـ! فليس الشّرع إلَّا ما قال به دون غيره، وبالغوا وغلوا؛ فجعلوا قوله مقدمًا على قول الله ورسوله! وهل بعد هذه الفتنة والمحنة شيء من الفتن والمحن؟! فإن أنكرتَ هذا؛ فهؤلاء المقلّدون على ظهر البسيطة قد ملئوا الأقطار الإسلاميّة؛ فاعمد إلى أهل كلّ مذهب؛ وانظر إلى مسألة من مسائل مذهبهم هي مخالفة لكتاب الله أو لسُنّة رسوله، ثم أرشدهم إلى الرّجوع عنها إلى ما قال الله ورسوله؛ وانظر بماذا يجيبونك! فما أظنّك تنجو من شرّهم، ولا تأمن من مضرّتهم، وقد يستحلّون لذلك دمك ومالك! وأورعهم يستحلّ

عرضك وعقوبتك! وهذا يكفيك ـ إن كان لك فطرة سليمة، وفكرة مستقيمة ـ! فانظر كيف خصّوا بعض علماء المسلمين واقتدوا بهم في مسائل الدّين، ورفضوا الباقين، بل جاوزوا هذا إلى أنّ الإجماع ينعقد بأربعة من علماء هذه الأُمّة، وأنّ الحُجّة قائمة بهم! مع أنّ في عصر كلّ واحد منهم مَن هو أكثر علمًا منه، فضلًا عن العصر المتقدّم على عصره والعصر المتأخّر عن عصره؛ وهذا يعرفه كلّ من يعرف أحوال الناس. ثم تجاوزوا في ذلك إلى أنّه: لا اجتهاد لغيرهم؛ بل هل مقصور عليهم؛ فكأنّ هذه الشّريعة كانت لهم لا حظّ لغيرهم فيها، ولم يتفضل الله على عباده بما تفضّل عليهم، وكل [عالم] عاقل يعلم أنّ هذه المزايا التي جعلوها لهؤلاء الأئمّة ـ رحمهم الله تعالى ـ إن كانت باعتبار كثرة علمهم وزيادته على علم غيرهم؛ فهذا مدفوع عند كلّ مَن له اطّلاع على أحوالهم وأحوال غيرهم؛ فكيف بمَن لم يكن من أتباعهم من المعاصرين لهم والمتقدّمين عليهم والمتأخّرين عنهم؟! [وإن كانت تلك المزايا بكثرة الورع والعبادة؛ فالأمر كما تقدّم؛ فإنّ في معاصريهم والمتقدّمين عليهم والمتأخّرين عنهم] مَن هو أكثر عبادة وورعًا منهم؛ لا ينكر هذا إلَّا مَن لم يعرف تراجم الناس بكتب التّواريخ. [وإن كانت تلك المزايا بتقدّم عصورهم؛ فالصّحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتّابعون أقدم منهم عصرًا بلا خلاف، وهم أحقّ بهذه المزايا ممّن بعدهم؛ لحديث: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ] . وإن كانت تلك المزايا لأمر عقليّ؛ فما هو؟ أو لأمر شرعي؛ فأين هو؟ ولا ننكر أنّ الله قد جعلهم بمحلّ من العلم والورع وصلابة الدِّين، وأنّهم من أهل السّبق في

الفضائل والفواضل، ولكنّ الشّأن في المتعصّب لهم من أتباعهم القائل: إنّه لا يجوز تقليد غيرهم، ولا يعتدّ بخلافه إن خالف، ولا يجوز لأحد من علماء المسلمين أن يخرج عن تقليدهم ـ وإن كان عارفًا بكتاب الله وسُنّة رسوله، قادرًا على العمل بما فيهما، متمكّنًا من استخراج المسائل الشّرعيّة منهما ـ! فلم يكن مقصودنا إلَّا التّعجّب لمَن كان له عقل صحيح وفكر رجيح، وتهوين الأمر عليه فيما نحن بصدده من الكلام على ما يفعله المعتقدون للأموات، وأنّه لا يغترّ العاقل بالكثرة وطول المهلة مع الغفلة؛ فإنّ ذلك لو كان دليلًا على الحقّ؛ لكان ما زعمه المقلّدون المذكورون حقًّا، [ولكان ما يفعله المعتقدون للأموات حقًّا] ! وهذا عارض من القول أوردناه للتّمثيل، ولم يكن من مقصودنا. والذي نحن بصدده هو أّنه: إذا خفي على بعض أهل العلم ما ذكرناه وقرّرناه في حكم المعتقدين للأموات؛ لسبب من أسباب الخفاء التي قدّمنا ذكرها، ولم يتعقّل ما سقناه من الحُجَج البرهانيّة القرآنيّة والعقليّة؛ فينبغي أن تسأله: ما هو الشرك؟ فإن قال: هو أن تتخذ مع الله إلهًا آخر، كما كانت الجاهليّة تتخذ الأصنام آلهة مع الله ـ سبحانه ـ. قيل [له] : وماذا كانت الجاهليّة تصنعه لهذه الأصنام التي اتّخذوها حتى صاروا مشركين؟ فإن قال: كانوا يعظّمونها، ويقرّبون لها، ويستغيثون بها، وينادونها عند الحاجات، وينحرون لها النّحائر، ونحو ذلك من الأفعال الدّاخلة في مسمّى العبادة. فقل له: لأيّ شيء كانوا يفعلون لها ذلك؟ فإن قال: لكونها الخالقة الرّازقة أو المحيية أو المميتة؛ فاقرأ [عليه] ما قدّمنا لك من البراهين القرآنيّة؛ المصرّحة بأنّهم مقرّون بأنّ الله الخالق الرّازق المحيي المميت، وأنّهم إنّما عبدوها لتقرّبهم إلى الله زلفى، وقالوا: هم شفعاؤهم عند الله، ولم يعبدوها لغير ذلك؛ فإنّه سيوافقك ولا محالة إن كان يعتقد أنّ كلام الله حقّ. وبعد أن

ما نسب للصنعاني من أنه رجع عن مدحه للشيخ ابن عبد الوهاب وبيان ضعفه وبطلانه

يوافقك أوضح له أنّ المعتقدين في القبور قد فعلوا هذه الأفعال أو بعضها على الصّفة التي قرّرناها وكرّرناها في هذه الرّسالة؛ فإنه إن بقى فيه بقيّة من إنصاف وبارقة من علم وحصّة من عقل؛ فهو ـ لا محالة ـ يوافقك، وتنجلي عنه الغمرة، وتنقشع عن قلبه سحائب الغفلة، ويعترف بأنّه كان في حجاب عن معنى التّوحيد الذي جاءت به السُّنّة والكتاب. فإن زاغ عن الحقّ وكابر وجادل في مكابرته ومجادلته بشيء من الشّبه؛ فادفعه بالدّفع الذي قد ذكرناه فيما سبق؛ فإنّا لم ندع شبهة يمكن أن يدّعيها مدع إلَّا وقد أوضحنا أمرها، وإن لم يأت بشيء في جداله ـ بل اقتصر على مجرّد الخصام والدّفع المجرّد لما أوردته عليه من الكلام ـ؛ فاعدل معه عن حُجّة اللّسان بالبرهان والقرآن إلى محجّة السّيف والسّنان؛ فآخر الدّواء الكي! هذا إذا لم يمكن دفعه بما [هو] دون ذلك من الضّرب والحبس والتّعزير؛ فإن أمكن وجب تقديم الأخفّ على الأغلظ؛ عملًا بقوله ـ تعالى ـ: {فقولا له قولًا ليّنًا لعلّه يتذكّر أو يخشى} وبقوله ـ تعالى ـ: {ادفع بالتي هي أحسن} . ومن جملة الشّبه التي عرضت لبعض أهل العلم: ما جزم به السّيّد العلّامة محمّد بن إسماعيل الأمير ـ رحمه الله تعالى ـ في شرحه لأبياته التي يقول في أولها: رجعتُ عن النّظم الذي قلتُ في النّجديّ

شبهة وجوابها: هل دعاء الأموات شرك اعتقادي أم عملي؟

فإنّه قال: إنّ كفر هؤلاء المعتقدين للأموات هو من الكفر العمليّ لا الكفر الجحوديّ، ونقل ما ورد في كفر تارك الصلاة ـ كما ورد في الأحاديث الصّحيحة ـ، وكفر تارك الحجّ ـ كما في قوله (تعالى) : {ومَن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين} ـ، وكفر مَن لم يحكم بما أنزل الله ـ كما في قوله (تعالى) : {ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ـ، ونحو ذلك من الأدِلّة الواردة فيمَن زنى، وفيمَن سرق، ومَن أتى امرأة حائضًا، أو امرأة في دبرها، أو أتى كاهنًا أو عرّافًا، أو قال لأخيه: يا كافر. قال: فهذه الأنواع من الكفر ـ وإن أطلقها الشّارع على فعل هذه الكبائر ـ فإنّه لا يخرج به العبد عن الإيمان ويفارق به الملّة ويباح به دمه وماله وأهله ـ كما ظنّه من لم يفرق بين الكفرين و [لم يميّز] بين الأمرين ـ، وذكر ما عقده البخاريّ في «صحيحه» من كتاب الإيمان في: «كفر دون كفر» ، وما قاله العلّامة ابن القيّم: إنّ الحكم بغير ما أنزل الله

تقسيم ابن القيم الكفر إلى: عملي واعتقادي

وترك الصّلاة من الكفر العمليّ؛ وتحقيقه: أنّ الكفر: كفر عمل وكفر جحود وعناد؛ فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أنّ الرّسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا؛ فهذا الكفر يضادّ الإيمان من كلّ وجه، وأمّا كفر العمل فهو نوعان: نوع يضادّ الإيمان، ونوع لا يضادّه. ثم نقل عن ابن القيّم كلامًا في هذا المعنى، ثم قال السّيد المذكور: قلتُ: ومن هذا ـ يعني: الكفر العمليّ ـ: مَن يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشّدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبّل جداراتها، وينذر لها بشيء من ماله؛ فإنّه كفر عمليّ لا اعتقاديّ؛ فإنّه مؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وباليوم الآخر، لكن زيّن له الشّيطان أنّ هؤلاء عباد الله الصّالحين ينفعون ويشفعون ويضرّون؛ فاعتقدوا ذلك كما اعتقده أهل الجاهليّة في الأصنام، لكنّ هؤلاء مثبتون التّوحيد لله، لا يجعلون الأولياء آلهة، كما قاله الكفار إنكارًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا دعاهم إلى كلمة التّوحيد: {أجعل الآلهة إلهًا واحدًا} ؛ فهؤلاء جعلوا لله شركاء حقيقة؛ فقالوا في التّلبية: «لبّيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك» ؛ [فأثبتوا للأصنام شركة مع ربّ الأنام، وإن كانت عباراتهم الضالّة قد أفادت أنّه لا شريك له] ؛لأنّه إذا كان يملكه وما ملك فليس بشريك له ـ تعالى ـ؛ بل هو مملوك؛ فعبّاد الأصنام الذين جعلوا لله أندادًا واتّخذوا من دونه شركاء ـ وتارة يقولون: شفعاء ـ يقرّبونهم إلى الله زلفى، بخلاف جهلة المسلمين الذين اعتقدوا في أوليائهم النّفع والضّرّ؛ فإنّهم مقرّون لله بالوحدانيّة وإفراده بالإلهيّة، وصدّقوا رسله؛ فالذي أتوه من تعظيم الأولياء كفر عمل لا اعتقاد. فالواجب:

وعظهم وتعريفهم جهلَهم وزجرهم ولو بالتعزير؛ كما أُمرنا بحدّ الزّاني وشارب الخمر والسّارق من أهل الكفر العمليّ. إلى أن قال: فهذه كلّها قبائح محرّمة من أعمال الجاهليّة؛ فهو من الكفر العمليّ، وقد ثبت أنّ هذه الأُمّة تفعل أمورًا من أمور الجاهليّة هي من الكفر العمليّ؛ كحديث: «أربع من أُمّتي من أمر الجاهليّة لا يتركوهنّ: الفخر في الأحساب، والطّعن في الأنساب، والاستسقاء بالنّجوم، والنّياحة» ، أخرجه مسلم في «صحيحه» ، من حديث أبي مالك الأشعريّ. فهذه من الكفر العمليّ، لا تخرج بها الأُمة عن الملّة؛ بل هم ـ مع إتيانهم بهذه الخصلة الجاهليّة ـ أضافهم إلى نفسه؛ فقال: «من أُمّتي» . فإن قلتَ: [أهل] الجاهليّة تقول في أصنامها: إنّهم يقرّبونهم إلى الله زلفى، ـ كما يقوله القبوريّون ـ، {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ـ كما يقوله القبوريّون ـ. قلتُ: لا سواء؛ فإنّ القبوريّين مثبتون التّوحيد لله، قائلون إنّه (لا إله إلَّا هو) ، ولو ضربت عنقه على أن يقول: إن الوليّ إله مع الله؛ لما قالها؛ بل عنده اعتقاد جهل أنّ الوليّ لمّا أطاع الله كان له بطاعته عنده جاه به تقبل شفاعته ويرجى نفعه، لا أنّه إله مع الله، بخلاف الوثنيّ؛ فإنّه امتنع عن قول (لا إله إلَّا الله) حتى ضربت عنقه، زاعمًا أنّ وثنه إله مع الله، ويسميه ربًّا وإلهًا؛ [قال يوسف ـ عليه السلام ـ: {أأرباب متفرّقون خير أم الله الواحد القهار} ؛ سمّاهم (أربابًا) ؛ لأنّهم كانوا يسمّونهم بذلك؛ كما قال الخليل: {هذا ربّي} في الثّلاث الآيات؛ مستفهمًا لهم مبكّتًا متكلّمًا على خطابهم

حيث يسمّون الكواكب أربابًا، وقالوا: {أجعل الآلهة إلهًا واحدا} ، وقال [قوم] إبراهيم: {مَن فعل هذا بآلهتنا} ، {أانت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} ، وقال إبراهيم: {أإفكًا آلهة دون الله تريدون} . ومن هنا يُعلم أنّ الكفار غير مقرّين بتوحيد الإلهيّة والربوبيّة؛ كما توهّمه من توهّم من قوله: {ولئن سألتهم مَن خلقهم ليقولنّ [الله} ، {ولئن سألتهم مَن خلق السّموات والأرض ليقولنّ] خلقهنّ العزيز العليم} ، {قل مَن يرزقكم من السّماء والأرض} إلى قوله: {فسيقولون الله} ؛ فهذا إقرار بتوحيد الخالقيّة والرازقيّة ونحوهما، لا أنّه إقرار بتوحيد الإلهيّة؛ لأنّهم يجعلون أوثانهم أربابًا ـ كما عرفتَ ـ؛ فهذا الكفر الجاهليّ كفر اعتقاد؛ ومن لازمه: كفر العمل، بخلاف مَن اعتقد في الأولياء النّفع والضّرّ مع توحيد الله والإيمان به وبرسله وباليوم الآخر؛ فإنّه كفر عمل. فهذا تحقيق بالغ وإيضاح لما هو الحقّ من غير تفريط ولا إفراط. انتهى كلام السّيّد المذكور ـ رحمه الله ـ.

وأقول: هذا الكلام ـ في التّحقيق ـ ليس بتحقيق بالغ؛ بل كلام متناقض متدافع، وبيانه: أنّه لا شك أن الكفر ينقسم إلى: كفر اعتقاد، وكفر عمل، لكن دعوى أنّ ما يفعله المعتقدون في الأموات من كفر العمل في غاية الفساد؛ فإنّه قد ذكر هذا البحث أنّ كفر مَن اعتقد في الأولياء [كفر عمليّ، وهذا عجيب؛ كيف يقول كفر مَن يعتقد في الأولياء] ، ويسمي ذلك اعتقادًا، ثم يقول: إنّه من الكفر العمليّ؟! وهل هذا إلَّا التّناقض البحت، والتّدافع الخالص؟! انظر كيف ذكر في أوّل البحث أنّ كفر مَن يدعو الأولياء، ويهتف بهم عند الشّدائد، ويطوف بقبورهم، ويقبل جداراتها، وينذر لها بشيء من ماله هو كفر عمليّ؟! فليتَ شعري! ما هو الحامل له على الدُّعاء والاستغاثة وتقبيل الجدارات ونذر النّذورات؟! هل هو مجرّد اللّعب والعبث من غير اعتقاد؟! فهذا لا يفعله إلَّا مجنون، أم الباعث عليه الاعتقاد في الميّت؟! فكيف لا يكون هذا من كفر الاعتقاد؛ الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال؟! ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنّه كفر عمل ـ لا كفر اعتقاد ـ بقوله: «لكن زيّن له الشّيطان أنّ هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون؛ فاعتقد ذلك جهلًا كما اعتقده أهل الجاهليّة في الأصنام» ! فتأمّل كيف حكم بأنّ هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهليّة، وأثبت الاعتقاد، واعتذر عنهم بأنّه اعتقاد جهل؟! وليتَ شعري! أيّ فائدة لكونه اعتقاد جهل؛ فإنّ طوائف الكفر بأسرها وأهل الشّرك قاطبة إنّما حملهم على الكفر ودفع الحق والبقاء على الباطل: الاعتقاد جهلًا، وهل يقول قائل: إنّ اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذرًا لإخوانهم المعتقدين في الأموات، ثم تمّم الاعتذار بقوله: «ولكن هؤلاء مثبتون للتّوحيد ... » إلى آخر ما ذكر. ولا يخفاك أنّ هذا عذر باطل؛ فإنّ إثباتهم للتّوحيد إن كان بألسنتهم فقط؛ فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنّصارى والمشركون والمنافقون، وإن كان بأفعالهم؛ فقد اعتقدوا في

الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم. ثم كرر هذا المعنى في كلامه، وجعله السّبب في رفع السّيف عنهم، وهو باطل؛ فما ترتب عليه مثله باطل؛ فلا نطول برده. بل هؤلاء القبوريّون قد وصلوا إلى حدّ في اعتقادهم في الأموات لم يبلغه المشركون في اعتقادهم في أصنامهم؛ وهو: أنّ الجاهليّة كان إذا مسّهم الضّرّ دعوا الله وحده، وإنّما يدعون أصنامهم مع عدم نزول الشّدائد من الأمور؛ كما حكاه الله عنهم بقوله: {وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ مَن تدعون إلَّا إيّاه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفورًا} ، وبقوله ـ تعالى ـ: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم السّاعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين} ، وبقوله ـ تعالى ـ: {وإذا مسّ الإنسان ضرّ دعا ربّه منيبًا إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل} ، وبقوله ـ تعالى ـ: {وإذا غشيهم موج كالظّلل دعوا الله مخلصين له الدّين} ، بخلاف المعتقدين في الأموات؛ فإنّهم إذا دهمتهم الشّدائد استغاثوا بالأموات ونذروا لهم النّذور، وقلّ مَن يستغيث بالله ـ سبحانه ـ في تلك الحال؛ وهذا يعلمه كلّ مَن له بحث عن أحوالهم؛ ولقد أخبرني بعض مَن ركب البحر للحجّ أنّه اضطرب اضطرابًا شديدًا؛ فسمع من أهل السّفين من الملّاحين وغالب الرّاكبين معهم؛ ينادون الأموات ويستغيثون بهم، ولم يسمعهم يذكرون الله قط! قال: ولقد خشيتُ في تلك الحال الغرق؛ لما شاهدته من الشّرك بالله. وقد سمعنا عن جماعة من أهل البادية المتّصلة بصنعاء: إنّ كثيرًا منهم إذا حدث له ولد؛ جعل قسطًا من ماله لبعض الأموات المعتقدين، ويقول: إنّه قد اشترى ولده من ذلك الميّت الفلانيّ بكذا، فإذا عاش حتى يبلغ سنّ الاستقلال؛ دفع ذلك الجُعل لمَن يعتكف على قبر ذلك الميّت من المحتالين لكسب الأموال. وبالجملة: فالسّيّد المذكور ـ رحمه الله ـ قد جرّد النّظر في بحثه السّابق إلى الإقرار بالتّوحيد الظّاهريّ، واعتبر مجرد التّكلّم بكلمة التّوحيد [فقط، من دون نظر إلى ما ينافي ذلك من أفعال المتكلّم بكلمة التّوحيد] ، ويخالفه من اعتقاده الذي صدرت

الشرك الأكبر

عنه تلك الأفعال المتعلّقة بالأموات، وهذا الاعتبار لا ينبغي التّعويل [عليه] ولا الاشتغال به؛ فالله ـ سبحانه ـ إنّما ينظر إلى القلوب وما صدر من الأفعال عن اعتقاد لا إلى مجرّد الألفاظ؛ وإلَّا لما كان هناك فرق بين المؤمن والمنافق. وأمّا ما نقله السّيد المذكور ـ رحمه الله ـ عن ابن القيّم في أول كلامه من تقسيم الكفر إلى عمليّ واعتقاديّ؛ فهو كلام صحيح؛ وعليه جمهور المحقّقين، ولكن لا يقول ابن القيم ولا غيره: إنّ الاعتقاد في [الأموات] على الصّفة التي ذكرها هو من الكفر العلميّ. وسننقل ـ ههنا ـ كلام ابن القيم في أنّ ما يفعله المعتقدون في الأموات من الشّرك الأكبر، كما نقل عنه السّيّد ـ رحمه الله ـ في كلامه السّابق، ثم نتبع ذلك بالنّقل عن بعض أهل العلم؛ فإنّ السائل ـ كثّر الله فوائده ـ قد طلب ذلك في سؤاله؛ فنقول: قال ابن القيّم في شرح «المنازل» ـ في باب: التوبة ـ: وأمّا الشّرك فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فالأكبر لا يغفره الله إلَّا بالتوبة منه، وهو أن يتّخذ من دون الله ندًّا يحبّه كما يحبّ الله، بل أكثرهم يحبّون آلهتهم أعظم من محبّة الله، [ويغضبون] لمنتقص معبودهم من المشايخ أعظم ممّا يغضبون إذا انتقص أحد ربّ العالمين، وقد شاهدنا [هذا] نحن وغيرنا منهم جهرة، ونرى أحدهم اتّخذ ذكر معبوده على لسانه إن قام وإن قعد وإن عثر، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنّه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده. وهكذا كان عبّاد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتّخذها من البشر؛ قال الله ـ تعالى ـ حاكيًا عن أسلاف هؤلاء: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى إنّ الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي مَن هو كاذب كفّار} ؛ فهكذا

حال مَن اتّخذ من دون الله وليًّا يزعم أنّه يقرّبه إلى الله ـ تعالى ـ، [وما أعزّ مَن تخلّص من هذا، بل ما أعزّ مَن لا] يعادي مَن أنكره، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين أنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشّرك، وقد أنكر الله ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أنّ الشّفاعة كلّها له. ثم ذكر الآية التي في سورة سبأ؛ وهي: قوله ـ تعالى ـ: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرّة في السّموات ولا في الأرض} وتكلّم عليها، ثم قال: والقرآن مملوء من أمثالها، ولكنّ أكثر النّاس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، ويظنّه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن؛ كما قال عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ: «إنّما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام مَن لا يعرف الجاهليّة» ؛ وهذا لأنّه إذا لم يعرف الشّرك وما عابه القرآن وذمّه؛ وقع فيه وأقرّه، وهو لا يعرف أنّه الذي كان عليه الجاهليّة فتُنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سُنّة والسُّنّة بدعة، ويكفّر الرّجل بمحض الإيمان وتجريد التّوحيد، ويبدّع بتجريد متابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع، ومَن له بصيرة وقلب [حيّ] يرى ذلك عيانًا. والله المستعان. ثم قال في ذلك الكتاب:

الشرك الأصغر

فصل وأمّا الشّرك الأصغر فكيسير: الرياء، والحلف بغير الله، وقول: هذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي إلَّا الله وأنتَ، وأنا متوكّل على الله وعليك، ولولا أنتَ لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده. ثم قال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ في ذلك الكتاب، بعد فراغه من ذكر الشّرك الأكبر والأصغر والتّعريف لهما: ومن أنواع الشّرك: سجود المريد للشّيخ. ومن أنواعه: التّوبة للشّيخ؛ فإنّها شرك عظيم. ومن أنواعه: النّذر لغير الله، والتوكّل على غير الله، والعمل لغير الله، والإنابة والخضوع والذّلّ لغير الله، وابتغاء الرّزق من عند غير الله، وإضافة نعمة إلى غيره. ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتّوجّه إليهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإنّ الميّت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلًا عمّن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشّافع والمشفوع عنده؛ فإنّ الله ـ تعالى ـ لا يشفع عنده أحد إلَّا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه؛ وإنّما السّبب [لإذنه] كمال التّوحيد؛ فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن. والميّت محتاج إلى مَن يدعو له؛ كما أوصانا النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحّم عليهم، ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا؛ وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانًا تُعبد؛ فجمعوا بين الشّرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التّوحيد، ونسبتهم إلى التّنقّص بالأموات، وهم قد تنقّصوا الخالق بالشّرك، وأولياءه الموحّدين بذمّهم ومعاداتهم، وتنقّصوا مَن أشركوا به غاية التّنقّص؛ إذ ظنّوا أنّهم راضون منهم بهذا، وأنّهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرّسل في كلّ زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم، ولله درّ خليله إبراهيم؛ حيث يقول: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام ربّ إنّهنّ أضللن كثيرًا من النّاس} ، وما نجا من شرك هذا الشّرك الأكبر إلَّا مَن جرّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرّب بمقتهم إلى الله. انتهى كلام ابن القيّم [ـ رحمه الله تعالى ـ] . فانظر كيف صرّح بأنّ ما يفعله هؤلاء المعتقدون في الأموات هو شرك أكبر، بل

كلام الأئمة في التحذير من دعاء غير الله

أصل شرك العالم، وما ذكره من المعاداة لهم فهو صحيح؛ {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون مَن حادّ الله ورسوله} ، {يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء} إلى قوله: {كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده} . وقال شيخ الإسلام تقيّ الدِّين ـ في الإقناع ـ: إنّ مَن دعا ميّتًا ـ وإن كان من الخلفاء الراشدين ـ؛ فهو كافر، وإنّ مَن شكّ في كفره فهو كافر. وقال أبو الوفاء ابن عقيل ـ في «الفنون» ـ: لما صعبت التّكاليف على الجهّال والطّغام؛ عدلوا عن أوضاع الشّرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها؛ فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، و [هم] عندي كفّار بهذه الأوضاع؛ مثل: تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرّقاع فيها: يا مولاي؛ افعل لي كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر؛ اقتداء بمَن عبد اللات والعزى. انتهى. وقال ابن القيّم ـ رحمه الله ـ، في «إغاثة اللهفان» ، في إنكار تعظيم القبور: وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين إلى أن صنّف بعض غلاتهم كتابًا سماه «مناسك المشاهد» ، ولا يخفى أنّ هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبّاد الأصنام. انتهى. وهذا الذي أشار إليه هو: ابن المفيد. وقال في «النّهر الفائق» : اعلم أنّ الشّيخ قاسم

قول النووي وابن حجر المكي

قال في شرحه [ «شرح] درر البحار» : إنّ النّذر الذي يقع من أكثر العوامّ بأن يأتي إلى قبر بعض الصّلحاء قائلًا: يا سيدي فلان؛ إن رُدّ لي غائبي أو عُوفي مريضي؛ فلك من الذّهب والفضّة، أو الشّمع، أو الزّيت، أو الشّياه كذا؛ باطل إجماعًا؛ لوجوه. إلى أن قال: ومنها: ظنّ أنّ الميّت يتصرّف في الأمر، واعتقاد هذا كفر. انتهى. وهذا القائل هو من أئمّة الحنفيّة، وتأمّل ما أفاده من حكاية الإجماع على بطلان النّذر المذكور، وأنّه كفر عنده مع ذلك الاعتقاد. وقال صاحب «الرّوضة» : إنّ المسلم إذا ذبح للنّبيّ صلى الله عليه وسلم كفر. انتهى. وهذا القائل من [أئمّة] الشّافعيّة، وإذا كان الذّبح لسيّد الرّسل كفرًا عنده؛ فكيف بالذّبح لسائر الأموات؟! وقال ابن حجر في «شرح الأربعين» له: «مَن دعا غير الله فهو كافر» . انتهى. وقال شيخ الإسلام تقيّ الدّين ـ رحمه الله تعالى ـ في «الرّسالة السّنيّة» : إنّ كلّ مَن غلا في نبيّ أو رجل صالح، وجعل فيه نوعًا من الإلهيّة؛ مثل: أن يقول: يا سيدي فلان؛ أغثني، أو: ارزقني، أو: اجبرني، وأنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال؛ فكلّ هذا شرك وضلال؛ يُستتاب صاحبه؛ فإن تاب وإلَّا قُتل؛ فإنّ الله إنّما أرسل الرّسل وأنزل الكتب

ليُعبد وحده، لا يُجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى ـ مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام ـ لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النّبات؛ وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون: إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى؛ {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} ، فبعث الله رسله تنهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، وقال ـ تعالى ـ: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضّرّ عنكم ولا تحويلًا * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب} الآية. قال طائفة من السّلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرًا والملائكة. ثم قال في ذلك الكتاب: وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدّين، وهو التّوحيد الذي بعث الله به الرّسل وأنزل به الكتب؛ قال الله ـ تعالى ـ: {ولقد بعثنا في كلّ أُمّة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوت} ، وقال ـ تعالى ـ: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلَّا نوحي إليه أنّه لا إله إلَّا أنا فاعبدون} ، وكان صلى الله عليه وسلم يحقّق التّوحيد ويعلّمه أُمّته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئتَ؛ قال: «أجعلتني لله ندًّا؟ بل: ما شاء الله وحده» ، ونهى عن الحلف بغير الله، [و] قال: «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» ، وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: «لعن الله اليهود والنّصارى؛ اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ؛ يحذّر ما فعلوا، وقال صلى الله عليه وسلم: [ «اللهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد» ، وقال صلى الله عليه وسلم] : «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلّوا علىّ حيث ما كنتُم؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» . ولهذا اتّفق أئمّة الإسلام على أنّه لا يُشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصّلاة عندها؛ وذلك [لأنّ] من أكثر الأسباب لعبادة الأوثان كانت تعظيم القبور؛

ولهذا اتّفق العلماء على أنّ مَن سلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند قبره أنّه لا يتمرّغ بحُجرته ولا يقبّلها؛ لأنّه إنّما يكون لأركان بيت الله فلا يشبّه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كلّ هذا لتّحقيق التّوحيد الذي هو أصل الدِّين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملًا إلَّا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمَن تركه؛ [كما] قال الله ـ تعالى ـ: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومَن يُشرك بالله فقد افترى إثمًا عظيمًا} ؛ ولهذا كانت كلمة التّوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {الله لا إله إلَّا هو الحيّ القيّوم} ، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن كان آخر كلامه (لا إله إلَّا الله) دخل الجنّة» ، والإله هو الذي يألهه القلب عبادة له واستغاثة به ورجاء له وخشية وإجلالًا. انتهى. وقال أيضًا شيخ الإسلام تقيّ الدّين بن تيميّة ـ رحمه الله ـ، في كتابه «اقتضاء الصّراط المستقيم» ، في الكلام على قوله: {وما أُهِلّ به لغير الله} : وإنّ ظاهره: أنّه ما ذُبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أنّ ما ذبحناه متقرّبين به إلى الله كان أزكى ممّا ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله؛ فإنّ عبادة الله بالصّلاة والنّسك له أعظم من الاستغاثة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرّبًا إليه يحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأُمّة، وإن كان هؤلاء مرتدّين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذّبيحة

مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذّبح للجنّ. ثم قال في موضع آخر من هذا الكتاب: إنّ العلّة في النّهي عن الصلاة عند القبور: ما يفضي إليه ذلك من الشّرك؛ ذكر ذلك الإمام الشّافعيّ ـ رحمه الله تعالى ـ وغيره، وكذلك الأئمّة من أصحاب أحمد ومالك ـ كأبي بكر الأثرم ـ علّلوا بهذه العلة. انتهى. وكلامه في هذا الباب واسع جدًّا، وكذلك كلام غيره من أهل العلم. وقد تكلّم جماعة من أئمّة أهل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ ومن أتباعهم ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة بما يشفي ويكفي، ولا يتّسع المقام لبسطه، وآخر مَن كان منهم نكالًا على القبوريّين وعلى القبور الموضوعة على غير الصّفة الشّرعيّة مولانا الإمام المهديّ العبّاس بن الحسين بن القاسم ـ رحمه الله ـ؛ فإنّه بالغ في هدم المشاهد التي كانت فتّنة للنّاس وسببًا لضلالهم، وأتى على غالبها، ونهي النّاس عن الاجتماع والعكوف عليها؛ فهدمها، ومَن كان في عصره من أكابر العلماء ترسّلوا إليه برسائل، وكان ذلك هو الحامل له على نصرة الدّين بهدم طواغيت القبوريّين. وبالجملة؛ فقد رسدنا من أدِلّة الكتاب والسُّنّة ـ فيما سبق ـ ما لا يحتاج معه إلى الاعتضاد بقول أحد من أهل العلم، ولكنّا ذكرنا ما حرّرناه من أقوال أهل العلم مطابقة [لما طلبه السّائل ـ كثّر الله فوائده ـ. وبالجملة؛ فإخلاص التّوحيد هو الأمر الذي بعث الله

سورة الفاتحة كل آية فيها تفيد التوحيد والإخلاص

لأجله الرّسل، وأنزل] به كتبه، وفي هذا الإجمال ما يغني عن التّفصيل، ولو أراد رجل أن يجمع ما ورد في هذا المعنى من الكتاب والسُّنّة؛ لكان مجلّدًا ضخمًا. انظر فاتحة الكتاب التي تتكرّر في كلّ صلاة مرّات من كلّ فرد من الأفراد، ويفتتح بها التالي لكتاب الله والمتعلّم له؛ فإنّ فيها الإرشاد إلى إخلاص التّوحيد في مواضع: 1ـ فمن ذلك: {بسم الله الرحمن الرحيم} ؛ فإنّ علماء المعاني والبيان ذكروا أنّه يقدّر المتعلّق متأخّرًا ليفيد اختصاص البداية باسمه ـ تعالى ـ لا باسم غيره؛ وفي هذا ما لا يخفى من إخلاص التّوحيد. 2ـ ومنها: [في] قوله: {الحمد لله ربّ العالمين} ؛ فإنّ التّعريف يفيد أنّ الحمد مقصور على الله، واللّام في (لله) تفيد أنّ اختصاص الحمد له؛ ومقتضى هذا أنّه لا حمد لغيره أصلًا، وما وقع منه لغيره فهو في حكم العدم. وقد تقرّر أنّ الحمد هو الثّناء باللّسان على الجميل الاختياري لقصد التّعظيم؛ فلا ثناء إلَّا عليه، ولا جميل إلَّا منه، ولا تعظيم إلَّا له، وفي هذا من إخلاص التّوحيد ما ليس عليه مزيد. 3ـ ومن ذلك: قوله: {مالك يوم الدّين} أو {ملك يوم الدّين} ـ على القراءتين السّبعيّتين ـ؛ فإنّ كونه المالك ليوم الدّين يفيد أنّه لا مُلك لغيره؛ فلا ينفذ إلَّا تصرّفه، لا تصرّف أحد من خلقه، من غير فرق بين نبيّ مرسل وملك مقرّب وعبد صالح، وهكذا معنى كونه مَلِك يوم الدّين؛ فإنّه يفيد أنّ الأمر أمره، والحكم حكمه؛ ليس لغيره معه أمر ولا حكم، كما أنّه ليس لغير ملوك الأرض معهم أمر ولا حكم ـ ولله المثل الأعلى ـ. وقد فسّر الله هذا المعنى الإضافيّ المذكور في فاتحة الكتاب

في موضع آخر من كتابه العزيز؛ فقال: {وما أدراك ما يوم الدّين * ثم ما أدراك ما يوم الدّين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله} ؛ ومَن كان يفهم كلام العرب ونكته وأسراره؛ كفته هذه الآية عن غيرها من الأدِلّة، واندفعت لديه كلّ شبهة. 4ـ ومن ذلك: {إيّاك نعبد} ؛ فإنّ تقديم الضّمير قد صرّح أئمّة المعاني والبيان وأئمّة التّفسير: أنّه يفيد الاختصاص؛ فالعبادة لله ـ سبحانه ـ، ولا يشاركه فيها غيره ولا يستحقّها، وقد عرفتَ أنّ الاستغاثة والدُّعاء والتّعظيم والذّبح والتّقرّب من أنواع العبادة. 5ـ ومن ذلك: قوله {وإيّاك نستعين} ؛ فإنّ تقديم الضّمير ههنا يفيد الاختصاص ـ كما تقدّم ـ؛ وهو يقتضي أنّه لا يشاركه غيره في الاستعانة به في الأمور التي لا يقدر عليها غيره. فهذه خمسة مواضع في فاتحة الكتاب؛ [يفيد كلّ واحد منها: إخلاص التّوحيد. مع أنّ فاتحة الكتاب] ليست إلَّا سبع آيات؛ فما ظنّك بما في سائر الكتاب العزيز؛ فذكرنا لهذه الخمسة المواضع في فاتحة الكتاب كالبرهان على ما ذكرناه من أنّ في الكتاب العزيز من ذلك ما يطول تعداده، وتتعسّر الإحاطة به. 6ـ وممّا يصلح أن يكون موضعًا سادسًا لتلك المواضع الخمسة في فاتحة الكتاب: قوله {ربّ العالمين} ؛ وقد تقرّر ـ لغةً وشرعًا ـ أنّ (العالَم) ما سوى الله ـ سبحانه ـ، وصيغ الحصر إذا تتبعتها من كتب المعاني والبيان والتّفسير والأصول؛ بلغت ثلاث عشرة صيغة فصاعدًا، ومَن شكّ في هذا؛ فليتتبّع «كشّاف» الزّمخشريّ؛ فإنّه سيجد فيه ما ليس له ذكر في كتب المعاني والبيان؛ كالقلب؛ فإنّه جعله من مقتضيات الحصر ـ ولعلّه ذكر ذلك عند تفسيره للطّاغوت ـ، وغير ذلك ممّا لا يقتضي المقام بسطه، ومع الإحاطة بصيغ الحصر المذكورة؛ تكثر الأدِلّة الدّالّة على إخلاص التّوحيد وإبطال

حكم زيارة القبور وشد الرحل إليها.

الشّرك بجميع أقسامه. واعلم أنّ السّائل ـ كثّر الله فوائده ـ ذكر في جملة ما سأل عنه: أنّه لو قصد الإنسان قبر رجل من المسلمين مشهور بالصّلاح، ووقف لديه وأدّى الزّيارة، وسأل الله بأسمائه الحسنى، وبما لهذا الميّت [لديه] من المنزلة؛ هل تكون هذه البدعة عبادة لهذا الميّت، ويصدق عليه أنّه دعا غير الله، وأنّه قد عبد غير الرّحمن، وسُلِبَ عنه اسم الإيمان؟! ويصدق على هذا القبر أنّه وثن من الأوثان، ويحكم بردّة ذلك الدّاعي، والتّفريق بينه وبين نسائه، واستباحة أمواله، ويُعامل معاملة المرتدّين؟ أو يكون فاعلًا معصيّة كبيرة أو مكروهًا؟ وأقول: إنّا [قد] قدّمنا في أوائل هذا الجواب: أنّه لا بأس بالتّوسّل بنبيّ من الأنبياء أو وليّ من الأولياء أو عالم من العلماء، وأوضحنا ذلك بما لا مزيد عليه؛ فهذا الذي جاء إلى القبر زائرًا، أو دعا الله وحده، وتوسّل بذلك الميّت؛ كأن يقول: «اللهمّ إنّي أسألك أن تشفيني من كذا، وأتوسّل إليك بما لهذا العبد الصّالح من العبادة لك والمجاهدة فيك والتعلّم والتّعليم خالصًا لك» ؛ فهذا لا تردّد في جوازه. لكن؛ لأيّ معنى قام يمشي إلى القبر؟ فإن كان لمحض الزّيارة، ولم يعزم على الدُّعاء والتّوسّل إلَّا بعد تجريد القصد إلى الزّيارة؛ فهذا ليس بممنوع؛ فإنّه إنّما جاء ليزور، وقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور؛ بحديث: «كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور؛ [ألا] فزوروها» ـ وهو في «الصّحيح» ـ، وخرج لزيارة الموتى ودعا لهم، وعلّمنا كيف نقول إذا نحن زرناهم؛ وكان يقول: «السّلام عليكم [أهل دار قوم مؤمنين] ، وإنّا بكم إن شاء الله

لاحقون، وأتاكم ما تُوعدون، نسأل الله لنا ولكم العافية» ـ وهو أيضا في «الصّحيح» بألفاظ وطرق ـ؛ فلم يفعل هذا الزّائر إلَّا ما هو مأذون به ومشروع، لكن بشرط أن لا يشدّ راحلته، ولا يعزم على سفر ولا يرحل؛ كما ورد تقييد الإذن بالزّيارة للقبور بحديث: «لا تُشَدّ الرّحال إلَّا لثلاثة ... » ، وهو مُقيّد لمطلق الزّيارة، وقد خُصّص بمخصّصات؛ منها: زيارة القبر الشّريف النّبويّ المحمّديّ ـ على صاحبه أفضل الصّلاة والسّلام ـ، وفي ذلك خلاف بين العلماء، وهي مسألة من المسائل التي طالت ذيولها، واشتهرت أصولها، وامتُحن بسببها من امتُحن، وليس ذكر ذلك ههنا من مقصودنا. وأمّا إذا لم يقصد مجرّد الزّيارة؛ بل قصد المشي إلى القبر ليفعل الدُّعاء عنده فقط، وجعل الزّيارة تابعة لذلك، أو مشى [لمجموع الزّيارة] والدُّعاء؛ فقد كان يغنيه أن يتوسّل إلى الله بذلك الميّت من الأعمال الصّالحة من دون أن يمشي إلى قبره. فإن قال: إنّما مشيتُ إلى قبره لأشير إليه عند التّوسّل به! فيُقال له: إنّ الذي يعلم السّر وأخفى، ويحول بين المرء وقلبه، ويطّلع على خفيّات الضّمائر، وتنكشف لديه مكنونات السّرائر؛ لا يحتاج منك إلى هذه الإشارة التي زعمت أنّها الحاملة لك على قصد القبر والمشي إليه، وقد كان يغنيك أن تذكر ذلك الميّت باسمه [العلم] ، أو بما تميّز به عن غيره؛ فما أراك مشيتَ لهذه الإشارة؛ فإنّ الذي تدعوه في كلّ مكان مع كلّ إنسان، بل مشيت لتسمع الميّت توسّلك به، وتعطف قلبه عليك، وتتّخذ عنده يدًا بقصده، وزيارته والدُّعاء عنده والتّوسّل به، وأنتَ إذا

الدعاء عند القبر

رجعتَ إلى نفسك وسألتَها عن هذا المعنى؛ فربّما تقرّ لك به، وتصدقك الخبر؛ فإن وجدتَ عندها هذا المعنى الدّقيق الذي هو بالقبول منك حقيق؛ فاعلم أنّه قد علق بقلبك ما علق بقلوب عبّاد القبور، ولكنّك قهرت هذه النّفس الخبيثة عن أن تترجم بلسانك عنها، وتنشر ما انطوت عليه من محبّة ذلك القبر والاعتقاد فيه، والتّعظيم [له] ، والاستغاثة به؛ فأنت مالك لها من هذه الحيثيّة، مملوك لها من الحيثيّة التي أقامتك من مقامك، ومشت بك إلى فوق القبر! فإن تداركتَ نفسك بعد هذه؛ وإلَّا كانت المستولية عليك، المتصرّفة فيك، المتلاعبة بك في جميع ما تهواه مما قد وسوس به لها الخنّاس، الذي يوسوس في صدور النّاس، من الجنّة والنّاس. فإن ادّعيتَ أنّك قد رجعتَ إلى نفسك؛ فلم تجد عندها شيئًا من هذا، وفتّشتها فوجدتها صافية عن ذلك الكدر؛ فما أظنّ الحامل لك على المشي إلى القبر إلَّا أنّك سمعتَ النّاس يفعلون شيئًا ففعلتَه، ويقولون شيئًا فقلتَه! فاعلم أنّ هذه أوّل عقدة من عقود توحيدك، وأوّل محنة من محن تقليدك، فارجع تُؤجر، ولا تتقدّم تُنحر! فإنّ هذا التّقليد الذي حملك على هذه المشية الفارغة العاطلة الباطلة؛ سيحملك على أخواتها؛ فيقف على باب الشّرك أوّلًا، ثم تدخل منه ثانيًا، ثم تسكن فيه وإليه ثالثًا! وأنتَ في ذلك كلّه تقول: سمعتُ النّاس يقولون شيئًا فقلتُه، ورأيتُهم يفعلون أمرًا ففعلتُه. وإن قلتَ: إنّك على بصيرة في عملك وعلمك، ولستَ ممّن ينقاد إلى هوى نفسه كالأوّل، ولا ممّن يقهرها، ولكنّه يقلّد النّاس كالثاني، بل أنتَ صافي السّر، نقيّ الضّمير، خالص الاعتقاد، قويّ اليقين، صحيح التّوحيد، جيّد التّمييز، كامل العرفان، عالم بالسُّنّة والقرآن؛ فلا لمراد نفسك اتبعتَ، ولا في هوّة التّقليد وقعتَ. فقل لي بالله: ما الحامل لك على التّشبّه بعبّاد القبور، والتّغرير على مَن كان في عداد سليمي الصّدور؟! فإنّه يراك الجاهل والخامل، ومَن هو عن علمك وتمييزك عاطل؛ فيفعل كفعلك

أنواع الزائرين للقبور

يقتدي بك، وليس له بصيرة مثل بصيرتك، ولا قوّة في الدّين مثل قوّتك؛ فيحكى فعلك صورة، ويخالفه حقيقة، ويعتقد أنّك لم تقصد هذا القبر إلَّا لأمر، ويغتنم إبليس اللّعين غربة هذا المسكين الذي اقتدى بك واستنّ بسُنّتك؛ فيستدرجه حتى يبلغ به إلى حيث يريد. فرحم الله امرءًا هرب بنفسه من غوائل التّقليد، وأخلص عبادته للحميد المجيد. وقد ظهر بمجموع هذا التّقسيم أنّ مَن يقصد القبر ليدعو عنده؛ هو أحد ثلاثة: 1ـ إن مشى لقصد الزّيارة فقط، وعرض له الدُّعاء، ولم يحصل بدعائه تغرير على الغير؛ فذلك جائز. 2ـ وإن مشى بقصد الدُّعاء فقط أوّله مع الزّيارة، وكان له من الاعتقاد ما قدّمنا؛ فهو على خطر الوقوع في الشّرك، فضلًا عن كونه عاصيًا. 3ـ وإذا لم يكن له اعتقاد في الميّت على الصّفة التي ذكرنا؛ فهو عاصٍ آثم، وهذا أقلّ أحواله، وأحقر ما يربحه في رأس ماله. وفي هذ المقدار كفاية لمَن له هداية، والله وليّ التّوفيق. انتهى ما أردتُ نقله على مسألة الاستعانة والتّوسّل، وقد استرسلتُ في هذه المسألة زيادة على غيرها من مسائل الكتاب؛ لأنّها هي بيت القصيد وروح الكتاب، وهذ القدر الذي نقلتُه فيها إنّما هو بعض ما قاله العلماء المحقّقون؛ ولو أخذتُ أذكر جميع ما قيل فيها لطال الكتاب جدًّا؛ فرأيتُ من الصّواب أن أقتصر على ما حرّره هذا الإمام في هذه المسألة؛ لأنّه سلك منهج الإنصاف، وتجنّب طريق الاعتساف، وكتابه هذا مشتمل على بيان بدع كثيرة ابتدعها النّاس؛ فزيّفها وقضى عليها بالنّقض والإبطال؛ بأقوم حُجّة وأقوى سلطان وأعظم برهان؛ فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أفضل ما جازى به مَن ذبّ عن سُنّة سيد ولد عدنان، عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسَلين أفضل الصّلاة والسّلام. ثم قال السّبكيّ بعد هذا:

في حياة الأنبياء في قبورهم

الباب التّاسع في حياة الأنبياء في قبورهم ـ صلوات الله (تعالى) وسلامه عليهم وحياة الشّهداء وسائر الموتى ورتّبه على خمسة فصول، اختصر في الفصل الأوّل الجزء الذي صنّفه الحافظ البيهقيّ في حياة الأنبياء، وزاد عليه بعض فوائد. وتكلّم في الفصل الثّاني على حياة الشّهداء. وفي الفصل الثّالث على سائر الموتى ... إلى آخر ما ذكر في بقيّة الفصول. وجوابه أن يُقال: ليس بنا حاجة في الكلام على حياة الأنبياء والشّهداء وسائر الموتى؛ لأنّ شيخ الإسلام لم ينكر شيئًا من هذا؛ بل ذكر هو وتلميذه الحافظ ابن القيّم شيئًا من ذلك في كتبهم ـ كما سنبيّنه إن شاء الله تعالى ـ؛ وحينئذ فيُقال للسّبكيّ: ما أردتَ بما ذكرتَه في هذا الباب؟ فإن كنتَ تريد أنّ حياة الأنبياء في قبورهم كالحياة الدّنيويّة؛ وعليه فيجوز أن يُطلب منهم الشّيء الذي كانوا يقدرون عليه في الدُّنيا؛ فهذا دونه خرط القتاد؛ لأنّنا نقول: هم أحياء بالمعنى الذي يعلمه الله ـ تعالى ـ، لا بالمعنى الذي نعلمه، ومع هذا؛ فنحن نعتقد أنّها حياة أعلى وأغلى وأعظم من الحياة الدّنيويّة؛ فإنّها لو كانت كحياتنا في هذا الدّار؛ لكان أقلّ النّاس أعلى منهم؛ لأنه مطلق سراحه؛ يمشي ويسافر ويمتمتّع بلذات الدُّنيا، وهم مسجونون تحت الأرض في قبورهم! فأيّ شرف هذا؟! فإن قال السّبكيّ: أنا لا أعني هذا؛ بل أقول: هي حياة برزخيّة أعلى من الحياة الدُّنيا. فنقول له: قد رجعتَ عمّا وضعتَ له هذا الباب؛ فإنّك قد خالفت وفرّقت بين

الحياتين؛ فحينئذ؛ لا يُطلب منهم ما كانوا يقدرون عليه في الدُّنيا. وأمّا الأحاديث التي وردت في هذا الباب: فالصّحيح منها مبنيّ على أنّ رؤياه صلى الله عليه وسلم لموسى ـ صلوات الله عليه ـ وهو قائم يصلّي، وكذلك رؤياه لعيسى وموسى ويونس وهم يلبّون؛ إمّا على رؤيا المنام؛ وعليه؛ فلا إشكال، وقد اختار شيخنا محمّد جمال الدّين القاسميّ الدّمشقيّ ـ تغمّده الله برحمته ـ في «معراجه» : أنّ الإسراء والمعراج كان منامًا؛ فاستدلّ له بأحاديث، وهو مذهب عائشة أمّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ، وإن كان الجمهور على خلافه. وإن كانت الرّؤيا في اليقظة؛ فهو حُجّة لنا على أنّ حياة البرزخ مغايرة للحياة الدُّنيا؛ وإلَّا لما اختصّ برؤيتهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وحده فقط؟! بل كان رآهم كلّ الصّحابة الذين كانوا معه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ. وهذ الذي ذكرناه مبنيّ على تسليم الأحاديث التي

الرد عليه في نوع الحياة التي نثبتها للأنبياء

أوردها البيهقيّ وغيره في هذا الباب. وعند التّحقيق: فحياة الشّهداء ثابتة بالكتاب العزيز والسُّنّة الصّحيحة، ومنكرها مكذّب بالقرآن وصحيح السُّنّة: فمن القرآن: قوله ـ تعالى ـ: {ولا تقولوا لمَن يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} ، وقال ـ تعالى ـ: {ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء} إلى قوله: {يستبشرون بنعمة من الله وفضل} . وأمّا السُّنّة: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أرواح الشّهداء في حواصل طيور خضر، تسرح في الجنّة كيف شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلّقة تحت العرش» . هذا ما ورد في القرآن، ولم يرد مثله في حقّ الأنبياء، وما ورد من ذلك لا يبلغ درجة هذا. فإن قلتَ: يلزم على قولكم هذا: أنّ الشّهداء أفضل من الأنبياء. فالجواب: أنّا لا نزيد على ما أخبر الله وصحّ عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولا نقيس الأشياء بعقولنا. وأيضًا؛ فإنّ الخصوصيّة لا تقتضي تفضيلًا. فعلى هذا؛ لا يلزمنا ما أوردتموه علينا، سيّما ونحن نقول: إنّ فضل الأنبياء على غيرهم ثابت بنصوص من الكتاب والسُّنّة، ولكن إذا خصّ الله ـ تعالى ـ أحدًا من خلقه بشيء؛ لا يلزم أن يكون أفضل من الأنبياء. ويؤيّد الذي قلناه: ما ذكره العلّامة المحقّق السّيد محمد رشيد رضا ـ حفظه الله ـ في تفسيره لهذه الآية

ـ قوله (تعالى) : {ولا تقولوا لمَن يُقتل} إلخ ـ؛ قال ما نصّه: «أي: لا تقولوا في شأنهم: هم أموات. وقالوا: إنّ اللّام في (لمَن) للتّعليل لا للتّبليغ. والمعنى ظاهر، والتّركيب مألوف، بل هم أحياء في عالم غير عالمكم، ولكن لا تشعرون بحياتهم؛ إذ ليس في عالم الحسّ الذي يدرك بالمشاعر. ثم لا بُدّ أن تكون هذه الحياة حياة خاصّة غير التي يعتقدها جميع المليين في جميع الموتى من بقاء أرواحهم بعد مفارقة أشباحهم؛ ولذلك ذهب بعض النّاس [إلى] أنّ حياة الشّهداء تتعلّق بهذه الأجساد، وإن فنيت أو احترقت وأكلتها السّباع والحيتان؛ وقالوا: إنّها حياة لا نعرفها، ونحن نقول مثلهم: إنّنا لا نعرفها، ونزيد: أنّنا لا نثبت ما لا نعرف. وقال بعضهم: إنّها حياة يجعل الله بها الرّوح في جسم آخر يتمتّع به ويرزق. ورووا في هذا روايات؛ منها: الحديث الذي أشار إليه المفسّر الجلال؛ وهو أنّ أرواح الشّهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في الجنّة كيف شاءت. وقيل: إنّها حياة الذّكر الحسن والثّناء بعد الموت. وقيل: إنّ المراد بالموت والحياة: الضّلال والهدى؛ روي هذا عن الأصمّ. أي: لا تقولوا: إنّ باذل روحه في سبيل الله ضالّ؛ بل هو مهتدٍ. [وقيل: إنّها حياة روحانيّة محضة] . وقيل: إنّ المراد: أنّهم سيحيون في الآخرة، وأنّ الموت ليس عدمًا محضًا كما يزعم بعض المشركين؛ فالآية عند هؤلاء على حدّ: {إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار في جحيم} ؛ أي: [إنّ] مصيرهم إلى ذلك.

قال الأستاذ الإمام ـ بعد ذكر الخلاف ـ: وقال بعض العلماء الباحثين في الرّوح: إنّ الرّوح إنّما تقوم بجسم [لطيف] أثيري [في صورة هذا الجسم المركّب الذي يكون عليه الإنسان في الدُّنيا، وبواسطة ذلك الجسم الأثيري] تجول الرّوح في هذا الجسم الماديّ، فإذا مات المرء وخرجت روحه؛ فإنّما تخرج بالجسم الأثيري، وتبقى معه، وهو جسم لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتحلّل، وأمّا هذا الجسم المحسوس فإنّه يتحلّل ويتبدّل في كل عدّة سنين. قال: ويقرب هذا القول من مذهب المالكيّة؛ فقد رُوي عن مالك ـ رحمه الله تعالى ـ أنّه قال: إنّ الرّوح صورة كالسجد؛ أي: لها صورة، وما الصّورة إلَّا عرض، وجوهر هذا العرض هو الذي سمّاه العلماء بالأثير، وإذا كان من خواص الأثير النّفوذ في الأجسام اللّطيفة والكثيفة ـ كما يقولون ـ، حتى إنّه هو الذي ينقل النّور من الشّمس إلى طبقة الهواء؛ فلا مانع أن تتعلّق به الرّوح المطلقة في الآخرة، ثم هو يحلّ بها جسمًا آخر تنعم به وترزق، سواء كان جسم طير أو غيره، وقد قال ـ تعالى ـ في آية أخرى: {بل أحياء عند ربّهم يُرزَقون} . وهذا القول يقرّب معنى الآية من العلم. والمعتمد عند الأستاذ الإمام في هذه الحياة: هو أنّها حياة غيبيّة، تمتاز بها أرواح الشّهداء على سائر أرواح النّاس، بها يُرزقون وينعمون، ولكنّنا لا نعرف حقيقتها، ولا حقيقة الرّزق الذي يكون بها، ولا نبحث عن ذلك؛ لأنّه من عالم الغيب الذي نؤمن به، ونفوّض الأمر فيه إلى الله [تعالى] .

ذكر الله ـ تعالى ـ فضل الشّهادة التي استهدف لها المؤمنون في سبيل الدّعوة إلى الحقّ والدّفاع عنه» . انتهى. فإذا عرفتَ ما قاله العلماء في حياة الشّهداء التي ثبتت بالكتاب والسُّنّة، وأنّها ليست كحياتنا؛ علمتَ قطعًا [بطلان] ما بنى عليه السّبكيّ من جواز سؤال الميّت ما كان يقدر عليه في الدُّنيا ـ لأنّه حيّ في قبره حياة حقيقيّة ـ. ثم يُقال له: فهل كان الصّحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يعلمون ذلك أم لا؟ فإن كانوا يعلمونه؛ فلِمَ لم يُنقل لنا بإسناد صحيح عن أحد منهم أنّه كان يأتي إلى القبر المعظّم، ويسأل منه صلى الله عليه وسلم ما كان يسأله منه في الدُّنيا ويستغيثه ويشاوره، مع علمه أنّه يسمعه ويقدر على إجابته وقضاء حوائجه؟! بل كانوا يأتون إلى القبر الشّريف ويسلّمون عليه ثم ينصرفون. وإن كانوا لا يعلمون ذلك؛ فمَن أين أتى للسّبكيّ أنّ هذه الحياة حياة حقيقيّة يقدر معها على التّصرّف التّامّ؟! فقد علمتَ ـ بما قرّرناه ـ أن السّبكيّ لا حُجّة له بما أورده في هذا الباب على مقصوده من جواز الاستغاثة بالمخلوق الميّت أو الغائب. وأمّا التّوسّل بالأنبياء والصّالحين في حياتهم وبعد مماتهم؛ فهو جائز ـ كما قدّمناه ـ؛ وقد عرفتَ الفرق بين التّوسّل والاستغاثة. وللإمام الحافظ ابن القيّم كلام نفيس ذكره في نونيّته المسمّاة بـ «الكافية الشّافية في الانتصار لأهل الفرقة النّاجية» ؛ يتعلّق بما نحن فيه؛ أردنا أن نختم به الكلام على هذا الباب؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ ما نصّه:

نقل من نونية ابن القيم بحياة الأنبياء

فصل في الكلام على حياة الأنبياء في قبورهم ولأجل هذا رام ناصر قولكم ... ترقيعه يا كثرة الخلقانِ قال الرسول بقبره حيّ كما ... قد كان فوق الأرض والرجمانِ من فوقه أطياق ذاك الترب واللبنـ ... ـات قد عرضت على الجدرانِ أو كان حيًّا في الضّريح حياته ... قبل الممات بغير ما فرقانِ ما كان تحت الأرض بل [من] فوقها ... والله هذي سنة الرّحمنِ أتراه تحت الأرض حيًّا ثم لا ... يفتيهم بشرائع الإيمانِ ويريح أمته من الآراء ... والخلف العظيم وسائر البهتانِ أم كان حيًّا عاجزًا عن نطقه ... وعن الجواب لسائل لهفانِ وعن الحراك فما الحياة اللّات قد ... أثبتموها أوضحها ببيانِ * * *

مراد السبكي من القول بحياة الأنبياء في قبورهم.

هذا ولم لا جاءه أصحابه ... يشكون بأس الفاجر الفتانِ إذ كان ذلك دأبهم ونبيهم ... حيّ يشاهدهم شهود عيانِ هل جاءكم أثر بأن صحابه ... سألوه فتيا وهو في الأكفانِ فأجابهم بجواب حيّ ناطق ... فأتوا إذًا بالحقّ والبرهانِ هلا أجابهم جوابًا شافيًا ... إن كان حيًّا ناطقًا بلسانِ هذا وما شدت ركائبه عـ ... ـن الحجرات للقاصي من البلدانِ مع شدة الحرص العظيم له على ... إرشادهم بطرائق التّبيانِ أتراه يشهد رأيهم وخلافهم ... ويكون للتبيان ذا كتمانِ إن قلتم سبق البيان صدقتم ... قد كان بالتكرار ذا احسانِ * * * هذا وكم من أمر أشكل بعده ... أعنى على علماء كل زمانِ أو ما ترى الفاروق ود بأنه ... قد كان منه العهد ذا تبيانِ بالجد في ميراثه وكلالة ... وببعض أبواب الربا الفتانِ قد قصّر الفاروق عند فريقكم ... إذ لم يسله وهو في الأكفانِ أتراهم يأتون حول ضريحه ... لسؤال أمهم أعز حصانِ

ونبيهم حي يشاهدهم ويسـ ... ـمعهم ولا يأتي لهم ببيانِ أفكان يعجز أن يجيب بقوله ... إن كان حيًّا داخل البنيانِ يا قومنا استحيوا من العقلاء والمبعـ ... ـوث بالقرآن والرحمنِ والله لا قدر الرسول عرفتم ... كلا ولا للنفس والإنسانِ من كان هذا القدر مبلغ علمه ... فليستتر بالصمت والكتمانِ * * * ولقد أبان الله أن رسوله ... ميت كما قد جاء في القرآنِ أفجاء أن الله باعثه لنا ... في القبر قبل قيامة الأبدانِ أثلاث موتات تكون لرسله ... ولغيرهم من خلقه موتانِ إذ عند نفخ الصور لا يبقى امرؤ ... في الأرض حيًّا قط بالبرهانِ أفهل يموت الرسل أم يبقوا إذا ... مات الورى أم هل لكم قولانِ فتكلموا بالعلم لا الدعوى وجيبـ ... ـوا بالدليل فنحن ذو أذهانِ أو لم يقل من قبلكم للرافعي الأ ... صوات حول القبر بالنكرانِ لا ترفعوا الأصوات حرمة عبده ... ميتا كحرمته لدى الحيوانِ

فصل: فيما احتجوا به على حياة الرسل في القبور

قد كان يمكنهم يقولوا أنه ... حي فغضوا الصوت بالإحسانِ لكنهم بالله أعلم منكم ... ورسوله وحقائق الايمانِ ولقد أتوا إلى العباس يستـ ... ـقون من قحط وجدب زمانِ هذا وبينهم وبين نبيهم ... عرض الجدار وحجرة النسوانِ فنبيهم حي ويستسقون غـ ... ـير نبيهم حاشا أولي الايمانِ فصل فيما احتّجوا على حياة الرّسل في القبور فإن احتججتم بالشهيد بأنه ... حيّ كما قد جاء في القرآنِ والرسل أكمل حالة منه بلا ... شك وهذا ظاهر التبيانِ فلذاك كانوا بالحياة أحق من ... شهدائنا بالعقل والبرهانِ وبأن عقد نكاحه لم ينفسخ ... فنساؤه في عصمة وصيانِ ولأجل هذا لم يحل لغيره ... منهن واحدة مدى الأزمانِ أفليس في هذا دليل أنه ... حيّ لمن كانت له أذنانِ أو لم ير المختار موسى قائمًا ... في قبره لصلاة ذي القربانِ أفميت يأتي الصلاة وإن ذا ... عين المحال وواضح البطلانِ أو لم يقل أني أرد على الذي ... يأتي بتسليم مع الإحسانِ أيرد ميت السلام على الذي ... يأتي به هذا من البهتانِ هذا وقد جاء الحديث بأنهم ... أحياء في الأجداث ذا تبيانِ

فصل: الجواب عما احتجوا به

وبأن أعمال العباد عليه تعـ ... ـرض دائمًا في جمعة يومانِ يوم الخميس ويوم الاثنين الذي ... قد خص بالفضل العظيم الشأنِ فصل في الجواب عمّا احتجّوا به في هذه المسألة فيقال: أصل دليلكم في ذاك ... حجتنا عليكم وهي ذات تبيانِ إن الشهيد حياته منصوصة ... لا بالقياس القائم الأركانِ هذا مع النهي المؤكد أننا ... ندعوه ميتًا ذاك في القرآنِ ونساؤه حل لنا من بعده ... والمال مقسوم على السهمانِ

هذا وأن الأرض تأكل لحمه ... وسباعها مع أمة الديدانِ لكنه مع ذلك حيّ فارح ... مستبشر بكرامة الرحمنِ فالرسل أولى بالحياة لديه مع ... موت الجسوم وهذه الأبدانِ وهي الطرية في التراب وأكلها ... فهو الحرام عليه بالبرهانِ ولبعض أتباع الرسول يكون ذا ... أيضًا وقد وجدوه رأي عيانِ فانظر الى قلب الدّليل عليهم ... حرفًا بحرف ظاهر التبيانِ لكن رسول الله خص نساؤه ... بخصيصة عن سائر النّسوانِ خيرن بين رسوله وسواه فاخـ ... ـترن الرّسول لصحة الايمانِ شكر الإله لهنّ ذلك وربنا ... سبحانه للعبد ذو شكرانِ قصر الرسول على أولئك رحمة ... منه بهن وشكر ذي الاحسانِ وكذاك أيضًا قصرهن عليه معـ ... ـلوم بلا شك ولا حسبانِ زوجاته في هذه الدنيا وفي الأخـ ... ـرى يقينًا واضح البرهانِ فلذا حرمن على سواه بعده ... إذ ذاك صون عن فراش ثانِ لكن أتين بعدة شرعية ... فيها الحداد وملزم الأوطانِ

* * * هذا ورؤيته الكليم مصليًا ... في قبره أثر عظيم الشانِ في القلب منه حسيكة هل قاله ... فالحق ما قد قال ذو البرهانِ ولذاك أعرض في الصحيح محمّد ... عنه على عمد بلا نسيانِ والدّارقطني الإمام أعلّه ... برواية معلومة التبيانِ أنس يقول رأي الكليم مصليًا ... في قبره فأعجب لذا الفرقانِ فرواه موقوفا عليه وليس بالـ ... ـمرفوع واشوقًا على العرفانِ بين السياق الى السياق تفاوت ... لا تطرحه فما هما سيانِ لكن تقلد مسلمًا وسواه ممـ ... ـن صحّ هذا عنده ببيانِ فرواته الأثبات أعلام الهدى ... حفاظ هذا الدين في الأزمانِ لكن هذا ليس مختصًّا به ... والله ذو فضل وذو إحسانِ فروى ابن حبان الصدوق وغيره ... خبرًا صحيحًا عنده ذا شانِ فيه صلاة العصر في قبر الذي ... قد مات وهو محقق الايمانِ

فتمثل الشمس الذي قد كان ير ... عاها لأجل صلاة ذي القربانِ عند الغروب يخاف فوت صلاته ... فيقول للملكين هل تدعاني حتى أصلي العصر قبل فواتها ... قالا ستفعل ذاك بعد الآنِ هذا مع الموت المحقق لا الذي ... حكيت لنا بثبوته القولانِ * * * هذا وثابت البنانيّ قد دع الرّ ... حمن دعوة صادق الايقانِ أن لا يزال مصليًا في قبره ... إن كان أعطى ذاك من إنسانِ * * * لكن رؤيته لموسى ليلة المعـ ... ـراج فوق جميع ذي الأكوانِ يرويه أصحاب الصحاح جميعهم ... والقطع موجبة بلا نكرانِ ولذاك ظن معارضا لصلاته ... في قبره اذ ليس يجتمعانِ وأجيب عنه بأنه أسرى به ... ليراه ثم مشاهدًا بعيانِ فرآه ثم وفي الضريح وليس ذا ... بتناقض إذ أمكن الوقتانِ هذا ورد نبيّنا التّسليم من ... يأتي بتسليم مع الإحسانِ

ما ذاك مختصًّا به أيضًا كما ... قد قاله المبعوث بالقرآنِ من زار قبر أخ له فأتى بتسـ ... ـليم عليه وهو ذو إيمانِ رد الإله عليه حقًّا روحه ... حتى يرد عليه رد بيانِ وحديث ذكر حياتهم بقبورهم ... لما يصح وظاهر النكرانِ

نوع الحياة التي نثبتها للأنبياء

فانظر إلى الإسناد تعرف حاله ... إن كنت ذا علم بهذا الشأنِ * * * هذا ونحن نقول هم أحياء لـ ... ـكن عندنا كحياة ذي الأبدانِ والترب تحتهم وفوق رؤوسهم ... وعن الشمائل ثم عن أيمانِ مثل الذي قد قلتوه معاذنا ... بالله من إفك ومن بهتانِ بل عند ربهم تعالى مثل ما ... قد قال في الشهداء في القرآنِ لكن حياتهم أجل وحالهم ... أعلى وأكمل عند ذي الإحسانِ * * * هذا وأما عرض أعمال العبا ... د عليه فهو الحق ذو إمكانِ وأتى به أثر فإن صح الحـ ... ـديث به فحق ليس ذا نكرانِ لكن هذا ليس مختصًّا به ... أيضا بآثار روين حسانِ فعلى أبي الإنسان يعرض سعيه ... وعلى أقاربه مع الإخوانِ ان كان سعيًا صالحًا فرحوا به ... واستبشروا يا لذة الفرحانِ أو كان سعيًا سيّئًا حزنوا وقا ... لوا ربّ راجعه إلى الإحسانِ ولذا استعاذ من الصحابة من روى ... هذا الحديث عقيبه بلسانِ يا ربّ إني عائذ من خزية ... أخزي بها عند القريب الداني

عرض الأعمال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأقارب

ذاك الشهيد المرتضى ابن روا ... حة المحبوّ بالغفران والرضوانِ

أمور الغيب لا تعلم إلا بالنصوص

لكن هذا ذو اختصاص والذي ... للمصطفى ما يعمل الثقلانِ * * * هذي نهايات لأقدام الورى ... في ذا المقام الضنك صعب الشانِ والحق فيه ليس تحمله عقو ... ل بني الزمان لغلظة الأذهانِ ولجهلهم بالروح مع أحكامها ... وصفاتها للألف بالأبدانِ فارض الذي رضي الإله لهم به ... أتريد تنقض حكمة الديانِ هل في عقولهم بأن الروح في ... أعلى الرفيق مقيمة بجنانِ وترد أوقات السلام عليه من ... أتباعه في سائر الأزمانِ وكذاك إن زرت القبور مسلمًا ... ردت لهم أرواحهم للآنِ فهم يردون السلام عليك لـ ... ـكن لست تسمعه بذي الأذنانِ هذا وأجواف الطيور الخضر ... مسكنها لدى الجنات والرضوانِ من ليس يحمل عقله هذا فلا ... تظلمه واعذره على النكرانِ للروح شأن غير ذي الأجسام لا ... تهمله شأن الروح أعجب شانِ

الأرواح مخلوقة.

وهو الذي حار الورى فيه فلم ... يعرفه غير الفرد في الأزمانِ هذا وأمر فوق ذا لو قلته ... بادرت بالإنكار والعدوانِ فلذاك أمسكت العنان ولو أرى ... ذاك الرفيق جريت في الميدانِ هذا وقولي أنها مخلوقة ... وحدوثها المعلوم بالبرهانِ هذا وقولي أنها ليست كما ... قد قال أهل الإفك والبهتانِ لا داخل فينا ولا هي خارج ... عنا كما قالوه في الديانِ والله لا الرحمن أثبتم ولا ... أرواحكم يا مدعي العرفانِ عطلتم الأبدان من أرواحها ... والعرش عطّلتم من الرحمنِ انتهى ما أردتُ نقله من هذا الكتاب بحروفه. وهو وحده كافٍ لردّ [ما أ] ورده السّبكيّ وغيره في هذا الباب. قلتُ: وقد توسّع بعض الغلاة في حياة الأنبياء ـ عليهم الصّلاة والسّلام ـ والشّهداء ـ رضي الله تعالى عنهم ـ؛ ولم يقصر الحياة على ما ذكره؛ بل قال بحياة الأولياء في قبورهم، وأنّهم يخرجون منها فيقضون للنّاس المستغيثين بهم حوائجهم ثم يعودون! انظر ـ إن شئتَ الوقوف على هذا ـ في حاشية الشّيخ إبراهيم الباجوريّ على «جوهرة التّوحيد» للقاني، عند قوله: ............................................ ... وأثبتن للأولياء الكرامة

وقد عزى ذلك إلى الشّيخ عبد الوهّاب الشّعرانيّ. ولو أردنا ذكر جميع ما قيل من هذا القبيل؛ لطال الكتاب بما لا فائدة فيه. فنسأله ـ تعالى ـ العافية مما ابتلى كثيرًا من خلقه، آمين. ثم إنّ الإمام السّبكيّ ذكر بعد هذا الباب بابًا آخر ـ وهم المتمّم لعشرة أبواب ـ؛ فقال:

باب الشفاعة: الشفاعة المثبتة والمنفية

الباب العاشر في إثبات الشّفاعة له صلى الله عليه وسلم، واستغاثة النّاس به يوم القيامة رتّبه على فصول، وكلّها في هذا المعنى. وجوابه أن يُقال: نحن وشيخ الإسلام ابن تيميّة وسائر طوائف أهل السُّنّة قد أثبتوا الشّفاعة له صلى الله عليه وسلم، ولم ينكرها غير المعتزلة؛ فأيّ فائدة في ذكر هذا الباب هنا؟! فإن كان مقصود إيهام العوام بأنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة ينكر الشّفاعة؛ فكلّا ثم كلّا! بل قد أثبتها في عدّة كتب من كتبه؛ وكيف ينكر أمرًا متواترًا؛ وردت به صحاح الأخبار، وتواترت عن النّبيّ المختار؟! فلا ينكرها إلَّا كلّ جاهل مختال، وأثيم مضلال؛ فنعوذ بالله من هذا الحال. وقد أطال الكلام على أحاديث الشّفاعة شيخُ الإسلام في كتابه «التّوسّل والوسيلة» وغيره من مصنّفاته ـ رضي الله عنه ـ. وإن أراد ثبوت الاستغاثة بما ورد في بعض ألفاظ هذه الأحاديث؛ فنقول له: هذا صحيح لا مرية فيه، ولكن أين هذا ممّا نحن فيه؟! لأنّا نقول: الممنوع طلب الحوائج والاستغاثة بالميّت والغائب، وأمّا الحي الموجود بين ظهرانينا الذي نراه ونشاهده بأبصارنا؛ فلا خلاف بين أحد من المسلمين ـ بل وغيرهم ـ في جواز الاستغاثة به في الشّيء الذي يقدر عليه. ونحن مطالبون بأن يعاون بعضنا بعضًا؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وتعاونوا على البرّ والتّقوى} ، وكما قال حكاية عن نبيّه موسى: {واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} ، وقوله ـ تعالى ـ: {سنشدّ عضدك بأخيك} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا» ، وقوله في الحديث

المقام المحمود ورأي المؤلف فيه

الآخر: «المؤمن كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى» ـ أو كما قال ـ. وما ذكره السّبكيّ من استغاثة النّاس به صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ فهو من هذا الباب؛ فلا يدلّ على مقصوده، وإن أراد به شيئًا آخر غير ما ذكرناه؛ فالله أعلم بما أراد. ثم ذكر بعد ذلك فصلًا في تفسير (المقام المحمود) ، ولكن لم يستوفِ الكلام فيه؛ فإنّ الذي تركه هو أعظم وأقرّ لعين نبيّنا صلى الله عليه وسلم ممّا ذكره؛ وهو أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ يجلس معه نبيّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم على العرش يوم القيامة؛ كما جاء ذلك عن غير واحد من الصّحابة والتّابعين. ومثله لا يُقال من قبل الرّأي؛ بل لا بُدّ فيه من التّوقيف. فممّن روى ذلك مجاهد وغيره، وناهيك به؛ كما قال الشّافعي والبخاريّ ـ رضي الله عنهما ـ: «إذا جاءك التّفسير عن مجاهد فحسبك» . ولكن لمّا لم يوافق هذا أهواءهم وآراءهم؛ عدلوا عنه؛ زاعمين أن هذا يفضي إلى القول بالتّجسيم، كما تركوا غيره من نصوص الصّفات، وأخذوا يشنّعون على شيخ الإسلام ـ حيث ذكر هذا في كتاب «العرش» له ـ. وأنا اطّلعتُ على كتاب «العرش» هذا؛ فلم أجد فيه هذا الكلام، ولو ذكره؛ فأيّ لوم يلحقه على ذلك. وقد ذكره كثير من المفسّرين عند قوله ـ تعالى ـ: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} ؛

فممّن ذكره في تفسيره: الإمام أبو جعفر ابن جرير الطّبريّ في تفسيره «جامع البيان» ، ومنهم: الإمام الشّيخ علي البغداديّ ـ المعروف بالخازن ـ، ومنهم: الإمام الحافظ جلال الدّين السّيوطيّ في تفسيره «الدّر المنثور في التّفسير بالمأثور» ، ومنهم الشّهاب الخفاجيّ في حاشيته على «الشّفا» ، وعزاه إلى الدّارقطنيّ. فبالله عليكَ؛ بعد نقل هؤلاء الأئمّة كلّهم؛ يليق للنّبهانيّ أن يشنّع على شيخ الإسلام ـ لو ثبت عنه ذكر هذه المسألة ـ؟! ولولا أنّ هذه التّفاسير التي عزوتُ لها هذه المسألة كلّها مطبوعة؛ لنقلتُ في هذا الكتاب جميع ما قالوه؛ ولكن اكتفيتُ بالعزو لها عن نقلها روم الاختصار. والله الموفّق والهادي، وعليه اتّكالي واعتمادي.

في الأسماء والصفات

فصل ولعلّك إذا اطّلعتَ على كتابي هذا؛ يحوك في صدرك شيء منه؛ من أجل أنّ بعض ما فيه من الفوائد مخالف لكثير ممّا عابه بعض الخلف! فأقول لك: اعلم ـ يا أخي ـ أنّي ما ذكرتُ في كتابي هذا إلَّا ما تظاهرت به النّصوص من الكتاب والسُّنّة وأقوال سلف الأُمّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة المجتهدين وأهل الحديث أجمعين، لا خلاف بينهم في حرف ممّا ذكرناه في هذا الكتاب من العقائد. وإليك نبذة ممّا عثرتُ عليه من ذلك، أقتصر فيها على ما ورد عن الأئمّة الأربعة ـ أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد ـ (رضوان الله عليهم أجمعين) ؛ حيث إنّ النّاس في هذا الزّمان قد قصروا أحكام الدّين على ما ورد عنهم؛ فإذا كانوا قد ارتضوهم في أحكام الدّين؛ فلِمَ لم يرضوهم في أصوله؟! فهل يكونون عدولًا وأمناء في الفقه دون العقائد؟! فهذا لا يقول به أحد عرف قدرهم. فإن كنتَ ـ يا أخي ـ لا ترضى لنفسك إلَّا التّقليد؛ فها أنا أسرد كلّ عقائدهم، وإن كنتَ ممّن يقول: إنّ العقائد لا يجوز فيها التّقليد بحال؛ بل لا بُدّ فيها من النّظر والاستدلال؛ قلنا لك: بيننا وبينك كتاب الله وسُنّة رسوله وأقوال أصحابه؛ وكلّها تنادي بأعلى صوت يسمعه القريب والبعيد: بأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ على عرشه، وعرشه فوق سبع سماواته، وأنّه ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا، وأنّ الملائكة يعرجون إليه، وأنّ له يدان، وله عين ونفس وقدم وساق، وأنّه يأتي يوم القيامة، وأنّه يغضب ويرضى، ويحبّ ويبغض ويكره، ويعجب ويفرح، ويرحم ويحسن، وغير ذلك من الصّفات التي ورد بها الكتاب والسُّنّة الصّحيحة، وأنكرها كثير من الخلف، ولم ينكروا ورود لفظها؛ لأنّه لا سبيل لهم إلى إنكار لفظها؛ بل عمدوا إلى تحريفها وتأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ فعند التّحقيق هو إنكار للفظها، ولكن تستّروا بالتّأويل والتّحريف؛ فوقعوا في التّعطيل؛ وقالوا: إنّنا أردنا الرّدّ على الفلاسفة والملاحدة، فلا لعدوّهم كسروا ولا للإسلام نصروا! ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله العليّ العظيم.

أدلة الصفات من الكتاب- دليل الاستواء.

فصل فإن قيل: هل يمكن إيراد شيء من الأدِلّة القرآنيّة والسُّنّيّة على صحّة هذه العقائد التي خالفها كثير من الخلف، قبل ذكر أقوال الأئمّة الأربعة. فالجواب: نعم؛ قد ورد في ذلك أدِلّة كثيرة من الكتاب والسُّنّة وأقوال الصّحابة والتّابعين والأئمّة المجتهدين، وأهل الحديث أجمعين، وأهل اللّغة والفقهاء والمفسّرين، وأهل التّصوّف المحقّقين؛ نشير إلى بعض ذلك بأدنى إشارة وأوجز عبارة؛ فنقول ـ وبالله التّوفيق ـ: أمّا الدّليل على استوائه ـ تعالى ـ على عرشه: فهو مذكور في الكتاب العزيز في سبعة مواضع: الأوّل: من سورة الأعراف في قوله ـ تعالى ـ: {إنّ ربّكم الله الذي خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام ثم استوى على العرش} . الموضع الثّاني: في أوّل سورة يونس ـ عليه السّلام ـ. الثّالث: في أوّل سورة الرّعد. الرّابع: في أوّل سورة طه. الخامس: في آخر سورة الفرقان. السّادس: في أوّل سورة {الم} السّجدة.

أدلة العلو وأن الله في السماء

السّابع: في أوّل سورة الحديد. وأمّا الدّليل على علوّه ـ تعالى ـ فوق جميع المخلوقات من القرآن: فقوله ـ تعالى ـ: {وهو العليّ العظيم} ، {وهو القاهر فوق عباده} ـ في موضعين ـ، {يخافون ربّهم من فوقهم} ، {وهو العليّ الكبير} ، {إنّه عليّ حكيم} . وأمّا الدّليل على كونه ـ سبحانه وتعالى ـ في السّماء من القرآن: فقوله ـ تعالى ـ: {أأمنتم مَن في السّماء} ـ في موضعين ـ، وقوله ـ تعالى ـ: {يدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} ، وقوله: {تعرج الملائكة والرّوح إليه} ، وقوله ـ تعالى ـ: {إليه يصعد الكلم الطّيب} ـ والعروج والصّعود لا يكونان إلَّا مِن أسفل إلى أعلى ـ، وقوله ـ تعالى ـ لعيسى ـ عليه السّلام ـ: {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ} ، وقوله ـ تعالى ـ ردًّا على اليهود حين ادّعوا قتل عيسى ـ عليه السّلام ـ وصلبه: {وما قتلوه يقينًا * بل رفعه الله إليه} ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن فرعون: {يا هامان ابن لي صرحًا لعلّي أبلغ الأسباب * أسباب السّموات فأطّلع إلى إله موسى} ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عنه في سورة القصص: {فأوقد لي يا هامان على الطّين فاجعل لي صرحًا لعلّي أطّلع إلى إله موسى} ، وقوله ـ تعالى ـ في سورة المؤمن: {رفيع الدّرجات ذو العرش} . وأمّا الدّليل على إثبات إتيانه يوم القيامة من القرآن: فقوله ـ تعالى ـ: {هل ينظرون إلَّا أن

صفه النفس واليدين والساق

يأتيهم الله} ـ في سورة البقرة وفي سورة الأنعام ـ، وفي قوله ـ تعالى ـ في سورة الفجر: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} . وأمّا الدّليل على أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ يَسمع عبادُه صوته، من القرآن العزيز: فقوله ـ تعالى ـ {ويوم يناديهم} ـ في عدّة مواضع ـ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى: {وناديناه من جانب الطّور الأيمن} ، {فلمّا جاءها نُودي أن بورك مَن في النّار ومَن حولها} ، وقوله ـ تعالى ـ: {فلمّا أتاها نُودي من شاطئ الوادِ الأيمن} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة العين: فقوله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه السّلام ـ: {ولتصنع على عيني} ، وقوله ـ تعالى ـ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم: {واصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا} ، وقوله ـ تعالى ـ: {تجري بأعيننا} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة النّفس: فقوله ـ تعالى ـ: {ويحذّركم الله نفسه} ـ في موضعين ـ، وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن عيسى بن مريم ـ عليه السّلام ـ: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} ، وقوله ـ تعالى ـ لموسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ: {واصطنعتُك لنفسي} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة اليدين: فقوله ـ تعالى ـ ردًّا على اليهود: {بل يداه مبسوطتان} ، وقوله ـ تعالى ـ لإبليس اللّعين: {ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيديّ} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة السّاق: فقوله ـ تعالى ـ في سورة (نون) : {يوم يُكشف عن ساق} .

صفة الرحمة والحب والرضى والغضب.

وأمّا الدّليل على إثبات صفة الرّحمة: فقوله ـ تعالى ـ: {وهو أرحم الرّاحمين} ، {يعذّب مَن يشاء ويرحم مَن يشاء} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة الحبّ له ـ تعالى ـ: فقوله: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله} . وأمّا الدّليل على إثبات حبّ عباده له: فقوله ـ تعالى ـ: {ومن النّاس مَن يتّخذ من دون الله أندادًا يحبّونهم كحبّ الله والذين آمنوا أشدّ حبًّا لله} ، وقوله ـ تعالى ـ: {فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة الرّضا له: فقوله ـ تعالى ـ: {إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة الغضب له ـ سبحانه ـ: فقوله ـ تعالى: {ألم تر إلى الذين تولّوا قومًا غضب الله عليهم} ، وفي الآية الثّانية: {يا أيّها الذين آمنوا لا تتولّوا قومًا غضب الله عليهم} ، وفي موضع ثالث: {والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصّادقين} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة التّعجّب له ـ تعالى ـ: فقوله ـ جلّ ذكره ـ في سورة (الصّافّات) : {بل عجبت ويسخرون} ـ على قراءة مَن قرأ بضم التّاء؛ وهما: حمزة والكسائيّ ـ.

وأمّا الدّليل على إثبات صفة السّخط: فقوله ـ تعالى ـ: {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون} ، {ذلك بأنّهم اتّبعوا ما أسخط اللهَ وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} . وأمّا الدّليل على إثبات صفة الرّأفة له ـ تعالى ـ: فقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {إنّ الله بالنّاس لرءوف رحيم} ، {وإنّ الله بكم لرءوف رحيم} . وغير ذلك من الصّفات التي ورد بها القرآن. فكلّ ذلك قد نصبوا له منجنيق التّأويل؛ فلم ينجُ منه شيء إلَّا وأصابه! وقالوا: هذه كلّها ظواهر لا يجوز أن نثبتها لله ـ تعالى ـ؛ لئلّا نقع في التّجسيم والتّشبيه! وقد علمتَ ـ ممّا مرّ ـ أنّ صفاته ـ تعالى ـ ليست كالصّفات، كما أنّ ذاته ـ تعالى ـ ليست كذاتنا؛ فالمجسّم والممثّل يعبد صنمًا، والمعطّل والنّافي يعبد عدمًا، والمثبت المنزّه يعبد حيًّا قيومًا واحدًا لا شريك له في ذاته وصفاته؛ فتعالى الله عمّا يقول الظّالمون النّافون والمشبّهون علوًّا كبيرًا.

أدلة الصفات في السنة

فصل وأمّا الدّليل من السُّنّة على ما أثبتناه من الصّفات: فشيء كثير جدًّا؛ يزيد على خمسين حديثًا: فمنها: حديث الجارية ـ المرويّ في «الصّحيح» ـ؛ فعن معاوية بن الحكم أنّه قال: كانت لي جارية ترعى غنمًا لي ... وذكر القصّة بطولها، حتى قال: فجئتُ بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» فقالت الجارية له: في السّماء ـ وفي رواية: فأشارت بأصبعها إلى السّماء ـ، ثم قال لها: «مَن أنا؟» ؛ فقالت: أنتَ رسول الله؛ فقال له: أعتقها؛ فإنّها مؤمنة. وهذا الحديث موافق لقوله ـ تعالى ـ: {أأمنتم مَن في السّماء} . ومنها: حديث زينب بنت جحش؛ أنّها كانت تفتخر على نساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فتقول: «أنتَ زوّجكنّ أهاليكُنّ، وأنا زوّجني الله من فوق عرشه» .

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق عرشه» . وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا تأمنوني؛ وأنا أمين مَن في السّماء» . ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصّحيح: «يتعاقب فيكم ملائكة» ، وفيه: «ثم يعرجون فيسألهم ربّهم ـ وهو أعلم بهم ـ: ماذا تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون، وجئناهم وهم يصلّون» . ومنها: حديث عروج الملائكة بروح المؤمن حتى ينتهوا بها إلى السّماء التي فيها الله، الحديث رواه الإمام أحمد في «مسنده» ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، وليس من حديث البراء بن عازب؛ فإنّ المذكور في حديث البراء: حتى تأتي السّماء السّابعة، ولكن قد ذكر الحافظ ابن القيّم هذه اللّفظة في حديث البراء بن عازب، ولم أجدها في

حديثه؛ بل وجدتُها في حديث أبي هريرة ـ كما تقدّم ـ، والله أعلم. ومنها: حديث الأوعال ـ الذي رواه أبو داود ـ، وفيه: «والله فوق العرش، وإنّه ليئظ به أطيط الرّحل بالرّاكب» ، وفيه: «وأنّه فوقه مثل القبّة» . نثبته كما جاء، ونكل معناه

صفة الأصابع

إلى الله ورسوله. ومنها: حديث الإسراء ـ المتّفق عليه عند كافّة المسلمين ـ، وفيه: أنّه صلى الله عليه وسلم عُرِج به إلى السّماء، ورأى ربّه وكلّمه وأدناه منه، وفرض عليه خمس صلوات في اليوم واللّيلة. أفهذا كلّه لا يثبت أنّ الله في السّماء؟! بلى؛ هذه كلّها أدِلّة ظاهرة قاطعة بأنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ في السّماء على عرشه، بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد. فبعدًا لقوم لا يؤمنون! ومنها: حديث: «إنّ قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرّحمن» . ومنها: الحديث المرويّ في «الصّحيح» : «إنّ الله يضع السّماوات على أصبع، والأرضين على أصبع ... » الحديث. ومنها: حديث: «المقسطين على منابر من نور عن يمين الرّحمن، وكلتا يديه يمين» . ومنها: الحديث المتّفق على صحّته: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلى سماء الدُّنيا؛ فينادي: هل من

صفة الفرح

سائل، هل من مستغفر ... » الحديث. ومنها: حديث: «ضحك ربّنا من ثلاث» ؛ فقال الصّحابيّ: أيضحك ربّنا يا رسول الله؟! فأجابه: نعم؛ فقال الصّحابيّ: لا عُدمنا خيرًا من ربّ يضحك. ومنها: الحديث الصّحيح: «إنّ الله ـ تعالى ـ لأفرح بتوبة عبده ... » .

صفة الغيرة

ومنها: الحديث المرويّ في إثبات صفة الغيرة لله ـ تعالى ـ؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا أحد أغير من الله» . ومنها: حديث: «إنّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» ، وفيه: «يرفع له عمل اللّيل قبل عمل النّهار، وعمل النّهار قبل عمل اللّيل» ، صحيح. وبالجملة؛ فالأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، اقتصرتُ على ما حضرني منها حال الكتابة؛ فالعاقل المؤمن يكتفي بذكر واحد منها أو ببعض ما ذكر، والجاهل المعاند لا يكتفي بالمجلّدات الضّخام، وكيف تؤثّر فيه المجلّدات وهو يقرأ كتاب الله ويفسّره، ويقرأ كتب السُّنّة ويشرحها، وهو لا يعرج على إثبات صفة لله ـ تعالى ـ من الصّفات التي ذكرناها؛ بل نصب لجميع ذلك شرك التّأويل؛ فاصطاد به كلّ آية وكلّ حديث صحيح ورد في إثبات الصّفات؟! ولا أدري كيف نجت من هذا الشّرك: الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّيام؟! فكان يمكنه تأويل جميع ذلك ـ بل هو أقرب للتّأويل من هذه الآيات والأحاديث التي وردت في الصّفات ـ! فنعوذ بالله من هذه المهلكات والشّبهات والضّلالات.

صفة العين والمنادة

فصل ومنها: الحديث المرويّ في «الصّحيح» : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا وصف الدّجال وأخبر أنّه أعور؛ فقال: «وإنّ ربّكم ليس بأعور» ، وأشار إلى عينيه. ومنها: الحديث المرويّ في «الصّحيح» ـ في كتاب: بدء الخلق ـ: «إنّ الله كتب كتابًا فهو عنده فوق العرش ـ وفي رواية: فهو موضوع عنده فوق العرش ـ: إنّ رحمتي تغلب غضبي» ، وفي رواية: «تسبق غضبي» . ومنها: الحديث المرويّ في «الصّحيح» : «إنّ الله ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه مَن بَعُد كما يسمعه مَن قَرُب» . انتهى. فإن شئتَ ـ يا أخي ـ الزّيادة على ما ذكرتُه في هذا الكتاب؛ فعليك بكتب السُّنّة؛ مثل: كتاب التّوحيد الذي ختم به البخاريّ كتابه؛ فإنّه عقده للرّدّ على الجهميّة، وكتاب «خلق أفعال العباد» له، وكتاب «العلوّ» للحافظ شمس الدّين الذّهبيّ، وكتاب «الأسماء والصّفات» للحافظ البيهقيّ، وكتاب «شرح السُّنّة» للإمام محيي السُّنّة البغويّ، وكتاب «الرّدّ على الجهميّة» للدّارميّ، وكتاب «العلوّ» للموفّق ابن قدامة، وكتاب «الجيوش الإسلاميّة

لغزو المعطّلة والجهميّة» للحافظ شمس الدّين ابن القيّم، وغير ذلك من الكتب المصنّفة في الرّدّ على هؤلاء النّفاة الجاحدين لصفات ربّ العالمين. وكتب السُّنّة كلّها طافحة بهذه الأدِلّة، ولكن أهل هذه الكتب ممّن ذكرنا أرادوا جمع ذلك في مصنّفات مخصوصة؛ تسهيلًا للطّالبين؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، وشكر الله سعيهم، وأحسن مثواهم، ونحن معهم؛ {أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون} ، وهم المؤمنون حقًّا؛ لأنّهم آمنوا بالله ورسوله، وبما أُنزل إليهم من ربّهم، وبما جاءهم عن نبيّهم، لم يبدّلوا ولم يغيّروا ولم يحرّفوا؛ بل تلقّوه بالإيمان والتّسليم والتّفويض، وشنّعوا على مَن خالف ذلك أو أوّله أو حرّفه؛ فعليك بهم واهرع إليهم، واقفُ سبيلهم؛ تحشر معهم؛ {ومَن يتولّ الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون} ؛ فهم قدوتنا والحُجّة بيننا وبين الله ورسوله. أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المحافل

أحاديث أخرى فيها بعض الصفات

فصل ومنها: حديث أبي رزين العقيليّ أنّه قال: قلتُ: يا رسول الله؛ أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، {وكان عرشه على الماء} ... » الحديث. ومنها: حديث حصين والد عمران، أنّه سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الجاهليّة؛ فقال له: «كم تعبد اليوم من الآلهة؟» ؛ فقال حصين: أعبد سبعًا؛ ستّة في الأرض وواحد في السّماء؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: «مَن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟» ؛ فقال: الذي في السّماء. ومنها: الحديث الذي ورد في الدُّعاء للمريض؛ ولفظه: «ربّنا الله الذي في السّماء، تقدّس اسمك» . ومنها: حديث: «مَن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، ومَن كره لقاء الله كره الله

لقاءه» . ومنها: الأحاديث الدّالّة على كلام الله ـ عزّ وجلّ ـ مع أهل الجنّة كلام رحمة وحنان، ومع أهل النّار كلام تبكيت وهوان. وغير ذلك من الأحاديث الصّحيحة، المثبتة لصفات كثيرة لله ـ عزّ وجلّ ـ، أنكرها هؤلاء النّفاة المعطّلون، وكلّ هذه الأحاديث ناطقة بالرّدّ عليهم، وشاهدة عليهم بأنّهم مخالفون، ولصفات ربّهم ناكرون وجاحدون؛ فالله المستعان.

فصل: في أقوال الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين

فصل في أقوال الصّحابة والتّابعين والأئمّة المجتهدين في هذه المسائل التي أنكرها هؤلاء المعاندون والنّفاة المعطّلون وأنّهم لم يكونوا يذهبون في ذلك إلَّا إلى شيء من التّأويلات الباردة والآراء الكاسدة الفاسدة ذكر ما حفظ عن أبي بكر الصّديق ـ رضي الله عنه ـ روى ابن أبي شيبة والبخاريّ في «التّاريخ» ، عن عبد الله بن عمر أنّه قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ: «أيّها النّاس؛ إن كان محمّدًا إلهكم الذي تعبدونه؛ فإنّ إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الله الذي في السّماء؛ فإنّ إلهكم لم يمت» ، ثم تلا: {وما محمّد إلَّا رسول قد خلت من قبله الرّسل} ، حتى أتمّ الآية. انتهى. قلتُ: هذا إجماع من الصّحابة على أنّهم كانوا مجمعين على أنّ الله في السّماء؛ لأنّ أبا بكر خطب يومئذ بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلو كان أحد منهم يعلم خلافًا في ذلك؛ لبادر بالإنكار على أبي بكر، وهو من أشدّ النّاس تحريًا للحقّ والصّواب، سيّما في أمر العقائد، وقد حفظ عن الصّحابة أشياء كثيرة من هذا النّوع؛ ذكرها الحافظ ابن القيّم في كتاب «الجيوش الإسلاميّة» ؛ فليُرجع إليه.

فصل: في ذكر أقوال الأئمة الأربعة

فصل في ذكر ما ورد عن الأئمّة الأربعة قول أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ روى البيهقي بإسناده إلى نوح ابن [أبي] مريم أبي عصمة يقول: كنّا عند أبي حنيفة أوّل ما ظهر؛ إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهمًا؛ فدخلت الكوفة؛ فقيل لها: إنّ هاهنا رجلًا قد نظر في المعقول يُقال له: أبو حنيفة؛ فأتيه؛ فأتته؛ فقالت: أنتَ الذي يعلّم النّاس المسائل وقد تركت دينك؟ أين إلهك الذي تعبده؟ فسكتَ عنها، ثم مكث سبعة أيّام لا يجيبها، ثم خرج إلينا، وقد وضع كتابًا: إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ في السّماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله ـ تعالى ـ: {وهو معكم} ؟ قال: هو كما تكتب للرّجل: إنّي معك، وأنتَ عنه غائب. قال البيهقيّ: لقد أصاب أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نفى عن الله ـ تعالى وتقدّس ـ من الكون في الأرض، وفيما ذكر من تأويل الآية، وتبع مطلق السّمع في قوله: إنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ في السّماء. وقال شيخ الإسلام: وفي كتاب «الفقه الأكبر» المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رووه بإسناد عن أبي مطيع البلخيّ الحكم بن عبد الله: قال أبو حنيفة: «ومَن قال:

لا أعرف ربّي في السّماء أم في الأرض؛ فقد كفر؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ يقول: {الرّحمن على العرش استوى} ، عرشه فوق سبع سموات. قلتُ: فإن قال: إنّه على العرش ولكنّه يقول: لا أدري العرش في السّماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنّه أنكر أن يكون في السّماء؛ لأنّه ـ تعالى ـ في أعلى عليّين، وأنّه يدعى من أعلى لا من أسفل» . وفي لفظ: «سألتُ أبا حنيفة عمّن يقول: لا أعرف ربّي في السّماء أم في الأرض» ، وذكر كلامًا قريبًا من الأوّل. انتهى. قلتُ: وهذا كتاب «الفقه الأكبر» معروف مشهور، صحّت نسبته لأبي حنيفة بشهادة المتقدّمين والمتأخّرين من أصحابه؛ فممّن شرحه من المتقدّمين: الإمام أبو منصور الماتريديّ، ومن المتأخّرين: الشّيخ عليّ بن سلطان القاري، والشّرحان مطبوعان بالهند؛ فلا حاجة بنا إلى نقل جميع مسائله. ومن طالع خطبة «المبسوط» لشمس الأئمّة السّرخسيّ، وخطبة أصول الإمام البزوديّ؛ علم قطعًا أنّ أصحاب أبي حنيفة كانوا على عقيدة السّلف في إثبات الصّفات التي ورد بها السّمع، من غير تأويل ولا تمثيل. والله الموفّق.

فصل: في قول مالك والمالكية

فصل في ذكر ما ورد عن إمامنا إمام دار الهجرة مالك بن أنس ـ رضي الله عنه، وقدّس سرّه ـ ذكر الحافظ المتقن أبو عمر يوسف بن عبد البرّ ـ وهو من أجلّ أصحابنا ـ، في كتاب «التّمهيد» له، [بإسناده] إلى مالك، أنّه قال: «إنّ الله في السّماء، وعلمه في كلّ مكان، [لا يخلو منه مكان] » . قال: وقيل لمالك: {الرّحمن على العرش استوى} ؛ كيف استوى؟ فقال مالك ـ رحمه الله تعالى ـ: «استواؤه معقول، وكيفيّته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء» . وكذلك أصحاب مالك مِن بعده: قال يحيى بن إبراهيم الطّليطليّ في كتاب «سير الفقهاء» : «كانوا يكرهون قول الرّجل: إنّ الله بكلّ مكان» . قال أصبغ: «وهو مستوٍ على عرشه، وبكلّ مكان علمه وإحاطته» . وأصبغ من أجلّ أصحاب مالك وأفقههم.

ذكر قول أبي عمر الطّلمنكيّ قال في كتابه في الأصول: «أجمع المسلمون من أهل السُّنّة على: أنّ الله استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، وأجمع المسلمون على: أنّ الله استوى على عرشه بذاته ... ثم ساق بسنده عن مالك قوله: «الله في السّماء، وعلمه في كلّ مكان» ، ثم قال في هذا الكتاب: «وأجمع المسلمون من أهل السُّنّة على أنّ معنى قوله ـ تعالى ـ: {وهو معكم أينما كنتم} ونحو ذلك من القرآن؛ بأنّ ذلك علمه، وأنّ الله فوق السّموات بذاته، مستوٍ على عرشه كيف شاء» . وهذا لفظه في كتابه. وذكر الحافظ ابن عبد البرّ إمام أهل السُّنّة في زمانه، في كتاب «التّمهيد» ، عند شرح حديث: «ينزل ربّنا كلّ ليلة إلبى سماء الدُّنيا» ؛ فأطال الكلام على هذا الحديث، إلى أن قال: «وهذ الحديث فيه دليل على أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ في السّماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو حُجّتهم على المعتزلة والجهميّة في قولهم: إنّ الله في كلّ مكان وليس على العرش، والدّليل على صحّة ما قال أهل الحقّ. فمن ذلك: قوله ـ تعالى ـ: {الرّحمن على العرش استوى} ... » ، ثم ذكر كثيرًا من الآيات القرآنيّة والأحاديث المرويّة النّبويّة، وأخذ يردّ ويشنّع على مَن خالف ذلك. وممّن قال ذلك أيضًا من المالكيّة: ابن أبي زيد القيروانيّ، في «رسالته» في الفقه؛

قال ـ في باب: ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة ـ: «وأنّه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كلّ مكان بعلمه» . والحاصل: أنّ المتقدّمين من علماء المالكيّة كانوا على قول مالك بن أنس في الأصول والفروع، ولا يعلمون شيئًا من التّأويل الصّارف لنصوص الصّفات عن ظاهرها، بخلاف المتأخّرين منهم؛ فالله المستعان.

فصل: في قول الشافعي وأتباعه

فصل في ذكر قول إمامنا محمد بن إدريس الشّافعي ـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة ـ قال الإمام ابن الإمام عبد الرّحمن بن أبي حاتم الرّازيّ: حدّثنا أبو شعيب وأبو ثور، عن أبي عبد الله محمّد بن إدريس الشّافعيّ ـ رحمه الله تعالى ـ، قال: «القول في السُّنّة التي وردت وأنا عليها، ورأيتُ أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتُهم وأخذتُ عنهم ـ مثل: سفيان الثّوريّ ومالك وغيرهما ـ: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وأنّ الله ـ تعالى ـ على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وأنّ الله ـ تعالى ـ ينزل إلى السّماء الدُّنيا كيف شاء» . قال عبد الرّحمن: وحدثنا ابن عبد الأعلى قال: سمعتُ أبا عبد الله محمّد بن إدريس الشّافعيّ يقول ـ وقد سُئِلَ عن صفات الله، وما يؤمن به ـ؛ فقال: «لله ـ تعالى ـ أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيّه أُمّته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحُجّة رَدّها؛ لأنّ القرآن نزل بها، وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها فيما روى عنه العدول، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحُجّة عليه؛ فهو كافر، أمّا قبل ثبوت الحُجّة عليه؛ فمعذور بالجهل؛ لأنّ علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرّويّة والفكر، ولا يكفر

بالجهل بها أحد إلَّا بعد انتهاء الخبر إليه بها. ونثبت هذه الصّفات وننفي عنها التّشبيه، كما نفى التّشبيه عن نفسه؛ فقال: {ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير} . ومثله: قول صاحبه أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزنيّ، في رسالته. ومثله: قول إمام الشّافعيّة في زمانه أبي العبّاس بن سريج. ومثله: قول حُجّة الإسلام أبي أحمد بن الحسين الشّافعيّ. ومثله: قول الإمام إسماعيل بن محمّد بن الفضل التّيميّ الشّافعيّ. ومثله: قول الإمام أبي عمرو عثمان.

فصل: في قول أحمد بن حنبل وأصحابه

فصل في ذكر قول الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ـ رحمهم الله تعالى ـ قال الخلّال في كتاب «السُّنّة» : حدّثنا يوسف بن موسى قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد قال: قيل لأبي: ربّنا ـ تبارك وتعالى ـ فوق السّماء السّابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكلّ مكان؟ قال: «نعم؛ لا يخلو شيء من علمه» . قال الخلّال: وأخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميمونيّ قال: سألتُ أبا عبد الله أحمد عمّن قال: إنّ الله ـ تعالى ـ ليس على العرش؛ فقال: «كلامهم كلّه يدور على الكفر» . وروى الطّبريّ الشّافعيّ

في كتاب «السُّنّة» ، بإسناده إلى حنبل قال: قيل لأبي عبد الله: ما معنى قوله ـ تعالى ـ: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلَّا هو رابعهم} ، وقوله ـ تعالى ـ: {وهو معكم} ؟ قال: «علمه محيط بالكلّ، وربّنا على العرش بلا حدّ ولا صفة، {وسع كرسيّه السّموات والأرض} » . وقال أبو طالب: سألتُ أحمد بن حنبل عن رجل قال: إنّ الله معنا، وتلا قوله ـ تعالى ـ: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلَّا هو رابعهم} ؟ قال: «يأخذون بآخر الآية ويدعون أوّلها! هلّا قرأت عليه: {ألم تر أنّ الله يعلم ما في السّموات} الآية؟ بالعلم معهم، وقال في (ق) : {ونعلم ما نوسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} » . وقال المروزيّ: قلتُ لأبي عبد الله: إنّ رجلًا قال: أقول كما قال الله ـ تعالى ـ: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلَّا هو رابعهم} ، أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره؟ فقال أبو عبد الله: «هذا كلام الجهميّة» . فقلتُ له: كيف تقول في: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلَّا هو رابعهم ولا خمسة إلَّا هو سادسهم} ؟ قال: «علمه في كلّ مكان وعلمه معهم» . قال: «أوّل

الآية يدلّ على أنّه علمه» . وقال في موضع آخر: «وإنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ على عرشه فوق السّماء السّابعة، يعلم ما تحت الأرض السّفلى، وأنّه غير مماس لشيء من خلقه» انتهى. وبالجملة؛ فالنّصوص الواردة عن إمامنا أبي حنيفة النّعمان، وإمامنا نجم أهل السُّنّة مالك بن أنس، وإمامنا عالم قريش محمّد بن إدريس الشّافعيّ ـ رضي الله عنهم ـ كثيرة جدًّا، وعن إمامنا إمام أهل الأثر بلا نزاع، والذّابّ عن دين سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم بلا دفاع: أحمد بن حنبل الشّيبانيّ؛ أكثر وأعظم؛ كيف لا وهو صاحب المحنة المشهورة ـ أعني بها: مسألة القرآن ـ؛ فقد ضُرب وأُهين، ولم يصدّه ذلك عن طريف سلفه الصّالحين؛ فرضي الله عنهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، ورزقنا محبّتهم، وسلك بنا طريقهم، آمين. وهذا الذي نقلتُه من نصوصهم إنّما هو نبذة ممّا ذكره الحافظ إمام أهل الدُّنيا في الحديث محمد بن إسماعيل البخاريّ ـ قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، وبرّد مضجعه ـ، هو وكافّة علماء الحديث والتّفسير ومَن تبعهم بإحسان، في كتابه: «الجامع الصّحيح» وكتابه «خلق أفعال العباد» ، وممّا ذكره الحافظ البيهقيّ ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه «جامع النّصوص عن الشّافعي في مسائل العقائد» وكتابه «الأسماء والصّفات» ، وممّا ذكره الحافظ النّاقد البصير بعلوم الأثر صحيحها وسقيمها: شمس الدّين الذّهبيّ في كتابه «العلوّ» له، وممّا ذكره الإمام المفسّر المحدّث الأصوليّ النّحوي: أبو عبد الله شمس الدّين محمّد بن القيّم الحنبليّ في كتاب «الجيوش الإسلاميّة لغزو المعطّلة والجهميّة» .

فصل: في أقوال المفسرين

فصل وأمّا أقوال المفسّرين في هذا الباب: فكثيرة؛ منها: ما ذكره شيخ المفسّرين وإمامهم ومرجعهم عند النّزاع: أبو جعفر بن جرير محمد الطّبريّ ـ رحمه الله تعالى ورضي عنه ـ، في تفسيره المسمّى «جامع البيان» ، عند آيات الصّفات؛ أيّد فيها طريقة السّلف وأثنى عليها وانتصر لها، حتى قال عند تفسير قوله ـ تعالى ـ: {أأمنتم من في السّماء} قال: «وهو الله» . ومَن نظر في تفاسير المتقدّمين ـ كتفسير البخاريّ وابن ماجه ووكيع وابن مردويه وابن أبي حاتم وتفسير ابن جرير، وغيرهم ممّن التزم أن يفسّر القرآن بما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة والتّابعين ومَن تبعهم على طريقهم ومنوالهم ـ؛ لم يجد فيها غير طريقة السّلف، لا يرى فيها تأويل آيات الصّفات، ولا تحريفها. وقد نحى نحو المتقدّمين في التّفسير بعض المتأخّرين؛ فألّفوا بالتّفسير بالمأثور بل والآثار، ولم يدخلوا فيها ما أحدثه المتأخّرون من علم الكلام؛ فمنهم: الحافظ ابن كثير، والحافظ جلال الدّين السّيوطيّ له كتاب في التّفسير سمّاه: «الدّرّ المنثور بالتّفسير بالمأثور» ، وتفسير الحافظ ابن كثير أصحّ منه وأتقن، وتفسير السّيوطيّ أوسع منه وأجمع؛ فرحمة الله ـ تعالى ـ عليهما، وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيرًا.

فصل: في أقوال الصوفية

فصل وأمّا أقوال الصّوفيّة المحقّقين: فمن أجلّهم من المتأخّرين: سيدي عبد القادر الجيلانيّ الحنبليّ؛ قال في كتابه «الغُنية» وكتابه «تحفة المتّقين وسبيل العارفين» ، في باب: اختلاف المذاهب في صفات الله ـ عزّ وجلّ ـ، وقد ذكر اختلاف النّاس في الوقف عند قوله: {وما يعلم تأويله إلَّا الله والرّاسخون في العلم} ، إلى أن قال: «والله ـ تعالى ـ بذاته على العرش، علمه محيط بكلّ مكان، والوقف عند أهل الحقّ على قوله: {إلَّا الله} . وقد رُوي ذلك عن فاطمة بنت رسول الله ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ، وهذا الوقف حسن لمَن اعتقد أنّ الله بذاته على العرش، ويعلم ما في السّماوات والأرض» انتهى. وقد أطال الكلام ـ رحمة الله تعالى عليه ـ في باب: معرفة الصّانع من كتاب «الغُنية» له؛ فلا حاجة بنا إلى ذكر جميعه؛ لأنّ الكتاب مشهور، وقد طُبع بمكة المكرّمة ـ زادها الله تشريفًا وتعظيمًا ـ، وهو متداول بين النّاس. وإذا أردتَ الوقوف على جميع أقوال المسلمين من أهل التّفسير والحديث وأهل اللّغة والنّحو والمتصوّفة وأهل الكلام وغيرهم فردًا فردًا؛ فعليك بكتاب «اجتماع الجيوش الإسلاميّة لغزو المعطّلة والجهميّة» ، للحافظ ابن قيّم الجوزيّة، وهو كتاب جليل، لم يؤلّف مثله في هذا الباب؛ لأنّه جمع أشتات كتب المتقدّمين وأقوالهم في هذا الباب، مع إفراد كلّ قول على حدة؛ فجزاه الله ـ تعالى ـ الجزاء الأوفى، وحشرنا وإيّاه والمسلمين تحت لواء المصطفى، آمين.

فصل: حكم من جحد الصفات

فصل فإذا تقرّر هذا وكان أمرًا مجمعًا عليه بين المسلمين؛ لا يخالف فيه إلَّا كّل مبتدع جاهل ضالّ جهميّ؛ علم قطعًا أنّ كلامه بدعة وضلالة، بل كفر، بعد إقامة الحُجّة؛ كما تقدّم عن إمامنا محمّد بن إدريس الشّافعيّ ـ رضي الله عنه ـ، وتكفير السّلف للجهميّة معروف لمَن قرأ كتاب «خلق أفعال العباد» للإمام البخاريّ؛ لأنّه قد ذكر فيه بإسناده إلى عبد الله بن إدريس، وقد قيل له: إنّ أقوامًا يقولون: القرآن مخلوق؛ فقال: أمن النّصارى هم أو من اليهود أو من المجوس؟ فقيل له: بل من أهل القبلة! فقال: أبلغهم عنّي أنّهم كفّار. وبالجملة؛ فالنّصوص الواردة عن سلف الأُمّة في تكفير مَن جحد صفة لله ـ عزّ وجلّ ـ جاء بها القرآن أو صحّت من سُنّة سيّد ولد عدنان؛ مشهورة معروفة لمَن تتبّع كتب القوم، وأمّا مَن غرّته الأماني ورضي بحظّه من كتب المتأخّرين التي مسخها أهلها بعلم الكلام والفلسفة؛ فهو لا ترفع له رأس، ولا يثبت له قدم؛ بل تراه مزعزعًا متقلّبًا بين الشّكوك والأوهام والخيالات والشّبهات؛ فعياذًا بالله ـ تعالى ـ من هذه الخيالات.

فصل: كثير من المتأخرين على غير عقيدة السلف

فصل فإن قال قائل: كلّ المسلمين متقدّمهم ومتأخّرهم على هذه العقيدة؛ وكيف لا يدينون الله بهذه العقيدة وهي عقيدة سلف الأُمّة من الصّحابة والتّابعين والأئمّة المجتهدين، وهي التي جاء بها القرآن والسُّنّة ـ كما وصفتَ ـ؟! قلتُ: ما ذكره هذا القائل ساقط؛ لأنّ أكثر المتأخّرين على خلاف هذا؛ بل كلّ مَن اعتقد عقيدة السّلف من إثبات الصّفات لله ـ تعالى ـ وأنّه في السّماء؛ فبعضهم يكفّره وبعضهم يفسّقه ـ وهذا أورعهم ـ! وإليك بعض ما قاله زعيمهم أحمد بن حجر المكيّ؛ فقد ذكر في كتابه «الفتاوى الحديثيّة» ـ وهو من باب تسمية الشيء بضدّه؛ لأنّه لم يسلك في هذه المسألة طريقة الحديث؛ بل شنّع على مَن يعتقد هذه العقيدة، واستدلّ بأقوال مَن هم على شاكلته ـ؛ قال في الكتاب المذكور، بعد كلام طويل قاله في ذكر الخلاف بين أصحابه في تكفير سلف هذه الأُمّة وصفوتها؛ لأنّهم هم القائلون: إنّ الله في السّماء على عرشه ـ كما قدّمنا ذكر ذلك عنهم، معزوًّا إلى كتب صحيحة ـ؛ قال ابن حجر: «إذا تقرّر هذا؛ فقائل هذه المقالة ـ التي هي القول ... أعني بها: إنّ الله في السّماء؛ لأنّها هذه التي سُئل عنها بالجهة فوق ـ إن كان يعتقد الحلول والاستقرار والظّرفيّة والتّحيّز؛ فهو كافر يسلك به مسلك المرتدّين إن كان مظهرًا لذلك، وإن كان اعتقاده مثل أهل المذهب الثّاني؛ فقد تقرّر الخلاف فيه؛ فعلى القول بالتّكفير؛ يرجع لما قبله، وعلى الصّحيح: ينظر فيه؛ فإن دعاه النّاس إلى ما هو عليه وأشاعه وأظهره؛ فيُصنع به ما قال مالك ـ رضي الله عنه ـ فيمَن يدعو إلى بدعته، ونصّ على ذلك في آخر (الجهاد) من «المدوّنة» وتأليف ابن يونس، وإذا لم يدع إلى ذلك، وكان يظهره؛ فعلى مَن ولّاه الله أمر المسلمين ردعه وزجره عن هذا الاعتقاد والتّشديد عليه حتى ينصرف عن هذه البدعة؛ فإنّ فتح مثل هذا الباب للعوامّ وسلوك طريق التّأويل؛ فيه إفساد لاعتقادهم،

وإلقاء تشكّكات عظيمة في دينهم، وتهييج لفتنتهم ... » إلى آخر ما هذى به ولبّس به ـ كما هي عادته هو وأمثاله ـ. انتهى. أقول: فبالله عليكَ ـ أيّها المنصف ـ! أترضى أن يكون الصّحابة والتّابعون والأئمّة المجتهدون ـ كأبي حنيفة ومالك والشّافعيّ وأحمد والحمّادين والأوزاعيّ والسّفيانين وابن المبارك وابن راهويه وابن جرير، وأهل الحديث أجمعين ـ كفّارًا أو فسّاقًا، وابن حجر المكيّ وأضرابه هو المؤمنون السّنيّون؟! فسبحانك هذا بهتان عظيم!!! ولكن يُقال لهؤلاء: هل النّصوص التي نقلناها عن سلف الأُمّة في إثبات أنّ الله في السّماء صحيحة أم لا؟! فإن كانت غير صحيحة؛ فعليكم أن تبيّنوا عدم نسبتها لهم، ولا سبيل لكم، وإن كانت صحيحة عنهم؛ فهل تجرون فيهم هذا الخلاف أم لا؟! فإن كنتم

ذكر بعض من رجع عن علم الكلام

لا تجرون فيهم؛ فلِمَ أجريتموه في غيرهم، والمقالة واحدة من غير فرق؟! ومعلوم أنّه لم يُنقل عن أحد منهم التّفصيل والتّقسيم الذي ذكرتموه، وإن كنتم تجرون هذا الخلاف فيهم أيضًا؛ فقد طعنتم في مقلّديكم؛ لأنّ تقليد الكافر والفاسق في أمر الدّين غير جائز بحال. فبالله عليكم؛ كفّوا واستحيوا من الله ـ عزّ وجلّ ـ من هذا المقال، وكيف تكفّرون وتفسّقون مَن أثبت لله ـ عزّ وجلّ ـ صفاته التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله ـ وهو أعلم بربّه وأتقى النّاس له ـ؟! فيستحيل أن يصفه بصفات ظاهرها غير مراد وأنّه يؤدّي إلى التّجسيم، من غير أن يبيّن لهم ويحذّرهم من اعتقاد ذلك، ويتلو عليهم آيات ربّهم التي فيها صفاته ولا يؤوّلها بصرفها عن ظاهرها؛ والله يقول: {وأنزلنا عليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم} ؛ فأيّ احتياج أعظم، وأيّ أمر للنّاس أهم من بيان صفات الله ـ عزّ وجلّ ـ؟! فكيف يليق بهذا النّبيّ الحريص على هداية أُمّته كتمان ذلك، بل يأتيهم بألفاظ توافق ما في كتاب ربّهم، ويسأل عن (الأين) ، ويُسأل أيضًا كذلك، ولم يقل لهم: لا تسألوا عن (الأين) ؛ فإن الله لا يُقال له: أين، ولا في السّماء ولا في الأرض، ولا فوق ولا تحت ولا خلف ولا أمام، وهو من الجهات السّتّ خال! سيّما وقومه كانوا حديثي عهد بالكفر، فكيف يتركهم على هذه الظّواهر المتبادرة من القرآن الذي نزل بلغتهم، لا يبيّنها لهم بيانًا شافيًا، كما بيّن الوضوء والصّلاة والزّكاة وغير ذلك من أحكام الدّين؟! فإن قلتم: علّمهم جميع ذلك؛ قلنا: لِمَ لم يُنقل عن أحد من الصّحابة ـ من وجه صحيح ولا ضعيف ـ شيء مِمّا ذكرتم؟! بل المحفوظ عنهم: هو ما ذكرناه من إثبات هذه الصّفة؛ فبالله عليكم؛ تنبّهوا وتيقّظوا لقولكم هذا؛ فإنّه ـ والله ـ نفي وتعطيل وجحود لصفات ربّكم، وطعن في نبيّكم وأصحابه فمَن بعدهم، إلَّا مَن دان الله بعقيدتكم هذه التي نتيجتها العدم والصّرف. ومَن أراد الله هدايته رجع عنها في آخر عمره؛ فممّن رفضها: إمام المتكلّمين في زمانه أبو الحسن الأشعريّ؛ وصنّف كتابه «الإبانة عن أصول الدّيانة» ؛ رجع فيه إلى

ذكر بعض ما قاله الأشعري

طريقة الكتاب والسُّنّة وأقوال سلف الأُمّة. وممّن رجع عن علم الكلام وحرم تعاطيه: أبو المعالي ابن الجوينيّ، ومنهم: ابن الخطيب الرّازيّ، رجع عنه في آخر عمره، ونظم قصيدته المشهورة التي مطلعها: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا: قيل وقالوا ثم قال: وها أنا أموت على دين العجائز. ومنهم: الإمام الغزاليّ؛ تركه في آخر عمره؛ فاشتغل بالقرآن والسُّنّة؛ حتى قيل: إنّه مات وصحيح البخاريّ على صدره. وهذه أمور معروفة لمَن تتبّع كتب تاريخ الرّجال والمقالات.

فصل فإن قال قائل: إنّ المتأخّرين تبعوا في العقائد الإمام أبا الحسن الأشعريّ، خصوصًا المالكيّة والشّافعيّة، وأمّا الحنفيّة فهم على طريقة أبي منصور الماتريديّ. فالجواب: نعم؛ إنّ أبا الحسن الأشعريّ كان على هذه الطّريقة ثم رجع عنها ـ كما أسلفناه ـ، وهذه نبذة من كتابه «الإبانة» ؛ يُستدلّ بها على رجوعه إلى طريق أهل الحديث؛ قال ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب «الموجز والإبانة» ، بعد كلام طويل، ردّ به على المعتزلة الذين أنكروا بعض الصّفات الثّابتة لله ـ سبحانه وتعالى ـ، ونفوا أن يكون لله وجه، مع قوله: {ويبقثى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام} ، وأنكروا أن يكون لله يدان، مع قوله: {لما خلقتُ بيديّ} ، وأنكروا أن يكون له عينان، مع قوله: {تجري بأعيننا} ، وكقوله: {ولتصنع على عيني} ، ونفوا ما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: «إنّ الله ينزل إلى سماء الدُّنيا ... » إلخ، إلى أن قال: «وجملة قولنا: أن نقرّ بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله، وما رواه الثّقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نردّ من ذلك شيئًا، وأنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ إله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره، لم يتّخذ صاحبة ولا ولدًا، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، والجنّة حقّ» ، إلى أن قال: «وأنّ الله مستوٍ على عرشه؛ كما قال ـ تعالى ـ: {الرّحمن على العرش استوى} ، وأنّ له وجهًا، وأنّ له يدين، وأنّ له عينين» ، إلى أن قال: «ونقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق» ، إلى أن ختم الكتاب. وهو كتاب نفيس جدًّا، غزير العلم، وقد طُبع على ورق جيّد بخط فصيح في البلاد الهنديّة، مع عدّة رسائل. انتهى. إذا تقرّر ذلك؛ فأقول: إنّ المتأخّرين من أهل الكلام ما وافقوا في عقائدهم هذه أحدًا من أهل السُّنّة والجماعة، لا الصّحابة ولا التّابعين ولا الأئمّة المجتهدين، ولا أهل الحديث ولا غيرهم ممّن يعتدّ بعلمه ويوثق بدينه، ولا أبا الحسن الأشعريّ الذين يدّعون أنّهم منتسبون إليه، وليسوا صادقين؛ لما عُلم من عقيدته، وأنّ قيامهم وتشنيعهم

الإمام اليافعي يرد على السبكي شعرا

وتضليلهم وتخطئتهم لشيخ الإسلام أبي العبّاس تقي الدّين أحمد بن تيميّة ـ رحمة الله تعالى عليه ـ ليس ذلك قاصرًا عليه؛ بل هو قدح وتشنيع وتضليل لكافّة سلف الأُمّة، حتى الصّحابة، وحتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لما مرّ من الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة وأقوال الصّحابة فمَن بعدهم؛ المثبتة أنّ الله في السّماء، وله يدان وعينان وأصابع وقدم وساق، وأنّه ينزل إلى سماء الدُّنيا، وأنه يجيء يوم القيامة، وغير ذلك من الصّفات التي أنكرها هؤلاء؛ فويل ثم ويل لمَن كان سلف الأُمّة ونبيّها خصماءه. والله يرحم الإمام اليافعيّ اليمانيّ الشّافعيّ، حين ردّ على أبيات الإمام السّبكيّ التي قالها لما اطّلع على كتاب «منهاج السُّنّة النّبويّة» ، الذي ألّفه شيخ الإسلام أحمد بن تيميّة في الرّد على الرّافضة؛ قال ما نصّه: وما نسبتم إلى الشّيخ الإمام تقيّ ... الدّين أحمد أمر لا يُخصّ به في قولكم خلط الحقّ المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه يحاول الحشو أنى كان فهو له ... حثيث سير بشرقٍ أو بمغربه يرى حوادث لا مبدأ لأولها ... في الله سبحانه عمّا يظنّ به قال الإمام اليافعيّ: لقد علمتم بأنّ السّادة السّلف الـ ... ـماضين ما خرجوا عمّا أقر به هم القرون الأولى نص الرّسول على ... تفضيلهم وأزالوا كلّ مشتبه لئن رددت عليه في مقالته ... فقد رددت عليهم فادرِ وانتبه

كذا الأئمّة أهل الحق كلّهم ... يرون ما قاله من غير ما جبه فردكم ليس مخصوصًا بواحدهم ... بل الجميع وهذا موضع الشّبه هلا جمعت الألى قالوا مقالته ... ليستبين خطاهم من مصّوبه فكلهم خلط الحقّ المبين بما ... يشوبه كدر في صفو مشربه إن كان ذلك حشويًّا لديك يُرى ... وكلّهم أنت تقفو إثر سبسبه فالحشو فرية جهميّ ومعتزل ... فامدح وذمّ بما جاء الكتاب به وانظر لوازم ما حاولته طلبًا ... فنيّة المرء تلفى عند مطلبه وخذ أدِلّة ما قالوه واضحة ... من الكتاب ودع ما قد هذوت به فالرّب سبحانه ما زال متّصفًا ... بكلّ وصف كمال عند موجبه انتهى. والقصيدة طويلة جدًّا؛ احتوت على عقيدة السّلف بأدِلّتها؛ فرحم الله ناظمها. وبالجملة؛ فردّ هؤلاء على شيخ الإسلام ففي الظّاهر ردّ عليه، وفي التّحقيق هو ردّ على كافّة أعيان الأُمّة وصفوتها، سيّما القرون الأولى التي شهد لها الرّسول بالخير، وجعل إجماعهم حُجّة؛ وكيف لا يكون ذلك والله يقول: {ومَن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا} ؛ فنبرأ إليك ربّنا من هؤلاء الذين حرّفوا نصوص صفاتك، وكفّروا وفسّقوا مَن يعتقدها على ظواهرها ويكل كيفيتها لك، ويقولون: إنّ طريقة السّلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم وأوضح وأبين!

فصل: في ذم التأويل

فصل وقد ذّمّ تأويل نصوص الصّفات كثير من العلماء قديمًا وحديثًا؛ فممّا وقفتُ عليه من ذلك جزء للإمام الموفّق ابن قدامة، ورأيتُ أن أنقل منه جملة تتميمًا للفائدة. والله الهادي. قال ـ رحمه الله تعالى ـ بعد الخطبة: «أمّا بعد؛ فإنّي أحببتُ أن أذكر مذهب السّلف من الصّحابة ومَن اتّبعهم بإحسان ـ رحمة [الله عليهم ـ في أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته؛ ليسلك سبيلهم مَن أحبّ الاقتداء بهم، والكون معهم] في الدّار الآخرة؛ إذ كان كلّ تابع في الدُّنيا مع متبوعه في الآخرة، وسالك حيث سلك موعودًا ما وعد به متبوعه من خير أو شرّ؛ دلّ على هذا قوله ـ تعالى ـ: {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} ، وقوله ـ سبحانه ـ: {والذين آمنوا واتّبعتهم ذريّتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّتهم} ، وقال حاكيًا عن إبراهيم ـ عليه السّلام ـ: {فمَن تبعني فإنّه منّي} ، وقال في ضدّ ذلك: {ومَن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا} ، وقوله ـ تعالى ـ: {يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومَن يتولّهم منكم فإنّه منهم} ، وقال: {فاتّبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النّار} ؛ فجعلهم أتباعًا له في الآخرة إلى النّار حين اتّبعوه في الدُّنيا، وجاء في الخبر: إنّ الله يمثل لكلّ قوم ما كانوا يعبدون في الدُّنيا» . انتهى ما أردتُ جمعه في الرّد على السّبكيّ، وآخر دعوانا ـ بتوفيق ربّنا ـ أن الحمد لله

دعاء بالهداية والختام

ربّ العالمين. اللهمّ ربّ جبريل وميكائيل، فاطر السّماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة؛ أنتَ تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك؛ فإنّك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم. اللهمّ {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين * اهدنا الصّراط المستقيم * صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين} . {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب} . يا مقلّب القلوب؛ ثبّت قلبي على دينك وإيمانك. {ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربّنا إنّك رءوف رحيم} . {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله} . {الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور} . {فلله الحمد ربّ السّموات وربّ الأرض ربّ العالمين * وله الكبرياء في السّموات والأرض وهو العزيز الحكيم} . اللهمّ فاطر السّماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة؛ إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلَّا أنت، وحدَك لا شريك له، وأنّ محمّدًا عبدك ورسولك، وإنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشّر وتباعدني عن الخير، وإني لا أثق إلَّا برحمتك؛ فاجعل لي

عهدًا توفينيه يوم القيامة؛ إنّك لا تخلف الميعاد. وصلى الله على سيّدنا محمّد، عبدك ورسولك النّبيّ الأُمّي، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربّ العالمين. وكان الفراغ من جمع هذا الكتاب في يوم السّبت، الموافق أربع وعشرين من شهر شوال من شهور سنة ثلاثمائة وثلاث وثلاثين بعد الألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف (1333هـ) . * * *

§1/1