الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر ومعه «الشرع واللغة»

أحمد شاكر

وكلمة الله هي العليا الكتاب والسُّنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر "في الدعوة إلى وجوب أخذ القوانين من الكتاب والسنة، ورسم الخطة العلمية لتنفيذ ذلك." "ومعه: الشرع واللغة" بقلم العلامة أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي وعضو المحكمة الشرعية العليا (سابقا) (1309 - 1377)

جميع الحقوق محفوظة للناشر "بالتعاقد مع ورثة المؤلف" الطبعة الأولى 1363هـ الطبعة الثانية 1406هـ الطبعة الثالثة 1407هـ دار الكتب السلفية مؤسسة علمية لنشر وتحقيق وتوزيع الكتاب الإسلامي صاحبها ومديرها: شرف حجازي القاهرة - 10 شارع الشيخ على الغاياتي - عابدين - خلف مسرح الجمهورية.

أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين" -بقلم- محمود محمد شاكر

بسم الله الرحمن الرحيم أحمد محمد شاكر "إمام المحدثين" محمود محمد شاكر في الساعة السادسة بعد فجر يوم السبت 26 من ذي القعدة سنة 1377 هـ =14 من يونية سنة 1958م، فقد العالم الإسلامي إماماً من أئمة علم الحديث في هذا القرن، هو الأستاذ أحمد محمد شاكر، المحدث المشهور، وهو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وكان له اجتهاد عُرف به في جرح الرجال وتعديلهم، أفضى به إلى مخالفة القدماء والمحدثين، ونصر رأيه بالأدلة البيِّنة، فصار له مذهب معروف بين المشتغلين بهذا العلم، على قلّتهم. وقد تولى القضاء في مصر أكثر من ثلاثين سنة، فكانت له أحكام مشهورة في القضاء الشرعي، قضى فيها باجتهاده غير مقلّد ولا متّبع، وكان اجتهاده في الأحكام مبنياً على سعة معرفته بالسنة النبوية، التي اشتغل بدراستها منذ نشأته إلى أن لقي ربه.

وهو أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر من آل أبي علياء، ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، وأبوه الإمام العلامة الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً، وجدّه لأمّه هو العالم الجليل الشيخ هارون عبد الرازق، وأبوه وأمه جميعاً من مديرية جرجا بصعيد مصر. وَوُلِد الشيخ أحمد، -رحمه الله-، بعد فجر يوم الجمعة 29 من جمادى الآخرة سنة 1309، الموافق 29 من يناير سنة 1892، بمنزل والده بدرب الإنسية، بقسم الدرب الأحمر، بالقاهرة. وسماه أبوه: "أحمد شمس الأئمة، أبو الأشبال"، وكان أبوه يومئذ أميناً للفتوى مع أستاذه الشيخ العباسي المهدي، مفتي الديار المصرية. فلما صدر الأمر بإسناده منصب قاضي قضاة السودان، إلى والده الشيخ محمد شاكر، في 10 من ذي القعدة سنة 1317هـ=11 من مارس سنة 1900م عقب خمود الثورة المهدية، رحل بولده إلى السودان، فألحق ولده "أحمد" بكلية غوردون، فبقي تلميذاً بها حتى عاد أبوه من السودان، وتولى مشيخة علماء الإسكندرية في 26 من أبريل سنة 1904، فألحق ولده من يومئذ بمعهد الإسكندرية الذي يتولاه. وكان السيد أحمد منذ عقل وطلب العلم، محباً للأدب والشعر، كدأب الشباب في صدر أيامه، فاجتمع في الإسكندرية وأديب من

أدباء زمانه في هذا الثغر؛ هو الشيخ عبد السلام الفقي، من أسرة الفقي المشهورة بالمنوفية، فحرضه على طلب الأدب، وحرّض معه أخاه علياً، وهو أصغر منه، وصار يقرأ لهما أصول كتب الأدب في المنزل زمناً طويلاً. ثم أراد الشيخ عبد السلام أن يختبر تلميذيه، فكلفهما إنشاء قصيدة من الشعر، فعمل علي --أطال الله بقاءه-، أبياتاً، أما أحمد فلم يستطع أن يصنع غير شطر واحد ثم عجز؛ فمن يومئذ انصرف أخوه علي إلى الأدب، وانصرف هو إلى دراسة علم الحديث بهمة لا تعرف الكلل منذ سنة 1909 إلى يوم وفاته. ولكنه لم ينقطع قط عن قراءة الآداب: حديثها وقديمها، مؤلفها ومترجمها، كما سيظهر بعد من الكتب التي تولى نشرها في حياته -رحمه الله-. وكان أول شيوخه في معهد الإسكندرية الشيخ "محمود أبو دقيقة"، وهو أحد العلماء الذين تركوا في حياة الفقيد أثراً لا يمحى؛ فهو الذي حبب إليه الفقه وأصوله، ودرّبه وخرّجه في الفقه حتى تمكن منه. ولم يقتصر فضل هذا الشيخ على تعليمه الفقه، بل علمه أيضاً الفروسية وركوب الخيل، والرماية والسباحة، فتعلق السيد أحمد بركوب الخيل والرماية، ولم يتعلق بالسباحة تعلقاً يذكر. أما أعظم شيوخه أثراُ في حياته، فهو والده الشيخ "محمد شاكر"؛ فقد قرأ له ولإخوانه التفسير مرتين، مرة في تفسير البغوي، وأخرى في تفسير النسفي، وقرأ لهم صحيح مسلم، وسنن الترمذي والشمائل،

وبعض صحيح البخاري. وقرأ لهم في الأصول: جمع الجوامع، وشرح الأسنوي على المنهاج، وقرأ لهم في المنطق: شرح الخبيصي، وشرح القطب على الشمسية، وقرأ لهم في البيان: الرسالة البيانية، وقرأ لهم في فقه الحنفية كتاب الهداية على طريقة السلف في استقلال الرأي وحرية الفكر، ونبذ العصبية لمذهب معين. وكثيراً ما خالف والده في هذه الدروس مذهب الحنفية عند استعراض الآراء وتحكيم الحجة والبرهان، ورجح ما نصره الدليل الصحيح. هكذا قال السيد أحمد في ترجمة والده. وقد ظهر أثر والده هذا ظهوراً بيناً في دراسة الشيخ أحمد للحديث، وفي أحكامه التي قضى بها في مدة توليه القضاء بمصر. وكان لوالده أعظم الأثر في توجيهه إلى دراسة علم الحديث منذ سنة 1909، فلما كانت سنة 1911 اهتم، السيد أحمد، بقراءة مسند أحمد بن محمد بن حنبل -رحمه الله-، وظل منذ ذلك اليوم مشغولاً بدراسته حتى ابتدأ في طبع شرحه على المسند سنة 1365 من الهجرة = سنة 1946 من الميلاد، كما بين ذلك مختصراً في مقدمة المسند. ولما انتقل والده من الإسكندرية إلى القاهرة وكيلاً لمشيخة الأزهر في ربيع الآخر سنة 1327هـ 29 من أبريل سنة 1909، التحق السيد أحمد، هو وأخوه السيد علي بالأزهر، فكانت إقامته في القاهرة بدء عهد جديد في حياته، فاتصل بعلمائها ورجالها، وعرف الطريق إلى دور

كتبها في مساجدها وغير مساجدها. وتنقل بين دكاكين الكتبية. وكانت القاهرة يومئذ مستراداً لعلماء البلاد الإسلامية، وكان من التوفيق أن حضر إلى القاهرة من المغرب الأقصى السيد عبد الله بن إدريس السنوسي، عالم المغرب ومحدثها، فتلقى عنه طائفة كبيرة من صحيح البخاري، فأجازه هو وأخاه برواية البخاري، ورواية باقي الكتب الستة. ولقي بها أيضاً الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي، فأخذ عنه كتاب بلوغ المرام، وأجازه به وبالكتب الستة، ولقي أيضاً الشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي، عالم القبائل الملثمة، فأجازه هو وأخاه بجميع علمه. وتلقى أيضاً من الشيخ شاكر العراقي. وكان أسلوبه في التحديث أن يسأله أحد طلابه عن مسألة، فيروي عندئذ كل ما ورد فيها من الأحاديث في جميع كتب السنة بإسنادها، مع بيان اختلاف روايتها. فأجازه وأجاز علياً بجميع كتب السنة. ولقي أيضاً في القاهرة من علماء السنة الشيخ "طاهر" الجزائري عالم سورية المتنقل، والسيد "محمد رشيد رضا" صاحب المنار، ولقي كثيراً غير هؤلاء من علماء السنة يطول ذكرهم بالتفصيل. وهذا اللقاء المتتابع للعلماء، هو الذي مهّد لهذا العالم أن يستقلّ بمذهب في علم الحديث، حتى استطاع أخيراً أن يقف في منتصف هذا القرن علماً مشهوراً لا ينازعه في إمارة التحديث إلا قليل. * * *

ولما حاز شهادة العالمية من الأزهر في سنة 1917، عُين مدرساً بمدرسة ماهر، ولكن لم يبق بها غير أربعة أشهر، ثم عين موظفاً قضائياً ثم قاضياً، وظل في القضاء حتى أحيل إلى المعاش في سنة 1951 عضواً بالمحكمة العليا، ولكنه لم ينقطع في خلال ذلك عن دراساته، وعن المشاركة في نشر التراث الإسلامي، في الحديث والفقه والأدب. وأول كتاب عرف به الشيخ "أحمد محمد شاكر" وعرف به إتقانه وتفوقه، هو نشره رسالة الإمام الشافعي، عن أصل تلميذه الربيع بن سليمان، الذي كتبه بخطه في حياة الشافعي من إملائه. ونشره رسالة الشافعي يعدّ من أعظم الآثار التي تولى العلماء نشرها في هذا العصر. ثم شرح سنن الترمذي شرحاً دقيقاً، ولكنه لم يتمه، وشارك في نشر شرح "سنن أبي داود"، ونشر كتاب جماع العلم للشافعي، وشارك أيضاً في نشر المحلى لابن حزم، وشرح صحيح ابن حبان، ولم ينشر منه غير الجزء الأول. أما عمله الذي استولى به على الغايات فهو شرحه على مسند أحمد بن حنبل، أصدر منه خمسة عشر جزءاً فيها من البحث والفقه والمعرفة ما لم يلحقه فيه أحد في زمانه هذا.

ونشر من كتب الأدب والشعر، كتاب "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والمفضّليات للمفضل الضبي، والأصمعيات للأصمعي، وشاركه في نشرهما ابن خاله الأستاذ "عبد السلام محمد هارون"، ونشر كتاب المعرّب للجواليقي نشراً علمياً دقيقاً. وشارك أخاه الأستاذ "محمود محمد شاكر" في تفسير الطبري، فتولى جزءاً من تخريج أحاديثه إلى الجزء التاسع، وعلق على بعضها إلى الجزء الثالث عشر، ثم وافته المنية، ولم ينظر بعد في أحاديث الجزء الرابع عشر. وكان قبل وفاته، -رحمه الله-، قد شرع في اختصار تفسير القرآن لابن كثير، وسماه "عمدة التفسير"، وصل فيه إلى الجزء الخامس من عشرة أجزاء. وقد قصد فيه الإبانة عن معاني القرآن، بما يوافق حاجة المتوسطين من المثقفين، مع المحافظة على ألفاظ المؤلف ما استطاع. أما سائر الكتب التي تولى نشرها فهي كثيرة يطول ذكرها. وله في جميع ما نشره وألفه تعليقات دافع فيها عن أحكام الإسلام وآدابه دفاعاً تفرد به، ونطق فيه بالحق الذي يراه، غير متهيب ولا متلجلج. وأما أهم ما ألفه فهو كتاب نظام الطلاق في الإسلام دل فيه على اجتهاده وعدم تعصبه لمذهب من المذاهب، واستخرج فيه نظام الطلاق

من نص القرآن، ومن بيان السنة في الطلاق، وكان لظهور هذا الكتاب ضجة عظيمة بين العلماء، ولكنه دافع فيه عن اجتهاده دفاعاً مؤيدا بالحجة والبرهان، ومن قرأ الكتاب عرف كيف يكون الاحتجاج في الشريعة، وظهر له فضل هذا الرجل وقدرته على ضبط الأصول الصحيحة، وضبط الاستنباط فيها ضبطاً لا يختل. فرحم الله فقيدنا، وبعث في هذه الأمة من يخلفه للنهوض بما ابتدأه. محمود محمد شاكر

_ (*) نشرت هذه الترجمة للمرة الأولى في مجلة المجلة، العدد التاسع عشر - في سنة 1377هـ.

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله رب العالمين، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. لا يزال الناسُ يذكرون، ولا تزال ألسنتهم تُرَدِّدُ، الأثر السَّيء لاقتراح صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا كتابةَ العربية بما يسميه "الحروف اللاتينية"، ولا يزال ينكرون عليه اقتراحه، إلَّا مَن شذَّ عن خطأ أو عن عمدً، وهم قليل نادر. ولم يكتفِ صاحب الاقتراح بما اقترح؛ بل راح يردُّ على معارضيه في كتاب خرج في بعض مسائله إلى الإزدراء بالتشريع الإسلامي والسخرية منه، وممن يدعو إلى العمل به في هذه العصور في بلاد الإسلام. وقد وَجَدَتِ الأُمم العربية في هذه السنين العِجَاف، سني الحرب العالمية التي بدأت في سنة 1939م ولمَّا تَضع أوزارَها، أَنها لا ينجيها عن عواقبها، ولا يحفظ عليها وجودَها، إلَّا أن تجمعها جامعة قوية تثْبُت على الدهر، هي "جامعة الأمم العربية" وقد وضع أَساسُها وثُبِّتَتْ

قواعدُها في هذا العام، وسيقوم بنيانها وتعلو أركانها فيما تَستقبل من الأيام، إن شاءَ الله. والتاريخ،. منذ اكثرَ من أَلف وثلاثمائة سنة، منذ أَن أشمرق نورُ الإسلام، يربط الإِسلام بلغة العرب أَوثق رباطٍ. فلا يستطيعُ أَحدٌ أن يتخيلَ أمة مسلمة غير عربية، ولا أن يتخيلَ لغةَ العرب منفصلة عن الإِسلام وكان ذلك من صُنع الله بالقرآن، فهو أَوثق سبب يصِل الإِسلامُ بالعروبة، لا تنفصم عُراهُ. فلا تكون أمةٌ عربيةٌ ولا أمة مسلمة إلا بهذا القرآن. والمُثُلُ متوافرةٌ فيمن مضَى وفيمن بقي. وسيكون من أثَر اتحاد الأمم العربية اتحادُ الأمم الإسلامية، حتماً مقضياً. وإن أَبَى من أبَى، وإن كره مَن كره.، فذلك الذى تقتضيه قطرة الدين، وفطرة اللغة، ووحدةُ الروح ووحدة التفكير. {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وهذه أمم العربية تسعى أَن توحدَ طوقَ ثقافتها ومناهجَ تعليمها, حتى لا تكون بينها فوارق إلا في الجزئيات التى تقتضيها طبيعة الفرق بين إقليم وإقليم، وجوّ وجوّ، واستعدادٍ واستعدادٍ. حتى يأتي الجيل القادمُ نَسَقاً واحداً، وأمة واحدةً. وهذه الأمم نفسها تفكر أو تسعى في وحدة التشريع أَيضاً، على

هذا النهج، ولكنها تخطئ الطريق، تريد أن تبني على ما اقتبسنا من تشريع الإفرنج، رقد نُهينا عنه. وعندنا تشريع كامل، أمرنا أن نتبعه، وأن نرضى به وحده، مؤمنين مخلصين. وهو تشريع دقيق، صالح في كل زمان وكل مكان. فلئن كان هذا، ولن يكون، فَقَدَتْ هذه الأممُ أَقوى مقوماتها، وهو روح التشريع الواحد المخالط للقلوب، وهو هَديُ القرآن. وطالما دعونا للهدَي غيرَ وَانِينَ ولا غافلين، وكنتُ أَحدَ الداعين، على ما وسع جُهدي. فلما أَنْ ثار عبد العزيز باشا فهمى باللغة وبالتشريع يزجرههما زجراً عنيفاً، غير عالم أنهما لن يَزُلاَ حتى تزولَ الجبال: وجدتُ الفرصة سانحةً لأَن أستأنف دعوتي، فأرُدَّ عملَ معالي الباشا إلى مصادره وبواعثه، أو إلى نتائجه وعواقبه، وأعيدَ نشر محاضرةٍ كنتُ قد أعددتها منذ بضع سنين، في أَنَّ "الكتاب والسنة يجب أَن يكونا مصدرَ القوانين في مصر". لأبثَّ دعوتي، في سبيل الله، وفي سبيل الخير لأمتى. فهذا هو الكتاب. وكنت قد وضعتُ في المحاضرة خطة عملية لاقتباس القوانين من الشريعة، أَجملتها أجمالا، رجاء أن تُفَصَّل عند وضعها موضعَ التنفيذ. فرأيت أن أُفصلها بعضَ التفصيل، في آخر الكتاب، حتى لا يكونَ لمعتذر عذر، بعدَ أن وَضَحتِ الطريقُ واستنارتِ السبلُ.

فلعل اللهَ أن يوفق بعضَ قادة الفكر إلى الجدّ فى هذه السبيل، ودرسِ هذه الخطة، وتنقيحها بما يستبينُ من البحث وتبادل الآراء، ثم وضعِها موضعَ التنفيذ، فالفرصةُ مواتية، والتواني مضيعة. ورسولُ الله يقولُ ما أَمره الله أن يقولَ: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقد بَلَّغكم وأَنذركم. هدانا الله بهدايته. أحمد محمد شاكر الأحد 25 ذي الحجة سنة 1363 12 نوفمبر سنة 1944

الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر

الكتاب والسنة، يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر أيها السادة! تشرفت اليوم بالمثول بين أيديكم لأتحدث إليكم في موضوع من أشد المواضيع خطورة في حياتنا الماضية والمستقبلة، والكتاب -كما يقولون -يُعرف من عنوانه. وعنوان كلمتي محدود مُحرر، صريح بيّن (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر). نعم، ومصر بلد إسلامي، وهي تقعد الآن بين الأمم مقعد الصدارة في ممالك الإسلام، وإلى ما تصنع ينظر المسلمون في أنحاء الأرض، وبها يقتدون، فيهتدون أو يضلون، ومعاذ الله أن تضل مصر بعد أن ملكت أمرها، استقلت بشؤونها، فتحمل إثم العالم الإسلامي كله، ورسول الله يقول: "من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". أيها السادة! إن الله أرسل محمداً هادياً وبشيراً ونذيراً، وحاكما بين الناس بما أنزله عليه أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله،

ودعا الناس إلى طاعته في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، عباداتهم ومعاملتهم. وأنزل عليه شريعة كاملة، لم تَسْمُ إليها شريعة من الشرائع قبلها، ولن يأتي أحد من بعده بخير منها ولا بمثلها. ذلك بأن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وذلك بأن محمداً خاتم النبيين. شرع الله هذه الشريعة الكاملة للناس كافة، وفي كل زمان ومكان، بعموم بعثة الرسول الأمين، وبختم النبوة والرسالة به. فكانت الباقية على الدهر، ونسخت جميع الشرائع. ولم تكن خاصة بأمة دون أمة، ولا بعصر دون عصر. ولذلك كانت العبادات مفصلة بجزئياتها، لأن العبادة لا تتغير باختلاف الدهور والعصور. وكان ما سواها من شؤون الفرد والمجتمع، في المعاملات المدنية، والمسائل السياسية، ونظام الحكومات، والقواعد القضائية، والعقوبات، وما إلى ذلك، قواعد كلية سامية، لم ينص على تفاصيل الفروع فيها، إلا على القليل النادر، في الأمر الخطير، مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان. فقام سلفنا الصالح، المسلمون الأولون، بإبلاغ هذه الشريعة والعمل بها، في أنفسهم وفيما دخل من البلدان في سلطانهم، فنفذوا أحكامها على الناس كافة، وفي جميع الأحوال، واجتهدوا في تطبيق قواعدها على الوقائع والحوادث، واستنبطوا منها الفروع الدقيقة، والقواعد الأصولية والفقهية، بما آتاهم الله من بسطة في العلم، وإخلاص

في الدين، حتى تركوا لنا ثروة تشريعية، لا نجد لها مثيلاً في شرائع الأمم، وحتى كان من بعدهم عالة عليهم. ولم يكن الفقهاء والحكام والقضاة في العصور الأولى مقلدين ولا جامدين، بل كانوا سادة مجتهدين. ثم فشا التقليد بين أكثر العلماء، إلا أفراداً كانوا مصابيح الهدى في كل جيل. ومع ذلك فقد كان المقلدون من العلماء يحسنون التطبيق والاستنباط في تقليدهم. وكان الملوك والأمراء والقواد والزعماء علماء بدينهم متمسكين به، إلى أن جاء عصر ضعف المسلمين، بضعف العلماء واستبداد الأمراء الجاهلين. فتتايع (¬1) الناس في التقليد، واشتد تعصبهم لأقوال الفقهاء المتأخرين، في فروع ليست منصوصة في الكتاب والسنة، ولعل كثيرا منها مما استنبطه العلماء بني على عرف معين، أو لظروف يجب على العالم مراعاتها عند الاجتهاد، بل لعل بعضها مما أخطأ فيه قائله، بأنه ليس بمعصوم. وكثر الحرج واشتد الضيق، إلى أن جاء الجيل الذي سبق جيلنا، والأمر ظلمات بعضها فوق بعض، والعلماء -أو أكثرهم- يزدادون جموداً وعصبية، والزمن يجري إلى تطور سريع، يقعد بهم تقليدهم عن ¬

_ (¬1) بالياء التحتية، وهو التتابع في الشر فقط.

مسايرته، فضلا عن سبقه. حتى لقد عرض بعض الأمراء في الجيل الماضي على العلماء أن يضعوا للناس قانوناً شرعياً، يقتبسونه من المذاهب الأربعة، حرصاً على ما ألفوا من التقليد، وهو طلب متواضع، قد يكون علاجاً وقتياً، فأبوا واستنكروا، فأعرض عنهم. ثم دخلت علينا في بلادنا هذه القوانين الإفرنجية المترجمة، نقلت نقلا حرفيا عن أمم لا صلة لنا بها، من دين أو عادة أو عرف، فدخلت لتشوه عقائدنا وتمسخ من عاداتنا، وتلبسنا قشوراً زائفة تسمى المدنية!!. ثم جاءت النهضة العلمية الإسلامية الحاضرة، وقد نفخ في روحها رجال كانوا نبراس عصرهم، وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا. ووضع أصولها عمليا، وأرسى قواعدها، ووثق بنيانها: والدي محمد شاكر، رضي الله عنهم جميعاً. فاستيقظت العقول، وثارت النفوس على التقليد، ونبغ في العلماء من يذهب إلى وجوب الاجتهاد، وقد يكون اجتهاداً مبتسراً، وقد يكون اجتهاداً فيه خطأ كثير، ولكنه خير من الجمود، وأجدى إن شاء الله على الأمة والدين. أيها السادة! إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا، ونزعم أننا لا نبغي به

بدلاً، ولكننا نخطئ فهم الدين، ونظن أنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيل إلى كثير منا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات والتعزير، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية. كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان. وهو لا يرضى من متبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه فقد أباه كله. اسمعوا كلام الله ثم اختاروا لأنفسكم ما تريدون. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (¬1). (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب الآية (36).

إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬1). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً، فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النور: الآيات (47 - 51). (¬2) سورة النساء الآيات (59 - 65).

أيها السادة! هذه آيات الله وأوامره، قد سمعتموها كثيراً، وقرأتموها كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بينة، فيها عبرة لكم وعظة لو تأملتموها، وفكرتم في حالكم من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب عليكم حيالها، وأنتم تحكمون بقوانين لا تمت إلى الإسلام بصلة، بل هي تنافيه في كثير من أحكامها وتناقضه، بل لا أكون مغاليا إذا صرحت أنها إلى النصرانية الحاضرة أقرب منها إلى الإسلام، ذلك أنها ترجمت ونقلت كما هي عن قوانين وثنية، عُدّلت ثم وضعت لأمم تنتسب إلى المسيحية، فكانت، وإن لم توضع عندهم وضعاً دينياُ، أقرب إلى عقائدهم وعاداتهم وعرفهم، وأبعد عنا في كل هذا. وقد ضربت علينا هذه القوانين في عصر كان كله ظلمات، وكانت الأمة لا تملك لنفسها شيئاً، وكان علماؤها مستضعفين جامدين. هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلامي يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم

-في نظرهم- إلى الرجوع القهقري ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وضع لأمة بادية جاهلة!! لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلو أو الإسراف في القول، فإني جعلت هذه الدعوة هجيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت. ولو شئت أن أسمي لسميت لكم أسماء ممن نجل ونحترم، ونعرف لهم فضلا وذكاء وعلماً. ألا تعجبون إن ذكرتكم بأن مصر كلها فرحت حين أمكن مندوبيها في مؤتمر من مؤتمرات أوربة، منذ بضع سنين، أن يقنعوا المؤتمرين ليصدروا قراراً بأن (الشريعة الإسلامية تصلح أن تكون مصدراً من مصادر القوانين) وظنت أنها أوتيت فتحاً مبيناً! نعم هو فتح مبين هناك، ولكنه في بلادنا ضعف وهوان، لأن شريعتنا يجب أن تكون وحدها هي مصدر القوانين في البلاد الإسلامية. إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما أرى: كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علموا تعليما مدنياً، وربوا

تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكما قطعيا في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة. ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسما اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسموهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيا كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سموه المناصب الدينية، حتى لا متنفس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام. وابتدعوا شيئاً لم يستطيعوا إلى الآن أن يحدوه حداً علمياً صحيحاً، فسموه (الأحوال الشخصية) وقصروا عليها القضاء الإسلامي، وسموه القضاء الشرعي. ثم وضعوه في الدولة غير موضعه، وذهبوا ينتقصون من أطرافه، ويحدون من سلطانه، وظنوا أن لفظة (الشرع) قاصرة على الأمور الداخلة في اختصاص المحاكم الشرعية، وأن ما عداها خارج

عن الشرع، ثم ذهب بهم الوهم إلى أن هذه الكلمة تطلق على هذا النوع المعين من الاختصاص، سواء أكان للشريعة الإسلامية أم لغيرها! حتى لقد رأيت في بعض التعبير الرسمي كلمة "شرعاً" في أمور خاصة بالمجالس المِلّيّة، مع أن البديهي الذي لا ينبغي لمسلم أن يجهله: أن "الشرع" في ألفاظ المسلمين وعرف بلاد الإسلام لا يكون إلا الشرع الإسلامي. وما ضربت هذا المثل إلا لأريكم أثر التشبع بهذه القوانين في النفوس والعقول. أيها السادة! إن القوانين إذا حكمت بها أمة السنين الطوال تغلغلت في القلوب، ونكتت فيها آثاراً سوداء أو بيضاء، وصبغت بها الروح، ومرنت عليها النفس. وهذه القوانين الأجنبية أثرت أسوأ الأثر في نفوس الأمة، وصبغتها صبغة إلحادية مادية بحتة، كالتي ترتكس فيها أوربة، ونزعت من القلوب خشية الله والخوف منه. وكان التشريع الإسلامي يدخل القلوب ويرققها ويطهرها من الدنايا. فكان المسلم إذا حكم الحاكم أو قضى القاضي، علم أن دينه يأمره في دخيلة نفسه أن يسمع ويطيع، وأنه مسؤول عن ذلك بين يدي الله يوم القيامة، قبل أن يكون مسؤولا عند الناس. وعلم أنه إن عصى ما قضى به قاضيه، كان عاصيا لربه، حتى لو أيقن أن القاضي مخطئ في قضائه، وكان المقضي

له مأموراً من قبل دينه أن لا يأخذ ما قضي له به إن كان يعلم أنه غير حقه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار". هذه تربية الشريعة للأمة. فانظروا تربية القوانين المادية الأجنبية، لم يحترمها المسلمون في عقيدتهم ودينهم، وإنما رهبوها وخافوا آثارها الظاهرة، ولم يعتقدوا وجوب طاعتها في أنفسهم، فكان ما نرى من اللدد في الخصومة، والإسراف في التقاضي، واتباع المطامع، والتغالي في إطالة الإجراءات، والتفصي بالحيل القضائية عن تنفيذ الأحكام، وعم هذا كله دور القضاء، شرعية وغيرها. ذلك أن الناس مردت نفوسهم على الباطل، وفقدوا قلوبهم، فاتبعوا شهواتهم وأسلسوا لشيطان المادة مقادهم. وكان ما نرى من إباحية سافرة فاجرة، عصفت بالأخلاق السامية، والتقاليد النبيلة، حتى كادت توردنا موارد الهلكة. أيها السادة! إن قسم المتعلمين في الأمة إلى فريقين أو معسكرين مكن لأقواهما

من أن يستأثر بالتشريع والإفتاء، فيحدوا بالأمة ويعدل بها عن سواء الصراط. ذلك أنهم أفهموا وعلموا أن مسائل التشريع ليست من الدين، وظنوا أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان، وأن تعرض العلماء والفقهاء لهذه المسائل تعرض لما لا يعنيهم، وعصبية للاحتفاظ بسلطانهم، شبهوهم بالقسس في أوربة، وغلبت عليهم مبادئ الثورة الفرنسية في محاربة الكنيسة، فاندفعوا في عصبيتهم ضد شريعتهم ودينهم، وأبوا أن يسمعوا قولاً لقائل، أو نصحاً لناصح. وذهبوا يضعون القوانين للمسلمين، على غرار القوانين التي وضعت لغيرهم، بأنها توافق مبادئ التشريع الحديث!! وابتلي فريق منا بهذا التشريع الحديث، فذهبوا يلعبون بدينهم، فيما عرفوا وما لم يعرفوا، فأحلوا وحرموا، وأنكروا وأقروا، واضطربوا وترددوا، وكثير منهم يؤمن بالإسلام، ويحرص على التمسك به، ولكنه أخطأ الطريق، بما أُشرب في قلبه من مبادئ التشريع الحديث. واندفع العامة والدهماء وراءهم، يقلدون سادتهم وكبراءهم، ويتبعون خطواتهم. ومرج أمر الناس واضطربوا، حتى إنهم ليحاولون علاج أمراضهم النفسية والاجتماعية بمبادئ التشريع الحديث. وبين أيديهم كتاب الله: (مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى

وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (¬1) و (هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (¬2) ولكن قومنا اكتفوا من القرآن بالتغني به في المآتم والمواسم، وتركوا تدبر معانيه واتباع هديه، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً! ثم قد أجرمت هذه القوانين في حق الأمة والدين أكبر الجرائم، فبثت في كثير من الناس روح الإلحاد والتمرد على الدين، أو حمتها وساعدت على بقائها ونمائها. وحمت التبشير وما وراءه من منكرات ومفاسد، بما تدعيه من حرية الأديان، ولم يوجد دين يحمي حرية الأديان كما حماها الإسلام، ولم توجد أمة وسعت مخالفيها وأفسحت لهم صدروها كما فعل المسلمون. ولكن الإسلام دين ودولة معا، فهو لا يأبى على اللاجئين إليه أن يحتفظوا بعقائدهم، بل هو يحميهم من العدوان. فإن كانوا معاهدين أو محالفين وفى لهم بعهدهم، وإن كانوا رعية له كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. ولكنه يأبى كل الإباء أن يكونوا دولة في الدولة، يعبثون كما يشاؤون، ويفتنون الناس عن دينهم، ويدعون أن لهم حقوقاً خاصة ليست لعامة الأمة، وأن لهم أن يتقاضوا إلى قضاء غير قضائه، أو يتحاكموا إلى شريعة غير شريعته. ¬

_ (¬1) سورة يونس الآية (57). (¬2) سورة فصلت الآية (44).

كلا، ما كان الإسلام ليرضى بشيء من هذا، لأنه لم يأت للمسلمين بالذل والهوان، وإنما جاءهم بالعز والمنعة، وأمرهم ألا يرضوا إلا أن تكون كلمة الله هي العليا. فمن دخل في الدين قبله، ومن خرج منه قتله، لأن الردة عن الإسلام شر أنواع الخيانة العظمى. الإسلام لا يرضى أن يكون في بلاده حكم غير حكمه، ولا يعرف امتيازاً لآجنبي على رعيته، ولا لذي دين غيره في دولته، بل من شاء من غير أهله أن يكون في بلاده، منحه حمايته، ولم يعرض لعقيدته، على أن يكون خاضعاً لحكمه وقانونه في كل أمره. أيها السادة! كان من أثر مبادئ التشريع الحديث أن تعجز الأمة عن تربية ناشئتها على قواعد الإسلام، وأن تحاول جعل تعليم الدين إجباريا في مدارسها فلا تصل إليه، وأن توجد في البلد مدارس تربي أبناء المسلمين وتعلمهم غير دينهم، وغير لغتهم، فتسلخهم من الأمة، ثم يكونون حرباً عليها في عقائدها وآدابها. وأن يكون ذلك عن رضى المستضعفين من آبائهم؛ وأن يأبى مديرو هذه المدارس أن يسمعوا لأمر وزارة المعارف، إذ أمرتهم بتعليم الإسلام لأبناء المسلمين، بما يشعرون في أنفسهم من كبر وغرور، وبما يتوهمون فينا من ضعف ولين، وبما يظنون من حمايتهم بمبادئ التشريع الحديث.

إن فرنسة، هي حامية النصرانية في الشرق، وداعية الإلحاد في الغرب، والتي قامت ثورتها الكبرى على عداء الدين، حين رأى رجلها العظيم، المارشال بيتان، عواقب ما جنى الانحلال على أمته، لم يتردد في جعل تعليم الدين إجبارياً في كل المدارس، ولم يفكر في مبادئ التشريع الحديث. وكان من أثر التربية المدنية المادية، والغلو في تقليد أوربة وترسم خطاها، أن ظن ضعاف الإيمان أن التعليم الجامعي لا يكون صحيحاً إلا بمحاربة الدين، أو بالانسلاخ من الدين. فذهب الذين تولوا كبره منهم يذيعون هذا النغم، ويضربون على هذا الوتر، يستهوون العقول الناشئة، ويستميلون القلوب الغضة. يريدون أن يخدعوا الشباب، والشباب سياج الأمة والدين. هذا أقرب مثل لما أقول: نشرت جريدة البلاغ قريباً (9 مارس سنة 1941م) أن اللجنة التي ألفت في وزارة المعارف للعمل على ضم دار العلوم إلى الجامعة، لا تزال أمامها مسائل تحتاج إلى البحث والتمحيص، قبل استقرار الرأي، وأن منها "مسألة الثقافة الإسلامية، وهل تجتمع مواد الدراسة في الدار على إحياء هذه الثقافة والتخصص فيها من جميع وجوهها؟ أم تفتح في المناهج ثغرة للمباحث الحرة، إلى أن تتخلص دار العلوم من لونها القديم، وتصبح جامعية في مناهجها وفكرتها"؟!

هذا نص ما قالت البلاغ، وهي صحيفة إسلامية، وصاحبها رجل مسلم عاقل، أثق به وأحترمه، وأعرف أنه لا ينشر في صحيفته مثل هذا الهذيان، إلا أن يكون صادراً ممن نسب إليه، وإلا أن يعجب الناس منه!! فانظروا واعتبروا، دار العلوم الأزهرية الإسلامية، التي ازدهرت فيها علوم اللغة والدين، والتي أخرجت للبلد رجالا من أساطين العلم وحماة الإسلام، أمثال عبد العزيز شاويش، وحسن منصور، والسكندري، ومحمد زيد، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب النجار، هذه الدار يراد بها أن تخرج على دينها وعلى علمها، لتتخلص من لونها القديم، من الثقافة الإسلامية، زعموا، لتبحث المباحث الحرة، وتصبح جامعية في مناهجها وتفكيرها!! وكل هذا من جناية ما يسمونه التفكير العصري في حماية التشريع الحديث. أيها السادة! إن هذه القوانين الآجنبية كادت تقضي على ما بقي في أمتكم من دين وخلق، فأبيحت الأعراض، وسفكت الدماء. لم تنه فاسقاً، ولم تزجر مجرماً، حتى اكتظت السجون، وصارت مدارس لإخراج زعماء المجرمين. ونزعت من الناس الغيرة والرجولة، وامتلأ البلد

بالمراقص والمواخير، وشاع الاختلاط بين الرجال والنساء، حتى لا مزدجر. وصرتم ترون ما ترون، وتقرؤون ما تقرؤون، في الصحف والمجلات والكتب، بما يسرت من سبل الشهوات، وبما حمت من الإباحية السافرة المستهترة، وبما نزعت من القلوب الإيمان، حتى صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً. ومن عجب أن القائمين منا على مبادئ التشريع الحديث، والذابين عنها، لا تكاد تجد لهم اجتهاداً مستقلاً، أو رأياً خاصاً، إلا في القليل النادر. إنما همهم الاحتجاج بآراء الأوربيين، من مختلف الشعوب والأمم، صغرت أو كبرت، جلت أو حقرت، ثم يلمؤون ماضغيهم بها فخراً!! فكأننا أبينا أن نقلد أئمة المسلمين، لنتخذ من دونهم أئمة آخرين!! أيها السادة! إن أكبر الكبائر في الإسلام ترك الصلاة عمداً، ثم قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وقد جعل الله لكم في القصاص حياة، وكتب علينا كما كتب على من قبلنا أن النفس بالنفس. ولم يرد في الكتاب ولا في السنة شرط لوجوب القصاص إلا أن يكون القتل عمداً، ولم يأذن الله بالعفو عن القصاص لأحد إلا لولي الدم وحده، لم يخالف

في ذلك أحد من المسلمين، لا من المجتهدين ولا من المقلدين. ومع ذلك فإن هذه القوانين، التي تحكمون بها، شرطت في القصاص شرطاً لم يشرطه الله، ولم يقل به أحد من المسلمين، ولا موضع له في النظر السليم، فأباحت به الدم الحلال، وكان له أثر كبير فيما نرى من كثرة جرائم القتل. ذلك أن المادة (230 من قانون العقوبات) شرطت في عقاب القاتل بالإعدام العمد "مع سبق الإصرار والترصد" وأكدت ذلك المادة (234) فنصت على أن "من قتل نفساً عمداً من غير سبق إصرار ولا ترصد يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة". نحن أمة إسلامية، تجري في أعراقنا الدماء العربية الوثابة، لا ننام على وتر، ولا نسكت عن ثأر، وقد كان من أثر هذا الشرط الباطل، شرط سبق الإصرار، أن أهدرت دماء حرام، لم يأذن الله بإهدارها، بل أوجب القصاص فيها، وأن كثرت جرائم القتل، وتحامى الناس الإرشاد عن أدلتها، وخاصة في مصر الوسطى والعليا، بلاد الصعيد. فإن كثيراً من أولياء الدم يخشون أن تطل دماء قتلاهم، وأن لا ينالوا ثأرهم الذي جعله الله لهم (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ) (¬1) فهم يحاولون أن يطمسوا آثار الجريمة، ¬

(¬1) سورة الإسراء 33.

وأن يحموا المجرم وهم يعرفون جرمه، فلا تناله يد القانون الظالم في شرعهم، لينالوه بأيديهم. ثم تتسلسل الجرائم هكذا دواليك. وكثيراً ما يخطئون تقدير أدلة الإجرام، وهم عامة أو أشباه عامة، فينالون غير قاتلهم، بما جنى عليه وعليهم هذا القانون. ولو أننا حكمنا شريعتنا، وأطعنا ربنا، وأعطينا الدماء حقها وحرمتها، فوضعنا القصاص موضعه، وتركنا في جريمة القتل العمد الشروط التي ليست في كتاب الله، وما يسمى الظروف المخففة، وتركنا هذه الإجراءات المطولة المعقدة، وأسرعنا في إقامة العدل، وأظهرنا منه موضع العبرة والموعظة، لو فعلنا هذا لنقصت جرائم القتل نقصاً بيناً، لما يعلم القاتل أن يد الشرع لا تفلته. وهذه جرائم السرقة، ليست بي حاجة أن أفصل لكم ما جنت كثرتها على الأمة وعلى الأمن، وها أنتم أولاء تسمعون حوادثها وفظائعها، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم، وترون السجون قد ملئت بأكابر المجرمين العائدين، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين، ثم كلما زادوهم سجناً زادوا طغياناً. ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وحدوا السارق بما حكم الله به عليه، لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة، ثم لو وقع كان فاكهة يتندر الناس بها، ذلك أن عقوبة الله حاسمة، لا يحاول اللص معها أن يختبر ذكاءه وفنه.

نعم، أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب مبادئ التشريع الحديث! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول: ألا سحقاً لهذا التشريع الحديث!. أفندع الألوف من المجرمين، يروعون الآمنين، لا يرهبون قويا، ولا يرحمون ضعيفاً، في سبيل حماية يد أو يدين تقطعان في كل عام، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام؟! وأنتم ترون أنه قد تزهق عشرات من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع، بحجة المحافظة على الأمن والنظام. لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما تسجنون. فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب، وقد كان مجرموهم قساة لا يحصيهم العد، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم، فما هو إلا أن جاءت الدولة الحاضرة، واتبعت شرع الله وأقامت حدوده، حتى استتب الأمن، ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج. إن بعض النظريات الحديثة ترفه عن المجرم حتى يظن أنه موضع إكرام بما جنى، وتدعي أن القصد من العقاب التربية والتأديب فقط، وأنه لا يجوز أن يقصد به إلى الانتقام، وتزعم أن الواجب درس

نفسية الجاني، فتلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة، وظروف الجريمة، ومن نشأته وتربيته، ومن صحته ومرضه، وما يعتمل في جوانحه من عواطف وشهوات، وما يحيط به من مغريات أو موبقات، إلى آخر ما هنالك، مما لعلكم أعلم به مني. ونسي قائلوها أن يدرسوا المجني عليه هذا الدرس الطريف، ليروا أي ذنب اجترح، حتى يكون مهددا في سربه، معتدى عليه في مأمنه، من حيث لا يشعر. ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية: أمن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيته وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً، لا ينزع إلى الشر، فكان مجنيا عليه، أمن كان على الضد من ذلك فكان جانياً؟ إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم ما يصلح الفرد وما يصلح الأمة، وقد شرع الحدود في القرآن زجراَ ونكالاً، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل. أفيعتقد المخدوعون منا بمثل هذه النظريات أن السنيور لمبروزو أعلم بدخائل نفس الجاني من خالقه؟ أم هم يشكون في أن هذا القرآن من عند الله؟ أيها السادة! إن المدنية الأوربية قد أفلست، بما بنيت عليه من عبادة المادة، بعد أن جنت على بلاد المسلمين ما جنت. وإن العالم يغلي ويفور، وإنه

ليستقبل أحداثاً كباراً، وانقلابات هائلة في مصائر الأمم. وكما عرفنا بعد الحرب الماضية كيف نسترد استقلالنا السياسي أو أكثره، فسنعرف الآن كيف نسترد استقلالنا التشريعي والعقلي كله، وسنعيد للإسلام مجده، إن شاء الله. لست رجلا خياليا، ولست داعياً إلى ثورة جامحة على القوانين، وأنا أعتقد أن ضرر العنف الآن أكثر من نفعه. إنما قمت فيكم أدعوكم إلى العمل الهادئ المنتج، بسنة التدرج الطبيعي، حتى نصل إلى ما نريد، من جعل قوانيننا من شريعتنا، وأنا أعرف أن هذا لا يوصل إليه في يوم ولا يومين، ولا في عام ولا عامين. وأريد أولا أن أقول كلمة ترفع شبهة عن دعوتنا، فإني عرفت بين إخواني ومعارفي بالدفاع عن العلماء عامة، وعن القضاء الشرعي خاصة، فقد يبدو لبعض الناس أن يؤول دعوتي إلى نحو من هذا المقصد. كلا، فإن الأمر أخطر من ذلك، مقصدنا أسمى من أن نجعله تنازعاً بين طائفتين، أو تناجراً بين فريقين. إنما نريد رفع ما ضرب على المسلمين من ذل، وما لقيت شريعتهم من إهانة، بوضع هذه القوانين الأجنبية.

إنما ندعوكم بدعوة الله، ندعوا الأمة أن تعود إلى حظيرة الإسلام، ندعو إلى وحدة القضاء، وإلى التشريع بما حكم الله. (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (¬1). (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) (¬2). ضعوا القوانين على الأساس الإسلامي، الكتاب والسنة، ثم افعلوا ما شئتم، فليحكم بها فلان أو فلان، لسنا نريد إلا وجه الله. يا رجال القانون في مصر! بكم أبدأ دعوتي، وأنتم أصحاب السلطان في البلد، وبيدكم الأمر والنهي، وأنتم الذين تضعون القوانين، ولجانكم تعمل الآن في تعديلها على مبادئ التشريع الحديث. تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، تضع أيدينا في أيديكم، ونعمل مخلصين لله. أنتم أعلم بأسرار القوانين منا، ونحن أعلم بالكتاب والسنة وأسرار الشريعة منكم، فإذا تعاونا أخرجنا أبدع الآثار. ¬

_ (¬1) سورة النور (51). (¬2) سورة الأحزاب (36).

دعوا التعصب لتشريع الإفرنج وآرائهم، ولا أقول لكم سندع التعصب للإسلام من جانبنا، بل أدعوكم إلى التعصب له معنا، فإنكم مسلمون مثلنا، وسؤالنا سؤالكم عنه واحد عنه واحد بين يدي الله يوم القيامة، ولن تقبل منكم معذرتكم بأنكم لستم من رجال الدين، فالناس سواء في وجوب طاعة الله، والآخرة خير من الأولى (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (¬1). لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الإسلامي أدعوكم إلى التقيد بما نص عليه ابن عابدين أو ابن نجيم مثلاً، ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير منها فيه حرج شديد، كلا، فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليداً للمتقدمين أم للمتأخرين. ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين، بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد أو أفراد. والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الاجتماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر وجه الصواب، إن شاء الله. فالخطة العملية فيما أرى: أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد غير مقيدة ¬

_ (¬1) سورة الشعراء (88 - 89).

برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة، وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم. ثم تستنبط من الفروع ما تراه صواباً، مناسباً لحال الناس وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة. وستجدون من يسر الإسلام ودقائق الشريعة ما يملأ صدوركم إعجاباً، وقلوبكم إيماناً، وسترون أن ما تتوهمون من عقبات في سبيل التشريع الإسلامي قد ذلل ومهد، بما رفع من قيود التقليد وستلمسون بأيديكم إعجاز هذا القرآن، وستؤمنون بمصداق قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (¬1). وثم خطوة أخرى يجب أن تخطوها إلى أن يوضع هذا التشريع الإسلامي: أن تشركوا في لجانكم القانونية كلها رجالا من علماء الشريعة، على قدم المساواة معكم. وفي مقدمة هذه اللجان اللجنة التشريعية ولجنة أقلام القضايا، حتى لا تصدر قوانين أو فتاوى تصادم نصوص الدين، أو تنافي مبادئ الإسلام. قد نجد بعض القيود، فيما بيننا وبين الدول الأجنبية من علاقات ¬

_ (¬1) سورة المائدة (48).

وعهود. ومثل هذا لن يكون عقبة في سبيل تشريعنا، فمنه ما يمكن التفاهم فيه بالطرق السياسية المعتادة، ومنا ما سترفعه الأحداث القادمة. والنادر الذي يبقى نحصره في أضيق حدوده، حتى يوفق الله إلى تذليله. ثم هم إذا رأوا منا العزمة الصادقة، رضوا بالأمر الواقع، بل مدحوه ومدحوكم على التمسك به، ولطالما جربناهم من قبل. هذه دعوتي إليكم، أرجو أن تكون قد صادفت آذاناً واعية، وقلوباً مطمئنة بالإيمان. وأنتم الذين وكلت إليكم الأمة أمرها، ووضعت آمالها فيكم، وذلك ظني بكم، إن شاء الله. أما إذا أبيتم، وأعيذكم بالله أن تأبوا، فسأدعو رجال الأزهر، علماء الإسلام، رجاله ورجال مدرسة القضاء ودار العلوم، وسيستجيبون لي، وسيحملون عبء هذا العمل العظيم، وسيرفعون راية القرآن، بأيديهم القوية، التي حملت مصباح العلم في أقطار الإسلام ألف عام، وسينهضون به كما نهضوا من قبل بكل حركات الرقي والتقدم في الأمة، وفيهم رجال لا يبارون علماً وكفاءة وحكمة وعزماً، وسيجدون الأعوان الصادقين المخلصين، منكم رجال القانون ومن سائر طبقات الأمة. وإذا ذاك سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة، السبيل الدستوري السلمي: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر

بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة. ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً. بل سنجعل من إخفاقنا، إن أخفقنا في أول أمرنا، مقدمة لنجاحنا، بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصرا لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصاً لله وفي سبيل الله. فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وأن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم، كما تفعل كل الأحزاب، إذا فاز أحدهما في الانتخاب، ثم نفي لقومنا -إن شاء الله- بما وعدنا، من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة. ومن بشائر الفوز وأمارات النجاح، بإذن الله، أن رأينا كثيراً من ذوي الرأي يقولون بقولنا، ويتمنون أن تستجاب دعوتنا، ويرجون أن تعود الأمة إلى دينها وشريعتها، وأن بعض الجمعيات القوية جعلت هذا المقصد من أهم مقاصدها. ويا رجال الأزهر! قد أكثرنا القول، وأقللنا العمل، وقد عرفنا ما يجب علينا لديننا

ولأمتنا، وظن بنا الناس الظنون، وزعموا أننا عاجزون عن مقادة الأمة في سبيل إعلاء كلمة الله، وإعادة مجد الإسلام. وأفزعونا بغول التعصب، وألقوا في روعنا أننا رجال الدين، بمعناهم الذي يفهمون، لا بالمعنى الذي يجب أن يكون. وقد كدنا أن تستيئس، وأن يقع في وهمنا أننا كما يصفون. وقد آن الأوان، أن نكثر من العمل، ونوجز من القول، وأن نحفز همتنا، ونعقد عزمتنا، وأن نلقي عن كواهلنا ما أثقلها، وأن نقوم لله وفي سبيل الله، مشتركين مع غيرنا أو منفردين، وستكون لكم الآخرة والأولى. (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (¬1). أما بعد أيها السادة! فإني أجدني غير مستطيع أن تزول قدماي عن مكاني هذا قبل أن أقول لكم ما قال الزعيم الإسلامي المنسي المجهول، السيد عبد الرحمن الكواكبي: هذه كلمة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد ¬

_ (¬1) سورة الحج (40).

تذهب غداً بالأوتاد. وما قال العبد الصالح: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (¬1). وأستغفر الله لي ولكم. 6 ربيع الأول سنة 1360 هـ 3 أبريل سنة 1941م. * ... * ... * ¬

الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة

- الخطة العملية لاقتباس القوانين من الشريعة قلت في المحاضرة، فيما مضى: "لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الإسلامي أدعوكم إلى التقيد بما نص عليه ابن عابدين أو ابن نجيم مثلا، ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير منها فيه حرج شديد. كلا فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليداً للمتقدمين أم للمتأخرين. ثم الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين. بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد أو أفراد. والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الاجتماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر الصواب، إن شاء الله". "فالخطة العملية، فيما أرى: أن تختار لحنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد، غير مقيدة برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة. وأمامها أقوال الأئمة وقواعد الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها آراء رجال القانون كلهم. ثم تستنبط من الفروع ما تراه صواباً، مناسبا لحال الناس

وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئا معلوماً من الدين بالضرورة". فهذه اللجنة يجب أن تكون موفورة العدد، يكون منها لجنة عليا، تضع الأسس وترسم المناهج، وتقسم العمل بين لجان فرعية، ثم تعيد النظر فيما صنعوا ووضعوا، لتنسيقه وتهذيبه، ثم صوغه في الصيغة القانونية الدقيقة. فيعرض كاملا على الأمة، ليكون موضع البحث والنقد العلمي، حتى إذا ما استقر الرأي عليه، عرض على السلطات التشريعية، لإقراره واستصدار القانون للعمل به. وأول ما يجب على اللجنة العليا عمله، أن تدرس، بنفسها أو باللجان الفرعية، مسائل علم أصول الفقه، ومسائل علم أصول الحديث (مصطلح الحديث) لتحقيق كل مسألة منها وتوحيد منهج الاستنباط من الأدلة. فتحقق المسائل التي يرجع فيها لدلالة الألفاظ على المعاني في لغة العرب، من نحو الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والصريح والمؤول، المفسر والمجمل، وسائر قواعد الأصول، كأبواب القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، وما إلى ذلك. وتحقق القواعد في نقد رواية الحديث ورواته، من ناحية المتن وناحية الإسناد، وما يكون به الحديث صحيحاً يصلح للاحتجاج ويجب الأخذ به، وما يكون به ضعيفاً لا يصلح للاحتجاج.

وتحقق القاعدة الجليلة الدقيقة، التي لم يحققها أحد من العلماء المتقدمين، فيما نعلم، إلا أن القرافي أشار إليها موجزة في الفرق السادس والثلاثين من (كتاب الفروق) (ج1 ص:249 - 252 طبعة تونس) وهي الفرق بين تصرف رسول الله بالفتوى والتبليغ، وبين تصرفه بالإمامة، وبين تصرفه بالقضاء. وهو بحث أساسي لدرس الأحاديث والاستدلال بها درساً صحيحاً، فيفرق به بين الأحاديث التي لها صفة العموم والتشريع، وبين الأحاديث التي جاءت عن رسول الله تصرفاً منه بالإمامة، فليست لها صفة العموم والتشريع، بل المرجع في أمثالها إلى ما يأمر به الإمام من المصالح العامة، وبين الأحاديث في أقضية جزئية، تصرفاً منه صلى الله عليه وسلم بالقضاء، فيكون الحديث عن قضية بعينها، يستنبط منه ما يسمى في عصرنا (المبدأ القضائي). وقد حققت مثالا من مثل هذه القاعدة العظيمة في شرحي على (كتاب الرسالة) للإمام الشافعي ص: 240 - 242. وأجلّ عمل وأعظمه أثراً أن تحقق اللجنة باب (تعارض الأدلة والترجيح بينها) فذلك هو علم الأصول على الحقيقة، وذلك هو ميدان الاجتهاد، وذلك هو أساس الفقه والاستنباط. فإذا تم هذا، ووحدت القواعد التي يبنى عليها الاستدلال والاستنباط،

نظر في القواعد العامة التي يرجع إليها الفقهاء في فقههم، على اختلاف مذاهبهم، وطبقت عليها قواعد الأصول التي أقرتها اللجنة العليا أو اللجنة العامة، "أصول الفقه وأصول الحديث" ثم وزنت بميزان الكتاب والسنة الصحيحة، وأخذ منها ما قام الدليل على صحته وموافقته للتشريع الصحيح. ثم تدرس اللجنة القواعد العامة للقوانين الوضعية، على اختلاف مبادئها وأنواعها، وتزنها بميزان القواعد التشريعية الإسلامية، فتختار منها ما تقضي المصلحة العامة باختياره، مما لا يعارض نصاً من نصوص الكتاب والسنة، ولا يُناقض شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، ولا قاعدة أساسية من قواعد التشريع الإسلامي. وبعد هذا كله، بعد أن تستقر القواعد التي تُستنبط الفروع والمسائل على أساسها، وتوضع الموازين الصحيحة البينة، حتى لا تتشعب الطرق بالمجتهد، تقسم أبواب الفقه بين اللجان الفرعية، لتطبق فروع المسائل وجزئياتها على القواعد التي أقرت، وتضع لها الأحكام الصحيحة التي تقتضيها الأدلة الصحيحة نصاً أو استنباطاً. وهذا عمل كبير ضخم، لا يضطلع به إلا العلماء الأفذاذ المخلصون، من علماء الشرع وعلماء القانون، فيجب أن يسمو اختيارهم على الرغبات

الشخصية والأهواء الحزبية، وما إلى ذلك مما قد يُفسد الاختيار أو يضعفه. وسيدعوهم هذا العمل إلى أن يفرغوا له وحده، فلا يجوز أن يعهد إلى أي واحد منهم بعمل غيره، حتى يكون وقتهم كله وقفاً عليه، ليسير على وتيرة واحدة، سيراً حثيثاً موصلاً إلى الغرض المقصود منه في أقرب وقت وأوجزه، وسيدعو إلى اختيار عشرات كثير من الأعضاء والمساعدين، ولعله مع كل هذا لا يتم في أقل من عشرين سنة. هذا تصوير تقريبي للخطة العملية، لاقتباس القوانين من الشريعة، فيه كثير من الإجمال، لا أستطيع التوسع في تفصيله، إلا أن يوضَع الدرس والبحث، ليكون حقيقة واقعة، لا خيالا وأمنية، أرجو أن ينال من عناية الباحثين، ومن نقد الناقدين، ما يرشدني ويرشد غيري إلى وجه الصواب، فيما اقترحت وفيما فاتني أو خفي عليه. وأسأل الله الهُدى والسداد والعصمة والتوفيق. * ... * ... *

الشرع واللغة

الشَرعُ واللُّغَةُ

عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية.

عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية. أثار حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا فتنة شعواء، يحارب فيها لغة العرب، ويسعى لتمزيقها، ثم يحاول أن يظهر للناس في ثوب نصيرها المدافع عنها. وقد كنا سمعنا عن اقتراحه -كتابة العربية بالحروف اللاتينية -قبل أن ينشر نصه، فوقع في نفسي أنه استمرار لمحاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم. وكان على رأسها مهندس انجليزي كبير، وكاتب مصري مشهور، نال المناصب الرفيعة من بعدُ. ثم دَرَست تلك المحاولة، وظننا أنها ماتت وانتهى أمرها، ولم نكن نظن أنها اختبأت في حصن حصين، في رأس رجل عظيم، حتى نبتت منه بشُعبِها تظن أن سيكونُ لها في لغة العرب أثرٌ. وكنت قد فكرت في الرد على اقتراحه، بإرجاعه إلى منبعه الأصلي، ومصدره الصحيح، بما وقع في نفسي، ولكني خشيت أن أظلم الرجل باتهامه بتهمة لم يكن لديّ عليها برهان.

حتى نشر المجمعُ اللغوي نص اقتراحه، فإذا البراهين فيه على ما ظننتُ واضحة بينة تَتْرَى، آخذٌ بعضها برؤوس بعض، وإذا الناسُ يتناولونه بأقلامهم من كل جانب. والباشا يصرخُ ههنا وههنا ويستغيثُ ولغة العرب منصورة سائرة قدُماً في طريقها، لا تُحِسُ ولا تشعر، وإذا اقتراحُه يموتُ فلا يُرثَى له، وإِن جامله المجمعُ اللغويُّ فلم يرفضه أولَ ما قُدِّم اليه. ولو سكت الرجلُ بعد ذلك لكان خيرا له وأَقوم، ولنسيه الناسُ ونسوا ما قدَّمَ. ولكنه أَخذته العزة بالإثم، فأخرج في أَواخر رمضان من هذا العام (1363 - أغسطس سنة 1944) كتاباً يرد على ناقديه، ويأخذ أعراضَهم بقلمه الثائر العنيف، وأَدلتِه المتهافتة المستنكرة، حتي لو كان لاقتراحه موضع آخرُ للسقوط لَبَلغهُ. وما بي أن أدافع عمن رد عليهم في كتابه، قكثير منهم أعرفُ باللغة العربية، وبأدب العرب، وأقدرُ على الكتابة، من الباشا ومن كل أتباعه وأنصاره ومجامليه. ولكني أَردتُ أن أكشف عن مقصده الحقيقي باقتراحه، من كلامه وألفاظه. وأن أنْقدَ بعض ما عرضْ له من مسائل في العلم، ظهر أنه لا يعرف فيها شيئاً، عرَض لها عرضا عجيبا، لو تركه سَتَر نفسه.

أما اقتراحه الميتُ السخيف (¬1) فما أبالي أن لا أرد عليه، اكتفاء بما قيلَ من قبلُ، وثقة مني أَن لا تقومَ له قائمة من بَعْدُ. وأَنا أَعلم أَن معاليَه سينطلقُ في أَثرى كما انطلق في أَثر الذين من قبلى، ثائراً عنيفاً، مستعليا مستكبرا، كأنْ لم يسمع كلمة الحق، وأَنه سيرميني كما رمى أَخى "السيد محمود محمد شاكر" بأنه "يشتهي تجريح من هو أَكبرُ منه سنا، حاسبا أَن ذاتيته تعلو بهذا التجريح" ولكنني لا أبالي. * * * يعلنُ صاحب المعالي في كتابه (ص 78) أنه "يريد المحافظة على للعربية الفصحى" ولكن سائر أقواله إِنما تصدر عن عقيدة بفساد هذه اللغة، وأَنها لا تصلح للحياة، لثباتها على وتيرة واحدة، إلا أَن تتغير وتَدُور مع اللهجات، فتنقسم إِلى لغاتٍ. فهو يَضَعُ اللغم الأول في هذا الصرح الشامخ، حتى إذا ما اهتز الصرح وفقدَ تماسُكه، استطاع مَن بعده من أَنصاره, ومن أَعداء الإسلام، ومن أَعداءَ القرآن، أَن يدمروه تدميرا. ¬

انظروا الى قوله الذى افتتح به اقتراحَه المقدمَ للمجمع: "لا شك عندي أَن حضرات المستشرقين - آهِ من عبادة المستشرقين ومن عبادة الإفرنج - من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وألمان وأمريكيين, يعجبون منا نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة، لحمل أوزار ألفٍ وخمسمائة سنة مضت" ثم يقول عن بحث المستشرقين عن الآثار: "لكن عملهم هذا شئٌ وإمساك أيةِ لغة بخناق أهلها دهرا طويلا شئٌ آخر". وانظروا إلى قوله في الفقرتين 4 و5 "لكن حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من الغريبة، لأنها مع سريان التطور في مفاصلها، وتحتيتها في عدة بلاد من آسية وأفريقية إلى لهجات لا يعلم عددها إِلا الله لم يَدُرْ بخلد أية سلطة في أى بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسياً أن يجعل من لهجة أهله لغة قائمةً بذاتها، لها نحوُها وصرفها، وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ وفي الكتابة معاً، تيسيرا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، أو كما فعل اليونان، لم يعالج أي بلدٍ هذا التيسير، وبقي أهلُ اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة. ان أَهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وأن يردعوا عقولهم عن التأثر بقانون التطور الحتمي، الاخذ

مجراه بالضرورة، رغم أنوفهم، في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرع فروعاً لا حد لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافةُ الخلف بينها وبين الفصيحة جدة جداتها اتساعا بعيداً هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلم العربية الفصحى كيما تصح قراءَتهم وكتابتهم، هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغي، لأنه تكليف للناس بما هو فوق طاقتهم. ولقد كنا نصبر على هذه المحنة لو أَن تلك العربية الفصحى كانت سهلة المنال كبعض اللغات الأجنبية الحية، لكن تناولها من أشق ما يكون، وكلنا مؤمن بهذا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فلنذكر ببعض هذه المشقة". هذا تعضُ قوله في اقتراحه، وما أظن عاقلا يُخْدَعُ بعد ذلك، فيصدق الباشا في ادّعائه أنه يريد المحافظة على العربية الفصحى، وهو يسخط عليها كل هذا السخط، ويندِّدُ بها كل هذا التنديد. بل يندد بالأمم المنفصلة سياسيا أن لم يدُرْ بخلد أَحدٍ من أَهلها أَن يجعل من لهجته لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها!! فإن لم تكن هذه دعوةً صريحة إلى تمزيق العربية إلى لغات عدة "كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان" فما ندري كيف تكون الدعوة، بل لا يدرى أحد من الناس!.

إِن هذا الاقتراحَ تجديد للدعوة القديمة التي أشرنا إِليها في أول هذا المقال، واستمرار لها، حتى تتمزق وحدة الأمم العربية ويحال بينها وبين قديمها، فلا يعرفه ولا يصل إِليه إِلاْ الأفذاذ من علماء الأثريات كما هو الشأن الآن في اللغات القديمة الميتة، فيحالُ بين الأجيال القادمة وبين القرآن والحديث وعلوم العرب، كما بظنون, فيندثرُ هذا الإسلام من وجه الأرض، ويطمئن القوم. ومهما يكابر معالى الباشا وأَنصارُه, فلن يسطيعَ التفصّيَ من هذه النتائج، ومن حمل كلامه على القصد إليها، وإن تبرأَ منها ألفَ مرة وإن قال ألفَ مرةٍ "أَنا مكتفٍ بما يسر الله لي من ديني وموقن بأن لا مزيد عليه عند كائن مَن كان من المسلمين"!! * * * إن لم يكفكم هذا برهانا على ما يقصد إليه وبرمي، فانظروا إلى قوله في الفقرتين 7 و 8 "تلك الأشواك والعقبات وهذا التعدد، ترِيكَ الواقعَ من أن هذه اللغة العربية ليست لغةً واحدة لقوم بعينهم، بل إنها مجموعُ كل لهجاتِ الأعراب البادينَ فى جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة جمعها علماءُ اللغة وأودعوها المعاجمَ وجعلوها حجةً على كل من يريد الانتساب للغة العربية, ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت! أفليس من

الظلم البيِّن ألزامُ المصريين وغير المصربين من متكلمي اللهجات العربية الحديثة بمعالجة التعرف بتلك اللهجات القديمة التي ماج بعضُها في بعض فانعجنتْ، ولو فُرض المستحيلُ وأَمكن عزلُ أيةِ واحدةٍ منها لكانت دراستُها بسبب قدمها أَشق من تعلم عدة لغات أَجنبية حية، كل منها يعين الإنسانَ في عمره القصير على مسايرة العالَم في هذه الحياة الدنيا. في كل سنة نسمع صيحة مدوية يصخُّ البعض بها معلمي اللغة العربية بالمدارس، متهما إياهم. بالقصور أَو التقصير في تلقيق التلاميذ. والحق الذى لا مِرْيَةَ فيه أَن هؤلاء المعلمين المساكين براء من هذه التهمة يراءَة الذبب من دم ابن يعقوب، فإن العيب إِنما هو عيب اللغة التي ليس لها فى مفرداتها وقواعدها أول يُعرفُ ولا آخر يُوصف، والتي لها في أدائها جرس ولوكة بضريان صماخ أذن الطفل لبعد ما بينهما، وبين لهجة أمه، فينفر منها ومن المعلم نفور الطير رَوَّعْتَهُ والظبى باغَتَّهُ". أذن فالأمرُ واضح، ليس الأمرُ أمر تيسير الكتابة العربية حتى تمثل النطقَ بها تمثيلاً صحيحاً، طاعةً لأمر تعبدى نَصَّتْ عليه لائحةُ المجمع اللغويّ، ولقرار خاص من وزير المعارف تجب طاعتهُ وتنفيذه، لأن "مورد النص لا مساغ للاحتهاد فيه" كما قال صاحب المعالي في كتابه (ص 36)!! ولكن الأمرَ أَخطرُ من ذلك وأبعدُ أثرا. الأمرُ أن لهذه اللغة "جرسا ولوكة بضربان صماخ أذن الطفل" فيجب أن نغيِّرَ هذا،

وأن نمهد له باصطناع الحروف اللاتينية التي لها جرس "يخالف جرسَ الحروف العربية في المخارج والحركات وتوقيت الكلمة في أَثناءَ نْطقها، وهو شيء في صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء" كما قال الأستاذ العقاد (الرسالة 585 فى 18 سبتمبر سنة 1944) حتى إذا ما تبلبلت الألسن العربية، ومَرَنَتْ على هذه الحروف اللاتينية ولهجاتها وجرسها، وعلى الحروف المستحدثة التي ابتكرها المجمعُ اللغوى في قراره العجيب بشأن كتابة الأعلام الأعجمية بحروف عربية (¬1) - أمكن التدرجُ في الانتقال إلى اصطناع لغةٍ أخرى أَعجمية، أو خلقِ لغة بينَ بينَ، لا هي عربية ولا هي أعجمية، وتفرقت الأُمم العربية شذر مذر. ونسُوا هذا القرآن الذى يجمع بينهم ويوحد لسانهم، إذ لن يستطيعوا إخضاعه لهذه اللكنة الأعجمية التي تدل عليها الحروف اللاتينية!! وإذن فليس الأمر أَمرَ إرادة المحافظة على العربية الفصحى كما يقول دفاعاً عن نفسه، وإنما هو رفعُ ظلم بَيِّن "عن المصريين وغير المصريين, ممن ألزموا تعرف ذلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض، والتى ¬

_ (¬1) هذه القرارات نشرت في مجلة المجمع (ج 4 سنة 1356 ص 8 - 21) وقد أشرنا إلى عيوبها، ورددنا عليها، فى مقدمة كتاب المعرب للمجواليقى، بتحقيقنا طبعة دار الكتب (ص 17 - 20).

لا يمكن عزل أية واحدة منها، والتي لو أَمكن المستحيل بعزل واحدة منها لكانت دراستها بسبب قدمها أَشق من تعلم عدةِ لغات أَجنبية حية، والتي كل العيب فيها، إِذ ليس لها في مفرداتها وقواعدها أَول يعرف ولا آخر بوصف!. ولن يكون رفعُ هذا الظلم إلا أَن يُرفع عن كواهل المظلومين ما أَثقلها، من "أوزار أَلفٍ وخمسمائة سنة مضت"!!. لستُ أَدري، هل يغالطُ الباشا الحصيفُ نفسَه ويخدعُها، أَو هو بظن أَن الناس لا يفقهون! أَيها الرجل: اقرأ كتابك، تَجِدْ أَنك رضيتَ عن كل لغةٍ حتى العبربة، وما اصطفيتَ لسخطِك وسخريتِك إِلا العربية. * * * وقد أَجاب صاحب المعالى عن سؤالِ مَنْ سألَ: كيف تريدُ أَن ترسم القرآن؟ بجوابين عجيبين مضحكين! أما أحدهما فأن يُرسم القرآن بحروف معاليه اللاتينية، لأن الحروف العرببة وثنيةٌ منقولة مباشرة عن الوثنيين، والحروف اللاتينية ينقلها معاليه لآن عن النصارى، وهم أهل كتاب أقرب من الوثنيين إلينا

نحن المسلمين! (ص 25 - 26) ثم ارتأى أن يمن على رجال الدين المحترمين بإبقاء رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن! (ص 28) ولست أدرى أَعَفَى عنهما إرضاء لهم، أَم شفقةً عليهم, أم خوفاً منهم؟ إنما هو قد فعل هذا والسلام! ثم أجاب بعضَ سائليه: "ها أنت ذا ترى فيما أسلفتُ ما يطئمنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن بندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائماً من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من بقرؤونه ويحافظون عليه"! (ص 29). وقد وجد معاليه لرجال الدين بعد ذلك عملا خطيرا عظيماً، هو "أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يُطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات" (ص 28). ولسنا نجادله في أن هذا الفعل حرام أَو حلال، قإن معالي الباشا رجل قانون، وهو من أبعد الناس عن معرفة الحرام والحلال، وكتابه شاهد عليه. ولكنا نسأله سؤالا واحداً: أيمكن أن يُؤدَّى نطقُ القرآن أَداء صحيحا موافقا للعربية إذا ما كتب بالحروف اللاتينية، وخاصة فى حال الوقف على رؤوس الآى أو في أَثنائها؟ أظنه بعلم أن أَواخر الكلم إذا

كانت متحركة -وهو الأكثر في الكلام- وجب الوقف عليها بالسكون, وإذا كان الحرف منونا مفتوحا وُقِف عليه بالألف، وهو يقترح أن يُدَل على الحركة بحرف مَد يسميه "حرف حركة" وأن يُدل على التنوين بحرف مد بعده حرف النون، فماذا يفعل القارئ, أيحذف في كل وقف من المكتوب حرفاً أَو حرفين، أم يقرأ القرآنَ إفرنجيا؟! أَلسنا معذورين إذا ظننا صادقين أَنه يبغي قطعَ الصلة بين هذه الأمة العربية وبين قديمها، وخاصةً القرآنَ والحديث، تنفيذا لخطة قديمة معروفة، لم يخامرنا فيها شك، دل عليها قلمهُ حين خانه، فجعل عمل رجال الدين أَن ينحلوا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد! * * * ثم ماذا يريد صاحب المعالي هذا أَن يصنع بالقرآن؟ إِنه يريد أن يفتح الباب للعبث به وبقراءاته عامد متعمداً. ققد أدخل نفسه مَدَاخل لا يُحْسِنُ الخروج منها، ولا مَنْجَى من عواقبها. انظروا إِلى قوله يخاطب "معالي السيد كامل الجاردجي" أَحَدِ الذين ردوا عليه اقتراحه (ص. 78): "الظاهر يا سيدي أَننا غير متفقَيْن اتفاقا واضحا على الغرض الذي نسعى إليه. فلنتفق عليه ابتداء، ثم ليتكلم كلانا بعد بما شاء. أنا أربد المحافظة على العربية الفصحى وأنت

تريدها كذاك. فلنحدد بالنص الصربح ما هي تلك الفصحى التي نريدها جميعا. أما أنا فلا أَرى مثالا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر فلغته هي وحدها المعنيةُ لي عندما أذكر الفصحى. وأحددُ أكثر فأقول: إن لغته المعنية لي هى ما تكون الأقيسُ والأسهل من وجوه قراءاته. فقراءة (إنَّ هَذين لساحران) هي المعنية لي دون (إنْ هذَانِ لَسَاحِرانِ) مثلا" هذا نصُّ كلامه بحروفه. أرأيتموه أيها الناس وعرفتم دخيلته! إنه يأتي بالكلام الحلو المعسول، فلا يرى "مثالاً للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر" ثم يدسُّ فيه ما يظن أنه يخفى على عامة المسلمين، بَلْهَ خاصتهم، بَلْهَ علماءهم، فيزعمُ أَنه يتخيرُ من قراءات القرآن ما يوافق هواه، ويعرض عما عداه، موهماً أن الثابت المتواتر هو ما حَكَى دون ما نقى. ولكنه يسقط في ذلك سقطة مالها من قرار. وذلك أن الآية التي جاء بها مثالا لما يريد، وهي قوله تعالى فى سورة طه (إنْ هَذَانِ لَسَحِرانِ) رسمت فى المصحف على هذا الرسم الذي رسمه أصحاب رسول الله واتفقوا عليه، ورُوي عنهم بالتواتر القطعي الثبوت رواية وكتابة، لم يَرْتَبْ في ذلك مسلم قط "هذن" بدون ألف بعد الذال، ورُويت القراءات فيها بالتواتر القطعي سماعاً من عهد

رسول الله الى عصرنا هذا الذي نحيا فيه. والقاعدة الغالبة فى رسم المصحف أن تحذف الألف وأن تثبت الياء. والقراءَةُ التي يقرأ لها أهلُ بلادنا، قراءةُ حفص عن عاصم، في هذه الآية (إنْ هذانِ) بسكون النون فى (إنْ) وبثبوت الألف وكسر النون. مخففة من غير تشديدٍ فى (هذان). وواققه ابنُ مُحَيْصن وأبو حيْوَةَ والزهرِي وغيرُهم من أئمة القراءة. ووافقه أيضا ابنُ كَثِيرٍ، ولكنه شدد النونَ المكسورة في (هذانِّ). وقراءةُ حفص ومن وافقه التي نقرأ في بلادنا هي التي يرفضها الباشا العالمُ العجيبُ، وينفي أَن يكونَ مما ارتضى من "العربية الفصحى" وذلك أنه عسر عليه أن يدرك وجهها من العربية، وإِن كان واضحا ميسورا!! وقرأ نافع وابنُ عامر وأَبو بكرٍ وحمزة والكسائي وأَبو جعفر ويَعْقوبٌ وخَلفٌ والحسنُ والأعمشُ وأَبو عُبيدٍ وأَبو حاتم وابنُ جريرٍ الطبري وغيرُهم (إِنَّ) بتشدبد النون و (هذان) بالألف وتخفيف النون. وهذه القراءة نفاها معاليه أيضاً ضمناً، باختياره غيرها، وإن لم يصرح بنفيها، ولكنها دخلت في غير "العربية الفصحى" عنده.

وهاتان القراءتان هما قراءة أكثر القراء من السبعة، بل العشرة، بل الأربعة عشر، بل مَن عداهم، ممن عَرَفَ معاليه ومن لم يعرف، وممن سمع به ومن لم يسمع! ثم اختار لنفسه - أستغفر الله - بل لأُمم العرب جمعاءَ، غير مكلَّف أن يختارَ لهم، ولكن عادياً على لغتهم وعلى قرآنهم - اختار قراءَةَ أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر ويونس وغيرهم (إنَّ هذينِ) بتشديد النون في (إنَّ) وبالياء فى (هذين) اختارها من غير دليل إلا يُسرها في مقدوره وعلمه. وهي قراءة صحيحة ثابتة، كاللتين قبلها، وإن عبر عنها بعضهم بالشذوذ، كالإمام أبي عمرو الداني في كتاب (المقنع فى رسم المصاحف) ص 127. وكالرجاج في قوله "لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف (¬1) ". فهذا مبلغ هذا الرجل من العلم! قبِلَ من القراءةِ ما اختلف فيه، وإن كان صحيحا لأدلة يجهلها، ورفض ما لا خلافَ فيه من القراءة، بالهوى والجُرأة، من غير دليلِ ولا شبهةٍ، إلا أنه جَهِلَ شيئا فعاداه. ¬

_ (¬1) ومن شاء التوسع فى معرفة توجيه هذه القراءات وأدلتها، فليراجع كتاب (التيسير فى القراءات السبع) لأبي عمرو الداني، طبعة استنبول سنة 1930 (ص 151)، وكتاب النشر فى القراءات العشر) لابن الجزرى، طبعة دمشق سنة 1345 (2: 308) وكتاب (إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربع عشر) للبناء الدمياطى، طبعة مصر سنه 1359 (ص 304)، وتفسير الطبري، طبعة بولاق (16: 136)، والبحر لأبي حيان (6: 255).

"إِن هَذَا القُرآنَ أُنْزِلَ عَلى سَبْعَةِ أَحْرُفْ" كما ثبت في الحديث الصحيح المتواتر، الذى لا شك في صحته. وإِن قُرّاءَه تَلَقوا قراءاته ورواياتِ حروفهِ ولهجاتهِ، سماعاً ومشافهة، من شيوخهم طبقة بعد طبقةٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثبتتْ قراءاتهُ الصحيحةُ المعروفةُ بالتواتر الحقيقي، الذى لم يَثبت بمثله كتاب قط، رَوَوْها بأدقِّ ما يروى كلام وأَوثَقِه، سواء أَرَضِىَ عبد العزيز باشا فهمي عن هذا أَم سخِطَهُ. وإن هذا القرآن بقراءاته المتواترة قد حفظ على العرب لغتهم بحروفها وأوجهها ولهجاتها حفظاً عجيباً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يستطيع أَحد أَن ينفى شيئاً منها أَو ينكره، كابر أو تعنت أو جهلَ. إنما: هو الحقُّ البينُ المعلومُ من الدين بالضرورة. من أَنكرة فإنما ينكر على نفسه، وإِنما يجني على نفسه. وحكم الإسلام فيه معروف لا يحتاج إلى ذكر أو بيان. أَفيظنُّ أَحدٌ أَن المسلمين بكذِّبونَ علماءهم وقرّاءهم وحفَّاظَ كتابهم الذينَ لا يحصيهم العد، طبقة طبقة إلى صحابة رسول الله، ثم يتتبعون رجلا بأنه نبغ في صناعة القانون الإفرنجي، حتى نال أسمى منصب فيه، وبأنه وصل إلى مسند الوزارة، وبأنه وُضِع في غير موضعه

عضوا في المجمع اللغوي؟! كلا ثم كلا! إن من يتوهم بعض هذا إنما يلغي عقله، وإنما يلغى كل منطق وكل دليل. * * * ولعل الباشا رجع فيما تَعَرف من القراءات وتوجيهها، لا إلى علم علماء الإسلام ونقلهم ومؤلفاتهم، وإنما رجع إلى آراء المستشرقين ونرنظرياتهم في القرآن والقراءات. فهم يَرونَ أن كل علماء الإسلام وقراء القرآن كاذبون مفترون، اخترعوا هذه الروايات وهذه القراءتِ توجيها لما يحتمله. رسم المصحف. تشكيكاً منهم في هذا الكتاب المحفوظ بحفظِ الله، وتكذيبا للوعد بحفظه وبأنه لا يأتيه الباطلُ من بين يدية ولا من خلفه، وثأرا من المسلمين باتهامهم بالتحريف، كما اتُّهِمَ الذين من قبلهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه. ونظرية المستشرقين أوْضَحها أَحدُهم، جولد زيهر اليهودي المجري، في كتاب (المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن)، الذى ترجمه أخونا الأستاذ الشيخ علي حسن عبد القادر رنشره في هذا العام (ص3 - 4) قال: وهذه القراءَات المختلفة تدور حول المصحف العثماني، وهو المصحف الذي جمَع الناسَ عليه خليفةُ المسلمين عثمانُ بن عفانَ، وأراد بذلك أن يرفع الخطر الذي أوشك أن بقعَ في كلام الله في أشكاله واستعمالاته

وقد تسامح المسلمون في هذه القراءات، واعترفوا بها جميعا على قدم المساواة، بالرغم مما قد يُفْرَضُ، من أن الله قد أوحى بكلامة كلمة كلمة، وحرفا حرفا، وأن مثلَه من الكلام المفوظ في اللوح، والذى ينزلُ به الملَكُ على الرسول المختار، يجب أن بكونَ على شكل واحدٍ وبلفظٍ واحد. وقد عالج هذا الموضوعَ بتوسعِ نولدكةُ في كتابه (تاربخ القرآن). والقسمُ الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربي، فإن مِن خصائصه أن الرسمَ الواحدَ للكلمة الواحدة قد يقرأ بأشكال مختلفةِ. تبعا للنقط قوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدانَ الشكل في الخط العربي يمكن أن يَجعل للكلمةِ حالاتٍ مختلفة من ناحية موقعها من الأعراب فهذه التكميلاتُ للرسم الكتابي، ثم هذه الاختلاقاتُ في الحركات والشكل، كل ذلك كان السبب الأوَلَ لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطُه أو شكلُه من القرآن". ألا ترون- أيها الناس- في هذا الكلام الروحَ الذي أوحى بالطعن في الرسم العربي، وأوحى باقتراح تيسيره أو تغييره، وأوحى بالتخيُّر في القراءات بالهوى والرغبة؟. لست أزعم أنَّ هؤلاء التابعين المقلدين أخذوا من جولدزيهر في هذا الكتاب أو أخذوا من نولدكة في ذاك الكتاب، فلعلهم لم يقرؤوا الكتابين

ولا سمعوا بهما. . ولم يكن جولدزيهر ولا نولدكة أَولَ مَن افترى هذه الفرية على القرآن وعلى قُراء القرآن وعلى علماء الإسلام. فإن هذا الرأى معروفٌ عن المستشرقين، نعرفه عنهم منذُ عهدٍ بعيد، وعليه تدور آراؤهم وأقاويلهم في القرآن والقراءات، وفي روايات الحديث وأَسانيد المحدثين. ذلك بأنهم أصحابُ هوًى، وذلك بأنهم لا يؤمنون بصدق رساله الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بأنهم يؤمنون بأن أَصحاب رسول الله وتابعيهم مِن بعدِهم لا خَلاقَ لهم، يَصْدُرُونَ عن هوًى وعصبية فيظنون فيهم ما تيقنوه فى غيرهم من الكذب على الدين والجرأَة على الله. وحاشَ لله وذلك بأنهم يتتبعون الشاذ من الروايات، الذي أَخطأ فيه بعض رواته، أو الذي كَذَبب فيه بعض الوضاعين، وهما اللذان بينهما علماء الإسلام، وخاصة علماءُ الحديث، أدَق بيان وأوثقه وأوضحَه. فيجعلون هذا الشاذ المنكرَ أَصلا يبنُون عليه قواعدَهم، التي فتعلوها ونسبوها للإسلام وعلماء الإسلام، ويدعُون الجادَّة الواضحةَ ضوح الشمس، يغمضون عنها أَعينَهم،، ويعجلون أَصابعَهم في آذانهم، ثم يستهوون منا من ضعفت مداركهم, وضَؤلَ علمهم بقديمهم, من المعجبين بهم والمُعَظِّميهم، الذين نشؤوا في حجورهم ورضعوا من لبانهم

فأخذوا عنهم العلوم، حتى علوم الفقه والقرآن، فكانوا قوما لا يفقهون. ولكن المسلمين يعرفون أَن هذا القرآنَ قرأَه رسولُ الله على الناس وأَقرأهم إياه، بقراءاتٍ معروفة، ثابتةٍ, بالأسانيد الصحيحة المتواترة كل قارئ سمع من شيوخه قراءات كثيرة أو قراءة واحدة، لا ينكر بعضُهم على بعض، إِلا ما كان مَظِنة الخطأ من الراوي أَو الشك في صدقه، قبلَ أن تُجمع الرواياتُ وتستقر، وأَماَ بعد أَنْ عُرِفت أَسانيدُها وطرقُها، وعُرف المتواترُ والصحيحُ، من الشاذ والمنكَر، فلا وهذا شيٌ يعرفه كل من شدَا شيئاً من العلم باللأسانيد وفنون النقل والرواية، أو من أُصول الدين وأُصول الفقه. * * * والمسألةُ في صورة بيِّنة ميسرة: أن هذا القرآن نقل إلينا نقل تواتر قطعي الثبوت، مرسوما في المصاحف هذا الرسم العربي المعروف، رَسَمَه حُفَّاظه والقائمون عليه من أصحاب رسول الله، تحت سمعهم وبصرهم جميعا، وحُصِرَت طرق رسمه محدودة مفصلة، في كتب القراءات، وفي كتب خاصة بالرسم، ونُقل إلينا أيضا قراءاته الصحيحة موافقة لهذا الرسم نفسه، نقل تواتر قطعي الثبوت، أو على الأقل، في بعضها القليل النادر، نقلا صحيح الإسناد، برواية الثقات عن الثقات

نُقل إلينا ذلك سماعا ومشافهة، مُبَيَّنا فيه النطقُ وطرق الأداء (¬1). فكنا وكان الناس في هذا بينَ أمرين لا ثالثَ لهما: إما أَن يكونَ الرسمُ هو الذي ثبتَ أَولا ثم جاءت هذه القراءات احتمالات فيه, يُمَثِّلُها كل قارئ بما يَرَى أو بما يستطيع. وإما أن تكونَ القراءاتُ هي الأصلَ، ثم رُسِم الكتابُ على الوجه الذى يُمَثِلُها كلها ويحتملُها، حتى لا يخرجَ عنه شئ منها. أما المستشرقون ومَنْ قلدهم من الجهلة الأغرار، ممن ينتسب إلى المسلمين، فذهبوا إلى الوجه الأول، واختاروه ونصروه. أعني أنهم فهموا أن القرآن "يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" وأن هذا الشكل الواحد واللفظ الواحد رُسِمَ بهذا الرسم الذي من خصائصه أن الكلمة الواحدة "قد تُقْرَأ بأشكال مختلفة تبعا للنقط قوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدانَ الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب" وَبَنوْا على ذلك أن هذا الرسمَ بما يحتمل في النقط والحركات "كان السبب الأوَّلَ لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطُه أو شكلُه من القرآن" كما قال جولدزيهر في كتابه. ¬

_ (¬1) وأما ما يروى فى بعض كتب التفسير والحديث، عن بعض الصحابة وغيرهم من القراءات التى تخالف رسم المصحف فإن ما صحت روايته منها إنما هو على سبيل التفسير للآية، لم يثبت على سبيل التلاوة،، لأن أول شروط إثباتها أن توافق رسم المصحف وهذا بديهى من بديهيات الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة.

وليس لهذا. الرأي وهذا الاستنباط معنى إلا شئ واحد: أن المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن، اخترعوا هذه القراءات، تمثيلا لما يحتَمِلُ الرسمُ من القراءَة، ونسبوها إلى كِتَابهم وإلى رسولهم وأَنهم كذَيُوا جميعاً في ادعاء نسبتها إلى رسول الله وفي ادعاء أَنهم تلقوْهَا جيلاً بعدَ جيل، وطبقةً يعدَ طبقةٍ. وقد قد يعذَرُ المستشرقون إذا ذهبوا هذا المذهبَ، لأنهم قوم جهلوا طرقَ الرواية عند المسلمين، ومنَ عَرف منهم شيئا منها فإنما يغلبه هواء، وبغلبه ما يراه بين يديه في كتبهم السابقة، وما لحق بها من عبث، وما أصابها من تحريف وتغيير، ويغلبُه ما يَعرف مِن قفدِها أي نوع من الإسناد، وأي نوع من الرجال كان يرويها وينقُلها، وما يعرفُ من انقطاع تواترها، بل انقطاع أصلِ روايتها انقطاعا تاما، قبل بلوغها مصدَرها الأولَ بقرون. يَعرف كل هذا، ويجهل أو بتجاهلُ سِيَر علماء الإسلام، وما كانوا علية من ثقة وصدق، وما كانوا يَتَحرون من دِقَة وأمانة في رواية الحرف الواحد من أحرف القرآن، وفي طرق أداء كل حرف والنطق به، على اختلاف اللهجات والروايات، حتى إنهم وزنوا نطق الحروف بموازين معررفة فى كتب القراءة وكتب التجويد، وحتى إنهم ليقيسون التنفس في أحرف اللين وأَحرف المد، بما اصطلحو على

تسميه بالحركات. إلى غير ذلك من طرق الاحتياط والتوثق. فلم يكن عجبا من المستشرقين، وقد جهلوا ذلك كله وغَلبهم ما وصفنا، أن يختاروا هذا الوجهَ، وأن بجزموا بأن هذه القراءات نشأت من الرسم العربي المهملِ من النقط والشكل وأَما المسلمون فقد أيقنوا بالوجه الآخر الصحيح: أن القراءات هي الأصلُ, وأن الرسم تابع لها مبني عليها. أعني أنهم عرفوا، مما جاءهم من الحق بالتواتر القطعي الثبوت، أن رسول الله قرأ القرآن على أصحابه وأقرأهم إياه، بقراءاتٍ متعددةٍ النطق والأداء، كلها حق منزل عليه من عند الله، وكلها موافق للغة العرب ولهجات القبائل، حفظا له وتيسيرا عليهم. وأنهم سمعوا منه وقرؤوا عليه شفاها وحفظاً في الصدور، ثم أثبتوا ذلك عن أمره كتابةً وتقييدا. وأنه قال لهم: "إن هَذَا القرآن أنزِلَ عَلى سَبعَةِ أحْرُفِ قَاقْرَؤُوا مَا تَيَسرَ" فأدوا ما سمعوا كما سمعوا وكما قرؤوا، مفصلا موجها بأوجهه فى الأداء والتلاوة، لم يزيدوا ولم ينقصو. وأنهم كتبوا ما سمعوا وما حفظوا على هذا الرسم الذى رسموا ليكون مؤديا كل الأوجهِ التي عرفوا, والتي أذن لهم في القراءة يها، حتى إِنه لو كان للرسم العربي عندهم إذ ذاك وجه آخر يُضبط به المنطق على حال واحدة لأبوا أن

يرسموا به، لئلا يضبط النطقُ على وجه واحدٍ فتضيعَ سائر الأوجه وكلها من عند الله أنزل، وكلها من لغة العرب، وكلها أذن لهم في القراءَة به. وكانوا هم الأمناء على الوحي، وهم الذين أمروا بتبليغ ما أنزل إِليهم ما وَسِعَهم البلاغُ. ثم نَقَل عنهم مَن بعدهم من الثقات الأثبات الأمناء، نقلاَ فاشيا واضحاً متواترا، لم يجعلوا شيئا منه سرا مصوناً، ولا كنزا مخفيا، بل هو الإذاعة بأقصى ما يستطيع الناسُ من الإذعة، حتى لا يكون شئُ منه موضعا لشبهة، ولا مَعرِضا لشك، ولا باباً لزيغٍ. فكان في رأي المستشرقين أَن الرسمَ سَبَقَ القراءةَ، خيالاً منهم وتوهماً، وكان عند المسلمين أن القراءةَ سبقت الرسمَ، حقًا يقينا ثابتا، بأوثق ما تثبتُ به الحقائق التاريخية. * * * ولم يكن للمسلمين - من أَول الإسلام إلى الآن - مندوحة عن اليقين بهذأ الوجه، إذ هو الذى لا يعقل سواه، وهو الذى تقتضيه طيبعة ما وصل إليهم من النقل والأدلة. وكانوا أعرف بأصحاب رسول الله، ثم بالأمة من العلماء والقراء الذين نقلوا إليهم العلمَ والدينَ والقرآنَ، من أَن يظنوا بهم السوء والكذب والافتراء، وكانوا يوقنون بكفر مَنِ عمد إلى تحريف حرف واحد من

القرآن، بافتراء قراءة لم تُنقل عن قارئه الأول، صلى الله عليه وسلم. وها هي دي كتبُ القراءات - ما نُشر منها وما لمِ يُنشر - وها هم أولاءُ قراء القرآن في أقطار الأرض، كلهم يسوقً أَسانيدَ القراءة عن الأئمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من روايات الثقات الأثبات الصادقين، الذين لا يحصيهم العد، والذين لا موضعَ للطعن فى صدقهم وأمانتهم وتقواهم لله. فما كان لأحدٍ من الناس بعدَ ذلك - ولو كان من المستشرقين أو من عبِيد المستشرقين - أن يُلقِيَ ظِلا من الشك على هذه الحقائق البينة، وعلى هذا النهارِ الواضح. ولئن فعلَ لم يكن إلا جاهلاً أو متجنياً {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. [آل عمران: 7] ولو عَقَل هؤلاء القوم، الذين يعرضون لما لا يعلمون، ويخوضون فيما لا يفقهون، لعرقوا أَن التعرض لتغيير الرسم العربي، أَو ما يسمونه "تيسيره"، إنما هو العمل على تمزيق لغة العرب وتفريق وحده المسلمين. وهذا القرآنُ، وهذه اللغة التي حَفظ، هما كل ما بقي لنا من آثار الوحدة والتمسك. ولفهموا ما وراء رأى المستشرقين من مقصد أو نتيجة، لا يجوز في

منطق العقول غيرُها: أن القرآن بالوجه الذى أنزل على رسول الله خرَجَ من أيدى المسلمين فيما قُرىء بأوجه متعددة، لأنه "يجب أَن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" كما قال جولدزيهر، وقد دخل هذا الوجهُ الواحدُ في أَوجه متعددةٍ غيرَ معين أو غير معروف، أو لعله لم يكن في هذه الأوجه. لأن المسلمين - في رأيهم - إنما قرؤوا على أوجه يحتملها الرسمُ المكتوبُ، لا على أوجه أنزل بها من عند الله, وثبتت صحتُها وقراءتُها عن الرسول الذى أمر بقراءته وإبلاغه للناس. فهذه القراءاتُ لى رأى المستشرقين ومن تابعهم، ليست كلها أنزل بها القرآن، وإنما أنزل بواحدة منها غيرٍ معينة، لا يعرفها المسلمون ولا يعرفها المستشرقون. وحاشَ لله أن يكون شئ من هذا، و {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}. [النور: 16] * * * هذه حقائقُ لا يشك فيها مسلم وما ينبغي له. فوازِنْ - أيها القارئ الكريم - بينها وبين قول الباشا في كتابه (ص 84 - 85) في شأن رسم المصحف والقراءة: "لقد كان القراءُ قليلين والكتابُ أقلَّ من القليل، والرقاع أنذرَ من الندوة، فأيما قبيلةٍ ظفرت بصحيفة مكتوبٍ فيها سورة أو بضع

آيات من سورة حرصتْ عليها وتعبدت بتلاوتها على الوجه الذي استطاعت أن تقرأها عليه، وإذ كان رسمُ الكتابة إذ ذاك أَشد اختزالاً مما هو الآن، لتجرده من النقط والألفات الممدودة، وكان الكُتاب بدائيين لا يستطيعون ضبط الكتابة حتى يرسمه القاصر السخيف، إذ كان هذا فإن باب الخطأ والتصحيف كان مفتوحاً على مصراعيه. ويكفي أن يكون للألفاظ بعد تصحيفها، معانٍ تتلاءمُ قليلاً أو كثيرا، حتى يمضي القارئ في قراءته وبتعصب لها. أَرأَيت إذن يا سيدي مبلغ الضرر الذى نشأ في أَول الإسلام عن سوء الرسم ووجازته وقابليتة للتصحيف؟ ... على أن عثمان إذا كان له عند الله وعند المسلمبن يد بجمعه القرآن، فإن عملَه لم ينحسم به الشر من أساسه. كل ما كان أَنه كفى المسلمين شر جهل الكاتبين الذين لم يحسنوا كتابة ما لديهم من الصحف على قاعدة الرسم العربط السخيف، ثم شر من كانت لديهم صحف كتبوها أوقات متباعدة وفرص متفرقة، فأنت بطبيعة الحال غيرَ وافية أَو غيرَ مراعَى فيها ما للقرآن من ترتيب في السور والآيات. أما منبع الشر الحقيقي، وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف، فبقي على ما كان عليه، ولم يعالج بشئ أكثر من إيكال الأمر في كل مصر إلى الحفاظ المتدينين الصالحين وهو في ذاته علاج واهن ضئيل" وما بعدَ هذا، القول قولٌ في نسبة التصحيف إلى القرآن الكريم في

فقراءاته، إذ بقِيَ "منبعُ الشر الحقيقي وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف" والعلاجُ الذى وضع له "علاج واهن ضئيل". فما ظنك بداء -في نظر معَاليه- لم يُجْتَث من جذوره، وبقي يعمل ويفشوا أكثر من ألفٍ وثلاثمائة سنة، لم يعالج إِلا بعلاج واهن ضئيل؟! حتى يأتي في آخر الزمان، مثل هذا الرجل النابغة، قيتخيَّرُ من القراءات ما طاب له، ويرفضُ سائرها، لأنها كلها نتيجة الاجتهاد في قراءة "الرسم العربي السخيف" "القابل لكل تصحيف". وقد تريد الصدفة في اختياره أَن يختارَ غير "الشكل الواحد واللفظ الواحد الذي نزل به الملكُ على الرسول المختار" كما زعم المستشرقون. وليس لنا بعدَ هذا إلا أَن نقول له ولهم: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}. [النور: 16] * * * أَما بعد وقد وفينا البحث حقه فيما نرى: فإني أرجو أن أُظهرَ الناسَ على مبلغ علم معالي الباشا فيما هو أيسرُ من ذلك من العلم. فقد يبدو لي أنه - وإن كان من رجال القانون - عَرَفَ شيئاً من علم أصول الفقه، ولو بالقدر الذي يُعَلم في كلية الحقوق لطلاب القانون ولكن الباشا أتى بالعجب والعجاب، فإنه أَراد أَن يجادل أحد الرادِّينَ عليه، وأراد

أن يذكر الأدلة الشرعية الأربعة المعروفة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، فذكر الثلاثة الأول، وقال عن الإجماع (ص 27) ما نصه: "ثم نظروا - يعني المسلمين - فوجدوا أن أحوالا قائمة أو تقوم في الناس، وعلى الأخص فما فتحه المسلمون من الأمصار، من عادات في آداب السلوك وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعُرْفٍ في المعاملات لم بأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتابُ ولا سنة. فأوجبوا بقاء تلك الأحوال، ما هو قائم منها وما يقوم، واعتبارَها أصلا يُصارُ إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع، وسَمَّوا علةَ هذا الاعتبار الإجماعَ. وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره"! ولست أحب أَن أجادله في النظرية التي أتى بها: أصحيحة أَم باطلة؟ وإنما أحب أَن أسائله عن صحة نقله. فإنه نَقَل أَن المسلمين عملوا هذا الذى زعم، وأنهم سَمَّوْه إجماعًا. فهو ينسب هذه النظرية لعلماء الإسلام على أنها هي الإجماع الذى بحتجون به ويجعلونه أَحدَ الأدلة الأربعة. أى أنه يجعل هذا هو تعريف الإجماعِ عندهم. والذين بحثوا في الإجماع، واستدلوا به, واعتبروه أَحدَ الأدلة، هم علماء الفقه وعلماء الأصول. فأنا أسأل معاليه: أين وَجَد في كتاب من كتب الفقه أو من كتب

الأصول هذا التعريفَ للإجماع؟ سواء أكان من كتب المذاهب الأربعة أم من غيرها، من مذاهب الشيعة الإمامية أو الظاهرية أَو الزيدية، أو أي مذهب من مذاهب علماء الإسلام؟! وليس له أَن يدعيَ أن هذا رأيةُ، وأَنه حر أَن يَرى ما يعتقد صحته. قليس المقامُ مقام رأي له, وإنما المقام مقامُ نقل أَطلقه عن علماء الإسلام جميعا، نسب إليهم فيه تعريفاً للإجماع لم يقله أَحد منهم قط، على كثرة الأقوال التي قالوا في تعريفه. ولا مناص له من أَن يجيب. وعليه أن يذكر الكتابَ الذي نقل منه ويذكرَ الجزء والصفحة منه، ويُعَيِّنَ طبعةَ الكتاب إن كان مطبوعا ومكانَ وجوده إن كان مخطوطا!! فإن لم يفعلْ - ولن يفعلَ - فقد عرفنا مقدارَ أَمانته في النفل، ومبلغَ علمه ببديهيات الإسلام! وسنرى. * * * وهذا الرجل الذي بلغ علمه بالقرآن وباللغة وبعلوم الإسلام ما ترى، والذي أشرب في قلبه قوانين الإفرنج حتى لا يسع غيرها، لم يكد يمسك القلم حتى خلق فرصة، لا أدري كيف خلقها، لإبراز ما يحمل قلبه من ضغن على التشريع الإسلامي، ولتقديس قوانين الإفرنج

والإشادة بها، وللذود عنها، خشية أن يفوز القائمون بالدعوة إلى تشريع مقتبس من الكتاب والسنة موافق لروح الإسلام وعقائد المسلمين. فخرج عن موضوع بدعته الميتة "بدعة الحروف اللاتينية" إلى موضوع لا صلة له بها من قريب أو بعيد. ولكن الله أراد أن يوفقه للإبانة عن ذات نفسه، والكشف عن خبيئة قلبه، ليوقن الناس أن بدعة الحروف اللاتينية جزء من خطة مرسومة واضحة مدمرة، يظن أصحابها أن سيفلحون. وذلك أنه أراد أن يرد على الكاتب القدير: "السيد محب الدين الخطيب" في نقده بدعته، وأن يسوطه بلسانه الحاد، فوجد من أبرز عيوبه عنده أنه يدعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية بدلاً من القوانين الأجنبية، فثارت ثائرته، وأخذته الحمية، غيرة على مقدساته أن تُنتقص من أطرافها، أو خشية أن تقتلع من جذورها، فتعود الأمة المصرية عربية الثقافة، عربية التفكير، عربية الدين. فذهب يهزأ بكل التشريع الإسلامي، ويسخر من علماء الإسلام، فإذا اضطره هواه أن يكرمهم بالقول خديعة للناس، افترى عليهم ورماهم بما إن صدق فيه كانوا غير مسلمين. وسأنقل لكم بعض قوله في ذلك كله بحروفه، معرضاً عن فضول القول، مما سود به صحف كتابه، فاقرؤوا واعجبوا.

قال معاليه: "ولأني، من ناحية أخرى، رأيت أن له -يعني السيد محب الدين -غرضاً أساسياً يسعى إليه، هو تسويء كل القوانين الوضعية القائمة الآن في البلاد، والرجوع إلى ما بناه الفقهاء الأكرمون من صرح الشريعة الغراء، وهو غرض مهم في ذاته، ومن شأنه أن يدفع إلى الإشادة بما ترك الليث بن سعد وباقي السلف الصالح من الآثار، كما يدفع إلى النعي على كل حادث يُتوهم منه المساس بتلك المخلفات" ص40. وقال: "إن الدين لله. أما سياسة الإنسان فللإنسان وما لله ثابت لا يتغير، لأن الله حي قيوم أبدي، يستحيل عليه التغير، أما ما للإنسان فكالإنسان يتغير ويتبدل ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث، وإذا كان أحد لا يستطيع في الإسلام أن يمس العقائد وفرائض العبادات، فإن الحاكم في الإسلام عليه، بهذا القيد، أن يسوس الناس عاملاً على أن يحقق مصالحهم بحسب الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤسساً عمله على الحق، خائطاً له بسياج من العدل الذي بدونه لا تنتظم أمور العباد. فهل يرى حضرة الطابع أو الكاتب في القوانين الموجودة الآن، من مدنية وتجارية وجنائية ومالية وإدارية، ومن نظم للهيئات المكلفة بتطبيقها وللهيئات التشريعية العليا المختصة بسنها وإصدارها -هل يرى في تلك النظم والقوانين ما

يخالف شيئاً من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فروض الدين؟ أو لا ينظر ويسمع هو ومن لف لفه، إن كان لهم أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، أن في الدولة المصرية من تلك النظم هيئة اسمها وزارة الأوقاف قائمة بتعمير مساجد الله وإقامة شعائر الدين في بيوت الله؟ وهل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين التي تتطور بالاستمرار تبعاً لأحوال الناس بل وللظروف العالمية جمعاء". ثم يقول له جواباً عن هذا السؤال: "إنك لن تستطيع الجواب. لأنك إن أجبت سلباً كذبت على السلف الصالح علنا"!! ص42. ويقول أيضاً مستهتراً مُصِراً على رفض التشريع الإسلامي: "إننا الآن عيال على الأوربيين لا في خصوص العلوم والفنون فحسب، بل كذلك في أمور التشريعات والقوانين، وإن ثقل عليك قولي فسل رجال كلية الحقوق وكلية التجارة، وأقلام قضايا الحكومة التي تجهز مشروعات القوانين، وسل كل من بالمحاكم الأهلية والمختلطة من القضاة المصريين ومن يشتغل لديها من المحامين المصريين. سلهم يأتوك جميعاً بالخبر اليقين. ومن أجل هذا، مضافاً إليك طريقتك العوجاء في خدمة الدين، يؤسفني أني لن أجيب رغبتك في الرجوع لسلفنا الصالح، في أمر القوانين" ص44 - 45.

ثم يزداد إصراراً وتقديساً للسادة الأوروبيين فيقول: "وإذا كنت -على ما أظن- لم تتصل أنت ولا من يكتب لك، بقوانين الأوربيين ولم تدرس شيئاً من قوانين الأوربيين، فهل ترى لنفسك حقاً في الموازنة بين عمل سلفنا الصالح وعمل الأوربيين؟ لو سمحت لي بأن أدلك على الحق الواقع لما أحجمت عن إفادتك، بل سماحك ليس في العِير عندي ولا في النفير. اعلم معلماً، أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء وفجرت لجارك ينابيع النور في كل زاوية من أركان بيته العامر، وأغنته عن المسارج والقناديل وهمّ المسارج والقناديل، وهيأت للناس التلغراف السلكي واللاسلكي، وكشفت لك عن خواص الراديو فجعلت سمعك الضعيف يدرك ما يحدث بأقصى بقعة في الكرة الأرضية من الأصوات، كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء، هذه العقول الجبارة لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون، ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه إخوته الآخرون" ص45. ثم لا يزداد إلا إصراراً وجهلاً بالدين وبأصول التشريع فيقول: "ارجع إلى عمل الصالحين السابقين يُفِدْك في العبادات والمعتقدات، لأنها لا تتغير بمر السنين، أما أحوال الاجتماع وسياسة الاجتماع وقوانين الاجتماع، فاتركنا أنت وغيرك نساير فيها أمم الأرض، ما دام قُوّامنا فيها، على كره منك،

يحترمون الدين ولا يخلون بشيء من أمور الدين. أنا وأنت مقتنعان بأن عملك وعمل كثير من أضرابك دنيوي واه لا شأن له بالدين، لأني أفهم الدين، ولأنك أنت ترى بعيني رأسك أن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين" ص46. هذا بعض قوله بحروفه. وأستغفر الله من حكايته، ولولا الضرورة إلى نقله لنقضه والتحذير منه لما فعلت: 1 - وقد بدأ معالي الباشا استدلاله بكلمة منكرة "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربي. نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن يَنفُثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتواً، على المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاً، للسادة الأوربيين "ذوي العقول الجبارة". ثم لا يستحي أحدهم أن يدعي أنه

يفهم الدين، وأن يزعم أنه مكتف بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!! 2 - والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [سورة المائدة الآية: 44]. وقوله سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [سورة الماءدة: 49]. أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟ وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) [سورة الأحزاب: 36]. وقوله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ

مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) [سورة النور: 47 - 51]. أفيجرؤ أن يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب! 3 - ولقد كررت الدعوة إلى الأخذ بالتشريع الإسلامي المستند إلى الكتاب والسنة، وأسهبتُ في الدلالة على وجوب العمل به، في مناسبات عدة، أهمها محاضرة (6 ربيع الأول سنة 1360هـ - 3 أبريل سنة 1941م) وهي التي جعلناها القسم الثاني من هذا الكتاب. 4 - ولست أدري وجه استدلال هذا الرجل العجيب بصفات الله الحسنى، وأنه أبديّ يستحيل عليه التغيّر، وبأن الإنسان يتغير ويتبدل، على صحة رأيه في رفض التشريع الإسلامي؟! وما أظن أن أحداً يدري! ما لهذا وما للتشريع!! إن الله سبحانه، وهو الحي القيوم، أنزل على رسوله شريعة كاملة، في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر بطاعتها كلها، وجعل من يرفض شيئاً منها خارجاً عليها، حتى إنه ليقول لرسوله: (أَلَمْ تَرَ

إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) [سورة النساء: 60 - 61]. ثم يقول له في هذه الآيات: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [65]. 5 - وإني أسأل معالي الباشا سؤالاً واضحاً صريحاً، أرجو أن يجيبني عنه جواباً واضحاً صريحاً، لا حَيْدة فيه ولا دوران: ما يقول هو وأمثاله في قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) أهو فرض من فرائض الدين، واجب الطاعة على المسلمين، في كل زمان ومكان؟ أم هم يرونه أمراً قد سقطت طاعته عن المسلمين، بأنهم أخذوا أخذ الأوربيين، وبأنه في شأن من شؤون الإنسان، و"أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان؟ " (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً). 6 - وهذا الاستدلال الطريف المدهش، بصفات الله الحسنى على إلغاء الشريعة الإسلامية! أيجد له هذا الرجل مثيلاً في استدلال العقلاء؟ لقد أعجبتني كلمة قالها الأخ الدكتور عبد الوهاب عزام، فيما

دفع به عدوان الباشا عليه، قال: "وليت شعري أهذا رأي حديث عرض لسعادة الأستاذ، أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟ " (مجلة الرسالة العدد 587 في 2 أكتوبر سنة 1944م). وصدق الدكتور عزام، فإن مغالطات الرجل في استدلاله بلغت حداً يسقط معه كل مناظرة. ولولا خشيةُ أن يُخْدَع ناس بشيء مما لعب به لما عبأنا بالرد عليه، ولأعرضنا عنه إعراضاً. وإن استكثرتم عليه هذا الوصف فاقرؤوا اعتذاره بين يدي شتمه للدكتور عزام وسخريته منه في ص66 من كتابه، إذ يقول تبريراً لما جنى عليه: "على أن القلم والمداد والقرطاس كل أولئك ملك يدي، وانتفاع المرء بما يملك حلال في الشرع والقانون"!! أفرأيتم أيها الناس حجة كهذه الحجة؟! وممن؟ من رجل وُسِم في وقت من الأوقات بأنه أكبر رجال القانون في مصر! ما أظن أن رجلاً من أضعف الناس مدارك يرضى لنفسه أن يبرر عدوانه على غيره بمثل هذا الكلام، ولكنه الاستعلاء والطغيان. 7 - ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، ممن يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلامي، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة!

ما زعم لنا واحد منهم قط "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وأن "الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمس العقائد وفرائض العبادات". لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته، وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان. والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص. فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج الإسلام جملة، ورفضه كله. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. 8 - إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة.

9 - وأعجب ما في الأمر أن يسأل معالي الباشا السيد محب الدين الخطيب: "هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئا من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فرائض الدين؟ " وسأجيبه أنا جواباً حاسماً: نعم، إن القوانين الإفرنحية والنظم الأوربية، فيها كثير مما يخالف عقائد المسلمين، وفيها تعطيل لكثير من فروض الدين. فيها إباحة الخمور علناً، والترخيص رسمياً ببيعها، بتصريح كتابي يوقّع عليه وزير من وزراء الدولة أو موظف كبير من موظفيها. بل إن فريقاً من رجال الدولة الكبار لا يخجلون أن تدار عليهم الخمور في حفلات رسمية، ينفق عليها من أموال الدولة، بحجة أن هذا إكرام لمدعويهم من الأجانب، أو بما شئت من حجج تجردت من الحياء. حتى إن الدهماء ومن يسمونهم بسمة "الطبقة الراقية" اقتدوا بساداتهم وكبرائهم، واستغلوا هذه القوانين فيما يُذهب عقولهم ويذيب أموالهم، فانحطوا إلى الدرك الأسفل. وفيها إباحة الميسر بكل أنواعه، بشروط ورخص وضعوها فخربت البيوت، واختلت الأعصاب والعقول، مما هو مشاهد، يعجز قلمي عن وصفه. وفيها إباحة الفجور بطرق عجيبة، من حماية الفجار من الرجال

والنساء، من سلطان الآباء والأولياء، بحجة حماية الحرية الشخصية. ثم ما في الحانات والمواخير، ثم اختلاط الرجال والنساء، ثم المصايف وما فيها من البلاء، ثم هذه المراقص العامة والخاصة، بل المراقص التي تنفق عليها الدولة في الحفلات والتمثيل، اقتداء بالسادة الأوربيين" ذوي العقول الجبارة التي كشفت الكهرباء والراديو ومعجزات الطيران"! وفيها إبطال الحدود التي نزل بها القرآن كلها، مسايرة لروح التطور العصري، واتباعاً لمبادئ التشريع الحديث! وتباً لهذا التشريع الحديث وسحقاً. وفيها إهداء الدماء في القتلى، باشتراط شروط لم ينزل بها كتاب ولا سنة، في الحكم بالقصاص. مثل شرط سبق الإصرار، مع العمد الموجب وحده للقصاص في شرعة الإسلام. ومثل البحث فيما يسمونه "الظروف المخففة" و"درس نفسية الجاني وظروفه". ومثل جعل حق العفو للدولة، لا لولي الدم، الذي جعل الله له وحده حق العفو بنص القرآن، فأهدرت الدماء، وفشا القتل للثأر، حتى لا رادع. والأمة والحكومة والصحف وغيرها، تتساءل عن علة ازدياد جرائم القتل؟ والعلة في هذه القوانين، التي خالفت العرف والدين. إلى غير ذلك ما لا نستطيع أن نحصيه في هذه الكلمة

وكل هذه الأشياء وأمثالها تحليل لما حرم الله، واستهانة بحدود الله، وانفلات من الإسلام. وكلها حرب على عقائد المسلمين، وكلها تعطيل لفروض الدين. 10 - ولسنا ننعيَ على هذه القوانين كل جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كل عصر وكل مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية، فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهي من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!! وهم، في نظر الشرع، مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا. أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما

جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربهم، ساخطين إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم: "إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين"!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى "الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين". 11 - والفرية الكبرى أن يرمي معالي الباشا فقهاءنا وأئمتنا السابقين، بما يخرجهم من الدين! فإنه سأل محب الدين: "هل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين، لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين"؟ ثم لم يتريث حتى يجيبه محب الدين أو غيره، فبادر بالجواب، مثبتاً عليهم هذا الذي زعم، غير عابئ أن يخاصموه جميعاً فيَخْصِموه، بين يدي الله يوم القيامة، بأنه وصمهم بما لم يخطر ببال أحد غيره، وحسابه على الله. ونحن نجيبه الجواب الحاسم الصحيح: أن سلفنا الصالح لو مد الله في أجلهم إلى اليوم، ما رضوا عن هذه القوانين، وما خنعوا لها وما استكانوا، بل ما جرؤ أحد أن يفكر في وضعها لبلاد المسلمين. وليس الذي ينفي عنهم عار هذه السُّبَّة هو الذي يكذب عليهم علناً، وهم أجلّ في أنفسهم وفي نفوس المسلمين، من أن يصدق عليهم ما رماهم به معاليه. ومن ظن بهم غير ذلك، فقد جهل العلم والدين، وأنكر التاريخ،

أو قال غير الحق، زراية بهم وإسرافاً عليهم، وهو يعلم أن الحق غير ما قال. يا صاحب المعالي: لعلي قد قسوت عليك بعض القسوة، بما لم تعتد أذنك سماعه من المتزلفين والمجاملين، وما أريد إلا الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته، والدفاع عن القرآن ومنع العبث به، والمحافظة على العربية ووحدة أممها. وقد يكون في هذا فائدة عظيمة في عاقبة أمرك، أن تعرف الإسلام وحقوقه، وترجع عما أخطأت فيه، فإن الرجل الحازم يعرف كيف يرجع إلى الحق علناً، كما حاد عنه علناً. فإن أبيت فلا تنس بيت بشر بن أبي خازم: ولا يُنْجي من الغمرات إلا ... بُراكاء القتال أو الفرار * ... * ... * أحمد محمد شاكر الأحد 28 شوال سنة 1363. 15 أكتوبر سنة 1944

§1/1