الكافي شرح البزودي

السِّغْنَاقي

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله بارئ البرايا، ومعطي العطايا، مشرِّعُ شوارع الشرع، ومُظهر قواعد الأصل والفرع، ملةٌ مرضية، وسنةٌ سنية أحمده على ما أقدرني على الحمد بالتوفيق، وأستوفقه على مزيد الطاعات وتكثير التحقيق، وأشهد علمه على إيماني وإسلامي، وأسترحمه عند مضيق حالي وإسلامي، مستشفعًا بنبي الرحمة، وكاشف الغمة محمد -صلى الله عليه- وعلى آله الأخيار، وأصحابه الأبرار. وبعد: فإن الإقدام في مثل هذا الأمر الذي أنا بصدده شأو بطين حصن حصين، لا يفتحه إلا من كثر جثوه عند مهرة هذه الصنعة من أولى الألباب، وقرعت مسامعه مرة بعد أخرى بفوائد هذا الكتاب، وكان مع ذلك ذا طبيعة منتجة، وقريحة مبهجة، وكلما وقع في مضيق خرج فيه وجهًا رائعًا،

وأصلا فارعًا لا ممن يحار فيه بالسكوت ولا يهتدي، أو ممن يفرط بالكلام ويعتدي، بل يتكلم مستقيم تقبله الأصول وترتضيه العقول، وكان قد لازم آونة من اختص بتخريج مصنفات فخر الإسلام، وقد بقي أزمنة باستكشاف معضلاته بين أئمة الأنام، راجعًا ومرجعًا، وصادرًا ومصدرًا، وها أنا قد تصديت لشرح هذا الكتاب، وفسر ما يؤتيه بفصل الخطاب بتوفيق الله الملك الوهاب، وهو الكتاب المنسوب إلى الإمام الزاهد المحقق والحبر المدقق ذي البركات الباهرة والكرامات الظاهرة فخر الإسلام أبي الحسن علي بن محمد بن الحسين البزدوي -رحمه الله-. وقد بلغتني رواية هذا الكتاب بالأستاذين المذكورين في «النهاية في شرح الهداية».

مع زيادة أن صاحب الهداية)) يرويه عن الشيخ الإمام الزاهد الحافظ نجم الدين أبي حفص عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي، وهو عن المصنف -رحمهم الله- وكان يكثر اقتراح المحكّمين والتماس الملتمسين إياه. وأنا لا أقبله بل آباه لما أنه هو الغاية القصوى، والطامة الكبرى، فلذا لم أتجاسر

في التارت الأول وأحيان جزائل النبل التي قدمتها من الشروح، وما حوت من الفوائد التي هي متقاربة الخطي في الوضوح وأما هذا الشرح فليس من القبيل، فإن الخابط فيه كثير لا قليل لكن المتطلعين على «الوافي» و «النهاية» أحسنوا الظن بي، واستدلوا بهما على حصول مرادهم على الكفاية حتى اقر نبعوا في الاقتراح على الغاية، فأنينما توجهت إلى البلدان الشاسعة والأسفار الجازعة تضامت كبراؤهم في الاحتكام هنالك، كأنهم تساروا في التواصي على ذلك مع تباين مسافاتهم النازحة، وتباعد طرقهم الطالحة. قلت: ليس هذا إلا أمرًا قد أراد الله فيه خيرًا، حيث استحسنوه على اللزن «وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»، ولو لم يكن فيه إلا ما

التمس به أخي في الله الإمام البارع، الورع، الرباني، العالم، الزاهد، الصمداني، سابح بحار الفقه ولحجها وشارح أدلة الشرائع وحججها، منبع عيون الرواية ومشرع متون الدراية، النابذ لأمور الدنيا بحوافها ولذاتها، والمقبل على أمور العقبى بمشاقها وكراتها، الأخ الصديق العطوف، والحب الشفيق برهان الدين أحمد بن أسعد بن محمد الخريف عني البخاري أدامه الله، وشكر مساعيه، وزاد توفيقه في الدين ومعاليه لكان الواجب على التلقي بالاستجابة، والإقبال بالاستطابة، فإن -سلمه الله تعالى- كان يوصيني به مرارًا، ويكرمني بالالتماس به سرًا وجهارًا، فأجبته في ذلك بأمره مؤتمرًا، ولمودته مزدهرًا.

ثم اعلم: أني ضمنت فيه أن أجمع بين نسختي الفوائد: إحداهما: الفوائد الصادرة من الإمام السابق في البيان الفائق، صاحب الأصول والفروع، ومعدن المعقول والمسموع مولانا بدر الدين محمد بن محمود بن عبد الكريم الفقيهي الشحنوي الكردري -رحمه الله-. والثانية: الفوائد الصدرة من الإمام، العالم، الرباني، العامل، الصمداني، حبر الأمة، محي السنة مولانا حميد الدين الضرير على بن محمد ابن علي الرامُسي البخاري -رحمه الله- مع اختلاف نسخ له فيه، وزدت عليهما ما ليس فيهما مما يقتضيه المشروح بعد الاستحكام، وما يلتجي إليه ذلك الموضوع المنعوت بالاستبهام، واكتفيت عن ذكر المناسبات والانحصارات وسائر ما يعاد ذكره من البينات إلا ما تمس إليه الحاجة من الشرح «الكافي» بما ذكرته في «الوافي» اختيارًا لما يضبط أمره في التبيين، وهو حسبي ونعم المعين.

مقدمة أصول فخر الإسلام

قال الإمام مولانا بدر الدين الكردري -رحمه الله-:الأصل ما يبنى عليه غيره، والفرع ما يبنى على غيره. ثم قال ناقلًا عن الإمام العلامة مولانا شمس الدين الكردري -رحمه الله-: فأهل الجاهلية عند الحلول والارتحال كانوا ينشدون الأشعار، فرفعت الشريعة ذلك، وشرعت ذكر اسم الله -تعالى- مكانه، فقالوا: بسم الله أحل وبسم الله أرتحل، فعلى هذا كان في (بسم الله)

محذوف، إما في الأول، أي أبدأ أو ابتدائي بسم الله، أو في الآخر أي بسم الله أبدأ أو ابتدائي. وفي (الرحمن) مبالغة، حتى شمل المؤمن، والكافر، والمطيع، والعاصي، كالعطشان، والغضبان. وفي (الرحيم) دوام، كالجليس والأنيس والنديم، وهذا في حق المؤمن. قوله -رحمه الله-: (الحمد لله خالق النسم، ورازق القسم). اعلم: أن المصنف -رحمه الله- راعي في هذه الألفاظ ما هو المقُول في شرط التصنيف، وهو أن ذكر التحميد متضمنًا مضمون التأليف من شرط صحة التصنيف، وهذا كذلك، وذلك أن هذا الكتاب صُنف لبيان أصول الفقه. والفقه: معرفة النفس مالها وما عليها، وهو المنقول عن أبي حنيفة -

رحمه الله- فلما كان الفقه معرفة النفس بدأ الشيخ -رحمه الله- كتابه بقوله: (خالق النسم)، فإن النَّسم جمع نسمة، وهي الإنسان. كذا في الصحاح. ثم أعقبه بقوله: (ورازق القسم) أي الأعطية، لما أن النَّسم محتاجة إلى الأرزاق للبقاء، فكان فيه ذكر ابتداء وجود الأناسي وذكر بقائهم، وهو المرادون في خلق العالم، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، فكان في ذكر ابتداء خلق الأناسي

وذكر بقائهم عند ابتداء ذكر كتاب أصول الشرائع التي هي مشروعة على الأناسي مناسبة ظاهرة. ثم إن الله تعالى لما خلق هذا النَّسم على طبائع مختلفة، وأهواء متشتتة، وخلق متفاوتة، بخصائص ولوازم لا تدخل تحت الحصر والوهم، ولا تنضبط في الفهم، من موجبات الحكمة كان مبدعًا للبدائع. فلذلك قال: (مبدع البدائع)، ثم لما جُبلت هذه البدائع التي هي الأناسي على طبائع متبائنة تهيجهم الشهوة وتزعجهم الغضبة على حسب مألوف طبعهم، ومن جراه يقع بينهم التجاذب، والتضاغن، والتقاتل بحيث يقع به الإفناء. كانوا محتاجين إلى الدين المانع من تلك المخالفة، والجامع على الألفة والموافقة. وهو شرع الشارع الشرائع، فقال: (وشارع الشرائع). ثم ذكر الوصف الحميد للشرائع؛ لترغيب الطلبة في اكتساب المفاخر الدنيوية وإحراز السعادات العُقبوية، فقال: (دينا رضيًا، ونورًا مضيًا، وذكرًا للأنام، ومطية إلى دار السلام). فإن قوله: (وذكرًا للأنام) أي وشرفًا، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} أي شرفكم، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي لشرف لك.

وقيل في قوله: (ونورًا مضيًا): صنعة التخيل، كأنه تخيل بهذا قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} فالسراج: الشمس، وهي ضياء كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً}، فكأنه جعل الدين شمسًا أي في غاية الظهور والوضوح، وقمرًا أيضًا أي فيه نوع خفاء مع ذلك، فإن الدين في نفسه بين واضح جلي لا يستتر على ذي عينين، وبين خفي مبهم مشكل لا يكاد ينجلي إلا لذي لب متأمل يدرك بتأمله، كالقمر لا يرى فيه شيء إلا بتكلف وتبصر. ثم انتصاب قوله: (دينًا رضيًا ونورًا مضيًا) على الحال من قوله: (الشرائع) والعامل فيه شارع. فإن قلت: وشرط الحال أن يكون فيهما معنى الصفة أو تأويل معنى الصفة، وليس هو في قوله: (دينًا) ولا في قوله: (نورًا) فلا يصح انتصابهما على الحال لعدم الشرط. قلت: فيهما معنى الصفة؛ لوجود معنى الصفة في صفتهما، وهو قوله: (رضيًا، ومضيًا) فكأنه قال: وشرع الشرائع في حال كونها دينًا رضيًا، أي

منعوتًا بالرضا. فكان هذا عين نظير ما ذكر في ((الكشاف)) في أول حم السجدة في قوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}. وقال: هو نصب على الحال؛ أي فصلت آياته في حال كونه قرآنا عربيا. وكذا ذكر أيضا في سورة الزمر في قوله: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرآنًا عَرَبِيًّا} وهو حال مؤكدة كقولك: جاءني زيد رجلًا صالحًا وإنسانًا عاقلًا، فأوقع قوله: {قُرآنًا} حالًا مع أنه غير صفة لكونه موصوفًا بصفة، فكأنه قيل: موصوفًا بالعربية، فكذلك هنا. ولما وصف الله تعالى بكونه خالق النِسم، ورازق القسم، ومُبدع البدائع كان مستوجبًا للحمد، فقال: (أحمده على الواسع والإمكان). وإنما خص الوسع والإمكان؛ لأن الحمد لله تعالى على قدر ما يستحقه الله تعالى ليس في وسع البشر ولا في وسع غيره. ثم ذكر الإمكان مع الوسع؛ لأن الإمكان أعم من الوسع فكانا متغايرين، فصح عطف أحدهما على الآخر، وهذا لأن الوسع عبارة عن القدرة على الشيء والطاقة فيه، فربما كان الشيء ممكنًا في نفسه لكن لم يكن هو مقدورًا

له عليه في الحال كالألوف المنقودة من الدنانير والصباح الممسودة من الجواري مثلًا، فإنها ليست في مقدورك وإن كانت ممكنة في نفسها. (الرضوان): الرضا. قوله -رحمه الله-: (وأصلي عليه، وعلى آله، وأصحابه، وعلى الأنبياء، والمرسلين). فإن قلت: سلمنا أن نبينا عليه السلام أفضل الأنبياء، فتقديمه على الأنبياء كان أمرًا مستحقًا، فأما الصحابة فليسوا بمفضلين على الأنبياء؛ لما أن الولي -وإن جل قدره- لا يساوي درجة النبي، فكيف الفضل عليها؟ ثم مع ذلك كيف قدم الشيخ -رحمه اله- ذكر الآل والأصحاب على ذكر الأنبياء والمرسلين في ذكر الصلاة عليهم؟!

قلت: ليس هذا من قبيل تفضيل الولي على النبي، بل من قبيل تتميم الصلاة على نبينا - صلى الله عليه وسلم -. فإن تقديم نبينا عليه السلام على سائر الأنبياء لما كان أمرًا مسلَّما كان تقديم وتتميم الصلاة عليه على سائر الأنبياء أيضًا وجب أن يكون أمرًا مسلمًا. قوله: (العلم نوعان). فقوله: (العلم) مبتدأ، و (نوعان) خبره، فمن شرط المبتدأ أن يكون أخص من الخبر أو مساويًا له ليفيد فائدته، وأما أن يكون المبتدأ أعم من الخبر فلا، فلذلك لا يقال: الحيوان إنسانٌ، ولكن يقال: الإنسان حيوان أو حيوان ناطق. ثم العلم عام؛ لأنه يتناول علم الفقه والنحو والنجوم غير ذلك. وقوله: (نوعان) خاص، لما أن العلم أنواع لا نوعان فحسب، فلا يستقيم هذا من حيث الظاهر، لكن المصنف -رحمه الله- أراد من هذا العلم الخاص بدلالة حاله؛ لأنه في بيان الصول، وبيان ما هو للكلف، وما هو عليه، فكان تقديره: العلم الذي نحن بصدده نوعان، أو العلم الذي ابتلينا به نوعان، أو العلم المنجيء نوعان، فكان المبتدأ مساويًا للخبر. (علم التوحيد والصفات) وإنما ذكر علم التوحيد والصفات هنا مع أنه في بيان أصول الفقه لا في بيان أصول الدين؛ لأنه لما حصر العلم -أي العلم الذي اُبتلي بتعلُّمه- على نوعين لا غير، وجب عليه بيان ذينك النوعين، حتى

أن شمس الأئمة والقاضي أبا زيد -رحمهما الله- لما لم يذكرا في كتابيهما حصر العلم على نوعين، لم يذكرا علم التوحيد والصفات. ثم المصنف -رحمه الله- إنما ذكر حصر العلم على هذين النوعين؛ لأن العلم الذي يهمنا ويسعدنا ويبلغنا إلى درجة الكمال في الدنيا والآخرة، هذا العلم وإن كان اكتساب غيره أيضًا قد يكون من المناقب السنية والفضائل العلية، لكن يكون لك على وجه الوسائل إلى هذا العلم، لا على وجه المقاصد بنفسه. ثم قدم بيان علم أصول الدين على علم الشرائع والأحكام؛ لأن علم أصول الدين أصل جميع العلوم -على ما قررنا في صدر ((الوافي)) -فوجب تقديمه على غيره. التوحيد: يكي دانستن، ويكي كفتن، ويكي اعتقاد كردن. (والصفات) أي العلم بأن لله تعالى صفات؛ من العلم والقدرة، والحياة، وغيرها من صفات الكمال. والله تعالى قديم بجميع صفاته. فيعلم بهذا أنه من المثبتة لا من المعطلة كالمعتزلة.

(وعلم الشرائع) أي العلم بالمشروعات من السبب، والعلة، والشرط، والعلامة، والفرض، والواجب، والسنة وغير ذلك من المشروعات، فكان الشرائع أعم من الفقه والأحكام؛ لأن الفقه هو: الوقوف على المعنى الخفي وعلى الدلائل الشرعية، والحكم هو: الأثر الثابت بالعلة، فكانا أخص من الشرائع كما ترى، ولكن الأحكام هي المقصودة منها، فأفردها بالذكر. (والأصل في النوع الأول التمسك بالكتاب والسنة). أي الأصل في علم التوحيد والصفات التمسك بالكتاب. فإن قلت: لا نسلم أن الأصل فيه التمسك بالكتاب والسنة؛ لأنه لو كان

فيه الأصل الكتاب، لما كان أهل الفترة مؤاخين بالتوحيد، بل هم مؤاخذون به بدليل قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، هذا تنصيص على أن أهل الجاهلية كانوا مؤاخذين بالإيمان قبل نزول الكتاب إليهم. إلى هذا أشار في ((التأويلات)). قلت: نعم كذلك، إلا أن ما ذكره المصنف -رحمه الله- في حق أهل التوحيد تدينا، بدليل ما ذكره في النظير من أهل الاعتزال والخوارج، إلا أن بعضهم بسبب الأهواء والبدع ربما أفضى مذهبهم إلى القول بالاشتراك مع أنهم ينزهون أنفسهم عنه، كقول أهل الاعتزال بأن أفعال العباد مخلوقة لهم، فكانوا قائلين بإشراك العباد في الخلق لله تعالى، فقال المصنف في مثل هذا: إن الأصل في نفي الإشراك وإثبات التوحيد التمسك بالكتاب والسنة،

ففي الكتاب دليل على أن أفعال العباد ليست بمخلوقة لهم لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، وأفعال العباد شيء، فكان الله خالقا لها أيضًا، وكذلك في الصفات. وأما قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}، ففي حق أهل الكفر من أهل الجاهلية صريحًا، ولم يكن لهم الكتاب، فكان عليهم أن يتأملوا في التوحيد فيؤمنوا بالله وحده؛ لوضوح الدلائل عليه على ما قال القائل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فلما لم يتأملوا في التوحيد حتى بقوا على الإشراك كانوا مؤاخين لذلك، ولأن كل واحد من أهل الحق والباطل يدَّعي أن الذي قلته هو موجب العقل لا موجب الهوى، فلا بد من حاكم يحكم بأن الذي قاله هذا الصواب، وهو

موجب العقل لا موجب الهوى، وأما الذي قاله الآخر فهو موجب الهوى وهو باطل، وذلك الحاكم هو الكتاب والسنة، فلما تم الحكم بالكتاب والسنة صار كأن الأصل الكتاب وما يتبعه فيه؛ لأن العبرة للمتمم لا للمبتدئ، فلذلك أضاف الأصالة في التمسك في التوحيد إلى الكتاب والسنة. (ومجانبة الهوى والبدعة). فالهوى: ميلان النفس إلى ما يستلذ إليه الطبع من غير دليل شرعي على شرعيته، والبدعة هي: الأمر المحدث الذي لم يكن هو من فعل الصحابة ولا من التابعين ولا ما اقتضاه الدليل الشرعي، فكان الهوى على هذا التفسير بالنسبة إلى نفسه، والبدعة بالنسبة إلى غيره. (ولزوم طريق السنة). أي عقيدة الرسول عليه السلام (والجماعة) أي عقيدة الصحابة. (أدركنا مشايخنا) أي أستاذينا كالإمام أحمد الطواويسي،

والإمام شمس الأئمة الحلواني للمصنف -رحمهم الله- (وعامة أصحابهم). وإنما قيد به لما أن بعض أصحاب أبي حنيفة -رحمه الله- كان موسومًا بالبدعة والهوى كبشر المريسي.

(كتاب الفقه الأكبر) سماه أكبر لما أن كبارة العلم وشرفه بحسب كبارة المعلوم، فلما كان المعلوم منه ذات الله تعالى وصفاته، لا يكون علم أكبر من ذلك العلم، فلذلك استحق أن يسمى بالفقه الأكبر. (وكتاب الرسالة) وهو كتاب بعثه أبو حنيفة -رحمه الله- إلى عثمان البتي -رحمه الله- وهو من أصحابه. (وأن ذلك كله بمشيئة الله) وقد

حكي أن محمودًا المتكلم -من المعتزلة- ناظر مع ابن فورك وهو من أهل السنة، فقال محمود: سبحان من تنزه عن الفحشاء. وقال ابن فورك: سبحان من لا يجري في ملكه خلاف ما يشاء.

(وقال: لا يكفر أحد بذنب). أي إذا لم يقصد بذلك خلاف أمر الله، بل فعل ذلك لغلبة شهوة أو غضبة حملته إليه، لا على قصد المخالفة أو الاستهانة بالمعصية. فبهذا يعلم أنه لم يكن على مذهب الخوارج، فإن عندهم من عصى كفر سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة. (ولا يخرج به من الإيمان). يعلم بهذا أنه لم يكن على مذهب أهل الاعتزال، فإن عند المعتزلة من أذنب كبيرة يخرج به من الإيمان. (ويترحم له) أي يبقى هو محلًا للرحمة، فإن صاحب الكبيرة إن مات من غير توبة من كبيرته كانت عاقبة أمره الجنة مرحمة عليه، ولا يخلد في النار. ويقال له أيضًا: رحمه الله. (إمامًا صادقًا) أي كان هو مقتدي الأمة في العلوم الإسلامية على

التحقيق، ويحتمل أن المصنف -رحمه الله- إنما قال هذا جوابًا لاعتراض معترض عسى أن يقول: إن أبا حنيفة -رحمه الله- إنما قال هذه الأحكام في مصنفه هكذا -من إثبات الصفات وغيره -لا عن علم به وتبصر، فإنه كان مشتغلًا بتخريج المسائل الفقهية الشرعية، لا في أصول الدين؛ فإنه لم يكن له حظ منه. فرد هذا الاعتراض بقوله: وكان في أصول الدين إمامًا صادقًا لا كما يظنه جهلة أهل البدع. (أن من قال بخلق القرآن). أي القرآن الذي هو صفة قائمة بذات الله تعالى. وأما القرآن الذي هو مكتوب في مصاحفنا، ومحفوظ في صدورنا، ومقروء بألسنتنا، فلا خلاف بيننا وبين المعتزلة أنه مخلوق.

(فهو كافر)؛ لأن فيه إنكار الشرائع من الصلاة والزكاة وغيرهما، وهذا لأنه لما كان مخلوقًا لم يكن صفة لله تعالى، ولم يكن الله تعالى آمرًا ولا ناهيًا؛ لما أن أمره ونهيه إنما عُلما بالقرآن، فكان فيه القول بارتفاع الشرائع وبطلانها بمرة، وهو كفر صريح -نعوذ بالله من ذلك. (وصح هذا القول عن محمد -رحمه الله-). قال الإمام العلامة مولانا شمس الدين الكردي -رحمه الله-: وصل هذا القول إلينا عنهم بطريق الآحاد، وأما المشهور منهم فإنهم قالوا: لا تكفروا أهل قبلتكم. (ودلت المسائل المتفرقة عن أصحابنا).

منها: قوم صلوا بجماعة في ليلة مظلمة، فصلى كل واحد منهم إلى جهة، فمن علم منهم حال إمامه فسدت صلاته؛ لأن الإمام عنده مخطئ، فلو كان كل مجتهد مصيبًا في اجتهاده لما فسدت صلاته، كما إذا صلوا في جوف الكعبة. ومنها: ما ذكر في كتاب الإيمان: رجل قال: إن لم آتك غدًا إن استطعت فامرأته كذا. يقع على سلامة الآلات والأسباب. فإن قال: عنيت به حقيقة

الاستطاعة وهي القدرة المقارنة للفعل -صدق ديانة. فعلم بهذا أنهم قالوا بوجود القدرة المقارنة للفعل، وفيه رد لمذهب أهل الاعتزال. ومنها: أن من حلف ليقلبن هذا الحجر ذهبًا أو ليمسَّنَّ السماء. قال: انعقدت يمينه، وحنث عقيبها؛ لأن ذلك متصور بطريق الكرامة، وفيه أيضا رد لمذهب أهل الاعتزال. ومنها: ما قالوا: إن القاضي إذا قضى بشهادة الفُسَّاق نُفَّذ قضاؤه بناء على أن المؤمن -وإن ارتكب كبيرة- يبقى مؤمنا، وفيه رد قول أهل الاعتزال. وكذلك قالوا: إن اجتنب الكبائر قُبلت شهادته وإن ألم بمعصية

صغيرة، وفيه رد قول الخوارج. ومنها ما ذكر في ((الجامع الصغير)) محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة -رحمهم الله- في ميراث رجل قسم بين غرمائه، قال: لا آخذ من الغريم كفيلًا ولا من الوارث، هذا شيء احتاط به بعض القضاة، وهو مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- خلافًا لهما. وقوله: ((ظلم))، أي ميل عن سواء السبيل، وبهذا يعلم أن أبا حنيفة -رحمه الله- كان يعتقد أن المجتهد يخطئ ويصيب؛ لأن الأصل في القاضي

أن يكون مجتهدًا خصوصًا في ذلك الزمان، ومع ذلك نسب قضاء بعض القضاة إلى الظلم، فكان مخطئًا في قضائه لا محالة، فكان أبو حنيفة -رحمة الله عليه- معتقدًا أن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافًا للمعتزلة، فإنهم يقولون: كل مجتهد مصيب. ومنها: ما ذكر في كراهية (الجامع الصغير)): يكره أن يقول الرجل في دعائه: أسالك بمعقد العز من عرشك، أو بمقعد العز من عرشك. أجمعوا على أنه لا تجوز العبارة الثانية وهي من القعود؛ لأنها توجب حدوث صفة الله تعالى، والله تعالى بجميع صفاته قديم. ومنها: أنهم بنوا مسائل كثيرة على الفعال الاختيارية من العباد، كما في الحدود والقصاص والغصوب، فعُلم بهذا أنهم لم يكونوا من المجبرة.

(حتى قال أبو حنيفة -رحمه الله- لجهم) وهو جهم بن صفوان الترمذي رأس الجبرية، ومن مذهبه: أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة فقط دون الإقرار، وأنه لا فعل لأحد على الحقيقة إلا لله تعالى، وأن العباد فيما ينسب إليهم من الفعال كالشجرة تحركها الريح، والإنسان مجبر في أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار. كذا في ((المغرب))، وهكذا أيضًا في ((تبصير الأدلة)). (على ما نطق به الكتاب والسنة). نحو قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} وقوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} الآية، وقوله عليه

السلام: ((الصراط جسر ممدود على وجه جهنم)). وما روي عن النبي عليه السلام: أنه مر بقبرين جديدين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير؛ أما أحدهما فإنه كان لا يستتره البول، والآخر كان يمشي بالنميمة)). (هذا فصل يطول تعداده) أي النوع الأول وهو علم التوحيد والصفات (والنوع الثاني علم الفروع وهو الفقه) أي علم الفقه فرع على علم أصول الدين، وهو علم التوحيد والصفات، فأصالة أصول الدين إنما تكون باعتبار إثبات حدوث العالم، فعلم إثبات حدوث العالم أصل جميع العلوم الإسلامية، وقد ذكرنا وجهه في ((الوافي)).

(علم المشروع بنفسه) أي علم المبَّين حكمه، وهو علم الجواز والفساد، والحلال، والحرام. (وهو معرفة النصوص بمعانيها) أي مع عللها، والسلف لم يستعملوا لفظ العلل، بل استعملوا المعاني مكان العلل، كما في قوله عليه السلام: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث)). أي إلا بإحدى علل، والدليل عليه تأنيث الإحدى، وكما في لفظ ((القدوري)): والمعاني الناقضة.

ثم نظير ما ذكر من معرفة النصوص بمعانيها هو أن يعرف معنى قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}، أن المراد به انتقاض الطهارة بالخارج من السبيلين؛ بسبب أنه نجس خارج من بدن الإنسان، ويقيس عليه الفصد والحجامة بهذه العلة الجامعة بينهما. وهكذا أيضًا نظير (ضبط الصول بفروعها). أو نقول: هو أن يعرف أن الحقيقة مع المجاز لا تجتمعان، وهذا أصل، وفرعه وهو: أن يعرف أن المس لا يكون حدثًا في قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لأن المجاز -وهو الجماع- تعين مرادًا بهذا النص، فلا تبقى الحقيقة مرادة. (والقسم الثالث وهو العمل به)؛ لأن العلم وسيلة، والمقصود العمل. قال عليه السلام في دعائه: ((أعوذ بالله من علم لا ينفع)) وفسره بعلم لا يعمل به.

(حتى لا يصير نفس العلم مقصودًا)؛ لأن المقصود من هذه المشروعات الابتلاء، والابتلاء إنما يتحقق بالعمل والعلم لا بالعلم فحسب، ولا يقال: كيف جعل العمل من قسم العلم بقوله: ((والقسم الثاني علم الفروع وهو الفقه، وهو ثلاثة أقسام ....)) إلى آخره. مع أن العمل مغاير للعلم حدا وحقيقة، فكيف جعل العمل من قسم العلم؟ لأنا نقول: إن جعل العمل من قسم العلم حصل من تأويلنا للقسمة الأولى التي قسمها المصنف بقوله: ((العلم نوعان))، أي العلم المنجيء من العقاب نوعان، والعلم إنما يكون منجيًا من العقاب أن لو كان العمل مقرونًا بذلك العلم. (فإذا تمت هذه الوجوه كان فقيهًا). ذُكر أن أعرابيا دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: علمني يا رسول الله سورة من القرآن، فعلمه سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} فقال الأعرابي: حسبي يا رسول الله، فقال عليه السلام: ((فقه الرجل)). سماه فقيهًا حين علم منه أنه يضم العمل إلى العلم. (وقد دل على هذا المعنى) أي على ما ادعينا من أن الفقه عبارة عن إتقان المعرفة بالشيء مع العمل به.

(والحكمة): صواب كاري كردن دركردار ودر كفتار. وقيل: الحكمة: هي العلم مع العمل؛ لأنه إنما يسمى الفعل حكمة إذا كان ذلك الفعل عن علم، ثم إنما يسمى الرجل العالم حكيمًا إذا عمل بما علم؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه كان سفيهًا لا حكيمًا. والتنكير في قوله: {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} تنكير تعظيم، كأنه قال: فقد أوتي خير كثير. يعني هو غاية في الخيرية والكثرة، كما تقول: مررت برجل أي رجل. أي كامل في الرجولية. (وقد فسر ابن عباس -رضي الله عنهما- الحكمة في القرآن بعلم الحلال والحرام). فتفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- جنس الحكمة المذكورة في

القرآن بعلم الحلال والحرام لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون العمل مقرونًا بذلك العلم، أو يكون المراد منه مجرد العلم بدون العمل، والثاني منتف بقرينة الخير الكثير، فإن ذلك عبارة عن حفظ النفس عن الآفات في الدنيا، ودفع العقوبات في العقبى، ولن يكون العلم كذلك إلا بالعمل به؛ فلذلك كانت الحكمة متضمنة لهذا العلم مع العمل، فحصل من هذا أن تفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- الحكمة بعلم الحلال والحرام، والفقه عبارتان عن معبر واحد؛ فلذلك كان تفسير الحكمة بهذا تفسيرًا للفقه أيضًا. أو نقول: فيتفسير ابن عباس -رضي الله عنهما- للمحكمة: يُعلَم العلم؛ لأنه فسر الحكمة أولا بعلم الحلال والحرام، وبتفسير أهل اللغة الحكمة: يُعلم العمل، ثم فسر ابن عباس ثانيًا الحكمة بالفقه، فبمجموع هذين التفسيرين يُعلم أن الفقه عبارة عن العلم مع العمل؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- جعل الفقه تفسير الحكمة، وهي عبارة عن العلم مع العمل، فكان تفسيره أيضًا كذلك، وغلا لا يكون تفسيرًا له. وكان شيخي -رحمه الله- يقول: الفقه من له رواية، ودراية، وعمل.

وقوله: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}. قيد الموعظة بالحسنة دون الحكمة؛ لأن الحكمة حسنة أينما كانت، وإلا لا تكون حكمة. وأما الموعظة فقبيحة في غير موضعها. (قال الشاعر) وهو رؤبة، ونسب هذا القول في ((أساس البلاغة)) إلى عطاء السندي، وقال فيه: (أرسلت فيها مقرما ذا تشمام).

(أرسلت فيها) أي في النوق. (قرمًا) أي فحلًا، فإن القَرْمَ: البعير المكرم الذي لا يحمل عليه ولا يذلل، ولكن يكون للفحلة، ومنه قيل للسيد: قَرْم. (ذا إقحام): در اوردن جيزي در جيزي بعنف. (طبًا) أي فحلًا ماهرًا بالضراب الضراب: كشتي كردن شتر. (بذوات الأبلام): الأبلام -بفتح الهمزة-: جمع بلمة بتحريك اللام، يقال: ناقة بها بلمة شديدة إذا اشتدت ضبعتها. الضبعة -بقتح الباء-: بكشتي آمدن شتر. يقال: أبلمت الناقة إذا ورم محياؤها من شدة الضبعة، ورأيت شفتيه مبلميتين إذا ورمتا. فوجه التمسك بهذا البيت هو أنه وصف القرم أولًا بالإقحام وهو عبارة عن العمل، وبالطب ثانيًا، وهو عبارة عن العلم، ثم أطلق عليه اسم الفقه، فعلم بهذا أن الفقه عبارة عن العلم والعمل به لغة. فإن قيل: فعل الإرسال يتعدى إلى المفعول الثاني بكلمة ((إلى)) كما في

قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فكيف عُدي هاهنا بكلمة في؟ قلت: ذكر ((في)) هاهنا ليس لبيان التعدية إلى المفعول الثاني، بل لإعلام المحل وبيان كون النوق موضعًا للإرسال، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ}. (فمن حوى هذه الجملة كان فقيهًا مطلقًا)، وهو المراد بقوله عليه السلام: ((ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد)). {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} جرابيرون نمي آيد ازهر كروهي يك كس. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: الطائفة تقع على الواحد

فصاعدًا، أي فلولا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة، وللآية تأويلان: أحدهما: أن النبي -عليه السلام- إذا خرج للغزو كان المسلمون كلهم يرغبون في الخروج معه، فورد النهي عن الخروج جملة حفظًا لأهاليهم عن العدو؛ لأن العدو عسى أن يسبي أهاليهم عند غيبيتهم ويأخذ أموالهم. والثاني: أن النبي -عليه السلام- إذا قعد في المدينة وبعث السرايا إلى الآفاق كان يرغب المسلمون في الخروج مع السرايا جملة، فورد النهي عنه؛ لأنهم إذا خرجوا جملة لو نزل على رسول الله -عليه السلام- شيء من الحكام لم يكن معه أحد يبلِّغه هو إلى من غاب وخرج إلى الغزو، فأمر بأن ينفر طائفة ويبقى طائفة؛ ليبلِّغ الشاهد الغائب ما نزل إليهم من القرآن. فإن قيل: في هذه الآية نهى الكل عن أن ينفروا مع رسول الله -عليه السلام- إلى الجهاد على ما ذكر في التأويل الأول، وأمر في الآية الأخرى بنفر الكل بقوله: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} وقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ}، وقال: {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا}. قلنا: الجواب عنه من وجوه:

أحدها: أن هذه الآية نسخت الآيات التي توجب الخروج جملة. والثاني: أمروا بنفر الكل عند قلة المؤمنين، فلما كثر المسلمون أُمروا بنفر البعض دون البعض. والثالث: أُمروا بنفر الكل عند النفير، وأمروا بنفر البعض دون البعض في غير حال النفير. (والإنذار هو الدعوة إلى العلم والعمل)، فهذا دليل على أن الفقه العلم والعمل؛ لأنه إنما يدعو الخلق بما عنده؛ حتى لا يصير من الذين يقولون ما لا يفعلون، ولا من الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم مندوبون إلى الإنذار، وإنما يكون مندوبًا إذا عمل بما عَلم. ((إذا فقهوا)) فقه من باب شرُف للطبع، يقال: كرم الرجل إذا كان الكرم طبيعة له، وهنا أيضًا إنما يقال: فقه إذا صار الفقه طبيعة له وفقه من

باب علم، وذلك لا يكون للطبع، بل يقع ذلك أحيانًا، كما أن بخل كذلك، أي لا يكون للطبع، بل يكون أحيانًا كما قال الشاعر: ولربما بخل الجواد وما به ... بخل ولكن ذاك نحس الطالب ولربما جاد البخيل وما به ... جُود ولكن ذاك سعد الطالب (هم السابقون في هذا الباب) أي لم يتقدمهم أحد في باب الفقه والاجتهاد الذي هو بذل المجهود. (ولهم الرتبة العليا والدرجة القصوى) فالعليا: تأنيث الأعلى، والقصوى: تأنيث الأقصى وهو الأبعد. فإن قلت: من أين وقعت المفارقة بين العليا والقصوى بالياء والواو مع أن كلًا منهما فُعلى -بضم الفاء-، وكل منهما واوي؛ لأنهما من عَلوت وقصوت؟ قلت: العليا جاءت على الأصل الذي اقتضته العربية دون القصوى، فإنها جاءت شاذة بالواو، وذلك أن الكلمة إذا ثنيت على فُعلى -بضم الفاء- وهي من بنات الواو تُقْلَب واوها ياء في الاسم كما في الدنيا، ولا تقلب

ياء في الصفة، بل يبقى على أصلها واوية كما في الغزوي تأنيث الأغزي. وإنما فعلوا هكذا للفرق بين الاسم والصفة، وتخصيص الياء بالاسم حملًا للأخف على الأخف، فعلى هذا لكان من حق القصوى أن يقال: القصيا في جميع اللغات كما جاء في بعض اللغات القصيا أيضًا؛ لأنها عوملت معاملة الاسم كالدنيا، فكانت هي شاذة في ورودها بالواو، وفيها وجيه أيضًا في ورودها بالواو مع ذلك، وهو أن القصوى قد تستعمل مع الموصوف نحو قولك: الغاية القصوى، فكان فيها معنى الصفة باقية؛ فلذلك جاز بالواو، وحق هذا الكلام مقضي مع ما يناسبه ويواخيه في ((الموصل في شرح المفصل)). (وهم الربانيون في علم الكتاب والسنة). الرباني: مرد عالم وخداى شناس. منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للتأكيد كالحياني، والنوراني، والرقياني -بفتح الراء -والقياس فيه ربي، وأما كسرها وضمها فمن تغييرات النسب. وقيل في تفسيره: إنه يُعلم صغار العلم قبل كباره. (القدوة) بمعنى الاقتداء، كالأسوة بمعنى الائتساء وزنًا ومعنى. ثم معنى قوله: (وملازمة القدوة) أي أنهم يأخذون الأحكام من الكتاب أولًا ثم من الأحاديث، ثم من الإجماع، ثم من قول الصحابة، ثم يستعملون الرأي على ترتيب الفروع على الأصول، ولا يحطون رتبة النصوص عن منزلتها ولا يرفعونها عن منزلتها أيضًا.

(وهم أصحاب الحديث والرأي). يقال: رأي رأيا: بدل ديد، ورأي رؤيا: بخواب ديد، ورأي رؤية: بجشم ديد. (فقد سلّم لهم العلماء)، فرُوي أن الشافعي قال: الناس كلهم عيال على أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الفقه. وبلغ ابن سريج وكان مقدَّمًا

من أصحاب الشافعي -رحمه الله- أن رجلًا يقع في أبي حنيفة -رحمة الله عليه- فدعاه فقال: يا هذا، أتقع في رجل سلَّم له جميع الأمة ثلاثة أرباع العلم، وهو لا يسلَّم لهم الربع .... إلى آخره. كذا في ((المبسوط)). (المراسيل): جمع مُرسل وهو المطلق، ففي الحديث: هو الذي أطلق عن ذكر الإسناد؛ أي لم يُذكر فيه الراوي الأعلى الذي سمعه من النبي عليه السلام فالسنة أعم من الحديث؛ لأن السنة تتناول القول والفعل.

والحديث لا يتناول إلا القول، فجمع بينهما في قوله: (تمسكا بالسنة والحديث) لئلا يتوهم أنه من هذا العموم يريد الخصوص، فلذلك ذكر الخصوص بعد العموم. (وعمل بالفروع بتعطيل الأصول) أي عمل بالرأي وهو القياس مع تعطيل الأصول وهي المراسيل من السنة أصل والرأي فرع، ومن شرط صحة العمل بالفرع أن يكون مقَّرر للأصل لا معطلا له. (وقدموا رواية المجهول) المراد من المجهول هو المجهول في الرواية بأن لم يُعرف في رواية الحديث إلا بحديث أو حديثين. وذكر في ((شمائل النبي عليه السلام)): أن أبن أبي طارق لم يرو إلا حديثًا واحدًا. وكذلك حطان السدي. وذكر في الكتاب من جملتهم

معقل بن سنان. فكان معنى قوله: ((وقدموا رواية المجهول على القياس))، أي قدم أصحابنا رواية المجهول على القياس، حتى قدموا رواية معقل بن سنان في قدم أصحابنا رواية المجهول على القياس، حتى قدموا رواية معقل بن سنان في وجوب مهر المثل في مسألة المفوضة التي مات عنها زوجها قبل الدخول على القياس، وهي في حديث بروع بنت واشق الأشجعية على ما يأتي بيانه في باب خبر الواحد في السنة -إن شاء الله تعالى-. (وقدموا قول الصحابي) لاحتمال أنه من الرسول، وهو قول أبي سعيد البردعي -رحمه الله- وهو الأصح، وذلك مثل عمل أصحابنا في إفساد

شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن بقوله عائشة -رضي الله عنها- وهذا فيما لا يدرك بالقياس باتفاق بين أصحابنا. وأما فيما يدرك بالقياس فقد خالف الكرخي أبا سعيد فقال: لا يجب تقليد الصحابي إلا فيما لا يدرك بالقياس.

وقال الشافعي: لا يقلد أحد منهم. وقوله: (لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم الرأي إلا بالحديث). قال على -رضي الله عنه-: ((العلم نوعان: مسموع ومطبوع، ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوعا)). فمعنى قوله: ((لا يستقيم الحديث إلا بالرأي))، أي لا يستقيم العمل بالحديث إلا بمعنى فقهي، ونظير ذلك ما لو سُئل واحد: أن صبيين لو اجتمعا في شرب لبن شاة واحدة، هل يثبت بينهما حرمة الرضاع أم لا؟ فقال: نعم، نظرًا إلى ظاهر قوله -عليه السلام-: ((كل صبيين اجتمعا

على ثدي واحد حرم أحدهما على الآخر)). وهذا ليس بمذهب لأحد، وإنما وقع في هذا صاحب الحديث لعدم رأيه. وكذلك لا يستقيم الرأي بدون الحديث، فنظير ذلك ما لو سئُل واحد أن التقيؤ هل هو مفسد للصوم أم لا؟ فقال: لا. لما أن الشيء إنما ينتفي بوجود منافيه، والتقيؤ ليس بمناف للصوم؛ لأن الصوم: عبارة عن الكف عن الأكل والشرب والجماع مع شرائطه، ولم يوجد واحد من هذه الأشياء، فلم يفسد الصوم؛ وهذا لأن الأكل شغل الباطن، وهذا تفريغ الباطن، فكان هذا ملائمًا للصوم لا منافيًا، وهذا الرأي صحيح في نفسه إلا أنه خلاف النص، وهو قوله عليه السلام: ((من استقاء فعليه القضاء)). فعُلم أن العمل بالحديث لا يحسن بدون الرأي، ولا العمل بالرأي بدون معرفة الحديث. فإن قلت: ظاهر قوله: ((لا يستقيم الحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم

الرأي إلا بالحديث)) يقتضي الدور وهو ظاهر، وكل شيء كان مبناه على الدور فهو لا يوجد أصلًا؛ لتوقف وجود كل واحد منهما على وجود صاحبه، فحينئذ لا يوجد الحديث ولا الرأي، والكلام سيق لترغيب الطلبة إلى تحصيلهما جميعًا، وفي هذا الذي ذكره لا يوجد واحد منهما، فكيف يوجدان هما جميعًا؟! فما وجهه؟ قلت: وجهه هو أن المراد من هذا الكلام اجتمعهما كما في العلة ذات وصفين من القرابة والملك في العتق، فإن القرابة هناك لا تعمل بدون الملك ولا الملك بدون القرابة، فكان المراد منه اجتماعهما في حق العتق، فكذا هنا المراد منه في حق اجتهاد المجتهد اجتماع استقامة الحديث والرأي. لا أن كان كل واحد منهما موقوفا على وجود الآخر. أو نقول: هو أن فيه نفي استقامة كل واحد منهما بدون استقامة الآخر لا وجودهما، واستقامة الشيء عبارة عن العمل به على وجه الصواب، والعمل بكل واحد منهما مغاير للعمل بالآخر، فكان أصل وجود كل واحد منهما غير مفتقر إلى الآخر، فحينئذ لا يتنافيان في وجود استقامتهما، فإن معناه: لا يستقيم العمل بالحديث إلا بالعمل بالرأي على وجه الصواب، ولا يستقيم العمل بالرأي على وجه الصواب إلا بعلم الحديث، فلا منافاة في

هذا؛ لأنه يجوز أن يكون العلم بالحديث موجودًا واستقامة العمل بالحديث لم تكن موجودة. فعلم بهذا أن وجود علم الحديث نفسه كان صحيحًا بدون وجود الرأي؛ لما أن هذا يتعلق بذاك بغير الوجه الذي يتعلق ذاك بهذا، وفي مثل هذا لا يتأتى التنافي ولا الدور. ونظير هذا بعينه في صناعة النحو قوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا} فإن قوله: {أَيًّا} منصوب بـ {تَدْعُوا}، وقوله: {تَدْعُوا} مجزوم بـ {أَيًّا}. ومن حيث الظاهر ذاك أنفى من هذا؛ لأن في ذاك حال عمل هذا، في ذاك عمل ذاك في هذا، فكان هذا عاملًا فيه حال كونه معمولا له، فالعمالية تقتضي النقد، والمعملية تقتضي التأخر الشيء الواحد بالنسبة إلى غيره لا يكون متقدمًا عليه ومتأخرًا عنه في حالة واحدة، ولكن عمل هذا في ذاك غير عمل ذاك في هذا؛ فإن عمل هذا في ذاك باعتبار الشرطية، وعمل ذاك في هذا باعتبار المفعولة، والمفعولة غير الشرطية، فلا يتنافيان في الوجود، وإن كان اقتضاء التقدم والتأخر لكل واحد منهما موجبًا للتنافي، وهذا واضح بحمد الله تعالى. وكان شيخي- رحمه الله- يقول: وإن كان كل واحد منهما محتاجًا إلى الأخر، لكن الاكتفاء بالرأي أكثر صورًا من الاكتفاء بالحديث. ألا ترى أن الضلال الذين ضلوا بسبب الاكتفاء بالرأي من الفلاسفة

وغيرهم أكثر من الذين اكتفوا بمجرد ظاهر الحديث. (وملأ كتبه) أي محمد- رحمة الله- (ومن استراح) أي اكتفى وطلب راحة نفسه عن مشقة طلب المعاني (بظاهر الحديث)، فإن قولك: استراح الرجل من الراحة، وفي الصادر: الاستراحة: بر أسودن. (النكول): ازدشمن ياأز سوكند باز استأذن من حد نصر .. (لبيان النصوص بمعانيها) أي مع معانيها بأن يبين معنى الخاص والعام وغيرهما إلى الأقسام الثمانين. (وتعريف الأصول بفروعها) أي مع فروعها بأن يعرف أن معنى النص هذا أي الوصف المؤثر في هذا النص هذا، وهذا الوصف المؤثر موجود في ذلك الفرع، فيجب أن يثبت مثل ذلك الحكم في الفرع، كما تقول في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} أن المعنى المؤثر الذي هو مناط الحكم في النص خروج النجاسة من بدن الإنسان؛ لأن انتقاض الطهارة

المستفاد من هذا النص لم يخل إما أن كان متعلقًا بالخارج المخصوص أو بالمخرج المخصوص أو بهما جميعًا فلا جائز أن يكون متعلقًا بالخارج المخصوص وهو البول والغائط لانتقاض الطهارة بخروج الدم منه ولا جائز بالمخرج المخصوص للزوم انتقاض الطهارة أبدا، أو لعدم حصول الطهارة أبدا لوجود المنافي للطهارة، ولا جائز أن يتعلق الانتقاض بهما جميعًا لانتقاض طهارة من طعن تحت سرته وخرجت العذرة منه عند الخصم أيضًا مع انعدام مقاربة بين الخارج المخصوص والمخرج المخصوص. فعلم بهذا انتقاض الطهارة فيما إذا خرج البول أو الغائط من السبيلين لوجود خروج النجاسة من بدن الإنسان، وفي هذا لا يتفاوت ما إذا خرج الدم من غير السبيلين بسبب الفصد أو الحجامة أو غيرهما، وأما إذا خرج الدم من السبيلين فتنتفض الطهارة في القصد والحجامة كما تنتقض الطهارة فيما إذا خرجت النجاسة من السبيلين. (التوكل): إظهار العجز، والاعتماد على غيرك، والاسم التكلان. أناب إلى الله أقبل عليه بوجهه. كذا في الصحاح.

(والأصل الرابع هو القياس). والقياس أصل بالنسبة إلى الأحكام التي لا توجد في الكتاب والسنة والإجماع نصًا، ولكن مع ذلك إنه فرع لهذه الأصول الثلاثة؛ لأنه مستخرج عنها، وهذا لأن القياس لم يكن لإثبات الحكم ابتداء، بل القياس هو إبانة حكم أحد المذكورين بمثل علته في الأخر بالمعنى المستنبط، فالقياس يشمل العقلي والشرعي، فلذلك قيد بقوله: (بالمعنى المستنبط)، حتى يخرج القياس العقلي من البين؛ لأن الذي نحن يصدده القياس الشرعي. نظيره ما قلنا في الجص والنورة: فإنا استنبطنا المعنى الذي في الأشياء الستة هو القدر والجنس، ووجدناه فيهما فعدنياه إليهما، كما هو الحكم في العلة المنصوص، وهي الطواف في الهرة، لما وجدناه علة متعدية إلى غيرها. وهو سائر سواكن البيوت من الفارة والحية- عدنياه إلى غيرها، فأثبتنا فيه حكمًا مثل الحكم الذي في الهرة. وأما القياس العقلي فهو أن يقول: العالم متغير، وكل متغير حادث، فكان العالم حادثًا كما في سائر الحوادث المحسوس حدوثها من حدوث البناء

والحركة والسكون، ثم نظير المستنبط من الكتاب فقولنا: إن اللوظة حرام لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}. والمعنى فيه أنه مخالط للأذى أي النجاسة ومخالطة الأذى حرام لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}. وهذا المعنى موجود في اللواط؛ لأن المعنى الداعي إلى حرمة القربان في حالة الحيض مخالطة النجاسة، وهي موجودة في اللواط. وكذلك القول بوجوب العدة بثلاثة أقراء على الحرة ذات الإقراء في فرقة بغير طلاق، كما في خيار البلوغ وخيار العناق، مستنبط من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. للمعنى الجامع بين الفرقة الثابتة بالطلاق، وبين الفرقة الثابتة بغير الطلاق، وهو تعرف براءة الرحم في الفرقة الطارئة على النكاح بعد الدخول. ونظير المستنبط من السنة هو ما ذكرنا أنفًا من استنباط المعنى الذي في الأشياء الستة في مسألة الربا، ونظيره أيضًا قولنا: تجب الكفارة على المرأة في الجماع؛ لما أن الكفارة على الرجل إنما تجب باعتبار كون الجماع جناية على الصوم لا باعتبار نفس الجماع، وقد شاركت المرأة الرجل في هذا المعنى، ولهذا فسد صومها.

ونظير المستنبط من الإجماع هو ما ذكره في "المبسوط" في باب الحدث بقوله: "إن قدم القوم رجلًا- يعني فيما إذا أحدث الإمام- قبل خروج الإمام من المسجد فصلاته وصلاتهم تامة؛ لأن تقديم القوام إياه كاستخلاف الإمام الأول، قياسًا على الإمامة العظمى؛ فإن ثم استخلاف أبي بكر. رضي الله عنه- ثبت بالإجماع باستخلاف الناس لحاجاتهم إلى الإمام، فكذا هاهنا يصح استخلاف القوم لحاجتهم إلى الإمام في أتمام صلاتهم، وكذلك عدم جواز النكاح المؤقت بالقياس على نكاح المتعة.

(الدليل الأول: الكتاب) (المنقول عنه نقلًا متواترًا) هذا احتراز عن مثل قراءة عبد الله بن مسعود وأبي- رضي الله عنهما- مثل قوله تعالى: {فاقطعوا أيمانهما}

وغير ذلك مكتوب في مصحفهما، إلا أنه لم ينقل إلينا نقلًا متواترًا، فلذلك لم يثبت كونه قرآنًا، وقوله: (بلا شبهة) احترازًا عن قول بعض العلماء الذي جعل المشهور أحمد قسمي المتواتر، فتفسير المشهور والمتواتر بأتي في بابه إن شاء الله تعالى. (وهو الصحيح). قيل: لفظ الأصح يقتضي أن يكون غيره صحيحًا، ولفظ يقتضي أن يكون غيره غير صحيح.

= أ- أن أبا حنيفة- رحمه الله- لم يجعل النظم ركنًا لازمًا في حق جواز الصلاة خاصة؛ لأنه لا يريد بالنظم إلا الإعجاز بل اعتبر المعنى، وأن حالة الصلاة حالة المناجاة مع الله تعالى، والنظم العربي معجز بليغ، فلعله لا يقدر عليه، أو لأنه أن اشتغل بالعربي ينتقل الذهن منه إلى حسن البلاغة والبراعة ويلتذ بالأسجاع والفواصل، ولم يخلص الحضور مع الله تعالى، بل يكون هذا النظم حجابًا بينه وبين الله تعالى. ب- وأن بناء النظم على التوسعة والتيسير في الصلاة وغيرها. أما في الصلاة فلقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} إذا حمل على ظاهره. ج- وذكر بعض المراجع دليلًا آخر وهو: أن القرآن أنزل بلغه قريش؛ لأنها أفصح اللغات، فلما تعسرت قراءته بتلك اللغة نزل التخفيف بدعاء النبي عليه السلام، وإذن بتلاوته بسائر اللغات، وسقط وجوب رعاية تلك اللغة، واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق منهم أن يقرءوا بلغتهم ولغة غيرهم، فلما جاز للقرشي أن يترك لغة نفسه ويقرأ بلغه بني تميم مع كمال قدرته على لغة نفسه جاز لغير العربي ترك لغة العرب مع قصور قدرته عليها. انظر: كشف الأسرار للبخاري 1/ 74 - 77، كشف الأسرار للنسفي 1/ 20، نور الأنوار 1/ 20. لكن الترخص كان في اللهجات دون اللغات؛ لآن لغة قريش وبني تميم و ... لغة واحدة، واللهجات مختلفة، فالدليل الثالث ربما يكون في غير محله، وكذلك الدليل الأول والثاني؛ لأن أبا حنيفة- رحمه الله- نفسه رجع عن قوله إلى قول الصاحبين والجمهور كما ثبت ذلك عنه. حتى إن ابن العز شارح العقيدة الطحاوية قال: "قال الشيخ حافظ الدين ألنسفي- رحمه الله- في المنار: إن القرآن اسم للنظم والمعنى، وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة- رحمه الله:- أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزاه، فقد رجع عنه، وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية، وقالوا: لو قرأ بغير العربية إما أن يكون مجنونًا فيداوي، أو زنديقًا فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل ينظمه ومعناه، كما نقل الملا على القاري في شرح الفقه الأكبر نفس العبارة من ابن أبي العز. لكن راجعت المنار وبعض شروحه مثل: كشف الأسرار للنسفي، ونوار الأنوار لملا جيون، وجامع الأسرار لمحمد بن محمد أحمد الكاكي فلم أقف عليها. وهذا =

(في حق جواز الصلاة خاصة). قال الشيخ الإمام جمال الدين المحبوبي- رحمة الله- في "شرح الجامع الصغير" في باب تكبيرة الافتتاح: جواز الصلاة حكم يختص بقراءة القرآن، فيتعلق بالمنزل على رسول الله عليه السلام- وهو النظم والمعنى- قياسًا على قراءة القرآن في حق الجنب والحائض. يعني أن حرمة التلاوة تتعلق بالنظم والمعنى جميعًا حتى لو قرأ الحائض أو الجنب بالفارسية جاز. قال الإمام مولانا حميد الدين الضرير- رحمة الله: فبهذه الرواية تعرف فائدة تقييد قوله في الكتاب: "في حق جواز الصلاة خاصة"، وإن كان فيه رواية أخرى: أنها تحرم. ذكرها شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده.

رحمة الله. ولا يرد علينا وجوب سجدة التلاوة بالتلاوة بالفارسية؛ لأنها ملحقة بالصلاة. (ركنًا زائدًا يحتمل السقوط) أي في حق المكره الكامل إكراهه وفي حق من لم يجد وقتًا يتمكن فيه من الأداء وصدق بقلبه، وكان مختارًا في ذلك بأن لم يكن إيمانه إيمان البائس كان مؤمنًا بالإجماع. علم بهذا أنه كان يحتمل السقوط فكان زائدًا في الركنية. وأما من صدق بقلبه وترك البيان من عذر لم يكن مؤمنًا، وهو مذهب الفقهاء على ما يأتي ببيانه علم بهذا أنه ركن في أصله. وقوله: (على ما يعرف في موضعه) أي في هذا الكتاب في موضعين: أحدهما- في باب صفة الحسن للمأمور به. والثاني- في باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط. أو أراد بقوله: في موضعه أصول الكلام، فإن ذلك مستقصى فيه.

(وإنما تعرف أحكام الشرع) أي الأحكام التي ثبتت بالقرآن (بمعرفة أحكام النظم والمعنى)؛ لأن معرفتها بالكتاب وهو القرآن، والكتاب منقسم إلى هذه الأقسام في حق الأحكام؛ فلذلك كانت معرفة تلك الأحكام مرتبة على معرفة أقسام النظم والمعنى. (وذلك أربعة أقسام) فوجه الانحصار هو أن يقول: إن أقسام نظم الكلام ومعناه لا تخلو إما أن كانت بحسب المتكلم فلا تخلو إما أن تكون في المفرد أو في المركب، فإن كانت في المفرد فهي القسم الأول، وإن كانت في المركب فلا يخلو إما أن كانت للبيان أو لا، فإن كانت للبيان فلا يخلو إما أن كان كونها بيانًا لمعنى في ذاتها أو لمعنى في غيرها أقترن بها، فالأول القسم الثاني، والثاني القسم الثالث. وأما المركب الذي ليس هو للبيان فليس من بابنا، وإن كانت بحسب السامع فهو القسم الرابع، وبهذا الانحصار يعلم أيضًا أن أقسام النظم ثلاثة، وقسم المعنى واحد وهو الذي يتعلق بالسامع، وإنما ذكرنا هذا الانحصار دون غيره؛ لأن ما ذكرناه من الانحصار في هذا الموضع في "الوافي" غير متضح مثل اتضاح هذا. (فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع) إنما قيد بهذا؛ لأن فيه عبرًا، وقصصًا، وأمثالًا، وأخبار الأمم الماضية فيما لا يتعلق به حكم من أحكام الشرع من حيث المعنى ظاهرًا، فلم تكن هي فيما كان هو يصدده، ولذلك لم

يكن الكلام فيها. (القسم الأول- في وجوه النظم صيغة ولغة) إنما قدم هذا القسم؛ لأن ذلك من قسم المفردات، والمفردات أبدًا مقدمة على المركبات كمل في الحسيات، فإن الواحد قبل الأتنين في الوجود، فكذا في ترتيب البيان طلبًا للمناسبة بقدر الإمكان، ثم الصيغة فعلة من الصوغ: زكي كدرن بمعني المفعول، يعني كيف وضع اللفظ، ماض أو مستقبل، أو نهي، اسم أو فعل، فكانت الحروف الدالة عليه صيغة. وأما اللغة فهي ما يفهم من مدلول أصل هذا التركيب الذي هو موجود في جميع الصيغ كدلالة الضرب مثلًا على مدلول، وهو إيقاع آلة التأديب في محل قابل للتأديب، وذلك المدلول موجود في الألفاظ المشتقة من اللفظ الدال عليه من الماضي والمستقبل وغيرهما، كجوهر الذهب مثلًا في المصوغات المختلفة منه، فإن معنى الذهبية في الكل موجود مع اختلاف أسامي المصوغات المختلفة منه، فإن معنى الذهبية في الكل موجود مع اختلاف أسامي المصوغات منه كالسوار والخاتم والتاج والخلخال والإبريق، فكذلك ها هنا معنى اللغة موجود في الصيغ المختلفة الدالة عليه من الماضي والمستقبل وغيرهما أو نقول وهو الأرفق لمحل الكلام: المراد من قوله: صيغة ولغة، هو أن يقال هذه الصيغة تدل على معنى الخاص، وهذه الصيغة تدل

على معنى العام، وكذا في المشترك والمؤول، ثم أعقبه القسم (الثاني) الذي يتعلق بالبيان؛ لأنه من قبيل المركبات؛ لأن البيان يكون بالمركب لكن البيان يحتمل التزايد، وهذا لأن الظاهر يحتمل المجاز فيزاد البيان فيه على وجه لا يحتمله. كقوله: جاءني زيد. يحتمل مجئ خبره أو كتابه فيقطع ذلك الاحتمال بالزيادة في البيان في البيان بقوله: نفسه، وهذا الظاهر المؤكد بالنفس لو كان عامًا يحتمل أن يراد به الخصوص فيزاد في البيان بما يقطع ذلك الاحتمال وهو كلمة كل، ثم هو مع ذلك محتمل للبيان بزيادة الوضوح؛ لأنه يحتمل التفرق فيزداد في البيان بما يقطع هذا الاحتمال بالجميع، فلذلك قال (في وجوه البيان) بلفظ الجمع؛ لأن البيان له طرق. والقسم الثالث أربعة أوجه أيضًا: الحقيقة، والمجاز، والصريح، والكناية. يعني أن استعمال هذه الألفاظ في باب البيان إما أن أريد بها ما وضع له هذا اللفظ وهو الحقيقة، أو أريد بها غير ما وضع له هذا اللفظ لمناسبة بينهما وهو المجاز، أو استعمل اللفظ في باب البيان مع كثرة الاستعمال ووضوح البيان ظهورًا بينًا وهو الصريح حقيقة كان مجازًا، أو استعمل مع استتار معناه وهو الكناية حقيقة كان مجازًا. فالحاصل أن هذا القسم على وفق ما ذكرنا بأن القسم الثاني في نفس البيان. (والقسم الثالث- في كيفية استعمال الألفاظ) في باب البيان.

(والرابع- في معرفة وجوه الوقوف على المراد والمعنى) أي كيف يقف المجتهد على ثبوت الحكم بطريق العبارة أو الإشارة على حسب الوسع والإمكان. قال علي- رضي الله عنه: جميع العلم في القرآن، لكن تقاصر عنه إفهام الرجال. يعني ومن يأخذ منه ما هو المقصود عنده إنما يأخذه بقدر وسعه وإمكانه. وأما جميع العلوم الدينية فموجودة فيه، وعليه دل قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}، وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (وإنما تتحقق معرفة هذه الأقسام بأربعة أخرى في مقابلتها) وإنما ذكر المقابل لهذا القسم دون القسم الأول والثالث؛ لأن الأقسام في دينك القسمين بعضها يتضاد البعض؛ فإن الخصوص يتضاد العموم، والحقيقة تضاد المجاز، فلا يحتاج إلى بيان القسم المقابل ليتضح المراد زيادة إيضاح، بخلاف

أقسام القسم الثاني، فإن كلها للبيان والإظهار، ولا بضاد الإظهار بدليل أن الأقوى في البيان في تلك الأقسام يتضمن الأدنى فيه، فإن النص يتضمن الظاهر، والمفسر يتضمن النص، والمتضمن لا يكون مضادًا للمتضمن. (معرفة مواضعها) أي معناها من حيث اللغة (وترتيبها) أي ترتيب هذه الأقسام عند التعارض، أي أيها يقدم وأيها يؤخر نحو: المحكم فإنه يقدم على المفسر، والمفسر على النص، والنص على الظاهر. (ومعانيها) أي معانيها شرعًا، كما تقول في معنى الخاص والعام من حيث الحد والحقيقة شرعًا. الخاص: هو كل لفظ وضع لمعنى معلوم على الانفراد. والعام: هو كل لفظ ينتظم جمعًا من المسميات لفظًا أو معنى. (وأحكامها) أي الأحكام المطلوبة من هذه الأقسام من الحل والحرمة. (وأصل الشرع هو الكتاب والسنة) وإنما خصهما بالذكر ها هنا مع أنه

[تعريف الخاص]

قال: أصول الشرع ثلاثة؛ لأن هذه الأقسام كلها تأتي في الكتاب والسنة دون الإجماع، أو نقول: الإجماع يجوز أن يكون بناء عليهما ولا يجوز عكسه، فكانا أصلين من كل وجه بخلاف الإجماع؛ فلذلك خصهما بالذكر. [تعريف الخاص] (أما الخاص: فكل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد) هذا حد صحيح جامع مانع يدخل فيه خصوص الجنس والنوع والعين؛ لأن الإنسان معناه واحد على الانفراد، وكذلك الرجل، وكذلك العين. إلا أن خصوص العين واحد على وجه لا يشارك في مفهومه شيء ولا كذلك الإنسان والرجل، فإن في مفهومها شركة، فصار خصوص العين مغايرًا لهما مغايرة قوية، فأفرده بالذكر لا أنه غير داخل في الحد، والصحيح ما ذكرناه في

"الوافي"، والحد الجامع لأنواع الخصوص هو ما ذكره بعد هذا يقوله: (فصار الخصوص عبارة عما يوجب الانفراد ويقطع الشركة)، وقوله ها هنا: " ويقطع الشركة" وقوله فيما قبله: وانقطاع المشاركة" بعد قوله: "على الانفراد" تصريح بلازم ما ذكر قبله. لا أن يكون ذلك محتاجًا إليه في الحد؛ لما أن اللفظ لما كان موضوعًا لمعنى واحد على الانفراد يلزم منه انقطاع المشاركة لا محالة، ومع ذلك كان ذكره لتصريح لازمه المذكور قبله لا من تتمه الحد؛ لأنه غير محتاج إليه فيه.

[تعريف العام]

[تعريف العام] (ثم العام بعده) إنما قال بعده؛ لأن الخاص بمنزلة الجزء، والعام بمنزلة الكل، فيكون الجزء مقدمًا على الكل في الوجود، فكذا في الترتيب في الذكر، (ومعنى قولنا: من الأسماء يعني من المسميات)، وبهذا يحترز عن التسميات؛ لأن التسميات غير المسميات بالإجماع، وبقوله: (هنا) يحترز عن قولنا: إن لله تعالى أسماء الحسنى، فإن المراد منها التسميات لا المسميات، فإن الله تعالى غير متعدد، بل تسميته بالأسماء متعدد، وكذلك في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقوله: (وهو تفسير الانتظام) إنما ذكر هذا؛ لئلا يظن أنه من تتمة

الحد، ولا يستقيم ذكر كلمة "أو" في ذكر الحد؛ لأنها وضعت لتناول أحد المذكورين، فإن دخلت في الخبر أفضت إلى الشك، ومقام ذكر الحد مقام الخبر، والحد وضع لتعريف الماهية بدون الشك، فكان موضوع الحد على خلاف موضوع كلمة "أو" فلذلك لم يستقم ذكرها في موضع ذكر الحد. أو نقول: تستعمل هي لتقسيم الأفراد، والتقسيم أيضًا ضد التحديد على ما هو المعروف، فلا يليق ذكرها في موضع الحد. وقوله: (ونحوهما) كقوم، ورهط. (انتهت إلى صفة العمومة) يعني أن الأول الزوجية كما كان لأدم عليه السلام، ثم قرابة الأبوة والنبوة، ثم قرابة العمومة، ثم حل النكاح بعدها، فكانت القرابة المحرمة للنكاح منتهية إلى صفة العمومة. فإن قلت: في هذا سؤالان: أحدهما: لا نسلم أن العمومة منتهى القرابات، بل أولاد الأعمام أيضًا من الأقرباء، ولئن سلمنا أن المراد منه القرابة المقيدة بالحرمية لا نسلم تعين العمومة حينئذ لذلك، وهو السؤال

الثاني، فإن القرابة المقيدة بالحرمية كما تنتهي بالعمومية فكذلك تنتهي بالخؤولة، فلما تكن العمومية مستعينة في ذلك كيف قال: "انتهت إلى صفة العمومة"؟ قلت: المراد من قوله: "والقرابة إذا توسعت انتهت إلى صفة العمومة القرابة المحرمة للنكاح على ما ذكرنا، فلا يدخل حينئذ في هذا أولاد الأعمام. وأما ما ذكرته أن أولاد الأعمام من الأقرباء أيضًا، فقلنا: لا نسلم ذلك شرعًا بدليل أن من أوصى لأقاربه فهي للأقارب من ذي رحم محرم منه، ولا يدخل فيه غير المحرم- أي على قول أبي حنيفة- رحمة الله. فعلم بهذا أن القرابة مقيدة في الشرع بالمحرم من الأقارب. وأما اختيار العمومة دون الخؤولة في حق انتهاء القرابة مع أنهما مستويتان في المحرمية؛ فلكون العمومة من أنساب الآباء. والاعتبار في النسب لجانب الآباء لما عرف في تقدير مهر المثل أن المعتبر فيه جانب الآباء لذلك. (وهو كالشيء اسم عام)، ولا يقال: إن العام يتناول أفرادًا متفقة الحدود، وليس كل الأشياء متفقة الحدود بل فيها المتغايرات والمتضادات كالعرض، والجوهر، والحركة، والسكون، والحيوان، والجماد، فكان كل واحد منها مخالفًا للأخر حدًا وحقيقة، فكيف يكون اسم الشيء عامًا؟

لأنا نقول: إن كل الأشياء متفقة الحدود باعتبار قيام معنى الشيئية وهو الوجود في الجميع، فإن اسم الشيء يتناول الجوهر باعتبار الوجود لا باعتبار الجوهرية، فحينئذ كان متناولًا للعرض أيضًا؛ لأن العرض موجود، فكذلك سائر الأشياء موجودة، وإن كانت مختلفة في حقيقتها فيتناولها اسم الشيء على وجه العموم لاتحاد كلها في معنى الوجود، فكانت أفرادها متفقة الحدود؛ لأن معنى الوجود موجود في كل الأشياء، غير إن اسم الشيء كما يطلق على المخلوقات يطلق على ذات القديم لما عرف إلا أنه يطلق على المخلوقات بمعنى المشي، ويطلق على الله تعالى بمعنى الشائي؛ لأنه مصدر بصيغته، يقال شاء يشاء شياء ومشيئة، والمصدر يقع إطلاقه على اسم الفاعل، وعلى اسم المفعول. (وهذا سهو منه أو مؤول؛ لأن المعاني لا تتعدد)، وهذا التعليل تعليل

لقوله: "سهو" يعني أن المعاني لا تتعدد إلا عند اختلاف تلك المعاني كما في أفراد المشترك؛ وهذا لأن أفراد المعنى الواحد وإن كانت كثيرة لا تكون معاني، كالعلم مثلًا، فإنه معنى واحد هو كونه نافيًا للجهل، والظن، والشك عمن قام هو به، وهذا معنى واحد، وإن كان له أفراد من علم الكلام، والفقه، والنحو، وغيرها. فإن قيل: لفظ العرض يتناول الحركة، والسكون، والبياض، والسواد، وغير ذلك، وإنها معان، فعلى هذا يصح قوله: "أو المعاني"، قلنا: لفظ العرض لا يتناولها باعتبار كونها معاني، بل باعتبار معنى واحد، وهو معنى العرضية؛ لأن في الكل معنى العرض قائم. (وتأويله أن المعنى الواحد لما تعدد محالة سمى معاني مجازًا) باعتبار تعدد المحال، فكأنه أراد من المعاني محال المعاني بطريق المجاز، لما أن إطلاق اسم الحال على المحل جائز مجازًا، كما في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} أي خذوا ثيابكم، ففيه إطلاق اسم الحال على المحل؛ لأن محل الزينة الثوب كما جاز عكسه، وهو في قوله تعالى: {عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أي عند كل صلاة، والمسجد محل الصلاة (لكن كان ينبغي أن يقول: والمعاني)؛ لأن المعاني حينئذ كانت معاني تلك الأسماء التي قال: ما ينتظم جمعًا من الأسماء".

[تعريف المشترك]

ومعاني تلك الأسماء بحسب اختلاف المحل صارت كأنها جمع، ولكن لما لم تنفك تلك المعاني عن تلك الأسماء كان حقها أن يقال: والمعاني؛ لأن هذه المعاني ليست غير معاني تلك الأسماء، والواو للجمع، فلما لم تنفك معاني تلك الأسماء عن تلك الأسماء كان جمعًا بينهما، فكان حقها أن تذكر بالواو، وفي كلمة أو دلالة انفكاك المعاني عن أساميها، فلا يصح استعمال أو لذلك. (والصحيح أنه سهو)؛ لأن في التأويل تغيير كلمة "أو" على ما ذكرنا. [تعريف المشترك] (وأما المشترك) أي المشترك فيه، وهو أن يشترك مثلًا لفظ الشمس، ولفظ الينبوع، ولفظ الذهب في لفظ العين، فكانت هذه الألفاظ مشتركة ولفظ العين مشتركًا فيه، ثم اشتراك الأسامي في العين هو أن يقال: إن العين

إن كانت موضوعة لأسم الشمس ولأسم الينبوع ولأسم الذهب كان نظير اشتراك الأسامي، وإن كانت موضوعة لمعاني هذه الأسامي كان ذلك نظير اشتراك المعاني، هذا قول قيل به. وأما الأوجه والأولى فهو أن يقال: المراد من اشتراك المعاني هو اشتراك الصفات والأفعال، مثل البائن حيث يشترك فيه البينونة والبيان والبين، وقد صرح به الإمام الأرسابندي- رحمه الله- في"مختصر التقويم". أو نقول: إن قوله: أنت بائن. يحتمل الصفات المختلفة، فإن كل واحد منها معنى من المعاني، وهي، البينونة من النكاح، والخيرات، والسرور، والأفعال الحميدة، والأفعال الذميمة، وغير ذلك، وكذلك النهل اشترك فيه الري والعطش، فكان فيه اشتراك المعاني، وإنما قلنا هذا أولى مما ذكر أولًا استدلالًا بتصريح الإمام الأرسابندي بهذا، وإشارة الإمام السر خسي. رحمهما الله. إليه، ولأن الاشتراك في الوجه الأول كان اشتراكًا في الأسامي لا غير، وذلك لأن لفظ الشمس مع معناها الذي هو لفظ: أفتاب ولفظ: كن بمنزلة الأسماء المترادفة. فقلنا: بأن هذا الذي ذكرناه ثانيًا أولى ليبقى اسم المعنى على حقيقته؛ لأن اسم المعنى إنما يطلق على الاسم الذي ليس لمسماه جثة وهذا كذلك، فكان هذا أولى.

وقوله: (والقرء من الأسماء) إنما قال: من الأسماء؛ احترازًا عن القرء الذي هو مصدر؛ لأن ذلك ليس بمشترك، بل هو موضوع للجمع، وكذلك الفعل المشتق منه ليس بمشترك، يقال: ما قرأت الناقة سلا قرء قط. أي لم تجمع في رحمها ولدًا جمعًا، وقال الشاعر: هجان اللون لم تقرأ جنينًا أي لم تجمع جنينًا، والهجان من الإبل: البيض، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع، يقال: بعير هجان، وناقة هجان. (ولا عموم لهذا اللفظ) أب للفظ المشترك قيل هذا في موضع الإثبات.

........................................

كما في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وأما في موضع النفي فله عموم، كما في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} فالنهي واقع على العقد والوطء ولفظ النكاح مشترك بينهما، وكذلك لو حلف لا يكلم مولى فلان. يقع على ناصر فلان، ومعتقه، ومعتقه، وابن عمه. وقيل: ذلك لا عموم في النفي أيضًا، بل لعدم رجحان أحدهما على الأخر. وأما في موضع الإثبات فلا كلام فيه أنه لا عموم له؛ لأن اللفظ بمنزلة الكسوة والمعنى بمنزلة المكتسي، ولا يمكن أن يكتسي الشخصان كسوة واحدة في زمان واحد. أو نقول: اللفظ بمنزلة القالب، والمعنى بمنزلة اللبن فيه، ولا يمكن يضرب أللبنان بملبن واحد. أو نقول: اللفظ بمنزلة الراكب، والمعنى بمنزلة المركب، ولهذا يقال:

الأسماء المترادفة، وهي تنبئ عن أن يكون اللفظ راكبًا؛ لأن الرديف ما يردف الراكب والشخص الواحد لا يركب من مركبين دفعه واحده، فكذلك ها هنا لا يجوز أن يراد بلفظ واحد معنيان مختلفان بدفعة واحدة، بخلاف العام؛ لأن كل أفراد العام بمنزلة مكتس واحد، ولبنة واحدة، ومركب واحد، فكان اللفظ واحدًا والمعنى واحدًا فيجوز. قوله: (يرجحان بعض وجوهه) ما قلنا في قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} يرجح بعض وجوهه وهو الحيض بالتأمل في لفظه؛ لأن القرء في الأصل هو الجمع، وذلك إنما يتأتى حقيقة في الدم؛ لأنه هو المجتمع في الرحم، وباقي لتقرير ينظر في "الوافي".

وقوله: (أما المجمل) فذكر المجمل ها هنا وقع اتفاقًا لا قصدًا، بل وقع ذلك لإتمام بيان المشترك. ألا ترى أن يذكر تفسير المجمل بعد هذا أيضًا (فما لا يدرك لغة المعنى زائد ثبت شرعًا) كالصلاة والزكاة والربا وغير ذلك، فإنه زيد على المعاني اللغوية في هذه الألفاظ في الشرع شيء أخر، فإن الصلاة لغة: عبارة عن الدعاء، والزكاة: عن الطهارة، والربا: عن الزيادة، ثم نفس الدعاء والطهارة والزيادة غير مراده ها هنا، بل المراد منها هذه المعاني مع شيء أخر زيد عليها شرعًا لا يدرك ذلك الشيء لغة. ألا ترى أن الربا في اللغة: عبارة عن الزيادة، ونفس الزيادة غير مراده بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فإن البيع ما وضع إلا للاستثمار وزيادة المال، علم أن المراد منه الزيادة المكيفة، وذلك لا يدرك لغة. (أو لانسداد باب الترجيح لغة) مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ

[تعريف المؤول]

حَصَادِهِ} فإن الحق مجمل لا يدري أنه خمس أو عشر أو غير ذلك، وكذلك إذا أوصى رجل بثلث ماله لمواليه وله معتقون ومعتقون وأبناء العم وأنصار، فإنه مجمل يرجع فيه إلى بيانه، فإن مات بطلت الوصية؛ لفوات البيان وإنما كان كذلك؛ لأنه ليس فيه دلالة على أن المراد من هو؟ فإن في كل واحد منهم معنى يقتضى أن تكون الوصية له، ففي المعتقين إنعامهم عليه، وهو يقتضي أن تكون لهم جزاء لإنعامهم، وفي المعتقين إنعامه عليهم وهو يقتضي أن تكون الوصية لهم إتمامًا لذلك الإنعام؛ لقوله عليه السلام: "من أتى بالمبرة فليتمم". وفي أبناء العم صلة قرابتهم، وفي الناصرين جزاء نصرتهم، فهذا شيء لا يدرك بالعقل واللغة أن يكون المراد ما هو. [تعريف المؤول] (وأما المؤول) فهو مفعول فعل المؤول. دخل المؤول في أقسام النظم، وإن كان تبين المراد منه بالاجتهاد؛ لأن المجتهد يبين باجتهاده أن المراد من هذا النص هذا، ثم بعد ذلك أضيف الحكم إلى النص، فسار كأن النص ورد في هذا مع الاحتمال، والحكم جاز أن يثبت بنص فيه ضرب احتمال كالنصوص المحتملة للمجاز، ونص العام الذي خص منه البعض.

(فما ترجح من المشترك) وكذلك لو ترجح (بعض الوجوه) الخفي والمشكل (بغالب الرأي) يسمي مؤولًا والذي وقع تقيده من المشترك إنما وقع لسبق ذكر المشترك، لا لأن ذلك القيد لازم في تفسير المؤول، وقوله: " بغالب الرأي" قيد به؛ لأنه لو ترجح بعض وجوه المشترك وما في معناه بدليل قطعي كان مفسرًا لا مؤولًا على ما ذكر بعد هذا في الكتاب بقوله: (وليس هذا كالمجمل إذا عرفت بعض وجوهه ببيان المجمل، فإنه يسمى مفسرًا؛ لأنه عرف بدليل قاطع)، وليس هذا حكمًا مختصًا بالمجمل، بل كل مشتبه أمره إذا عرف بعض وجوهه بدليل قاطع يسمى مفسرًا. وقيل السفر: كشف الظاهر، ومنه المسفرة، وهي المكنسة؛ لأنها تكشف ظاهر البيت، والمفسر: كشف الباطن، ومنه التفسرة، وهي الدليل

الذي يعرض على الطبيب؛ لأنها تحكي عما في الباطن، (فيكون هذا اللفظ مقلوبًا من التفسير)، ومثل هذا الكلام جائز، يقال: جذب وحبذ هذا على اختيار الفقهاء. وأما صاحب "الكشاف" فإنه لا يجوز أن يكون أحدهما مقلوب الأخر؛ لاستوائهما في التصرف، وإذا استويا كان كل واحد منهما بناء على حياله، فكان كل واحد منهما أصلًا برأسه. ذكره في تفسير قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ}. ومن هذا الجنس ما ذكره في كتاب "أدب الكتاب": قولهم: اضمحل، وامضحل. أي ذهب. ثنت اللحم ونثت بتأخير النون وتقديمه أي أنتن. وكذلك الصاعقة، والقاصعة، وغرسه،

ورغسة وأبنضت القوس، أنبضتها إذا أنت جذبت وترها، ثم أرسلته فصوت، وما أطيبه، وما أيطبه. (وهذا معنى قول النبي- عليه السلام:- "من فسر القرآن برأيه") يعني قال النبي- عليه السلام-: "من فسر القرآن برأيه". ولم يقل: من أول القرآن، برأيه، فإن المؤول غير مستحق لهذا الوعيد، بل المفسر برأيه هو مستحق لهذا الوعيد، يعني لما علمت أن المفسر هو مكشوف المعنى بلا شبهة، كان المفسر هو الذي يقول في كلام الله بأن مرد الله تعالى من هذه الآية هذا لا غير، فإن ذلك مكشوف بلا شبهة قاله ذلك برأيه، ومن قال ذلك في الآيات المؤولة برأيه كان جاعلًا نفسه بمنزلة صاحب الوحي في العلم بمراد الله تعالى برأيه وهو كفر، فلذلك "يتبوأ مقعدة من النار"؛ لأن النار معدة للكافرين. لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} التبرؤ: جاي كرفتن. وقوله: {فليتبوأ مقعده من النار} أي فمقعده النار، فكان هذا أمرًا في معنى الخبر، بخلاف قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} فإن ذلك خبر في معنى الأمر، أي ليتربصن.

(وفي هذا إبطال قول المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب)، فإن عندهم لما كان كل مجتهد مصيبًا لم يتصور الخطأ في الاجتهاد، فحينئذٍ من فسر القرآن برأيه أيضًا كان مصيبًا، والمصيب في اجتهاده لا يستحق الوعيد، وقد أوعد النبي عليه السلام على المفسر بالاجتهاد برأيه. علم أن المجتهد يكون مخطئًا، فكان فيه إبطال لقولهم: إن كل مجتهد مصيب. وإنما وقعوا في هذا لقولهم بوجوب الأصلح على الله تعالى على ما ذكره المصنف- رحمه الله- في باب معرفة أحوال المجتهدين من هذا الكتاب.

[تعريف الظاهر والنص]

[تعريف الظاهر والنص] {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حل لكم {مِنَ النِّسَاءِ} وإنما قيد بهذا؛ لأن من النساء ما حرم نكاحهن كاللاتي في آية التحريم، وأريد بالطيب الحل؛ لأن الطيب هو المطلق شرعًا والمستلذ طبعًا، وهذا التأويل أولى من قولهم: أي ما أدركت من النساء؛ إذ لا فائدة في القيد بالإدراك لجواز نكاح الصغائر. (ويسمى مجلس العروس منصة) - بفتح الميم- قال في المغرب: يقال: الماشطة تنص العروس- أي ترفعها- فتقعدها على المنصة- بفتح الميم- وهي كرسيها؛ لترى من بين النساء.

(لأنه سيق الكلام للعدد)؛ لأنه جعل العدد أصلًا وغير العدد كالخلف منه حيث قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} بعد ما ابتدأ بقوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ولأن نفس جواز النكاح كانت معلومة قبل نزول هذه الآية بفعل النبي عليه السلام وبآيات أخر توجب جواز النكاح، ثم إن أحتمل تقدم هذه الآية على تلك الآيات فلا تحتمل تقدمها على فعل النبي عليه السلام، فإن نكاح خديجة رضي الله عنها- كان قبل البعثة وقرر عليه، فكان هو بمنزلة النص الصريح في حق البيان بأنه جائز، فلم يكن جواز العدد مبينًا بغير هذه الآية، وفعله بتزوج التسع كان

هو مخصوصًا به، فلم يصلح فعله بيانًا للعدد في النكاح في حق الأمة، فتعين كون نزول هذه الآية لبيان العدد، فكان نصًا في حق بيان العدد بهذا الطريق لا محالة، وكانت الحاجة ماسة إلى علمه. (نص للفص بين البيع والربا؛ لأنه سيق الكلام لأجله). بدليل سباق الآية وسياقها فقال في سباق الأيه: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ}؛ لأنه بين الوعيد بما فعلوا وبما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فرد الله تعالى تسويتهم البيع بالربا حيث بين التفرقة بينهما بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فأني يتساويان. يعني أن الحرمة مع الحل ضدان، والتسوية بين الضدين في الحكم مستحيلة. وأما سياق الآية فقوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي يذهب ببركة

الربا فكان الربا مذمومًا بكل حال لحرمته، ثم إن الكفرة القائلين بتسوية البيع مع الربا في الحل جعلوا الربا بمنزلة الأصل في الحل، والبيع بمنزلة التبع في الحل حيث جعلوا الربا المقياس عليه في الحل والبيع بمنزلة المقياس فيه، فكان الربا في الحل أبلغ من البيع في اعتقادهم حيث قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ولم يقولوا: إنما الربا مثل البيع، وكان هذا منهم غاية العناد والمكابرة، فإنهم يعلمون حرمة الربا في الأديان الماضية، ومع ذلك قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} مبالغين في حل الربا بالنسبة إلى حل البيع، فكان ذلك منهم معاندة، وإنما قلنا: إنهم كانوا يعلمون حرمة الربا؛ لأن حرمته كانت مشهورة في الأديان الماضية بدليل قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} وكان شيخي- رحمه الله- يقول: في هذه الآية دليل على أن القياس حجة؛ لأن الله تعالى رد عليهم وجود شرط صحة قياسهم، وهو المماثلة، ولم يرد قياسهم، فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يعني فأنى يتساويا، فقد نفي المساواة التي هي شرط صحة القياس، ولم يقل: قالوا إنما البيع مثل الربا فقد قاسوا، والقياس ليس بحجة.

[تعريف المفسر]

[تعريف المفسر] (سواء كان بمعنى في النص) أي سواء كان ورود ازدياد الوضوح بسبب المعنى الخفي الذي كان في النص بأن كان لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا لكن المعنى خفي لكون اللفظ غريبًا كالهلوع. (أو بغيره) أي كان ورود ازدياد الوضوح بسبب الاحتمال الذي هو في غير النص، وهو إرادة المتكلم من العموم الخصوص يعني أن صيغة العموم موضوعة لإرادة العموم، ومع ذلك يجوز له أن يريد منها الخصوص، فكان إرادة المتكلم من صيغة العموم الخصوص معنى في غير النص؛ إذ النص موضوع للعموم، فكان قوله: (بأن كان مجملًا) نظير الأول، وهو قوله: بمعنى في النص. وقوله: (أو كان عامًا) نظير الثاني، وهو قوله: أو بغيره. والباء في قوله: "بمعنى في النص"، وفي قوله: "أو بغيره" للسببية، فنظير الأول قوله تعالى:

المحكم

{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} هذا مجمل، فجاء البيان بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جذوعا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}. ونظير الثاني قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} على ما ذكر في الكتاب. وذكر في التأويلات" قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} إلى قوله: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} تفسير قوله: {فَمَنْ اضْطُرَّ} يعني أن المضطر: هو الذي يكون غير باغ ولا عاد في أكله.

[الخفي]

وكذلك قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} فكان قوله: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} تفسير لقوله: {مُحْصِنِينَ}. فقوله: بأن كان مجملًا فلحقه بيان قاطع، فانسد به باب التأويل. فإن قيل: كيف يستقيم هذا والمجمل غير قابل للتأويل، بل الطريق فيه الرجوع إلى المجمل بالاستفسار على ما يجئ بعد هذا؟ قلنا: المراد من التأويل هنا الاحتمالات الوهمية في الذهن بسبب ازدحام المعاني، كما لو قال رجل مثلًا: لفلان على شيء. هذا مجمل يرد فيه على السامع احتمالات وهمية بأن يفسره بدرهم أو بدرهمين أو بغير ذلك، فانقطعت تلك الاحتمالات بقوله: ذلك عشرة دراهم مثلًا أو غير ذلك. [الخفي] (لكل ما اشتبه معناه) أي معنى ذلك اللفظ كما في السرقة، فإن

معناها لغة اشتبه في حق النباش والطرار، أهي موجودة في حقهما أم لا؟ وحكم هذا النظر فيه. ليعلم أن اختفاءه- أي اختفاء معنى ذلك اللفظ في حق الطرار والنباش- لمزي أو نقصان؟ أي لزيادة على معنى النص أو نقصان منه، فيظهر المراد. بيان هذا النص أوجب القطع على السارق، ثم اجتاح السامع إلى معرفة حكم النباش والطرار؛ لأنهما اختصا بأسم أخر غير اسم السارق. إذ تغير الاسم دليل على تغير المعنى، فخفي لذلك مراد المتكلم على السامع وهو وجوب القطع عليهما بعارض غير الصيغة، وهو اختصاصهما بأسم النباش والطرار، فنظرنا في معناهما فوجدنا معنى السرقة موجودًا في الطرار على الكمال وزيادة؛ لأن الطر: اسم لقطع الشيء عن اليقظان بضرب غفلة تعتريه، وهذه السارقة في غير الكمال، فكانت داخلة تحت قوله تعالى:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ونظرنا في معنى النباش، فوجدنا معنى السرقة فيه قاصرًا؛ لأن اسم السرقة يدل على كون المأخوذ خطيرًا؛ لأن السرقة قطعة من الحرير، والنبش يدل على هوان المنبوش؛ لأن النبش بحث التراب من نبشت البقل والميت، فكان معنى السرقة فيه قاصرًا، فلم يدخل تحت قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}

[المشكل]

[المشكل] (لا ينال بالطلب) أي بالطلب وحده (وهذا الغموض في المعنى) مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فصار هذا مشكلًا في حق داخل الفم والأنف، فهما دخلا في أشكالهما، وهي ظاهر البشرة وباطنها،

والتطهر غسل جميع البدن، فما كان ظاهر البدن داخل فيه، وما كان باطنه غير داخل فيه، فوجدنا باطنهما مشابهًا بالباطن من وجه ومشابهًا بالظاهر من وجه؛ لأنه إذا فتح فاه كان ظاهرًا، وإذا ضم شفتيه كان باطنًا، وكذا في حق الحكم، فإن الصائم إذا ابتلع بزاقه لا يفسد صومه، وكذلك إذا أخذ الماء بفيه ثم مجه لا يفسد صومه، وكذلك إذا أخذ الماء بفيه ثم مجه لا يفسد صومه أيضًا، فلما كان كذلك ألحقناهما بالظاهر في حق الجناية؛ لأن قوله: {فَاطَّهَّرُوا} للمبالغة، فكان مقتضاه غسل ما يمكن تطهيره، وداخلهما مما يمكن تطهيره فيدخل، وألحقناهما بالباطن في حق الحدث؛ لأن مطلق المواجهة لا يتناول باطنهما، فكان فيما قنا عمل بالشبهين بقدر الإمكان. وكذلك قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شيءتُمْ} فكلمة "أني" تجئ بمعنى كيف، كما في قوله تعالى: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} وتجئ بمعنى من أين، كما في قوله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} فلو نظرنا إلى المعنى الأول لا يحل دبر المرأة المنكوحة، فكان هو بيان الصفة في حق أحوال المرأة من الاستلقاء والاضطجاع، ولو نظرنا إلى المعنى الثاني يحل؛ لأنه يعم المواضع، فتأملنا، وقلنا: إنها بمعنى كيف، فيحرم الدبر لقرآن قوله: {فَاتُوا حَرْثَكُمْ} لأن موضع حرث الولد هو القبل لا

غير وكذلك قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فإن فيه خفاء؛ لأن ألف شهر من السنين، وفي كل سنة ليلة القدر، فكان فيه تفضيل الشيء على نفسه في حق الجزء. قلنا: معناه أنها خير من ألف شهر لم يكن فيه ليلة القدر. أو لاستعارة بديعة، مثل قوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} فالقارورة من الزجاج تكون لا من الفضة، فتأملنا فقلنا: إن تلك الأواني لا تكون من الزجاج، ولا بد من الفضة، بل لتلك الأواني حظ منهما، فإن للزجاج صفاء ليس هو للفضة وهو أن يجلي عما في باطنه، والفضة لها بياض ليس هو للزجاج، فكان لتلك الأواني صفاء الزجاج وبياض الفضة، وهما الصفتان الحميدتان لهما، فانتهت عنها الصفات الذميمة التي لهما. وكذلك قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ} حيث يستفاد شدة العذاب من الإذاقة؛ إذ الشيء المر يعلم مرارته عند الذوق أكثر مما يعلم عند استمرار الشرب، ويستفاد اشتمال العذاب من اللباس، فكان قال: عذبها الله بعذاب هو مؤلم شامل.

[المجمل]

[المجمل] (ثم الطلب ثم التأمل) هذا الذي ذكره في بعض المجملات بأن لم يكن بيان المجمل شاملًا لكل أنواع المجمل، كما في مسألة الربا والصلاة والزكاة. وأما إذا كان البيان من المجمل على وجه لم تبق فيه شبهة لم يكن فيه الطلب والتأمل، كما إذا قال رجل: لفلان على شيء ثم بين ذلك الشيء بقوله: وهو درهم، أو درهمان. لم يبق فيه الطلب والتأمل أو نظير ما ذكر في الكتاب. قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فإنه ورد البيان في الأشياء السته، وهو غير مكشوف كشفًا بلا شبهة بالنسبة إلى أفراد الربا، فصار بمنزلة المشكل بعد هذا البيان، وحكم المشكل: الطلب، ثم التأمل، فيطلب المعنى الذي

تثبت به الحرمة، ثم يتأمل فيه في أنه صالح لإضافة الحكم إليه لسلامته مما يمنعه، وذلك المعنى إنما هو القدر والجنس عند البعض والاقتيات والادخار عند البعض، وقد عرف في موضعه. (وكذلك الصلاة) لما ورد البيان بفعل رسول الله- عليه السلام- يطلب المعنى الذي جعلت الصلاة لأجله صلاة أهو التواضع والخشوع، أم الأركان المعهودة؟ ثم يتأمل أنه هل يتعدى هذا إلى صلاة جنازة فيمن حلف لا يصلي؟ وعلى هذا أيضًا وقع الاختلاف في أن تعديل الأركان فرض أم لا؟ وكذلك في الزكاة ورد البيان بقوله- عليه السلام- "ليس عليك شيء في الذهب الحديث" ثم يطلب المعنى الذي وجب الزكاة لأجله؛ أهو ملك نصاب كامل فارغ عن الدين أم مشغول به؟ ثم يتأمل فيه في أنه: هل هو صالح لإضافة الحكم إليه؟ وفي وجوب الزكاة في الإبل والبقر: أيشترط الإسامة أم لا؟ وكذلك في العشر لما ورد البيان بقوله- عليه السلام-: "أما سقته السماء فقيه العشر" الحديث. يطلب المعنى الذي يجب به العشر: أيتعلق بمجرد الخارج أم بوصف أخر معه؟ وهو أن يبلغ

[المتشابه]

النصاب ويبقى من غير تكلف، ثم يتأمل فيه في أنه: هل هو صالح لإضافة الحكم إليه؟ (وهو مأخوذ من الجملة) أي من الجملة التي بمعنى الشمول والإبهام، يقال: أجمل أي أبهم. [المتشابه] (سمي متشابهًا) قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-: سمي متشابهًا عند بعضهم؛ لاشتباه الصيغة وتعارض المعاني فيها، وهذا غير صحيح، فالحروف المقطعة في أوائل السور من المتشابهات عند أهل التفسير، وليس فيها هذا المعنى، ولكن المتشابهة: ما يشبه لفظه ما يجوز أن

يوقف على المراد فيه. وهو بخلاف ذلك لانقطاع احتمال معرفة المراد فيه، وأنه ليس له موجب سوى اعتقاد الحقية فيه والتسليم، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} وقول شمس الأئمة: "ما يشبه لفظه ما يجوز أن يوقف على المراد فيه وهو بخلاف ذلك" نظير ذلك قوله تعالى: {يَدِ اللَّهِ} فبالنظر إلى اليد يعلم أن المراد منها الجارحة، ثم هذا الموضع لا يحتمل ذلك، فكان على خلاف المراد الذي يعلم من ظاهر الكلام؛ لأن الله تعالى منزه عن الجارحة، فتشابه موجب السمع وموجب العقل. (بخلاف المجمل فإن طريق دركه متوهم)؛ لأن ذلك مرجو البيان لما أن عامة المجملات إنما وردت في العمليات كما في الربا وغيره، فكان البيان فيه مرجوًا. (وطريق درك الشكل قائم) فإن المجتهد يدرك حكم المشكل الذي عنده باجتهاده. (وأما المتشابه فلا طريق لدركه إلا التسليم) هذا في حق الأمة، وأما

في حق النبي (صلى الله عليه وسلم) فإنه يعلم معنى المتشابهة بإعلان الله تعال. كذا ذكره المصنف- رحمه الله- في هذا الكتاب في باب تقسيم السنة في حق النبي عليه السلام. (فيقتضي اعتقاده الحقية قبل الإصابة) أي قبل يوم القيامة، وإنما قال هذا؛ لأن المتشابهات تنكشف يوم القيامة. (وعندنا لاحظ للراسخين) أي وعندي وهو مذهب السلف، فإن المصنف- رحمه الله- اختار مذهب السلف، فإنهم لم يشتغلوا بتأويل المتشابهة، بل قالوا: نؤمن بتنزيله، ولا نشتغل بتأويله، ونفوض أمره إلى الله، ونقول: ما أراد الله به فهو حق. وأما مذهب الخلف فالاشتغال بالتأويل على وجه يوافق التوحيد، وإنما اشتغلوا بتأويله ردًا لتأويل الخصوم، فإن الخصوم استدلوا بالمتشابهات لإثبات مذاهبهم الباطلة، فوقع الخلف في تأويل المتشابهة لضرورة دفع تمسك الخصوم به، وإلا كان من حق المتشابه أن لا يتمسك به. ألا ترى أن الله تعالى كيف ذم المتبعين للمتشابه بقوله: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}

(وأن الوقف على قوله: {إِلاَّ اللَّهُ} واجب) فكان قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ابتداء كلام، والوافي {وَالرَّاسِخُونَ} لحسن نظم الكلام لا للعطف الذي يوجب الشركة بما قبله. والدليل على هذا ما ذكره الإمام الأندرابي- رحمه الله- في "الإيضاح في علم القراءة" بقوله: والوقف فيه واجب، وهو قول أكثر أهل العلم. ثم

قال: ويقوي هذا المذهب أنه في حرف عبد الله رضي الله عنه: {إن تأويله إلا عند الله الراسخون في العلم}. وفي حرف أبي- رضي الله عنه:- {ويقول الراسخون في العلم أمنًا به}. (وأهل الإيمان على طبقتين) جواب إشكال يرد على إنزال المتشابه بأن يقال: إنزال الكتاب إنما هو للتدبير والتذكر في آياته؛ لقواه تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}. ولن يكون ذلك إلا بعد الوقوف على معناه، ولو لم يوقف على معنى المتشابه أصلًا لم يبق لإنزال المتشابه فائدة. فقال في جوابه: إن أهل الإيمان على طبقتين، فمنهم من هو موصوف بنوع من الجهل فابتلى بالإمعان في الطلب أي بالتباعد في طلب العلم والمبالغة فيه؛ لكي ينكشف له ما هو مستور عليه قبل مبالغته في طلب الكشف، ومنهم من هو موصوف بذكاء من الطبع، ومكرم بفهم دراك، فيدرك ما سمعه.

(فأنزل المتشابه تحقيقًا للابتلاء) في حقه فكان ابتلاؤه في التوقف عن الطلب. (وهذا أعظم الوجهين بلوى) يعني أن الابتلاء في الوقف عن الطلب أعظم من ابتلاء في الطلب بالمبالغة في السير؛ لأن الابتلاء في الوقف أن يسلم ذلك إلى الله تعالى ويفوضه إليه، فكان هذا أقوى من الابتلاء بالطلب؛ لأن هذا ينشأ من العبودة، والابتلاء بالإمعان في السير ينشأ من العبادة، والعبودة أقوى من العبادة؛ لأن العبودة الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى له الرب من العبادات، فالأول أشق فكان أفضل؛ وهذا لأن العبودة أن لا يرى العبد متصرفًا في الحقيقة إلا الله، فيفوض أمره إليه في كل حال أفقره، أو أغناه، أبهجه، أو أشجاه أسمنه، أو أضناه ألبسه، أو أعراه، أمانه، أو أحياه. ضره، أو نفعه، جوعه، أو أشبعه. فإن المتصرف في الحقيقة هو الله تعالى، فإنه خالق كل شيء، فيجب على العبد التسليم في كل حال؛

ولأن العبادة قد تسقط، والعبودة لا تسقط في الدارين. أو نقول: إن هذه الدار دار ابتلاء. قال الله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} والابتلاء من الله إظهار ما علم من المكلف، والبليات أنواع بعضها فوق بعض، وأهل الإيمان كذلك، قال النبي- عليه السلام-:- "إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل" فلما كان المكرم بالعلم والاجتهاد أفضل ممن كان مبتلي بالجهل كان ابتلاؤه أعظم أيضًا. أو نقول: إن في هذا الابتلاء ابتلاء للقلب خاصة، والقلب رئيس الأعضاء، فكان عمله أيضًا رئيس الأعمال؛ لأن تفاصيل الأعمال بحسب تفاضل العاملين. والدليل على أن عمل القلب أعظم من عمل الجوارح أنه لو ترك عمل القلب فيما يجب الاعتقاد فيه يكفر، ولو ترك العمل فيما يجب فيه العمل بالجوارح لا يكفر، علم بهذا أن عمل القلب أعظم من عمل الجوارح. أو نقول: في المتشابه نهي للمكلف عن الطلب، وحجر عنه بطريق

الابتلاء، وفي حق من يطالب بالإمعان في السير في حق الطلب أمر بالإمعان فيه بطريق الابتلاء، والابتلاء بالنهي أشد من الابتلاء بالأمر، فكان ثواب الانتهاء أكثر من ثواب الائتمار، فكان الانتهاء أولى، وإليه وقعت الإشارة في قوله- عليه السلام-: "لترك ذرة مما نهى الله تعالى خير من عبادة الثقلين" وهذا لأن العامل بالانتهاء مقيم للفرض أبدًا؛ لأن الانتهاء فرض ممتد بخلاف المتمثل بأمر العبادات من الصلاة والزكاة، فإنه فيما وراء الفرائض مقيم للتطوع، وثواب الفرض أكثر من ثواب التطوع، فكان الانتهاء أولى لذلك. (وأعمها نفعصا وجدوى) أي من حيث الثواب؛ لأن الابتلاء بالمتشابه لما كان أشد بهذه الوجوه الأربعة من الابتلاء بغيره كان الثواب الحاصل به أكثر وأعم، ولأن حكم هذا الابتلاء الصبر، والصبر على البلاء أكثر ثوابًا من غيره، ولهذا وعد الله الصابرين أجرهم بغير حساب، وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. قال الأستاذ الكبير العلامة مولانا شمس الدين الكر دري- رحمه الله- في الحديث: "إن الله تعالى خلق في الجنة منازل في الهواء غير معلقة بشيء، لا يسكنها أحد لصلاته ولا لصيامه! قالوا: ومن يسكنها؟ قال: أهل البلاء. قالوا: وكيف يدخلونها؟ قال: وكما يطير الطير".

(وهذا يقابل المحكم) إذ المحكم لما بلغ غايته في البيان والإظهار كان ضده المتشابه بلغ غايته في الإشكال والإجمال، أو أن المحكم لما كان مأمون النسخ كان ضده المتشابه ميئوس الوقوف، فكل منها غاية فيما هو فيه. (ومثاله إثبات رؤية الله تعالى) أي إثبات جواز رؤية الله تعالى في الاعتقاد بالدليل بالإبصار (عيانًا)، وقوله "عيانًا" مخصوص ذا الكتاب في بعض النسخ. (وأن يكون مرئيًا لنفسه ولغيره من صفات الكمال)؛ لأن الذي لا

يُرِي نفسه في الشاهد إما لنقصان فيه أو لعجز به، فإن من يستتر عن أعين الناس إنما يتستر لحقارته ودناءته وكونه مئوفًا بالعيوب؛ لئلا يقصدوه بقتل أو غيره. وهو لا يقدر على مقاومتهم ومدافعتهم، والله تعالى موصوف بصفات الكمال بحيث لا يقدر أحد أن يبلغ كنه صفة من صفاته، لما أن صفات العبد متناهية، وصفات الله -تعالى- غير متناعية، وهو أجمل من كل جميل منزه عن كونه مئوفًا، وهو أيضًا قاهر كل شيء، وغال عليه؛ إذ له القدرة الشاملة على جميع المقدرات، وليس له خوف من أحد، وفي الشاهد من كان موصوفًا بصفات الكمال ولا يخاف من الرائين فإنه لا يستتر، بل يتجلى بالبروز والظهور، وجل ربنا عن النقصان إذ له الكماليات أجمع، عز العجز؛ لأنه الموصوف بالقدرة الأزلية. (لكن إثبات الجهة ممتنع)؛ لأنه لا جهة له؛ لأنه يوجب كونه محددًا

مقطرًا متناهيًا، وهو آية الحدث، وإذا ثبت أن الله تعالى قديم لا يكون محدودًا متناهيًا، فلا يكون هو في جهة، فكانت الجهة ممتنعة، والرؤية في الشاهد تستدعي الجهة؛ لأنه ما من مرئي في الشاهد إلا هو في الجهة إما بذاته كالجوهر أو بمحله كالعرض، فبالنظر إلى أصل الرؤية وكونه ثابتًا بالنص. قلنا بوجوب أصل الرؤية، وبالنظر إلى استدعاء الرؤية الجهة في الشاهد كانت الرؤية ممتنعة، فكان القول بجواز الرؤية متشابهًا من حيث الوصف وثابتًا، بل

واجبًا من حيث الأصل، ولا يصح إبطال الأصل لتشابه في الوصف؛ لأن الوصف تبع فلا يصح إبطال الأصل لبطلان التبع، والقاطع للشغب ها هنا هو أن نقول: إن الأصل إذا ثبت بالدليل في الغائب لا يصح إبطال ذلك الأصل بسبب أوصاف لا يعقل وجود ذلك الأصل بدون تلك الأوصاف، وإن كنا لم نشاهد ذلك الأصل في الشاهد بدون تلك الأوصاف. ألا ترى أنا لم نشاهد موجودًا ما إلا أن ذلك الموجود كان جوهرًا أو جسمًا أو عرضًا، ثم أجمعنا واتفقنا مع الخصوم في أن الله تعالى موجود وليس هو موصوف بواحدة من صفة الجوهرية والجسمية والعرضية، ولم يدل عدم هذه الصفات في حقه على ذاته مع أنا قطعنا على استحالة وجود شيء في الشاهد وهو غير موصوف بواحدة من هذه الصفات، فعلمنا أن أصل وجود الشيء إذا ثبت بالدليل في الغائب ثم امتنعت صفة وجود ذلك في حقه في الشاهد أن ذلك لا يدل على امتناع أصله في الغائب، فكذا فيما نحن فيه لما ثبت أصل جواز رؤية الله تعالى في دار الآخر بالدليل القطعي لا ينتفي ذلك الأصل بسبب أوصاف يستحيل وجود تلك الأوصاف في حق ذلك الأصل. أو نقول: إن الرؤية تزيد الكشف في المعلوم، والله تعالى موصوف بكونه ظاهرًا، وثبت ظهوره لنا بالدلائل العقلية والسمعية، وثبت أيضًا بالآيات التي هي خارجة عن قوى البشر، كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا حية وغير ذلك، ولا شك في أنه بظهور هذه الآيات يزداد العلم بالله تعالى،

والرؤية من أسباب العلم أيضًا، فجاز أن تثبت لزيادة الكشف في المعلوم. والمؤمن أهل لذلك؛ وإنما ذكر هذا؛ لأنه رب شيء يكون ممكنا في نفسه لكنه غير واقع لعدم الأهل، والمؤمن أهل لاستحقاق الكرامات التي سوى هذه الكرامة من المحبة، والولاية، والإيحاء إليه، والكلام معه، فتستدل بهذا على أن المؤمن أهل لذلك. (فصار متشابهًا بوصفة فوجب تسليم علم المتشابهة) إلى الله تعالى، يعني أن كونه مرئيًا ثبت بالدليل، ولكن ذلك يقتضي الجهة؛ لأن الرؤية في الشاهد تقتضي كون المرئي في جهة من الرائي، والشاهد دليل الغائب، والله تعالى لا جهة له، فكان متشابهًا فيما يرجع إلى كيفية الرؤية والجهة مع كون أصل الرؤية ثابتًا بالنص، فيجب تسليم علمه إلى الله تعالى، ولا يشتغل بأن كون المرئي في جهة الشاهد من القرائن اللازمة أم من الأوصاف الاتفاقية؟ بل يجب التسليم، وهذا طريق بعض المحققين في المتشابه. وأما المتبحرون من علماء أهل السنة والجماعة فيقولون: كون المرئي ذا جهة في الشاهد من القرائن اللازمة، بل إنما كانت في الشاهد في جهة؛ لأنه ذو جهة فيرى كذلك. وأما الله تعالى فليس بذي جهة فيرى كذلك؛ لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو.

والدليل على هذا: أن الله تعالى يرانا ولسنا بجهة منه، فعلم أن كون المرئي في جهة ليس من القرائن اللازمة للرؤية، بل من الأوصاف الاتفاقية، ككون الباني في الشاهد محدثًا ولحمًا ودمًا وذا صورة، ولا نقول في الغائب كذلك لكون هذه الصفات للباني في الشاهد من الأوصاف الاتفاقية بالإجماع، فكذلك فيما نحن فيه. (وكذلك إثبات الوجه واليد حق عندنا معلوم بأصله)؛ لأن الله تعالى نص في القرآن به في حقه، وكيفية ذلك من المتشابه؛ لأن الله تعالى منزه عن الجارحة، فلا نبطل الأصل المعلوم بسبب ذلك التشابه. فإن قيل: لما ثبت أصل ذكر الوجه واليد في حق الله تعالى: هل يصح إطلاق معنى الوجه واليد في حق الله تعالى بغير العربية بأن يقال: دست خداي، وروي خداي، أم لا؟ قلنا: قد ذكر الإمام الأجل المتقن مولانا جمال الدين المحبوبي- رحمة الله- في كتاب العتاق من كتاب "الفروق في بيان الفرق" بين قوله: يا أزاد. وبين قوله: يا حر أن الفارسية إذا عربت تكون أصلح وأوفق، أما العربية إذا فرست فسدت. ألا ترى أنه يقال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} ولا يقال: دست خداي زير

همه دستهاست. ولو قال به كفر. (ولن يجوز إبطال الأصل بالعجز عن درك الوصف)؛ لما فيه من إبطال الأصل بسبب الوصف، وذلك لا يجوز؛ لما ذكرنا أن الأصل إذا ثبت في حق الله تعالى بالدليل القطعي لم يجز إبطال ذلك الأصل بسبب أوصاف ذلك الأصل الذي لا يعقل في الشاهد وجود ذلك الأصل بدون تلك الأوصاف، فلا يصح أن يقال: وتلك الأوصاف لا يصح ثبوتها في حق الله تعالى فيجب ألا يصح الأصل الثابت بالدليل القطعي أيضًا، كما لا يصح أن يقال: إن موجودًا ما لا يتصور ثبوته في الشاهد بدون أن جوهرًا أو جسمًا أو عرضًا، وهذه لا تتحقق في حق الله تعالى فلا يصح وجود الله تعالى لما فيه من إبطال الأصل بسبب أن وصف ذلك الأصل لا يتحقق في حقه وهو لا يجوز فكذا هنا. وكذلك أيضًا في الشاهد لا يجوز إبطال الأصل بسبب الجهل بوصفه كمن كان على شط نهر كبير لا يتصور في ذهنه العبور من هذا النهر، ثم رأي شخصًا فيما وراء النهر من الشط ثم رآه في هذا الجانب الذي فيه، فلا يشك في ثبوت عبوره وتحققه وإن جهل هو طريق العبور، لما أنه ثبت له كونه

في هذا الجانب بالدليل القطعي، وهو رؤيته ذلك في هذا الجانب، فكذلك ها هنا لما ثبت صفة الكمال لله تعالى بالدلائل القطعية لم يجز إبطالها بسبب الجهل بطريق الثبوت، وفي هذا حكاية، وهي أن جهنم بن صفوان الترمذي كان يدعو الناس إلى مذهبه الباطل، وهو أن الله تعالى عالم لا علم له، قادر لا قدرة له، وكذا في سائر الصفات. وكان جلس يومًا يدعو الناس إلى هذا المذهب، وحوله أقوام كثيرة إذ جاء أعرابي، ووقف حتى سمع مقالته، فأرشده الله تعالى إلى علم بطلان هذا المذهب، فأنشأ يقول: ألا إن جهمًا كافر بان كفره ... ومن قال يومًا قول جهم فقد كفر لقد جن جهنم إذ يسمى إلهه ... سميعًا بلا سمع بصيرًا بلا بصر عليمًا بلا علم، رضيًا بلا رضا ... لطيفًا بلا لطف، خبيرًا بلا خبر أيرضيك أن لو قال يا جهم ... قائل: أبوك امرؤ حر خطير بلا خطر مليح بلا ملح بهي بلا بها ... طويل بلا طول يخالفه القصر حليم بلا حلم، وفي بلا وفا ... فبالعقل موصوف وبالجهل مشتهر جواد بلا جود، قوي بلا قوى ... كبير بلا كبر، صغير بلا صغر أمدحًا تراه أم هجاء وسبة ... وهزءًا كفاك الله يا حمق البشر فإنك شيطان بعثت لأمة ... تصيرهم عما قريب إلى سقر

فألهمه الله تعالى حقيه مذهب أهل السنة والجماعة، وأراه بطلان مذهبه، فرجع كثير من الناس ببركة أبياته، وكان عبد الله بن المبارك- رحمه الله- يقول: إن الله- تعالى- بعث الأعرابي رحمة لأولئك، فيجب على كل أحد أن يعلم معنى هذه الأبيات لأولاده وعبيده، ذكرت هذه الجملة في "أصول الدين" لأبي عصمة- رحمة الله- (فصاروا معطلة) أي صاروا غير قائلين بالصفة لله- تعالى- فإن العطل- بفتحتين- يستعمل في الخلو من الحلي في الأصل ذكره في الصحاح، واستعير ها هنا لعدم الصفة، ألا ترى أن الصفة تسمى حلية.

[الحقيقة والمجاز]

[الحقيقة والمجاز] (وتفسير القسم الثالث). هذا باعتبار أصل التقسيم، وفي نسخة وتفسير القسم الرابع، وهو باعتبار ذكر المقابل. (ولا تسقط عن المسمى أبدًا) يعني: إن اللفظ الحقيقي لا يسقط عما وضع له، كالأسد لا يسقط عن الهيكل المخصوص أبدًا. واعلم أن الحقيقة والمجاز من أوصاف اللفظ دون المعنى. يقال: لفظ حقيقة، ولفظ مجاز، لما أن الحقيقة سميت حقيقة؛ لأنه حق لها أن يراد بها ما وضعت هي له، وهذا يأتي في اللفظ دون المعنى، والمجاز لما كان مأخوذًا من الجواز وهو التعدي ورد في اللفظ؛ لأن التعدي يتأتي في اللفظ دون المعنى مستقر في كلًا المحلين؛ ولأن الفاصل بين الحقيقة والمجاز استقامة نفي المجاز عن محل المجاز، والمعنى لا يستقيم نفيه. (والمجاز ينال بالتأمل في طريقه) أي في طريق المجاز. بأن يتأمل أن صحة المجاز بأي وجه، وبأي طريق يصح المجاز، وذلك ستة أشياء:

المستعار، والمستعير، والاستعارة، والمستعار له، والمستعار عنه، وما تقع به الاستعارة. يعني عند وجود هذه الأشياء يعلم طريق المجاز، فحينئذٍ ينال المجاز في طريقه (ويحتذي بمثاله) أي يجعل المجاز مقتديًا بمثاله وهو الحقيقة. يعني ينظر أن في الحقيقة ما هو مخصوص به ومشهور فيه ثم وجد المجاز نظيرًا لتلك الحقيقة في حق ذلك الوصف المخصوص المشهور فيه، فاحتذى المجاز بذلك المثال وهو الحقيقة، فأطلق اسم تلك الحقيقة على هذا المجاز الذي أحتذي بها. أي جعل المجاز مقتديًا بتلك الحقيقة، يقال: احتذي مثاله. أي اقتدي به. كذا في الصحاح. (ومثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص). بيان هذا أن الحكم في المنصوص عليه يثبت بالنص، كالموضوع له يثبت باللفظ، ثم يتأمل في معاني النص في المحل المنصوص عليه لاستخراج المعنى الذي تأثير في استدعاء هذا الحكم لتعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه، فإذا وجد مثل هذا المعنى في غير المنصوص عليه ألحق به. يعني يثبت مثل ذلك الحكم في هذا المحل، وكذلك يتأمل في معاني محل الحقيقة، أعني المعاني اللازمة للحقيقة المشهورة فيها لا كل معنى كما في النص لما في اعتبار كل

[الصريح والكناية]

معنى للنص إسقاط الأبنتلاء. ألا ترى أن العرب تسمي الشجاع أسدًا للاشتراك في المعني الخاص اللازم المشهور له لا في كل معنى، فإذا وجد مثل ذلك المعنى في محل آخر استعير هذا اللفظ كما قلنا في القياس مع النص، إلا أن التفاوت بين الحقيقة والمجاز وبين النص والقياس هو اعتبار المعاني اللغوية في الحقيقة والمجاز، واعتبار المعاني الشرعية في النص والقياس. [الصريح والكناية] (وأما الصريح)، فإن قيل: ما الفرق بين الظاهر والصريح مع أن المراد بكل واحد منهما ظهور المراد؟ قلنا: الفرق أن الصريح ينضم إليه كثرة الاستعمال فيسمى صريحًا، ولا يشترط ذلك في الظاهر. كذا ذكر في: "ميزان الأصول". وفرق آخر أن الظاهر قد يكون بطريق الإشارة، والصريح قط لا يكون بطريق الإشارة.

وفرق آخر وهو أن الظاهر لا يكون مرادًا بسوق الكلام، والصريح هو المراد بسوقه، ثم لا يشترط في الصريح كونه حقيقة، بل قد يكون حقيقة كما في قوله: بعت، واشتريت، وقد يكون مجازًا كالمجاز المتعارف كما في قوله: لا يضع قدمه في دار فلان، فإنه صار صريحًا في حق الدخول في العرف وهو مجاز. (القذور): اسم امرأة، وهي التي تتقذر أي تتنزه عن الأقذار. المصارحة: باكسي رويا روي كاري كردن، واستعملها هنا بمعني التصريح الذي هو خلاف التعريض، وتقرير الكناية قوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} تعريض للحدث بالمكان المطمئن من الأرض. فإن قيل: هذا مجاز. قلنا: لا تنافي بينهما؛ إذ الكناية لا تختص

أقسام الدلالات

بالحقيقة على ما عرف في "التقويم" وقال الإمام مولانا بدر الدين الكر دري- رحمه الله-: والفرق بين المجاز والكناية: أن المجاز مع الحقيقة لا يجتمعان، والكناية قد تجتمع مع الحقيقة؛ لأن الحقيقة مراده في موضع الكناية مع ما كني له، والحقيقة ليست مراده في موضع المجاز، بل تنحى الحقيقة إذا أريد المجاز، ولا تنتحي الحقيقة إذا أريد الكناية. بيانه في كثير الرماد عند إرادة الجود به، فإن كثرة الرماد تراد ويفهم مع ما أريد به الجود، فإنه إذا كان كثير الرماد كان كثير الإيقاد، وكان كثير الطبخ، وكان كثير القرى، وكان جوادًا، فأريد كثرة الرماد لا لذاته ولكن لإثبات الجود، وكذلك في طويل النجاد. وأما في قوله: علي أسد الله. لا يثبت منه الهيكل المخصوص البتة، ولا

[2 - إشارة النص]

تثبت الحقيقة أصلًا لكن الكناية فيها استتار المراد، وهذا الاستتار يجوز أن يكون في موضع الحقيقة، كما لو قال لامرأته: أنت حرام، ونوى به الطلاق يثبت به الطلاق البائن فكان كناية في موضع الحقيقة أو في موضع المجاز، كما في قولته تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ} فهو كناية عن الحدث في محل المجاز بطريق اسم المحل على الحال. [2 - إشارة النص] (والاستدلال بإشارة النص هو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النظم) فعلى هذا لا فرق بين الإشارة والظاهر من حيث إن الكلام لم يسق لهما، ولكن يفترقان من حيث إن الإشارة قد تقع خفية فتحتاج إلى نوع تأمل بخلاف الظاهر، فإنه ظاهر كاسمه لا يخفي على أحد، ولهذا خفي على الشافعي حكم الإشارة في قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} حيث قال بعدم زوال أملاكهم عما خلفوا في دار الحرب.

(وليس بظاهر من كل وجه) فمن حيث إنه لم يسق الكلام له ليس بظاهر، ومن حيث أنه يعلم المراد به ويثبت الحكم بالنظم ظاهر، وإنما سيق النظم أي قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (لاستحقاق سهم من الغنيمة على سبيل الترجمة لما سبق) أي على سبيل البيان والبدل لما سبق، وهو قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ} بدل من {وَلِذِي الْقُرْبَى} إلى أخره، ففي هذا البدل زيادة تشريف لهم للتخصيص بعد التعميم، أو قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} معطوف على الأول بغير واو، وهو جائز، كما يقال: هذا المال

لزيد ولعمر، ولبكر. (إلى إن النسب إلى الآباء)؛ لأنه ذكر بحرف اللام، واللام للاختصاص. يقال: المال لزيد. أي مختص به، ولو لم يكن كل النسب إليه، يكون حينئذٍ بعض المولود له فلا اختصاص فيه. (وإلى قوله- عليه السلام- "أنت ومالك لأبيك") أي في الآية إشارة إلى أن النسب إلى الآباء، وإشارة أيضًا إلى عبارة قوله- عليه السلام- وإلى ما هو المفهوم منه، وهو قوله- عليه السلام-: "أنت ومالك لأبيك" لكن لا يتحقق الملك في ذاته؛ لأنه ابنه فصرف إلى النسب، وكذلك لا يتحقق ملك الرقبة في ماله؛ لأن ملك الرقبة في جميعه ثابت للابن فصرف إلى جواز تملك أبيه عند الاحتياج. ونظير هذا أي في أن الثابت بإشارة الكتاب ثابت بعبارة الحديث سقوط

النجاسة عن سؤر هرة، لكن فيه دلالة الكتاب قامت مقام إشارته ها هنا، وذلك أن سقوط النجاسة عن سؤر الهرة ثابت بدلالة الكتاب الذي أجب سقوط استئذان في غبر أوقات الثلاثة لعلة ضرورة الطواف في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَاذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى أن قال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} فإن هذا الحكم بعينه ثابت بعبارة الحديث حيث قال: " الهرة ليست بنجسة فإنها من الطوافين والطوافات عليكم" (وفيه إشارة إلى أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إذا رفعت مدة الرضاع) لأنه قال في آية أخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فبقى للحمل ستة أشهر،

وهي أدنى مدة يتصور فيها وضع الولد، فكان هذا في الحقيقة من قبيل بيان الضرورة، كما في قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فإنه لما رفع الثلث للأم كان الباقي- وهو الثلثان- للأب؛ لأنه لا وارث غيرهما، فكذا ها هنا لما رفعت مدة الرضاع من ثلاثين شهرًا لعامين بقي للحمل ستة أشهر. وروى: أن امرأة ولدت لستة أشهر يعني من وقت التزوج، فرفع ذلك إلى عمر- رضي الله عنه- فهم برجمها، فبلغ ذلك عليا- رضي الله عنه- فقال: لا رجم عليها، فبلغ عمر قول علي- رضي الله عنه- فأرسل إليه فسأله عن ذلك فقال: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وقال أيضًا: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} فستة أشهر وحولان ثلاثون شهرًا، فخلى سبيلها

كذا في "التيسير". ثم روى مثل هذه الحكاية بين عثمان وابن عباس- رضي الله عنهم- وهذا التمسك بهذه الآية في أن تقسم مدة الثلاثين بين الحمل والفصال بطريق الاشتراك فيها على مضاد التمسك بهذه الآية في تعليل أبي حنيفة- رضي الله عنه- في "الهداية" حيث جعل هذه المدة لكل منهما على الكمال، ثم ظهر المنقص في أحدهما وهو الحمل فبقي الباقي وهو الفصال على حاله بمدة ثلاثين

[3 - دلالة النص]

شهرًا كالأجل المضروب للدينين. يعني إذا ظهر المنقض في أحدهما يبقى الباقي على حاله بكمال المدة. [3 - دلالة النص] (وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة) أي كل من يعرف اللغة العربية يعرف الحكم الثابت بدلالة النص، فكان ذلك الحكم ثابتًا من حيث اللغة، فمعرفته غير متوقفة على الرأي والاستنباط. (فالاجتهاد) بذل المجهود- وهو الطاقة- لنيل المقصود.

(والاستنباط): استفعال من النبط، وهو الركية التي أخرجها الحافز بكد عظيم، والعلم منه بمنزلة الماء؛ لأن فيه حياة الدين كما أن الماء حياة الأرض. سمي الاجتهاد استنباطًا؛ لأن الوقوف على المعنى المؤثر متعسر، وهذا من ترشيح الاستعارة؛ لأن العلم لما كان ماء بطريق الاستعارة سمي استخراج المعنى المؤثر من النص استنباطًا ترشيحًا للاستعارة. ألا ترى أن موضع التعليل يسمى مورد التعليل، وهو موضع ورود الماء من الوارد، وهم الذين يردون الماء. وكذلك سمي نقل العلم رواية، إلا أن رواية العلم من حد ضرب، والري في الماء من حد علم، وهما يشتركان في اسم الفاعل حيث يقال لكل منهما: راوٍ، والاشتراك في الحروف يوجب

الاشتراك في تقارب المعنى لما عرف في حروف الربح والكناية، وعن هذا أيضًا شبه النبي- عليه السلام- العالم بالعين الفوارة في قوله: "إنما مثل العالم كالحمة تكون في الأرض يأتيها البعداء ويتركها الأقرباء، فبينا هم كذلك إذ غار ماءها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون" الحمة: -بفتح الحاء- عين حارة الماء يستشفى بها المرضى والإعلاء، يتفكهون: أي يتندمون ويتعجبون من شأن أنفسهم، وما فرطوا فيه من طلب حظهم مع إمكانه

وسهولة مأخذه. (فهذا فعل معلوم بظاهرة) وهو قوله: {أُفٍّ} مفهوم بمعناه أيضًا وهو الأذى، فإنه إنما كان حرامًا لكونه أذى فكان الأذى منهيًا عنه بمعنى النص بطريق اللغة، فصار من حيث المعنى كأنه قال: فلا تؤذهما، ولو قال هكذا كان الضرب والشتم حرامًا لوجود الإيذاء بهما، فكذا هنا من حيث المعنى. (كمعنى الإيلام من الضرب) يعنى لو قيل: لا تضرب كان يعلم منه النهي عن الإيلام، كما لو قال: لا تؤلم. ألا ترى أنه لو حلف لا يضرب امرأته فنخنقها أو عضها أو مد شعرها حنث، كما لو حلف لا يؤلم امرأته.

وحاصله أن نص التأفيف أوجب حكمتين: أحدهما- بظاهرة أي بعبارة النص، وهو حرمة التأفيف، فإن العبارة نطقت به. والثاني- بدلاته، وهو حرمة الضرب والشتم، وكذلك قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} أوجب حكمين: أحدهما- بعبارته، والثاني- بإشارته، حتى شارك فيه غير الفقهاء أهل الرأي والاجتهاد. فإن قلت: والشافعي لم يعمل بوجوب الكفارة في الأكل العمد مع أن ذلك ثابت بدلالة النص؛ إذ القياس لا يجري في الكفارات، ففي هذا إخراج الشافعي عن كونه من أهل الاجتهاد، بل عن كونه من أهل اللغة فكان هو غير مدرك لدلالة النص مع كونه من أهل الاجتهاد ومن أهل اللغة، فما وجهه؟ قلت: قد أسلفت جواب هذا وما يشاكله في "الوافي".

[4 - اقتضاء النص]

وحاصل ذلك أنا لما أثبتنا فيه وجه دلالة النص وبينا المساواة بين وجوب الكفارة بالجماع وبين وجوب الكفارة بالأكل العمد والشرب العمد بحيث لم يبق لمنصف شبهة. بعد ذلك لم يضرنا خلاف من يخالفنا فيه، وإن كان هو من أهل الاجتهاد، فكان التقصير من قبله لا في حق ثبوت دلالة النص. [4 - اقتضاء النص] (وأما الثابت باقتضاء النص) أي الحكم الثابت باقتضاء النص (فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه) أي فما لم يعمل النص وهو المقتضي إلا بشرط وهو المقتضي تقدم عليه أي تقدم اشرط على النص، وهو المقتضي. قوله: (وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه) أي وأما الحكم الثابت باقتضاء النص فهو الحكم الذي لم يعمل النص فيه إلا بشرط تقدم على ذلك النص، وحذف الضمير الراجع إلى الحكم الموصوف

كان نظير حذف الضمير الراجع إلى الموصوف في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} أي لا تجزي فيه نفس؛ لأن المقتضى هو الذي ثبت زيادة على النص شرطًا لصحة المقتضى، فكان المقتضى ثابتًا ضرورة صحة النص؛ إذ لا صحة للنص بدونه، فتثبت المقتضى شرطًا لصحة لمقتضى بمنزلة الشروط، والمقتضى بمنزلة الشرط؛ إذ لا صحة للمشروط بدون الشرط، فكان المقتضى تبعًا للمقتضي كالشرط تبع للمشروط، فيبثث بقدر ما يصبح النص، ولهذا قلنا: إن المقتضى لا عموم له؛ لأن ثبوته بطريق الضرورة، ولا ضرورة في الزائد على الخصوص، فلا يثبت العموم جريًا على الأصل؛ لأن الأصل أن ما لا يكون مذكورا لا يكون مذكورًا، وهو معنى قول المشايخ: ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، فإذا ثبت أن ثبوت المقتضى لصحة المقتضي يثبت بما هو يصلح تبعًا لا أصلًا. ولهذا قال علماؤنا- رحمهم الله:- إن الكفار لا يخاطبون بالشرائع؛ إذ لو كان الكافر مخاطبًا بالشرائع يكون الإيمان ثابتًا بطريق الاقتضاء، والإيمان لا يصلح أن يكون تبعًا لما هو تبعه؛ لأن جميع الأحكام الشرعية من العبادات تبع للإيمان، الشيء لا يصلح أن يكون تبعًا لما هو تبعه. ولهذا قلنا: إن المولى إذ دفع رقبة إلى عبده وقال: كفر عن كفارة يمينك بإعتاق هذا العبد. لم يثبت عتق العبد المخاطب بهذا الكلام، وإن كان هذا

الكلام مقتضيًا عتقه ضرورة؛ لما أن العبد لا يصير مالكًا للتكفير بالإعتاق إلا بعد عتقه أولًا، فلا يثبت العتق بمقتضي قوله: كفر عن كفارة يمينك بإعتاق هذا العبد؛ لأن الأهلية للإعتاق إنما تثبت بعد حرية نفسه أولا وهي أصل، فلا يجوز أن تثبت تبعًا لما هو تبعه وهو التكفير بالإعتاق، وإذا ثبت أن المقتضى تبع للمقتضى كان المنظور إليه الأصل وهو المقتضى لا المقتضى، فلذلك يثبت المقتضى بوصف المقتضى لا بوصف نفسه حتى لا يشترط في التمليك الثابت بطريق الاقتضاء ما يشترط في التمليك ألقصدي من الإيجاب والقبول، وكذلك لو كان الأمر بالإعتاق منه في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم. ممن لا يملك الإعتاق كالصبي لم يثبت البيع بهذا الكلام، فكان الاعتبار للمتبوع وهو المقتضي لا للتبع وهو المقتضي، فإذا ثبت هذا لا يفترق الحال بين أن يكون التبع مقدورًا أو مصروحًا كان الاعتبار للمتبوع لا للتبع. ألا ترى أن الحيوانات وغيرها مما يقع به القوام خلقت للآدمي، فكان الآدمي أصلًا وغيره تبعًا، فلذلك كان العبرة له لا لها. (فصار هذا) أي فصار حكم المقتضي (مضافًا إلى النص بواسطة المقتضي)، فلذلك كان كالثابت بالنص؛ لأنه صار المقتضي حكمه حكمًا للنص، فكان كالعتق الثابت للقريب بالشراء، فإن العتق هناك حكم حكم الشراء؛ لأن حكم الشراء الملك، وحكم الملك في القريب العتق، فالملك بحكمه مضاف إلى الشراء، فلذلك قيل: شراء القريب إعتاق بهذا الطريق لا أن يكون الشراء موضوعًا للإعتاق؛ لأن الشراء موضوع لإثبات الملك لا

لإزالته، فيستحيل أن يكون ما هو موضوع للإثبات موضوعًا للإزالة. وأما المحذوف: فما ثبت حذفه من الكلام بطريق الاختصار، وهو ثابت لغة؛ لأن الكلام يتنوع إلى مختصر ومطول، والمختصر مثل المطول في إفادة المراد. ألا ترى أنه لا فرق بين قولهم: اضرب. وبين قولهم: افعل فعل الضرب، وكذلك لا فرق بين قولهم: لفلان علي تسعمائة. وبين قولهم: لفلان علي ألف إلا مائة. فثبت أن المحذوف من باب اللغة، ولهذا يكون عامًا بلا خاف حتى إنه لو قال لامرأته: طلقي نفسك. ونوى به الثلاث يصح؛ لأن ذلك مختصر قوله: افعلي فعل الطلاق، وذلك يصلح للعموم فكذا هنا، وتقرير هذا في قوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} إن الأهل محذوف ولا مقتضى؛ إذ لو كان مقتضى لكان المسئول هو القرية لا الأهل لما ذكرنا أن المقتضى هو الأصل، والحكم مضاف إلى الأثل، والمسئول هو الأهل هنا دون القرية، فلما لم تصلح القرية أن تكون مسئولة لم يفترق الحال بين أن يكون الأهل محذوفًا أو مصارحا في أن السؤال يتحقق من الأهل لا من القرية، إلا

أنه إذا كان محذوفًا أضيف السؤال إلى القرية بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك في قوله- عليه السلام-: "رفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

وفي قوله- عليه السلام-: "الأعمال بالنيات". الحكم محذوف فيهما لا مقتضى؛ إذ لو كان مقتضى لكان المرفوع هو الخطأ والنسيان لما عرف أن المثبت هو المقتضى، وذلك غير مستقيم؛ إذ الخطأ والنسيان واقعان، فكان الحكم محذوفا لا مقتضى، والمحذوف هو الأصل في باب الحذف، والمقتضى تبع في باب الاقتضاء، فكانا على طرفي نقيض، فكان ثبوت المقتضى تبع في باب الاقتضاء، فكانا على طرفي نقيض، فكان ثبوت المقتضى لصحة المذكور وصلاحه لما أريد به، فيكون الصالح لما أريد به من الحكم المقتضي المذكور لا المقتضى المقدر، والمحذوف هو الصالح لما أريد به من الحكم لا المذكور، كالأهل في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإن الصالح لما أريد به من الحكم وهو الاستعلام والاستخبار هو الأهل لا القرية، وكذلك الصالح لما أريد به من الحديث الحكم لا الخطأ والنسيان، وهو معنى ما قال في الكتاب. (وعلامته) أي وعلامة المقتضى المقدر (أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره، ويصلح لما أريد به)، يعني أن المقتضى إذا صرح يكون المقتضي.

المذكور صحيحًا كما كان قبل تصريح المقتضى، وهو صالح لما أريد به مع تصريح المقتضى، والمحذوف إذا صرح ينقطع ما أضيف إلى المذكور على ما ذكرنا. فإن قيل: لما جمع المصنف- زحمة الله- هذه الألفاظ، وهي قوله: أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره، ويصلح لما أريد به، وهذه قضيات متلازمة؛ إذ يستفاد من واحدة منها ما يستفاد من الأخريين؟ قلنا: لا نسلم؛ لأن لكل واحدة منها فائدة غير الفائدة التي من الأخرى، والتي استفيدت من إحداها لا تستفاد من الأخرى. بيان ذلك هو أن الشيء إذا كان صحيحًا في نفسه لا يلزم أن يكون صالحا لما أريد به لا محالة، بل قد لا يصلح لما أريد به وإن كان صحيحا في نفسه، وكذلك عكسه غير لازم أيضًا، أعني يجوز أن يكون الشيء صاللحًا لما أريد به، وهو غير صحيح في نفسه. ألا ترى أن من صلى مراءاة للناس عند استجماع شرائط جواز الصلاة كانت صلاته صحيحة مع أنها غير صالحة لما أريد منها من الحكم، وهو ابتغاء مرضاة الله تعالى وثواب الخير في الآخرة، وكذلك في عكسه الملازمة غير ثابتة أيضًا، فإن من توضأ بماء نجس وهو لا يعلم بنجاسته مع أنه لم يقصر في الطلب وصلى كانت صلاته صالحة؛ لما أريد بها من ثواب الخير في الآخرة وصلاته غير صحيحة. علم بهذا أن الصحة مع الصلاحية لما أريد به من الحكم غير متلازمين، ولأنه أراد بقوله: ويصلح لما أريد به. الملك؛ فإنه صالح للإعتاق بخلاف ما

قدر فيه غير الملك، كالنكاح والطلاق مثلا لا يكون هو صالحا للإعتاق. وأما قوله: "ولا يلغى عند ظهوره" فهو غير مذكور في بعض النسخ، فلا يلزم السؤال حينئذ، ولئن ثبت فالمراد به القصد إلى الفرق بينه وبين المحذوف بطريق التصريح، والفرق بطريق التصريح، والفرق بطريق التصريح أقوى في البيان، ومقام الفرق بين المتساويين مقام اختيار أقوى البيانين لإزالة الالتباس بينهما بآكد الوجوه. أو نقول: على تقدير التسليم بأن هذه قضيات متلازمة إن ذكر هذه القضيات المتلازمة لبيان خاصية المقتضى لا لبيان تنويع المقتضى بأنه نوعان أو أنواع كما في قوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} هذا لبيان خاصية الإشراك بالله أن لا يقوم على صحته حجة لا لبيان أنه نوعان، وكما في قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} هذا بيان خاصية الطائر لا أن الطائر نوعان، فكذا ها هنا كان معناه أن خاصية المقتضى أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهور ويصلح لما أريد به لا بيان أنه نوعان. (لم يتحقق في القرية ما أضيف إليها) وهو السؤال؛ لأن الأهل إذا صرح به ينتقل السؤال المضاف إلى القرية إلى الأهل الذي صرح به، فلما لم يبق الكلام على حاله بعد التصريح، علم أنه كان من باب الحذف والإضمار

لا من باب اقتضاء. (الأمر بالتحرير للتكفير مقتض للملك ولم يذكر) أي الملك لم يذكر ولو ذكره بقوله: فتحرير رقبة مملوكة بقى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} كما كان أي كان صالحا لما أريد به. فكذا إذا قدر مذكورا بقى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} صالحًا لما أريد به وهو التفكير. ثم اعلم أن ما أثبت الحكم بصيغة النص مع سوق الكلام له فهو عبارة النص، والحكم الثابت به ثابت بعبارة النص، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} عبارة عفي إيجاب النفقة، ووجوب النفقة حكم ثابت بعبارة النص، وكذلك في غيره على هذا النسق. (والفصل الرابع في بيان أحكامها) أي الرابع من تقسيم قوله: هذا لبيان معرفة هذه الأصول لغة، وتفسير معانيها، وبيان ترتيبها، فيكون بيان الأحكام من هذه الفصول الفصل الرابع، وقوله: (وبيان ترتيبها)، فيكون بيان الأحكام من هذه الفصول الفصل الرابع، وقوله: (وبيان ترتيبها)، أي أيها راجح، وأيها مرجوح، وأيها يقدم على البعض، وقوله: في أحكامها؛ أي في الآثار الثابتة بها شرعًا، والله أعلم.

[باب في معرفة أحكام الخصوص] (اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعًا) أي المراد بالخاص قطعًا. أي بحيث يقطع الشبهة ويقينًا أي بحيث يستقر اعتقاد القلب عليه، فكان قوله: (بلا شبهة) مؤكدًا لقوله: يقينًا؛ بذكر لازمه كقوله تعالى: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (لما أريد به من الحكم) أي اللفظ الخاص بتناول المخصوص لأجل ما أريد بالمخصوص من الحكم بيان ذلك أن (قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}) خاص يتناول مخصوصه وهو الأفراد الثلاثة لما أريد به من انقضاء العدة، وكذلك (قوله تعالى: {ارْكَعُوا} يتناول الميلان لما أريد به من جواز الصلاة. (لا يخلو الخاص عن هذا) أي عن تناول المخصوص قطعًا، (وإن

احتمل التغير عن أصل وضعه). فإن قيل: يجب ألا يثبت الحكم به قطعًا؛ لأنه محتمل لغير ما وضع له على ما قال في الكتاب. قلنا: بلى محتمل، لكن الاحتمال إذا لم ينشأ عن دليل فهو غير معتبر؛ لأنه مجرد احتمال إرادة الخصوص من المتكلم وذلك غيب عنا، ولا يكلف درك الغيوب فلا تبقى له عبرة أصلًا فألحق بما ليس محتملًا في نفسه، فلذلك يثبت الحكم به قطعًا. يقرره أن الله تعالى تعبدنا بأوامره ونواهيه، فالعبادة واجبة علينا قطعًا، وإن كان احتمال غير الوجوب ثابتًا. ألا ترى أن العقلاء بأسرهم لم يتحرزوا عن احتمال لم ينشأ عن دليل، حتى أنهم دخلوا في المسقف مع أن احتمال السقوط ثابت جزمًا، لكنه لما لم ينشأ عن دليل فلم يعتبروه. (لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان، لكونه بينًا لما وضع له) فكان في القول بالتصرف فيه بطريق البيان لزوم بيان المبين، وهو إثبات الثابت أو نفي المنفي وهو نفي الخفاء مع أن الخفاء منتف وهو مستحيل. (لأنا إذا حملنا على الأطهار انتقص العدد عن الثلاث)؛ لأنه إذا طلقها في لآخر طهرها تحتسب هذه البقية عنده من العدة، فتكون العدة طهرين وبعض الثالث، فلا يكون عدد الثلاث كاملًا.

فإن قيل: قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والمراد به شهران وبعض الثالث وهو عشر ذي الحجة، فجاز أن يكون ها هنا هكذا أيضًا. قلنا: لفظة الثلاثة غير منصوصة هناك، بل فيه ذكر الأشهر وهو ليس باسم لعدد معلوم بل هو اسم عام، فيجوز أن يذكر العالم ويراد به البعض، ولا يجوز في العدد ذلك وهو أن يذكر عدد معلوم ويراد به بعضه؛ رأيت رجالا، وهو قد رأى رجلين، ولا يجوز أن يقال: رأيت ثلاثة رجال، وهو رأى رجلين. فإن قيل: مسمى ثلاثة أطهار موجود في القرأين وبعض الثالث. قلنا: ليس المراد من قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} مسمى الطهر، بل المراد منه كمال الطهر وهو ما كان بين الدمين؛ لأنه لو كان المراد منه مسمى ثلاثة أطهار يلزم أن تنقضي العدة في ظهر واحد، بل في ثلاثة أيام، بل في ثلاثة ساعات؛ لما أن في كل يوم وفي كل ساعة مسمى الطهر موجود بدليل جواز إطلاق الطهر عليه، وحيث لم تنقض به بالاتفاق علم أن المراد به الطهر الكامل على قول من جعله أطهارًا، وبعض الطهر لا يكون طهرًا كاملًا.

(كالفرد لا يحتمل العدد) خلا أن الفرد قد يكون اعتباريا كاسم الجنس فإنه فرد باعتبار أنه جنس واحد بالنسبة إلى سائر الأجناس، كاسم الماء وغيره، فإنه يتناول جميع المياه باعتبار اتحاد الجنسية، حتى لو حلف لا يشرب الماء ونوى جميع المياه صدق فلا يحنث أبدًا، فإن اسم الماء اسم فرد من حيث اتحاد الجنس، وقد يكون الفرد حقيقيًا وهو القطرة من الماء، حتى أنه يحنث فيما إذا حلف لا يشرب الماء بشرب قطرة منه إذا لم يكن له نية الجميع ولا يحتمل عددا من القطرات، ولهذا لو نوى قطرتين أو أكثر منهما من القطرات لا يصدق؛ لأن ذلك اسم فرد، وما نواه عدد، والفرد لا يحتمل العدد، ثم قوله: (كالفرد لا يحتمل العدد، أعلم من قوله: (والواحد لا يحتمل المثنى)؛ لأنه لم يتعرض لعدد من

الأعداد، فكان متناولًا لجميع الأعداد بخلاف المثنى، (فكان هذا بمعنى الرد والإبطال) أي فكان حمل الشافعي قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على الأطهار بمعنى رد خاص الكتاب وإبطاله. (فلا يكون إلحاق التعديل به) أي بالركوع. وقوله: (بيانًا صحيحًا) متصل بقوله: (فلا يكون) على انه خبره، (بل يكون رفعا لحكم الكتاب) وهو جواز الصلاة بمجرد الركوع الذي هو عبارة عن الميلان بما يقطع اسم الاستواء من غير إلحاق التعديل به. فإن قيل: لم لا يجعل ورود ذلك للبيان الشرعي حتى يتوقف تمام الركوع إلى الإتيان بالتعديل شرعًا؟ قلنا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. وقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فكان ما ورد من البيان بيانًا شرعيًا؛ لأنه لا يمكن العمل به إلا بذلك البيان بخلاف ما نحن فيه، فإنه يمكن العمل به بمجرد اسم الركوع، ونحن مأمورون بامتثال ما علمنا من البيان من القرآن. قال الله

تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله: "بخبر الواحد" أراد به قوله- عليه السلام-: "قم فصل فإنك لم تصل" قال لأعرابي أخف الصلاة (لكنه يلحق به) أي يلحق التعديل بالركوع. (فلا يصح بخبر الواحد) أي لا يصح النسخ بخبر الواحد، وهو قوله- عليه السلام-: "الطواف صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق". على الوصف الذي ذكرنا أي إلحاق الفرع بالأصل.

فإن قيل: يشكل بالتيمم، فإنه لفظ خاص لمعنى خاص ويزاد عليه النية. قلنا: لا يزاد بل شرط النية في التيمم مستفاد من لفظة التيمم؛ لأن الأم القصد والقصد هو النية. فإن قلت: زيادة النية في الوضوء أيضًا مستفادة من نظم القرآن؛ لما أن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} خرج جزاء للشرط المذكور قبله، وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فكان تقديره حينئذ: فاغسلوا وجوهكم للقيام إلى الصلاة، ولا يعني بالنية سوى أن يكون غسل هذه الأعضاء للقيام إلى الصلاة، ولا يعني بالنية سوى أن يكون غسل هذه الأعضاء للقيام إلى الصلاة، فكانت النية موافقة للنظم. ألا ترى أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} اشتراط النية عند تحرير رقبة مؤمنة للقتل الخطأ لم يكن زيادة على النص لهذا فكذا هنا. قلت: نعم كذلك لكن اشتراط النية في جزاء الشرط فيما إذا كان ذلك الجزاء للشرط المذكور كما في آية الكفارة. وأما إذا كان ذلك الجزاء جزًاء للشرط المذكور وشرطًا لمشروط آخر كما في

آية الوضوء لا تشترط النية في أن يكون هذا الشرط شرطًا لمشروطه؛ لما أن الشرط يراعي وجوده لتحقق المشروط لا وجوده قصدًا كما في اشتراط اللباس واستقبال القبلة للصلاة لا تشترط النية فكذا هنا. قوله: "بل نسخًا محضًا"؛ لأن الكتاب اقتضى جواز الطواف بالحدث؛ لما أن الطواف ليس إلا الدوران حول البيت، فلو قلنا بأنه تفترض الطهارة يلزم نسخ الكتاب كما أن العالم الذي يتناول أفرادًا إذا جاء الناسخ لبعض الأفراد كان ذلك نسخًا محضًا. كذلك ها هنا بل أولى؛ لأن هاهنا لا يبقى الطواف أصلًا إذا وقف جواز الطواف إلى وجود الطهارة عن الحدث إذا طاف بالحدث، ولا يلزم فصل الجنابة؛ لأنا أوجبنا الإعادة باعتبار النقصان لا باعتبار الجواز، ولهذا لو رجع يحتسب به، ويجب البدنة باعتبار النقصان، كسجدة السهو في الصلاة، ووجوب الإعادة لا يدل على عدم الجواز كالصلاة إذا أديت مع الكراهة ولو لم يكن جائزًا لما سمي الثاني إعادة بل يسمى ابتداء الصلاة والطواف. وقوله: (ليثبت الحكم بقدر دليله) لما أن الحكم نتيجة السبب فمهما كان السبب أقوى كان الحكم أقوى، ومهما كان السبب أضعف كان الحكم أضعف.

(وبطل شرط الولاء والترتيب والتسمية) وتفسير الولاء هو: أن يجمع بين هذه الأعضاء في الغسل في موضع واحد ولا يشغل في وسط الوضوء بعمل آخر. كذا في "المغني". واشتراط الولاء مذهب مالك،

والترتيب مذهب الشافعي، والتسمية مذهب أصحاب الظواهر تمسكًا بقوله عليه السلام: (لا وضوء لمن لم يسم). فإن قيل: ينبغي أن يكون الولاء والترتيب والتسمية واجبة كما قلتم في التعديل مع الركوع والسجود. قلنا: هذا لا يمكن؛ لأنا لو قلنا بوجوبها يلزم مساواة فرع التبع فرع الأصل، يعني لو أوجبنا الولاء والترتيب والتسمية في الوضوء كما أوجبنا التعديل في أركان الصلاة يلزم الاستواء في التبعَين مع التفرقة في الأصلين،

وهو أن الوضوء فرض غير مقصود؛ لأنه شرط، والركوع فرض ركن وركن الشيء أقوى من شرطه، فلذلك جعل تبع الركوع وهو التعديل واجبًا، وتبع الوضوء وهو النية وأختاها سنة؛ كيلا يلزم مساواة التبعين مع عدم مساواة الأصلين، وهو غير مستقيم، فإن غلام الوزير لابد أن يكون أدنى حالًا من غلام الملك، ولا يجوز أن يقال: ينبغي أن يكون الوضوء واجبًا لا فرضًا إظهارًا للتفاوت بين الأصل والفرع؛ لأنا نقول: عملنا بموجب هذا مرة حيث جعلناه شرطًا، وشرط الشيء تبعه، ثم لا يجوز أن يكون الواجب شرطًا لفرض؛ لأن شرط الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء أي لا يكون ذلك الشيء معتبرًا بدون ذلك الشرط، فلذلك لم يصلح أن يكون واجبًا؛ لأن للفرض وجودًا بدون الواجب. أو نقول: إن الأحاديث التي اقتضت وجوب الولاء والترتيب والتسمية لم تبلغ درجة الحديث الذي اقتضى وجوب التعديل والفاتحة في الصحة؛ فلذلك لم تقل بوجوب هذه الأشياء، وقلنا بوجوب التعديل والفاتحة.

(فصار مذهب المخالف غلطًا من وجهين)؛ لأن الكتاب يجب أن يكون فوق خبر الواحد، فلما سواهما (حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته) وخبر الواحد يجب أن يكون دون الكتاب فلما سواهما في الرتبة (رفع خبر الواحد فوق منزلته) وهو باطل كما أن منزلة العالم فوق منزلة الجاهل، ومن سواهما في الرتبة كان ذلك منه غلطًا من وجهين. فإن قلت: بل هذا الذي ذكره غلط من وجه واحد لا من وجهين؛ لأن حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته بمقابلة خبر الواحد مستلزم رفع حكم خبر الواحد فوق منزلته، وكذلك رفع حكم خبر الواحد فوق منزلته حط لمنزلة الخاص من الكتاب عن رتبته، فلماذا قال: صار غلطًا من وجهين؟ قلت: نعم ذلك، إلا أن من أخذ أي طرف منهما كان المنظور إليه ذلك لا الذي يلزم منه، فإنه إذا حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته كان المنظور إليه والملتفت له ذلك لا رفع حكم خبر الواحد، وكذلك إذا رفع حكم خبر الواحد فوق منزلته كان المنظور إليه ذلك لا حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته، وبهذا الطريقة كان ذلك غلطًا من وجهين.

(لم يكن ذلك عملًا بهذه الكلمة)؛ لأن الغاية لا أثر لها في إحداث الحل الجديد، بل لها أثر في انتهاء المغيا عنده لا غير، كما إذا حلف لا يكلم فلانًا اليوم، وبعد مضي اليوم حل التكلم ليس بمضاف إلى اليوم، بل لما انتهى اليوم عمل الحل السابق عمله، فكذلك هاهنا انتهت الحرمة بتزوج الزوج الثاني وإصابته، وكونها محللة له بالنكاح مضاف إلى السبب السابق وهو كونها أنثى من بني آدم ليست من المحرمات.

(لأنها ظاهرة فيما وضعت له) وهو كون كلمة "حتى" موضوعة للغاية فحسب، (والغاية بمنزلة البعض لما وصف بها) من حيث إنه هو، كما لا وجود لبعض الشيء بدون كله، كذلك لا وجود للغاية بدون المغيا؛ ولأن الغاية صفة للمغيا. ألا ترى أنه يقال: حرمة مغياة بغاية، وحرمة مؤبدة، والصفة لا تنفك عن الموصوف، (وبعض الشيء لا ينفصل عن كله)، إذ لو انفصل لا يكون بعضه؛ إذ لا وجود للبعض بدون الكل، ولا للكل بدون البعض، فإن وجود بعض الشيء يقتضي وجود كله، كالواحد من العشرة لما كان بعضًا للعشرة لم يتصور وجود الواحد من العشرة بدون العشرة، ولو تصور واحد بدون العشرة لا يكون هذا واحدًا من العشرة؛ لما أن وجود بعض الشيء ولا شيء محال، وإذا كان كذلك كان وجود الزوج الثاني وإصابته قبل وجود المغيا وعدمهما بمنزلة. لما أن الغاية لا عبرة لها قبل المغيا على ما يجيء في مسألة الاستشارة. قوله: (لكنها تكون غاية)؛ للابتداء لا للاستدراك. (فتلغو قبل وجود الأصل) أي تلغو الغاية، وهي نكاح الزوج الثاني قبل وجود المغيا، وهو الطلقات الثلاث، فصار نكاح الزوج الثاني وعدمه في مسألة الهدم

سواء، وهذا كمن حلف لا يكلم فلانًا في رجب حتى يستشير أباه، فاستشار أباه قبل دخول رجب، ثم كلم فلانًا في رجب قبل أن يستشير أباه فيه يحنث؛ لأن استشارته أباه غاية لانتهاء اليمين، فكان استشارته أباه وعدمها قبل دخول رجب سواء، فكذلك هاهنا كان تزوج الزوج الثاني وإصابته بها قبل وجود المغيا وعدم تزوجها سواء، ولو تزوجها قبل تزوج الزوج الثاني أو قبل إصابة الزوج الثاني كانت عنده بما بقي من التطليقات فكذلك هنا. ثم حقيقة الغاية أن ينتهي بها المغيا من غير أن تكون للغاية أثر في إثبات ما بعد الغاية من الحكم على ما ذكرنا. كما إذا حلف لا يكلم فلانًا حتى تطلع الشمس، فطلعت الشمس انتهت اليمين وبقي الكلام غير ممنوع بالإباحة الأصلية؛ لأن الغاية تبيح الكلام، فكذلك ههنا إن الحرمة الغليظة إذا انتهت بنكاح الزوج ثبت الحل الأصلي بالسبب السابق على ما ذكرنا. لا أن يكون الزوج الثاني أثبت فيها حلًا جديدًا. (الجواب أن النكاح يذكر ويراد به الوطء وهو أصله) إلى آخره. فإن قلت: كان الواجب على أبي حنيفة- رحمه الله- وأبي يوسف إثبات أن الزوج الثاني مثبت للحل فلماذا ابتدأ مطلع نكتتيهما هذه بأن النكاح يذكر ويراد به الوطء حيث لا مناسبة لدعواهما بهذا المطلع؟

قلت: بل فيه مناسبة قوية، وهي أنهما يثبتان بهذا أن شرط الدخول في الزوج الثاني لإثبات الحل للأول لم يثبت أصلا بالكتاب لا أصله ولا صفته، وإنما المذكور في الكتاب النكاح لا غير، والمراد به العقد هاهنا لا الوطء، فكان الكتاب غير متعرض للوطء أصلًا، وشرط الوطء إنما ثبت بالسنن والأحاديث، ثم أينما ثبت شرط الدخول في السنة ثبت بوصف التحليل، وهم (أي محمد والشافعي ومن تابعهما) تركوا العمل بذلك الوصف الذي أثبتته السنة المشهورة، ونحن عملنا بذلك مع جعل الزوج الثاني غاية، فإن من الغايات قد تكون غاية للمغيا مع أنها تثبت حكمًا آخر، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) فالاغتسال هاهنا منه للجنابة ومثبت لحل القربان إلى الصلاة، فكذلك هاهنا أن الزوج الثاني إذا وطئ كان منهيًا للحرمة الغليظة ومثبتًا للحل الجديد في حق الزوج الأول، ولما ثبت كونه مثبتًا للحل الجديد يثبت علمه أينما وجد شرعًا، فلذلك أثبت الحل الجديد فيما جون الثلاث أيضًا؛ لأن وطء الزوج الثاني موصوف بهذه الصفة، والصفة لا تفارق الموصوف، فأينما ثبت الموصوف ثبتت صفته. والدليل على هذا الذي ذكرته بما ذكر المصنف من مطلع النكتة هذا بيان أن شرط الدخول لم يثبت بالكتاب أصلًا ما ذكره شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- في "أصول الفقه" بقوله: ولا خلاف بين العلماء أن الوطء من

الزوج الثاني شرط لحل العودة إلى الأول بهذه الآثار، فنحن عملنا بما هو موجب أصل هذا الدليل بصفته، فجعلناه موجبًا للحل، وهم أسقطوا اعتبار هذا الوصف من هذا الدليل استدلالًا بنص ليس فيه بيان أصل هذا الشرط يعني الدخول، ولا صفته. يعنى التحليل، فيكون هذا ترك العمل بالدليل الواجب له لا عملًا بكل خاص فيما هو موضوع له لغة. وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- قالا: إن إصابة الزوج الثاني بنكاح صحيح تلحق المطلقة بالأجنبية بالحكم المختص بالطلاق كما بعد التطليقات الثلاث. وبيان هذا أن بالتطليقات الثلاث تصير محرمة ومطلقة، ثم بإصابة الزوج الثاني يرتفع الوصفان جميعًا، وتلحق بالأجنبية التي لم يتزوجها قط، فبالتطليقة الواحدة تصير موصوفة بأنها مطلقة، فيرتفع ذلك بإصابة الزوج الثاني. (وأما فعل الوطء فلا يضاف إليها مباشرته أبدًا) أي بطريقة الحقيقة؛ (لأنه لا تحتمل ذلك). فإن قيل: يحتمل أن فعل النكاح بمعنى الوطء أضيف إليها مجازًا لوجود

التمكين إليه كما أضيف الزنا غليها كذلك. قلنا: لو ترك الحقيقة في موضوع باعتبار عدم إمكان الحمل على الحقيقة لا يلزم أن تترك الحقيقة عند إمكان الحمل عليها، ففي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لم يمكن العمل بحقيقته فحمل على مجازه، وأما هاهنا فالعمل بحقيقة النكاح الذي هو الوطء بأن أضيف فعل النكاح الذي هو الوطء إلى الزوج، وأضيف مجاز النكاح الذي هو العقد- لأنه سببه- إلى المرأة ممكن؛ فلذلك أضفنا حقيقة النكاح إلى الزوج. (ثم نكحت بعبد الرحمن بن الزبير) - بفتح الزاي- فعيل من الزبر وهو: الزجر، والمنع. كذا في المغرب. وبخط الإمام تاج الدين الزربوخي- رحمه الله-: الزبير- بفتح الزاي- من يهود قريظة.

وأسلم ابنه عبد الرحمن بن الزبير، روى عنه ابنه الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، فاسم ابنه بالضم، واسم أبيه بالفتح. ("لا حتى تذوقي من عسيلته") العُسيلة: تصغير العَسلة، وهي القطعة من العسل، وقد ضرب ذوقها مثلًا لإصابة حلاوة الجماع ولذته، وإنما صغرت إشارة إلى القدر الذي تحل يعنى تلك الحلاوة، وإن قلت تثبت الحل. ذكره في "المغرب". (وفي ذكر العود دون الانتهاء) أي وفي ذكر رسول الله- عليه الصلاة السلام- لفظ العود وتركه لفظ الانتهاء الذي هو مدلول الكتاب بقوله: {حَتَّى تَنكِحَ} إشارة إلى ذوق العسيلة يعني لم يقل النبي- عليه السلام: تريدين أن تنتهي تلك الحرمة التي تثبت في الكتاب مغياة إلى إصابة الزوج الثاني؟ لما

أنه لو ذكره كذلك لما علم كون الزوج الثاني مثبتًا حلًا جديدًا. بل علم انتهاء تلك الحرمة بدخول الزوج الثاني لا غيرن ولما ذكر العود وغيا عدمه إلى غاية الذوق علم أن الزوج الثاني محلل؛ لأنه غيا عدم العود إلى ذوق العسيلة فينتهي عدم العود بالذوق ويجيء العود لا محالة، والعود هو الرجوع إلى الحالة الأولى، والعود الآن ثبت فيكون ثابتًا به أي بذوق العسيلة بخلاف أصل الحل؛ لأنه كان ثابتًا قبل الحرمة الغليظة، وسبب ذلك كونها من بنات آدم- عليه السلام- ليست من المحرمات إلا أن حكمه تخلف باعتراض الحرمة الغليظة، فإذا انتهت الحرمة الغليظة أمكن أن يقال: يثبت الحل بالسبب السابق، وهو كونها من بنات آدم ليست من المحرمات. فأما العود فلم يكن ثابتًا قبل ذلك وثبت الآن، فيكون حادثًا به أي بذوق العسيلة. (لعن الله المحلل والمحلل له) سمي الزوج الثاني محللًا، والمحلل من

يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة، والمبيض من يثبت البياض، فأينما وجد الزوج الثاني ثبت له هذه الصفة وهي التحليل. فإن قيل: الحل ثابت للزوج فيما دون الثلاث، فكيف يثبت الزوج الثاني الحل إذ في إثباته الحل إثبات الثابت وهو ممتنع كنفي المنفي؟ قلنا: لا كذلك؛ لأن في هذا يثبت شيئًا لم يكن هو ثابتًا قبل هذا، وهو أن الزوج الأول يملك الطلقات الثلاث بهذا التحليلن وكان يملك قبل هذا التطليقتين، فعلم بهذا أن هذا الحل غير الحل الذي كان قبل التحليل. وذكر في "الأسرار": التطليقة الواحدة إن لم توجب حرمة فهي بغرض أن توجب، ولأنهما يقولان: إن الوطء لما رفع الحرمة الثابتة بالحرمة الغليظة منع ثبوتها إذا قارن سبب ثبوت الحرمة بالطريق الأولى؛ لأن المنع أسهل من الرفع. أو نقول: إن إثبات الثابت إنما لم يعتبر إذا لم يفد شيئًا، أما إذا أفاد كان معتبرًا. ألا ترى أن شراء الإنسان ماله بماله لا يصح؛ لأن فيه إثبات الثابت وهو غير مفيد، ثم إذا اشترى ماله من المضارب يصح وإن كان فيه شراء ماله بماله؛ لأنه بالشراء هذا يحصل ملك التصرف لنفسه في ذلك المال، وكذلك إذا ضم عبده مع عبد غيره واشتراهما، فإنه يصح البيع والشراء حتى انقسم

الثمن عليهما لما أنه مفيد في جواز العقد في الآخر، فكذلك هاهنا إثبات الثابت في هذه الصورة مفيد؛ لأن الحل قبل هذا كان يزول بالطلقة أو بالطلقتين، وبعد الزوج الثاني هاهنا لا يزول الحل إلا بالثلاث، فكان مفيدًا فيصح. وقال الإمام بدر الدين الكردري- رحمه الله- في جواب هذه الشبهة: إن الحل وإن كان ثابتًا فهو ناقص بدليل أنه لا يمكن أن يورد عليها العقد الثلاث وكانت فيما قبل محلًا للعقد الثلاث، دل أن الحل انتقص فكان كحل الأمة، فإنها لما لم تكن محلًا لإيراد العقد الثلاث عليها قلنا: إن حلها ناقص عن حل الحرة، وإذا كان كذلك فالزوج الثاني يتم هذا الحل الناقص، فثبت أن الزوج الثاني لا يثبت الثابت، بل يثبت ما ليس بثابت. فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يرد عليها خمس تطليقات؛ لأن التطليقتين كانتا ثابتتين، وتثبت ثلاث تطليقات بالحل الجديد. قلنا: نعم كذلك، لكن التطليقتين عملتا عمل أربع تطليقات، وبقيت تطليقة واحدة كالمعتدة إذا تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني ثم فارقها بعد ما مضى حيضة من العدة الأولى تجب عليها ثلاث حيض أخر، وبقيت حيضتان من العدة الأولى، فكانت خمس حيض. إلا أنها إذا حاضت حيضتين انقضت العدة الأولى واحتسبت من العدة الثانية أيضًا فبقى عليها حيضة أخرى لإتمام العدة الثانية.

وقوله: (ومن صفته التحليل) أي ومن صفة الدخول (وأنتم أبطلتم هذا الوصف). بيان هذا أن الكتاب يقتضي انتهاء الحرمة الغليظة، ولا يتعرض أن هذه الغاية- وهي ذوق العسيلة- هل هي مثبته للحل أم لا؟ فنعمل بموجب الغاية وهو انتهاء الحرمة الغليظة، ونثبت للغاية صفة الإثبات على وجه لا يتعرض الكتاب، وجاز أن تكون الغاية منهية ومثبتة- كما في قوله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فيكون الاغتسال منهيًا الجنابة ومثبتًا الطهر. دل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فكذلك هاهنا ذوق العسيلة منه ومثبت للحل بدليل آخر لا يمكن رده، فإذا عملنا بما عملتهم وأثبتنا شيئًا آخر وهو إثبات الحل الجديد الذي سكت عنه الكتاب فلم يكن ما ذكرنا معارضًا للكتاب، وما ذكرتم ترك لما ذكرنا من الدليل وهو نص الخاص فإذن التارك للخاص أنتم لا نحن، وهذا لأن الدخول ثبت زيادة على كتاب الله تعالى بالإجماع بالحديث المشهور ومن صفته التحليل، فكان ما قاله محمد والشافعي إبطالًا لحكم الحديث؛ لأن الحديث يقتضي أن يكون الزوج الثاني محللًا، وهما أبطلا هذا الحكم عملًا بما هو ساكت عنه نص الكتاب، وأبطلا وصف التحليل عن دليله الذي هو الدخول؛ لأن الحديث المشهور اقتضى أن يكون وصف التحليل ثابتًا بدخول الزوج الثاني أينما وجد، وهما

ذلك. وقوله: (ووصفته جميعًا) أي التحليل. ومن ذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أي ومن العمل بالخاص على قولنا: وترك العمل به على قول الشافعي حكم هذه الآية، وهو: أن الخلع عندنا طلاق، وعند الشافعي فسخ لا طلاق، فمثمرة الفسخ هي ثبوت الفرقة بين الزوجين من غير نقصان العدد في الطلاق بخلاف الطلاق، وقوله

تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، فكان قوله: {مَرَّتَانِ} أي دفعتان مرة بعد أخرى، فإن من أعطى إلى آخر درهمين بمرة واحدة لم يجز أن يقال: إعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين. وقيل: قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ}؛ لأنه لو حمل على الخبر يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى؛ لأن الطلاق قد يوجد على وجه الجمع، فدل أن المراد منه الأمر كأنه قال: طلقوا مرتين متى أردتم الطلاق والآية حجة لنا على الشافعي في كراهة الجمع؛ لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق. كذا في "شرح التأويلات". وقال في "مهذب الترجمان": {الطَّلاقُ} أي الطلاق الذي يملك فيه الرجعة {مَرَّتَانِ} في الجملة. وقوله: (ذكر الطلاق مرة ومرتين) أي مرة قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ومرتين بهذه الآية ليس المراد أنه ذكر مرة في الآية الأولى، ثم ذكر المرتين في الآية الثانية؛ لأنه حينئذ يلزم أن تكون ثلاث تطليقات، وبعد التطليقات لا تصح الرجعة، والرجعة مذكورة هاهنا. بل المراد ذكر الطلاق مرتين في الجملة. يقال بالفارسية: يكبار كفتمت، ودوبار كفتمت يعني مجموع وي

دوبارست فمعنى قوله: الطلاق مرة مرتين؛ وأعقبهما بذكر الرجعة هو: أن الله ذكر الطلاق مرة بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ}. وذكر عقيبه الرجعة بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ثم ذكر الطلاق ثانيًا بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وذكر أيضًا عقيبه الرجعة بقوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وإنما ذكر هكذا ليعلم أن الرجعة كما تكون بعد الطلاق الواحد كذلك تصح بعد الطلاقين. (ثم أعقب ذلك الطلاق بالخلع بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} بدأ بذكر فعل الزوج) في أول الآية (وهو الطلاق)؛ إذ الطلاق اسم فعله وزاد في آخر الآية فعل المرأة بقوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وتجب إفراد المرأة بالافتداء بالمال تخصيصها بالمال وهذا لأنها هي التي تشتري بضعها من الزوج، فكان الثمن على المشتري. وقوله: (وتقرير فعل الزوج على ما سبق) أي على الوصف الذي سبق وهو الطلاق؛ لما أن الخلع يوجد منهما؛ لأن المرأة لا تستبد به، وقد ذكر فعل

المرأة وسكت عن فعل الزوج، فكان تقريرًا على ما سبق من فعل الزوج على الطلاق. فإن قيل: قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال في حق الخلع {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} ولو جعلنا الخلع طلاقًا صارت التطليقات أربعًا، ولا يكون الطلاق أكثر من ثلاث؛ فلذلك حمل الشافعي الخلع على الفسخ دون الطلاق، ولأن النكاح عقد محتمل للفسخ حتى يفسخ بخيار عدم الكفاءة وخيار العتق وخيار البلوغ، فيحتمل الفسخ بالتراضي في الخلع أيضًا. قلنا: أما الجواب عن الأول؛ فإن الله تعالى ذكر التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض، فبهذا لا يصير الطلاق أربعًا. كذا في "المبسوط" فكان الخلع هو الطلقة الثالثة، فكان طلاقًا بالمال، أو الطلقة الثالثة مكان الخلع وهو الطلقة بلا مال، فعلى هذا لا يصير الطلاق أربعًا.

أو نقول: على تقرير هذا الكتاب هو أن الله تعالى ذكر الافتداء بالمال ولم يذكر فعل الزوج، فلابد من تقرير فعل الزوج؛ لأن الخلع يوجد منهما وفعل الزوج قد سبق في صدر الآية، فصار الطلاق نوعين: طلاقًا بمال وطلاقًا بغير مال، فوصل الطلقة الثالثة بالطلاق بالمال، فكانت التطليقات ثلاثًا لا أربعًا. أو نقول: المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} بيان شرعية الرجعة بعد الطلاقين لا وقوعهما، يعني لو وقع الطلاقان ثبتت الرجعة كما لو وقع طلاق واحد، فكان هذا إخبارًا عن شرعيته لا إخبارًا عن وقوعه، وكذلك من ذكر الخلع بيان شرعية الخلع وكونه طلاقًا، وكذلك من قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه} بيان الحرمة الغليظة بعد الطلقات. والدليل عليه أنه ذكر حكم الطلاق في مواضع أخر، فلو كان المراد منه الوقوع كان زائدًا على الثلاث لا محالة. وأما الجواب عن الثاني فنقول: النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه. ألا ترى أنه لا ينفسخ بالهلاك قبل التسليم، وأن الملك الثابت به ضروري لا يظهر إلى في حق الاستيفاء، وأما الفسخ بسبب عدم الكفاءة فسخ قبل التمام فكان في معنى الامتناع عن الإتمام، وكذلك في خيار العتق والبلوغ. وأما الخلع فيكون بعد تمام العقد والنكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه، ولكن يحتمل القطع في الحال، فيجعل لفظ الخلع عبارة عن رفع العقد في الحال مجازًا، وذلك إنما يكون بالطلاق، وفائدة هذا الاختلاف أنه لو خالعها بعد

التطليقتين عندنا لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، وعنده له أن يتزوجها. يقوله: (لا يكون عملًا به) أي بخاص الكتاب وهو الطلاق المذكور في الآية. (فأوجب صحته بعد الخلع) أي صحة الطلاق بعد الخلع. أنما قيد بقوله: بعد الخلع؛ لأن عنده يصح الطلاق بعد الطلاق على مال، فمن (وصله بالرجعى) أي ومن وصل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لا بقوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لا يكون هو عاملًا بموجب الفاء التي في قوله تعالى: {فَإن طلقَهاَ} وهي للتعقيب مع الوصل.

فإن قلت: يشكل على هذا قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بعد قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وبعد الحرمة الغليظة ليس للزوجين أن يتراجعا، فلابد أن يكون هذا متصلًا بما قبله، وهو قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فكان في هذا ترك العمل بالخاص الذي هو موجب الفاء حيث ترك وصله بما يليه. قلت: لا كذلك، بل هذه الآية متصلة بما يليها، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} فإن المراد من قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الزوج الثاني أي فإن طلق الزوج الثاني بعد الدخول بها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي فلا إثم على الزوج الأول والمرأة. كذا في "التيسير". علم بهذا أن الفاء معمولة هاهنا أيضًا بحقيقتها وهي الوصل بما يليها.

{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ذكر عقيب المحرمات بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أي ابتغاؤكم بالمال، والباء للإلصاق، فأينما وجد الطلب يكون المال ملصقًا به. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- حمه الله- فالابتغاء موضوع لمعنى معلوم وهو الطلب بالعقد، والباء للإلصاق فيثبت به اشتراط كون المال ملصقًا بالابتغاء تسمية أو وجوبًا، والقول بتراخيه عن الابتغاء ألى وجود حقيقة المطلوب- وهي الوطء كما قاله الخصم- في المفوضة إنه لا يجب المهر لها إلا بالوطء يكون ترك العمل بالخاص فيكون في معنى الفسخ له، ولا يجوز المصير إليه بالرأي. (عن الطلب الصحيح) أي عن النكاح الصحيح، وهو احتراز عن الطلب الفاسد، وهو النكاح الفاسد؛ لأنه لا يجب فيه بنفس العقد بالإجماع، بل إذا وجد الدخول في مسألة المفوضة- بكسر الواو- وهي اختيار صاحب "المغرب" وهي: التي فوضت بضعها إلى زوجها أي زوجته نفسها بلا مهر. فإنه لا يجب المهر عند الشافعي إذا ماتت قبل الوطء مع وجود العقد

الصحيح وهو خلاف النص. وقوله: (وأن تقدير العبد امتثال به) أي بإيجاب الله تعالى وتقديره، فيحتمل أن يكون هذا جواب شبهة ترد على قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} بان يقال: الله تعالى أسند الفرض- وهو التقدير- إلى العباد، وأنتم تقولون: تقدير المهر مفوض إلى الله تعالى، ولا يجوز تقديره للعبد، فكان هذا مخالفة للنص.

فأجاب عنه وقال: ذلك التقدير الذي يقدره العبد امتثال منه لتقدير الله تعالى وإيجابه. يعني إن مهور النساء مقدرة معلومة عند الله تعالى وباصطلاح الزوجين على مقدر يظهر ما كان مقدرًا معلومًا عند الله تعالى لأن العباد يقدرون ما ليس بمقدر، وعلى هذا قيم الأشياء، فإن قيم الأشياء معلومة مقدرة عند الله تعالى يظهر ذلك لنا بتقويم المقومين للأشياء على مقدر، وهذا نظير كفارة اليمين، فإن ما يأتي به العبد بأحد الأشياء الثلاثة كان امتثالًا لما كان واجبًا عليه ثابتًا عند الله تعالى. (فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب) يعني من فوض إثبات المهر وتركه والتقدير فيه على أن يقدر كيف شاء وأي قدر شاء كان مبطلًا للنص الخاص، ويتفرع عن هذا أن من تزوج امرأة بخمسة دراهم كان ذلك مهرًا عند الخصم، وعندنا تجب عشرة دراهم؛ لأن المهر مقدر عندنا بتقدير الله تعالى، وأدناه عشرة دراهم؛- لقوله عليه السلام-: (لا مهر أقل من عشرة دراهم).

فإن قلت: على هذا التقرير وقعتهم في الذي أبيتم، وهو: أنكم تأبون الزيادة بخبر الواحد على مطلق الكتاب فتقولون: الزيادة على الكتاب نسخ كما قلتم ذلك في الزيادة على قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} بقوله- عليه السلام-: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) لما أن القرآن يطلق على القليل والكثير فلا تصح زيادة تعيين الفاتحة عليه بخبر الواحد، فيجب أن يكون هاهنا كذلك؛ لأن اسم المال في قوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يقع على القليل والكثير، فلا تصح الزيادة عليه بخبر الواحد؛ لأنه نسخ وذلك لا يجوز بخبر الواحد. قلت: لا كذلكن فإن الله تعالى أشار في موضع آخر إلى أن ذلك المال مقدر. وأشار أيضًا إلى أن ذلك التقدير شرعي بقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} فيعلم التقدير بالفرض وكونه شرعيًا بضمير (نا) في {فَرَضْنَا}، ولكن ذلك التقدير مجمل فوقع هذا الخبر وهو قوله- عليه

السلام-: (لا مهر أقل من عشر دراهم) بيانًا لمجمل الكتاب، فيصح أن يقع خبر الواحد بيانًا لمجمل الكتاب بخلاف قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} فإنه لا إجمال فيه، فكانت الزيادة هناك مستلزمة للنسخ، وأما هاهنا فلان ولأن البضع من وجه في حكم النفوس حتى لا يسقط حكم الفعل فيه بالبذل، فبذل النفس لا يحصل بمجرد المال بل بمال له خطر فكذا فيما هو في حكمة؛ ولأن اشتراط الفرض فيه شرعًا لإظهار حظر البضع، وهذا المقصود لا يحصل بأصل المال؛ لأن اسم المال يتناول الحقير والخطير، وإظهار الحظر إنما يحصل بمال له خطرن وهو عشرة دراهم كما في نصاب السرقة فقدر بها. ومن ذلك قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أي ومن العمل بالخاص قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} حكي عن الأصمعي أنه قال:

كنت أمشي في البادية، فاستقبلني أعرابي له هيبة، فخفت منه سلب مالي، فقال ليك من أنت؟ قلت: فقيه. فقال: أتحفظ شيئًا من القرآن؟ قلت: نعم. فتذكرت قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقرأت هذه الآية كي يخاف لو كان قاصدًا لمالي، وقرأت في آخر هذه الآية: (والله غفور رحيم). فقال الأعرابي: القرآن ما هكذا، فتأملت، فتذكرت، فقرأت: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: القرآن هكذا، وخلى سبيلي. قال الأستاذ الكبير مولانا شمس الدين الكردري- رحمه الله-: بدأ هاهنا بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ} وبدأ في آية الزنا بقوله: {الزانية} والحكمة فيه- والله أعلم-: أن الأصل في السرقة الرجال، وفي الزنا النساء. (الجزاء المطلق اسم لما يجب لله تعالى على مقابلة فعل العبد)؛ لأن الله تعالى هو المطاع في أوامره ونواهيه لذاته؛ لأنه هو المخترع لجميع الأشياء، فترك الأمر والنهي على الإطلاق واقع على حقه فيجب الجزاء له على العبد.

فأما غير الله تعالى فليس بمطاع على الإطلاق، بل هو مطاع لغيره وهو أن الله تعالى أمرنا بإطاعته، ولهذا لو أمر غير الله إنسانًا بشيء فيه معصية الله فلا إطاعة لأحد فيه، وإذا كان كذلك فلم يفهم من ذكر الجزاء مطلقًا ما يجب للعبد على العبد، بل يفهم منه ما يجب لله تعالى على العبد، فدل ذلك على كون الجناية واقعة على حق الله تعالى على الخصوص، ومن ضرورته ألا يبقى معصومًا حقًا للعبد؛ لأنه لو بقي معصومًا حقًا للعبد لا يجب القطع؛ لأنه حينئذ يكون حرامًا لغيره، وذلك لا يوجب القطع، كما لو غصب مال إنسان لا يجب القطع لبقائه معصومًا حقًا للعبد، ولا يقال: يجوز أن يبقى الشيء معصومًا حقًا للعبد، ومع ذلك هو معصوم حقًا لله تعالى حتى يجب القطع لكونه معصومًا حقًا لله تعالى، والضمان لكونه معصومًا حقًا للعبد

كما لو قتل محرم صيدًا مملوكًا لآخر يجب الجزاء؛ لكونه جناية على الإحرام وهو حق الله تعالى، والقيمة باعتبار كونه حقًا للعبد؛ لأنا نقول: لا وجه إلى ذلك؛ لأن كونه معصومًا حقًا لله تعالى يقتضي كونه حرامًا لعينه، وكونه معصومًا للعبد يقتضي كونه حرامًا لغيرهن فلو كان كذلك لا يجب القطع؛ لأنه يصير شبهة، والحدود تندرئ بالشبهات بخلاف قتل المحرم صيدًا مملوكًا؛ لأن الجزاء لا يتعلق بكون الصيد معصومًا. ألا ترى أنه لو قتل صيدًا غير مملوك يجب الجزاء أيضًا، وإن لم يكن معصومًا ولا مملوكًا، فيجب الضمان لكونه مملوكًا لغيره، ويجب الجزاء لكونه مملوكًا لغيره، ويجب الجزاء لكونه جناية على إحرامه. ألا ترى أنه يجب الجزاء أيضًا لو قتل صيد نفسه لهذا المعنى فاختلف الموجب أما هاهنا فإنما يجب الجزاء وهو القطع لكن المسروق معصومًا مملوكًا فلابد من تحول العصمة لما بينّا. والدليل أيضًا على انتقال العصمة إلى الله تعالى أن الله تعالى أوجب هو الجزاء بمقابلة سرقة عشرة دراهم، ولو كان لحق العبد ما كان قطع اليد التي قيمتها خمسمائة دينار بمقابلة عشرة دراهم؛ لما أن ضمان العدوان مقيد بمصل. كما في الغضب بقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى

عَلَيْكُمْ} فإن قيل: لو انتقلت العصمة لكان المال المسروق بمنزلة الخمر، ولو أنه سرق الخمر لا يجب القطع. قلنا: إنما لا يجب القطع هناك لكون الخمر غير معصوم حقًا للعبد. فإن قيل: لو كانت الجناية واقعة على حق الله لما اشترطت خصومة العبد كما في الزنا وشرب الخمر؟ قلنا: خصومة العبد إنما اشترطت لتظهر السرقة لا لكون الجناية واقعة على حقه، ولهذا يقطع بخصومة المكاتب ومتولي الوقف باعتبار ظهور السرقة لا باعتبار كون الجناية عليهما؛ لأنه ليس لهما ملكن والعصمة في حق العبد باعتبار الملك، وعلى هذا يخرج شرب المسلم خمر الذمي؛ لأن وجوب الحد لا يتعلق بكونه معصومًا ومملوكًا لغيره. ألا ترى أنه لو شرب خمره يجب الحد أيضًا، بل في وقع جنايته في معصوم الله تعالى الذي هو موجب للحد على المباشر، والضمان إنما وجب لأن دياتهم صارت دافعة عدم التقوم بحكمة عقد الذمة. (ومن ضرورته تحويل العصمة) أي ومن ضرورة وقوع الجناية على حق الله تعالى تحويل العصمة. فإن قيل: متى تحولت العصمة إلى الله تعالى؟ إن قلتم: قبل السرقة، ففيه سبق الحكم على السبب؛ لأن السبب للانتقال، والتحول ليس على السرقة. وإن قلتم: بعد السرقة، فهذا غير مفيد؛ لأن السبب صادف محلًا محترمًا للمالك.

وإن قلتم: مع السرقة، فهو باطل أيضًا؛ لأن السرقة وقت الوجود ليست بموجودة، فكيف تثبت الحكم وقت الوجود؟ قلنا: تحولت العصمة إلى الله تعالى قبيل السرقة متصلًا بالسرقة لتنعقد السرقة موجبة للقطع، ويجوز سبق الحكم على السبب إذا كان ذلك الحكم شرط صحة ذلك السبب، كما في المقتضى أي في قوله: أعتق عبدك عني على ألف. فقال: أعتقت. يثبت الملك مقتضى العتق قبيل قوله: "أعتقت ضرورة صحة العتق، وكذلك في مسألة استيلاد الأب جارية الابن ينتقل الملك من الابن إلى الأب قبيل الوطء لضرورة صحة الاستيلاد، فكذا هنا. إلى هذا أشار في "كشف الأسرار"، وقد أوردناه في "النهاية"

ونظائره، وحاصله أن الجزاء لما كان واجبًا لله تعالى لزم أن تكون الجناية واقعة على حقه؛ لأن الجزاء إنما يجب لمن وقعت عليه الجناية، فإذا كانت الجناية واقعة على حق الله تعالى لزم أن يكون محل الجناية وهو العصمة منتقلة إليه، وإذا انتقلت إليه صار المسروق كالخمر، ولو أتلف خمر مسلم أو غصب فاستهلكها أو هلكت لا يجب ضمانها لما أنها معصومة لله تعالى لا للعبد، ولو كانت باقية لزم الرد؛ لأنه ماله فكذا هاهنا. (ولأن الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له) أي لأجل ما شرع له يعني يدل على أن ما هو الجزاء وهو القطع مشروع من جميع الوجوه (مأخوذ من جزي أي قضى) والقضاء: الإتمام والإحكام. قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما

(وجزاء- بالهمزة- أي كفى)، فالإتمام والكفاية يقتضيان أن يكون الجزاء مشروعًا من جميع الوجوه وكاملًا في شرعيته، وإذا كان الجزاء كاملًا في نفسه وجب أن تكون الجناية كاملة وجناية من جميع الوجوه، وإنما تكون الجناية جناية من جميع الوجوه أن لو كانت الجناية واقعة على حق الله تعالى لما أن الله تعالى واجب التعظيم لذاته، فكانت الجناية في حقه جناية من كل الوجوه. وأما الجناية على حق العبد فلم تكن جناية من كل وجه لما أن مال العبد بالنظر إلى ذاته مباح. قال الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فلا يكون أخذ ماله بالنظر إلى ذاته جناية، وإنما يكون جناية باعتبار حق المالك، فحينئذ لم تكن الجناية كاملة فلا يقع الجزاء الكامل بمقابلتها، فمن ضرورة هذا تحويل العصمة إلى الله تعالى، وإنما يظهر ذلك بالقطع يعني عند القطع يتبين أن الجناية وقعت

على حق الله تعالى حيث وقع القطع جزاء له، ومن هذا يظهر انتقال العصمة قبيل السرقة على ما ذكرناه حتى تكون الجناية واقعة على حقه؛ لأنه يكون حرامًا لمعنى في غيره وهو حق العبد، فتكون الحرمة حينئذ ناقصة فلا تكمل الجناية، فلا يجب الجزاء المطلق الكامل في نفسه بمقابلته. (ولا عصمة إلا بكونه مملوكًا)؛ لأن شرط وجوب القطع أن يكون المسروق مملوكًا معصومًا حقًا للعبد، وإنما ينتقل من العبد إلى الله تعالى ضرورة وجوب القطع لما بينا من ذكر الجزاء المطلق إلى آخره، ولا يلزم من بطلان العصمة في حق العبد بطلان الملك؛ لأن الموجب لانتقال العصمة قد وجد، ولم يوجد ما هو موجب لبطلان الملك؛ لأنه يمكن أن يكون مملوكًا للعبد وإن لم يكن معصومًا له ويجب الحد مع ذلك، كما أن شرب الخمر مملوكًا لإنسان يجب الحد' ولا يصير كونه مملوكًا شبهة في درء الحد كما إذا شرب خمره فلا ضرورة في بطلان الملك، ثم قوله: "ولا عصمة إلا بكونه مملوكًا"؛ يتراءى أنه ينتقض بما إذا سرق مالًا موقوفًا يجب فيه القطع، وقد ثبت كونه معصومًا مع أنه غير مملوك. علم بهذا أن قوله: "ولا عصمة إلا بكونه مملوكًا" مما لا يصح. قلنا: لا ينتقض؛ لأن الموقوف مملوكًا عند بعض العلماء للموقوف عليه. أو نقول: إنه يبقى على ملك الواقف حكما، ولهذا يرجع الثواب به.

وقيل: إن علة الوقف إن كانت للذي هو أهل للملك تصير مملوكة له، وإن كانت للذي لم تكن أهلًا كالمسجد وغيره يبقى على ملك الواقف تبعًا لأصلها. (حتى إذا وجد الخصم بلا ملك) أي بلا ملك المدعي وهو الحافظ، وقوله: ونحوهما كسدنة الكعبة، وكالعبد المستغرق بالدين. (فلذلك تحولت العصمة دون الملك) أي دون المملوكية. وقوله: (ألا ترى أن الجناية تقع على المال) بيان انه لم يلزم من انتقال العصمة انتقال الملك لما أن الجناية إنما تقع على مال معصوم مملوك. (وأما الملك الذي هو صفة للمالك) غير قابل للجناية لما أن المالك من قام به الملك، وهو غير قابل للجناية ولو تصور وقوع الجناية عليه كيف ينتقل وأنه غير مشروع لما أن الانتقال إنما يتحقق أن لو لم يكن له الملك وجميع العالم مملوك له، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. والدليل على هذا أنه لا يقال هذا مملوك للعبد لا لله لما أن العبد وما في يده لمولاه، فلم يتصور نقل الملك، وأما نقل العصمة فمشروع كالخمر، فإنه قبل أن يصير خمرًا كان عصيرًا معصومًا للعبد فإذا تخمر كان معصومًا لله تعالى، وكيف ينتقل وهو غير مشروع؟ لأنا عهدنا في الشرع انتقال العصمة عند وجود الدليل. فأما انتقال الملك عنه وهو حي إلى غيره بدون صنع منه فلم يعهد في الشرع، فلذلك بطل القول بانتقال الملك كما قلنا في العصير المملوك: تنتقل العصمة بالتخمر مع بقاء كونه مملوكًا لله تعالى. فأما يجوز أن يكون الشيء معصومًا حقًا للعبد لا لله تعالى، ولا يمكن القول بانتقال الله تعالى عقلا؛ لأن كل الأشياء مملوكة لله تعالى، ويجوز أن يكون معصومًا حقًا لله تعالى لا للعبد، فأمكن القول بتحول العصمة دون الملك. وذكر في "المبسوط" في هذا الموضع: ولا يدخل على هذا الملك، فإنه يبقى للمسروق منه حتى يرد عليه؛ لأن وجوب القطع باعتبار المالية والتقوم في المحل.

فأما الملك بصفة المالك والفعل يكون محرم العين مع بقاء الملك. ألا ترى أن فعله في شرب خمر نفسه يكون محرم العين مع بقاء ملكه وليس من ضرورة انعدام المالية والتقوم في حقه انعدام الملك كالشاة إذا ماتت بقي ملك صاحبها في جلدها، وإن لم تبق المالية والتقوم وإذا ثبت أن المالية والتقوم صار حقًا لله تعالى خالصًا فلو وجب الضمان إنما يجب لله تعالى، وقد وجب القطع لله تعالى ولا يجمع بين الحقين لمستحق واحد كالقصاص مع الدية. قوله: (ومن هذا الأصل) أي ومن الخاص.

باب الأمر

باب الأمر (فإن المراد بالأمر) أي سواء كان وجوبًا أو ندبًا أو غيره، وقوله: "فإن المراد" صورة المسألة لا أنه تعليل لقوله: "ومن هذا الأصل". (ليس المراد بالأمر" وهو الوجوب (صيغة لازمة) أي بل يحصل ذلك المراد بالفعل كما يحصل الأمر. (أن أفعال النبي عليه السلام عندهم موجبة كالأمر) يعني إذا نقل إلينا

أن رسول الله- عليه الصلاة والسلام- فعل كذا عندهم يصح أن يقال: أمر رسول الله عليه السلام بكذا، وعندنا لا يصح. فالحاصل أن فعل النبي- عليه الصلاة والسلام- عندهم أمر على الحقيقة، وعندنا ليس بأمر. (ولو لم يكن الأمر مستفادًا بالفعل لما سمي) به أي لما سمي الفعل بالأمر؛ لأنه حينئذ يكون تسميته بلا معنى وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى؛ لأن الكلام نوعان: حقيقة ومجاز، ولا وجه للمجاز هاهنا؛ لأن طريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين محل المجاز والحقيقة صورة أو معنى، ولا اتصال بين الأمر والفعل صورة بلا شبهة، ولا اتصال بينهما معنى؛ لأن معنى الأمر هو الاستدعاء إلى الشيء، والفعل لتحقيق الشيء فلا اتصال بينهما فيما هو المعنى. فعلم بهذا أن الله تعالى أطلق اسم الأمر عليه حقيقة. (صلوا كما رأيتموني أصلي) جعل فعله موجبًا حيث قال: (كما رأيتموني أصلي).

فإن قيل: الوجوب بالأمر. قلنا: لا تنافي بينهما فيحتمل أن في فعله وجوبًا، وقد دل الدليل عليه؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام- متبوع فيكون موجبًا كما قال تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وفعله أيضًا مما آتاهم الرسول فكان موجبًا. (ولا يجوز قصور العبادات عن المعاني) يعني: روا نباشد كه عبارات از معاني كوتاه آيد يعني معنى نبود كه وي را لفظ نيايند كه وضع كنند از بهروي. لأن المهملات أكثر من المستعملات، فكيف يجوز قصور العبارة عن معنى؟ وقد وضع لمعنى واحد أسماء كثيرة، وهي الأسماء المترادفة، والمشترك ليس من قبيل قصور العبارة عن المعنى، بل هو من كمال العبارة؛ لأن لكل معنى اسمًا على حدة على الخصوص والاسم المشترك زائد على ذلك، فلم يكن قاصرًا بل كان تطويلًا وإنما وضع المشترك ابتلاء لحكمة داعية إلى ذلك أو لغفلة من الواضع، فلم يكن من باب القصور. (مثل الماضي والحال) فنظير الحال ليفعل، فالمقصود بالأمر كذلك يجب

أن يكون مختصًا بالعبارة، ولا يقال: إن المعنى الواحد يفهم بألفاظ كثيرة، وهي الأسماء المترادفة، فلا يكون المعنى مختصًا بعبارة؛ لأنا نقول: بل هو مختص بالعبارة؛ إذ هو لا يفهم بغير العبارة من الفعل وغيره، والمدعى أن المقصود بالأمر مختص بالعبارة لا بالفعل، ولا نعني به أنه مختص بعبارة واحدة. ألا ترى أن الله تعالى يسمي غلهًا باللغة العربية، ويسمى خداي باللغة الفارسية، ويسمى تنكري باللغة التركية، ويسمى في كل لسان بلغة على حدة، فلا يقال إنه غير مختص بالعبارة. (وهذا المقصود) وهو الوجوب (من أعظم المقاصد) لما أن الابتلاء يحصل به.

(وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام) - إلى أن قال:- (منكرًا عليهم: "ما لكم خلعتم نعالكم")، فدل ذلك أن فعله ليس بموجب؛ إذ لو كان موجبًا للأمر لم يكن لإنكاره معنى. كما لو أمر مثلاُ بخلع النعال فخلعوا لم يصح إنكاره بقوله: "ما لكم خلعتم نعالكم" لأنهم يقولون: إنك أمرتنا فكذلك في الفعل لو كان موجبًا لما صح إنكاره. ("يطعمني ربي ويسقيني") فيحتمل أن الله تعالى يطعمه طعامًا معنويًا يخالف الأطعمة المعروفة، كما حكي عن بعض الأولياء أنه قال:

شراب المحبة خير الشراب- وكل شراب سواه سراب كذا أورده الإمام المفسر علاء الدين الزاهد في تفسير قوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}. (لأن الفعل يجب به) أي بالأمر (فسمي به مجازًا) باعتبار إطلاق اسم السبب على المسبب، وهو نظير المشابهة بين الصور في الحسيات كما أن المطر يسمى سماءً؛ لأن السماء سببه فكذلك في الشرعيات اتصال السبب بالمسبب نظير الاتصال بين الشيئين من حيث الصورة (والنبي عليه الصلاة والسلام دعا إلى الموافقة بلفظ الأمر بقوله: "صلوا") لأنه لو كان مجرد فعله موجبًا لما قال: "صلوا". فأن قلت: ما الجواب عن قولهم: العرب تفرق بين جمع الأمر الذي هو القول، فقالوا فيه: أوامر، وبين جمع الأمر الذي هو الفعل، فقالوا: أمور، وفي التفريق بين الجمعين دلالة على أن كل واحد منه حقيقة، فكان اسمًا مشتركا، فإنه حقيقة في كل فرد أريد به، وقد يفرق بين جمعي نوعي المشترك

لكونه حقيقة فيهما، كما قال الشافعي: إن القرء الذي هو بمعنى الطهر جمعه قروء، والقرء الذي هو بمعنى الحيض جمعه أقراء. كذا ذكر في "مختلف الرواية". قلت: أما ما ذكره الشافعي فمردود عليه بقول الشاعر: يا رب ذي ضغن وضب فارض له قروء كقروء الحائض وبالحديث، وهو ما قال رسول الله- عليه الصلاة والسلام- لفاطمة بنت قيس:

"إذا أتاك قروؤك فدعي الصلاة" فعلم بهذا أن القروء تجيء جمعًا للقرء الذي بمعنى الحيض. وأما الجواب عن قولهم: العرب تفرق بين جمعي الأمرين، فقلنا: إن هذا الكلام في مخرجه باطل؛ لأن الأمر الذي هو لطلب الفعل غير الأمر الذي بمعنى الفعل وهو الشأن، ولا يطلق اسم احدهما على الآخر إلا مجازًا، وكلامنا في الأمر الذي هو طلب الفعل، وهو لا يتناول الأمر الذي هو الشأن أصلًا، وإنما يطلق اسم الأمر على الشأن بسبب أن الشأن يجب بالأمر الذي هو لطلب الفعل، فكان فيه إطلاق اسم السبب على المسبب بطريق المجاز، فكان الافتراق في الجمعين باعتبار أن كلًا منهما حقيقة في موضعه لا أن يكون الأمر الذي نحن بصدد حقيقة الأمر الذي هو بمعنى الشأن، ومن ذلك أي ومن الخاص.

[باب موجب الأمر]

[باب موجب الأمر] لأنه لما ثبت أن المراد بالأمر مختص بصيغة خاصة ثبت أن المراد بهذه الصيغة واحد على الخصوص أيضًا، وهو الوجوب؛ لكي تكون الصيغة مختصة بموجب الأمر، والموجب مخصوصًا بها أيضًا؛ لئلا يكون القصور من الطرفين جميعًا هذا في أصل الوضع. أما إذا الدليل على الندب أو الإباحة أو التقريع أو غيرها كانت صيغة الأمر محمولة عليه مجازًا، كما هو الحكم في سائر الحقائق، فلم يكن ذلك موجبًا لها.

....................................................

(التقريع): سر زنش كردن، (والتوبيخ): التهديد فإن الله تعالى بقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) يقرعه ويظهر عجزه وعدم تسلطه في حق الجميع إلا في حق من اتبعه لا غير بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ). وأما في قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) تهديد

للكافرين بسياق هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} فصار كأنه قال- والله أعلم-: إنا أظهرنا الحجج وكشفنا البينات فيما يكون للمؤمن من المثوبات العلية والدرجات السنية، وما على الكافر من العقوبات المؤلمة المثلات المعدة في الآخرة على وجه لم يبق لمسترشد شبهة، ولا لمعاند ريبة. قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، فبعد ذلك جعلنا الاختيار في يده إن شاء مال إلى الطاعة واستحق ثواب النعيم، وإن شاء مال إلى المعصية واستحق عذاب الجحيم، فسيرى الكافر إلى ما يصير أمرة من وخيم العاقبة: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وهذا تهديد كما ترى، وهو ظاهر. وذكر شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- لنظير التقريع قوله تعالى: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وهو أراد بالتقريع التعجيز، وذكر لنظير التوبيخ

قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} لما أن التوبيخ متضمن للتهديد، والتقريع متضمن للتعجيز: {اسْتَفْزِزْ} أي استخفف. وقيل: استحمل {بِصَوْتِكَ} أي بوسوستك. وقيل: هو صوت كل داع إلى المعصية. وقيل: بالغناء {وَأَجْلِبْ} أي اجمع وصح بهم مستعينا: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي بكل راكب وماش في المعصية. (ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض) يعني أن وضع الكلمات لإفهام السامع مراد المتكلم بكلامه، والاشتراك يضاد ذلك الغرض من وضع الكلام، فلم يكن الاشتراك أصلًا. وطريق ثبوت الاشتراك أن تضع قبيلة لفظًا لمعنى، وتضع قبيلة أخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر، ولم يعلموا باصطلاح تلك القبيلة، فلما اجتمعت القبيلتان في مرعى وعلم كل واحد منهما ما يستعمله صاحبة وجروا على ذلك الاستعمال أي على استعمال ذلك اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، فكان العارض حينئذ جهل كل قبيلة بوضع الأخرى. وقيل: العارض غفلة من الواضع يعني غفل الواضع عن وضع هذا اللفظ بإزاء معنى، ووضع ذلك اللفظ أيضًا لمعنى آخر يخالف المعنى الأول،

وهذا إنما يستقيم إذا كان الواضع مخلوقًا. وقيل: العارض أثر الحكمة التي دعت الواضع الحكيم إلي وضع هذا اللفظ لمعنى آخر للابتلاء. (ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير) يعني أن موجب الأمر واحد علي الخصوص وهو الوجوب ثم يستعمل الأمر في غير موجبه لضرب من الدليل المغير كاستعمال الأمر للندب علي قول من قال موجبه الوجوب بضرب من الدليل المغير بدليل تفصيلي أنه لا يراد به الوجوب أو استعمال الأمر للإيجاب علي قول من قال: موجبه الندب بضرب من الدليل المغير عما هو موجبه، وهو أن يثبت بالدليل أن المراد به الوجوب لا الندب (كسائر ألفاظ الخصوص) كقولهم: جاءني زيد، فإن موجبه واحد علي الخصوص، وهو مجيء نفس زيد، ويحتمل التغير عن ذلك بدليل مغير بأن يكون المضاف محذوفا أي جاءني خبر زيد أو كتابه أو غلامه، فاستعمالهم لذلك اللفظ لتلك المعاني لضرب من الدليل المغير وهو ثبوت عند مجيئه يقينا، فلذلك الدليل المغير اضطررنا إلي تغييره عنا هو موجبه وهو العارض، وكذلك في استعمال الأسد في حق الرجل الشجاع إنما كان ذلك بدليل مغير عن حقيقته المخصوصة به بأن قال: رأيت أسدا يرمي، وكذلك في غيره كما في قوله: أنت حر،

وأنت طالق ما هو الموضوع له مراد علي الخصوص إلا إذا قرن به دليل مغير غيره عن موضوعه الذي هو ثبوت العتق والطلاق في الحال وهو ذكر الشرط بأن قال: أنت حر إن دخلت الدار، وكذلك في قوله: أنت طالق لو قرن بآخره إن دخلت الدار يتغير الكلام عن موضوعه علي الخصوص. وقوله: "ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب الأمر لمعان مختلفة مع أن صيغة الأمر للوجوب حقيقة لا غير، والمشترك في الاصطلاح إنما يستعمل فيما إذا استعمل لفظ واحد لمعنيين مختلفين فصاعدا بطريق الحقيقة. علم بهذا أنه لم يرد بهذا الاشتراك ما هو المفهوم من اللفظ المشترك، بل أراد به استعمال لفظ الأمر فيما هو حقيقة فيه وفيما هو مجاز فيه. قوله: (قالوا: إن ما ثبت أمرًا كان مقتضيًا لموجبه)، إنما قيد بقوله: إن ما ثبت أمرًا؛ احتراز عن التفريغ والتوبيخ والدعاء فإن صيغة الأمر في حق هذه الأشياء لا للأمر بالإجماع؛ لأن حقيقة الأمر طلب الفعل الصادر من الأعلى إلي الأدنى. (فيثبت أدناه وهو الإباحة) يعني أن أدنى ما يصح أن يثبت الأمر من الوجوب والندب والإباحة والإرشاد إلي الأوثق الإباحة، فثبتت هي بدون القرينة، كما إذا وكل رجل رجلا في ماله يثبت به الحفظ؛ لأنه أدنى ما يراد بهذا اللفظ، فيثبت هو لكونه متيقنا، وهذا لأن الإباحة تثبت من ضرورة الأمر؛ لأن الحكيم لا يأمر بالقبيح، فلذلك يثبت بمطلقه ما هو من ضرورة

هذه الصيغة، وهو التمكين من الإقدام عليه، وهو الإباحة. قلنا: هذا فاسد؛ لأن الإباحة تثبت بالإذن والإباحة، وهذه الصيغة موضوعة لمعنى خاص وهو طلب الفعل، فلابد أن يثبت بمطلقها فوق ما يثبت بالإذن والإباحة ويعتبر الأمر بالنهي، فكما أن مطلق الأمر يقتضي حسن الأمور به علي وجه يجب الائتمار. (قالوا: لابد مما يوجب ترجيح جانب الوجود)، وهذا الترجيح قد يكون بالإلزام وقد يكون بالندب، فيثبت أقل الأمرين؛ لأنه المتيقن به حتى يقوم الدليل علي الزيادة. (إلا أن هذا فاسد). يعني كون موجب الأمر الندب بهذا الدليل فاسد لأن الأمر لما كان لطلب المأمور به اقتضى مطلقه الكامل من الطلب؛ لأنه (لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم)، فإنه مفترض الطاعة يملك الإلزام، فكان الكمال هو الأصل، ولأنه لو كان للندب لا يكون لطلب الفعل من كل وجه؛ لأنه من حيث إنه لا يكون معاقبًا علي تركه لا يأتي به، ومن حيث إنه يثاب علي عله يأتي به فلا يكون مطلوبًا من جميع الوجوه، فينبغي أن يكون

مطلوبًا من جميع الوجوه؛ لأنه لا قصور في ولاية المتكلم ولا في العبارة. أو نقول: إن صيغة الأمر لا تخلو إما أن تكون حقيقة فيهما لا جائز أن تكون حقيقة في الندب مجازًا في الإيجاب؛ لأن ذلك يؤدي إلي تصويب قول من يقول: إن الله تعالى لم يأمر بالإيمان ولا بالصلاة، وهو باطل؛ لأنهما مفروضان لا مندوبان، والمفروض غير المندوب، فكان استعمالها في غير موضوعها مجازًا لا محالة، فبقي الوجهان الآخران، فالحمل علي الإيجاب في كل واحد منهما أولي. أما إذا كانت الصيغة حقيقة في الإيجاب فلكون الصيغة معمولة في حقيقتها. وأما إذا كانت حقيقة فيهما جمعا كان الحمل علي الإيجاب أولي أيضًا لتضمن الإيجاب الندب وبل زيادةً بخلاف العكس، وما قالوه من أن الحمل علي أقل الأمرين عمل بالتيقن باطل بلفظ العام، فإنه يتناول الثلاثة فما فوق ذلك ثم عند الطلاق لا يحمل علي المتيقن وهو الأقل، وإنما يجمل علي الجنس لتكثير الفائدة به فكذلك صيغة الأمر، ولو لم يكن في القول بما قالوا إلا ترك الأخذ بالاحتياط لكان ذلك كافيا في وجوب المصير إلي ما قلنا، فإن المندوب يستحق بفعله الثواب ولا يستحق بتركه العقاب، والواجب يستحق بفعله الثواب وبتركه العقاب، فالقول بأن مقتضي مطلق الأمر الإيجاب فيه معني الاحتياط من كل وجه، فكان هو أولى.

وقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} يوهم أن المعدوم شيء وليس كذلك، بل إنما سمي شيئًا باعتبار ما يؤول إليه؛ لأن الله تعالى يحول المعدوم شيئًا لا أن يكون شيئًا قبل الوجود؛ لأن إثبات الثابت محال. (وهذا عندنا) أي عندي وعند أقراني لا أن يراد به ما يقال هذا عند علمائنا الثلاثة- أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله- لأن عند عامة المتكلمين وبعض الفقهاء منهم الشيخ أبو منصور والقاضي الإمام أبو زيد- رحمهما الله- أنه مجاز عن سرعة الإيجاد (علي أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة) أي بمدلول هذه الكلمة الذي هو صفة قائمة بذات الله تعالى فكان {كُن} كلاما لله تعالى حقيقة أى مدلول {كُن}.

(من غير تشبيه) أي من غير أن يقال إنه تعالى متكلم بالكاف والنون، حتى يلزم تشبيه كلامنا أي لله تعالى كلام، لكن لا يشبه كلامه كلامنا؛ لأن كلامنا يحدث فينا، والله تعالى يتعالى عن أن يحدث في ذاته شيء وقوله: من غير تشبيه؛ نفي قول الكرامية، فإن عندهم كلام الله حادث في ذاته. وقوله: (ولا تعطيل) نفي لقول المعتزلة، فإنهم يقولون: الله تعالى ليس بمتكلم في الأزل، وإنما صار متكلما بخلق هذه الحروف والأصوات في محالها فقولهم ذلك يؤدي إلي التعطيل عن صفة الكلام؛ لأن الموصوف بصفة إنما يتصف بصفة قائمة بذاته ولما لم يكن الكلام؛ لأن الموصوف بصفة إنما يتصف بصفة قائمة بذاته ولما لم يكن الكلام قائمًا بذات الله تعالى لم يكن متكلما به فبطل قولهم؛ لأن الله تعالى متكلم بالإجماع. (وقد أجري سنته في الإيجاد بعبارة الأمر) وهو خطاب {كُن}. فإن قلت: هذا الذي ذكره هو عين مذهب الأشعرية، فإنهم يقولون

إن تكون العالم بخطاب {كن} فكان قوله {كن} تكوينا للعالم. قلت فبقوله: وقد أجري سنته؛ وقع الاحتراز عن قول الأشعرية؛ لأن عن الأشعرية تكون العالم بخطاب {كن} علي طريق الجزم والبتات علي وجه لا يجوز التخلف عنه كالعلل العقلية عن معلولاتها كقيام الحركة للتحرك، والكسر للانكسار، فعند المصنف- رحمه الله- أن تكون العالم بخطاب {كن} علي طريق إجراء السنة أي كان علي جواز أن لا يكون كذلك؛ لأن إجراء السنة إنما يستعمل فيما يغلب وجوده علي ذلك المجري يإجراء الله تعالى، وقد تخلف عن ذلك المجري بإرادة الله تعالى خلقه، كما أن الله تعالى أجري سنته علي أن تكون النار محرقة والماء مغرقا ولم يجعلهما علي تلك الصفة في حق الخليل والكليم- عليهما السلام-، وقد كان يحتمل أن يوجد شيء بدون الأمر، فإن عند أهل السنة والجماعة التكوين أزلي قائم بذات الله تعالى، وهو تكوين لكل جزء من أجزاء العالم عند وجودة لا أنه يوجد عنده كاف ونون عند عامة المتكلمين من أصحابنا. وعند فخر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما خطاب مدلول {كن}

موجود على الحقيقة عند إيجاد كل شيء فالحاصل أن عند فخر الإسلام ومن تابعه في إيجاد شيء شيئان: الإيجاد، وخطاب {كن} أي مدلوله. فإن قيل: فإذا حصل وجود العالم بالتكوين فما الفائدة في خطاب {كن} عند الإيجاد؟ قلنا: وردت الآيات في هذا في كثير من المواضع منها ما ذكر هاهنا، ومنها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} زمنها قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فقلنا بموجبها ولا نشتغل بطلب الفائدة كما قلنا في الآيات المتشابهة، ولا نشتغل بسوي ذلك علي ما هو المختار عند كثير من السلف مع اعتقاد أن ما يوجب نقيضه غير مراد بالآيات المتشابهة، فكذلك هاهنا نقول بوجود خطاب {كن} عند الإيجاد من غير تشبيه ولا تعطيل؛ ولأن فيه بيان إظهار عظمته وكمال قدرته كما أن الله تعالى يبعث من في القبور، يبعثه ولكن بواسطة نفخ الصور، وكذلك هاهنا خلق الأشياء بواسطة الأمر.

فإن قيل: الخطاب بالأمر المعدوم كيف يصح؟ قلنا: هذا أمر يكون مطالبة الفعل من المخاطب حتى يشترط فيه وجود المخاطب وعلي أمر التكوين يترتب ما هو المقصود منه وهو الوجود، فلما تحقق ما هو المقصود من ذلك الأمر استقام هو كما استقام الأمر للموجود، ولأن كلام الله تعالى أزلي وكذلك التكوين، وكل أزلي يستحيل العدم فيبقي كل منهما إلي وقت وجود المخاطبين، فلم يخل عن العاقبة الحميدة، فكان حكمه بخلاف الكلام المحدث فإنه مستحيل البقاء، فإذا وجد به الخطاب في حال عدم المخاطب لم يبق الخطاب إلي وقت وجود المخاطب، فلا تتعلق به العاقبة الحميدة، فلذلك كان هو سفها، وما نحن فيه حكمة إلي هذا أشار في «تبصير الأدلة».

(ولو لم يكن الوجود مقصودًا بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد) أي مقرونة للإيجاد. فعيله بمعني مفعولة أي لما استقام الأمر قرينة للإيجاد لأنه حينئذ يكون تعليل ما ليس بعلة وذلك لا يجوز خصوصًا من الحكيم الذي لا يسفه. كما لا يجوز أن تقول: سقيته فأشبعته، أو أطعمته فأرويته؛ لأن الفاء في مثل هذا الكلام إنما تدخل في حكم ما سبق، لأن العرب تقول: سقاه فأرواه، وأطعمه فأشبعه أي حكما للسقي والإطعام. ولهذا قال علماؤنا- رحمهم الله- في الحديث: [إن رسول الله صلي الله عليه وسلم سها فسجد] يكون وجود السجود حكما للسهو فلا يجب بالعمد فكذلك هاهنا كون الشيء لو لم يصلح أن يكون أثرًا للأمر لا يستقيم القران به، ثم الإيضاح في وجه التمسك بهذه الآية علي أن الأمر للوجوب هو أن الله تعالى جعل أمره لشيء علة لوجود ذلك الشيء، فكان أمره للمكلف بشيء

من العبادات وغيرها يجب أن يكون كذلك. يعني لو أراد وجود المأمور به من المكلف يأمره به فيوجد المأمور به ضرورة، كما في هذه الآية أخبر انه لو أراد وجود شيء من العالم يأمره بوجود فيوجد، وفي حق المكلف أيًا وجد امر الله تعالى بإتيان المأمور به، فكان علي ذلك النسق ينبغي أن يوجد المأمور به من المكلف من غير اختيار من المكلف كما في إيجاد شيء من العالم أنه يوجد ذلك الشيء من غير اختيار منه بمجرد الأمر. إلا أنا لو قلنا ذلك يلزم الجبر علي المكلف ويسقط الاختيار، وللعبد اختيار في إتيان الطاعة والمعصية لتحقيق الابتلاء. قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فعدلنا لذلك من الوجود إلي الوجوب لا إلي الندب والإباحة؛ لما ان الوجوب أكثر إفضاء إلي الوجود من الندب والإباحة. أعني لما لم يكن الوجود مرادًا من الأمر الوارد علي المكلف لضرورة نفي الخبر منه اضطررنا إلي أن نحمل ذلك الأمر إلي الشيء الذي هو أقرب للوجود وأكثر إفضاء إليه وهو الوجوب، وكذلك في الآية الثانية، فالمراد من القيام الوجود كما في قولهم: الأعراض قائمة بالأعيان، فقد نسب القيام أي الوجود إلي الأمر، فعلم بهذا أن الأمر علة الوجود، ثم العدول من الوجود إلي الوجوب للمعني الذي ذكرناه آنفًا.

{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الله تعالى حذر المخالفين عن أمر {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والحذر إنما يجب عند وجوب المأمور به؛ لأنه لو لم يكن واجبا لم يكن الحذر واجبًا؛ لأن حد غير الواجب هو أن لا يكون العقاب علي تقدير الترك. (وكذلك دلالة الإجماع حجة) يعني أن الإجماع في مثل صورة المتنازع يدل علي ثبوت المدعي هاهنا، وهو أن العقلاء أجمعوا عند إرادة فعل من شخص لم يكن في وسعهم أن يطلبوا إلا بلفظ الأمر وهذا في المخلوقين، فالإجماع علي ذلك هناك دليل علي أن الأمر الصادر من الشارع أيضًا يدل علي الوجوب. بل كان هذا أولي في اقتضاء الوجوب من أمر المخلوقين؛ لأن الله تعالى مفترض الطاعة علي الإطلاق، وهو المراد بالإجماع فيما ادعينا؛ لأن المسألة ليست بمجمع عليها، إلا أن دلالة الإجماع مثل الإجماع؛ لأن الدلالة تعمل عمل الصريح عند عدم الصريح بخلافه، فلذلك أطلق عليه اسم الإجماع فيما سبق.

وكان هذا نظير ما قال علماؤنا- رحمهم الله-: إن سؤر الكلب نجس بدلالة الإجماع يعني أن الإجماع منعقد علي وجوب غسل الإناء من سؤره، فدل ذلك علي نجاسة سؤره بالإجماع، فكذلك هاهنا لم يكن في وسعه أن يطلبه إلا بلفظ الأمر. فإن قبل: بل كان في وسعه أن يقول: أوجبت عليك أن تفعل كذا. قلنا: إنه أمر معني أيضًا؛ لأن تقديره: أوجبت عليك لأني أمرتك بكذا، فكان قوله ذلك إخبارًا عن الأمر، فيكون الوجوب بالأمر، وهذا لأن قوله: افعل. فعل فعل الضرب في الزمان الماضي، فالمطول والمختصر بمنزلة الاسمين المترادفين. (كسائر العبارات) أي في الأسامي، مثل: رجل، وجدار، وإبل، وفرس وغير ذلك، ولا يلزم الأسماء المشتركة؛ لأنها علي خلاف الأصل، فصار معني المضي للماضي حقًا لازمًا لا يتغير عما وضع له إلا بدليل كقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وهذا القول منهم في الجنة عبر عنه بعبارة الماضي لتحققه، وكونه كائنًا لا محالة فكأنه قد تحقق ومضى.

وكذلك قوله تعالى: {وسيق الذين كفروا} وقوله: ل {وسيق الذين اتقوا} وغيرها. وقوله: (ألا تري أن الأمر فعل معتمد) يتصل بقوله: فيكون حقا لازما به؛ يعني أن الأمر متعمد لازمه ائتمر أي الائتمار حكم لفعل الأمر، فيثبت الائتمار عند ثبوت الأمر كأحكام سائر العلل لا يتصور حكم العلة إلا واجبا بالعلة تراخي عنها بمانع أم اتصل بها. كذا في "التقويم". أو نقول: وكان من حق الأمر أن يوجد المأمور به ضرورة وجود الأمر؛ لأنه فعل متعد ولا يوجد الفعل المتعدي إلا والمفعول موجود كالكسر مع الانكسار، فإن الانكسار بمنزلة المفعول له؛ لأنه أثر ذلك الفعل وهذا في الفعل المتعدي المضاف إلي المفعول ثابت متحقق حيث لا يوجد الفعل غلا والمفعول موجود كما نقول: الله تعالى خالق العالم إذا اتصل أثر الخلق بالعالم، ولا

نقول: الله تعالى خالق العالم في الأزل؛ لأن ذلك يؤدي علي قدم العالم، بل نقول: الله تعالى خالق في الأزل من غير إضافة، الله تعالى خالق في الأل من غير إضافة، وفي الإضافة لابد من وجود العلقة بينهما، فكذا فيما نحن فيه، نقول: الله تعالى في الأزل آمر ناه، ولا نقول: في الأزل آمر يد وناهيه؛ لأنه لم يكن زيد فيه، وإنما نقول: آمر زيدًا إذا اتصل أثر الأمر بزيد، وإذا ثبت هذا فنقول: كلامنا في الأوامر المضاف إلي المأمورين؛ لأنا نتكلم في الأوامر إلا والمأمور به موجود؛ لأنه متعد لازمه ائتمر، لكن لو قلناه علي وفاق ما ذكرناه من الفعل المتعدي ومطاوعه يلزم الجبر ويذهب الاستبعاد والاختيار، فالجبر منتف بالضرورة، والاستبعاد واقع بالعلم القطعي، والاختبار لنا ثابت ضرورة، ولما كان كذلك أقيم الوجوب علينا مقام وجود المأمور به؛ لئلا يلزم الجبر ويتعطل الفعل المتعدي المضاف إلينا، فقضيته الأمر لغة أن يثبت إلا بالامتثال؛ لأن الامتثال وهو الائتمار لازم الأمر كالانكسار لازم الكسر فكما لا وجود للكسر بدون الانكسار فكذلك لا وجود للأمر بدون الائتمار لغة. فإن قلت: لا نسلم أن الائتمار لازم الأمر خاصة كالانكسار للكسر، بل له لازم آخر وهو العصيان. ألا تري أنه كما يصح أن يقال: أمرته فائتمر، كذلك يصح أن يقال: أمرته فعصى. علم بهذا أن الائتمار ليس نظير الانكسار لغة في خصوصية اللزوم.

قلت: بل هما أي الانكسار والائتمان نظيران لغة في خصوصية اللزوم لفعليهما المتعديين إلا أنه صح أيضا أمرته فعصي لضرورة بقاء اختيار المكلف. أعني أن صحة ذلك إنما نشأت من قبل بقاء اختيار المأمور، ولو لم يكن له اختيار لوجد الائتمار ضرورة وجود الأمر كوجود الانكسار ضرورة وجود الكسر، وهذا لأن لازم المشتق منه الائتمار لا العصيان، فكان الائتمار نظير الانكسار لا العصيان، فلذلك كان إلحاق الائتمار بالانكسار أولي من إلحاق العصيان بالانكسار، وهذا واضح بحمد الله تعالى. (وإن كان ضروريًا) أى وإن كان الاختيار ضروريًا، وهذا ليس بتناقض؛ لأن المراد به أن هذا الوصف اختياري، وهذا ليس بتناقض؛ لأن المراد به أن هذا الوصف اختياري، والعبد في كون هذا الفعل اختياريًا له مضطر؛ لأنه ليس في يده دفع الاختيار عن نفسه فكان مضطرًا فيه إلا أن اختيار أحد الضدين علي الآخر نوع تصرف واختيار منه، فينتفي به الجبر. (فنقل حكم الوجود) أي حكم الأمر وهو وجود الائتمار لغة علي ما بينا إلي الوجوب لا أن الحكم شيء آخر، والوجود شيء آخر، بل هوهو، كقولنا: علم الطب أى علم هو الطب يعني فنقل حكم وجود الائتمار إلى

الوجوب لا إلى شيء آخر؛ لأن الوجوب يفضي إلي الوجود في الغالب؛ لأن العقل والديانة يحملانه علي ذلك؛ لأن العقل لا يجوز الوقوع في العقوبة بخلاف الندب والإباحة؛ لأنهما لا يفضيان إلي الوجود إفضاء الوجوب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي؛ لأن التوقف في الأمر لكونه مستعملا لمعان مختلفة علي ما ذكر في أول هذا الباب. وهذا المعني موجود في النهي؛ لأن النهي استعمل أيضًا لمعان مختلفة منها: نهي تحريم، وهو الظاهر كما في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، وقوله: {لا تَاكُلُوا الرِّبَا}. ونهي تنزيه كما في قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} نهي كراهة كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، ونهي شفقة كالنهي عن المشي في

نعل واحد، واتخاذ الدواب كراسي، وكالاستنجاء علي الجدار. ونهي ندب كالنهي عن الاستنجاء في الحوض الذي يشرب منه، (فيصير حكمهما) وهو التوقف (واحدًا وهو باطل) إذ حكم أحد الضدين حكمهما واحدا؛ هذا غير مسلم لأن المفارقة بين الوقف في الأمر وبين الوقف في النهي ثابتة، فكيف يصير حكمهما واحدا؟ وهذا لأنه لو توقف في النهي حصل به المقصود وهو الانتهاء ولا يحصل المقصود بالتوقف في الأمر. فعلم بهذا أن المفارقة بين الوقفين ثابتة، فكيف يثبت اتحاد حكمهما مع وجود مثل هذه المفارقة التي هي بين النفي والإثبات؟ قلت: لا يحصل المقصود بالتوقف في الانتهاء أيضًا وهذا لأن المقصود

إنما يحصل إذا توقف علي الوجه الذي نهي عنه لا علي خلافه. بيان ذلك أن أحدا لو لم يأكل الربا لكن اعتقد إباحته صار كافرا وإن امتنع عن أكله لما انه لم ينته علي الوجه الذي نهاه الشارع، فإن هذا النهي يقتضي وجوب الانتهاء فعلا واعتقادًا وهو لم ينته كذلك. فعلم بهذا أنه لم يحصل المقصود بالتوقف في النهي أيضًا كما لا يحصل بالتوقف في الأمر. فإن قلت: لو ثبت في الأمر والنهي صيرورة حكمهما واحدا بسبب اتحاد التوقف لوجب أن يكون صيرورة حكمهما واحدا أيضًا بسبب اتحاد الوجوب؛ لأنا أجمعنا واتفقنا علي أن حكم كل واحد منهما الوجوب غير أن في الأمر وجوب الائتمار وفي النهي وجوب الانتهاء، وبهذا لا يقع الفرق؛ لأن مثل هذا أيضًا موجود في التوقف؛ لأن التوقف في الأمر توقف الائتمار وفي النهي توقف الانتهاء؟ قلت: ليس كذلك؛ لأنا نقول في الأمر وجوب الائتمار الذي هو مقتض وجود الفعل، وفي النهي وجوب الانتهاء الذي هو مقتض عدم الفعل، فكيف يكون المقتضي للوجود مع المقتضي للعدم بابا واحدًا وهما علي طرفي نقيض. وأما التوقف الذي قلت فهو عبارة عن عدم الفعل فهو شامل للتوقف في الائتمار وفي الانتهاء، فكان التوقف فيهما جميعًا شيئًا واحدا، فصح قوله: "فيصير حكمهما واحدا".

(يبطل الحقائق كلها)؛ لأنا لو اعتبرنا ما قاله الواقفية أدي ذلك إلي تعطيل النصوص وأحكام الشرع. بيانه هو أن من النصوص ما يحتمل النسخ والخصوص والمجاز فلو اعتبرنا وصف الاحتمال في حق إيجاب التوقف يؤدي إلي هذا، وهذا مما لا وجه له. وكان الأستاذ الكبير شمس الدين الكردي- رحمه الله- يقول في هذا المقام: أنا الشخص الذي كنت أمس بلا شك وشبهة، وإن كان في قدرة الله تعالى إعدامي وخلقه مثلي بعيني وسني، ومع ذلك لا يشك أحد في كوني أنا ذلك الشخص الموجود في الأمس، وكذلك قولهم: جاء زيد، ورأيت فلانا، وكلمت فلانا يفهم منه ما وضع هذه الألفاظ له، وإن كان يحتمل غير ذلك إلا انه إذا لم ينشأ عن دليل لم يعتبر، وكذلك العقلاء لا يحترزون عن الجلوس تحت المسقف واحتمال السقوط ثابت، إلا أنه إذا لم ينشأ عن دليل لم يعتبر ذلك، وكذلك قوله تعالى: {{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} وغير ذلك من الآيات يعلم يقينا أن رافع القواعد إبراهيم

وإسماعيل عليهما السلام، فلو اعتبر مجرد الاحتمال لوجب التوقف في الكل وذلك باطل بالاتفاق. ألا تري أنا لا ندعي أن الأمر محكم في موجبه هذا يحتمل غيره، فبقولنا هذا وفينا موجب الاحتمال حيث لم نقل إنه محكم (لأن اسم الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات) يعني مما ينفي عما وضع له مرة ويثبت أخري، بل يثبت أبدا لما وضع له يعني لا يسقط عن المسمي أبدًا كاسم الأسد لا ينفى عن الهيكل المخصوص أبدًا، وغير متردد بين النفي والإثبات بخلاف الأسد إذا قيل للإنسان الشجاع يثبت مرة بطريق المجاز وينفى عنه بطريق الحقيقة. [الأمر بعد الحظر] (استدلالًا بأصله) يعني أن مطلق الأمر للوجوب في الأصل، وكذلك صيغته أيضًا مستعملة في الإيجاب لما ذكرنا أنه لا قصور في الصيغة فيتناول

على ما يحتمله من طلب الفعل وهو الوجوب. (ومنهم من قال بالندب) فنظير الندب بعد الحظر قوله تعالى: {وَذَرُوا

الْبَيْعَ} ثم قال: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قيل: ابتغاء فضل الله طلب الرزق. (لكن ذلك عندنا بقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}) أي وصيد ما علمتم لا أن الإباحية ثبتت بقولة: {فاصطادوا} ابتداء لوروده بعد الحظر. ألا تري أن الأمر بقتل المرتد، والأمر بالرجم، والأمر بقتل قاطع الطريق جاءت بعد الحظر وهي للإيجاب. وفي قوله تعالى: {فاصطادوا} قام الدليل علي أنه ليس للإيجاب وهو الإجماع، ومن حيث العقل أيضًا، وهو أن الاصطياد شرع حقا للعبد، ولو وجب لصار حقا عليه، فيعود الأمر علي موضوعه بالنقض وذلك باطل. ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب يعني أن لفظ الأمر خاص وله موجب خاص، ثم اختلفوا بعد ذلك أن موجبه علي الخصوص أو على العموم.

[باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار]

[باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار] والفرق بين العموم والتكرار هو في قوله: طلق امرأتي، فإن العموم في ذلك أن يطلقها ثلاث تطليقات بدفعة واحدة، لأن العموم عبارة عن الشمول، والشمول فيه هو أن يملك ثلاث تطليقات بدفعة واحدة، التكرار هو أن يطلقها واحدة بعد واحدة. (قال بعضهم: صيغة الأمر توجب العموم والتكرار). (وقال بعضهم: لا بل تحتمله) والفرق بين الموجب والمحتمل: أن

الموجب أصل موضوع الكلام حتى يراد ذلك من غير قرينة والمحتمل لا يراد به غير قرينة، كما في قولهم: جاءني زيد، فموجبه مجئ زيد ومحتمله مجئ خبره أو نائبه أو غلامه، وذلك إنما يثبت عند قرينة دالة عليه وهي أن يقال ذلك عند شهرة مجئ خبره أو نائبه، وكذلك جميع أسماء الحقائق فما وضع له الألفاظ موجب لها وما أريد من المجاز فهو محتمل فيحتاج إلي قرينة دالة عليه إلا إذا صارت الحقيقة مهجورة فحينئذ تصير الحقيقة بمنزلة المجاز،

والمجاز بمنزلة الحقيقة. يعني لا يفهم بذلك اللفظ حقيقته إلا بقرينة. (وعند الشافعي يحتمل الثلاث والمثني) حتى أن الثلاث والمثنى يقع بالنية ولا يحتاج في وقوع الواحدة موجبة والمثنى والثلاث محتملة. (أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر)؛ لأن معنى قوله: طلقي نفسك؛ افعلي فعل التطليق علي نفسك (واسم الفعل) أي المصدر، إطلاق اسم الفعل علي المصدر حائز كما ذكره في "المفصل" بقوله: وربما سماه الفعل أي سمى سيبوبه المصدر الفعل. (فوجب القول بعمومه كسائر ألفاظ العموم) - يعني- إن إرادة التكرار في الأمر بمنزلة إرادة العموم من اللفظ العام فكما أن موجب العام العموم حتى يقوم الدليل علي الخصوص، فكذلك هاهنا موجب الأمر التكرار حتى يقوم الدليل علي أن المراد به المرة لا المرات، واعتبروا أيضًا الأمر بالنهي فكما أن النهي يوجب إعدام المنهي عنه عاما فكذلك الأمر يوجب إيجاده عاماً حتى

يقوم دليل الخصوص وذلك يوجب التكرار. (وجه قول الشافعي ما ذكرنا) وهو قوله: إن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر؛ (غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الإثبات فأوجب الخصوص علي احتمال العموم)، فالخصوص باعتبار أن المصدر اسم لجنس الفعل، فيصلح أن يكون اسم الجنس متناولا لأنواعه، فوقعه نكرة في موضع الإثبات غير مانع لاحتماله العموم والتكرار. ألا تري إلي قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} فقد وصف الثبور بالكثرة مع أنه وقع نكرة في موضع الإثبات. علم أن المصدر محتمل للكثرة والتكرار، وإن كان في موضع الإثبات وهو نكرة باعتبار أنه مصدر. ألا تري أنك لو قلت: رأيت رجلًا كثيرًا لا يصح، وإنما صح هاهنا باعتبار

أنه مصدر، وهو محتمل للتكرار والعموم، ثم إنما جعلنا الواحد موجبا والزائد عليه محتملا: لأن الأمر لطلب الفعل، وطلب الفعل يفتقر إلي واحد بحيث لا يتحقق ولا يوجد بدونه، فكان الواحد هو المتيقن من كل وجه فلذلك كان هو أولى بكونه موجبًا. وأما ما زاد عليه فصالح لأن يكون مرادا باعتبار أن المصدر اسم لجنس الفعل، ولكن غير مفتقر إليه في وجود الفعل، فلذلك كان هو أولى لأن يكون محتملا، وحاصلة أن الشافعي يحتج بمثل ما احتج به الأولون ولكن علي وجه يتبين به الفرق بين الأمر والنهي ويثبت به الاحتمال دون الإيجاب، وذلك أن قوله: افعل. يقتضي مصدرا علي سبيل التنكير أي افعل فعلا، وكذلك في طلق أي طلق طلاقا. أما اقتضاؤه المصدر، فلأن الفعل مركب من الزمان والمصدر، ولأن كل فعل مشتق من مصدره فلابد من إدراج المشتق منه عنه ذكر المشتق. أما اقتضاؤه التنكير؛ لأن ثبوته بطريق الحاجة إلي تصحيح الكلام وبالمنكر يحصل هذا المقصود، فأثبتناه لكونه متيقنا؛ لأن النكرة في موضع الإثبات تقع علي الواحد كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِير رَقَبَة} لكن احتمال العدد والتكرار باق بدليل استقامة قران العدد والتكرار به علي وجه التفسير في قوله: طلقها ثنتين أو ثلاثا، فلو لم يكن اللفظ محتملًا للعدد لما استقام تفسيره بخلاف النهي، فإن صيغة النهي عن الفعل تقتضي أيضًا مصدرًا علي سبيل التنكير أي لا تفعل فعلا، ولكن النكرة في النفي تعم،

فلذلك كان العموم في موضع النفي موجبا وفي الأمر محتملا. (وجه القول الثالث الاستدلال بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة). أما الكتاب: فما ذكره في الكتاب. وأما السنة: فمثل قوله عليه السلام: "الوضوء من كل دم سائل" وكذلك قوله- عليه السلام: "إنما الوضوء علي من نام مضطجعًا". قال الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-: والصحيح عندي أن هذا ليس بمذهب علمائنا، فإن من قال لامرأته: إذا دخلت الدار

فأنت طالق لم تطلق بهذا اللفظ غلا مرة وغن تكرر منها الدخول، ولم تطلق إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك، وهذا لأن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، وهذه الصيغة لا تحتمل العدد بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، وهذه الصيغة لا تحتمل العدد والتكرار عند التنجيز، فكذلك عند التعليق بالشرط إذا وجد الشرط، وإنما يحكي هذا الكلام عن الشافعي، فإنه أوجب التيمم لكل صلاة، واستدل بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا}. وقال: ظاهر هذا الشرط يوجب الطهارة عند القيام إلي كل صلاة. غير أن النبي- عليه السلام- لما صلي صلوات بوضوء واحد ترك هذا في الطهارة بالماء لقيام الدليل، وبقي حكم التيمم علي ما اقتضاه أصل الكلام وهذا سهو، فالمراد بقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي وأنتم محدثون. عليه اتفق أهل التفسير، وباعتبار إضمار هذا السبب يستوي حكم الطهارة بالماء والتيمم، وهذا الجواب عما يستدلون به من العبادات والعقوبات فإن تكررها ليس بمطلق صيغة الأمر ولا بتكرار الشرط، بل بتجدد السبب الذي جعله الشرع سببا موجبًا له، ففي قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أمر

بالأداء، وبيان للسبب الموجب، وهو دلوك الشمس، فقد جعل الشرع ذلك الوقت سببا موجبا للصلاة إظهارا لفضيلة ذلك الوقت بمنزلة قول القائل: أد الثمن للشراء والنفقة لنكاح. يفهم منه الأمر بالأداء والإشارة إلي السبب الموجب لما طولب بأدائه. فعلم بهذا كله أن تكرر وجوب الصلاة بسبب نكرر سببها لا باعتبار أن الأمر أو التعليق بالشرط يقتضي التكرار. فلو لم يحتمل اللفظ لما أشكل عليه. يعني لو لم يكن الموجب هو التكرار لما أشكل عليه؛ لأن المفهوم من الألفاظ موجبتها خصوصا عند قيام الدليل علي أن التكرار غير مراد؛ لأن فيه حرجًا عظيمًا، وإنما أشكل عليه لكونه موجبا له فسأل كي يتضح الأمر عليه لاحتمال أن الموجب ليس بمراد، وعن هذا خرج الجواب عما يقال فيه: إن كان اللفظ يوجب التكرار لما أشكل عليه وهو من أهل اللسان؟ قلنا: إنما سأل ليعرف أن الموجب مراد أو أن غير موجبه مراد يعارض؛ لأن فيه حرجًا، فلهذا سأل لا أن يكون موجبه غير هذا.

فإن قيل: ما فائدة إعادة هذا الاحتجاج بحديث الأقرع بن حابس بعد ما أقام الدليل علي مدعي كل واحد من الفرق الثلاث؟ قلنا: هذا احتجاج للفرق الثلاث علينا، فإنا ننكر احتمال التكرار، والفرق كلهم قائلون بالاحتمال، فإن الذي يدعي الوجوب يدعي الاحتمال لا محالة، والذي يدعي الوجوب في المعلق بالشرط يدعي الاحتمال أيضًا، والشافعي قائل بالاحتمال صريحًا، فقام الدليل للكل علي زعمهم علي إبطال مذهبنا وهو أنه غير محتمل وإن لم يكن دليلًا للكل علي إثبات مذهبهم. فإن قيل: فعلي هذا ينبغي ألا يذكر الاستدلال بحديث الأقرع في وجه قول الشافعي؛ لأن الاستدلال الثاني به عين الاستدلال للأول به؛ لأنه في كلا

الموضعين يستدل به علي أن التكرار محتمل الأمر. قلنا: لا كذلك، بل الاستدلال الأول غير الاستدلال الثاني، فإن الشافعي ثمة استدل به علي أن الأمر غير موجب للتكرار، فإنه لو كان موجبًا له لما سأل عنه، وفي الثاني احتج كلهم به علي إثبات الاحتمال، فجاز أن يكون الشيء ... غير موجب للتكرار وغير محتمل له أيضًا إلي إثبات أنه محتمل للتكرار وإن لم يكن موجبًا له. (وهما اسمان فردان) أي الطلاق والتطليق، (وبين الفرد والعدد تناف)؛ لأن العدد مركب من فردين أو أفراد، والفرد غير مركب، (فكما لا يحتمل العدد معني الفرد لم يحتمل الفرد معني العدد)؛ لأن أحد الضدين لا يتناول الضد الآخر في الاحتمال. (فالبعض منه) أي الذي أقله فرد حقيقة وحكمًا، ولما كان هو فردًا حقيقة وحكمًا وقع أمره علي الواحدة بدون النية. وأما إذا كان فردًا حكما إنما يقع أمره علي الثلاث عند النية لقصوره في وصف الفردية عن الأول من حيث الحقيقة.

(ألا ترى أنك إذا عددت الأجناس) أي من التصرفات الشرعية تقول: النكاح، والطلاق، والعتاق، والوكالة، والمضاربة، وغيرها يقع الطلاق بمجموعة مقابلة تلك الأفراد في عد الأجناس؛ فلذلك كان الطلاق بأجزائه واحدًا. فأما بين الأقل والكل فعدد محض ليس بفرد حقيقة ولا حكمًا، فلذلك لم تعمل نية الثنتين أصلًا في الأمر بالطلاق؛ لأن الثنتين من الطلاق ليست بفرد حقيقة ولا حكمًا، فلم يكن لذلك من محتملات الكلام أصلًا فلم تعمل النية.

(وكذلك سائر أسماء الأجناس إذا كانت فردًا صيغة) كالماء والطعام إذا حلف لا يشرب ماءً ولا يأكل طعامًا، (أو دلالة) كما في قوله: والله لا أتزوج النساء (أنه يقع علي الأقل ويحتمل الكل). فأما قدر من الأقدار المتخللة كمن أو منين من الماء أو الطعام إذا نوى ذلك لم تعمل نيته لخلو المنوي عن صفة الفردية صورة ومعني فلا تعمل النية؛ لأن النية وضعت لتعيين بعض ما احتمله اللفظ، فلما لم يحتمله لفظه ذلك لم تعمل نيته. وقوله: (وبني آدم) في اقتضاء الجنسية بمنزلة العبيد؛ لأن العبيد محلي بالألف واللام والتي هي للجنس والإضافة هاهنا قائمة مقام الألف واللام؛ لأن معني قولهم: لا أكلم بني آدم، ومعني قولهم: لا أكلم الناس أو الآدميين، واحد، وإنما لم يذكر فيه الألف واللام؛ لأن الألف واللام في الإضافة المعنوية تتعاقبان. (إن ذلك يقع علي الأقل) حتى إنه يحنث بتزوج امرأة واحدة وبشراء عبد واحد، وفي الطعام يحنث بأكل أدني ما يتناوله اسم الطعام.

(ويحتمل الكل) أي كل النساء في العالم وكل العبيد في العالم، وكل بني آدم وكل الثياب في العالم حتى إذا نوى الكل في يمينه لا يحنث أبدا؛ لأنه لا يتصور تزوج جميع نساء العالم ولا شراء كل العبيد في العالم. وكذلك لو قال: إن تزوجت النساء، أو اشتريت العبيد، أو كلمت الناس يحنث بالواحد عند الإطلاق، إلا أن يكون المراد الجميع فحينئذ لا يحنث قط ويدين في القضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في "أصول الفقه" في فصل ألفاظ العموم. فإن قلت: ففي قوله: إن تزوجت النساء، أو إن اشتريت العبيد، أو إن كلمت الناس، أو لا أشرب ماء، أو الماء ينبغي ألا تنعقد يمينه عند إرادته الجميع علي قول أبي حنيفة ومحمد- كما في مسالة الكوز، وهي قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق، وليس في الكوز ماء لم يحنث؛ لأن من شرط انعقاد اليمين وبقائها التصور؛ لأن

اليمين إنما تعقد للبر فلابد من تصور البر ليمكن إيجابه، وشرب الماء المعدوم غير متصور فلذلك لم تنعقد اليمين، فكذلك هاهنا تزوج جميع نساء العالم، أو اشتراء جميع عبيد العالم، أو شرب جميع المياه في العالم غير متصور للواحد، فينبغي أن لا تنعقد يمينه، وأن تلغو إرادته الجميع لعدم تصورها، فتبقي يمينه هذه خالية عن النية فعند ذلك يقع الواحد علي ما ذكرت. قلت: الجواب عنه من وجهين: أحدهما\ أن نيته هاهنا صادفت حقيقة كلامه، والحقيقة حقيق بأن تراد، فبعد ذلك لم يعتبر التصور وعدم التصور بخلاف مسألة الكوز، فإن يمينه هناك لم تصادف حقيقة كلامه؛ لأنه لا حقيقة لشرب الماء المعدوم كلامه من الأصل. والثاني- إن لكلامه هنا محملًا متصور البر وهو الحمل علي الأقل، فصح يمينه كذلك لتصوره، فبعد ذلك عند إرادته الجميع لا تلغي يمينه بعد صحتها ولأنه لا يتفاوت الحكم بين أن تصح يمينه أو لا تصح؛ لأن علي تقدير الصحة لا يحنث أيضًا لما أن نيته الجميع صادفت حقيقة كلامه فلا يحنث في يمينه؛ لأنه بر في يمينه حيث لم يتزوج جميع نساء العالم، ولم يشتر جميع العبيد في العالم كما هو نيته. وأما في مسالة الكوز فليس ليمينه محل آخر متصور الوجود حتى تنعقد يمينه باعتباره، فلذلك لغت يمينه من الأصل ولم ينعقد؛ لأنا إذا بقيناه جمعا لغا حرف العهد أصلا يعني اجتمع هاهنا شيئان متعارضان: صيغة الجمع.

وحرف العهد، فاعتبار صيغة الجمع يلغي حرف العهد؛ لأنه لا معهود في صيغ الجموع؛ لأن الجمع ما وضع لعدد معين بل هو شائع كاسم النكرة، واعتبار الجنس يخالف اعتبار الجمع، والأصل في التعارض الجمع ثم الترجيح ثم التهاتر، وهاهنا لا يمكن القول بالملخص فوجب الجمع بينهما؛ لأن المصير إلي الترجيح يوجب إهدار أحدهما لا محالة فكان الجمع أولي، وفيما قلنا جمع بينهما أي عمل بالدليلين؛ لأنا إذا جعلناه للجنس حصل العمل بحرف العهد؛ لأنه يتناول المعهود من ذلك الجنس بخلاف معني الجمع فإنه لم يوجد جمع معهود من الجموع أولي من غيره، فلذلك جعلناه للجنس؛ لأن كل جنس معهود، وفيه معني الجمع أيضًا؛ لأن في الجنس أفرادا إما تحقيقًا وإما تقديرًا، فاكن المصير إلي الجنس أولي. فإن قلت: لا نسلم أن جمعا من الجموع لم يوجد أنه أولي من غيره، بل وجد وهو الثلاث بدليل وجوب الصرف إليه عن عراء لفظ الجمع عن حرف العريف، فلما كانت أولوية الثلاث عن غيره كان هو أولي من غيره، فصلح أن يكون هو معهودا في الجموع فيصرف إليه مع الألف واللام أيضًا لكونه معهودا. قلت: لا كذلك، فإن عند ذلك يلزم إلغاء حرف التعريف لاستواء الحكم مع وجود حرف التعريف وعدمه حينئذ، ولأن تعينه عند عدم حرف التعريف

لا باعتبار أن ذلك الجمع جمع معهود، بل باعتبار أن ذلك الجمع أول الجموع الذي لا يزاحمه غيره، فكان متيقنا فكان الصرف إليه باعتبار أنه متيقن لا باعتبار أنه معهود. أو نقول: إن معني الجمع مراعي في الجنس من وجه وليس في الجمع معني الجنس أصلًا؛ وذلك لأن الجنس إذا أريد به الكل كان معني الجمع فيه موجودا وهو الثلاث فصاعدًا فيصير معني الجمع مراعي من كل وجه. وأما إذا أريد به الجمع لا يراعي فيه معني الجنس أصلًا؛ لأن الجنس ما يتناول الواحد ويحتمل الكل، وهذا المعني غير موجود في الجمع؛ لأنه لا يكون الواحد فيه مرادا بطريق الأصالة فلا يكون معني الجنس علي هذا التقدير موجود أصلًا؛ لأن الموصوف لا يبقي موصوفا بدون صفته، وعن هذا خرج الجواب لسؤال من سأل بقولهم: فإن قيل: العمل بالجمع يوجب العمل بالجنس أيضًا من وجه وهو أنه إذا أريد بالجمع الثلاث فصاعدًا كان الجنس الأدنى وهو الواحد مرادًا. قلنا: إن الواحد لما لم يرد هناك بطريق الأصالة صار كأنه لم يرد أصلًا خصوصًا عل أصل أبي حنيفة- رضي الله عنه- وهو المذهب المنصور أن الرجل إذا قال لامرأته: طلقي نفسك واحدة، فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- لهذا المعني؛ لأنها أتت بغير ما فوض إليها.

وقوله: (فكان الجنس أولي) إلي آخره. فإن قيل: يشكل علي ذلك صرف الأيام إلي عشرة أيام عند أبس حنيفة- رحمه الله- وإلي أيام الأسبوع. عندهما فيمن حلف لا يكلمه الأيام حيث لم يصرف هاهنا إلي الجنس، بل إلي الجموع علي حسب ما اختلفوا فيه قلت: جواب هذا مذكور في أول " النهاية" مشبعًا فينظر هناك وقوله: (فصار هذا وسائر أسماء الجنس سواء) أي فصار هذا الجنس وهو صيغة الجمع مع حرف الجنس الذي ليس علي صيغة الجمع مع حرف الجنس كالمرأة سواء. (وإنما أشكل علي الأقرع؛ لأنه اعتبر ذلك بسائر العبادات) أي اعتبر

الحج بالصوم والصلاة وغيرهما، فأشكل عليه يعني أن سائر العبادات متعلقة بأسباب تتكرر بتكررها، فأشكل عليه أن الحج ملحق بسائر العبادات فيحتمل أنه يتكرر لتعلقه بما يتكرر وهو أشهر الحج، ويحتمل انه لا يتكرر لتعلقه بما لا يتكرر وهو البيت فأشكل عليه لهذا المعني؛ لا أن الصيغة تحتمل التكرار (وعلي هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل علي المصدر لغة) أي فيما إذا لم يكن لقبًا لشخص فغن هناك لا يدل اسم الفاعل علي المصدر اسم جنس يتناول الواحد ويحتمل الكل كما في سائر الأجناس والكل هاهنا أي (في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} غير مراد بالإجماع فصار الواحد مرادًا)؛ لأن ما بين الواحد والكل عدد محض واللفظ الفرد لا يحتمل العدد المحض لما بينهما من التنافي، فإذن صار المراد السرقة الواحدة بهذة الآية من كل سارق فلا يجوز أن يراد بهذه الآية اليد اليسري بالسرقة الثالثة؛ لأن المراد بالأيدي الأيمان. يؤيده قراءة من قرأ: "فاقطعوا أيمانهما" فورودها علي صيغة الجمع من قبيل قوله تعالى:

{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فإن قيل: هذا الأصل الذي أصلتموه في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} منقوض في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} فإن كل الزاني غير مراد بالإجماع، فكان الواحد مرادا فيجب ألا يكون ما بين الكل والواحد مرادًا لما أن اسم الفاعل يدل علي الصدر وهو اسم جنس فلا يتناول العدد ومع ذلك يجب علي كل واحد منهما حد بعدد ما يوجد. قلنا: ليس هذا من قبيل اقتضاء الجنس العدد، بل هو من قبيل تكرر الحكم بتكرر السبب عند قبول المحل ذلك التكرر؛ لأنه لما وجد زنا من شخص فجلد، ثم لو زنا تجدد السبب فيجلد أيضًا لتجدد السبب واحتمال المحل ذلك الحكم بخلاف السرقة، فإن المراد من الأيدي الأيمان وليس كل واحد من الأشخاص إلا يمين واحدة فبعد ذلك لم يبق المحل ينبغي أن لا يجب علي السارق في المرة الثانية شيء سوي التعزيز وليس كذلك بل

يقطع رجله اليسرى في المرة الثانية بالإجماع قلت: ذاك بالإجماع الذي ذكرته وهذا من قضية الدليل الظاهر ألا يقطع في الثانية شيء من السارق، كما قلنا: أنه لا يجب في الثالثة بظاهر اسم الأيدي بقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} كما هو قول الشافعي؛ لأن في المرة الثانية لا تقطع يده اليسري بالإجماع ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول عنه إلي غيره، فلو كان النص متناولًا لليد اليسرى لما جاز قطع الرجل مع بقاء اليد. علم بهذا أن المراد من الأيدي الأيمان لا اليد اليمني مع اليسرى. إلي هذا أشار في "المبسوط". (وموجب الأمر علي ما فسرنا وهو الوجوب يتنوع نوعين): أحدهما- في صفة قائمة في الموجب، والثاني- في صفة قائمة في غير الموجب. ثم الأول يتنوع نوعين: أداء وقضاء، وهذه صفة راجعة إلي نفس الموجب. وكذلك الثاني يتنوع نوعين أيضًا: وغير مؤقتة.

باب يلقب ببيان صفة حكم الأمر (فالأداء علي ثلاثة أنواع)، فوجه الانحصار ظاهر؛ لأن الأداء لا يخلو إما أن كان كاملًا أو قاصرًا أو مختلطًا. وقوله: (أداء محض) احتراز عن أداء فيه شائبة القضاء كما في اللاحق، وقوله: (كامل) احتراز عن أداء لمنفرد؛ لأن الأداء الكامل هو الأداء بالجماعة. (وقد يدخل في الأداء قيم آخر، وهو النفل)، حتى يصح أن يقال: أدى النفل، فكان النفل داخلًا في قسم الأداء، وإنما ذكر هذا لرد صورة نقض ترد علي ما ذكره من حد الأداء، أن (الأداء اسم لتسليم نفس الأمر الواجب بالأمر.

بأن يقال: ينتقض هذا بقولهم: أدي النفل، فإن الأداء يستعمل في النفل، مع أنه ليس بتسليم نفس الواجب بالأمر، بل هو مندوب إليه لا مأمور به؛ لما ذكرنا أن حقيقة الأمر في الإيجاب. فقال في جوابه: هذا قسم آخر، وذاك قسم آخر، فكان الأداء بعد الأنواع الثلاثة علي قسمين: أحدهما: تسليم نفس الواجب بالأمر. والثاني: تسليم عين ما ندب إليه، فلم يكن هذا نقض بل كان هذا قسمًا آخر غير القسم الأول، فأحد القسمين لا يكون نقضًا للقسم الآخر. (فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف)، يعني لا يحتمل النفل وصف القضاء، فلا يدخل القضاء في النفل؛ لأن القضاء يعتمد بوجوب الأداء، والنفل ليس بواجب بالإجماع. فأما ذا شرع في النفل ثم قطع يجب القضاء؛ لأن ذلك مثل ما وجب أداؤه بالشروع. وقوله: (قال الله تعالى: {إنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَات} هذا يتصل بقوله: "والأداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر"؛ لبيان أن الذي ذكرته من تفسير الأداء أنه اسم لتسليم نفس الواجب صحيح يؤيده قوله تعالى:

{إنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَات}؛لأن أداء الأمانة لا يقع لا علي عين الشيء ونفياه لا علي مثله، فلذلك استعمل لفظ الأداء في حق الأمانة. ولهذا ذكر الأمم شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- هذه الآية متصلًا بما ذكره من تفسير الأداء، وذكر في "التقويم" وأنه في تسليم أعيانها إلي أربابها ولا قضاء الأمانات. ثم لما أدي الواجب في وقته من الصلاة سمي أداء، فأعطي للواجب الذي في ذمة المكلف حكم العين كما في أداء عين الأمانة؛ إما لأنه ليس في وسع المكلف عند شدة رعايته في تسليم عين الواجب إلا هذا، فلما أداه في وقته كان مراعيًا حقه بأقصى رعايته في تسليم الواجب فكان أداء، أو لما سمي الله تعالى للذي أوجَب علي الآدميين أمانة في قوله تعالى: {إنَّا عَرَضَنْاَ الأَمَاَنَةَ عَلَي السَّمَوَات وًالأَرْضِ وَاَلْجبِالِ فَأَبيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ} كان تسليمه لشدة الرعاية الذي هو أداؤه في الوقت بمنزلة تسليم عين الأمانة فكان أداء، وإذا قصر في رعاية كمال التسليم حتى فات الوقت كان بمنزلة الخيانة في الأمانة فكان قضاءً؛ لأنه إذا خان في الأمانة يجب الضمان، وأداء الضمان إنما يكون قضاءً حقيقة لا أداء.

(وقد تدخل إحدى العبارتين في قسم العبارة الأخرى). أما استعمال لفظ القضاء في الأداء مجازًا فلما فيه من إسقاط الواجب، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيتْمُ مَّنَاسِكَكُمْ}. وأما استعمال لفظ الأداء في القضاء مجازًا فلما فيه من التسليم كما في قولهم: أدى الدين أي قضي، لأن الديوان تقضي بأمثالها لا بأعيانها، فكان حقيقة القضاء لاء. لأن القضاء لفظ متسع) -بكسر السين- لأن الاتساع لازم- فراخ شدن- ليس له صيغة اسم المفعول، وإنما قال: إنه يستعمل في معني نفسه وفي معني اسم المفعول، وإنما قال: إنه متسع؛ لأنه يستعمل في معني نفسه وفي معني الأداء استعمالًا غالبًا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضيَتُم مَّنَاسِكَكُمْ} أي أديتم، وكذلك في قوله تعالى: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا}، وكذلك في قوله عليه السلام: "وما فاتكم فاقضوا". والمراد

منها الأداء، فعلم بهذا أن لفظ القضاء لفظ متسع يستعمل في الأداء استعمالًا ظاهرًا، وإنما ذكر لفظ الاتساع هاهنا لمقابلة ما لفظ الأداء، فإن استعمال الأداء مكان القضاء تضيق حتى لم يذكر في معني القضاء، فإنه يستعمل في معني الأداء استعمالًا ظاهرًا، وهذا لأن معنى القضاء لغة: الإلزام، والإتمام، والإحكام، والإسقاط، وهذه المعاني موجودة في الأداء، فجاز استعمال القضاء في الأداء حتي يجوز بنية الأداء في الأصح، دل عليه ما ذكره محمد- رحمه الله في رجل اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى فوقع تحريه علي شهر أنه رمضان، فصامه ثم تبين بعد مضي ذلك الشهر أنه غير رمضان، قال: إن كان قبل رمضان لا يجوز؛ لأن الأداء قبل السبب لا يجوز، وإن كان بعد رمضان يجوز، وإن كان بعد رمضان يجوز، وهذا قضاء بنية الأداء. كذا في " فتاوي قاضي خان". (وقد يستعمل الأداء في القضاء مقيدًا) حيث يصرح بالدين، فيقال:

أدى ما عليه من الدين، فإذا قرنه بالدين علم أن المراد منه القضاء، لضرورة أن أداء الدين بحقيقته لا يتصور، لأن الأداء: اسم لتسليم نفس الواجب، والدين وصف في الذمة يظهر أثره عند المطالبة، وما أداه المديون عين وليس بوصف، فلم يكن ما سلمه عين ما هو في ذمته. فعلم بهذا أن الأداء الذي استعمل فيه لم يكن علي حقيقته، بل كان هو بمعني القضاء الذي هو اسم لتسليم مثل الواجب، علي معني أن المديون لما سلم الدراهم إلي ري الدين وجب في ذمته دين للمديون بسبب أخذه الدراهم من المديون، ثم التقي ما في ذمة المديون، ثم التقي ما في ذمة المديون الأول وما في ذمة المديون الثاني وهو رب الدين قصاصًا لعدم الفائدة في الأخذ ثم التسليم ثانيًا، فكان هو تسليم مثل الواجب بهذا الطريق لا محالة فكان قضاء بحقيقته. إلا إنه استعمل الأداء مجازًا لالتقائهما في معني إسقاط الواجب؛ لأن كلا من القضاء والأداء متضمن إسقاط الواجب من الذمة، وعن هذا قالوا: إن آخر الدينين يكون قضاء عن الأول. وأما إذا لم يصرح بقران الدين عن استعمال الأداء يحمل الأداء حينئذ علي حقيقته وهي تسليم نفس الواجب، كما لو قيل: أدي ما عليه من وجوب الصلاة والصوم. يراد به أنه أداهما في وقتهما، وكذلك في أداء الأمانات والغصوب يحمل الأداء على حقيقته.

(الذنب يأدو). الأدو والأدي: فريفتن، والغابر يفعل ويفعل، فيقال: أدوات له، وأديت له أي ختلته، والأداء علي فعال مصدر المنشبعة لباب التفعيل وهو وارد فيه ورودًا ظاهرًا كالكلام والسلام والبيان، وهذا مثل يضرب في مقاساة المرء في الشيء، ومعاناته لرجاء نفع يعود إليه في عاقبته، وأصله: الذئب يأدو للغزال- أي يختله- ليأكله" وقوله: (أيجب بن مقصود)؛ أي بسبب مقصود عرفه النص أنه سبب له

وقد أوفينا تقرير هذه المسألة في " الوافي". (لأن القربة عرفت قربة بوقتها، فإن فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص)؛ لأن العقل لا مدخل له في معرفة كيفيات العبادات وكمياتها والكلام في عبادة مكيفة وهي شرعيتها في هذا الوقت فأداؤها في هذا الوقت أفضل من القضاء في غيره، والضمان يعتمد المماثلة وقد فاتت، فلا يعرف لها مثل إلا بالنص. (وبيان ذلك)؛ أي وبيان ما ذكرنا من صورة المتنازع فيه. وحاصل ذلك إن الذي ورد فيه القضاء في غيره، والضمان يعتمد المماثلة وقد فاتت، فلا يعرف لها مثل إلا بالنص. (وبيان ذلك)؛ أي وبيان ما ذكرنا من صورة المتنازع فيه. وحاصل ذلك أن الذي ورد فيه القضاء من الصوم والصلاة بالنص ورد موافقًا للقياس أم مخالفًا له؟. فعند العامة: ورد موافقًا له فصح تعليله، وتعدية حكمه إلي ما لا نص فيه من المنذورات المتعينة من الصوم والصلاة بالقياس. وقال البعض: لا يصح تعليله؛ لأنه ورد النص فيما لا يدرك بالعقل،

فلذلك لم يكن بد من ورود النص مقصودًا بأن هذا جائز له قضاء، فورد النص بتجويز القضاء في الصوم المفروض والصلاة المفروضة، فلا يقاس عليهما غيرهما في جواز القضاء. (قلنا نحن: وجب القضاء في هذا بالنص ...) إلى آخره. يعني أن الأداء كان مستحقًا عليه في الوقت بأمره، ومعلوم أن المستحق لا يسقط عن المستحق عليه إلا بإسقاط من له الحق أو بتسليم المستحق عليه، ولم يوجد واحد منهما، فبقى عليه بعد خروج الوقت؛ لأن خرج الوقت ولم يسلم فقد ترك الامتثال وترك الامتثال لا يجوز أن يكون مسقطًا، بل هو يقرر عليه ما وجب عليه؛ لأنا نعلم يقينًا أن الوقت ليس هو المراد، بل المراد هو العبادة، ومعناها: العمل بخلاف هوى النفس لتعظيم أمر الله تعالى، وذلك لا يختلف باختلاف الأوقات، وإنما يسقط فضل الوقت باعتبار العجز عن تحصيل تلك الفضيلة، وما هو المقصود وهو العبادة مقدور عليه له (لكون النفل مشروعًا له من جنسه)، فيبقى هو مطالبًا بإقامة (ما له مقام ما عليه)، وهذا لأن حقيقة الأداء تسليم حق الغير إليه، وحقيقة القضاء تسليم حقه إلى صاحب الحق، فيوجد هذا في حق النقل؛ لأنه قادر عليه فيطالب بصرف ماله إلى ما عليه.

(فسقط فضل الوقت) بلا ضمان للعجز عنه، ولا يسقط أصل الواجب قضاء للقدرة عليه. ألا ترى أن الأمر هكذا في حقوق العباد؛ فإن من غضب المثلي يؤدي المثل صورة ومعنى، فإذا عجز عن تسليم الصورة تسقط عنه للعجز بلا ضمان وتجب عليه القيمة، وإن لم تكن مثلًا له من كل وجه؛ لأنه يجب عليه ما له القدرة عليه، فلأن يسقط عنه ما لا يقدر هو عليه لعجزة في حقوق الله تعالى أولى. ألا ترى أن النسيان يصلح عذرًا في حقوق الله تعالى ولا يصلح عذرًا في حقوق العباد، فلما صلح العجز عن فصل الوصف عذرًا في حقوق العباد أولى أن يصلح عذرًا في حقوق الله تعالى، لأنه أكرم وأرحم. وقوله: ((وقال عامتهم: يجب بذلك السبب))؛ أي بالسبب الذي يوجب الأداء. فإن قيل: وجب القضاء في الصوم والصلاة بالنص فكان وجوب القضاء مضافًا إلى النص، ثم كيف يستقيم قولكم: يجب القضاء بالسبب الذي أوجب الأداء؟ قلنا: النص الموجب للقضاء يقرر ما قلنا؛ لأنه يبين أنه لم يسقط ما عليه بسبب خروج الوقت حتى وجب القضاء، فكان النص مثبتًا وجوب المطالبة، فإضافة وجوب المطالبة إلى النص لا تقدح فيما قلنا. ألا ترى أن يجب على المشتري الثمن في الذمة بالشراء، ويجوز أن يطالب بأداء ما عليه بالسبب السابق وهو الشراء، فكذا هاهنا يجوز أن يجب

القضاء بالسبب السابق وهو السبب الذي يوجب الاداء، ثم يطالب بذلك الأمر الموجب للقضاء. أو نقول: يضاف وجوب القضاء إلى النص الموجب للقضاء لكونه متيقنًا، وما ذكرنا معقول فيصار إليه عند عدم النص، كما قلنا في المعنى المؤثر للحكم: إن الحكم يضاف إلى النص، وعند عدم النص يضاف إلى المعنى المؤثر. وقوله: (للعجز) متصل بقوله: ((وسقط)). (وهذا أقيس وأشبه بمسائل أصحابنا) - رحمهم الله- فإنهم قالوا: لو أن قومًا فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها بالنهار بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة بخلاف ما إذا قضى منفردًا، ولو فاتتهم صلاة من صلوات النهار فقضوها بالليل لم يجهر إمامهم بالقراءة، ومن فاتته صلاة في السفر فقضاها بعد الإقامة صلى ركعتين، ولو فاتته حين كان مقيمًا فقضاها في السفر صلى أربعًا. ففي هذه المسائل كلها اعتبر أصحابنا صفة كانت حال بقاء الوقت وبقيت بتلك الصفة، وبقاء ما ثبت لا يفتقر إلى دليل جديد بل يضاف إلى

الموجب السابق. وقوله: (ولهذا قلنا في صلاة فاتت ...) إلى آخره. إيضاح لقوله: ((وسقط فضل الوقت للعجز))، فكذلك سقط لتكبير من الصلوات التي فاتت عن أيام التشريق للعجز عن الإتيان بالتكبير. فإن قيل: ينبغي ألا يسقط أصل التكبير عنه سرًا لقدرته عليه، ويسقط وصف الجهر لعجزه عنه، كما قلتم بوجوب قضاء الصلوات للقدرة عليها وسقوط التكبير للعجز عنه. قلنا: لا يصح ذلك أيضًا؛ لأن شرعية التكبير جهرًا في أدبار الصلوات في أيام التشريق مخصوصة بتلك الأيام، مخالفة القياس وهو الفصل بين الفرض والسنة بالتكبير في صلاة الظهر والمغرب والعشاء مع الجهر به، والفصل بين الفرض والسنة غير مشروع، وهو وإن قدر على التكبير سرًا لكن ليس هو بقادر على الفصل بينهما شرعًا، فلذلك سقط التكبير عنه سرًا وجهرًا لعجزه عنه؛ (لأنه لا تكبير عنده) أي عن المفوت بطريق الجهر. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-: لأن الجهر بالتكبير دبر

الصلاة غير مشروع للعبد في غير أيام التكبير، بل هو منهي عنه لكونه بدعة، فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه فسقط، وأصل الصلاة مشروع له بعد أيام التكبير فيبقى الواجب باعتباره. فإن قلت: فعلى هذا ينبغي ألا تقضى صلاة المغرب إذا فاتت عن وقتها؛ لأنه ليس عند المفوت نفل بثلاث ركعات، والقضاء إنما ينفعل بصرف ما له إلى ما عليه على ما ذكر في سقوط تكبير التشريق إذا فات عن وقته بقوله: ((لأنه لا تكبير عنده)). قلت: القياس يقتضي ذلك، لكن عموم قوله عليه السلام: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) يتناول صلاة المغرب كما تناول غيرها، ولا مدخل للقياس عند ورود نص يخالفه، ولأن الوتر نفل عندهما وهي مشروعة بثلاث ركعات، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- وإن كانت واجبة فآثار النفلية فيها ظاهرة من وجوب القراءة في الركعات كلها، وعدم استبدادها بوقت على حدة، وعدم الأذان والإقامة فيها، فكان الاحتياط في

القضاء لكون النفل في ملكته في الجملة. فإن قلت: ما وجه القضاء بالجماعة إذا فاتت صلاة واحدة عن جماعة فقضها بالنهار بالجماعة على ما ذكت، مع أنه غير قادر على أداء النفل بالجماعة في النهار؟ وكذلك سقوط القراءة في الأخريين في قضاء ما فاته من فرائض ذات أربع مع أنه ليس عند المفوت أربع ركعات من نفل لا يقرأ في الأخريين منه، فلم يكن القضاء في هاتين المسألتين صرف ما له إلى ما عليه؟ قلت: كلاهما كان لاعتبار رعاية وصف الأداء في القضاء على ما ذكرنا، فلما كانت الصلاة التي فاتت عن وقتها موصوفة بهاتين الصفتين في حال الأداء بقيت كذلك في حال القضاء؛ لأن القضاء يجب بالسبب الذي يجب به الأداء، ولأن إطلاق قوله عليه السلام: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) مقتض رعاية هذين الوصفين في القضاء كما في حال الأداء، فإن الضمير في ((فليصلها)) راجع إلى الصلاة التي فوتها بجميع صفاتها، ومن صفاتها الكاملة في حال الأداء الجماعة وترك القراءة في الأخريين، فكذا في حال القضاء. (ويتفرع من هذا الأصل)، أي: ويتفرع وجه التخريج من هذا الاختلاف.

(والتفويت سبب مطلق عن الوقت)؛ يعني هو سبب عن وجوب القضاء من غير أن يعين وقتًا دون وقت فيجب، عليه قضاء الاعتكاف الصوم مطلقًا عن الوقت، ولو وجب كذلك لا يتأدى في شهر رمضان كما إذا قال: لله علي أن أعتكف شهرًا لا يجوز أن يعتكف في رمضان، وهو معنى قوله: (فصار كالنذر المطلق بالقياس على ما قلنا) أي من أن القضاء يجب بالسبب الذي يجب به الأداء لا يسبب آخر، والذي قلناه قضاء الصلاة والصوم. (ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة) بأن فات عنه الاعتكاف لسب أنه لم يقدر على صوم رمضان بسبب المرض أو السفر. (وبالتفويت أخرى) بأن لم يعتكف ولم يصم من غير عذر به. هذا استدلال على أن القضاء يجب بما وجب به الأداء حيث وجب القضاء فات أو فوت، إذ لو كان كما قالوا لا يجب القضاء بالفوات؛ لأن الفوات لا يوجب الضمان إذا تعلق وجوب الضمان التفويت، كالعبد الجاني إذا مات لا يجب الضمان على المولى، ولو هلك الخارج من الأرض العشرية لا يجب العشر،

وكذلك مال الزكاة، فعلم به أنه إنما يحب عند الفوات بالسبب الموجب للأداء لا بالتفويت كما قالوا؛ لأنه لو كان سبب الضمان هو التفويت لما وجب بالفوات؛ لأنه لم يوجد فعل منه حينئذ يوجب الضمان، كما إذا فاتت الوديعة بدون تقصير المودع في الحفظ، وقد ساعدونا في وجوب القضاء عند الفوات فكان ذلك حجة عليهم. وقوله: ((للاعتكاف أثر في إيجابه)) - بدون الواو على تقدير الصفة للنكرة، وهي صومًا- أي يقتضي الاعتكاف الواجب بالنذر صومًا موصوفًا يكون وجوب بسبب الاعتكاف الواجب لا بسبب آخر، هذا هو الأصل، ولكن ترك هذا الأصل فيمن نذر بالاعتكاف في شهر رمضان فصامه واعتكف يجوز عن منذوره، مع أن ذلك الصوم إنما وجب بسبب شهود شهر رمضان لا بسب الاعتكاف الواجب بالنذر. فأجاب عنه وقال: (وإنما جاء هذا النقصان) أي جواز الاعتكاف بدون صوم واجب بالاعتكاف (بعارض شرف الوقت) يعني أن جواز الاعتكاف بهذه الصفة بعارض شرف الوقت، وهو اتصال الاعتكاف بشهر رمضان وله فضيلة على غيره من الشهور فكان الاعتكاف فيه أقوى من الاعتكاف في

غيره على ما قاله عليه السلام: ((من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)) فكان الاعتكاف فيه أفضل، فاكتفى بصوم غير واجب به باعتبار هذه الفضيلة؛ يعني أن الاعتكاف لما أدي في رمضان حصل له زيادة شرف، فانجبر بتلك الزيادة ما كان له من النقصان في شرطه وهو عدم وجود الصوم القصدي. أو نقول: لصوم رمضان فضل وشرف على سائر الصيامات، فقام بذلك الصوم بسبب شرفه مقام الصوم القصدي، فاكتفى الاعتكاف الموجود في شهر رمضان بذلك الصوم لزيادة شرف ذلك الصوم. فإن قلت: فعلى هذين الوجهين يلزم أن يجوز الاعتكاف الواجب بالنذر مطلقًا في شهر رمضان لقيام شرف ذلك الصوم مقام الصوم القصدي، وهو لا يجوز بالاتفاق. قلت: لا يلزم؛ لما أن الشرف الحاصل من القصد يزداد أثره على الشرف

الحاصل من المتضمن وإن جل خطره. ألا ترى أن النفل بتحريمه مبتدأة مقصودة أفضل وأكمل من نفل حصل في ضمن تحريمة الفرض، حتى إن مصلي الظهر إذا قعد في الرابعة ثم قام إلى الخامسة ساهيًا وسجد ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى، ويسجد للسهو لنقصان تمكن في النفل عند أبي يوسف؛ لأنه دخل في النفل لا على الوجه المسنون وهو التحريمة المبتدأة. فإن قلت: الأصل في الشرط أن يعتبر وجوده لتحقيق المشروط لا وجوده قصدًا، حتى إن من توضأ للتبرد أو للتعليم أو لمعنى من المعاني تجوز به الصلاة، وكذلك لو لبس الثوب لستر عورته عن الناس أو للحر أو للبرد يجوز به صلاته، والصوم شرط جواز الاعتكاف الواجب، فلم اشترط في صوم الاعتكاف وجوده لأجل الاعتكاف قصدًا حتى لم يصح اعتكافه في شهر رمضان عن اعتكاف أوجب على نفسه مطلقًا لعدم صوم مقصود للاعتكاف؟ قلت: ذاك الأصل فيما إذا لم يكن الشرط عبادة مقصودة في وقت من الأوقات كما في تلك النظائر، وعن هذا اشترط الشافعي- رحمه الله- النية في الوضوء باعتبار أنه عبادة مقصودة عنده بخلاف سائر شروط الصلاة. وأما الصوم فإنه ركن من الأركان الخمسة في الدين، فلما كان شرطًا للاعتكاف بالدليل اشترط القد فيه أيضًا؛ ليقع الفرق بينه وبين سائر

الشروط. (ولم تثبت القدرة) أي: على اكتساب شرف الوقت (فسقط) أي: فسقط وجوب القضاء في الرمضان الثاني للعجز؛ لأن ذلك وقت مديد يستوي فيه الحياة والموت فسقط جوبه على ذلك الوجه لذلك؛ لأن الحياة والموت إذا تعارضا تساقطا، فصارت القدرة كالساقط حقيقة. فإن قيل: الموت موهوم، والحياة متحققة في الحال، فكانت القدرة ثابتة نظرًا إلى استصحاب الحال. قلنا: العجز ثابت في الحال، فلا تثبت له القدرة باستصحاب الحال أيضًا، وإذا فات شرف الوقت وتحقق العجز عن إدراكه (بقى الاعتكاف مضمونًا بإطلاقه) فيجب بالصوم القصدي (فكان ذلك أحوط الوجهين)؛ أي الوجه الذي قيل بأن القضاء يجب بالسبب الذي وجب به الأداء أحوط من الوجه الذي قيل بأن القضاء يجب بسبب آخر وهو التفويت؛ لأنه لو أضيف إلى السبب الآخر يقتضي أن لا قضاء عليه عند الفوات، وما قلناه بوجوب القضاء عند الفوات والتفويت، فكان ما قلناه أحوط الوجهين. لأن ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة احتمل السقوط؛ أي الزيادة الثابتة بسبب شرف الوقت، يعني أن صوم رمضان أفضل من سائر الصيامات، والاعتكاف فيه أفضل من سائر الاعتكافات احتمل السقوط، فإنه إذا مضى

شهر رمضان ولم يصم ولم يعتكف فقضى اعتكافه بصوم قضاء رمضان وهو جائز بالإجماع مع أن ذلك الصوم صوم ناقص بالنسبة إلى صوم رمضان أداء، فالنقصان والرخصة الواقعة الرف لأن يتحمل السقوط والعود إلى الكمال أولى؛ يعني أن النذر بالاعتكاف يوجب صومًا قصديًا، وإنما اجز في شهر رمضان مع انعدام الصوم القصدي وهو نقصان ورخصة، فجوازه باعتبار شرف الوقت، فإذا صام ولم يعتكف يجب القضاء بالصوم القصدي ويسقط ذلك النقصان والرخصة ويعود إلى الكمال ان أولى أن يجوز؛ وهذا لأن الموجب لوجوب الصوم القصدي وهو الكمال كان موجودًا ولكن لم يظهر لمانع، فإذا زال المانع يعمل الموجب عمله، وبيان الأولوية أن هذا نقصان يعود إلى الكمال، والأول كمال يعود إلى النقصان، فلما جاز عود العزيمة إلى الرخصة؛ فلأن يجوز عود الرخصة إلى العزيمة بالطريق الأولى. (وإذا عاد لم يتأد في الرمضان الثاني) أي لما عاد إلى الصوم القصدي بسبب أنه لم يعتكف في شهر رمضان وفات الاعتكاف عن وقته عاد إلى الصوم القصدي، فبعد ذلك لا يعود إلى الصوم الضمني في الرمضان الثاني؛ لانه لما فات عن وقته ثبت في ذمته اعتكاف واجب مطلقًا، والاعتكاف الواجب مطلقًا لا يؤدي في شهر رمضان، فكذا هنا فكان هذا بمنزلة أضحية واجبة في ذمته إذا انتقلت إلى الصدقة بفوت وقتها لا تعود هي إلى إراقة الدم بعود وقتها في القابل، وعن هذا وقع الفرق بين هذا وبين حق العبد؛ فإنه إذا غضب المثلي واستهلكه وجب عليه ضمان مثله صورة ومعنى، ثم إذا انقطع أوانه ينتقل الضمان من الصورة إلى المعنى فتجب القيمة، ثم إنه إذا لم يؤد القيمة حتى جاء أوانه عاد عليه ضمان مثله صورة ومعنى؛ لكون ضمان المثل

صورة ومعنى هو الأصل هناك، فلذلك لما قدر على الأصل بطل حكم الخلف على ما هو الأصل. وأما هاهنا فالأمر بخلافة، فإن الصوم القصدي هو الأصل، فلما وجب الاعتكاف بالصوم القصدي لم يتحول الحكم إلى الصوم الضمني بتحول الوقت. (والأداء في العبادات يكون في المؤقتة في الوقت)، قوله: (في المؤقتة في الوقت)؛ خبر المبتدأ؛ أي تحقق الأداء في العبادات المؤقتة إنما يكون في الوقت لا في غير الوقت، كالصلاة والصوم؛ لأنها إذا أديت في غير الوقت يكون قضاء لا أداء. وأما في غير المؤقتة كان أداء في جميع الوقت كالزكاة والكفارات والحج، فعلى هذا كان قوله: (أبدا) خر المبتدأ، وهو قوله: والأداء (في غير المؤقتة). (والمحض) منه؛ أي الكامل من الأداء، والدليل على أن المراد من المحض الكامل ذكر القصور في مقابلته. (ألا ترى أن الجهر عن المنفرد ساقط) فوجه الاستدلال بسقوط وجوب الجهر عن المنفرد على قصور صلاته هو أن الجهر لما وجب على الإمام فيما يجهر كان هو من علامات الأداء الكامل وهو الجماعة، وإذا سقط وجوب الجهر عن المنفرد كانت علامة الكمال منه ساقطًا، فيستدل به على قصوره

لذلك، والدليل على كمال صلاة الجماعة ما روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- عن النبي عليه السلام أنه قال: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة)). أو نقول: إن الجهر بالقراءة عزيمة؛ لأنه أمر أصلي لم يثبت بعارض عذر منا، فالمصير إلى ترك العزيمة مع كون العزيمة مشروعة كان نقصانًا. (فهذا مود) أي بالنظر إلى بقاء الوقت (أداء يشبه القضاء)؛ لأنه يقضي ما فاته من صلاته مع الإمام. ثم قوله: (ألا ترى أنهم قالوا في مسافر ...) إلى آخره، إيضاح

جانب القضاء. قوله: (ولو تكلم صلى أربعًا) إيضاح الأداء. (أو نوى الإقامة وهو في غير مصره والوقت باق فإنه يصلي ركعتين)، والأصل فيه أن نية اللاحق الإقامة وهو في قضاء ما عليه وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة وإن كان الوقت باقيًا؛ لأنه فيما يتم مقتد بالإمام فنيته في مثل هذه الحالة كنية إمامه، ونية إمامه الإقامة لا تلزمه إتمام هذه الصلاة؛ يعني بعدما فرغ منها وكذلك نيته. فإن قيل: نية المقتدي معتبرة في حقه مل لم يخرج من حرمة الصلاة، وفي حق الإمام إنما لم تعتبر لخروجه عن حرمة الصلاة. قلنا: المقتدى تبع فيجعل كالخارج من الصلاة حكمًا لخروج إمامه منها، وكذلك لو دخل مصره فإن دخول موضع الإقامة ونية الإقامة في الحكم سواء، ونية المسبوق في قضاء ما عليه الإقامة أو دخوله مصره تلزمه الإتمام؛ لأن المسبقو فيما يقضي كالمنفرد، ونية المنفرد الإقامة مغيرة فرضه في

الوقت. كذا في ((المبسوط))، وهذا الذي ذكره في اللاحق مذهبنا. وقال زفر: ((تتغير صلاته بالمغير ما دام الوقت باقيًا؛ لأن اللاحق مقتد)). قلنا: إن اللاحق مع كونه مقتديًا ليس بمؤد من كل وجه؛ لأنه يستحيل أن يجعل مقتديًا خلف الإمام ولا إمام، بل هو قاض شيئًا فاته مع الإمام، فجعلناه كأنه خلف الإمام تقديرًا لا حقيقة؛ لأن العزيمة فيحقه أن يؤدي مع الإمام؛ لأنه تحرم معه، لكن الشرع جوز الأداء بعد فراغ الإمام إذا أخر الأداء بعذر وجعل أداءه في هذه الحالة كالأداء معه، وهذا تفسير القضاء بأن يؤدي شيئًا بمثل ما وجب عليه قبل القضاء، فصار اللاحق بمنزلة القاضي بهذا الطريق. إلى هذا أشار في ((مبسوط فخر الإسلام)). (أن هذا مؤد) أي اللاحق، (فإذا لم يتغير الأداء) أي صلاة إمامه بنية الإقامة (لم يتغير القضاء) أي صلاة اللاحق بعد فراغ الإمام بنية الإقامة.

(فقد بطل معنى القضاء)؛ لأنه صار ابتدائيًا فيتغير بالمغير لانعدام شبهة القضاء. (بخلاف المسبوق أيضًا) يعني أن المسبوق يؤدي أربع ركعات إذا وجدت نية الإقامة أو دخول المصر منه سواء تكلم أو لم يتكلم، وإنما قال: أيضًا؛ لأن اللاحق انقلب ركعتاه إلى الأربع بوجود التكلم عند نية الإقامة أو دخول المصر، كذلك المسبوق أيضًا انقلب ركعتاه إلى الأربع وإن لم يتكلم. وقوله: (لما بينا) يتصل بقوله: (ولهذا قلنا في اللاحق لا يقرأ). (أنه قاض) أي أن اللاحق قاض. (وأما القضاء، فنوعان) أي القضاء الحقيقي نوعان. وأما القضاء الذي هو بمعنى الاداء فليس هو بقضاء حقيقي، فلم يتناوله التقسيم. (إما بمثل معقول فكما ذكرنا) أي قضاء الصلاة للصلاة، والصوم للصوم، وفي حقوق العباد المال للمال (وإما بمثل غير معقول) أي غير مدرك بالعقل؛ بمعنى لا ندركه بعقولنا لقصور فينا لا أن يكون هو خلاف العقل

في الواقع؛ لأن العقل حجة من الله تعالى على عبده كالسمعيات، ومحال أن تتناقض حججه، إذ هو من أمارات الجهل، لكنا لا نردك المماثلة بين الصوم والفدية؛ إذ الصوم تجويع النفس، والفدية تشبيع الجائع، وكذا بين النفقة فإنها مال عين، وبين أفعال الحج فإنها أعراض وصفات، ونقول: نعتقد بينهما مماثلة يعلمها الشارع، حتى أقام الفدية والنفقة مقام الصوم وأفعال الحج. (فمثل الفدية في الصوم). قيل: ورد في الحديث إضافة الله تعالى الصوم إلى نفسه حيث قال: ((الصوم لي))، ثم إذا عجز المكلف عن الصوم أوجب عليه الفدية بنصف صاع من بر وكذا وكذا؛ ليتبين أن ما يعطيهم بمقابلة الصوم الذي قيمته نصف صاع من بر من الثواب الجزيل كان بفضله وكرمه؛ لأن الكريم من يستكثر قليل غيره ويستقل كثير نفسه. ألا ترى أن الله تعالى سمى أفضل الجنان التي أعطاها المؤمنين نزلًا وهو ما يهيأ للضيف عند النزول، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}. ثم استكثر فعل العباد بقوله: ((الصوم لي))،

وبقول النبي عليه السلام: ((التكبيرة الأولى خير من الدنيا وما فيها))، مع أن التكبيرة الاولى ليست من نفس الصلاة وأركانها، فما ظنك فيما هو من أركان الصلاة، ثم جميع الصلاة إذا فاتت يؤمر بنصف صاع لما ذكرنا من المعنى لبيان أنها قليل القيمة في نفسها، ومع ذلك يعطى بمقابلته ما يعطى من الثواب الجزيل، وهو فعل الكريم. كما قال الشاعر: وقنعت باللقيا وأول نظرة ... إن القليل من الحبيب كثير (وهذا مختصر بالإجماع) أي بإجماع أهل التفسير. كذا في ((مبسوط المصنف))، يعني تقديره: لا يطيقونه. وإنما قلنا: إنه مختصر بهذا الطريق؛

لأن سياق الآية وهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وسياقها وهو قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} لإيجاب الصوم، ثم لو أجرى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} على الظاهر يلز أن يكون وجوب الفدية على المطيقين على الصوم، ووجوب الصوم غير المطيقين على الصوم، وهذا عكس المعقول ونقص الأصول مع ما فيه من لزوم إرادة العسر الذي لا نهاية في عسره، والله تعالى نفى ذلك عن ذاته في آخر الآية بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. وهذا التقرير فيما إذا لم تحمل الآية على النسخ. أما إذا حملت على النسخ فالنظم على ظاهرة مقرر من غير اختصار. قال في ((الكشاف)): {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} نصف صاع من بر، ثم قال: وكان ذلك في بدء الإسلام، فرض عليهم الصوم، ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. (وثبت في الحج الخثعمية) وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات، كذا في ((المغرب)). (أفيجزئني) أصله بالهمز. يقال:

أجزأني الشيء: كفاني، وهذا يجزئ عن هذا/ أي يقضي أو ينوب عنه. وحكي عن علي بن عيسى أنه قال: يقال: هذا الامر يجزئ عن هذا، فيهمز ويلين.

وقوله: (أن أحج) على صيغة بناء إخبار النفس من الثلاثي لا من الإحجاج. هكذا وجد مصححًا بتصحيح الثقة، وهو فاعل يجزئني، فكان معناه: الحج الذي أحج بنفسي عن أبي هل يكفيني ذلك عما يهمني بسبب إدراك فريضة الحج على أبي؟ وفي الحديث دليل على أن أباها أمرها بالحج حيث قال رسول الله عليه السلام عقيب قولها: ((نعم، فدين الله أحق)) أي أحق أن يقبل، قاس رسول الله عليه السلام قبول الحج بقبول الدين، وإنما كان كذلك في الدين إذا كان من عليه الدين أمر بقضاء الدين؛ لأن من له الدين إنما يجبر على القبول إذا كان ذلك بأمر من عليه الحق. وأما إذا كان بغير أمره فمن له الدين الخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، فدل على أن أباها أمرها. وقوله: ((فدين الله أحق)) لأنه أكرم وأرحم. وقوله: (ولهذا قلنا: أن ما لا يعقل مثله يسقط) إيضاح لإثبات ثمرة غير المعقول في القضاء من أحكام الشرع، فكان هذا جوابًا لتقدير سؤال سائل

يسأل ويقول: ما فائدة بيان أحكام القضاء الذي هو غير معقول؟ فقال في جوابه: فائدته بيان انحصار الحكم فيما ورد الشرع به ولا تجوز تعدية حكمه إلى غيره؛ لأن من شرط التعدية أن يكون المنصوص عليه معقول المعنى، فإذا ورد حكم النص غير معقول المعنى لم يكن له مثل في موضع آخر حتى تعدى الحكم منه غليه، ولهذا قلنا: إن ما يعقل مثله يسقط؛ لأن الواجب إذا فات عن البعد وليس له مثل لا يمكن تداركه يسقط عنه من غير ضمان؛ لأن الشيء إنما يضمن المثل إما صورة أو معنى، ولما لم يكن للفائت مثل لا صورة ولا معنى يسقط عن العبد إلا بالإثم إن كان عامدًا، وهذا لأنه لما لم يكن له مثل معقول ولم يرد فيه نص بشريعة القضاء يسقط لا محالة. والدليل على هذا الذي ذكرته ما ذكره شمي الأئمة السرسخي- رحمه الله- هذه المسألة بهذا الطريق، فقل: لا مماثلة بين الصوم والفدية صورة ولا معنى، وكذلك لا مماثلة بين دفع المال إلى من ينفق على نفسه في طريق الحج وبين مباشرة أداء الحج، وما يكون بهذه الصفة لا يتأتى تعدية الحكم فيه إلى الفروع فيقتصر على مورد النص، ثم قال: ولهذا قلنا: إن النقصان الذي يتمكن في الصلاة بترك الاعتدال في الأركان لا يضمن بشيء سوى الإثم؛ لأنه ليس لذلك الوصف منفردًا عن الأصل مثل صورة ولا معنى. وإنما قلنا: إن النقصان الذي يحصل بسبب عدم تعديل الأركان ليس له مثل جابر يجبر ذلك النقصان، فإنه بعد فراغه من الصلاة لو أتى بتعديل

الأركان إما أن يأتي به بدون أن يأتي بسائر الأركان فحينئذ يربو القضاء على الأداء، فغن الفائت عنه تعيل الأركان لا غير، والقضاء إنما يكون بحسب الأداء؛ فلذلك لا تجوز زيادة القضاء على الأداء. (لأن الجودة لا يستقيم أداؤها بمثلها صورة) يعني لا يمكن تسليم الجودة منفصلة عن العين؛ لأنها عرض يستحيل قيامها بذاتها، فلا يمكن فصل العرض عن العين. (ولا بمثلها قيمة) يعني لا يستقيم أداء الجودة بالقيمة؛ لأن الجودة لا قيمة لها في الأموال الربوية على ما عرف. (واحتاط محمد- رحمه الله- في ذلك الباب) أي في باب الزكاة. ثم اعلم: أن هذا الاختلاف بينهم فيما إذا أدى خمسة دراهم زيوف مكان خمسة دراهم جياد حيث يصح عندهما خلافًا لمحمد. أما إذا أدى الدينار مكان خمسة دراهم جياد تعتبر قيمة الجودة بالاتفاق؛ لأن عند اختلاف الجنس تعتبر القيمة، فلابد من أداء الفصل. كذا في نوادر زكاة ((المبسوط)).

(ولهذا قلنا: إن رمي الجمار لا يقضى) يعني أن الحاج إذا لم يرم الجمار في وقتها حتى مضى وقت الرمي فلا يقضى بعد ذلك بل يسقط؛ لأنه ليس له مثل معقول لا صورة ولا معنى، فإنه لم يشرع فربة للعبد في غير ذلك الوقت. فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد أوجبتم الدم عليه باعتبار ترك الرمي؟ قلنا: إيجاب الدم عليه لا بطريق أنه مثل للرمي قائم مقامه، بل لأنه جبر لنقصان تمكن في نسكه بترك الرمي، وجبر نقصان النسك معلوم بالنص. قال الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} كذا ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-.

(والصلاة نظير الصوم بل أهم منه)؛ لأن الصلاة حسنة لمعنى في ذاتها، والصوم حسن لمعنى في غيره وهو قهر النفس، فكانت شرعية الصوم لتصير النفس مرتاضة إلى عبادة الله تعالى وتعظيمه، فإذن فيه جهة الوسيلة، وفي الصلاة جهة المقصودية؛ لأنها لتعظيم الله تعالى بلا واسطة، فالمقصود من العبادة أقوى من الوسيلة إليها، ولأن الصوم لا يجب على المرء بمجرد الإيمان، حتى لو آمن رجل في شوال لا يتوجه عليه خطاب الصوم حتى يمضي عليه أحد عشر شهرًا، ولو آمن في أول يوم يتوجه عليه خطاب الصلاة في ذلك اليوم خمس مرات، فكان أمر الصلاة أهم من الصوم؛ لأن لاشتمال أكثر الأوقات في العبادات تأثيرًا في إثبات القوة له، كالإيمان فإنه لما كان أشمل للأقوات من سائر العبادات كان هو أقوى من غيره فكذا هنا، وإذا ثبت هذا فنقول: لما وجبت الفدية في الصوم مع قصوره عن الصلاة فلأن تجب الفدية في حق الصلاة بالطريق الأولى، فتذكر هاهنا ما ذكرناه في ((الوافي)) من السؤال والجواب؛ فإنه يرشدك إلى تفريع فروع كثيرة، وثمرات غزيرة.

فإن قيل: لما كان لسلوك طريق الاحتياط مدخل في حكم نص ثبت بخلاف القياس لم لم نقل لانتقاض الطهارة بالقهقهة خارج الصلاة بطريق الاحتياط؟ قلنا: إن خارج الصلاة دون الصلاة، فلا يكون ذلك نظير ما قلنا من الصلاة والصوم.

فإن قيل: فلما ثبت وجوب الفدية في الصلاة بدلالة وجوب الفدية في الصوم وجب أن يثبت وجوب الفدية في الصلاة كثبوت وجوب الكفارة بالأكل والشرب في الصوم؛ يعني على القطع والبتات لا على رجاء القبول. قلنا: لا يصح هاهنا مثل ذلك؛ لأن دلالة النص هي أن يعرف حكم دلالة النص من يعرف لسان العرب، كما قلنا في الصوم: إن الأعرابي لما قال: هلكت وأهلكت عرف كل عربي أنه سأل عن الجناية التي وقعت على الصوم، والجناية على الصوم موجودة بالأكل والشرب كما توجد الجناية بالوقاع، ولا كذلك هاهنا؛ لأن الله تعالى لو أوجب علينا الصوم لا يعرف عربي من ذلك أن الصلاة واجبة عليه أيضًا، فإذا لم توجد الدلالة في الأصل فكذلك لا توجد في الخلف، فلهذا لم نقل بوجوب الفدية في الصلاة بطريق الدلالة، حتى تثبت الفدية في الصلاة كثبوتها في الصوم على القطع والبتات. (ثم لم نحكم بجوازه مثل حكمنا به ...) إلى آخره.

فعلم بهذا أن هذا ليس بقياس؛ لأن القياس إثبات مثل حكم المنصوص في حق قطع الحكم بالجواز، وفي هذا رجاء الجواز، فلا يكون قياسًا. (وروجونا القبول) أي الجواز. (فقط أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين أو بالقيمة) يعني أن من وجب عليه الأضحية إذا لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه أو كان فقيرًا تصدق بها حية، وإن كان غنيًا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر؛ لأنها واجبة على الغني، ويجب على الفقير بالشراء بنية التضحية، ثم إنما يجب التصديق بعد مضي وقتها؛ لأنه إذا مضت أيام النحر فقط سقط معنى التقرب بإراقة الدم؛ لأنها لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم، أو في زمان مخصوص وهو أيام النحر، ولكن يلزمه التصدق بقيمة الأضحية إذا كان ممن يجب عليه الأضحية؛ لأن تقربه في أيام النحر كان باعتبار المالية فيبقى بعد مضيها، والتقرب في المال في غير أيام النحر يكون بالتصديق، ولأنه كان يتقرب بشيئين: إراقة الدم، والتصدق باللحم، وقد عجز عن أحدهما وهو قادر على الآخر، فيأتي بما يقدر عليه. كذا في ((المبسوط)) و ((الهداية)).

وحاصل الجواب عن مسألة الأضحية: إنما أوجبنا التصدق باعتبار كونه أصلًا لا باعتبار كونه مثلًا لها. (وهو نقصان في المالية)، أي فعل التضحية نقصان في المالية، لأنه لم يبق صالحًا للذر والنسل، يعني لابد من مشقة تلحق المكلف في القربة، وتلك المشقة في التضحية نقصان المالية (على ما نبين في مسألة التضحية) أي في ((المبسوط)). (أيمنع الرجوع في الهبة أم لا؟) فعند محمد- رحمه الله- لا يمنع؛ لأن عنده التضحية نقصان في المالية، والنقصان لا يمنع الرجوع في الهبة. وعند أبي يوسف- رحمه الله- يمنع؛ لأن الإزالة عن ملكة تمنع الرجوع في الهبة. وكشف هذا مذكور في باب العطية من هبة ((المبسوط))، قال: وإن وهب له شاة فذبحها كان له أن يرجع فيها؛ لأن الذبح نقصان في العين، فإن عمله في إزهاق الروح، فإن ضحى بها أو ذبحها في هدي المتعة لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع فيها، وتجزئ الأضحية والمتعة للذابح، وقيل: قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- مثل قول أبي يوسف. وأما محمد- رحمه الله- فيقول: ملك الموهوب له لم يزل عن عينها، والذبح نقصان فيها، فلا يمنع الرجوع فيما بقي كالشاة للقصاب؛ وهذا لأن

معنى القربة في نيته وفعله دون العين، فالموجود في العين قطع الحلقوم والأوداج سواء كان على نية اللحم أو نية القربة، والذي حدث في العين أنه تعلق به حق الشرع من حيث التصديق به، وذلك لا يمنع الرجوع كوجوب الزكاة في المال الموهوب في يد الموهوب له، بل أولى؛ لأن التصديق هاهنا ليس بحتم حتى يكون له أن يأكله ويطعم من شاء من الأغنياء بخلاف الزكاة، وأبو يوسف- رحمه الله- يقول في التضحية: جعلها الله تعالى خالصة، وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه التضحية: جعلها الله تعالى خالصة، وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه بعد ذلك كما لو كان الموهوب أرضًا فجعلها مسجدًا، وبيان قولنا: ((تم)) أن التقرب بإراقة الدم وقد حصل ذلك. ألا ترى أن لو سرق المذبوح أو هلك كان مجزءًا عنه، وإباحة التناول منه بإذن من له الحق بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا}. ألا ترى أن لا يجوز أن يتصرف فيها على غير الوجه المأذون وهو بطريق التجارة، ويمنع من ذلك، ولو فعله كان ضامنًا، فعرفنا أنه تم معنى التقرب به، فيكون نظير هذا من الزكاة ما إذا أداه الفقير بنية الزكاة وليس للواهب أن يرجع فيه بعد ذلك، وهذا الفعل في صورة ذبح شاة القصاب، ولكن في المعنى والحكم غيره، ولا تعتبر الصور. ألا ترى أن الذبح يتحقق من المسلم والمجوسي، والتضحية لا تتحقق إلا من أهل التسمية، فعرفنا أنه في المعنى غير الذبح. ثم عند محمد- رحمه الله- رجوع

الواهب لا يبطل التضحية؛ لأن رجوعه في القائم دن ما تلاشى منه، والرجوع ينهي ملك الموهوب له، فإنما انعدم ملكه بغير اختياره، وهو في حقه نظير ما لو هلك بعد الذبح. وقوله: (فنقل إلى هذا) أي فنقل التصديق إلى نقصان في المالية بإراقة الدم، أو إلى نقصان في المالية بإراقة الدم وإزالة التمويل عن الباقي (تطيبًا للطعام)؛ لأنه إذا ذبح العبد الأضحية بنية القربة تنتقل آثامه إلى الدم لكونه آلة لسقوط ذنوبه فيبقى اللحم طيبًا، والناس أضياف الله تعالى يوم العيد، ولهذا كره الأكل في أول النهار قبل صلاة العيد؛ لأن ذلك إعراض عن ضيافة الله تعالى. وأما مال الصدقة بالتصديق فتنتقل آثام المتصدق إليه فيصير من أوساخه؛ لكونه آلة لسقوط الذنوب، وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}. والمطهر إذا استعمل فيما هو متدنس بالذنوب

صار خبيثًا، كما في الماء المستعمل. يعني يحتمل أن يكون التصديق بعين الشاة أو قيمتها أصلًا، لكن الانتقال منه إلى إراقة الدم لهذه الحكمة، فيجب أن يعمل بالأصل عند مضي وقت الأضحية. وقوله: (يحتمل أن تكون التضحية أصلًا) جواب لشبهة ترد على هذا التقرير، وهو أن يقال، لو كان التصديق أصلًا في التضحية لكن لحكمة انتقل الحكم من التصديق إلى إراقة الدم لوجب أن يعتبر الأصل في أيام التضحية أيضًا حتى يخرج عن وجوب الأضحية بالتصديق، وإن كان هو مأمورًا بإراقة الدم لتلك الحكمة، كمن وجب عليه الجمعة لو صلى الظهر في منزله يقع ذلك عن فرض الوقت، وإن كان هو مأمورًا بأداء الجمعة لكون الظهر أصلًا؟ فأجاب عنه بهذا، وقال: يحتمل أن يكون إراقة الدم أصلًا أيضًا، فلذلك لم يعتبر ذلك الموهوم، وهو أصالة التصديق في أيام التضحية؛ لأن خروج العبد عن وجوب التضحية في أيامها متيقن بالنص، وهذا موهوم بالرأي، والموهوم لا يعارض المتيقن، بخلاف صلاة الظهر يوم الجمعة، فإنه قد قام لنا دليل بالنص على أصالة الظهر فكان الظهر، أصلًا وإن كان العبد مأمورًا لإسقاطه بأداء الجمعة. (والدليل على أنه كان بهذا الطريق لا أنه مثل للأضحية) أي الدليل

على أن التصدق بعين الشاة أو قيمتها بعد مضي أيام التضحية كان بطريق احتمال أن الأصل هو التصدق في وجوب الأضحية، لا أن التصديق مثل للأضحية بطريق القضاء عنها، وإنما لم يجز إراقة الدم في غير أيام التضحية؛ لأنه لم يقدر علي مثله (أنه إذا جاء العام القابل لم ينتقل الحكم إلى الأضحية) وإن قدر على مثل الإراقة، فلو كان جواز نقصان الواجب في القضاء بسبب أنه لم يقدر على الإراقة لوجب ذلك عند قدرته عليها، كما في غضب المثلي إذا انقطع من أيدي الناس فيحول من ضمان المثل إلى القيمة، ثم لو لم ترد القيمة حتى جاء أوانه يجب عليه ضمان المثل صورة ومعنى، لكونه هو الأصل ولم يجب ذلك بالاتفاق هاهنا. علم بهذا أن الإراقة لم تكن أصلًا في التضحية. وقوله: (هذا وقت) أي يوم الأضحية في العام القابل الذي أدركه وقت (يقدر فيه على مثل الأصل) أي على مثل الإراقة التي وجبت عليه في العام الماضي (فيجب أن يبطل الخلف) وهو التصديق كما في الفدية، فيجب عليه قضاء الصوم من (الوجه الذي بينا)؛ وهو كون التصدق أصلًا لم ينتقض

بالشك؛ لأنه وجب وتأكد بإيجاب الشارع فلا يسقط بعد ذلك بالقدرة على الفائت، كما في المثلي إذا انقطع عن أيدي الناس وقضى القاضي بالقيمة، أو أدى هو بدون القضاء ثم قدر على مثله لا يعود حقه إليه، فكذلك المثل في حقوق الله تعالى. بخلاف الفدية في حق الشيخ الفاني حيث يجب الصوم إذا قدر عليه، وإن كان فدى حالة العجز؛ لما أن الفدية عن صوم الشيخ الفاني إنما تكون خلفًا بشرط استمرار العجز إلى الموت، وإذا قدر على الصوم كان قادرًا على الأصل قبل تمام الحكم بالخلف؛ لعدم شرط جواز الخلافة على التأبيد، فلذلك بطل حكم الفدية. (لأن الركوع يشبه القيام) أي حقيقة وحكمًا. أما حقيقة فلأن النصف الأسفل من الراكع مستو كما في حالة القيام، وهو ما يقع به الفصل بين القيام والقعود فيبقى شبهة القيام.

وأما حكمًا فلأن من أدرك الإمام في الركوع يصير مدركًا لتلك الركعة. (وهذا الحكم قد يثبت بالشبهة)؛ أي تكبيرات العيد تثبت بشبهة القيام. ألا ترى أن تكبير الركوع في صلاة العيد ملحق بتكبيرات العيد، ولهذا يجب بترك تكبير الركوع ساهيًا سجدة السهو، وإن لم يجب بتركه في غير صلاة العيد سجدة السهو، ثم تكبير الركوع مشروع في حالة الانتقال فجاز أن يلحق به نظائره حالة العجز احتياطًا لهذه الشبهة؛ لأن أداء التكبير عبادة فيحتاط في الإتيان بها. فإن قيل: إن استواء النصف الأعلى أحد شقي القيام، فلما لم يثبت باستواء النصف الأعلى شبهة القيام- كما في حالة القعود- وجب ألا يثبت أيضًا باستواء النصف الأسفل شبهة القيام. قلنا: القيام مع القعود متضادان، والمفارقة للقائم من القاعد إنما ثبت باستواء النصف الأسفل، فلذلك اعتبر استواء النصف الأسفل لا استواء النصف الأعلى، ولأن شبهة الشيء إنما تكون عند اتصالها به لا عند انقطاعها عنه، والركوع متصل بحقيقة القيام، والقعود منقطع عنها، فثبت لركوع مشاركة القيام في أحد شقيه مع اتصال به، فلذلك ثبت للركوع شبهة القيام لا للقعود.

(لأن موضع القراءة جملة الصلاة) رجوعًا إلى قوله عليه السلام: ((لا صلاة إلى بالقراءة)). حتى إنه إذا استخلف الإمام في الشفع الأخير أميًا فسدت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله- وإن أدى فرض القراءة. (إلا أن الشفع الأول تعين بخبر الواحد)، وهو ما روى جابر بن عبد الله وأبو قتادة الأنصاري- رضي الله عنهما-: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي

الأخريين بفاتحة الكتاب)). كذا في ((مبسوط المصنف)). وروي عن علي رضي الله عنه ((القراءة في الأوليين قراءة الأخريين)) أي تنوب عنها. (وقد بقى للشفع الثاني شبهة كونه محلًا)، لأن محل أداء ركن القراءة القيام الذي هو ركن الصلاة. كذا ذكره شمس الأئمة- رحمه الله-. (وإن كان قضاء في الحقيقة) لفوات محل العمل بحكم خبر الواحد الذي يوجب تعيين الأوليين للقراءة. (ولهذا لو ترك الفاتحة سقطت). هذا استدلال على أن قراءة السورة في الأخريين باعتبار شبهة الأداء؛ لأنه لما لم يكن القول بقراءة الفاتحة الفائتة عن الأوليين باعتبار شبهة الأداء سقطت.

(إنما شرع احتياطًا) أي واجب احتياطًا (فلم يستقم صرفها إلى ما عليه) يعني أن قراءة الفاتحة في الأخريين واجبة عليه أداء. هذا على رواية الحسن عن أبي حنيفة- رحمه الله-فلم يمكن صرف ما عليه إلى ما عليه. بخلاف قراءة السورة؛ لأنها ليست هي عليه فيصح قضاؤها في محل شبهة الأداء. وذكر المصنف- رحمه الله- في ((شرح الجامع الصغير)) روى الحسن عن أبي حنيفة- رحمه الله- أن قراءة فاتحة الكتاب في الأخريين واجبة، حتى أنه لو تركها ساهيًا يلزمه سجود السهو فلم يملك صرفها إلى ما عليه، وإنما يملك صرف ما له إلى ما عليه. وكذلك على ظاهر الرواية لا تقضى الفاتحة أيضًا، فإن قراءة الفاتحة إنما وجبت علينا بخبر الواحد، وما وجبت إلا بصفة ترتيب السورة عليها. ألا ترى أن من نسي الفاتحة فذكرها قبل الركوع أنه يقرؤها ويعيد السورة، فإذا انتقل إلى السجود فقد تم الانتقال وفات المشروع بخبر الواحد، والثابت بخبر الواحد ثابت عملًا، فإذا تعذر عمله على ما شرع سقط العمل. فأما السورة فإنما شرعت مرتبة على الفاتحة، وقد قدر على ذلك؛ لأن المتراخي مرتب لا محالة فلم تسقط عنه.

(ولم يستقم اعتبار معنى الأداء). هذا جواب شبهة ترد على قوله: (فلم يستقم صرفها إلى ما عليه) أي قضاء، بأن يقال: لما تستقم قراءة الفاتحة في الأخريين قضاء عن الأوليين لما ذكر أن فيه صرف ما عليه إلى ما عليه فينبغي ألا تجب عليه قراءة الفاتحة في الأخريين أداء كما في السورة، فإن قراءتها في الأخريين إنما كانت باعتبار شبهة الأداء. فأجاب عنه، وقال قراءة الفاتحة في الأخريين مشروعة أداء، ثم لو قرأها ثانيًا أيضًا أداء يلزم تكرار الفاتحة في ركعة واحدة فإنه غير مشروع. فإن قيل: إن لم يصح تكرار الفاتحة أداء فلم يصح تكرارها مع صرف إحداهما إلى القضاء، فلم يكن حينئذ تكرارًا في ركعة واحدة من حيث المعنى لذهاب إحداهما إلى محل الأداء تقديرًا كما صرف بعض العلماء قول محمد- رحمه الله- فيما قضى السورة في الأخريين وجهر إلى السورة باعتبار أنها مصروفة إلى محلها فلم يكن جمعًا بين الجهر والمخافتة في ركعة من حيث المعنى. قلنا: لا يصح ذلك، لما أن رعاية الصورة واجبة أيضًا، وعن هذا كان ظاهر الرواية فيما إذا ترك السورة في قول محمد- رحمه الله- وجهر مصروفًا إلى الفاتحة والسورة جميعًا؛ لئلا يلزم الجمه بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة صورة، فوجوب رعاية الصورة ثابت في هذا وفي النحو أيضًا، فإن

اللام التي بمعنى الاسم الموصول في قولهم: الضارب أباه زيد، اختير دخولها في اسم الفاعل لا في عين الفعل، وإن كان الاسم الموصول يدخل الفعل لما أن هذه اللام تشبه لام التعريف صورة، وهي لا تدخل على الفعل فكذا ما يشبهها لا يدخل على الفعل أيضًا رعاية للصورة. وقوله: (وأداء الدين). مثل: أداء ثمن المبيع وتسليم المسلم فيه، وذكر أداء الدين في قسم الأداء الكامل، وإن كانت الديون تقضى بأمثالها؛ لأنه لا طريق لأداء الدين سوى هذه وهذا في بدل الصرف والمسلم فيه واضح، فإن الاستبدال فيهما حرام كحرمة استبدال العين المعين مثل عين المبيع والوديعة، فجعل المقبوض عين ما استحق بالعقد حكمًا وإن كان غيرا حقيقة؛ لأن الواجب بالعقد دين والمقبوض عين والعين غير الدين. فإن قيل: على هذا التقرير ينبغي أن يكون أداء يشبه القضاء اعتبارًا للحقيقة والحكم. قلنا: لا يمكن ذلك خصوصًا في باب الصرف والسلم؛ لأن الاستبدال فيه حرام، فاعتبار شبهه بالقضاء يوجب الحرمة، واعتبار شبهه بالأداء لا يوجب، فكان حرامًا ترجيحًا لجانب الحرمة على ما هو الأصل خصوصًا في باب الربا في الصرف؛ لأن الشبهة فيه ملحقة بالحقيقة وليس هو بحرام بالإجماع. فعلم أنه من قسم الأداء الكامل، ولم يقل أيضًا: أنه أداء قاصر؛ لأنه أدى ما عليه من الجياد. وأما الأثمان في سائر البيوع فيجب أن يكون تسليمها قضاء على هذا التقرير؛ لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها، والاستبدال فيها غير حرام، ولكن ذلك أيضًا من قسم الأداء الكامل لوجهين:

أحدهما: أن الأداء تسليم عين ما وجب بالعقد فيكون تسليم ما وجب بالعقد أداء حكمًا، ولو كان مثلًا لكان بدلًا عن الأداء، وفي الاستبدال يشترط التراضي، والمشتري إذا أتى بما وجب يجبر البائع على القبول، فعلم أنه عين ما استحق بالعقد. والثاني: أن القضاء يبتني على الأداء، فإذا لم يمكن الأداء لم يمكن القضاء؛ لأن القضاء خل الأداء، فإذا لم يكن الأصل ممكنًا لا يكون الخلف ممكنًا؛ لأن شرط صحة الخلف إمكان الأصل فاعتبر هذا بوجوب الكفارة فيمن حلف ليمس السماء وعدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس وفي

مسألة الكوز؛ لأن الأصل- وهو البر- ممكن في الأول دون الثاني. ولما ثبت هذا قلنا: لو جعل أداء الدين قضاء ينبغي أن يكون الأداء ممكنًا حتى يكون هذا القضاء خلفًا عن ذلك الأداء وليس للدين ذلك، بل لقضاء الدين طريق واحد. فعلم أنه جعل أداء كاملًا حكمًا، ولا يشكل على هذا قضاء الصوم للحائض، فإن الصوم من الحائض لم يكن ممكنًا أداء، ومع ذلك صح القضاء الذي هو خلف عن الأداء؛ لانا نقول: إن الأداء ممكن هناك في الأصل قياسًا؛ لأن الحيض لا يمنع صحة الصوم كالجنابة إلا أنه لم يجز أداؤه مع الحيض بخلاف القياس، فكان الأداء قياسًا، فيبتنى القضاء على الأداء الممكن قياسًا، فيجوز القضاء عنه. فإن قيل: إذا كان دين بدل الصرف والمسلم فيه أداء كاملًا فما القاصر فيهما؟ قلنا: القاصر فيهما هو أداؤه زيفًا ورديئًا، فالأداء باعتبار أن الزيف من جنس الدراهم، والردئ من الحنطة من جنس الحنطة، والقصور باعتبار فوات

صفة الجودة التي تقع عليها مطلق العقود. (والقاصر مثل أن يغضب عبدًا فارغًا ثم يرده مشغولًا بالجناية) بان يقتل غيره أو يقطع طرفه أو (بالدين) بأن استهلك مال الغير، أو كان مأذونًا فلحقه دين وكذلك في المبيع، ومعنى القصر فيه أنه أداه لا على الوصف الذي استحق عليه التسليم. وتقرير هذا أنه أداء؛ لأنه رد عين ما غضب، ورد عين ما باع، لمنه قاصر بسبب ما ذكرنا أنه لم يرده على الوصف الذي استحق عليه، فلوجود أصل الأداء إذا هلك عند المغصوب منه قبل الدفع إلى ولي الجناية تم التسليم ولا يلزم على الغاصب شيء، وإذا دفع إلى ولي الجناية انتقض التسليم حتى وجب عليه القيمة اعتبارًا للمعنيين. وكذلك البائع إذا سلم المبيع وهو مباح الدم فهو أداء قاصر؛ لأنه سلمه على غير الوصف الذي هو مقتضى العقد، فإن العقد يقتضى سلامة المبيع، فإن هلم في يد المشتري لزمه الثمن لوجود أصل الأداء. وإن قتل بالسبب الذي صار مباح الدم به، رجع بجميع الثمن عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- لأن الأداء كان قاصرًا، فإذا تحقق الفوات بسبب مضاف إلى ما به الأداء قاصر جعل كأن الأداء لم يوجد. وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- الأداء قاصر لعيب في المحل.

فإن حل الدم في المملوك عيب، وقصور الأداء بسبب العيب يعتبر ما بقي المحل قائمًا. وأما إذا فات بسبب عيب حدث عند المشتري وهو قتل ولي الجناية لم ينتقض به أصل الأداء، وقد تلف هاهنا بقتل أحدثه القاتل عند المشتري باختياره ولكن أبو حنيفة- رحمه الله- قال: استحقاق هذا القتل كان بالسبب الذي به صار الأداء قاصرًا، فيحال بالتلف على أصل السبب. قوله: (وما أشبه ذلك) كالغاصب إذا غصب المغصوب صحيحًا ورده مريضًا أو مشجوجًا أو حاملًا لو كان المغصوب أمة. (وأداء الزيوف في الدين أداء بأصله)، ولكنه قاصر باعتبار فوات وصف الجودة. وتحقيقه أنه وجب على المديون دراهم جياد لاقتضاء مطلق العقد وصف السلامة عن العيب، فإذا أدى زيوفًا فمن حيث أنه أدى جنس الدراهم كان مؤديًا، ومن حيث إنه لم يؤد الجياد كان الأداء قاصرًا، فإذا كان قائمًا في يد من له الدين كان له أن يفسخ الأداء ويأخذ ما كان عليه من الجياد إحياء

لحقه، وإذا هلك عنده بطل حقه في الجناية؛ لأنه لا يتوصل إلى الجياد إلا بفسخ الأداء، ولا يتمكن من فسخ الأداء لهلاك الدراهم، ولا يتمكن أيضًا من أن يرد إلى المديون مثل ما قبض، للزوم الضمان عليه بمثل ما قبض؛ لأنه لا يضمن المرء لنفسه، فإن ذلك غير معهود في الشرع، فبطل القول به. فإن قلت: حاصر هذا راجع إلى أن يضمن المرء ملك نفسه، وليس ببعيد أن يكون الشيء ملك الرجل ومع ذلك هو مضمون عليه. ألا ترى أن كسب المأذون له المديون ملك المولى وهو مع ذلك مضمون عليه، وكذلك المرهون مضمون على الراهن، وإن كان ملكًا باعتبار الفائدة، وفي التضمين ههنا فائدة، وهي إحياء حقه في صفة الجودة. قلت: ليس ما ذكرته نظير ما قلنا؛ لأن كلامنا فيما إذا كان الضمان له مع أن مضمون عليه، وأما ما ذكرته من المسألتين فالضمان هناك يجب للغرماء فلا منافاة فيه. إلى هذا أشار في ((الفوائد الظهيرية)).

والفرق لأبي يوسف بين هذا وبين ما إذا أدى خمسة زيوفًا عن خمسة جياد في الزكاة: أن الفقير لا يرد مثل المقبوض ليأخذ الجياد؛ لأنه أخذ ذلك بحكم الكفاية على ما قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فيكون آخذًا من الله تعالى حكمًا، ولهذا لو كانت قائمة لا يتمكن من ردها وأخذ الجياد، ولا كذلك ههنا. والفرق لمحمد- رحمه الله- بين هذا وبين الزكاة أن ههنا لو أوجبنا قيمة الجودة يتحقق الربا، وثم لا يتحقق الربا؛ لأنه في العبادات لا في البياعات، والربا مخصوص بالبياعات، ولأنه لا ربا بين المولى وعبده. وقوله: (وبطل الوصف) أي وصف الجودة؛ (لأنه لا مثل له صورة)؛ لأنه لا يمكن انفكاك الوصف عن الموصوف، فلا يكون صورة وصف بلا موصوف (ولا معنى)؛ لأن القيمة غير معتبرة في الأموال الربوية. (وهو أن يتزوج رجل امرأة على أبيها وهو عبد) سواء كان ذلك عبدًا للغير أو للزوج.

(فإن لم يقض بقيمته) أي لم يقض القاضي على الزوج بقيمة الأب للمرأة (لزمه تسليمه إلى المرأة؛ لأنه عين حقها). فإن قيل: ينبغي أن لا يجب تسليمه على الزوج؛ لأنه ظهر أن العبد ملك غير فلم تكن التسمية صحيحة. قلنا: كون المسمى الغير لا يمنع صحة التسمية. ألا ترى أنه لو تزوج امرأة على عبد الغير صحت التسمية، حتى إذا عجز عن تسليمه يصار إلى قيمته ولا يصار إلى مهر المثل، فلو لم تصح التسمية لصير إلى مهر المثل، ما إذا تزوجها ابتداء على قيمته، فثبت أن كون المسمى ملك الغير لا يمنع صحة التسمية. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين البيع والمسألة بحالها، وهي: أنه إذا باع عبدًا واستحق في يد المشتري، ثم اشتراه البائع كان له أن يمنع من دفعه ولا يلزمه تسليمه إلى المشتري، وهنا لزم الزوج تسليمه إلى المرأة؟ قلت: الفرق بينهما إنما جاء من قبل عدم انفساخ النطاح ووجود انفساخ البيع، وهذا لان الموجب للدفع البيع، والبيع قد انفسخ بخلاف النكاح، فإنه لم ينفسخ بالاستحقاق، فكان الموجب للدفع- وهو النكاح- باقيًا فيثبت موجبه وهو الدفع. إلى هذا أشار في ((الجامع الكبير)) للصدر الشهيد- رحمه الله-.

(لأن تبدل الملك أوجب تبدلًا في العين حكمًا) بدليل قصة بريرة رضي الله عنها ((فكار رسول الله عليه السلام دخل على بريرة، فأتت بريرة بتمر، ووضعت بين يدي رسول الله عليه السلام، والقدر كان تلغي باللحم، فقال - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: ألا تجعلين لنا نصيبًا من اللحم؟ فقالت: هو لحم تصدق به علي يا رسول الله! قال عليه السلام: هي لك صدقة، ولنا هدية)). فثبت بهذا أن تبدل الملك يوجب تبدل العين حكمًا، وهذا لأن تبدل الملك صفة له، وتتبدل الصفة بتبدل العين شرعًا، وإن كانت العين واحدة في أصلها.

ألا ترى أن الخمر إذا تخللت كيف تحل بعد الحرمة؟ فإن قيل: طيف تحل الصدقة لبريرة وهي كانت مكاتبة عائشة- رضي الله عنها- ومولى القرشي بمنزلة القرشي في حرمة الصدقة؟ قلنا: يحتمل أن لتك الصدقة كانت صدقة التطوع، وكونها لحمًا دليل عليه؛ لأن العادة في الزكاة المفروضة أن تكون من النقدين، وصدقة التطوع يجوز صرفها إلى بني هاشم ومواليهم. أو يحتمل أن يكون ذلك حال كتابتها، ويجوز دفع الزكاة إلى مكاتب الهاشمي لإطلاق قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ}. (ثم ملكه الزوج أن حقها لا يعود إليه). يعني أن القاضي لو قضى لها بالقيمة قبل أن يمتلكه الزوج ثم ملكه فسلمه إليها لم يكن ذلك أداء مستحقًا بالتسمية، ولكن يكون مبادلة بالقيمة التي تقرر حقها فيه، حتى أنها إذا لم

ترض بذلك لا يكون للزوج أن يجبرها على القبول بخلاف ما قبل القضاء لها بالقيمة. كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-. وذكر المصنف- رحمه الله- في ((شرح الجامع الكبير)) فإن استحقه رجل فقضي به له بطل ملكها وبطل عتقه وعلى الزوج قيمته، فإن اشتراه الزوج من المستحق أو ملكه بوجه من الوجوه فأراد أن يدفعه إليها فأبت فإنها تجبر على أخذه، وإن طلبت هي فأبى فإنه يجبر على تسليمه إليها. ثم هاهنا ثلاث كلمات الإيضاح بقوله: ولهذا قلنا: ((إن الزوج إذا ملكه لا يملك أن يمنعها إياه)) إيضاح دليل الأداء، والأخريات هما قوله: ((ولهذا قلنا أنهلا يعتق)) وقوله: ((ولهذا قلنا إذا اعتقه الزوج إلى قوله: ((صح)) إيضاح دليل القضاء. (ويتصل بهذا الأصل) أي بأصل الأداء (أن من غصب طعامًا فأطعمه المالك) بأن يكون طعامًا يؤكل من غير تغيير بأن كان خبزًا أو لحمًا مطبوخًا، وإنما قيدنا لهذا لأنه لو كان دقيقًا فخبزه ثم أطعمه المالك لا يبرأ عن الضمان بالاتفاق، ثم إنما قيد بقوله: ((فأطعمه المالك)) ليظهر موضع الخلاف؛ لأنه إذا جاء المالك إلى بيت الغاصب، فأكل ذلك الطعام المغصوب من غير إطعام الغاصب يبرأ الغاصب عن الضمان بالاتفاق وإنما الخلاف في إطعام الغاصب.

وقال (الشافعي) - رحمه الله- في أحد قوليه: (لا يبرأ)؛ لأنه ما أتى بالرد المأمور به (فإنه غرور)؛ لأنه أقدم على الأكل بناء على خبره أنه أكرم ضيفه، ولو علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله (ولو) فأكله معهم، وهكذا الخلاف أيضًا فيمن غصب ثوبًا، ثم كسا الغاصب الثوب رب الثوب، فلبسه حتى تحرق ولم يعرفه، فلا شيء له على الغاصب عندنا خلافًا له. كذا في ((المبسوط)). (ولو كان قاصرًا لتم بالهلاك) يعني إذا أدى الزيوف مكانا لجياد ولم يعلم القابض فهلك في يده يتم الأداء، (فكيف لا يتم ههنا وهو كامل؟) من حيث إن عين ماله من غير تغيير وصل إليه ثم هلك في يده، ولأن أكثر ما في

الباب ألا يكون فعل الغاصب هو الرد المأمور به، ولكن تناول المغصوب منه العين المغصوبة كاف في إسقاط الضمان عن الغاصب، وقد ذكرنا أن المغصوب منه إذا جاء إلى بيت الغاصب، وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن أنه ملك الغاصب برء الغاصب من الضمان. (والجهل لا يبطله) أي لا يبطل الأداء (وكفى بالجهل عارًا! فكيف يكون عذرًا) فإن هذا جهل المالك، ولو تصرف المالك في ملكه ولم يعلم أنه ملكه فإن ذلك لا يمنع صحة تصرفه. ألا ترى أن من اشترى عبدًا ولم يقبضه فقال البائع للمشتري: اعتق عبدي هذا- وأشار إلى المبيع- فأعتقه المشتري، ولم يعلم أنه عبده صح إعتاقه، ويجعل قبضًا، ولزمه الثمن؛ لأنه أعتق ملكه وجهله بأنه ملكه لا يمنع صحة ما وجد منه، فكذلك هاهنا. (والعادة المخالفة للديانة الصحيحة) هذا جواب عن قوله: إذ المرء لا يتحامى في العادات عن غير مال غيره؛ وقيد بالصحيحة؛ لأن الموضع موضع الإباحة فلا يكون تناول مال الغير مخالفًا للديانة مطلقًا في موضع الإباحة، بل كان ذلك مخالفًا لعادة من يتقى ويحترز عن الشبهة غاية الاتقاء والتحرز رجوعًا إلى قول - صلى الله عليه وسلم -: ((كل من كد يمينك)) وهذا لأنه لا يعلم يقينًا عدم شبهة

الحرمة في مال غيره ويعلمه فيما اكتسبه بنفسه، فذلك كان من عادة المتقين غاية الاتقاء ألا يكتفوا بظاهر الحل شرعًا، بل يتفحصون غاية التفحص، ويتحرزون مما فيه وهم شبهة الحرمة، وذلك ايحصل في تناول مال الغير بمجرد الإباحة، فلذلك كان تناول مال الغير بمجرد الإباحة مخالفًا للديانة الصحيحة أي للتقوى القوية؛ لأن الديانة القوية تقتضي أن يتحرز عن مال الغير أكثر مما يتحرز من مال نفسه؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل بمال الغير ما لا يفعل بمال نفسه، والعادة إنما تعتبر إذا لم تكن مخالفة للديانة، إذا كان كذلك لا يكون مثل هذه العادة مبطلًا للأداء الواجب الذي هو الأداء الكامل؛ (لأن عين) حق صاحب الحق (وصل إلى يده) من غير تغير، وما كان واجبًا في الإيصال يصرف إلى الواجب، وإن أوصله بأي طريق كان. (وفي باب القروض)، وإنما قال باب القروض؛ لأن قضاء الدين من باب الأداء الكامل على ما مر لأنه لا يمكن فيه سوى القضاء، فقام القضاء مقام الأداء الكامل ضرورة. وأما في باب القروض فالأداء الكامل ممكن بأن يرد عين ما قبض، وأما

إذا أنفق ثم قضى مثله كان قضاء، وهذا المعنى لا يتصور في الديون فكان أداء. ولا يقال إن القرض إعارة فكان ما سلمه إلى المقرض عين ما أقرضه حكمًا، ضرورة أن لا يجري الربا في النقد بالنسيئة؛ لأنا نقول: إن ذلك حكم، وما ذكرناه حقيقة، فلذلك ذكر في أنواع القضاء. فإن قيل: ينبغي أن يكون قضاء القرض يشبه الأداء؛ لأنه قضاء من حيث الحقيقة وأداء من حيث الحكم لسلوك طريق الإعارة فيه حتى لم يجر الربا فيه بالنسيئة بمقابلة النقد فكان عينه من حيث الحكم، فكان بمنزلة رجل أدرك الإمام في العيد راكعًا فإنه قضاء يشبه الأداء بهذا الطريق، وكذلك فيما إذا فاتت السورة عن الأوليين وقرأها في الأخريين. قلنا: التكبير في الركوع أداء من وجه؛ لان محل الأداء باق من وجه، وكذلك في قضاء السورة في الأخريين، فلهذا قلنا: فيه معنى الأداء، فأما هاهنا ففات محل الأداء من كل وجه فلم يكن له شبه الأداء، فلهذا ذكره في أنواع القضاء بخلاف ما إذا تزوج امرأة على أبيها، فإن ثم أداء حقيقة قضاء حكمًا؛ لانا بينا أن تبدل الملك يوجب تبدل العين حكمًا من غير ضرورة داعية إلى ذلك، فكان أداء من وجه قضاء من وجه.

فأما في باب القرض فهو قضاء حقيقة، وإنما جعل عين ما قبض حكمًا لضرورة قضاء حاجات الناس، وما ثبت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة فلم يظهر في كونه أداء. (فكان سابقًا) أي على أقسامه من القضاء. (إذا انقطع مثله) كالرطب وفيما لا مثل له نحو الحيوان. وقوله: (ولهذا قال أبو حنيفة) يتصل بقوله: فكان سابقًا؛ يعني أن المثل الكامل وهو المثل صورة ومعنى مقدم على المثل معنى، ولهذا المعنى قال أبو حنيفة- رحمه الله- إلى آخره. (ألا ترى أن القتل قد يصلح ما حيا أثر القطع) فكان قتله بمنزلة البرء من القطع من حيث إن المحل يفوق به فلا تصور للسرية بعد فوات المحل فيجعل كالبرء من هذا الوجه، حتى إذا كان القاتل غير القاطع كان القصاص في النفس على الثاني خاصة.

وقال في ((مختصر الحاكم)) فلو كان لكل واحد منا لجنايتين جان على حدة، وهما جميعًا عمد أو خطأ، أو أحدهما عمد والآخر خطأ أخذ كل واحد منهما بجنايته، وأثر المحو ثابت في غير هذا أيضًا، فإنه إذا رمى إنسان إلى الصيد يدون التسمية وجرحه ثم أدركه حيًا وذكاه يحل. فعلم أن الفعل الثاني ماح أثر الفعل الأول ولو لم يمح لما حل بالتذكية، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فالشارع جعل التذكية ماحية لأكل السبع وجرحه؛ لأنها لو كانت محققه للأول ههنا لحرم أكله (كما يصلح محققًا، فإن القتل بعد القطع يكون إتمامًا للفعل الاول؛ لان قطعه يحتمل أن يسري فيموت مقطوع اليد من قطعه، فكان قتله بعد القطع تحقيقًا لتلك السراية، وهذا لا يحتملان يكون مراد القاطع القتل فكان قتله بعد ذلك محققًا لموجب القطع، فكانت الجنايتان متحدة من هذا الوجه، وعلى تقدير محو أثر القطع كانت الجناية متعددة. فلذلك (خيرنا) الولي (بين الوجهين) إن شاء مال إلى وجه التعدد فيقطعه ثم يقتله، وإن شاء مال إلى وجه الاتحاد فيقتله ابتداء من غير سابقة القطع.

وقوله: (ولهذا قلنا: لا يضمن المثلي) يتعلق أيضًا بقوله: فكان سابقًا وكذلك قوله: (ولهذا) قلنا (لا تضمن منافع الأعيان) يتعلق به أيضًا؛ لأنه لما لم يكن للمنافع مثل لا صورة ولا معنى لم تضمن في عصبها أو إتلافها عندنا لعدم إمكان الضمان بالمثل، والشارع شرط المثل في باب العدوان بقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. اعلم أن للمسألة صورتين: غصب المنافع، وإتلاف المنافع، فغصب المنافع هو: أن يغصب عبدًا ويمسكه أيامًا ولم يستغله ثم رده إلى مولاه. وأما إتلاف المنافع فهو: أن يستخدمه ويستغله ثم يرده إلى مولاه، فعندنا لا يضمن شيئًا في الصورتين، وعند الشافعي يضمن فيهما، ولكن بينهما تفاوت عنده في موضع آخر، فغنه إذا غصب الحر وأمسكه أيامًا لم يضمن منافعه؛ لأن الحر في يد نفسه، وأما إذا استخدمه فأتلف عليه ضمن، وفي

العبد يضمن في الصورتين. اعلم أن هذه المسألة مبنية على أصلين مختلف فيهما بيننا وبينه. أحدهما: أن المنافع زوائد تحدث في العيد شيئًا فشيئًا، وفد بينا أن زوائد المغصوب لا تكون مضمونة على الغاصب عندنا وتكون مضمونة عند الشافعي. والثاني: أن الغصب الموجب للضمان عنده يحصل بإثبات اليد، واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين، وعندنا لا يتحقق إلا بيد مفوته ليد المالك، وذلك لا يتحقق في المنافع؛ لأنها لا تبقى وقتين فلا يتصور كونها في يد المالك ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يد الغاصب مفوته يد المالك، فلذلك لا تضمن المنافع بالغصب عندنا. كذا في ((المبسوط)) وغيره، فتذكر ههنا ما ذكر في ((النهاية)) من شبهات الخصم وجوابها فإنه الكبريت الأحمر والجربل الأوفر. وفي هذا نسخ مختلفة، ولكن بعضها تقارب البعض في المعنى، وقالوا

في إتلاف المنافع: إن المنافع لا تضمن بالأعيان كما لا تضمن الأعيان بالمنافع، فلو كانت الأعيان مثلًا للمنافع لكانت المنافع مثلًا للأعيان وهي ليست بمثل للأعيان بالإجماع، فكذا في عكسها. وقوله: (وأما جواز العقد فبناء على قيام العين مقام المنفعة) هذا جواب إشكال مقدر وهو أن يقال: كيف يجوز العقد والمنافع معدومة غير متقومة على ما قلتم؟ والجواب: لا نسلم أن المعقود عليه هو المنافع حتى أنه إذا أضاف العقد إلى المنافع بأن يقول: أجرتك منافع هذا الدار شهرًا بكذا تفسد الإجارة، بل

الدار خلف عن المنافع في حق صحة العقد فكان المعقود عليه موجودًا وقت العقد، ولهذا إذا وجدت المنفعة انتقلت الإضافة إليها كالانتقال من الخلف إلى الأصل، ولا يلزم أنها تقومت في باب العقود وليس إلى التقوم حاجة إذ الاستبدال صحيح من غير التقوم. يعني لو قال الخصم: إن المنافع متقومة قبل ورود العقد عليها لا أنها لم تكن متقومة فتقومت في باب العقود بطريق الحاجة والضرورة؛ لأنه لا ضرورة في جعلها متقومة لتصحيح الاستبدال منها؛ لأن الاستبدال صحيح من غير التقوم كبدل الخلع وكبدل العين التي أعماها وغير ذلك، وحيث تقومت في باب العقود بالإجماع علم أنها متقومة من غير ورود العقد عليها؛ لأن ما ليس بمال لا يصير مالًا بورود العقد عليه كالخمر والخنزير والميتة والدم. فالجواب عنه: أنها صارت متقومة في باب العقود لا في غيره؛ لان تقوم الأشياء إنما يكون بالإحراز بعد الوجود، والإحراز يفتقر إلى البقاء، ولا بقاء للمنافع فلا يثبت التقوم، وإنما ثبت التقوم لها في باب العقود بخلاف القياس عند التراضي، وليس في الغصب تراض فلا يثبت التقوم، ولا يلزم علينا الاستبدال في الخلع مع عدم التقوم؛ لأن ذلك ثابت بالنص بخلاف القياس أيضًا عند التراضي بخلاف الغصب، وكذلك لا يلزم علينا أروش الأطراف وديات النفوس؛ لأن الآدمي مكرم مصون في نفسه وأطرافه، فكان ذلك

من ضرورة وجوب الصيانة لا من باب التقوم، ولأن وجوب البدل هنالك بمقابلة العين لا بمقابلة المنافع فلا يرد علينا نقضًا. وقوله: وليس إلى التقوم حاجة؛ ليس كذلك بل إلى التقوم حاجة فتقومت في باب الإجارة من غير معنى يعقل. والدليل على هذا أن الله تعالى شرع ابتغاء الأبضاع بالمال فقال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فالإحلال موصوف بهذه الصفة، فتكون هذه الصفة شرطًا، والمشروط لا وجود له بدون الشرط. كما لو قيل: أعط هذا الدرهم لرجل طويل لا يتمكن من دفعه إلى رجل غير طويل، والشرع جوز ابتغاء

البضع بالمنافع كما إذا تزوج امرأة برعي غنمها سنة جاز وصار ذلك مرهًا. قال تعالى: {عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}. فعلم أنها تقومت في باب العقود، ولو لم يتقوم لما جاز رعي الغنم مهرًا. إذ شرعيته بالمال المتقوم؛ لأن للرضا أثرًا في باب الأصول أي المبيع، والفصول أي الثمن، وكل قياس لا يقوم إلا بوصف تقع به المفارقة بين الفرع والأصل باطل، وههنا الوصف الذي تقع به المفارقة التراضي يعني أن التراضي موجود في باب العقود، فلذلك تقومت المنافع هناك ولم يوجد التراضي في باب الغصب فلا تتقوم لذلك. وهذا مثل قول لعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث؛ لأنه مس الفرج فكان حدثًا كما إذا مسه وهو يبول. وكذلك قولهم: هذا مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض بدل الكتابة وهذا ليس بتعليل لا طردًا ولا تأثيرًا على ما يجيء بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

(ولهذا قلنا: إن المال غير مشروع مثلًا) إيضاح لقوله: إن ضمان غير المال المتقوم بالمال المتقوم قضاء بمثل غير معقول؛ وقيد بقوله: مثلًا؛ احترازًا عن شرعيته صلحًا، فإن ولي القصاص يأخذه صلحًا؛ لأن (القصاص مثل للأول صورة) وهي حز الرقية (ومعنى) وهي إزهاق الروح (وهو) أي القصاص (إلى الإحياء الذي هو المقصود) أي بالنص لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ومعنى الإحياء في القصاص من حيث الشرعية ومن حيث الاستيفاء. وقد ذكر المصنف- رحمه الله- وجه الإحياء في القصاص في باب القياس من هذا الكتاب. (فلك يجز أن يزاحمه) أي أن يزاحم القصاص (ما ليس بمثل صورة) ولا معنى وهو المال. فيه نفي لقول الشافعي، فإن في القتل العمد يجب القصاص عينًا عندنا إلا أن للولي أن يصالح القاتل على المال، وللشافعي قولان: في قول: موجب القتل العمد أحد الشيئين: إما المال، وإما القصاص،

ويتعين أحدهما باختيار الولي. وفي القول الآخر: موجبه القصاص إلا أن للولي أن يختار أخذ الدية من غير رضا القاتل، وعندنا لا يجوز للولي أخذ شيء من الدية إلا برضا القاتل، ولما كان المال عنده أحد موجبي القتل العمد لم يصح عفوًا المريض مرض الموت في حق المال؛ لأن العند عنده يوجب المال ولا وصية للقاتل، وأما في حق القصاص فصحيح. كذا في ((المبسوط)). (وإنما شرع) أي المال (عند عدم المثل) وهو فيما إذا قتل خطأ. قوله: (ولهذا قلنا نحن خلافًا للشافعي) إيضاح لقوله: إن تضمين غير المال المتقوم بالمال المتقوم غير معقول (إن القصاص لا يضمن لوليه بالشهادة الباطلة على العفو). يعني إذا قتل رجل رجلًا عمدًا فادعى القاتل أن ولي المقتول قد عفا عنه، وشهد الشهود بذلك، وقضى القاضي بذلك حتى بطل القصاص، ثم رجع الشهود فقالوا: كذبنا في شهادتنا فإنهم لا يضمنون

عندنا وعنده يضمنون. (أو بقتل القاتل) وهو إضافة المصدر إلى المفعول يعني لو قتل رجل أجنبي من عليه القصاص لا يضمن لمن له القصاص وهو ولي القتيل الأول. (وإنما شرعت الدية) أي في القتل الخطأ، وإنما أعاد هذا لإعادة قوله: فلم يكن له مثل صورة ومعنى؛ لتعليل مسألة أخرى ذكرها. وقوله: (والعفو عن القصاص مندوب إليه) جواب شبهة ترد على ما ذكر قبله، وهي أن يقال: لما صين الدم عن الهدر ينبغي ألا يصح العفو؛ لأن في العفو هدرًا، فأجاب عنه بهذا. (ولهذا قلنا: إن ملك النكاح) يتصل هذا أيضًا بمثله لإيضاح قوله: أن تضمين غير المال المتقوم بالمال المتقوم غير معقل (لا يضمن بالشهادة بالطلاق بعد الدخول) يعني ثم الرجوع يعني إذا شهد الشهود على رجل أنه طلق امرأته ثلاث تطليقات أو طلاقًا بائنًا بعد الدخول، وقضى القاضي به، ثم رجعوا لا يضمنون للزج شيئًا، وكذلك إذا قتل رجل منكوحة رجل لا

يضمن للزوج شيئًا بسبب إبطال النكاح، وكذلك إذا ارتدت المرأة حتى بطل النكاح لا تضمن للزوج شيئًا. (لأنه ليس بمال متقوم) أي لأن ملك النكاح ليس بمال متقوم؛ لأن الملك عبارة: عن القدرة، والشد، والربط، والاختصاص بالمطلق الحاجز، وكيف ما كان الملك صفة قائمة بالمالك فلا يكون مالًا، فلذلك لا يضمن بالمال؛ لأن المال ليس بمثل له لا صورة ولا معنى، ومثل هذا لا يضمن بالمال على ما ذكرنا في غصب المنافع (وإنما يقوم بالمال بضع المرأة تعظيمًا لخطره) أي لعظمته يعني كان ينبغي ألا يجب المال المتقوم عند النكاح أيضًا؛ لأن الآدمي وجميع أجزائه ليس بمال متقوم، فإيجاب المال الذي هو ليس بمثل له لا صورة ولا معنى غير معقول على ما ذكر قبله، ولكن إنما وجب المال عند النكاح إظهارًا لعظمة البضع الذي هو جزء الحرة صار مملوكًا للزوج، فكانت الصيانة للبضع

جبرًا لنقصانه لكونه مملوكًا لا للملك الوارد عليه وهو حل الاستمتاع؛ لأن الملك لم ينتقض بشيء فلا يحتاج إلى الانجبار بالمال، وما كان كذلك لم يجب الضمان على من أبطل ذلك الملك الذي هو غير متقوم بالمال المتقوم. (حتى صح إبطاله بغير شهود) فإن إبطال ذلك الملك بالطلاق غير محتاج إلى الشهود هذا لبيان أن الملك الوارد على البضع لا خطر له، (ولهذا لم يجعل له) أي للبضع (حكم التقوم عند الزوال) أي لا يجب المال عند الطلاق. هذا لبيان أن المال الذي وجب على الزوج عند النكاح إنما كان لجبر نقصان حل بالبضع بكونه مملوكًا، فلذلك لم يجب عند زوال الملك عنه؛ لأنه لم ينتقض بذلك بوجه بل هو إطلاق له فلا يحتاج إلى الجابر. (ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول فغنها عند الرجوع توجب ضمان نصف المهر) هذه المسألة ترد إشكالًا على أصلنا وأصل الشافعي. أما على أصلنا فظاهر، وهو: أن البضع لما لم يكن له قيمة عند الزوال، حتى إن الشهود لا يضمنون بالشهادة الباطلة بشهادتهم على الزوال بعد الدخول وجب ألا يضمنوا أيضًا.

بالشهادة الباطلة بشهادتهم على الزوال قبل الدخول. وأما على أصل الشافعي- رحمه الله- فإن ملكا لنكاح ملك متقوم عنده ينبغي أن يلزم تمام المهر على الشهود بشهادتهم الباطلة. (لم يجب مهر المثل تامًا كما قال الشافعي)، فإنه يقول: لا يجب مهر المثل تامًا على الشهود كما هو قولنا إلا أن نقول: إن وجو نصف المهر على الشهود لم يكن باعتبار قيمة البضع بل باعتبار إتلافهم نصف المهر على الزوج، وأما الانفصال للشافعي عما ورد الإشكال على أصله حيث لم يقل هنا بوجوب قيمة البضع تامًا على الشهود مع أنهم أبطلوا ملك النكاح وهو متقوم عنده، فيقول: إن المهر بتمامه سلم للزوج ههنا؛ لأن بالشهادة بالطلاق قبل الدخول سلم له براءة نصف المهر بالنص، ويرجع أيضًا على الشهود بالنصف الذي ضمن فيسلم الكل. وقوله: ألا ترى أنه لم يجب مهر المثل تامًا؛ إيضاح لقوله: إن ضمان نصف المهر على الشهود لم يكن لقيمة البضع بل لإتلافهم ذلك على الزوج؛ على ما ذكرنا. لما أن جبر النقصان يعتمد القيمة لا الثمن.

فإن من غصب عبدًا مثلًا فقمته ألف درهم وكان استراه مولاه بمئة درهم، فعلى الغاصب عند الهلاك يجب الألف لا المائة باعتبار أنه يجب عليه قيمة العبد لا المسمى، وههنا أيضًا كذلك لو كان ما وجب على الشهود باعتبار قيمة البضع لوجب عليهم مهر المثل تامًا؛ لأن قيمة البضع. (لكن المسمى الواجب بالعقد لا يستحق تسليمه) أي تسليم المسمى الواجب بالعقد يعني أن المعقود عليه إذا فات قبل القبض لا يجب شيء، كالمبيع إذا هلك قبل القبض لا يجب على المشتري شيء بل ينتقض البيع، وكذلك في باب النكاح إذا فات المعقود عليه وهو حل بضع المرأة بسبب ليس هو من قبل الزوج لا يجب على الزوج شيء أيضًا، كما إذا مكنت ابن زوجها أو ارتدت- والعياذ بالله- وههنا فات المعقود عليه عن الزوج قبل التسليم إليه بسبب ليس هو من قبل الزوج، ينبغي ألا يجب عليه شيء، لكن وجب عليه نصف المهر بشهادة الشاهدين؛ لأنهما أثبتا على الزوج شببًا مفوتًا جاء من قبله

بالنكاح فهمًا بالإضافة إليه صار كالملزمين عليه نصف الصداق حكمًا، أكأنهما فوتا على لزوج يده في ذلك النصف بعد فوات تسليم البضع، فيكونان بمنزلة الغاصبين في حقه، فيجب عليهما ضمانه، وهذا لأنهما لما رجعا عن شهادتهما زعما أنهما قصرا يده عن هذا المقدار من المال، فيجب عليهما ضمانه، وقيمة الشيء قضاء له لا محالة؛ لأنها مثله في المالية ويخرج بها عن عهدة ضمانه، والقضاء إسقاط الواجب بمثل من عنده. (وصح تسليمه) أي تسليم العبد باعتبار أنه معلوم من وجه بالصرف إلى الوسط في جنس العبيد، (فصارت القيمة مزاحة للمسمى) أي كان للقيمة جهة الإصالة أيضًا (من هذا الوجه) كالمسمى يعني كما كان المسمى أصلًا كانت القيمة أيضًا أصلًا، فلذلك تجبر المرأة على القبول إذا أتى الزوج بأيهما كان، ولكن لما كانت قيمة الشيء مثله كان في تسليمها جهة القضاء أيضًا، لوجود حد القضاء فيه، فلما كان حد القضاء فيه موجودًا من هذا الوجه كان جانب حقيقة القضاء فيه راجحًا، فلذلك كان قضاء في حكم الأداء لا أداء في حكم القضاء. بخلاف العبد العين أو المكيل أو الموزون إذا كان موصوفًا أو

معينًا؛ لأن المسمى معلوم بعينة وصفته، فتكون القيمة بمقابلته قضاء ليس في معنى الأداء، فلا تجبر على القبول إذا أتاها به إلا عند تحقق العجز عن تسليم ما هو المستحق كما في ضمان الغصب. كذا ذكره الغمام شمس الأئمة- رحمه الله-. (ومن قضية الشرع) أي ومن مقتضى حكمة الأمر (في هذا الباب) أي باب الأمر (أن حكم الأمر موصوف بالحسن عرف ذلك بكونه مأمورًا به) أي لم يعرف كون المأمور به حسنًا، لا من حيث اللغة، فإن صفة الأمر كما يجيء من أمن يؤمن كذلك يجيء من كفر يكفر، ولا من حيث (العقل)، فإن العقل غير موجب لحسن الشيء ولا لقبحه عندنا خلافًا للمعتزلة، بل هو معرف على ما يجيء بل عرف حين المأمور به من قضية حكمة الآمر في الشرع؛ لأن الشارع حكيم، والحكيم لا يأمر بالقبيح، وهذا الذي ذكر إنما ذكره لمناسبة الباب.

باب بيان صفة الحُسن للمأمور به (ضرب لا يحتمل سقوط هذا الوصف) أي وصف الحسن لان حسنه لذاته فلا يسقط عنه هذا الوصف لعدم سقوط المأمور وهو يدر مع المأمور به كالتصديق بالقلب في الإيمان بالله تعالى.

(وضرب يقبله) أي يقبل السقوط. يعني يسقط عن المكلف التكليف به لا أن حسنة يسقط عنه؛ لأن حسنه لذاته، فلا يتصور الانفكاك عنه، لكنه يحتمل سقوط التكليف به بعارض الجنون والإغماء وهو الصلاة. (وضرب منه ملحق بهذا القسم) كالزكاة والصوم والحج، وقوله: بهذا القسم؛ أي بالذي حسن لمعنى في نفسه. (وما حسن لغيره وذلك الغير قائم بنفسه مقصودًا) وهو الصلاة بعد الوضوء قائمة بنفسها مقصودة (لا تتأدى بالذي قبله بحال) أي لا تتأدى

الصلاة بفعل المأمور به الذي قبلها وهو الوضوء في كل حال، وهذا احتراز عن الضرب الذي بعده وهو الجهاد وصلاة الجنازة، فإنهما صارا حسنين بسبب قهر الكفرة وقضاء حق المسلمين، فغنهما يتأديان بفعل نفس المأمور به وهو الجهاد وصلاة الجنازة. (وضرب منه حسن لحسن في شرطه بعد أن كان حسنًا لمعنى في نفسه أو غيره) يعني يكون المأمور به حسنًا باعتبار أنه مأمور به صدر من حكيم، ويكون ذلك المأمور به حسنًا أيضًا باعتبار شيء آخر غيره، وهو كون القدرة الممكنة شرطًا له، ويجوز أن يكون الشيء حسنًا لمعنى في نفسه وحسنًا أيضًا لمعنى في غيره كما إذا قال: والله لأصلين ظهر هذا اليوم. كان الظهر حسنًا باعتبار أنه مأمور به، وحسنًا أيضًا باعتبار معنى في غيره وهو البر في يمينه تعظيمًا لاسم الله تعالى. ولهذا أيضًا نظير في الحسيات كامرأة حسناء في نفسها خلقة ثم إذا لبست أثوابًا فاخرة رائقة وزينت نفسها مع ذلك بأنواع من الزين كانت هي حسنة في نفسها حسنة لمعنى في غيرها. (وهذا القسم يسمى جامعًا)؛ لأنه يجمع النوعين مع ضروبهما، ثم إنما أورد هذا القسم في النوع الثاني مع أنه جامع للنوعين لحصل الزائد من الغير

فكان مناسبًا للنوع الثاني؛ إلا أن هذا الغير لا يختص بالنوع الثاني، بل يشمل النوعين فسمي جامعًا. (وهو ركن لا يحتمل السقوط) أي سقط وصف الحسن. (حتى إذا تبدل بضده بعذر الإكراه لم يعد كفرًا) يعني إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان (لأن اللسان ليس معدن التصديق)؛ لأنه لو كان اللسان معدنًا للتصديق يلزم أن يكون إقرار المنافق إيمانًا؛ لأنهم {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قال الله تعالى في مقابلة شهادتهم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}. فعلم أن اللسان ليس معدن التصديق (فكان ركنًا دون الأول) أي كانت ركنية الإقرار أحط رتبة من ركنية التصديق في ماهية الإيمان؛ لسقوط وصف الحسن عن الإقرار في وقت من الأوقات، وهو وقت الإكراه وعدم سقوط وصف الحسن عن التصديق في كل الأوقات، ولكن مع ذلك فوات الإقرار من غير عذر يدل على فوات الإيمان، فكان الإقرار أدنى درجة من التصديق وأعلى درجة من سائر العبادات، فكان التصديق والإقرار ركنين في ماهية

الإيمان إلا أن التصديق أعلى الركنين والإقرار أدناهما، فصار كالقيام مع القراءة في حق الصلاة، فكان الإقرار مع ذلك ركن الإيمان وجودًا وعدمًا، فإن وجوده يدل على وجود الإيمان، فواته في حالة الاختيار- أي تبديله بغيره- يدل على فوات الإيمان. وقوله: (فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنًا) هذا الذي ذكره هو مذهب المحققين من الفقهاء، وأما عند أهل الكلام فهو مؤمن عند الله تعالى. وقال في ((الكفاية)) وقال المحققون من أصحابنا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان شرط إجراء الاحكام في الدنيا، حتى إن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى لوجود التصديق غير مؤمن في أحكام الدنيا لعدم الإقرار.

(من لم يصادف وقتًا يتمكن فيه من البيان) بان كان معتقل اللسان (فكان مختارًا في التصديق) أي قبل ظهور البأس وقبل أن يرى ملائكة العذاب (كان مؤمنًا إن تحقق ذلك) وإنما ذكر تحققه بحرف الشرط لندرة ذلك التحقق. وقوله: (وكالصلاة) وهو نظير القسم الثاني من النوع الاول بدليل إعادة كلمة التشبيه كما في قوله: فنحو الإيمان؛ وأما الإقرار فهو أحد نوعي القسم الأول من النوع الأول، فكان التصديق والإقرار معًا نظير القسم الأول من النوع الأول (حتى سقطت بأعذار كثيرة) كالجنون والإغماء والحيض والنفاس. (إلا أنها ليست بركن في الإيمان) أي عندنا حتى أن فوتها وتفويتها مع الاختيار لا يدل على فوات الإيمان، إذا كان الاعتقاد مع فرضيتها موجودًا بخلاف الإقرار، فإن ذلك دليل التصديق وجودًا وعدمًا. وأما الصلاة فلا تكون دليل التصديق وجودًا وعدمًا، وقد تدل على ذلك إذا أتى بها على هيئة مخصوصة، ولهذا قلنا إذا صلى الكافر بجماعة المسلمين يحكم بإسلامه.

(فإن الصوم صار حسنًا لمعنى قهر النفس، والزكاة لمعنى حاجة الفقير) - إلى أن قال- (إلا أن هذه الوسائط غير مستحقة لأنفسها)؛ لانها كانت بخلق الله تعالى إياها على هذه الصفة، فلذلط كانت الزكاة والصوم والحج في المعنى من النوع الذي هو حسن لمعنى في عينه لكون هذه الوسائط مما لا اختيار له. فإن قلت: لم جعلت هذه الوسائط وسائط حتى جعلت هذه المأمور بها وهي الزكاة والصوم والحج من القسم الثالث، ولم جعل الصلاة من جملتها مع أن واسطة القبلة موجودة فيها أيضًا، وتلك الواسطة مما لا اختيار لها كما في هذه الوسائط أيضًا، ومع ذلك جعلت الصلاة نظير القسم الثاني من النوع الأول على ما ذكرت؟ قلت: جواب هذا مع ما يتلاحق به موفى في ((الوافي)).

(فصار هذا كالقسم الثاني) أي صار القسم الثالث وهو الزكاة ونحوها كالقسم الثاني وهو الصلاة حتى (شرطنا لها أهلية كاملة) من العقل والبلوغ؛ لأن ما لم يكن عبادة خالصة يجوز أن يجب على الصبي والمجنون وما كان عبادة خالقة كالصلاة والزكاة لا يجب عليهما فشرطت الأهلية الكاملة في العبادات الخالصة ابتلاء بخلاف حقوق الناس حيث يجب عليهما عند وجود سببها؛ لأن وجوب ذلك لم يكن ابتلاء بل لإحياء حققهم وجبر ما نقص من حاجاتهم. (وقط لا يتأدى به الجمعة) أي لا تتأدى الجمعة بالسعي نفسه بل بفعل مقصود بعده وهو إقامة الجمعة، بخلاف الجهاد حيث يتأدى المقصود الذي هو المحسن وهو إعلاء كلمة الله تعالى بالجهاد نفسه.

وقوله: (وكذلك الوضوء عندنا) أي ليس هو بفرض مقصود، وبين ذلك بقوله: (ليست بعبادة مقصودة). (ولا يتأدى به الصلاة بحال) أي لا يسقط فرض بمجرد الوضوء. (وتستغني عن صفة القربة في الوضوء) أي وتستغني الصلاة عن وجود النية في الوضوء. (أن الصلاة تستغني عن هذا الوصف) أي عن وصف النية في الوضوء بان يكون الوضوء منويًا. (لكنه خلاف الخبر) وهو قوله عليه السلام: ((الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال)) كذا في ((المصابيح)).

(ولما كان المقصود يتأدى بالمأمور به بعينه كان شبيها بالقسم الأول) أي لما كان المقصود وهو إعدام الكفر وقضاء حق الميت يتأدى بنفس الجهاد ونفس الصلاة على الميت كان نفس الجهاد ونفس الصلاة على الميت شبيهًا بالذي هو حسن لمعنى في نفسه كالإيمان والصلاة. بخلاف الوضوء مع الصلاة، ف'ن الصلاةً لا تتأدى بنفس الوضوء. (وأما الضرب الثالث فمختص بالأداء) أي الضرب الذي هو حسن لحسن في شرطه وهو الضرب الجامع للنوعين. يشترط وجود ذلك الشرط في حق الأداء (دون قضاء) أي يبقى القضاء واجبًا في ذمة المكلف بدون ذلك الشرط الذي هو (عبارة عن قدرة يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه وذلك شرط الأداء) أي شرط لتحقق الأداء، وذلك لأن القدرة مقارنة للفعل؛ لأن الفعل لا يتصور بدون تلك القدرة فيتوقف الفعل على تلك القدرة.

فأما كون الفعل مأمورًا به وكونه واجبًا عليه فلا يتوقف على تلك القدرة بل يتوقف ذلك على سلامة الآلات وصحة الأسباب، فتكون القدرة الحقيقية شرطًا لوجود الفعل لا لكون الفعل مأمورًا به، فإن المأمور به يؤمر به قبل أن توجد تلك القدرة. ومعنى قوله: (وذلك شرط الأداء دون الوجوب) أي شرط تحقق الأداء لا شرط نفس الوجوب بالدليل وجوب الصلاة على النائم والمغمى عليه فيما إذا أغمي دون يوم وليلة. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمة الله- فإن الواجب أداء ما هو عبادة، وذلك عبارة عن فعل يكتسبه العبد عن اختيار ليكون معظمًا فيه ربه فينال الثواب، وذلك لا يتحقق بدون هذه القدرة. غير أنه لا يشترط وجودها وقت الأمر لصحة الأمر؛ لأنه لا يتأدى المأمور به بالقدرة الموجودة وقت الأمر بحال، وإنما يتأدى بالموجود منها عند الأداء وذلك غير موجود سابقًا على الأداء، فإن الاستطاعة لا تسبق الفعل وانعدامها عند الأمر لا يمنع صحة الأمر، ولا يحرجه من أن يكون حسنًا بمنزلة انعدام المأمور، فإن النبي عليه السلام كان رسولًا إلى الناس افة. قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)؛ وقال: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) ولا شك أنه أمر جميع من أمرسل إليهم بالشرائع، ثم صح الأمر في

حق الذين وجدوا بعده، ويلزمهم الأداء الأداء بشرط أن يبلغهم فيتمكنوا من الأداء. قال الله تعالى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) فكما يحسن الأمر قبل وجود المأمور يحسن قبل وجود القدرة التي يتمكن بها من الأداء، ولن يشترط التمكن عند الأداء. ألا ترى أن التصريح بهذا الشرط لا يعدم صفة الحسن في الأمر، فإن المريض ي} مر بقتال المشركين إذا برأ، فيكون ذلك حسنًا. قال الله تعالى: (فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي إذا آمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ولا مشي. (وهو نوعان) أي الضرب الثالث الذي هو عبارة عن القدرة نوعان: (مطلق وكامل) المراد من المطلق: القدرة الممكنة وهي أدنى ما يتمن به المأمور من أداء ما لزمه. ومن الكامل: القدرة الميسرة وهي زائدة على الأولى بدرجة، (وهذا فضل ومنة من الله تعالى عندنا). فإن قلت: إن نفس الأداء لا يتحقق بدون هذه القدرة. إذا الأمر بدون هذه

القدرة كان تكليف ما ليس في الوسع، وقد تبرأ الله تعالى عنه بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فاشترط هذه القدرة حينئذ كان عدلًا لا فضلًا فكيف سماه فضلًا؟ قلت: إنما قال هذا فضل من الله تعالى؛ لأن الله تعالى يعطي ما يعطي لعباده لا عن وجوب عليه، فكيف فضلًا من هذا الوجه، ولا تنافي بين العدل والفضل عند اختلاف الجهة، فكان ما أعطى العبد من القدرة فضلًا منه من حيث إنه لا يجب عليه شيْ لما أن الأصلح على الله تعالى ليس بواجب وعدلًا وحكمة من

حيث إنه لا يتأتى هذا الفعل من العبد بدونه كما ذكره في (التقويم). ولكن ما ذكره المصنف - رحمه الله - أحسن في العبارة ليكون إشارة إلى مذهبنا بأن الله تعالى متفضل بكل ما أعطى العبد من النعم، ولأن العدل إنما يستعمل في عقوبة الجاني بقدر جنايته لا زائد عليها، ولما كان ذر الفضل ذكرا يختص بمذهبنا خلافًا للمعتزلة لما عرف في مسألة الأصلح. قال عندنا، (حتى أجمعوا أن الطهارة بالماء لا تجب على العاجز عنها ببدنه) وتأويله إذا لم يجد من يعينه فإن وجد من يعينه إن كان ذلك حرا يجوز التيمم عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - لأنه عاجز عن الطهارة بالماء ببدنه ولا يجب على الحر إعانته، وعندهما لا يجوز التيمم؛ لأنه قادر على التوضيء

أصله الأعمى إذا وجد قائدًا هل يجب عليه الجمعة، فإن وجد مملوكًا بعينه؟ فعندهما لا يجوز التيمم بالطريق الأولى، وعند أبي حنيفة - رحمة الله - يجوز له التيمم في رواية ولا يجوز له في أخرى؛ لأن مملوكه بمنزلة يديه. (إلا بنقصان يحل) به بأن اشتد مرضه (أو بماله في الزيادة) بأن يكون على ضعف قيمته بأن كان في موضع، ثمن ماء يتوضأ به درهم وهو لا يجد إلا بدرهمين فإنه يتيمم، ولو وجده بدرهم ونصف فإنه يشتريه. كذا ذره في (المبسوط). وقوله (وفي مرض) معطوف على قوله: في الزيادة؛ أي لا تجب الطهارة بالماء من عجز عن استعمال الماء إلا بنقصان يحل بماله في حق الزيادة على ثمن مثله أو بنقصان يحل ببدنه في حق مرض (يزداد به) أي بسبب استعمال الماء، وحاصله أن الله تعالى كما نفى تكليف ما ليس في الوسع بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) كذلك نفي الحرج بقوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فما يوجب الحرج في نفسه أو ماله كان منفيًا.

(لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة) وهي القدرة الممكنة. وحاصل هذا أن من كان مأمورًا بفعل في زمان كالإيمان بالله تعالى في دار الدنيا، زكالأضحية في أيام العيد، أو في مكان كذبح الهدايا في الحرم وغيرها لا بد أن يكون المأمور قادرًا على تحصيل المأمور به على الحقيقة؛ لأن تكليف ما ليس في الوسع ليس بحكمة؛ لأن التكليف ابتلاء وإنما يحصل الابتلاء بقدرة المكلف. إن أتى بالمأمور به يثاب وإن تركه يعاقب. ألا ترى أنه لا يجوز أن يؤمر المقعد بالمشي والأعمى بالإبصار بالعين، والآدمي بالطيران؛ لأن كلًا منهم ليس بقادر على تحصيل ما أمر به. إذا عرف هذا فنقول: من كان مأمورًا بالإيمان لم يكن له بد من القدرة على اكتساب الإيمان، وتلك القدرة تعتمد سلامة الآلات وصحة الأسباب، فكان التكليف دائرًا بتلك القدرة لا بالقدرة الحقيقية التي تقارن الفعل إذ لو كان كذلك ينبغي ألا يكون أحد مأمورًا بالفعل قبل وجود الفعل؛ لأن تقديم المشروط على الشرط محال وهذا لا يجوز؛ لأنه مأمور بالإيمان قبل حصول تلك القدرة بالإجماع، وكذلك من كان مأمورًا بالطهارة بالماء لا بد له من القدرة على تحصيل الطهارة بالماء وذلك بسلامة الآلات والأسباب، وذلك من كان مأمورا بأداء ركعتين أو أزيد منه في الوقت لم يكن بد من القدرة على تحصيل ما أمر به وذلك بسلامة الآلات والأسباب وكذلك في غيرها. وقال زفر - رحمه الله - لما كان هذا الأصل مستقرًا إذا أسلم الكافر في آخر الوقت أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون، ولم يبق من الوقت إلا مقدار تسع فيه

التحريمة فقط لا قضاء عليهم؛ لأنهم لم يقدروا على تحصيل ما أمروا به في الوقت، والقضاء خلف الأداء، فإذا لم يكن الأداء مقدورًا لهم لم يثبت القضاء كما وجد هذه الأشياء بعد انقضاء الوقت. لكن أصحابنا قالوا: القياس ما ذكرت إلا أنا استحسنا وجوب القضاء عليهم؛ لأن القدرة الحقيقية التي هي المقارنة للفعل ليست بشرط لوجوب القضاء عليهم بالاتفاق فبعد ذلك نقول: لما لم تكن القدرة المقارنة شرطًا لوجوب القضاء وقد وجد هنا سبب أصل الوجوب وهو جزء من الوقت وأصل الوجوب لا يفتقر لإلى القدرة ووجوب الأداء مفتقر إلى القدرة لكون الأداء مطلوبًا منه، وما ذكرت من القدرة شرط لتكليف الأداء في الوقت، وهؤلاء لم يخاطبوا بالأداء في الوقت لعدم القدرة على ذلك، ولكن توهم القدرة كاف لوجوب الأداء ليظهر أثره في حق وجوب القضاء، والقدرة على هذا التفسير متوهمة؛ لأن الله تعالى قادر على أن يوقف الشمس فيمتد الوقت فيؤدي هو في الوقت إلا أنه لما كان المأمور عاجزًا عن الأداء في الوقت في الحال لم يخاطب بالأداء في الوقت، وتعتبر هذه القدرة في حق وجوب القضاء؛ لأن القضاء خلف وشرط الخلف عدم الأصل في الحال مع إمكان الأصل في الجملة وقد وجد هنا، وهذا أصل واضح لعلمائنا فإنهم قالوا: إذا حلف ليمس السماء أو ليقبلن هذا الحجر ذهبًا انعقدت اليمين للبر وهو الأصل، لكنه لما كان عاجزًا في الحال وجب القول بوجوب الخلف وهو الكفارة؛ لأن الأصل ممكن.

ألا ترى أن الأصل إذا لم يكن ممكنًا وهو البر لم يثبت الخلف وهو الكفارة كما في اليمين الغموس، فصارت القدرة على هذا التقرير نوعين: قدرة ثبتت للمكلف على تحصيل ما كلف به وهي عند سلامة الآلات وصحة الأسباب وهذه القدرة ثبت أثرها في لزوم الأداء في الوقت فإذا فات يجب القضاء. وقدرة متوهمة غير مقدوره للعبد على ما هو العادة فتعتبر هذه القدرة في حق وجوب الأداء ليثبت ذلك الوجوب في حق الخلف، والشيء قد يثبت تقديرًا وإن لم يثبت تحقيقًا. ألا ترى أن القادر على استعمال الماء حقيقة يقدر عاجزًا تقديرًا كما في الماء المعد لدفع العطش، وكالنائم يعد قادرًا على الأداء تقديرا حتى يظهر أثر ذلك في حق وجوب القضاء، بخلاف ما إذا انقضى الوقت ثم وجد ما ذكرنا من الإسلام وغيره؛ لأن القدرة في الحال في الزمان الماضي من المستحيلات فلم يمكن أن يعد قادرا، ثم ما ذكرنا من نوعي القدرة ليس بشرط في وجوب القضاء. ألا ترى أنه في النفس الأخير من العمر يلزمه تدارك ما فاته وليس هو بقادر على تحصيل ما أمر به في القضاء ولهذا يبقى عليه بعد الموت، وليس ذلك كالجزء الأخير من الوقت في حق الأداء؛ لأنا اعتبرنا تلك القدرة ليظهر أثرها في حق الخلف ولا خلف للخلف، فلم تعتبر وقد بقيت الفوائت عليه.

فعلم أن القدرة مختصة بالأداء. قوله: (لأن تمكن السفر المخصوص به) أي بالحج (لا يحصل بدون) الزاد والراحلة (في الغالب) فلذلك كانت القدرة الممكنة في الحج القدرة على الزاد والراحلة، ولا يقال بل دون هذه القدرة قدرة أدنى منها قد يتمكن المرء من أداء الحج وهي صحة البدن التي يقدر بها على تحصيل الزاد في الطريق بالاكتساب ويقدر أيضا على المشي حتى صح النذر به، وقد نرى وجود الحج بهذه الطريقة، والقدرة الممكنة هي أدنى ما يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه فينبغي أن يجب الحج على الصحيح البدن المكتسب؛ لأنا نقول: لا يجب الحج على من لا يملك الزاد والراحلة. إذ لو قلنا بوجوبه على من هذا صفته يقع الناس في غاية الحرج، والله تعالى نفى ذلك بنص كتابه بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والذي اعتبرناه في الصلاة من توهم القدرة وإن كان لا يتحقق الأداء من مثل ذلك القادر غالبا ليظهر أثره في خلفه وهو القضاء لا لعين الأداء، فإن عين الأداء منه غير مطلوب. وأما في صورة الحج فلا يمكن مثل هذا القول؛ لأنه لا خلف هناك ينتفي الحرج عند مباشرة ذلك الخلف. (حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن سقط الواجب بالإجماع)

هذا إيضاح ما ذكره بقوله: فأدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه بدنيا ان أو ماليا (وهذا في المالي؛ لأنه لما لم يتمكن من أداء ما لزمه وهلك المال قبل التمكن لم يحصل له من القدرة أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه، فلذلك سقط الواجب، أي لم يجب عليه ما له عرضية الوجوب، وإنما قلنا هذا؛ لأن عندنا لا يجب عليه الواجب إلا عند وجود القدرة الممكنة وهي لم تحصل له، وكذلك عند الشافعي فإن عنده لا تجب الزكاة إلا بثلاث شرائط: كمال النصاب، وحولان الحول، والتمكن من الأداء كذا ذكره في (المبسوط). وصورة ذلك في ابن السبيل إذا كان له نصاب في بيته وحال الحول عليه فوجب عليه أداء الزكاة إذا بلغه، وإذا هلك النصاب قبل البلوغ إليه سقط الواجب بالإجماع. (ولهذا قال زفر في المرأة تطهر من حيضها أو نفاسها) إلى آخرة هذا إيضاح أيضا لما ذكر أن أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه من القدرة شرط خطاب الأداء، وهؤلاء لما لم يدركوا وقتا صالحا للأداء غالبا لم يخاطبوا به فلذلك لم يلزمهم قضاؤه لانعدام الشرط وهو التمكن من الأداء غالبا لا نادرا ولكن علماؤنا قالوا: يلزمهم أداء الصلاة استحسانا؛ لأن السبب

الموجب جزء من الوقت وشرط وجوب الأداء كون القدرة على الأداء متوهم الوجود لا كونها متحقق الوجود. وقوله: (بعد تمام الحيض) أي بعد العشرة أي تشترط حقيقة الطهر في جزء من الوقت بأن يكون أيامها عشرة (أو دلالة انقطاعه) بأن يون أيامها دون العشرة، فينقطع الدم، والباقي من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل فيه وتتحرم للصلاة. وذر المصنف - رحمه الله - في كتاب حيض له مفرد: إن مدة الاغتسال من الحيض إذا كانت أيامها دون العشرة، ويتفرع عن هذا الأصل مسائل: أن الزوج إذا راجعها في تلك المدة في الحيضة الأخيرة من العدة تصح، ولا يجوز للزوج قربانها في تلك المدة، وإذا كانت أيامها عشرة ليس كذلك، حتى يجوز للزوج قربانها في تلك المدة ولا تصح الرجعة. وقوله: (قبل تمامه) أي تمام الحيض وتمامه بالعشرة، وهذا لأن في أوامر العباد صفة الحسن ولزوم الأداء يثبت بهذا القدر من القدرة، فإن من قال لعبده: اسقني ماء غدا يون أمرا صحيحا موجبا للأداء فلا يتعين للحال بأنه

يقدر على ذلك في غد لجواز أن يموت قبله أو يظهر عارض يحول بينه وبين التمكن من الأداء، فكذلك في أوامر الشرع وجوب الأداء يثبت بهذا القدر. (وكذلك في سائر الفصول) أي في فصل الصبي، وفصل الكافر، وفصل المسافر بأن بلغ وأسلم وأقام. وقوله: (لكن توهم القدرة) أي القدرة الممكنة (يكفي لوجوب الأصل) أي لوجوب الأداء. (والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول) أي يحمل على أن المأمور به حسن لعينه، ولا يحمل على أنه

حسن لغيره، ولكن يحتمل أن يكون حسنا لغيره على ما ذكر. فإن قلت: في أي موضع صورة هذه المسألة؟ إن قلت: في العبادات، فقد ذكر قبيل هذا بطريق التفصيل أن هذا من قبيل الحسن لمعنى في عينه كالإيمان، وأن هذا من قبيل الحسن لمعنى في غيره كالسعي إلى الجمعة وغيره. وإن قلت: في غير العبادات فتعليله في الكتاب بقوله: وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى يرد ذلك. قلت: الكلام مجرى على إطلاقه فيدخل تحته العبادات وغيرها، وما ذكره أولا بطريق التفصيل كان جزئيا وهذا كلي والكلي غير الجزئي خصوصا عند احتمال غير ذلك. ألا ترى أن مثل هذا مذكور في حق الوجوب فإن صور الواجبات في العبادات مذكورة بطريق التفصيل أن هذا العبادات واجبة أي فريضة كالصلوات الخمس وواجبة عملا لا علما كالعمرة والأضحية وهذه العبادات غير واجبة كالنوافل، ثم ذكر أن مطلق الأمر يحمل على الوجوب باعتبار هذا المعنى أن هذا كلي وذاك جزئي والكلي غير الجزئي، والعلم بالجزئي لا يون علما بالكلي وكذا في عكسه، فإن النادبين والمبيحين والواقفين في الأمر المطلق يعرفون وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم وهي جزئية، ولا

يعرفون وجوب الأمر المطلق وهو كلي، وكذا في عكسه أن كل أحد كان يعرف وجوب شكر المنعم وحظر الكفران، وكان لا يعرف بطريق التفصيل قبل ورود الشرع أن الصلاة والزكاة وغيرهما من قبيل شر المنعم أم لا؟ ونكاح المحارم وسائر المحرمات من النساء من حظر الكفران أم لا؟ وكذلك كل أحد يعرف بطريق الإجمال أن جواب الفتوى إما أن يكون نعم أم لا، ولكن لا يعلم بطريق التفصيل أن جواب هذه الفتوى المعينة نعم أم لا؟ إلا بعد زيادة المجاهدة في التحصيل، وترك أمر الدنيا في التعطيل، ولأن المرء قد يحتاج في التمسك في مسألة من المسائل بمطلق الأمر إلى معرفة أن هذا حسن لمعنى في عينه؛ لأن هذا ثابت بمطلق الأمر، ومطلق الأمر يقتضي ذلك كما نقول مثل ذلك في التمسك بالوجوب. وقوله: (لأن كمال الأمر) والأمر إنما يكمل بحسب كمال ولاية الآمر، ولا آمر أمل ولاية من الشارع، فكان أمره أكمل الأوامر يقتضي كمال صفة المأمور به، وصفة المأمور به إنما تكمل إذا كان حسنه لمعنى في عينه، وإن شيءت معرفته فتأمل في كمال صفة الإيمان مع غيره من المأمور بها كيف ترجح الإيمان على غيره من العبادات، وما ذاك إلا باعتبار أن حسنه ذاتي بحيث لا ينفك عنه أصلا، وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى وهو معنى كون المأمور به حسنا لعينه، وهذا لأن العبادة عبارة عن نوع فعل ابتلي الآدمي بفعله تعظيما لله تعالى مختارا لطاعته على خلاف هوى نفسه. كذا ذكره في (التقوي).

لو تعظيم من هو مستحق التعظيم لمعنى في عينه. وقال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - والأصح عندي أن بمطلق الأمر يثبت حسن المأمور به لعينه شرعا فإن الأمر لطلب الإيجاد وبمطلقه يثبت أقوى أنواع الطلب وهو الإيجاب، فيثبت أيضا أعلى صفات الحسن لأنه استعباد فإن قوله تعالى: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وقوله: (اعْبُدُونِي) هما في المعنى سواء، والعبادة لله تعالى حسنة لعينها. (ويحتمل الضرب الثاني) وهو كون المأمور به حسنا لمعنى في غيره كما في أمر الوضوء، وهذا لأن ثبوت هذه الصفة بطريق الاقتضاء؛ لأن حسنه إنما ثبت لضرورة أن الآمر حكيم، والثابت بطريق الاقتضاء إنما يثبت ما هو الأدنى في ذلك الباب، والأدنى هو الحسن لمعنى في غيره. (وعلى هذا قال الشافعي وهو قول زفر) أي وعلى كون الأمر المطلق مقتضيا صفة الحسن لمعنى في عينه. (دل على صفة حسنه) أي على صفة حسن الجمعة لعينها، ومن ضرورته لم يكن الظهر مشروعا في وقتها لمن وجبت عليه الجمعة.

(حتى قالا: لا يصح أداء الظهر من المقيم مالم تفت الجمعة) إلا أنهما اختلفا في تحقق فوات الجمعى، فعند زفر يتحقق فوتها بفراغ الإمام من صلاة الجمعة، وعند الشافعي بخروج الوقت، واختلافهما هذا بناء على أصل وهو أن السلطان شرط عند زفر - رحمه الله - لإقامة الجمعة، وعند الشافعي ليس بشرط، فكان فوات الأصل وهو الجمعة بخروج الوقت. (صار الظهر حسنا) أي صار حسنا لمعنى في عينه على وجه ينفي حسن غيره؛ لأن حسن الشيء لعينه يقتضي الكمال والكمال في أن يكون هو متعينا لا يزاحمه غيره إذ عند المزاحمة لا يبقى الكمال. فلذلك إذا أدوا صلاة الظهر ثم أدوا صلاة الجمعة لا تنقض ظهرهم بأداء الجمعة فكان المريض والعبد والمسافر بمنزلة من صلى الظهر في بيته، ثم أدرك الجماعة كان فرضه ما أدى في بيته فكذلك ههنا؛ لأن هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام، ولو اكتفوا أيضا بأداء الجمعة لا يخرجون عن عهدة فرض الوقت، ولكنا نقول: الجمعة أقوى من الظهر، ولا يظهر الضعيف بمقابلة القوي، وإنما فارق المريض الصحيح في الترخص بترك السعي إلى الجمعة،

فإذا شهدها فهو والصحيح سوا، فيكون فرضه الجمعة كما في الصحيح. كذا في (المبسوط). (قلنا نحن: لا خلاف في هذا الأصل) وهو أن المقيم الصحيح مأمور بعد الزوال يوم الجمعة بأداء الجمعة. (لن الشأن في معرفة كيفية الأمر بالجمعة) يعني على طريق نسخ حسن الظهر كما هو مذهب الزفر والشافعي - رحمهما الله - أو على تقرير حسن الظهر كما هو مذهبنا. (فصار ذلك مقررا لا ناسخا) أي صار الأمر بأداء الجمعة مقررا للظهر لا ناسخا له. (وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر بإسقاطه بالجمعة) أي الصحيح المقيم أمر بنقض الظهر عنه بأداء الجمعة كما أمر بإسقاط الظهر عنه بأداء الجمعة قبل أدائه.

(وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر بإسقاطه بالجمعة) أي الصحيح المقيم أمر بنقض الظهر عنه بأداء الجمعة كما أمر بإسقاط الظهر عنه بأداء الجمعة قبل أدائه. (وإنما وضع عن المعذور). هذا جواب عن قولهما بأن المريض والعبد والمسافر لم يخاطبوا بالجمعة على وجه المنع. لا نسلم أنهم لم يخاطبوا بالجمعة بل خوطبوا بها؛ لأن قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) عام متناول للجميع، ولكن سقط عنهم وجوبها رخصة وترفيها في حقهم، فإذا أدوا الجمعة عملوا بالعزيمة فيصح. وقوله: (فلا يبطل به العزيمة) أي فلا يبطل بأداء الظهر وهو الرخصة، العزيمة التي هي الجمعة. (وإنما قلنا إن الضرب الثالث من هذا القسم) أي من الذي حسن لمعنى في شرطه. (حكما لتقصيره) أي زجرا لتقصيره. (فضلا من الله تعالى) كيلا يكون تكليف العاجز (فلم يشترط لبقاء الواجب)

كالشهود في باب النكاح فإنه شرط لصحة انعقاد النكاح لا لبقائه، وهذا لأن القدرة الممكنة شرط وجوب الأداء لئلا يكون بدونها التكليف ما ليس في الوسع، فلما وجب الأداء عند وجود هذه القدرة التي هي أدنى ما يتمكن به المرء من أدائه بقي ذلك الواجب قضاء في ذمة المكلف وإن لم يبق تلك القدرة؟ لما أن القضاء يجب بالسبب الذي وجب به الأداء، فكان الواجب في القضاء عين ذلك الواجب الذي كان في الأداء فلا يتكرر الشرط في مشروط واحد، فلما كان كذلك كان وجوب الصلاة بالقدرة الممكنة في أصله، فلم يشترط في حال القضاء ما شرط في حال الأداء حتى أنه إذا ترك الصلاة في عنفوان شبابه ثم كبر وانحنى وبم يقدر على قضائها قائما فصلى القضاء قاعدا أو بإيماء يجزيه، لأن الأداء ما وجب في أصله بقدرة ميسرة بل بقدرة ممكنه من الفعل قيبقى كذلك فيخرج عن عهدة القضاء إذا قضاها بالقدرة الناقصة. أو نقول: فلم تشترط القدرة لبقاء الواجب؛ لأن بقاء الشيء غيره بدليل صحة إثباته مع نفي بقائه بأن يقال وجد ولم يبق، فلو كان بقاء الشيء عين ذلك الشيء لما صح ذلك، كما لا يصح قولك وجد ولم يوجد ولما كان بقاء الشيء غير ذلك الشيء فكان اشتراط القدرة التي شرط الوجوب ابتداء لم يكن شرطا لبقاء ذلك الوجوب؛ لأن الشيء إذا كان شرطاً لشيء لا

يلزم أن يكون شرطا لغيره، ولا يقال يلزم حينئذ تكليف ما ليس في الوسع في حق حال البقاء؛ لأنا نقول: لم نقل بالتكليف ابتداء، بل نقول التكليف الذي وجب ابتداء بشرطه وإنما بقي على عهدته ذلك الواجب بسبب تقصيره وإن لم تبق له قدرة وعدم بقاء القدرة لو كان مسقطا للواجب ينبغي أن تسقط الواجبات عن ذمته بالموت؛ لأنه لا عجز أقوى من الموت، وقد بقيت الواجبات في ذمته بعد الموت في حق الإثم بالإجماع. علم أن العجز غير مسقط للواجب وإن لم تبقى القدرة. (لا تسقط بهلاك المال كما ذكرنا) وهو قوله: لأن هذه القدرة كانت شرطا لوجوب الأداء إلى آخره. (وأما الكامل من هذا القسم) أي من الذي حسن لمعنى في شرطه (وهي زائدة على الأولى) أي في اليسر (بدرجة) وهي درجة التغيير والتيسير، فإن الواجب بالقدرة الميسرة أينما وجب، وجب متغيرا عن أصل القدرة إلى قدرة اليسر فيبقى كذلك على صفة اليسر؛ لأن التغير باليسر صفة له لا شرط، فلا يبقى الموصوف بدون الصفة؛ لأنه حينئذ لا يكون موصوفا بها فيشترط دوامها ليكون موصوفا بها بخلاف القدرة الممكنة فإنها شرط وجوب الأداء لئلا يكون التكليف بدونها تكليف ما ليس في الوسع، وقد وجد الوجوب حال وجود

الممكنة، ثم بعد ذلك لا يشترط بقاء الشرط كما في شهود النكاح إذا ماتوا يبقى النكاح صحيحا وإن لم يبق الشهود لما ذكرنا أن الشرط لا يتكرر في واجب واحد؛ لأن الوجوب في القضاء لم يتكرر فكذا لا يتكرر شرطه هذا هو الفرق الواضح بينهما. (وفرق ما بين الأمرين) أي بين القدرة الممكنة وبين القدرة الميسرة (وهذه لما كانت ميسرة غيرت صفة الواجب). فإن قيل: لم يكن ذلك الواجب واجبا قبل وجود القدرة الميسرة فكيف يصح قوله: غيرت صفة الواجب؟ قلنا: كان لذلك الشيء صلاحية أن يكون واجبا قبل وجود القدرة الميسرة كما في الواجبات بالقدرة الممكنة فسمى لتلك الصلاحية صفة الواجب، أو معنى قوله: غيرت صفة الواجب (الوجوب الذي ثبت بها ابتداء بطريق اليسر والسهولة فسمى لوجوبه بطريق السهولة ابتداء اسم التغيير، (فجعلته سمحا سهلا لينا) وهذا لأن الواجب عند القدرة الممكنة لم يكن بطريق اليسر بل بطريق أنه لا وجود لهذا الفعل إلا عند وجود هذه القدرة، وفيما نحن فيه الله تعالى لطف بعباده وتفضل عليهم حيث لم يوجب عليهم بالقدرة الممكنة مع صلاحية الوجوب بها كما في الواجبات بالقدرة الممكنة بل لم يجب فيما نحن فيه بتلك القدرة، فكان ذلك الواجب في نفسه متغيرا من العسر إلى اليسر

للتسهيل والتليين. ولا يلزم أن النصاب شرط لابتداء الوجوب. وجه الورود هو أنه جعل وجوب الزكاة بالقدرة الميسرة فكان بقاء القدرة شرطا لبقاء الواجب حتى إذا لم تبق تلك القدرة لم يبق الواجب أيضا. فقال: (ولهذا قلنا: الزكاة تسقط بهلاك النصاب) إلى آخره، فورد عليه بقاء وجوب الزكاة بقدرة عند نقصان النصاب، فلو كان وجوب الزكاة بالقدرة الميسرة لما بقي وجوبها عند نقصان النصاب. كما لا يجب ابتداء بنقصان النصاب. فأجاب عنه بهذا، وقال: إن اشتراط النصاب في ابتداء الوجوب كان من القدرة الممكنة؛ لأن هذه القدرة وهي قدرة ملك النصاب لا تغير صفة الواجب من العسر إلى اليسر، فلم تكن تلك القدرة ميسرة بل ممكنة فلذلك بقي الواجب بقدر ما يبقى من النصاب. فإذا قلت: النصاب سبب وجوب الزكاة وهو معروف فكيف قال هاهنا: النصاب شرط لابتداء الوجوب؟

قلت: لا نسلم أن النصاب سبب، بل السبب هو المال مطلقا عند وجود شرطه وهو كون المال مقدرا بمقدار النصاب وناميا وغير ذلك على ما عرف، وذلك لأن السببية إنما تعرف بالإضافة، والإضافة إنما توجد في حق المال مطلقا من غير تغرض لوصف فيقال: زكاة المال، ولا يقال: زكاة النصاب. فعلم بهذا أن معنى قوله: (النصاب شرط لابتداء الوجوب) أي المال المقدر بمقدار النصاب وكون المال مقدرا بمقدار النصاب شرط لوجوب الزكاة لا سبب ككونه ناميا، وهو شرط بالاتفاق فكذا هنا. (فصار ذلك شرطا للوجوب) يعني أن شرط النصاب بمنزلة القدرة الممكنة في حق الصلاة؛ لأن المعنى من القدرة الممكنة أن يثبت للمكلف أصل المكنة وبدونها لا يتمكن من الفعل وهاهنا كذلك؛ لأن النصاب قدرة ممكنة إذ الإغناء لا يتصور من غير الغني فكان الغنى شرطا للإغناء، والغنى إنما يكون بكثرة المال، وليس للكثرة حد تعرف به، فقدر الشرع بحد واحد وهو النصاب، فلم يحصل الغنى بما دون النصاب ولم يحصل الإغناء شرعا أيضا ممن لا يملك

النصاب. إذًا الإغناء من غير الغني لا يتصور كالتعليم من غير العالم، فكان قدر النصاب للإغناء قدرة على هذا الوجه إذ لم يتصور الإغناء ممن يملك شرعا لما لم يتصور وجوب أداء الصلاة بدون القدرة الممكنة، فلذلك لم يشترط دوام النصاب لدوام وجوب الزكاة (لما كان أمرا زائدا على الأهلية الأصلية)، فالأهلية الأصلية لوجوب العبادات: الإسلام والبلوغ عن عقل وزيد على ذلك في الزكاة الغنى، فصار الغنى لوجوب الزكاة شرطا أيضا كالإسلام والبلوغ والعقل لما أن المزيد إنما يكون من جنس المزيد عليه، فلما كان المزيد عليه شرطا للوجوب كان المزيد أيضا شرطا له، أو نقول:: إن الغنى الذي الذي يحصل بملك النصاب لما كان من قبيل القدرة الممكنة في الزكاة كان ذلك بمنزلة القدرة الممكنة في الصلاة، وتلك القدرة في الصلاة شرط وجود الصلاة على العبد، فكذا هذه القدرة كانت شرط وجوب الزكاة على العبد؛ لأن كلا منهما زائد على الأهلية الأصلية التي تحصل بالإسلام والبلوغ عن عقل، وقد ذكرنا أن الذي وجب بشرط شيء ابتداء يبقى واجبا بدون ذلك الشرط كما في القدرة الممكنة في الصلاة، فلذلك بقي وجوب الزكاة وإن لم يبق النصاب كاملا. فإن قيل: هذا الذي ذكرته يقتضي أن يبقى وجوب الزكاة بعد هلاك النصاب أيضا كما هو الحكم في القدرة الممكنة كذلك، والحكم بخلافه هاهنا. قلنا: إنما يلزم هذا الإشكال علينا أن لو شرطنا بقاءه باعتبار القدرة الممكنة، وإنما شرطنا بقاءه باعتبار قيام صفة النماء وهي القدرة الميسرة،

فشرطنا بقاءه للقدرة الميسرة وهي النماء لا القدرة الممكنة وهي النصاب، والدليل عليه أنه إذا هلك بعض النصاب يبقى بعض الواجب ببقاء ذلك البعض ولا يبقى كل الواجب. (وشرط الوجوب) أي وشرط وجوب الأداء وهو الغنى بالنصاب، (حقا لصاحب الحق) وهو الفقير. (فعد) أي فعد المال (قائما)، واستهلا النصاب هو: أن ينفقه في حوائج نفسه أو يتلفه مجانة لأن هذا النصاب كله حق لصاحب الحق في حق الواجب فصار بالاستهلاك متعديا على صاحب الحق فصار ضامنا كمولى العبد الجاني فإنه يخاطب بالدفع أو بالفداء، فإذا هلك العبد من غير منع عن المولى لا يجب على المولى شيء، فصار هلاك النصاب هنا بمنزلة العبد الجاني إذا هلك، وإذا أعتقه المولى أو باعه أو فعل فعلا آخر يتعذر الدفع به يطالب المولى بالفداء؛ لأنه صار جانيا على حق صاحب الحق فصار كأن العبد باق وهو يختار الفداء، فكذلك هاهنا جعل النصاب قائما عند الاستهلاك، فيطالب بأداء الزكاة كما لو كان النصاب قائماً حقيقة.

(والتخيير تيسير)؛ لأن التخيير يثبت الاختيار للمكلف، وإنما يثبت الاختيار شرعا ليترفق بما هو الأرفق له، ويختار ما هو الأهون والأيسر عليه؛ لأنه إذا لم يكن مخيرا ووجب عليه شيء واحد عينا ربما يشق عليه ذلك، ولا يجد شيئا آخر شرعا يقوم مقامه فيعجز، فيبقى في عهدة التكليف ولا يخرج عن عهدة الواجب إلا بمشقة وليس في التخيير بين الشيئين أو الأشياء كذلك وهو ظاهر، ولا يرد على هذا التخيير في صدقة الفطر مع أن ذلك من القدرة الممكنة لا من الميسرة؛ لأنا نقول: إن ذلك تخيير صدقة الفطر صورة لا معنى، فإن قيمة نصف صاع من بر وقيمة صاع من تمر عندهم واحدة فصار كأنه لا تخيير. بخلاف التخيير في كفارة اليمين بين الأشياء الثلاثة، فإن كل واحد منها يخالف الآخر صورة ومعنى، فأوجب التخيير التيسير لا محالة. (ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال)؛ لان ما كان متعلقا بعدم فعل وهو غير مؤقت يتعلق بالعدم. ألا ترى أن من قال إن لم آت البصرة فامرأته كذا، أو لم أكلم فلاناً

يتعلق الجزاء بالعدم في جميع العمر حتى لا يحنث، وإن لم يأت البصرة يتعلق الجزاء بالعدم في جميع العمر حتى لا يحنث، وإن لم يأت البصرة سنين كثيرة، وكذل عدم القدرة على الصوم على الصوم في حق الشيخ الفاني مستدام. (وتقديره بالعمر يبطل أداء الصوم)؛ لأنه حينئذ يلزم أن يصوم بعد الموت، وكان شيخي - رحمه الله - يقول ناقلا عن الأستاذ العلام' - رحمه الله - هذا اللفظ اكر عجز مستدام را اعتبار كنيم روزه در كور أفتد. (وكذلك في طعام الظهار) أي المعتبر هو العجز الحالي. فإن قيل قوله: ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال وهو العدم في العمر ليس بمجري على عمومه، فكم من عدم في الشرع هو غير مستغرق للعمر. ألا ترى إلى قوله عليه السلام: (فإن لم تستطع فقاعداً) أو استغراق

عدم الاستطاعة العمر ليس بشرط. قلنا: عدم الاستغراق هناك إنما علم بمحل الكلام؛ لأن النبي عليه السلام ذكر تفاوت أحكام الشرع على وجه التيسير بحسب أحوال المريض في مرضه، فمرض المريض غير مستغرق لعمره غالبا بل يتفاوت حالا فحالا، فكذلك الأحكام المترتبة على حسب تلك الأحوال، فلذلك لم يوجب الاستغراق. وأما عدم الأفعال في نفسه إذا لم يكن مقيدا بشيء فموجب للاستغراق في العمر كما لو قال: لا أكلم فلانا أو لا أفعل كذا. والدليل على جواز التكفير بالصوم عند عدم المال من غير انتظار إلى وجوده فيما يستقبل من الزمان جواز التكفير بالصوم ممن له مال غائب وليس عنده مال فحنث في يمينه؛ لأنه قال في (المبسوط). وإن كان للرجل الحانث في يمينه مال عنه غائب أو دين وهو لا يجد ما يطعم ولا يكسو ولا ما يعتق أجزأه أن يصوم؛ لأن المانع قدرته على التكفير بالمال وذلك لا يحصل بالملك دون اليد. إلا أن يكون في ماله الغائب عبد فحينئذ لا يجزيه التكفير بالصوم؛ لأنه متمكن من التكفير بالعتق، فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد فلما جاز الصوم هنا مع وجود الملك حقيقة من

غير انتظار إلى أن يصل إلى ماله فلأن يجوز الصوم في حق من ليس له المال أصلا من غير انتظار إلى أن يحصل له المال بالطريق الأولى، (ولهذا ساوى الاستهلاك الهلاك) أي في جواز الصوم بأيهما كان، حتى إن من وجب عليه التكفير بالمال إذا أتلف المال يجوز له التكفير بالصوم كما لو هلك المال؛ (لأن الحق لما كان مطلقا عن الوقت) يعني أن الكفارات لما كانت غير مؤقتة بوقت ولم يكن المال متعينا للكفارة. (لم يصر الاستهلاك تعديا) لعدم تعلق الحق بالمال، ولو كان مؤقتا يحتمل أن يضمن بالتفويت عن الوقت وإن لم يكن المال متعينا. (وصارت هذه القدرة على هذا التقدير نظير استطاعة الفعل التي لا تسبق الفعل) يعني كما أن القدرة الحقيقية مقارنة للفعل ولا تسبقه فكذلك القدرة على التكفير لا تسبق حالة الأداء بل يعتبر فيه حال الأداء. يعني إذا كان وقت التكفير معسرا يجب التكفير بالصوم، وإن كان موسرا يجب بالمال، ولا تعتبر حالة الحنث كما في الزكاة بعد ما حال الحول على النصاب يعتبر وقت الأداء، فإن كان النصاب وقت الأداء ناقصا وجب ناقصا، وإن كان هالكا لا تجب عليه الزكاة فكذا هنا. فعلم بهذا أن التكفير من قبيل الزكاة من حيث إن كلا منهما متعلق بالقدرة الميسرة.

وقوله: (ولهذا بطل وجوب الزكاة بالدين) إيضاح لقوله: وأما قيام المال بصفة النماء إلى قوله: فشرطنا دوامه في أن وجوب الزكاة متعلق بالقدرة الميسرة على وجه المقارنة فلو بقى اليسر بقى الجواب وإلا فلا. وقوله: (لأنه قال في كتاب الإيمان) هذا جواب عما ورد شبه بطريق المنع, فوجه ورود الشبهة هو أنه لما أثبت أن وجوب الكفارة من قبيل القدرة الميسرة كالزكاة يجب أن يراعى في التكفير اليسر كما في الزكاة, ولا يراعى في التكفير اليسر. ألا ترى أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة بالمال, يعني تجب الكفارة بالمال على المديون بل جواب هذه المسألة غير مذكور في كتاب الأيمان نصًا فيحتمل أن

يجب عليه الكفارة بالصوم لا بالمال فحينئذ لا تَرِد الشبهة لأنها حينئذ كانت الكفارةُ بمنزلة الزكاة من كل وجه, فكما لا يجتمع وجوب الزكاة مع الدين كذلك لا يجتمع وجوب التكفير بالمال مع الدين كما هو قول بعض المشايخ على ما ذكر في الكتاب. وجعلَ هذا القولَ أصحَ في ((المبسوط)) فقال: والأصحُّ أنه يجزيه التكفير بالصوم. كما أشار إليه في الكتاب في قوله: ألا ترى أن الصدقة تحل لهذا, وفي هذا التعليل لا فرق بين ما كان قبل قضاء الدين وبعده, وهذا لأن المال الذي في يده مستحق بدينه فيُجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم. كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخاف العَطَشَ يجوز له التيمم؛ لأن الماءَ مستحقِ لعَطَشِهِ فيُجعل كالمعدوم في حق التيمم. إلى هذا لفظ ((المبسوط)) من غير تغيير. وبعضهم فرَّق بين الزكاة وبين التكفير بالمال, فجَعل الدين مانعًا من وجوب الزكاة ولك يجعله مانعًا من وجوب التكفير بالمال, فقال: لأن المعتبر ها هنا الوجودُ دون الغنى ولمّا لم يقض دينه بماله فهو واجد للمال فلا يجوز عنه التكفير بالصوم بل يجب التكفير بالمال بخلاف الزكاة, فإن وجوبها بالغنى

والدين ينافي الغنى فلا يجب, فكان هذا جوابًا للشبهة على طريق التسليم والفرق. (أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم) وإن كان هذا النص ورد في صدقة الفطرِ لكن المعنى فيه سَدَّ خَلةُ الفقير وهذا المعنى بعينه موجود في الزكاة فكان الإغناء واجبًا, فيكون معنى الإغناء في الزكاة ثابتًا بدلالة النص بل الزكاة أقوى في استدعاء الغنى من صدقة الفطر؛ لأن وجوب صدقة الفطر بالقدرة الممكنة ووجوبَ الزكاة بالقدرة الميسرة. (فشرط الكمال في سببه) أي في سبب وجوب الشكر وهو المال (والدين يسقط الكمال) أي كمال ملك المال للمديون باعتبار أن ربَّ الدين لو ظَفِر بجنس حقه له أن يأخذه من غير مرضاه المديون فصار كأن المديون فصار كأن المديون غير

ملك له, فلما أسقط الكمال لم تجب الزكاة. (ولا يُعدم أصله) أي أصل ملك المال للمديون؛ لأن محل الدين الذمة سعة, فكان المال خاليًا عن أن يكون مشغولًا بالدين من هذا الوجه. وقوله: (ولهذا حلَّت له الصدقة) إيضاح قوله: ((والدين يسقط الكمال)) فلما أسقط كمال ملك المال للمديون كان نافيًا لصفة الغنى عن المديون. (ولهذا لا تتأدى الزكاة غلا بعين متقومة) هذا إيضاح لقوله: (إن الزكاة وجبت لمعنى الإغناء) بخلاف الكفارة فإنها تتأدى بالصوم والصومُ ليس بعين متقوم, وإنما شُرط في الزكاة أداؤها بعين متقومة؛ لأنها شرعت للإغناء, وذلك إنما يحصل بالعين المتقومة لا بالعين غير المتقومة. ألا ترى أنه إذا أسكن الفقيرَ بيته سنة بنية الزكاة لا يجوز؛ لأن المنفعة ليس بعين متقومة ولا تتأدى الزكاة بالإباحة؛ لأنه لا يحصل به الغنى؛ لأن المباحَ له يأكل مال الغير وبمال الغير لا يحصل الغنى. (ألا ترى أنها شُرعت ساترة أو زاجرة) أي لا للإغناء وهو إيضاح أنها لم تشرع للإغناء, فإن الستر والزجر غيرُ محتاجَين إلى الإغناء بالمال كما في الحدود.

وقوله ((ساترة)) أي للذنب بعد الحنث؛ لأن الإنسان إذا حنث في يمينه بقى عُريان؛ لأنه بحنثه كان خارقًا لباس تقواه فيحتاجُ إلى ساترٍ يسترهُ فيستر نفسه بالكفارة, أو زاجرة عن الذّنب؛ أي قبل الحنث. وقيل: ساترةٌ في حق المكفِّر, وزاجرةٌ في حق غيره, وإنما رَدَّد بينهما السَتْر؛ لأن الستر لا يقع إلا بعد وجوب الكفارة وربما لا تجب على رجلٍ كفارة أصلًا لا يحتاج إلا الستر. (لا أمرًا أصليًا) أي لم تُشرع الكفارةُ بطريق الأصالة للإغناء بل الأصل فيها الستر ُأو الزجرُ. (وما يقعُ به كفايةَ الفقير) كأنه جواب إشكال يرد على قوله: ((إلا أنها لم تشرعَ للإغناء)) بأن يقال قوله: ((إلا أنها لم تشرع للإغناء)) منقوض بالكفارة بالإطعام فإن فيه إغناءٌ للفقير عن الطعام. فأجاب عنه, وقال: شرعيةُ الإطعام لا باعتبار الإغناء بل باعتبار أن الإطعامَ يصلحُ سببًا للثواب كالصوم فيصلح أن يكون سببًا لما هو المقصود من شرعية الكفارة, وهو: الستر أو الزجر, ثم قُدِّم الساترة على الزاجرة؛ لأن دلالةَ الكفارة على الستر أوضحُ وأظهرُ من دلالتها على الزجر. إذا الكَفْرُ هو

الستر لغة. (لم تشترط صفة الغنى في المخاطب بها) أي بالكفارة, وحاصلة: أن الكفارة أوجبت ساترةً أو زاجرةً, وما أوجبت شكرا للنعمة, فلا تشبه الزكاة من هذا الوجه, فإنها أوجبت شكر للنعمة والغنى, ولهذا يُشترط لإيجابها أتمُّ وجوه الغنى وذلك بالمال النامي, وحاجته إلى قضاء الدين بالمال تُعدم تمام الغنى بملكه ولا تُعدم معنى حصول الثواب له إذا تصدّق به ليكون ذلك ساترًا لإثم لحقه بارتكاب محظور اليمين وهو المقصود بالكفارة. قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله-. (لأن القدرة على أداء العشر تستغني عن قيام تسعة الأعشار) يعني أن

القدرة على أداء جزء واحد لا تفتقر إلى وجود أجزاء أخرى في الابتداء؛ لأنه لو أوجب الخارج كله لكان المخاطبُ متمكنًا من أدائه ولم يوجب على ذلك الوجه, بل أوجب الجزء الواحد من الأجزاء العشرة, فكان الإيجاب بهذا الطريق كان بالقدرة الميسرة لا بالمكنة. فإن قيل: العُشر لا يتحقق بدون قيام تسعة الأعشار, فكيف قال: إن أداءَ العشر يستغنى عن قيام تسعة الأعشار؟ قلنا: المراد منه أن القدرة على أداء القليل تستغني عن قيام الكثير إلا أن الكثير قُدِّر بتسعة الأعشار؛ لأن الواجبَ عليه إعطاءّ بعض الخارج, ثم ذلك البعض قُدِّر بالعُشر. (فشرط قيامه) أي قيام الخارج وهو وجودُه, فإن العشر إنما يجيب إذا وُجد الخارج من الأرض حقيقة. (وكذلك الخراج) أي هو واجب أيضًا بالقدرة الميسرة كالعشر. ألا ترى أن الخارجَ إذا لم يُسَلَّم لصاحب الأرض لا يجب الخراج كالعشر مع وجود السبب فيهما وهو الأرض. غيرَ أن الخارجَ تارة يكون بطريق التحقيق وهذا لا يشكل, وتارة يكون بطريق التقدير إذا كان متمكنًا من الزراعة, ولم يَزرع يُجعل الخارجُ سالّما لربِّ الأرضِ تقديرًا حكمًا لتقصيره, ولا يمكن هذا التقدير في العشر لكون الواجب من جزء الخارج فإذا لم يكن

الخارج تحقيقًا لا يُتصوَّر الجزء منه. وقد أمكن الخارج ولا يمكن هذا التقدير في العُشر لكون الخراج من غير جنس الخارج بدليل وجوب الدراهم في الأراضي الخراجية فإنه يجب في جريب الكرم عشرة دراهمَ وفي جريب الرطبة خمسة دراهم, فجُعلت القدرة الميسرة موجودةٌ تقديرًا, وهذا بخلاف ما إذا زرع ثم أصابت الزرعَ آفةٌ حيث يسقُط الخراج؛ لأن وجوبه بالقدرة الميسرة فيُشترط دوامها تحقيقًا للواجب بالقدرة الميسرة. (ألا ترى أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج) يعني لا يجب الخراج؛ لأنه لو كان أقل من الخراج لا يُسلَّم له الخارجُ. وقوله: (بدليل أن الخارج) معطوف على قوله: ((ألا ترى)) من حيث المعنى كأنه قال: بدليل أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج, وبدليل أن الخارج إذا

(قلَّ) يعني أن الخراجَ كلُّه إنما يجب إذا لم يكن أكثر من نصف الخارج فإذا كان أكثر من نصفَ الخارج فإذا كان أكثر من نصف الخارج يجب نصفَ الخارج ولا يجب الخراج أي كاملًا حتى إذا كان الخراج مَثَلًا دينارين والخارج من الأرض يساوي دينارًا يجب نصف الخارج وهو نصف دينار. (ألا ترى أنها وجبت بسبب رأس الحر) من أولاده الصغار (ولا يقع به الغنى)؛ لأن رأس الحر ليس بمال بخلاف الزكاة, فإن الزكاة إنما تجب في مالٍ يقعُ به الغني, وصدقه الفطر تجب بمال آخر يحققه أن في باب الزكاة ما هو سبب لوجوب الزكاة يقع به الغني, وما هو سبب لوجوب صدقة الفطر وهو رأس يمونه ويلي عليه, وقد لا يقعُ به الغني إذا كان ذلك الرأس حرا. دلّنا ذلك على أن الزكاة وجبت بصفة اليسر حيث لم تجب بالغني بشيء آخر, وصدقة الفطر تجب بالغنى بشيء آخر لأجل شيء آخر فلم يكن يُسرا. فإن قيل: لماذا يشترط الغني بالنصاب لأهلية الإغناء؟ قلنا: لما ذكرنا أن الإغناء يقتضي كونُه غنيًا والغنى بكثرة المال شرعًا وعرفًا؛ لأنه إذا كان مالكًا مقدار ما يتمكن به من إغناء الفقير عن المسألة فهو غني عن المسألة بهذا المقدار إلا أنه لا يعتبر هذا فيما نحن فيه إذا لو اعتبر عاد

الأمر على موضوعه بالنقض؛ لأنه وجب الإغناء عن المسألة, فلو وجب الدفع إلى الفقير لصار هو محتاجًا إلى المسألة وهذا لا يجوز؛ لأن الدفعَ إلى نفسه أولى من الدفع إلى غيره لما عرف. ألا ترى أنه إذا كان مالكًا لمقدار من الطعام وهو محتاج إليه وغيره أيضًا محتاج إليه فلو دفع إلى غيره يموت لا يجوز الدفع إلى غيره, وكذلك هذا في الماء وغيره. فعلم أن الغني المعتبر هو الغنى الشرعي؛ لأن النبي عليه السلامُ بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق, ورأيت بخط شيخي -رحمه الله- ولا يقال: إن النبي عليه السلام قال: ((أُغنوهم عن المسألة)) فغني الفقير بالاستغناء عن المسألة, فكذلك غنى المعطي ينبغي ألا يشترط فيه النصاب؛ لأنا نقول: إن النبي عليه السلام قَيَّدَ جانب الفقير بالغني عن المسألة فيبقى الغني في جانب المؤِّدي مطلقًا فيتصرف إلى ما عرف شرعًا وهو من يملك النصاب. (ووجد الغني بثياب البذلة) أي بثياب الابتذال والامتهان التي تُلبس يوم إذا كانت زائدة عن الحاجة الأصلية, وفي ((المحيط)) البذلة من الثياب ما

يلبس فلا يصان. (ولا يلزم أنها لا تجب عند قيام الدَين) هذا وارد على قوله؛ ((لأنها لم تجب بصفة اليسر)) أي لا يقال لو كان وجوبُ صدقة الفطر بالقدرة الممكنة لا بالميسرة ينبغي أن لا يكون الدَينُ مانعا وجوبُ صدقة الفطرِ بالقدرة الممكنة لا بالميسرة ينبغي أن لا يكون الدَينُ مانعًا وجو صدقة الفطر؛ لأنه أمكن أداؤها مع الدين. قلنا: الدين وإن كان لا يعدم أصل القدرة لكن يعدم شرط الوجوب وهو الغنى؛ لأن وجوبَ صدقةُ الفطر لا يُتصور بدون الغني فيصير الغنى بمنزلة القدرة المطلقة فلا يجب إلا به, والدّين يعدمه بدليل حل الصدقة له. (بخلاف الدَين على العبد) بأن أتلف مالَ الغير. وجه الورود أن الدّينَ لمَّا كان معدمًا للغني كان ينبغي ألا يجب صدقةَ الفطرِ بسبب العبد المديون كما لا تجب الزكاةَ بسببه إذا كان عليه دينِ لما أن الغني فيهما شرط.

فأجاب عنه على وجع الفرق بينهما بقوله: (فإنه لا يمنع) أي فإن دين العبد لا يمنع وجوبَ صدقة الفطر عن ذلك العبد. وقال الإمام شمس الأئمة _رحمه الله- فإن كان الدَينُ على العبد الذي هو عبدٌ للخدمة فعلى المولى أن يؤدي عنه صدقةَ الفطر؛ لأنه صفةَ الغنى ثابتة له بما يملك من النصاب سوى هذا العبد, وأصل المالية غير معتبر فيمن يجب الأداء عنه, ولهذا تجب عن ولده الحرّ. وكذلك الغني به غير معتبر فإنه يجب الأداء عن المدبَّر وأم الولد وإن لم يكن هو غنيّا فيهما, فكذلك إذا كان مشغولًا بالدين؛ لأن ذلك الدَينَ على العبد يوجب استحقاق ماليته فيخرج المولى من أن يكون غنيًا به, فلو كان هذا العبدُ المديونُ للتجارة لم يجب على المولى أن يؤدي عنه زكاة التجارة؛ لأن الغني بالمال الذي يجب أداء الزكاة عنه شرط ليكون الأداء بصفة اليسر وذلك ينعدم بقيام الدّين على العبد. وحاصلة أن في صدقة الشرطُ هو أن يوجد وصف الغنى بأيّ مال كان فلما وُجد غني صاحب العبد المديون بمال آخر تجب عليه صدقة فطرة لوجود السبب والشرط. وأما في الزكاة فيُتعين النصابُ ويُشرط غناهُ بذلك المصاب بعينه في حق

زكاة ذلك النصاب حتى لو كان له نصابُ غنمٍ ونصابُ ذهبٍ وانتقص نصاب الذهب وفي الغنم فضل على نصابه لا ينجبر بذلك الفضل ما انتقصَ من نصاب الذهب فلا تجب زكاة نصابهما بل تجب زكاة النصاب الكامل وهو الغنم, ولا تجب زكاة النصاب الناقص وهو الذهب, فكذلك ها هنا لم تجب زكاة العبد المديون وإذا كان هو للتجارة لنقصان ذلك النصاب بسبب دين فيه (هذا الذي ذكرنا هو في تقسيم صفة حكم الأمر) وهو الأداء والقضاء؛ لأن حكم الأمرِ الوجوبُ وبالأمر يجب الأداء. إذ بالسبب يجب أصل الصلاة وبالأمر الأداء, وقد قلنا قبل هذا إن القضاء يجب بالسبب الذي به وجب الأداء فكان الأداء والقضاء صفتي حكم الأمر, وقد انقسم صفة الحكم إلى أداء وقضاء ثم انقسم بعد ذلك إلى صفة المأمور به من الحسن لعينه ولغيره, ثم انقسم كل واحد منهما إلى أنواع ثلاثة على ما مر. فلآن ينسقم حكم الأمر إلى صفةٍ قائمةٍ بغيره وهو الوقت؛ لأن كونَ العبادة مؤقتة صفة للمأمور به أيضًا لكن راجع إلى الوقت؛ لأن فعل المكلف لا يوجد بدون الوقت, فيكون الوقت داخلًا في حكم الأمر.

(فلابد من ترتيب هذا الباب على الدرجة الأولى) وهي الأداء؛ لأن هذا الباب لبيان الوقت, وهو المختص بوقت على وجه يفوت الأداء بمضي الوقت, أو أريد بالدرجة الأولى والقضاء؛ لأن القضاء مؤقت أيضًا لقوله عليه السلام: ((فإن ذلك وقتها)) وإنما قال: فلابد من ترتيبه على الدرجة الأولى يعني أن الدرجة الأولى في صفة حكم الأمر وهي الأداء والقضاء, وهذا الباب أيضًا في صفة حكم الأمر وهي المؤقتةُ وغير المؤقتة, فكان البابان متناسبين من حيث اتحادهما في صفة حكم الأمر بخلاف الباب الثاني فإن ذلك في صفة المأمور به والمأمورُ به غيرُ الحكم, فلذلك كان ترتيب هذا الباب بحسب ترتيب الباب الأول أولى من ترتيبه على حسب ترتيب الباب الثاني. والدليل على تناسب ذينك البابين أم الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمه لله- أورد هذا الباب قبيل الباب الأول الذي هو بيان الأداء والقضاء ووصل ذلك الباب بهذا الباب لهذه المناسبة, والله أعلم.

[باب بيان تقسيم المأمور به في حكم الوقت]

[باب بيان تقسيم المأمور به في حكم الوقت] قوله: (وأما المطلقة فنوع واحد)؛ لأن تنويعها بكون الوقت ظرفًا لها وسببا لوجوب وشرط للأداء أو معيارا أو مشكلا إنما ينشأ من كونها مؤقتة, وأما إذا لم تكن مؤقتة فلم تأت هذه الأشياء ولم يأت التنويع, بل كان في جميع الوقت أداء, ولم يكن الوقت سببا لها ولا ظرفًا ولا معيارًا ولا شرطًا للأداء. قوله: (ظرفًا للمؤَّدي وشرطا للأداء). فإن قيل قوله: شرطًا للأداء؛ مستغنى عنه؛ لأنه يُستفاد ذلك بقوله: ظرفًا للمؤدي؛ فما فائدة ذكره؟

قلنا: لا نسلم ذلك؛ لأن قوله: شرطًا للأداء يغاير ظرفًا للمؤدَّي في المعنى؛ لأنه ظرف للمؤدَّي, والمؤدَّي غير الأداء فكانا غيرين. والثاني- رُبَّ شيء يكون ظرفًا لشيء ولا يكون شرطًا لذلك الشيء, كالوعاء ظرف لما فيه وليس بشرط لوجوده؛ لأن يوجد بدون هذا الظرف فلا يلزم أن يكون شرطًا له, وبين هاهنا أن الوقت ظرفٌ للمؤدَّي وشرط للأداء, والأداءُ يختلف باختلاف صفة الوقت. فإن قيل: أثر الوقت في نفس الوجوب لا في الأداء, وهذا لا يدل على كون الوقت سببًا. قلنا: نعم إلا أنه لما خرج بالأداء الناقص عن العهدة. عُلم أن الوجوب قد صار ناقصًا بنقصان في موجبة وهو الوقت. ألا ترى أنه لو نذر, وقال: لله علىَّ أن أعتق رقبة, فأعتق رقبة مؤوفه بالزمانة أو بالعمى لا يخرج عن عهدة النذر. ولو قال: لله علىَّ أن أعتق هذه الرقبة وهي زَمنى أو عمياء فأعتقها يخرج من عهده النذر؛ لأنه أدَّاها كما أوجبها على نفسه. فعلم أن الخروجَ بالناقص إنما كان لنقصانٍ في السبب, فكان دليلًا على

سببية الوقت. (ويفسد التعجيل قبله) فإن قيل: ما فائدة هذا الوصف إذ في هذا الوصف يشترك السبب والشرط, فكيف ينهض للدلالة على السببية على الخصوص؟ قلنا: فيه فائدة التأكيد لقوله: يختلف باختلاف صفة الوقت, وهو وإن لم ينهض للدلالة على السببية بانفراده وهو مع ما ذكر قبله وهو قوله: والأداء يختلف باختلاف صفة الوقت؛ ينهضان للدلالة على السببية, والأولى فيه هو ما استوفيناه في ((الوافي)) وقوله: (وهذا القسم) إشارة إلى قوله: نوع جُعل الوقت ظرفا للمؤدي وشرطًا للأداء وسببًا للوجوب؛ وهو وقت الصلاة. (نوع منها ما يضاف إلى الجزء الأول) أي تضاف السببية إلى الجزء الأولى على عرضية الانتقال لا على القرار بخلاف الجزء الأخير من الوقت والدليل على السببية أنه لو أدى الصلاة في أول الوقت يخرج عن عهده فرض الوقت. وأما إذا لم يؤدّ فيه تنتقل السببية إلى الجزء الذي يليه, وكذا إلى الآخر, وعند الشافعي -رحمه الله- تتعين السببية في الجزء الأول على

وجه لا تسقط عن المكلف سببيته. حتى إن المرأة إذا خاضت بعد ما مضى من الوقت قدر ما يسع فيه فرضيته.

لم يسقط عنها قضاؤه وعندنا إذا خاضت في الوقت سقط عنها فرضه وإن بقي شيء قليل, وهذا بناء على أصل وهو أن الخطاب بالأداء يتعجل في أول الوقت عند الشافعي, وأما عندنا فهو أن الجزء الأول من الوقت سبب للوجوب, فإدراكه يثبت حكم الوجوب وصحةُ أداء الواجب. وهذا معنى ما نقل عن محمد بن شجاع - رحمه الله- أن الصلاة تجب

بأول جزء من الوقت وجوبا موسَّعا وهو الأصح, وأكثر العراقيين من مشايخنا ينكرون هذا, ويقولون: الوجوب لا يثبت بأول الوقت وإنما يتعلق الوجوب بآخر الوقت, ثم قال بعضهم: ما أدَّاه في أول الوقت نفل يمنع لزوم الفرض إياه في آخر الوقت كالوضوء قبل الوقت. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله- وهذا غلط بين؛ لأنه لا تتأدَّى هذه الصلاة إلا بينة الظهر, والظهر اسم للفرض دون النفل, ولو نوى النفل لم يصح نيته في حق أداء الفريضة. (والثاني - ما يضاف إلى ما يلي ابتداء الشروع) أي بطريق انتقال السببية من الجزء الأول إلى الثاني. يعني إن اتصل الأداء بالجزء الأول كان هو السببَ وإلا تنتقل السببيةُ إلى الجزء الثاني, ثم إلى الثالث إلى آخره. (ونوع آخر ما يضاف إلى الجزء الناقص عند ضيق الوقت وفساده) وهو الجزء الذي تتعين فيه السببية؛ لأنه لم يبق بعده من آخر الوقت ما يحتمل انتقال السببية إليه. (والنوع الرابع - ما يضاف إلى جملة الوقت) وهو في حالة القضاء.

(أن الوقت لما جعل سببًا لوجوبها وظرفًا لأدائها) إلى آخره. فإن قيل: ما فائدة ذكر قوله: وظرفًا لأدائها؛ هاهنا مع أن مراد المصنف من هذا التقرير بيان أن الجزء من الوقت سبب لوجوب الصلاة لا كل الوقت، وهو يحصل بقوله: إن الوقت لما جعل سببًا لوجوبها لم يستقم أن يكون كل الوقت سببًان فعلم بهذا أنه لا فائدة في ذكر قوله: وظرفًا؛ هاهنا؟ قلت: بل في ذكره فائدة، وهي: أن وجوب الاقتصار على أدنى الأجزاء من أجزاء الوقت للسببية إنما نشأ من كون الوقت ظرفًا أيضًا للصلاة. إذ لو لم يراع فيه جانب الظرفية لوجب أن يقال: إن وجوب الصلاة على المكلف إنما يتحقق بعد وجود الوقت بتمامه كما هو الأصل في سائر الأسباب. وهو في حالة القضاء لم يبق الوقت حينئذ ظرفًا للأداء. فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يذكر كون الوقت شرطًا للأداء أيضًا كما ذكر قبله هو أن الأداء يفوت بفواته. قلت: أغنى عن ذكره ذكر الظرف، فإن كلًا منهما يقتضي أن يوجد المؤدى في الوقت.

(لم يستقم أن يكون كل الوقت سببًا؛ لأن ذلك يوجب تأخير الأداء عن وقته أو تقديمه على سببه). بيان هذا أن الوقت سبب لما ذكر، وأن الوقت ظرف، فلو روعي فيه جهة السببية يلزم تأخير الأداء عن وقته؛ لأنه لا يتحقق المسبب ما لم يتحقق السبب بتمامه. لما أن المراد من السبب هنا العلة في حق العباد، فلما لم توجد العلة لا يوجد حكمها، وتمام السبب هنا إنما يكون بمضي الوقت، فلو روعي فيه جهة الظرفية حتى يحصل الأداء في الوقت يلزم تقديم الحكم على السبب؛ لأنه ليس لبعض السبب حكم السبب، فيكون الحكم متقدمًا على السبب حينئذ. (وليس بعد الكل جزء مقدر) أي بعد ما خرج كل الوقت من أن يجعل سببًا لابد من اعتبار البعض، وليس البعض بأولى من البعض لعدم الأولوية، ولم يرد من الشارع جزء مقدر كالربع والثلث والنصف وغير ذلك بأنه سبب بدليل جواز الأداء قبل مضي الربع أو غيره، فوجب الاقتصار على الأدنى إذ

هو المراد بكل حال لصلاحيته للسببية، ولا دليل على الزائد على الجزء الواحد فتعين هو للسببية، فلذلك إذا أدى بعد مضي جزء من الوقت صح، وإن قل ذلك الجزء. قوله: (الحائض إذا طهرت وأيامها عشرة أن الصلاة تلزمها إذا أدركت شيئًا من الوقت قليلًا) ولا تشترط قدرتها على أن تغتسل وتدرك شيئًا من الوقت. بخلاف ما إذا كانت أيامها دون العشرة، وانقطع الدم عنها وأدركت شيئًا من الوقت إن أدركته بعد القدرة على الاغتسال، ثم بالإدراك تجب صلاة ذلك الوقت عليها وإلا فلا ولهذه الفائدة قيد بقوله: "وأيامها عشرة". (لكنه لم يوجب الأداء للحال) خلافًا للشافعي فإن عنده يجب الأداء في الحال حتى ظهر أثره في حق الحائض، وقد ذكرناه.

(لأن الوجوب جبر من الله تعالى بلا اختيار من العبد)، وهذا تعليل لنفي لزوم الأداء في الحال، ولإثبات قوله: أفاد الوجوب بنفسه. بيانه أن أصل وجوب الشيء اشتغال الذمة به، ولا يراد به الفعل في الحال بدليل الوجوب على النائم والمغمى عليه والمجنون إذا انقطع الجنون والإغماء دون يوم وليلة. ولا يجب الأداء عليهم إذ لو وجب لافتقر إلى القدرة التي يفتقر إليها الفعل، ولا قدرة لهؤلاء ولا فهم، وخطاب من لا يفهم بالأداء قبيح، وهذا لأن نفس الوجوب لشغل الذمة، ووجوب الأداء لتفريغ الذمة. وتفريغ الذمة يستدعي ثبوت شغل الذمة، إذ تفريغ ما ليس بمشغول محال، فلذلك كان الخطاب بتفريغ الذمة حال تشغل الذمة محالًا كالرفع يقتضي سابقة الوضع، فالرفع حالة الوضع محال. ولهذا قلنا فيمن قال: أنت طالق مع نكاحك، ثم تزوجها لم تطلق؛ لأن الطلاق رفع القيد والنكاح إثبات القيد، فرفع القيد حال ثبوت القيد محال، بل الرافع إنما يصح حال بقاء القيد، فكذلك هاهنا الخطاب بتفريغ الذمة إنما يصح في حال بقاء الشغل لا حال وجود الشغل. ونفس الوجوب لما كان لشغل الذمة ولم يرد بها الفعل لم يقتض قدرة؛ لأن القدرة لتحصيل الفعل وليس في نفس الوجوب لزوم الفعل.

ألا ترى أن ابن يوم أهل لنفس الوجوب وليس بأهل للزوم الفعل. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- وقلنا نحن: الأداء إنما يجب بالطلب. ألا ترى أن الريح إذا هبت بثوب إنسان وألقته في حجر غيره والثوب ملك لصاحبه، ولا يجب على من في حجره أداؤه إليه قبل طلبه؛ لأن حصوله في حجره كان بغير صنعه، فكذلك هاهنا الوجوب تسببه كان جبرًا لا صنع للعبد فيه، فإنما يلزمه أداء الواجب عند طلب من له الحق، قد خيره من له الحق في الأداء ما لم يتضيق الوقت. يقرره أن وجوب الأداء لا يتصل بثبوت حكم الوجوب لا محالة، فإن البيع بثمن مؤجل يوجب الثمن في الحال. إذ لو كان وجوب الثمن متأخرًا إلى مضي الأجل لم يصح البيع؛ لأنه حينئذ يكون البيع بلا ثمن. فعلم أن نفس الوجوب ثابت في الحال، ووجوب الأداء يكون متأخرًا إلى حلول الأجل، فهاهنا أيضًا وجوب الأداء يتأخر إلى توجه المطالبة. وقوله: (ليس من ضرورة الوجوب تعجل الأداء) أي تعجل وجوب الأداء. هذا تقرير لما ذكرنا من بيان انفصال نفس الوجوب عن وجوب الأداء، وبيان أنهما لا يتلازمان (بل الأداء متراخ) أي بل وجوب الأداء متراخ بدليل ثبوت الثمن والمهر في ذمة ابن يوم، ولا خطاب ولا لزوم للفعل عليه.

(فأما الوجوب فبالإيجاب) أي الوجوب حكم إيجاب الله تعالى بسببه. كذا في "التقويم". (ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل) أي لأجل ما ذكرنا من المعنى وهو أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته كانت الاستطاعة مقارنة للفعل، فكما أن نفس الوجوب لا يفتقر إلى فعل المكلف وقدرته، كذلك وجوب الأداء لا يفتقر إلى وجود الفعل والقدرة الحقيقية؛ لأن القدرة الحقيقية مقارنة للفعل، فنفس الوجوب ينفصل عن وجوب الأداء. كذلك وجوب الأداء ينفصل عن وجود نفس الفعل والقدرة الحقيقية؛ لأن الوجود من وجوب الأداء غير مراد عند أهل السنة والجماعة. إذ لو كان مرادًا لوجد الإيمان من جميع الكفرة؛ لأنه يستحيل تخلف المراد عن إرادة الله تعالى، وتخلف المراد عن الإرادة عجز واضطرار، والله تعالى متعال عنه،

والكفار كلهم مخاطبون بالإيمان، ولم يوجد الإيمان منهم حال كفرهم. وكذلك العبادات المفروضة على المؤمنين فإنهم مخاطبون بها ثم قد لا يوجد منهم، فثبت أن وجود الفعل غير مراد من وجود الخطاب، فحصل

من هذا كله أشياء ثلاثة: نفس الوجوب، ووجوب الأداء، ووجود الفعل، فنفس الوجوب بالسبب، ووجوب الأداء بالخطاب، ووجود الفعل بإرادة الله تعالى، لكن عدم الفعل من العبد بعد توجه الخطاب؛ لعدم إرادة الله تعالى إياه لا يكون حجة للعبد لأن ذلك غيب عنه، فكان العبد ملزمًا محجوبًا عليه بعد توجه الخطاب عليه عند سلامة الآلات وصحة الأسباب. والتكليف يعتمد هذه القدرة؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بخلق القدرة الحقيقية عند إرادة العبد الفعل ومباشرته إياه، ووجود الفعل يفتقر إلى هذه القدرة الحقيقية، فكان قوله: "ولهذا كانت الاستطاعة مقارنة للفعل" يتصل بقوله: "ليس من ضرورة الوجوب تعجل الأداء" لأن الاستطاعة مقارنة للفعل الذي يوجد من المكلف، فلو كان نفس الوجوب يوجب تعجل الأداء لكانت الاستطاعة مقارنة لنفس الوجوب. وقوله (كثوب هبت به الريح) احتراز عن الغصب، (وفي مسألتنا لو يوجد المطالبة بدلالة أن الشرع خيره في وقت الأداء فلا يلزمه

الأداء. يعني أن التخيير ينافي المطالبة بالأداء. فإن قلت: يشكل على هذا إذا حال الحول على نصاب رجل فإنه يطالب بالأداء مع أنه مخير في الأداء، حتى إذا فرط في الأداء ولم يؤد الزكاة حتى هلك النصاب كله سقط عنه الزكاة. فبهذا يعلم أن التخيير لا ينافي المطالبة بل يجتمعان. قلت: بل ينافي المطالبة بالأداء؛ لأن التخيير إثبات الخيار للمخاطب في أي وقت شاء يؤدي فيه، والمطالبة بالأداء إلزام على المخاطب بالأداء في أول الوقت الذي خاطبه بالأداء غير أن محل الواجب في الزكاة النصاب، والحق لا يبقى بعد فوات محله، كالعبد الجاني والعبد المديون إذا ماتا، والشقص الذي فيه الشفعة إذا صار بحرًا بطل خطاب المولى بالدفع أو الفداء وبطل حق الشفعة. بخلاف ما نحن فيه، فإن الواجب على الذمة فكان ما نحن فيه كصدقة الفطر والحج، فإن محل الواجب فيهما ذمته لا ماله، وذمته باقية بعد هلال المال فيبقى الواجب لبقاء محله، فكذا فيما نحن فيه حتى إن في الزكاة إذا

مات المخاطب بعد حولان الحول قبل الأداء يبقى إثم التأخير أيضًا، لتحقق تقصيره خصوصًا على قول الكرخي، فإن وجوب الأداء في الزكاة بعد حولان الحول على الفور عنده، وفي رواية عن أبي يوسف- رحمه الله- أيضًا. (وتبين أن الوجوب حصل بأول الجزء خلافًا لبعض مشايخنا) وهو ما ذكرت قبل هذا أن أكثر العراقيين من مشايخنا ينكرون هذا، ويقولون: الوجوب لا يثبت بأول الوقت، وإنما يتعلق الوجوب بآخر الوقت، ويستدلون على ذلك بما لو حاضت المرأة في آخر الوقت، فإنه لا يلزمها قضاء تلك الصلاة إذا طهرت. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. ولكنا نقول: إن الوجوب يحصل بأول جزء من الوقت، لكن سببية ذلك الجزء لوجوب الصلاة على سبيل الزوال والانتقال لا على سبيل التقرر، وإنما يتقرر السببية للجزء الأخير من الوقت للمعنى الذي ذكرنا، وفائدة سببية الجزء الأول إنما تظهر في حق صحة الأداء، وعدم لزم القضاء على تلك المرأة، إنما كان لانعدام إدراكها للجزء المتقرر سببيته، وهي طاهر عن الحيض.

وقوله: (وأن الخطاب بالأداء) معطوف على قوله: إن الوجوب حصل بأول الجزء". (ثم إذا انقضى الجزء الأول انتقلت السببية إلى الجزء الثاني ثم) وثم إلى الآخر؛ لأن الجزء الثاني جزء من الوقت كالجزء الأول، فيكون سببًا لعدم ما يزاحمه كالجزء الأول، فإنه كان سببًا لعدم ما يزاحمه. ثم الجزء الأول حال وجود الجزء الثاني معدوم، والمعدوم لا يعارض الموجود، فإذا صار الجزء الثاني موجودًا قلنا بانتقال السببية غليه؛ لأن كون الجزء الأول سببًا كان بطريق الضرورة وهو عدم المزاحم، فإذا وجد المزاحم كان هو للسببية أولى لوجوده وعدم المزاحم. ولعلمنا بأن كل جزء من الوقت صالح للسببية، ولأنه لو لم تنتقل السببية عن الجزء الأول إلى الثاني لا يخلو إما أن يضم إليه الجزء الثاني والثالث ويجعل الكل سببًا لا يجوز هذا؛ لأن المعدوم لا يجوز أن يكون جزءًا

للسبب الموجود، وإما أن لا يضم إليه الجزء الثاني لا يجوز هذا أيضًا؛ لأن جعل الموجود سببًا أولى من جعل المعدوم سببًا عند إمكان جعل الموجود سببًا؛ لأن المعدوم لا يعارض الموجود. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون الجزء الأول سببًا، ثم بانقضائه لم تنعدم سببيته كما في كل الوقت إذا انقضى تبقى سببيته بعد انعدامه. علم بهذا أن انعدامه لا يمنع سببيته؟ قلت: ذاك إنما يكون في الجزء المتقرر سببيته كما في الجزء الأخير لا في الجزء الذي سببيته على عرضية الزوال كما في الجزء الأول، وهذا لأنه لو كانت سببية الجزء الأول باقية بعد انعدامه ولم تنتقل إلى الجزء الثاني يلزم أن يكون المؤدي في الجزء الثاني قاضيًا، وبالإجماع أن أداءه لم يكن قضاء بل أداءً إذا وجد في الوقت. علم بهذا أن سببيته قد انتقلت من الجزء الأول إلى الثاني وكذلك إلى الآخر، وهذا هو الجواب عما يقال: إنه لما قيل بسببية الجزء الأول عند وجوده بعد ذلك لا يحتاج إلى انتقال السببية إلى الجزء الثاني؛ لأن بقاء الحكم يستغني عن بقاء السبب فلا يحتاج إلى الانتقال؛ لأنا نقول: لم لم ينتقل كان المؤدي في الجزء الثاني قاضيًا لا مؤديًا. كما قلنا عند عدم الانتقال عن الجزء الأخير بأن المؤدي خارج الوقت قاضٍ لا مؤد، وبالإجماع أن من أدى في الجزء الثاني هو مؤدٍ لا قاض. علمنا

أن السببية قد انتقلت من الجزء الأول إلى الثاني. فإن قلت: يحتمل أن يكون كونه أداء في الجزء الثاني باعتبار وجود شرط الأداء وهو بقاء الوقت؛ لأن لوقت الصلاة أوصافًا سببية الوجوب وشرطية الأداء وظرفيته، فكانت السببية متقررة للجزء الأول وإن انعدم، كما تكون متقررة له بعد انعدامه بجميعه. قلت: لا كذلك بل السببية أيضًا انتقلت من الجزء الأول إلى الثاني ثم وثم إلى الآخر كالشرط. بدليل تغيير أحوال من أدرك الجزء الثاني والثالث إلى الآخر من السفر والإقامة والحيض والطهر وغيرها. وتغيير أحوال المدرك إنما هو عند قيام السبب لا الشرط، فلو كانت السببية متقررة للجزء الأول بعد انعدامه لما غيرت أحوال من أدرك الجزء الثاني إلى آخر الوقت فرضه كما لو صار قضاء محضًا لا يتغير حالة في حق القضاء وإن وجد المغير. ثم لما وجب نقل السببية من الجزء الأول إلى الثاني لضرورة الأداء ينبغي أن يكون بعد وجود السبب كان الجزء الذي هو متصل بالأداء أولى بالاعتبار من غيره؛ لأن الجزء الواحد لما صلح للسببية وجب تقريرها للجزء الثاني الذي وجد الأداء بعيده متصلًا به أولى؛ لأنه لابد من تقدم السبب على وقت الأداء وكان ما يلي الأداء به أولى. إذ في ضم الجزء السابق على الأداء

إلى الجزء المتصل بالأداء تخط في السببية عن الجزء المتصل بالأداء الصالح للسببية بلا دليل، وثبوت المدلول بلا دليل لا يجوز. (وإذا انتهى إلى آخر الوقت حتى تعين الأداء لازمًا استقرت السببية لما يلي الشروع في الأداء). قال زفر- رحمه الله- إذا تضييق الوقت على وجه لا يفضل عن الأداء تتعين السببية في ذلك الجزء. ألا ترى أنه ينقطع اختياره ولا يسعه تأخيره، فلذلك لا يتغير بعد ذلك بعارض من سفر أو حيض أو غيرهما وعندنا لا يتعين ذلك الجزء للسببية بل ينتقل إلى آخر جزء من الوقت، فيتغير بعارض حتى لو سافر في الجزء الأخير من الوقت يتغير فرضه من الأربع إلى الركعتين. ومن اللزوم إلى السقوط إذا حاضت المرأة، وإنما لا يسعه التأخير لكيلا يفوت شرط الأداء، وهو الوقت على ما هو عليه الظاهر من عدم امتداد الوقت بعده، ولكن ما بعده من أجزاء الوقت صالح لانتقال السببية إليه فيتحقق التفويت بمضيه. فإن قلت: جعل تعين الأداء بطريق اللزوم دليلًا على استقرار السببية في

قوله: حتى تعين الأداء لازمًا استقرت السببية؛ وليس كذلك بل ذلك إنما يصح على قول زفر، وأما عندنا فالسببية تنتقل من الجزء إلى الجزء بعد تعين الأداء بطريق اللزوم، فإن الأداء يتعين لازمًا في الوقت الذي لا يسع فيه إلا أربع ركعات لكي يقع ما أداه من صلاته أداءً لا قضاء حتى لو تكره باختياره يأثم، ومع ذلك انتقال السببية ثابت، حتى وإن فرض المقيم بالسفر يتغير من الأربع إلى الركعتين، وإن كان سفره بعد تعين الأداء، وقد ذكرت أن التغيير إنما كان عند قيام السببية، ثم كيف قال باستقرار السببية لذلك الوقت؟ قلت: معنى قوله "استقرت السببية" أي استقرت السببية في حق لزوم الأداء وفوت اختيار التأخير لا في حق انتقال السببية من الجزء إلى الجزء، وهذا لأن المكلف لما كان عاقلًا بالغًا مسلمًا كان الظاهر من حاله أنه يشرع في الأداء كي لا يقع في إثم التأخير، فكان هو معتقدًا لاستقرار السببية في حقه على وجه لا يجوز التأخير عنه. فإن قلت: ما الفرق بين ما إذا فاتته صلاة في المرض الذي يعجز فيه عن الركوع والسجود، ثم يقضيها في الصحة كان الواجب عليه قضاؤها قائمًا بالركوع والسجود، ولو فاتته صلاة في الصحة ثم يقضيها في المرض الذي لا يقدر على الركوع والسجود يقضيها بالإيماء حيث يعتبر فيهما حال القضاء لا حال الأداء الذي فاتت الصلاة عن وقتها، وبين هذه المسألة التي نحن فيها وهي ما إذا فاتت الصلاة عن المسافر أو عن المقيم حيث يعتبر فيهما حال الأداء

الذي فاتت الصلاة عن وقتها لا حال القضاء على ما ذكر في الكتاب؟ قلت: الفرق بينهما ظاهر وهو أن المرض لا تأثير له في إسقاط أصل الصلاة على ما عليه الصحيح من المذهب، بل له تأثير في الوصف لتكون الطاعة بحسب الطاقة، فكان وجوب القضاء فيه بحسب طاقته إذ لو اعتبر فيه حال وجوب الأداء ووجب القيام والركوع والسجود كان مخالفة للنص النافي للحرج، هو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقد نص على هذا صاحب الشرع بقوله عليه السلام: (صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا) الحديث، ومثل هذا يقتضى الحصر بهذه الأحوال كما في آية الظهار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وهو بإطلاقه يتناول المؤدي والقاضين فلذلك لم يعتبر فيه حال وجوب الأداء. فعلم بهذا أنا لو اعتبرنا في المرض حال وجوب الأداء إما أن يلزم فيه مخالفة النص أو ترك إطلاق الحديث الذي يقتضي الحصر وهو أن يكون طاعته بحسب طاقته بخلاف السفر، فإن له تأثير في تغيير أصل الصلاة بحكم الحديث، وهو قوله عليه السلام: (إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته). واعتبار التغيير هناك باعتبار الوقت على ما ذكر في الكتاب، وهو أن

الوقت سبب لوجوب الصلاة، والمغير إذا اتصل بسبب الوجوب عمل عمله فلا يتغير بعد ذلكن والفقه فيه هو: أن السفر إنما جعل مغيرًا للصلاة عند قيام الوقت من الكثرة إلى القلة حتى اعتبر فيه حال وجوب الأداء، ولو يجعل في المرض كذلك؛ لأن الرخصة في السفر متعلقة بمشقة متوهمة أقيم السبب الظاهر مقام المشقة، وكذلك دخول الوقت سبب ظاهر لوجوب الصلاة على المكلف فتناسب إلحاق الظاهر بالظاهر، فقرن كل واحد منهما بالآخر فلم يتغير بعد ذلك بحالة القضاء، وأما الرخصة في المرض فمتعلقة بمشقة حقيقية فاقتضت عجزًا حقيقيًا، وذلك إنما يكون حال فعل الصلاة خصوصًا على أصل قول أهل السنة والجماعة: إن الاستطاعة مقارنة بالفعل، فتناسب إلحاق الحقيقية بالحقيقية، فلم يعتبر لذلك فيه حال وجوب الأداء بل اعتبر فيه حال فعل وهو حال القضاء. ووجه آخر في الفرق بينهما وهو الأوجه هو أن نقول: لا يمكننا القول في حق المريض بالاعتبار بحال وجوب الأداء أصلًا، فإنا لو قلنا بذلك إما أن نقول: إن المريض الذي هو غير قادر على القيام والركوع والسجود وهو مأخوذ عليه أن يؤدي الصلوات التي فاتته حال صحته بالقيام والركوع والسجود وهو محال؛ لأن ذلك تكليف ما ليس في الوسع، والله تعالى تبرأ عنه بقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وبقوله: {وَمَا جَعَلَ

عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وإما أن نقول: إن الصحيح الذي هو قادر على القيام والركوع والسجود هو غير مأمور في قضاء الصلوات التي فاتته حال مرضه بالقيام والركوع والسجود بل يقضيها بالإيماء، وذلك أيضًا باطل؛ لأن ذلك يوجب ترك العمل بإطلاق قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وغيرهما، وهذه الآية غير متعرضة لحال دون حال، فكان موجبها الإتيان بذلك الموجب إذا كان قادرًا على القيام والركوع والسجود فلا يجوز ترك ذلك الموجب، وأما المسافر في قضاء صلاة فائتة في حالة السفر تقررت عليه بركعتين فلا تتغير بعد ذلك وإن وجد المغير، حتى إن المسافر لو اقتدى بمقيم في قضاء الصلاة لا يجوز وإن كان الاقتداء مغيرًا في الجملة. ألا ترى أنه لو اقتدى بمقيم في بقاء الوقت تتغير صلاته من الركعتين إلى الأربع، ومع ذلك لا يجوز اقتداؤه بالمقيم خارج الوقت لتقرر الصلاة عليه بركعتين وكذلك في عكسه إذا فاتت الصلاة عن مقيم تقررت عليه بأربع، فلا تتغير بعد ذلك بالسفر؛ لتقررها بالأربع بخلاف حال المرض على ما قلنا.

(وإذا كان ذلك الجزء فاسدًا) أي ناقصًا؛ لأنه نص محمد- رحمه الله- أن الصلاة لا تفسد وقوله: (وهو فيها لم يتغير) أي لم يتغير من الكمال إلى النقصان فلذلك (لم يفسد). وقوله: (ووجهه) إلى آخره. جواب للإشكال الذي ذكره بقوله: ولا يلزم "بخلاف حالة الابتداء" أي حالة ابتداء التطوع في الوقت الفاسد، فإنه لا يصح، فكان هذا تتمة رواية هشام. (وهو ما ذكرنا من شغل الأداء) أي من شغل المصلي الصلاة بالأداء.

وقوله: وهو راجع إلى ما ذكره من بيان الضرورة، وذلك الشغل إنما يتحقق فيما إذا صلى في جزء من الوقت (فانتقل الحكم إلى ما هو الأصل) أي فلذهاب الضرورة عن جعل الجزء سببًا انتقل الحكم إلى ما هو الأصل وهو أن يكون كل الوقت سببًا، وإنما قلنا: إن الأصل ذاك لما أن الإضافة دليل السببية، والإضافة تكون بكل الوقت لا بجزئه حيث يقال وقت صلاة الظهر، ووقت صلاة العصر وغيرهما، فاسم وقت كذا اسم لكله لا لجزئه، فلذلك كان الأصل أن يكون كل الوقت سببًا. وهذا التقرير جواب عما ورد شبهة على قوله: "فإذا انتهى إلى آخر الوقت حتى تعين الأداء لازمًا استقرت السببية" بأن يقال: لما استقرت السببية على الجزء الأخير من الوقت، وهو في وقت العصر وقت فاسد وجب أن يصح قضاء صلاة العصر في اليوم الثاني في مثل ذلك الوقت؛ لأنه وجب ناقصًا فيتأدى بصفة النقصان. فأجاب عنه بهذا وقال: انتقال السببية من جزء إلى جزء إلى أن بلغ إلى الجزء الأخير لضرورة أن تقع صلاته في الوقت بصفه الأداء، وأما إذا ذهب

الوقت فاتت تلك الضرورة، فأضيف القضاء إلى جميع الوقت الذي ذهب، وأكثر أجزاء الوقت الذاهب كان صحيحًا لا فاسدًا، فصال كأن جميع الوقت كان صحيحًا، فلذلك لا يقضى في الوقت الناقص. (فلم يجز أداؤها) أي أداء قضائها. (ولا يلزم إذا أسلم الكافر في آخر الوقت) إلى آخره. ونقض المسألة إنما يتوجه على تقدير عدم الجواز. وجه الورود هو أنه لما ذكر قوله: "وإذا كان ذلك الجزء فاسدًا انتقص الواجب فيؤدي بصفة النقصان" ورد عليه ما إذا اسلم الكافر في ذلك الوقت، ثم لم يؤد ذلك إلى أن جاء مثل ذلك الوقت الذي هو وقت الاحمرار فقضى تلك الصلاة التي وجبت عليه بصفة النقصان فإنه لا يجوز. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- في جواب هذا: وإنما يتأدّى بصفة النقصان عند ضعف السبب إذا لم يصر دينًا في الذمة. واشتغاله بالأداء يمنع صيرورته دينًا في الذمة، وأما إذا لم يشتغل بالأداء حتى تحقق

التفويت بمضي الوقت، صار دينًا في ذمتهن فيثبت بصفة الكمال. ثم قال: وهذا هو الانفصال عن الإشكال الذي يقال على هذا إذا أسلم الكافر بعد ما احمرت الشمس ولم يصل، ثم أداها في اليوم الثاني بعد ما احمرت الشمس فإنه لا يجوز؛ لأن مع تمكن النقصان في السببية إذا مضى الوقت صار الواجب دينًا في ذمته بصفة الكمال. وهذا لأن النقصان في الأداء متحمل بسبب شرف الوقت، فإذا فات الوقت لا يتحمل النقصان؛ لأنه لا جابر للنقصان في الفائت بخلاف ما إذا كان الوقت باقيًا، فإن فضيلة الأداء جابرة لذلك النقصان. ومثله من نذر اعتكاف رمضان هذه السنة أداء وقضاء على ما مر تقريره. (لم يقبل التعين بتعيينه قصدًا ونصًا) بأن يقول: عينت هذا الجزء للسببية لا يتعين ويجوز الأداء بعده، وإنما يتعين ذلك بالفعل في ضمن الأداء كما في كفارة اليمين، فكم من شيء يثبت ضمنًا ولا يثبت قصدًا، وهذا لأن تعيين الشرط أو السبب ضرب تصرف فيه، يعني لو عين العبد الجزء المعين

للسببية بالقول وتعين هو بتعيينه على وجه لا يبقى الجزء الذي بعده سببًا للوجوب، كان هو شركة للشارع في وضع الأسباب. وبهذا خرج الجواب عما ورد شبهة على هذا القول من خرج إلى السفر باختياره كان واضعًا لسبب قصر الصلاة وفطر الصوم، ولم يكن ذلك شركة في وضع السبب فكيف يكون هذا شركة؟ والجواب عنها أن المسافر باشر السفر بقصده واختياره، والشارع جعل السفر سببًا للقصر والفطر فلم يكن المسافر واضعًا لسبب القصر والفطر، فلا يكون شركة، فكان هو نظير من لبس الخف فإنه يترخص بالمسح عليه، فلا يكون هو واضعًا سبب رخصة المسح بقصده؛ لأن قصده لبس الخف لا وضع سبب الرخصة. بل الشارع هو الذي وضع سببها، فكذا هنا. (وإنما على العبد أن يرتفق بما هو حقه) أي للعبد أن ينظر إلى رفقه، فإن كان في أول الوقت، بأن كان له شغل في آخر الوقت يصلي في أول الوقت ويتعين للسببية أول الوقت حكمًا ضمنًا لفعله وطلب رفقه، وإن كان رفقه في الجزء الثاني من الوقت إلى الآخر فكذلكن وإن كان رفقه في آخر الوقت بأن كان له شغل في أول الوقت فصلى في أخر الوقت، ويتعين آخر الوقت للسببية ضمنًا لفعله إذ له الاختيار الضروري، وأما الاختيار الكلي فـ لله تعالى وحده: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.

(لأنه مشروع أفعالًا معلومة) هذا احتراز عن الصوم، فإنه شيء واحد مقدر بمقدار النهار. (ومن حكمه: أن النية شرط ليصير ما له مصروفًا إلى ما عليه) أي ليصير ما له من حقه من منافع أفعاله التي كانت له بطريق العادة في قيامه وركوعه وسجوده مصروفًا إلى ما عليه من العبادة، وذلك إنما تكون العبادة بالنية، وهذا الذي ذكره من الحكم غير مختص بالصلاة، بل النية شرط في جميع العبادات في الصوم وغيره، ولعدم اختصاص هذا الحكم بالصلاة لم يورده في "التقويم" وذكر حكمًا آخر مكانه يختص بوقت الصلاة فقال: ومن حكمه أن الصبي إذا بلغ لآخر الوقت بحيث لا يمكنه الأداء فيه لزمه الفرض؛ لما ذكرنا أن السبب جزء من الوقت، وقد أدركه وبضيق الوقت عجز عن الأداء، والقدرة على الأداء ليس بشرط لنفس الوجوب. (ومن حكمه: أن تعيين النية شرط) أي أن يعين بقوله: صلاة الظهر،

أو صلاة العصر، وغيرهما. (بالاسم المطلق) وهو اسم الصلاة. (لما لزمه التعيين لما قلنا لم يسقط) أي التعيين (بضيق وقت الأداء)، وهذا لأن وقت الصلاة في أصله كان ظرفًا فلا ينقلب من كونه ظرفًا إلى كونه معيارًا، وإن بقي وقت لا يسع فيه إلا أربع ركعات فرض الوقت، وإنما ذكر هذا لدفع شبهة ترد عليه، وهي صوم رمضان، فإنه لما قدر فرضه بوقته لم يحتج هناك إلى تعيين فرض الوقت كما في صوم رمضان، فكيف احتيج هنا إليه ولم يحتج في الصوم. فأجاب عنها بقوله: (لأن التوسعة أفادت شرطًا زائداّ وهو تعيين النية) إلى آخره (فلا يسقط هذا الشرط) وهو تعيين النية (بالعوارض ولا بتقصير العباد) يعني أن تأخير الأداء إلى آخر الوقت لا يخلو إما أن يؤخر بالعوارض نحو النوم والإغماء، أو بتقصير من المكلف بأن يؤخره اختيارًا، فلا يصلح كل منهما أن يكون مسقطًا هذا الشرط. أما العوارض فإنها لا تدخل تحت الأصول؛ لأن الأصل عدم العارض، فلا يغير ذلك العارض الحكم الثابت بالأصل إلا بنص من الشارع ولم يوجد. وأما التقصير فإن سقوط شرط تعيين النية نوع رخصة وترفيه، فلا

يستوجب التقصير رخصة غير ثابتة في الأصل، فإن التقصير مستوجب للتغليظ لا للترفيه. وقيل: لا يسقط الشرط الأصلي بالعوارض؛ لأن العوارض لا تعارض الأصول. ألا ترى أن العصمة الثابتة بالإسلام والدار لا تبطل بعارض الدخول في دار الحرب حتى لو دخل مسلمان دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه تجب الدية، ولو بطلت العصمة بعارض دخول دار الحرب لما وجبت الدية. كما لو أسلما ثم ولم يهاجرا إلينا فقتل أحدهما الآخر، وهاهنا أيضًا باعتبار تعدد المشروع وجب عليه تعين الوصف فلا يسقط هذا بضيق الوقت؛ لأنه عارض، ولأن مشروعية غيره باقية بعد ضيق الوقت فكان المزاحم موجودًا، فيشترط تعيين النية. (وإنما قلنا: إنه معيار له) أي أن الوقت معيار للصوم؛ لأنه (قُدر) أي لأن الصوم قٌدر بوقت الصوم وهو النهار حيث يطول ويقصر بقصره (وعرف به) أي عرف الصوم بالوقت. فقيل الصوم: عبارة عن الإمساك

عن الأكل والشرب والجماع نهارًا مع النية حيث دخل النهار في تعريف الصوم. (لأن الشرع لما أوجب شغل المعيار به) أي بصوم شهر رمضان (وهو واحد). فإن قيل قوله: وهو واحد "مستغنى عنه؛ لأن الشرع لما أوجب شغل الوقت به بعد ذلك لا يحتاج إلى قوله: وهو واحد"، لأن الشيء لما كان مشغولًا بشيء لا يتفاوت بعد ذلك أن يكون ذلك الشيء شيئًا واحدًا أو شيئين فلا يسع فيه غيره. قلنا: ذكره لتأكيد قوله: "أوجب شغل الوقت" أو فيه بيان توحد المشروع في ركنه بخلاف الصلاة، فإن لها أركانًا مختلفة. (فإذا ثبت له وصف) أي إذا ثبت للمعيار كونه مشغولًا بصوم رمضان انتفى غيره كالمكيل؛ لأن الله تعالى قال: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} بدأ الصوم من الخيط الأبيض ثم مده إلى الليل، والصوم عبادة شرعية فتراعى صيغة كلام الشرع، فلذلك كان

الواجب في صيرورة الصوم الشرعي صومًا شرعيًا شغل المعيار به، فإذا كان الصوم هكذا من الفجر إلى الليل يكون هو واحدًا في نفسه ضرورة، فإذا ثبت له وصف فرضية صوم رمضان من الله تعالى انتفى غيره من الأوصاف، فلم يبق غيره مشروعًا. وهذا التعين لشهر رمضان إنما جاء من قبل محل الصوم وهو النهر، أما المنافع التي يتأدى بها الصوم فباقية على ملك مالكها كما كان قبل رمضان لا أن يستحق عليه منافعه؛ لأن ذلك يفضي إلى الجبر وهو منتف ضرورة، فلذلك احتيج إلى نية نفس الصوم ليقع عبادة. (لأن شرع الصوم فيه عام) أي متناول للمقيم والمسافر. (فانعدم فعله) أي انعدم فعل صوم المسافر لغير رمضان لعدم ما نواه أي لعدم الذي نواه من صوم غير رمضان كما في حق المقيم. يعني لو نوى المسافر واجبًا آخر لا يصح عندهما لعدم شرعية واجب آخر في رمضان كما في حق المقيم؛ لأن خطاب قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} عام

فيهما. (وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه- الوجوب واقع على المسافر) أي نفس الوجوب ثابت متقرر عليه لوجود كمال سببه وهو شهود الشهر، (ولهذا صح أداؤه بلا توقف) أي صح أداء المسافر صومه عن فرض الوقت بلا توقف، وهو دليل على تقرر فرض صوم الوقت الذي هو صوم رمضان عليه. وهذا بخلاف المقيم إذا صلى الظهر في منزله يوم الجمعة. هو على سبيل التوقف إن لم يؤد الجمعة بعده يقع ما صلى عن فرض الوقت، وإن سعى إلى الجمعة وأدى الجمعة بحسب ما اختلفوا فيه بطل ظهره، وكذلك لو أدى الزكاة في أول الحول هو على سبيل التوقف هل يبقى عند حولان الحول غنيًا كما كان أم لا؟ فإن لم يبق غنيًا انقلب ما أداه تطوعًا وإلا يقع عن الفرض. (إلا أنه رُخِّص له الترك) إلى آخره، فحاصل اختلاف الطرفين راجع إلى الأصل الذي ذكرناه في "الوافي" وهو انتفاء صوم آخر، إنما نشأ عندهما باعتبار نفس شهود الشهر وفي هذا المقيم والمسافر سواء، وعند أبي حنيفة-

رحمه الله- إنما نشأ ذلك باعتبار وجوب الأداء وذلك لم يثبت في حق المسافر، فلا يثبت الانتفاء. (وصار كونه ناسخًا لغيره) أي كون صوم رمضان ناسخًا في شهر رمضان لغيره من الصيامات، إنما يكون إذا أعرض عن الترخص وتمسك بالعزيمة وهو أن يصوم صوم رمضان. يعني أن صوم رمضان إنما يكون ناسخًا لسائر الصيامات على تقدير أن يصوم صوم رمضان. أما إذا ترخص بأن لم يصم صوم رمضان فلا، وله أي للمسافر ولاية الترخص ذلك، وهاهنا ترخص حيث لم يصم صوم رمضان فلم ينتف الصوم الذي هو غير صوم رمضان. (فإذا لم يفعل بقي مشروعًا) أي إذا لم يصم صوم رمضان بقي صوم غير رمضان مشروعًا. (والطريق الأول يوجب أن لا يصح النقل) وهو قوله: إلا أنه رخص له

الترك إلى آخره، وإنما لا يصح النفل على تقدير ذلك التعليل؛ لأن الترخص بصوم غير رمضان إنما ساغ له لصرف صومه إلى قضاء ما عليه وليس في صوم النقل قضاء ما عليه، فلا يجوز صوم النفل. بل يقع عن الفرض لوجود نفس الصوم، فصار هو بمنزلة من أطلق النية وهو يقع عن فرض الوقت على ما عليه الصحيح من الرواية. (والثاني يوجب أن يصح) وهو قوله: "ولأن الأداء غير مطلوب منه" يعني أن أداء صوم رمضان الوقتي غير مطلوب من المسافر في الحال، فكان هذا الوقت في حقه بمنزلة شعبان في حق الكل من حيث إنه غير مطالب بصوم فرض الوقت، وصوم النفل في شعبان جائز من الكل، فكذا يجوز صوم النفل أيضًا من المسافر في شهر رمضان. (لأن الترخص والترك) أي ترك العزيمة. (بهذه العزيمة) أي بهذه النية المطلقة يعني لما لم يتحقق الترخص وهو الفطر لوجود نية الصوم تعين صوم الوقت؛ لعدم مزاحمة غيره من الصيامات

كصوم الوقت، وهذا لأن المطلق يتناول الذات فقط، فلما لم يتناول هذا الإطلاق واجبًا آخر؛ لاحتياج الواجب إلى التعين بقي صوم النفل وصوم الوقت، وإنهما يؤديان بمطلق النية غير أن صرف مطلق النية إلى صوم الوقت أولى من صرفه إلى النفل؛ إما لأن النفل لا يجوز، أو لأن صوم الوقت عزيمة والنفل رخصة، فكان الأخذ بالعزيمة أولى. وهذا هو الجواب عما لو قيل: ينبغي أن لا يصاب صوم الوقت بمطلق النية من المسافر؛ لأنه لم يتعرض لصوم الوقت لإطلاق النية؛ لأنا نقول: إن فرض الوقت يتعين بمطلق النية؛ لأنه وقته، والواجب الآخر لا يتأدى بمطلق النية في غير رمضان، فما ظنك في رمضان، فبعد ذلك بقي صوم لوقت وصوم النفل، فصرف مطلق النية إلى فرض الوقت أولى من صرفه إلى النفل لما ذكرنا. (فوات شرط الرخصة) وهو حقيقة العجز. فيستوجب الرخص لعجز

مقدر أي لعجزه تقديرًا وإن لم يكن تحقيقًا، فوات شرط الرخصة وهو العجز التقديري يعني أن رخصة المسافر باعتبار سبب ظاهر- وهو السفر- قام مقام العذر الباطن، وذلك لا ينعدم بفعل الصوم فيبقى له حق الترخيص (فيتعدى) أي الحكم (بطريق التنبيه). أي نبهنا الشارع بإباحة الفطر في هذا الوقت للمسافر على جواز الترخص له بأداء واجب آخر بالطريق الأولى؛ لأن الأول حاجة دنيوية والثاني حاجة دينية، وهي الأهم؛ لأن السعي في الحاجة الدينية سعي في تخليص نفسه عن عقوبة النار وهي أشد من مشقة تلحقه في السفر بسبب صوم القضاء؛ لأنه لو لم يصم صوم القضاء في سفره عسى هو لا يحيا إلى وقت الإقامة فيصوم فيه، فحينئذ يبقى في عقوبة ترك صوم القضاء وهي أدهى وأمر. والتنبيه قد يكون إظهار العلة كما في قوله عليه السلام: "الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات" فالنبي عليه الصلاة والسلام نبه بهذه العلة بأن الحكم منها متعد إلى غيرها من السواكن. (وقال زفر- رحمه الله- ولما صار الوقت متعينًا) إلى آخره، هذه المسألة متصورة فيمن اعتاد الفطر في رمضان كالمريض والمسافر والمتهتك ثم لم يأكل ولم يشرب في يوم رمضان ولم يخطر بباله لا الفطر ولا الصوم، فعندنا لا

يصير صائمًا، وعند زفر يكون صائمًا، كذا ذكره فخر الإسلام في "شرح الجامع الصغير" وهذا لأنه لو نوى الفطر ثم لم يجد شيئًا يأكله لا يكون بهذا الإمساك صائمًا بالاتفاق؛ لأن نيته الفطر قطع إمساكه عن أن يكون صومًا. وقال زفر: إن هذا الوقت صار متعينًا للفرض، ولم يشرع فيه غير صوم الوقت، فصارت منافعه مستحقة كفرض الوقت. قلنا: هذا لا يجوز؛ لأن منافعه لو استحقت لوقع الصوم منه من غير اختياره وذلك جبر، والمأمور به أبدًا يكون فعلًا اختياريًا؛ لأنه لتحقيق الابتلاء، وذلك إنما يكون في الفعل الاختياري، ولا يلزم من عدم شرعية غير الفرض استحقاق منافعه، كما ينعدم في الليل أصلًا ولا استحقاق ثَمَّ. إذ لو كان العدم باعتبار استحقاق المنافع يلزم أن يكون عدم شرعية الصوم في الليل باستحقاق المنافع وليس كذلك؛ لأن المنافع في الليل للعبد، فيثبت أن عدم شرعية غير الفرض ليس باستحقاق المنافع بل باعتبار أنه لم يشرع، وإذا لم يستحق منافعه يكون مأمورًا بصرف ما له من المنافع إلى ما عليه، وعدم العزيمة ليس بشيء، فلم يحصل به صرف ما له على ما عليه.

فإن قيل: قد وجد الإمساك منه بطريق الاختيار؛ لأن الكلام فيمن يجد ما يؤكل ومع ذلك تمسك عن الأكل حتى إن من نوى الفطر، ثم لم يجد شيئًا يأكله، لا يكون صائمًا بالاتفاق وقد مر، ثم لما كان الإمساك هنا بطريق الاختيار لم يكن إمساكه جبريًا، فحينئذ لم يصح هنا دفع قول زفر: بأن هذا الإمساك منه جبري لا اختيارين فلا يصح أن يكون عبادة. قلنا: من الإمساك ما لا يكون اختياريًا بأن كان لا يجد شيئًا إذا كان مريضًا أو مغمى عليه قبل دخول ليلة رمضان، وما كان فيه اختياريًا يحتمل أن يكون عادة أو حمية فلا يكون عبادة بدون النية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} والإخلاص إنما يتحقق بالنية؛ لأن النية لتمييز العبادة من العادة، وذلك لا يكون بدون اختياره عبادة لله، فتشترط النية لذلك. وقوله: (كصاحب النصاب إذا وهب من الفقير بعد الحول) أي يكون مؤديًا للزكاة، وإن لم ينو بهبته الزكاة لتعين قدر الزكاة في هذا النصاب للزكاة. فإن قيل: تمليك النصاب من الفقير بأي وجه أدي لا يقع عن الزكاة عند زفر؛ لأن الغنى قارن الأداء، فكيف أورده نظيرًا، وهو على خلاف مذهبه؟

قلنا: إيراده للنظير من حيث أن المستحق لشيء إذا وجد صرفه إلى ذلك الشيء يقع عن المستحق بأي وجه صرفه إليه كما في هبة النصاب للفقير، والهبة غير الصدقة، ومع ذلك تنوب الهبة عن الصدقة لوصول الحق إلى المستحق، فبعد ذلك يحتمل أن يكون المراد منه الفقراء بأن فرق النصاب بلفظ الهبة إلى الفقراء، فلم يكن الغنى مقارنًا للأداء، ولو كان المراد منه الفقير الواحد يجب على أن يحمل أنه الفقير المديون، أو وهبه إليه متفرقًا بعد ما صرف هو بعضه إلى حوائجه. أو قال: على قود مذهبكم (وكأجير الواحد يستحق منافعه) فإن أجير الواحد إذا فعل فعلًا للمستأجر بأي وجه يفعله بطريق الإعانة أو التبرع كان فعله واقعًا عن الفعل الواجب؛ لاستحقاق المستأجر منافع فعله. (بل الشرع لم يشرع في هذا الوقت مما يتصور فيه الإمساك قربة إلا واحدًا، فانعدم غير الفرض الوقتي؛ لعدم كونه مشروعًا لا باستحقاق منافعه). فإن قلت: كما أن صوم غير رمضان غير مشروع، فكذلك الإمساك لغير

الصوم أيضًا غير مشروع في رمضان، فينبغي أن يتعين مطلق إمساكه لصوم رمضان على هذا التقدير. قلت: نعم كذلك إلا أن الصوم عبادة، وتلك إنما تكون بأداء منه عن اختيار، فلا يتحقق ذلك بدون النية؛ لأن العدم ليس بشيء والعبادة شيء، فلا يصلح العدم أن يكون محققًا للوجود. وقوله: (لأن عدم العزيمة ليس بشيء) هذا احتراز عن مسألة الزكاة فإن فيها لفظ الهبة وهو موجود، فيصلح أن يكون هو مجازًا عن الصدقة بدلالة أن المصروف إليه فقير، فكان المبتغي بها وجه الله تعالى دون العوض، وهو معنى الصدقة، فلذلك لم يتمكن من رجوع الهبة التي وهبها للفقير. وكذلك لو وهب عشرة دراهم للفقيرين يجوز بالإجماع استعارة الهبة من الصدقة بخلاف ما نحن فيه، فإن فيه عدم العزيمة، والعدم لا يصلح أن يكون مستعارًا عن العزيمة بخلاف أجير الواحد؛ لأن المنافع وإن كانت مستحقة عليه فذلك لا يمنع وجوب الأجرة، ولا تقتضي نية وقوع منافعه عما استحق عليه؛ لأنه ليس بعبادة، والعبادة هي التي تفتقر إلى الاختيار، وأما الفعل المستحق من العبد، فقد يكون اختياريًا وقد يكون جبريًا، أما العبادة فلا تتحقق إلا بالاختيار فافترقا.

(وقال الشافعي: لما كانت منافعه بقيت على ملكه وجب التعيين) في أصله ووصفه؛ لأن معنى القربة معتبر في الصفة، كما هو معتبر في الأصل إلى آخره.

فزفر- رحمه الله- غلا في القول بتعين صوم رمضان حتى أسقط النية أصلًا في الأصل والوصف، مع أن العبادة لا تتحقق بدون النية أصلًا. والشافعي- رحمه الله- أيضًا غلا في القول بعدم تعينه حتى اشترط النية في الأصل والوصف، وذلك الغلو تقصير منه في الاجتهاد لا لغاية تعين الله تعالى؛ لأن الله تعالى جعل صوم رمضان متعينًا حيث لم يجز فيه صوم غير رمضان. ونحن توسطنا بينهما. لما أن دين الله بين الغلو والتقصير حيث اشترطنا النية في أصل الصوم؛ لتمتاز العبادة عن العادة؛ لأنه ما لم يعزم على الصوم لا يكون صارفًا ما له إلى ما هو مستحق عليه، ثم لما تعينت جهة الصوم بنية أصل الصوم حتى امتازت العبادة عن العادة لم يحتج إلى تعيين وصفه، وهو تعيين فرض الوقت؛ لأنه لما لم يشرع فيه غير صوم رمضان لأي معنى يحتاج إلى تعيين صوم رمضان، بل اشتراطه كان اشتراطًا لتعيين المعين، وهو لغو؛ لأن التعيين إنما يصح في المتردد بين الشيئين وهاهنا بعد وجود أصل الصوم منه في هذا الزمان لا اختيار له في صفته؛ لأنه لا يتصور أداؤه بصفة أخرى شرعًا، فلا يشترط التعيين في الصفة (فأصيب بمطلق الاسم) أي أصيب صوم رمضان بمجرد قوله: نويت أن أصوم (ولم يفقد بالخطأ في الوصف) أي لم يفقد صوم رمضان بل يوجد بخطئه في اسم صوم رمضان، بأن قال: نويت صوم التطوع أو واجب آخر، وهذا لأن صوم رمضان متعين في زمانه،

لعدم شرعية صوم غير رمضان، فكان مصابًا بمطلق الاسم ومع الخطأ في الوصف. كالشخص المتعين في المكان بأن لم يكن في الدار إلى زيد مثلًا يصاب هو باسم جنسه بأن قيل: يا إنسان، وبالخطأ في الوصف بأن قيل: يا عمرو، فيجيبه زيد. أو نقول: لو أخطأ في وصفه وقال لأبيض: يا أسود، أو يا أحمر يجب عليه الجواب. فإن قيل: ليس هذا الذي ذكره من صورة الخطأ، فإن الخطأ هو الوقوع في غير صواب من غير قصد وهاهنا لو كان قاصدًا فيه أو غير قاصد يصيب بصومه هذا صوم رمضان. قلنا: المراد من الخطأ هنا هو عدم الإصابة في النية، لكن يصيب صوم رمضان هنا لوجود نية أصل الصوم وهو كان هنا لإصابة صوم رمضان لتعينه. فإن قلت: إصابة صوم رمضان بمطلق الاسم لو كانت باعتبار تعينه في زمانه بحيث لم يشرع في ذلك الوقت غير صوم رمضان ينبغي أن لا يصيب المسافر صوم رمضان إذا أطلق النية عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- لأن عنده صوم غير رمضان مشروع في حقه، وقد نص المصنف- رحمه الله- في هذا

الكتاب: أن المسافر إذا أطلق النية يقع صومه عن رمضان هو الصحيح فما وجهه؟ قلت: صرف المطلق إلى المقيد هناك لا لاعتبار أن صوم غير رمضان غير مشروع عنده، بل باعتبار دلالة حال المسافر، فإنه لما اختار الصوم مع تحمل المشقة العظيمة، فالظاهر أنه أراد الفرض الوقتي لا النفل. كما أن الواجب الآخر لا يصاب بمطلق النية، فلو أصيب في حق المسافر بمطلق النية إما أن يصاب النفل أو الفرض الوقتي، والفرض الوقتي أولى من صوم النفل فحمل على الفرض الوقتي بدلالة حالهن فكان هذا كدلالة إطلاق الحج على حجة الإسلام لظاهر حال المؤدي، وإن كان يصح غيرها عند التصريح به. فإن لحمل المطلق على المقيد أسبابًا كما أن التعيين في الزمان أو المكان يصلح لذلكن فكذلك دلالة حال المؤدي تصلح له أيضًا، فكان هذا منا قولًا بموجب العلة. والقول بموجب العلة هو التزام ما يلزمه المعلل بتعليله، وهاهنا كذلك؛ لأن الشافعي لما علل لتقرير مذهبه بقوله: لما كانت منافعه مملوكة لم يكن بد من تعيين النية في حق صوم رمضان ليمتاز هو من سائر منافعه؛ قلنا بموجب ذلك القول، ونقول: لابد من تعيين النية إذ هو عبادة، فلابد للعبادة من

النية لكن إطلاق النية منه تعيين له؛ لأن أن التعيين منه ساقط، وهذا لأن التعيين لا يخلو إما أن كان هو لتعيين غير المعين أو لتعيين المعين، فالأول غير ثابت هنا لتعينه في زمانه شرعًا حتى إن صوم غير رمضان غير مشروع في ذلك الوقت؛ لتعين هذا الوقت لصوم رمضان، والثاني لغو فلا يصح، فثبت بهذا أن التعيين فيه ثابت، فكان الإطلاق منه تعيينًا لا أن التعيين عنه ساقط. (فإذا تراخى بطل) أي فإذا تراخى التعيين عن أول أجزاء الفعل بطل الفعل (فإذا اعترضت العزيمة) أي النية.

و (لأن إخلاص العبد) أي لأن نية العبد. (وهذا بخلاف التقديم) وبهذا فرق الشافعي بين قوله هذا، وبين قولنا: لما يصح تقديم النية مع انفصاله عن الركن فلأن يصح التأخير، وهو متصل بالركن أولى. (ولم يعترض عليه ما يبطله) أي لم يعترض على ما قدّم من النية على الصبح ما ينافيه ويبطله من الأكل في النهار وغير ذلك؛ لأن الشيء إنما يبطل بما يضادّه ولم يوجد؛ لأن الأكل والشرب والمباضعة في الليل لا ينافي الصوم؛ لأن من شرط المنافاة اتحادَ المحل، والليل ليس بمحل للصوم أصلًا، فالأكل وما يشبهه لا ينافي عزيمته (فبقي)؛ لان الشيء إذا ثبت لا يبطل إلا بما ينافيه ولم يوجد. (فأما المعترض) أي المتراخى من النية من أول الصبح (لا يحتمل التقديم). (وجب الفصل بين هذين الوجهين) أي بين وجهي التقديم والتأخير

يعني إذا قدم النية على الصبح في صوم القضاء يجوز، وإذا أخرّ النية عن الصبح لا يجوز، وهذا بالإجماع، فينبغي أن يكون فيما نحن فيه أيضًا على وفاق ذلك أن قدم النية يجوز وإن أخرّها لا يجوز. (وهذا الإمساك واحد غير متجزئ صحة وفسادًا). بدليل أن المفسدَ إذا وُجد في آخر جزء من النهار يشيع في الكل، ولأن الإمساكات وإن كانت كثيرة فهي بمنزلة إمساكة واحدة لدخولها تحت خطاب واحد، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ}. فإن الأشياء الكثيرة إذا دخلت تحت خطاب واحد كان الكل كشيء واحد، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} لّما ثبت بخطاب واحد جُعل جميع الأعضاء كعضو واحد في حكم جواز نقل البَلّة من عضو إلى عضو آخر، بخلاف أعضاء الوضوء، فإنما لَّما ثبتت بخطابات مختلفة جُعلت أشياءُ في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. فلم يجز نقل البلّة من عضو إلى عضو إلى آخر؛ وهذا لأن الألفاظ قوالب المعاني، ولا يُضرب لَبنان في ملبن واحد، ثم بالاتفاق لا يشترط اقتران النية بأداء جمعيه، فإنه لو لأغمي عليه بعد الشروع في الصوم تأدى صومه، ولا يشترط اقتران النية أيضًا بأول حال الأداء، فإنه لم قدم النية تأدى صومه وإن كان غافلًا عنه عند ابتداء الأداء بالنوم، وكان ذلك لدفع الحرج،

وهذا الحرج لا يندفع بجواز تقديم النية في جنس الصائمين، ففيهم صبي يبلغ ومجنون يفيق في آخر الليل. وفي يوم الشك هو ممنوع من نية الفرض قبل أن يتبين أمر الصوم، ونية النفل عنده لا يتأدى بها إذا تبين، وإذا بقي معنى الحرج قلنا: لما صح الأداء بنية متقدمة وإن لم تقارن حالة الشروع ولا حالة الأداء، فلأن يصح بنية متأخرة لاقترانها بما هو ركن الأداء كان أولى. (والثبات على العزيمة حال الأداء) أي حال بقاء الأداء (ساقط بالإجماع)، حتى لم يجب عليه أن يقول: في جميع النهار نويت الصوم نويت الصوم إلى الآخر. ألا ترى أنه إذا شرع في الصوم ثم أغمي عليه يصح الصوم منه وإنما قيد بقوله: "حال الأداء" أي حال الصوم احتراز عمن رجع عن نية الصوم في الليل، فإن رجوعه يصح. وذكر في "الخلاصة" رجل نوى في الليل أن يصوم، ثم بدا له في الليل أن لا يصوم وعزم على ذلكن ثم أصبح من الغد وصام لا يكون صومه جائزًا؛ لأن عزيمته قد انتقضت بالرجوع.

(وصار حال الابتداء هاهنا) إلى آخره يعني أن ابتداء الصوم كبقاء الصلاة في أنه يتعذر اقتران النية بهما أو يتعسر، وصار بقاء الصوم بمنزلة ابتداء الصلاة في أنه لا يتعذر اقتران النية بهما. (ثم هذا العجز أطلق التقديم) أي العجز عن النية حال ابتداء الصوم جوز تقديم النية عليه بالإجماع مع خلو اقتران النية مع ركن الصوم إلى آخره، وقد ذكرناه. (ونقصان حقيقة الوجود عند الأداء) أي نقصان حقيقة وجود النية عند ابتداء أداء الصوم (على حد الإخلاص) يعني يشترط اقتران النية بالمنوي ليخلص لله تعالى. وذلك إنما يكون إذا كان محتملًا غيره؛ لأن النية تعيين بعض المحتملات، والإمساك في النهار قد يكون لله تعالى من حيث إنه قهر عدوه، وقد يكون لغير ذلك كحمية أو قلة اشتهاء أو غير ذلك، فلابد من النية ليتميز عن سائر المحتملات وهو حد الإخلاص. (والعجز الداعي إلى التأخير موجود في الجملة). فإن قيل: لو كان جواز التأخير باعتبار الحاجة والعجز الداعي إليه لاختص

ذلك بالمعذور، وعندكم القادر على تبييت النية لو ترك التبييت ونوى من النهار يجوز أيضًا. قلنا: إنه لما لم يقدم النية وعجز عن التقديم فصار هو معذورًا أيضًا، ولأن الذي ذكره لا يقتضي الاختصاص بالمعذور، فإنه قال: العجز الداعي إليه في الجملة موجود، وليس يلزم من وجود العجز في الجملة وجوده على وجه العموم. (ولهذا رجحان في الوجود) أي إذا أخَّر النية يوجد اقتران النية بالمنوي الذي هو فعل الصوم. (وهو حد حقيقة الأصل)؛ لأن الأصل هو أن تنصل النية بالمنوي حقيقة، وحقيقة العارض أن تتصل النية بالمنوي تقديرًا، وهو فيما إذا نوى في أول الليل. (ونقصان القصور عن الجملة بقليل يحتمل العفو)؛ لأن القليل يحتمل العفو في الجملة كالنجاسة وانكشاف العورة وغيرهما بخلاف الكثير. يعني أن النية قاصرة في التأخير عن جملة الإمساكات؛ لأن النية عند ابتداء وجود الصوم لم تكن موجودة حقيقة.

فصار حاصل الكلام أن للتقديم فضلًا، ونقصانًا، وكذلك للتأخير فضل ونقصان، (فاستويا في طريق الرخصة) أي التقديم والتأخير كل منهما رخصة للمكلف، فيجب أن يكون كل منهما جائزًا، فرخصة التقديم ثابتة بالاتفاق فيجب أن تكون رخصة التأخير ثابتة؛ لأن الحكم إذا ثبت لأحد المتساويين يثبت للآخر ضرورة. إذ لو يثبت لاختلفا حين استويا وهو محال، (بل هذا راجح)؛ لأن فيه شبه العزيمة؛ لأن العزيمة اقتران النية بالمنوي، وفيما ذكرنا بعض العزيمة موجود وهو اقتران النية بالمنوي، والمتقدم تمحض رخصة، وليس فيه شبه العزيمة لخلو جميع الصوم عن حقيقة النية، ومعنى الرخصة فيه هو بإقامة الأكثر مقام الكل، فكان في التقديم تمحض رخصة، وفي التأخير عمل بشيء من العزيمة، فكان هو أرجح. فإن قيل: جعلت الدليل المجوز الذي هو دليل المساواة دليل الترجيح، وهذا لا يجوز؛ لأن أحد المتساويين لا يترجح على الآخر إلا بمرجح لا بنفسه. قلنا: ليس كذلك؛ لأن دليل التسوية بينهما هو العجز؛ لأن العجز هو المجوز للتقديم والتأخير على ما ذكرنا، وأما ما ذكرنا من اقتران النية بالمنوي فشيء آخر سوى العجز فيثبت به الرجحان، ولئن سلمنا أن دليل الجواز فيهما هو المرجح لأحدهما. قلنا: يجوز ذلك إذا كان أحد الدليلين قويًا في ذاته.

ألا ترى أن أحد القياسين يجوز أن يترجح على الآخر لقوة فيه، كما قلنا في طول الحرة إنه لا يمنع الحر من نكاح الأمة، إنه نكاح يملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرًا يصلح للحرة والأمة، وقال: تزوج من شيءت، فيملكه الحر كسائر الأنكحة، وهو أولى من قول الشافعي إنه يرق ماءه على غنية وذلك حرام عليه كالذي تحته حرة لقوة في تعليلنا على ما عرف، وكذلك المشهور يترجح على خبر الواحد كالآية راجحة على السنة، فعلم بهذا أن دليل المجوز يصلح أن يكون مرجحًا إذا كان قويًا في ذاته. (وجب المصير إلى ما له حكم الكل من وجه خلفًا عن الكل من كل وجه) كما في المضمونات، إذا انقطع المثل صورة ومعنى أو ليس لها مثل يصار إلى الخلف وهو القيمة. (ولا ضرورة في ترك هذا الكل الثابت تقديرًا فلم نجوزه بعد الزوال). فإن قيل: لو أقام المسافر بعد الزوال أو أفاق المجنون بعد الزوال كان محتاجًا إلى النية بعد الزوال، فكانت الضرورة قائمة فيه أيضًا.

قلنا: لو اعتبرنا ذلك يلزم أن يوجد الصوم بدون النية، والصوم عبادة محتاجة إلى النية، فلابد أن تكون النية موجودة. إما في الكل الحقيقي أو في الكل التقديري لما أن العبادة لا اعتبار لها بدون نية العبادة، فكان القول بجواز العبادة بدون النية في الكل التحقيقي أو التقديري قولًا لا يخفى فساده. فإن قيل: لما اعتبر الكل التقديري في هذا وجب أن يصح صومه إذا وجدت النية في ربع اليوم؛ لأن الربع قام مقام الكل في بعض الأحكام. قلنا: لا كذلك لما أن القياس هو ما قاله الشافعي أن تكون النية بجميع المنوي، ثم لما عدل عنه بالدليل لم يكن بد من أن توجد النية في الذي يشبه الكل، ويقارنه من حيث الحقيقة وهو أكثر اليوم. وأما الربع فليس له مقارنة بالكل الحقيقي إلى أنه ورد السمع بإقامته مقام الكل في بعض الأحكام، ولم يرد هنا سمع بإقامة الربع مقام الكل، فأجرينا الحكم على وفق القياس لذلك، فلم نقم الربع مقام الكل؛ ولأن الاحتياط هناك في إقامة الربع مقام الكل، والاحتياط هاهنا في إقامة الربع مقام الكل. (وبطل الترجيح بصفة العبادة) يعني أن الشافعي يرجح مذهبه باعتبار الاحتياط في العبادة وهو أن الجزء الأول من النهار مفتقر إلى النية، فإذا خلا

منها فسد، وإذا وجدت النية بعد ذلك فقد اقترنت النية بأكثر النهار، فيجوز لاقتران النية بأكثر النهار فتعارض، فرجحنا جانب الفساد في العبادة احتياطًا. قلنا: وهذا نوع ترجيح يرجع إلى حال الوجود؛ لأن الصحة والفساد للعبادة حال. (والكثرة والقلة من باب الوجود) أي من باب وجود الموصوف؛ لأن المراد من الكثرة هو كثرة الأجزاء، والأجزاء إذا تكاملت كانت ذات الموصوف، فعلم بهذا أن الترجيح بالكثرة ترجيح بمعنى راجع إلى الذات. فعند تعارض الترجيحين كان الترجيح بمعنى يرجع إلى الذات أولى من ترجيح بمعنى راجع إلى الحال لما يأتي بيانه (في أبواب الترجيح) أي في أنواع الترجيح؛ لأنه يذكر للترجيح إلا بابًا واحدًا لكن ذكر له أنواعًا. (ولأن صيانة الوقت الذي لا درك له أصلًا على العباد واجبة)؛ لأ، الله تعالى فرض على عباده الأداء في هذا الوقت، ولا يمكن الأداء إلا في هذا الوقت، فيجب عليهم صيانة هذا الوقت ليتمكنوا من أداء العبادة، وصيانة

الوقت تكون تارة باقتران النية بجميع الإمساكات هو الأصل، فإذا لم يصن العبد هذا الوجه أمكنه صيانة هذا الوقت بوجه آخر، وهو أن تقرن النية بأكثره لما أن الأكثر بمنزلة الكل، فيصار إلى هذا احترازًا عن فوت العبادة عن وقتها أصلًا، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من فاته صوم يوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر كله). فإن قلت: هذا كله إنما يصح أن لو كان للذي قلته من جواز تأخير النية عن أول العبادة له نظير في الشرع، وليس له نظير فيه لاستلزام ذلك كون النية المتأخرة متقدمة ولا نظير له في الشرع. وأما ما قاله الشافعي من جعل النية المتقدمة متأخرة تقديرًا فله نظير في الشرع كما في الصلاة والزكاة إذا تقدمت النية على التكبير ثم كبر للصلاة من غير حضور النية عنده، ونوى الزكاة عند عزل مقدار الواجب ولم تحضره النية عند الأداء إلى الفقير يجوز، ولما كان كذلك كان من الاحتياط أن يقال بالفساد ليقضه بعد مضي شهر رمضان حتى يخرج عن عهدة الفرض بيقين. قلت: لا كذلك، بل الاحتياط فيما قلنا؛ لأنه لما دل الدليل على الجواز، ومع ذلك لو لم يؤد الفرض في وقته على حسبان أن ذلك مفسد لصومه يبقى

في إثم التفويت عن وقته لم يكن ذلك عملًا بالاحتياط. وأما الذي قلته من جعل النية المتأخرة متقدمة، فليس كذلك بل فيما قلناه انقلاب الإمساكات الموقوفة إلى صوم الوقت عند وجود النية في أكثره لتعين الوقت لصوم الوقت، فلما وجدت النية في أكثره انقلبت الإمساكات إلى صوم الوقت؛ لأن النية المتأخرة صارت متقدمة، ولا ينكر أن يكون الأمر موقوفًا في أوله إلى أحد الحالين الذي يظهر في عاقبته في الحسي والشرعي في العبادة وغيرها، ففي الحسي من رمى سهمًا إلى إنسان فإن أمره موقوف، فإنه يصيبه أم لا؟ فعلى حسب اختلاف حاله يختلف حكمهن وفي غير العبادات من الشرعي بيع الفضولي والتعليقات. وأما العبادات فكسلام من عليه سجدة السهو، فإن أمره موقوف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- أنه يسجد أم لا؟ فإن سجد عاد إلى حرمة الصلاة وإلا فلان وعلى ذلك تُبتنى صحة اقتدى المقتدي عليه وعدم صحته. وكذلك من صلى الظهر في منزله يوم الجمعة، فإنه هل يسعى إلى الجمعة بعده أم لا؟ فعلى ذلك بقاء ظهره صحيحًا وعدم بقائه، وهو كثير النظير كمن صلى الوقتية مع تذكر الفائتة عند قلة الفوائت على قول أبي حنيفة- رحمه الله- وكصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيما دون عادتها وصلت صلوات، فأمر صلاتها موقوف إلى عود الدم، وعدم عوده بالفساد والصحة، ولما كان كذلك

كان ما قلناه من توقف الإمساكات إلى وجود النية منه في أكثر النهار لتعين الوقت لصوم الوقت طريقًا مسلوكًا في الشرع وغيره، فكيف يقال إنه غير معهود في الشرع!! وإلى هذا المعنى أشار في الكتاب بقوله: "ولم نقل بالاستناد ولا بفساد الجزء الأول مع احتمال الصحة" (إن أداء العبادة في وقتها مع النقصان أولى) خصوصًا في حق صوم رمضان، وقد جاء الحديث (من فاته صوم يوم من رمضان لم يقضه صيام الدهر كله). وقوله: (فصار هذا الترجيح متعارضًا) أي صار ترجيح الشافعي مع ترجيحنا متعارضين فإن ترجيحنا بكون العبادة مؤداة في وقتها مع النقصان تقتضي الصحة مع النقصان، فيعارضه ترجيح الشافعي بقوله: إن الجزء الأول من النهار لما عري عن النية حكم بفساد العبادة فتعارضا؛ لأن كل واحد من الترجيحين راجع إلى حال وجود العبادة بخلاف ترجيحنا الأول، فإن ذلك ترجيح بمعنى راجع إلى ذات الوجود، وترجيح الشافعي راجع إلى حال الوجود، فترجح ترجيحنا هناك فلم يعارضه ترجيح الشافعي، فلذلك كان هو دالًا على وجوب الكفارة بخلاف الترجيح الثاني؛ لأنه ضعف

بالمعارض، فصار له شبهة عدم الصوم فلا تجب الكفارة. قوله: (لم نقل بالاستناد ولا بفساد الجزء الأول) جواب عما قاله الشافعي، وهو قوله: وجب التعيين من أوله، فإذا خلا عن النية فسد ونية العبد في النهار لا تظهر فيما مضى والجواب: إنا لا نقول بطريق الاستناد بأن توجد النية في الوقت الذي نوى من النهار، ثم يرجع قهقرى إلى أول النهار بأن تجعل النية المتأخرة متقدمة. بل نقول: إن نية العبد وإخلاصه كانت موجودة في أول النهار تقديرًا لتوقف إمساكات أول النهار إلى وجود النية في أكثر النهار، فلم يفسد الجزء الأول لذلك. وعند النية في أكثره كان صومه صحيحًا؛ لوجود النية في بعضه تقديرًا وفي أكثره تحقيقًا، كما جعلت النية المتقدمة على الصبح موجودة عند الصبح تقديرًا، فكذا في عكسها إذا تأخرت النية ووجدت في أكثر النهار جعلت

موجودة مقترنة بجميع النهار تقديرًا إقامة للأكثر مقام الكل، وهذا لأن النية إذا وجدت حقيقة في أول النهار فهو في معنى تقدير النية من وجه؛ لأن النية إنما يحتاج إليها ليصير الإمساك قربة إذا وجد الإمساك على خلاف العادة، ولا يظهر قرته في أول النهار لقصوره؛ لأن القربة فعل يلحق بها إلى البدن مشقة ولا مشقة في أول النهار؛ لأن كل أحد يعتاد الإمساك في أول النهار فصار كونه قربة تقديرًا. (وفاء لحق الصوم وتوفيرًا لحظه) أي مساويًا لحق الصوم وتكميلًا لنصيبه. يعني لما كانت القربة تقديرًا في أول النهار واحتاجت تلك القربة التقديرية إلى النية التقديرية لا زائدة عليها، فلذلك كان تجويز تلك القربة التقديرية بالنية التقديرية مناسب لحال تلك القربة فتجوز، وهذا معنى قوله: "فصار إثبات العزيمة فيه تقديرًا لا تحقيقًا وفاءً لحقه". (وعلى هذا الأصل قلنا) أي من الأصل الذي ذكرنا بقولنا: وهذا

الإمساك واحد غير متجزٍ صحة وفسادًا. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- وعلى هذا الأصل قلنا في صوم النفل إنه لا يتأدى بدون العزيمة قبل الزوال؛ لأن الركن الذي به يتأدى الصوم لا يتجزى وجودًا، ولا يتصور الأداء إلا بكماله، وصفة الكمال لا تثبت بالنية بعد الزوال حقيقة ولا حكمًا، وتثبت بالنية قبل الزوال حكمًا باعتبار إقامة الأكثر مقام الكل، ولا يرد على ما قلنا: الإمساك الذي يندب إليه المرء في يوم الأضحى إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة فإن ذلك ليس بصوم، وإنما حنُدب إليه لما ذكر في الكتاب. ولهذا ثبت هذا الحكم في حق أهل الأمصار دون أهل السواد، فلهم حق التضحية بعد طلوع الفجر، وليس لأهل المصر أن يضحوا إلا بعد الصلاة حتى فسد بوجود المنافي؛ من الأكل والشرق والحيض والنفاس. (ومن هذا الجنس الصوم المنذور في وقت بعينه) أي من جنس إذا صار متعينًا للصوم؛ إما بشرع الشارع كرمضان أو بنذر العبد بإذن الشارع يصاب بمطلق النية ونية النفل، ويتوقف الإمساك في أول النهار لهذا المتعين أي إذا

نوى النفل أو أطلق النية كان ناويًا للمنذور؛ لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى. (لما انقلب بالنذر صوم الوقت)، وهو النفل لا يقبل وصفين متضادين، لأن النفل لا مؤاخذة فيه، وفي الوجوب مؤاخذة، فإذا ثبت الوجوب انتفى النفل ومع الخطأ في الوصف بأن نوى النفل. (وولايته لا تعدوه)؛ لأن الولاية للعبد قاصرة. (لحقه فلا) أي فلا يصح تعيينه لحق صاحب الشرع فاعتبر في احتمال ذلك العارض وهو القضاء والكفارة. (بما لم ينذر) يعني نذره لا يظهر في إبطال هذا الوقت من أن يكون محلًا للقضاء والكفارة؛ لأن ولايته لا تعدوه. إذ لو ظهر نذره في ذلك صار تبديلًا للمشروع، وذا لا يصح كمن سلم وعليه سجدتا السهو يريد به قطع الصلاة تبطل هذه العزيمة؛ لكونه مبدلًا للمشروع، فكذلك هاهنا.

(فمثل الكفارات المؤقتة بأوقات) أي المؤقتة بالنهر دون الليالي. (والوقت فيها معيار لا سبب) فإن السبب نذره، (ومن حكمها أنها من حيث جعلت قربة لا تستغني عن النية) إلى آخره. اجتمع فيها الأمران؛ كونها قربة وكونها غير معينة، فمن حيث إنها قربة لا تستغني عن النية لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وذلك بالنية والفعل وذلك في أكثر الإمساك الذي له حكم الكل. (ومن حيث إنها غير متعينة لا يتوقف الإمساك) على العارض من القضاء والكفارة، بل يتوقف على أصل المشروع (وهو النفل)؛ لأن الشيء إنما يتوقف على الأمر الأصلي لا على الأمر العارضي. (لأنه محتمل الوقت) - بفتح الميم على صيغة اسم المفعول- لأن الواجب محتمل الوقت لا موجبه (وإنما التوقف على الموضوعات الأصلية) أي الإمساك في أول الوقت بغير نية متوقف على نية النفل هو الموضوع الأصلي، (فأما إذا توقف على وجه) أي

على النفل في مسألتنا وعلى صوم رمضان. (فهو المشكل منه) أي من النوع الرابع (وهو حج الإسلام)، فوجه الإشكال فيه من وجهين: أحدهما- بالنسبة إلى سنة واحدة وهو أن أشهر الحج تشبه وقت الصلاة من حيث إن الوقت يفضل عن الأداء؛ لأن الحج أركان معلومة تؤدى في أزمنة متعينة وأمكنة متعينة فصار كوقت الصلاة، فصار الوقت ظرفًا له، وتشبه وقت الصوم من حيث إنه لا يسع فيها إلا حج واحد، فصار الوقت معيارًا له، وفي وقته اشتباه أيضًا، فالحج فرض العمر ووقته أشهر الحج من

سنة من سني العمر، فباعتبار أن أشهر الحج من السنين التي تأتي من عمره كان الوقت يفضل عن الأداء فكان موسعًا، ومن حيث إن ذلك من عمره محتمل في نفسه لا يفضل فصار مضيقًا، فلذلك صار أمره مشتبهًا. (وأشهر الحج) من هذا العام بمنزلة يوم أدركه في حق قضاء رمضان يعني في حق عدم التعيين. وقيل: للحج شَبَهٌ بأربعة أشياء: فإن له شبهًا بالظرف، وشبهًا بالمعيار، وشبهًا بالمطلق، وشبهًا بالمؤقت، فمن حيث إنه لم يستوعب أشهر الحج كان له شبه بالظرف، ومن حيث إنه لا يتأدى فيها إلا حج واحد كان له شبه بالمعيار، ومن حيث إن العمر وقته كان له شبه بالمطلق عن الوقت كالزكاة، ومن حيث إنه لا يتأدى إلا في وقت خاص كان له شبه بالمؤقت، فكان داخلًا في أشكاله لذلك فكان مشكلًا. (ولا يصير كذلك إلا بشرط الإدراك)، في هذا نفي قول محمد-

رحمه الله- فإنه يقول: العام الثاني مزاحم للأول، وإن لم يدركه كاليوم الثاني مزاحم لليوم الأول في قضاء رمضان في حق عدم التعيين، فلا يتعين الذي يليه إلا بتعينه بطريق الأداء. يعني لا بطريق القول لتعين أحد الأشياء الثلاثة في باب كفارة يمين بالفعل دون القول، (ويصير الساقط بطريق التعارض

كالساقط في الحقيقة). يعني أن الحياة والممات في السنة الآتية سواء؛ لأن الموت في هذه المدة غير نادر كما أن الحياة غير نادر فاستويا فتعارضا فلا يثبت إدراك العام الثاني فسقط بتعارض الحياة والممات. فصار الساقط حقيقة، يعني صار كأن أشهر الحج لا توجد بعد هذا قط ولو كان كذلك لا يحل له التأخير فكذلك هاهنا. أو نقول: العام القابل معدوم، والعام الذي لحقه الخطاب به موجود، والمعدوم لا يعارض الموجود، فسقط بطريق التعارض يعني بسبب أنه لم يصلح معارضًا له، فسقط كخبر الواحد لما لم يصلح معارضًا للخبر المشهور فسقط، فصار كأن خبر الواحد لم يرد البتة بسبب أنه لا يثبت موجبه بمقابلة الخبر المشهور، ولا يقال: الحياة ثابتة في الحال، فتبقى كذلك عملًا بالاستصحاب؛

لأنا نقول: الانفصال عن السنة الثانية ثابت في الحال، فيبقى كذلك عملًا بالاستصحاب، فتعارض استصحاب الحال مع استصحاب الحال فتساقطا. (فيصير كوقت الظهر في التقدير) يعني كما أن تأخير صلاة الظهر عن وقتها لا يحل، فكذلك تأخير الحج عن وقته لا يحل أيضًا. إلا أن هناك يكون قضاء وهنا يبقى أداء لبقاء وقته وهو وقت العمر، لكن في إثم التأخير صار كتأخير الصلاة عن وقتها، ثم يحتمل أن تكون فائدة تعيين الظهر- وإن كان سائر أوقات الصلوات كذلك هي أيضًا- هي أول صلاة فرضت على النبي عليه الصلاة والسلام، فلذلك افتتح محمد بن الحسن- رحمه الله- الجامع الصغير

بذلك لهذا. (بخلاف الصوم) أي بخلاف أيام قضاء الصوم التي أدركها، فإنه لو أخر قضاءه عن اليوم الأول إلى الثاني من غير إثم، وهذا جواب عما قاله محمد- رحمه الله- بقوله: كصوم القضاء وإلى العبد تعيينه. (والتعارض) للحال قائم يعني أن الأيام كلها موجودة، والكل سواء في كونها صالحة للقضاء فيها فتعارضت، وليس أحدها أولى من الآخر وإلى العبد تعيينه، وفي بعض النسخ والتعارض (للحال غير قائم) يعني أن الموت لا يعارض الحياة؛ لأن الموت في الغد من غير علامة نادر، فلم تتعارض الحياة والممات، فالحياة ثابتة في الأيام كلها، فالوجه الأول من النسخ يرجع إلى تعارض الأيام في الاستواء في المحلية، والوجه الثاني منها يرجع إلى الحياة والممات. (ولا يلزم أن النفل بقي مشروعًا) فوجه الورود هو أن الحج في السنة الواحدة لا يؤتي به إلا مرة واحدة، فلو تعينت السنة الأولى لحج الإسلام على

ما ذكره أبو يوسف كان ينبغي أن لا يبقى النفل مشروعًا في السنة الأولى كصوم رمضان، لما تعين في شهر رمضان انتفت مشروعية النفل. فأجاب عنه بقوله: (لأنا إنما اعتبرنا التعيين احتياطًا واحترازًا عن الفوت). يعني أن تعين حجة الإسلام في السنة الأولى إنما نشأ من جانب الاحتياط والاحتراز عن الفوت لا من تعيين صاحب الشرع. بخلاف تعين صوم رمضان في شهر رمضان. هو إنما نشأ من تعيين صاحب الشرع فاثر ذلك التعيين لعموم ولاية صاحب الشرع بالنفاذ في سائر الصيامات في شهر رمضان سوى صومه. (فظهر ذلك في حق الإثم لا غير) أي تعين حج الإسلام في السنة الأولى إنما ظهر في حق الإثم أي يأثم بالتأخير لا في حق نفي النفل ولا في حق القضاء بالتأخير إلى السنة الثانية. فإن قلت: إن كان التأخير عن السنة الأولى التي أدرك المكلف الخطاب إلى السنة الثانية موجبًا للإثم لما أخر النبي عليه الصلاة والسلام عن السنة الأولى التي أدركها الخطاب إلى أربع سنين، فإن فرضية الحج نزلت في سنة ست من الهجرة، وحج رسول الله عليه الصلاة والسلام في سنة عشر منه.

قلت: منع بعض مشايخنا- رحمهم الله- تأخير النبي عليه الصلاة والسلام من السنة التي أدركه الخطاب، فقالوا: نزول فرضية الحج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وإنما نزلت هذه الآية في سنة عشر، وإنما النازل في سنة ست قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وهذا أمر بالإتمام لمن شرع فيهن فلا يثبت به ابتداء الفرضية مع أن التأخير إنما لا يحل لما فيه من التعريض للفوت، ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان يأمن من ذلك؛ لأنه مبعوث لبيان الأحكام للناس، والحج من أركان الدين، فأمن أن يموت قبل أن يبينه للناس بفعله. ولأن تأخيره كان لعذر، وذلك أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة ويلبون تلبية فيها شرك، وما كان التغيير ممكنًا للعهد، حتى إذا تمت المدة بعث عليا- رضي الله عنه- حتى قرأ عليهم سورة براءة، ونادى أن: "لا يطوفن بهذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا عريان" ثم حج بنفسه.

ومن ذلك أنه كان لا يستطيع الخروج وحده بل يحتاج إلى أصحاب يكونون معه، فلم يكن متمكنًا من تحصيل كفاية كل واحد منهم ليخرجوا معه فلهذا أخره. هذا كله مذكور في "المبسوط" في آخر باب الحج عن الميت وغيره. (فأما أن يبطل اختيار جهة التقصير والمأثم فلا). ومعنى هذا أن الحج عبادة، والعبادة فعل اختياري إذ لولا ذلك لما صلح أن تكون عبادة؛ لأن العبادة فعل لو أتى بها يثاب على ذلكن ولو تركنها وهي فرض يعاقب عليه، والفعل الجبري لا يصلح أن يكون عبادة. ألا ترى أن وقت الظهر متعين لأداء الظهر بالإجماع ولا يبطل ذلك

باختياره جهة ترك الظهر فكذلك هاهنا، ولهذا لو اشتغل بالتطوع في آخر وقت الصلاة ولم يؤد الظهر جاز النفل، ويأثم بتأخير صلاة الظهر عن الوقت، فكذلك هاهنا أشهر الحج من العام الأول تتعين للحج وبقي الوقت صالحًا للنفل أيضًا ويأثم بتأخيره. (ولا يلزم إذا أدرك العام الثاني). وجه الورود هو أن العام الأول لو تعين لحج الإسلام عند وجود استطاعته في العام الأول لما صار العام الثاني متعينًا له أيضًا عند التأخير إلى العام الثاني؛ لأن المتعين في وقت إذا فات وقته لا يبقى متعينًا على المكلف بالإتيان به إذا أدرك مثله في الزمان الثاني. كما أن صوم رمضان إذا فات وقته وأدرك في العام الثاني شهر رمضان، وكذلك مفوت الظهر إذا أدرك وقت الظهر من اليوم الثاني، وهاهنا يكون العام الثاني متعينًا أيضًا لأداء حج الإسلام. فأجاب عنه بقوله: (لأنا إنما عينا الأول لوقوع الشك) أي في إدراك العام الثاني، (فإذا أدركه) ومثله من الشك موجود في العام الثاني يعني بأنه هل يدرك العام الثالث أم لا؟ فتعين العام الثاني له كتعين الأول. إذ موجب التعين هو الشك في الإدراك للعام الثاني وهو موجود فيه، فيثبت موجبه.

(وأن الحج أفعال عرفت بأسمائها) كالوقوف والطواف والسعي والرمي، (وصفاتها) ككيفية هذه الأفعال من صفة الوقوف والطواف والسعي والرمي وغيرها (لا بمعيارها) بخلاف الصوم، فإنه عرف بمعياره حتى عرف به، فقيل في جواب السائل ما الصوم؟ هو: عبارة عن الإمساك من المفطرات الثلاث نهارًا مع النية. وأما الصلاة والحج فيعرفان بأسمائهما، فيقال في جواب ما الصلاة؟ هي عبارة عن قيم وركوع وسجود، ولا يقال هي صلاة الظهر أو صلاة العصر أو غيرهما وكذلك في الحج. (وقال الشافعي- رحمه الله- لما عظم أمر الحج)؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} مقام قوله: ومن لم يحج وغيره من الوعيد (استحسنا في الحجر عن التطوع)، فإن عند الشافعي من لم يحج حج الإسلام إذا نوى النفل في الحج لا يقع عن النفل بل يقع عن حجة الإسلام.

فإن قلت: ما وجه الفرق له بين من نوى صوم النفل في شهر رمضان وبين من نوى حج النفل هاهنا، فهناك يلغو نيته ولا يجوز صومه لا عن الفرض ولا عن النفل، وهاهنا يقع عن الفرض ولا يقع عن النفل. قلتك أما إلغاء نية النفل هاهنا، فبسبب ما ذكر في الكتاب هو معنى الحجر عن نية النفل؛ لأنه لم تحمل المشاق وحضر موضع الوقوف بعرفات، ونوى النفل مع أن عليه حج الإسلام في ذمته ولا يعلم حياته إلى السنة الآتية كان سفيهًا؛ لترك الشفقة على نفسه والسفيه يحجر عنده، فلما لغا نية النفل بسبب الحجر بقي مطلق نية الحج، وبمطلق النية يتأدى الفرض بالإجماع. أو نقول: إنما ألغيت نية النفل؛ لأن النفل عبارة عن الزيادة في العبادة ولا يتصور ذلك قبل الأصل، فإذا لغت نية النفل بقي مطلق نية الحج وبه يتأدى الفرض، وهذا لأن بإلغاء نية النفل لا ينعدم أصل نية الحج؛ لان الصفة تنفصل عن الأصل في هذه العبادة. ألا ترى أن بانعدام صفة الصحة لا ينعدم أصل الإحرام، فإن من فسد حجه يمضي في أفعاله كمن لم يفسد حجه. أما الصوم فإن الصفة هناك لا تنفصل عن الأصل. ألا ترى أنه بانعدام صفة الصحة ينعدم أصل الصوم، فلذلك لما بطلت هناك نية النفل وهو الوصف الأصلي بطل أصل الصوم، ولأن نية النفل لما

بطلت في صوم رمضان بسبب أن شهر رمضان لم يشرع فيه غير صومه بقي مطلق نية الصوم من غير تعيين صوم رمضان، وقد ذكرنا أن صوم رمضان لا يتأدى عنده بمطلق نية الصوم، لما أن تعيين النية في أصل الصوم ووصفه شرط عنده، ولأن الصوم لا يتأدى بدون العزيمة، والحج قد يتأدى من غير عزيمة، فإن المغمى عليه يحرم عنه أصحابه فيصير هو محرمًا. وقوله: (ومثل هذا مشروع) أي الحجر في الحج مشروع، ثم أوضح الحجر فيه بقوله: (فإنه صح بإطلاق النية وصح أصله بلا نية)، والرجل يحرم عن أبويه فيصح، وإن لم توجد العزيمة منهما. إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. (ولكنا نقول: الحجر عن هذا يفوت الاختيار، وهو ينافي العبادة) يعني أن الحج عبادة، والعبادة فعل اختياري لأن ما لا اختيار للعبد فيه لا يصلح أن يكون طاعة أو عصيانًا؛ لأن المقصود من الابتلاء تكليف العبد ليجب عليه الفعل الاختياري، أو يجب عليه الانتهاء عن الفعل الاختياري

ليصير مطيعًا إذا أطاع فيثاب عليه، ويصير عاصيًا إذا لم يطع فيعاقب عليهن وهذا إنما يحصل إذا كان للعبد اختيار. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- وفي إثبات الحجر بالطريق الذي قاله انتفاء اختياره، وجعله مجبورًا فيه، وهذا ينافي أداء العبادة، فيعود هذا القول على موضوعه بالنقض. يعني أن الشافعي يسعى بهذا القول إلى تحقيق العبادة على وجه لا يبقى عليه وجوب عبادة حجة الإسلام، فيلزم منه نقض العبادة، فيبقى في عهدة فرض حجة الإسلام. وقوله: (فأما الأفعال فلابد من أن يجري على بدنه) احتراز عن الشرط وهو الإحرام، يعني أن الأفعال وهي؛ الوقوف بعرفة والطواف بالبيت وغيرهما لابد أن يجري تلك الأفعال على بدن المغمى عليه بان أحضر هو بعرفات وطيف به حول البيت بخلاف الإحرام، فإنه يكون محرمًا بإحرام

الغير عنه، لأن الإحرام شرط والشرط قد يتحقق بفعل الغير. وأما المشروط وهو الأفعال فلابد من أن يجري على بدنه، فإذا نوع النفل فقد صرح بأنه لم يحج عن الفرض، فإذا وقع عن الفرض وقع من غير اختياره فلا يقع مجزيًا عنه؛ لأنه لم توجد العبادة. فإن قيل: إذا أغمي عليه، ووقفوه بعرفات وطافوا به حول البيت أجزاه، ولم يوجد منه الاختيار البتة؛ لأنه لا علم له ولا قدرة. قلنا: إنما يجوز منه على أن له فيه اختيارًا لا على أنه فيه مجبور؛ لأن مرافقته أصحابه استعانة منهم أن يعينوه فيما يعجز هو عن تحصيله، وهذا منهم إعانة فصح بدلالة الأمر، فيكون اختيارًا تقديرًا. ألا ترى أن الزكاة عبادة محضة وقد تتأدى بالنائب كالوكيل إذا أدى الزكاة والموكل مغمي عليه، والورثة يؤدون الزكاة بإيصاء المورث صح عنه وهو ميت ويكون فعلهم كفعله، وقوله: "بدلالة الأمر" وهو خروجه إلى سفر الحج مع رفقاء يريدون الحج. وقوله: (لمعنى في المؤدِّي لا في المودَّي) بخلاف الإطلاق في الصوم، فإن فرض الوقت يتعين فيه بدلالة في المؤدَّى باعتبار أنه لا مزاحم له في وقته وفي إطلاق النية إلى حجة الإسلام لا إلى النفل لمعنى في المؤدِّي كما في (نقد البلد)، فإنه إذا كان في البلد نقود مختلفة ينعقد البيع على الأروج

عند الإطلاق لمعنى في المؤدِّي، وهو تيسر إصابتهن إلا إذا عين غيره صريحًا. [الأمر المطلق هل يقتضي الفور أم التراخي] (وأما المطلق عن الوقت) مثل وجوب الزكاة وصدقة الفطر والعشر. (على ما أشرنا إليه) أي قبل هذا بورق أو نحوه بقوله: وقال الكرخي وجماعة من مشايخنا: إن هذا يرجع إلى آخره. (ومن هذا الأصل) أي ومن الخاص.

[باب النهي]

[باب النهي] لأن النهي له صيغة معلومة ومعنى معلوم على الانفراد؛ لأن النهي هو المنع عن الشيء بأبلغ الوجوه كالأمر هو الدعاء إلى الشيء بأبلغ الوجوه على سبيل الاستعلاء قولًان والنهي ضد الأمر فيكون على خلاف هذا. وحكمه:

وجوب الانتهاء وبقاء المنهي عنه على العدم. ويثبت القبح اقتضاء للنهي شرعًا لا لغة كالأمر يقتضي الحسن شرعًا لا لغة؛ لأن الأمر والنهي كل واحد منهما يجيء في الحسن بعينه والقبيح بعينه ومعلوم أن النهي عن الحسن بذاته ليس بحكمة وكذا الأمر بالقبيح ليس بحكمة، والشارع عليم حكيم لا يأمر إلا بالحسن، ولا ينهي إلا عن القبيح، واقتضاء الأمر الحسن والنهي القبح كان من حكمة الشارع لا من اللغة.

ثم هو الحجر لغة لكن الفرق بينهما في الاصطلاح هو أن في الحجر تصرف إنسان على غيره بالمنع على وجه لا يبقى لتصرفه اعتبار أصلًا. كالقاضي إذا حجر الغير عن تصرف البيع والشراء وغيرهما لا ينفذ تصرفه أصلًا. وأما النهي فلا ينفي نفاذ تصرف المنهي عما نهي عنه، فبعد ذلك اختلف العلماء في كيفية نفاذ التصرف بحسب المحال التي وقع فيها النهي. وذكر المصنف- رحمه الله- هذا الباب لبيان ذلك فقال: (النهي المطلق نوعان): أي النهي الذي لم يقيد بأن المنهي عنه قبيح لعينه أو لغيره نوعان: إذ المطلق هو المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا بالإثبات، أو الفعل الذي يتصور فيه النهي ويتحقق نوعان: (نهي عن الأفعال الحسية)، فالأفعال الحسية هي: ما يتوقف وجوده وعرفانه على الحس (كالزنا وشرب الخمر والقتل)، فإنها تتحقق حسًا ممن يعلم الشرع وممن لا يعلم، ولا يتوقف وجودها على الشرع. (والأفعال الشرعية)، هي: ما يتوقف حصوله وعرفانه على الشرع (كالصلاة) وغيرها، فإنها لغة الدعاء ثم زيد عليه أشياء شرعًا، فصارت

صلاة عرف ذلك بالشرع، وكذلك (الصوم) فإنه لغة الإمساك وزيد عليه أشياء شرعًا من اشتراط النية والوقت والطهارة من الحيض والنفاس، وقوله: (وما أشبه ذلك) كالطلاق والعتاق والوكالة والمضاربة. (فالنهي عن الأفعال الحسية دلالة على كونها قبيحة في أنفسها لمعنى في أعيانها بلا خلاف)؛ لأن النهي أضيف إلى الفعل الحسي، والنهي الصادر من الحكيم يقتضي قبحًا ضرورة على ما ذكرنا، ثم لو كان قبيحًا لغيره لكان القبيح ذلك الغير في الحقيقة لا هون فلا يجوز أن يكون ما لم يضف إليه النهي قبيحًا. وما أضيف إليه النهي لا يكون قبيحًا بخلاف الأفعال الشرعية على ما نبين إن شاء الله تعالى. (إلا إذا قام الدليل على خلافه) فحينئذ يقتضي القبح لمعنى في غيره كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وقد علم أن النهي كان لمعنى مجاور للمحل لا لذاتهن وهو استعمال الأذى بدليل سباق الآية وهو قوله

تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} وكذلك قيل: لا يبطل به إحصان حد القذف، ويثبت به إحصان حد الرجم، ويثبت الحل للزوج الأول بهذا الوطء. علم بهذه الأحكام أن هذا الوطء مشروع في نفسه ولكن القبح لمعنى في غيره. وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} وقوله: {فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} فالنهي في الأول باعتبار السفه، وفي الثاني باعتبار أن النشوز من جانب الزوج. والدليل عليه إطلاق قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} وكذلك (نهي النبي عليه السلام عن المشي في نعل واحد) لم يكن لقبح في عينه ولكن كان ذلك تعليمًا للأدب. ونظيره في العرف ما إذا قال الطبيب للمريض: لا تأكل اللحم، وما لو

قيل: لا تأكل هذا اللحم، وقد عرف أنه مسموم، فحينئذ يكون الأكل قبيحًا لغيره. (فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول) أي يجب إثبات محتمل النهي عند قيام الدليل على أن المراد به محتمل النهي لا موجبه وكذلك عند الشافعي. وأما في حق إثبات موجب النهي لا يحتاج إلى إقامة الدليل. بيان هذا أن النهي عن الأفعال الشرعية إذا صدر من الحكيم يثبت القبح في المنهي عنه لا محالة بطريق الاقتضاء بلا خلاف. لكن عندنا يقتضي القبح لمعنى في غير المنهي عنه على وجه يبقى المنهي عنه مشروعًا إلا إذا قام الدليل على كون المنهي عنه قبيحًا لعينه كما في قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} وكبيع الملاقيح والمضامين ففي هذه المواضع المنهي عنه قبيح لعينه فلم يبق مشروعًا، فكانت صورة النهي في هذه

المواضع ومثلها مجازًا عن النفي، فكانت إخبارًا عن التحريم لكن هذا عندنا محتمل النهي لا موجبه مطلقًا، وعند الشافعي يثبت القبح بمطلق النهي على وجه لا يبقى المنهي عنه مشروعًا فيكون قبيحًا لعينه وهو موجب النهي عنده. إلا إذا قام الدليل على كونه قبيحًا لغيره كالبيع وقت النداء. فالحاصل أن ما هو موجب النهي المطلق عندنا فهو محتمل النهي عند الشافعي، وما هو موجب النهي عنده فهو محتمل النهي عندنا وهو معنى قوله: فيجب إثبات ما احتمله النهي وراء حقيقته على اختلاف الأصول والاستثناء في قوله: (إلا أن يقوم الدليل) راجع إلى المذهبين. (فمن قال بأنه يكون مشروعًا في الأصل قبيحًا في الوصف يجعله مجازًا في الأصل حقيقة في الوصف). يعني الأصل أن النهي إذا أضيف إلى شيء أي إذا تعدى فعل النهي إليه يكون ذلك الشيء منهيًا عنه وقبيحًا، فمن جعل ما لم يضف إليه النهي منهيًا عنه وقبيحًا جعله مجازًا، وفيما نحن فيه أضاف النهي إلى الصوم فينبغي أن يكون هو منهيًا عنه وقبيحًا لإضافة النهي إليه، ولم يضف النهي إلى ما هو وصف الصوم على ما قال الخصم، فلو كان القبح ثابتًا في الوصف دون الأصل يكون الوصف حقيقة في كونه منهيًا عنه مع أنه لم يضف إليه النهي، والمنهي عنه وهو الصوم لا يكون قبيحًا مع أن

النهي أضيف إليه ولا يكون (هذا إلا عكس الحقيقة وقلب الأصل)؛ لأن الأصل أن يكون الأصل أصلًا والوصف تبعًا، وفيما قالوا: جعل الأصل تبعًا والتبع أصلًا وهو قلب الأصل. ثم العمل بحقيقة الأمر واجب حتى يكون حسنًا لمعنى في عينه إلا بدليل أي حينئذ يكون الأمر حسنًا لمعنى في غيره كالأمر بالوضوء، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. (وهذا لأن المطلق في كل شيء يتناول الكامل منه) أي الكامل في مسمى ذلك الشيء المطلق لا الزائد على ذلك المسمى. كالرجل يتناول ذكرًا من بني آدم جاوز حد البلوغ هذا مسمى مطلق الرجل، ولكن لا يحتاج إلى أن يكون عالمًا مجتهدًا أو حافظًا (للجامعين) و (الزيادات) لأن ذلك غير داخل في مسمى الرجل.

{شَرَعَ لَكُمْ} أي بين المسلك وفتح الطريق إلى مرضاته. (فصار النهي عن هذه التصرفات نسخًا) أي بيانًا لانتهاء مدة المشروعية هذا هو النسخ فصار النهي عن هذه التصرفات نسخًا (بمقتضاه) وهو التحريم السابق. إنما وصف التحريم بالسبق؛ لأن قبل ورود النهي لابد للناهي

من إرادة التحريم قبل أن يخاطب المكلف بالنهي، حتى يتحقق النهي بمقتضاه وهو قبح المنهي عنه. يعني إنما صار النهي نسخًا بما اقتضاه النهي من القبح والحرمة، وهذا لأن النهي عن المشروع. وهو مشروع لا يصح، فيثبت القبح والحرمة سابقين على النهي بزمان ليصح النهي. وقوله: (ولهذا لم تثبت حرمة المصاهرة) هذا إيضاح معنى الجمع بين المعصية والمشروعية، وحرمة المصاهرة عبارة عن حرمة الموطوءة على آباء الواطئ وأبنائه، وحرمة أمهات الموطوءة وبناتها على الواطئ.

(ولا يلزم إذا جامع المحرم أو أحرم مجامعًا) يعني إذا أحرم في حالة الجماع يصير محرمًا مع أن الإحرام في حالة الجماع منهي عنه، فورد هذا على ما ذكر نقضًا وهذا ظاهر. وأما إذا جامع المحرم فيرد عليه أيضًا، وهو أن الجماع مفسد للإحرام ومع ذلك بقي الإحرام بعد الجماع مفيدًا للأحكام كالإحرام الصحيح، حتى لو ارتكب شيئًا من محظورات الإحرام من قتل الصيد وحلق الرأس وقلم الأظفار كان موجبًا للدم، فاجتمع الفساد والمشروعية، فجاز أن يجتمعا فيما ذكر خصومك. والجواب للشافعي عن هذا: أن الإحرام منهي حالة الجماع لا لعين الإحرام بل للجماع، والجماع غير الإحرام لا محالة، فلم يمنع انعقاد الإحرام وصحته (لكنه محظور)، فصار مفسدًا للإحرام بعد ما صح وانعقد. وقوله: (لكنه محظور) جواب إشكال وهو أن يقال: لما كان معنى الجماع غير الإحرام ينبغي ألا يفسد إحرامه فاستدرك، وقال: (والجماع غيره ولكنه محظورة) فلذلك (صار مفسدًا) للإحرام يعني أن الفساد نشأ من هذا وهو

المحظورية، وهذا أيضًا يصير جوابًا عن النقض الآخر. يعني فسد الإحرام بالجماع الواقع بعد الإحرام، ولكن الإحرام لازم شرعًا لا يحتمل الخروج باختيار العبد ففسد وبقي مشروعًا للزومه. (ولم ينقطع بجنايته) وهي الجماع؛ لأن بقاءه مع ارتكاب هذه الجناية ضرب عقوبة، فلذلك لم ينقطع بجنايته لأن انقطاع الإحرام بجنايته نوع نعمة فلا يصلح أن يكون ذلك أثر الجناية، (وكلامنا فيما ينعدم شرعًا لا فيما لا ينقطع بجناية الجاني). يعني أن النزاع فيما إذا ورد النهي ابتدًاء عما هو مشروع أيبقى هو مشروعًا شرعًا أم ينعدم شرعًا؟ ولا نزاع فيما إذا جني على المشروع هل يبقى بعد جنايته للزومه أم ينقطع بجنايته؟ (ولا يلزم الطلاق في الحيض). يعني هو منهي عنه مع كونه مشروعًا (لمعنى في غيره) أي لمعنى في غير الطلاق (وهو الضرر على المرأة بتطويل العدة) يعني أن الطلاق في حالة الحيض إضرار بالمرأة؛ لأن هذه الحيضة لا تحتسب من العدة فتطول العدة عليها، (أو بتلبيس أمر العدة عليها) فإنه إذا طلقها في طهر جامعها فيه إضرار بها بتلبيس أمر العدة عليها؛ لأنها لا تدري

أن الوطء وقع معلقًا فتعتد بالحبل أو غير معلق فتعتد بالحيض، وهذا على مذهبه أظهر؛ لأن الحامل عنده تحيض فازداد الاشتباه، فكان قوله: (بتطويل العدة) متعلقًا بقوله: (ولا يلزم الطلاق في الحيض) وقوله: (أو بتلبيس أمر العدة) متعلقًا بقوله: (أو في طهر الجماع). (ولنا ما احتج محمد-رحمه الله- في كتاب الطلاق أن صيام العيد وأيام التشريق منهي عنه، والنهي لا يقع على ما لا يتكون). ذكر هذا التعليل على هذا الوجه في طلاق (المبسوط) وفي باب الرد على من قال: إذا طلق لغير السنة لا يقع، فقال: وهذه المسألة مختلف بيننا وبين الشيعة على فصلين: أحدهما: أنه إذا طلقها في حالة الحيض أو في طهر قد جامعها فيه يقع الطلاق عند جمهور الفقهاء، وعندهم لا يقع.

والثاني: إذا طلقها ثلاثًا جملة عندنا يقع ثلاثًا، والزيدية من الشيعة يقولون: تقع واحدة، والإمامية يقولون: لا يقع شيء، وحجتنا في ذلك حرفان: أحدهما: أن النهي دليل ظاهر على تحقق المنهي عنه؛ لأن النهي عما لا يتحقق لا يكون. والثاني: النهي متى كان لمعنى في غير المنهي عنه لا يعدم المنهي عنه كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة. (وبيانه أن النهي يراد به عدم الفعل مضافًا إلى اختيار العباد)

إلى آخره. بيان هذا أن الله تعالى جعل الدنيا دار ابتلاء وجعل الآخرة دار جزاء، وخلق الجنة والنار، وخلق للنار فريقًا، وخلق للجنة فريقًا، وقال: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقد كان علم بكل ما يوجد من العباد، فأمر العباد بأفعال ونهاهم عن أفعال تحقيقًا لما أخبر وما علم منهم ليجب عليهم الائتمار بما أمروا، ويجب عليهم الانتهاء عما نهوا عنه. حتى أن من أطاع استحق الجنة بفضله، ومن عصى استحق النار بعدله، وإنما تتحقق الطاعة والعصيان إذا كانت أفعالهم اختيارية؛ لأن العقاب على ما لا مدخل للعبد فيه لا يجوز، فإذا امتنعوا عن تحصيل ما نهوا عنه صاروا مطيعين، وذلك إنما يكون إذا كان المنهي عنه مما يتصور أن يوجد، فإذا امتنعوا بقي الفعل على العدم بناء على امتناعه، ثم إن كان المنهي عنه حسيًا يتصور وجوده حسًا، وإن كان شرعيًا يتصور وجوده شرعًا. ليتصور الامتناع عن العبد ليبقى المنهي عنه على العدم بناء على امتناعه، وهذا هو حقيقة موجب النهي. وأما النسخ فبيان أن المنسوخ لم يبق مشروعًا ولا يتصور وجوده شرعًا

كالتوجه إلى بيت المقدس. وحل الأخوات، فإنه لم يبق مشروعًا البتة فصار باطلًا، ولا يمكن وجوده شرعًا، فامتناع الرجل عن ذلك بناء على عدم المشروعية ولا يتعلق ذلك باختيار العبد فكانا بمنزلة النقيضين. إذ الأصل في أحدهما فرع في الآخر، والفرع في أحدهما أصل في الآخر، فإن عدم فعل العبد لعدم شرعيته في النسخ أصل وامتناع العبد فرع عليه، وامتناع العبد في النهي أصل وعدم الفعل فرع عليه، فلا يصح الجمع بينهما بحال. فالنظر إلى حكم النهي يوجب صحة ما ذكرنا وفساد ما ذهب إليه الخصم، وكذلك النظر إلى مقتضى النهي وهو القبح. بيانه أن النهي الوارد من الحكيم يقتضي قبح المنهي عنه لصحة النهي، فكان ثبوت القبح في المنهي عنه شرطا لصحة النهي ثابتا بطريق الاقتضاء، فكان ثابتا بالضرورة فيجب إثباته على قدر ما ترتفع به الضرورة، وذلك فيما قلنا: وهو أن يجعل القبح وصفا للمشروع فلا يجوز إثبات القبح وهو المقتضى- بفتح الضاد- على وجه يبطل به المقتضي- بكسر الضاد- وهو النهي، وما قاله الخصم يؤدي إلى هذا؛ لأنه أثبت القبح في المنهي عنه لعينه، وفيه إبطال النهي وهو المقتضي، وفي إبطال

المقتضي إبطال المقتضى فكان مثبتًا القبح على وجه يبطل به القبح. فثبت بهذا الذي ذكرنا أنه هو القائل بقلب الأصول وعكس المعقول لا نحن، وفيما ذكرنا رعاية منازل المشروعات؛ لأن الدليل دل على إثبات القبح في النهي على ما ذكرنا من ثبوته ضرورة، ودل الدليل أيضا على إثبات مشروعية المنهي عنه على ما ذكرنا. وفيما ذكر إهدار بعض الأدلة لما أن منازل المشروعات متفاوتة. صحيحة وفاسدة ومكروهة، وفيما ذكر إبطال هذه الرعاية بخلاف الأفعال الحسية حيث يثبت القبح فيها لأعيانها؛ لأنها متصورة الوجود بل متحققة الوجود مع كمال القبح فيها وثبوت القدرة للعبد على تحصيلها بخلاف الأفعال الشرعية. ومثال الفرق الواضح بين النهي عن الأفعال الحسية وبين النهي عن الأفعال الشرعية، ما ذكره الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي-رحمه الله- بقوله: وبيان هذا في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فإنه كان تحريمًا لفعل القربان ولم يكن تحريمًا لعين الشجرة، وكما لا يتصور تحريم قربان

الشجرة بدون الشجرة، لا يتحقق تحريم أداء الصوم في وقت ليس فيه صوم مشروع، وبهذا الحرف يتبين الفرق بين الأفعال الحسية والأفعال الشرعية، فإنه ليس من ضرورة حرمة الأفعال الحسية انعدام التكون. فقلنا: تأثير التحريم في إخراجها من أن تكون مشروعة أصلًا وإلحاقها بما هو قبيح لعينه، ومن ضرورة تحريم الأفعال الشرعية بقاء أصلها مشروعًا إذ لا تكون لها إذا لم تبق مشروعة، وبدون التكون لا يتكون تحريم فعل الأداء، وكذلك في العبادات فكان في إبقاء المشروع مشروعًا مراعاة حقيقة النهي لا أن يكون تركًا للحقيقة فإن قيل: عند النهي كان الصوم متصورًا شرعًا فكفى ذلك التصور لصحة النهي فلا حاجة إلى بقائه مشروعًا بعد ذلك. قلنا: النهي إنما كان لإعدام المنهي عنه من قبل المنهي في المستقبل كالأمر للإيجاد في المستقبل فلا بد أن يتصور وجوده شرعًا في المستقبل ليتحقق الانتهاء بالنهي كما في الأمر، ولا يكون ذلك إلا ببقائه مشروعًا في المستقبل حتى يكون المنهي عنه موجودًا في المستقبل، ولا يكون ذلك إلا بكونه مشروعًا في المستقبل.

ثم معنى إسناد الإرادة إلى عدم الفعل في قوله: (إن النهي يراد به عدم الفعل) إلى آخره. قال الإمام العلامة مولانا شمس الكردري-رحمه الله- المراد من النهي المطلق والأمر المطلق وجوب الانتهاء ووجوب الائتمار في حق الكل، فأما حصول المأمور به في حق من علم الله تعالى أنه يأتمر بأوامره مراد الله تعالى وفي حق من علم أنه لا يأتمر بأوامره حصول المأمور به ليس مراد الله تعالى، والامتناع عن المنهي عنه مراد الله تعالى في حق من علم أنه يمتنع عن تحصيل المنهي عنه. وأما في حق من علم أنه لا يمتنع عن تحصيل المنهي عنه فالامتناع عنه غير مراد. وفيما ذكرنا تحقيق أخباره من نحو قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وهذه الآية تدل على أن المعاصي بإرادة الله وتحقيق علمه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة بناء على أن المعاصي والطاعات وجميع الحادثات بإرادة الله. ولما كان كذلك كان قوله في الكتاب: (إن النهي يراد به عدم الفعل) محتاجًا إلى التأويل، وتأويله ما ذكرنا من أن ذلك مصروف إلى من علم الله

منه الامتناع عن مباشرة المنهي عنه، وأما في حق الكل فالمراد من النهي إيجاب الانتهاء لا حصول الانتهاء. وقوله: (فيعتمد تصوره) أي فيقتضيه. (بين أن يكف عنه) أي يمتنع عنه. (ليصير امتناعه) أي امتناع العبد. (على عدمه) أي على عدم كونه مشروعًا. (وفي النهي يكون عدمه أي عدم الفعل بناء على امتناعه) أي امتناع العبد (وهما في طرفي نقيض)؛ لأن الأصل في أحدهما فرع في الآخر على ما ذكره، (فلا يصح الجمع بحال) أي لا يصح الجمع بين النهي والنسخ أي لا يصح أن يكون النهي نسخًا فيه. رد لقول الشافعي؛ لأنه يلزم على قوله أن يكون النهي نسخًا. (والحكم الأصلي في النهي ما ذكرنا) هو قوله: إن النهي يراد به عدم الفعل مضافًا إلى اختيار العباد) إلى آخره (مقتضى به) أي القبح ثبت بطريق الاقتضاء بالنهي؛ لأن قبح المنهي عنه إنما نشأ من ضرورة حكمة الناهي لما أن

الناهي إذا كان حكيمًا لا ينهى عن شيء إلا إذا كان في ذلك الشيء قبح، فوجب إثبات القبح على وجه يبقى النهي ببقائه وذلك إنما يكون إذا كان القبح في وصف المشروع لا في عينه. إذ لو كان في عينه لا يبقى وجود المنهي عنه؛ لأن وجوده شرعيته، فحينئذ لا يبقى النهي نهيًا بل يكون نسخًا، وهو معنى قوله: (فلا يجوز تحقيقه على وجه يبطل به ما أوجبه). وقوله: تحقيقًا لحكمه (أي لحكم النهي وهو وجوب الانتهاء، فكان تابعًا أي فكان القبح تابعًا، فلا يجوز أي تحقيق القبح على وجه يبطل بذلك تحقيق ما أوجب النهي واقتضاه. (فيصير المقتضى دليلًا على الفساد بعد أن كان دليلًا على الصحة) أي فيصير حينئذ أي حين تحقيق القبح على وجه يبطل به النهي دليلًا على فساد النهي بعد أن كان دليلًا على صحة النهي؛ لأنه لما كان مقتضيًا للنهي على الوجه الذي قررنا كان دليلًا على صحة النهي، ثم لو قلنا بأن القبح في عين المنهي عنه كان النهي نسخًا ولم يبق النهي نهيًا، فكان تحقيق القبح على ذلك الوجه دليلًا على فساد النهي وهو المقتضي. (بل يجب العمل بالأصل في موضعه) أي بل يجب العمل بأصل النهي في موضع النهي، وهو أن يكون عدم الفعل بناء على امتناع العبد لا بناء على

عدم مشروعيته عن المنهي عنه. (فتنعدم لما قلنا) أي في طرف الشافعي. (يحتمل هذا الوصف) أي وصف الفساد. (والمشروع يحتمل الفساد بالنهي كالإحرام الفاسد)، فإن قلت: هذا النظير إنما يستقيم لما ادعاه المصنف أن لو لم يكن الشافعي أجاب عن هذا، وقد أجاب فيما تقدم بقوله: (والإحرام لازم شرعًا لا يحتمل الخروج باختيار العباد) إلى آخره وكذلك قاس النهي على الأمر بأن كل واحد منهما حقيقة فيما اقتضاه، ثم مطلق الأمر محمول على أن المأمور به حسن لمعنى في عينه فيجب أن يكون ضده النهي محمولًا على أن المنهي عنه قبيح لمعنى في عينه، فلا بد من وجه الدفع لجوابه ووجه الفرق لجمعه، حتى يسلم لنا ما تمسكنا به. قلت: أما الدفع لجوابه فهو أن يقول: إن الذي ذكره من الجواب يرجع

إلى تحقيق ما قلنا وهو: أن فساد الإحرام بالجماع مع مشروعية أصله حكم ثابت شرعًا، وللشرع ولاية إعدام أصل الإحرام، فلو كان من ضرورة صفة الفساد انعدام الأصل في المشروعات لكان الحكم بفساده شرعًا معدمًا لأصله. ألا ترى أن بسبب الردة ينعدم أصل الإحرام فعلم بهذا أن أصل الإحرام قابل للبطلان باختيار العباد، فلو كان من ضرورة قبح صفة المشروع فساد أصله لما بقي هنا الإحرام مع الفساد، وقد بقي أصله مشروعًا مع فساد وصفه. علم بهذا أن ليس من ضرورة الفساد في وصف المشروعات، الفساد في أصلها مع احتمال فساد الأصل. وأما الفرق لجمعه فظاهر، وهو أن من جعل الحسن في عين المأمور به لا يلزم بطلان الأمر، ومن جعل القبح في عين المنهي عنه يلزم بطلان النهي على ما ذكرناه. وهذا لأن مطلق الأمر يوجب حسن المأمور به لعينه؛ لأنه طلب الإيجاد بأبلغ الجهات، فكان في إثبات صفة الحسن بمقتضى الأمر على هذا الوجه تحقيق المأمور به. فأما النهي فطلب الإعدام بأبلغ الجهات، ولكن مع بقاء خيار العبد فيه

ليكون مبتلًى كما في الأمر، وتحقيق بقاء الخيار إنما يكون إذا كان انعدام الفعل بناءً على امتناع العبد عنه بالاختيار حتى يثاب عليه لا أن يكون انعدام الفعل بناءً على عدم المشروعية كما في النسخ. إلى هذا كله أشار الإمام شمس الأئمة السرخسي-رحمه الله-. (والطلاق الحرام) بأن طلقها في حالة الحيض حتى انتقص به عدد الطلاق ولزمت الرجعة، فترتب حكم الطلاق عليه دليل على شرعيته، ولزوم المراجعة عليه دليل على فساده رعاية لمنازل المشروعات، فإن الأحكام المشروعة تتفاوت شرعيتها بحسب كمال أسبابها ونقصانها، ولو لم نقل بالفساد لا نكون قائلين بمنازل المشروعات أجمع من صحيح وفاسد

ومكروه ومحافظةً لحدودها وهي حد النهي والنسخ والمقتضي والمقتضى، وتلك المحافظة إنما تكون فيما قلنا لا فيما قاله الشافعي؛ لأن فيما قاله لا يبقى النهي نهيًا ولا المقتضي والمقتضى على حقيقتهما. (لأن البيع بالخمر منهي عنه بوصفه وهو الثمن)؛ لأن الأصل في وجود البيع وصحته هو المبيع. ألا ترى أن المبيع لو لم يكن مقدور التسليم لا يجوز البيع بخلاف الثمن، فإن القدرة على تسليم الثمن ليست بشرط لصحة البيع، فإن الفقير المعدم إذا اشترى أشياء كثيرة نفيسة بأثمان غالية صح البيع، ولو كان الثمن أصلًا فيه لما صح البيع كما في جانب المبيع. وكذلك في حق صحة الإقالة لا يشترط بقاء الثمن ويشترط بقاء المبيع،

ويجوز الاستبدال بالثمن دون المبيع، وهذا كله آية لأصالة المبيع وعدم أصالة الثمن في البيع، ولكن مع ذلك لا يصح البيع بدون ذكر الثمن المعلوم، فكان جاريا مجرى الأوصاف، فلذلك كان الفساد المتمكن في الثمن مفسدًا للبيع كما في بيع الثوب أو العبد مثلا بالخمر بخلاف بيع الخمر بالدراهم أو الدنانير، فإنه باطل لا فاسد لتمكن الفساد في المبيع الذي هو الأصل. (لأن الخمر مال)؛ لأنها داخلة تحت حد المال؛ لأن المال هو غير الآدمي خلق لمصلحة الآدمي ويجري فيه الشح والضنة وهذا كذلك (وليست متقومة)؛ لأن المتقوم عبارة عن شيء يضمن بالاستهلاك إما بمثله أو بقيمته. وقيل: هو عبارة عن شيء واجب الإبقاء إلى وقت الحاجة بعينه أو بمثله

أو بقيمته وهي ليست كذلك خصوصًا في حق المسلم، فإنه لو أتلف خمر المسلم لا يجب الضمان (ولا خلل في ركن العقد) وهو الإيجاب والقبول، (ولا في محله) وهو المبيع؛ لأنه مال. (وكذلك إذا اشترى خمرًا بعبد؛ لأن كل واحد منهما ثمن لصاحبه)؛ لأن هذا بيع مقايضة فلا يتعين واحد منهما للثمنية، ولكن لم يكن بد في البيع من المبيع والثمن، فلذلك كل واحد منهما مبيع وثمن؛ لأن الثمنية إنما تكون بالوضع كالذهب والفضة، أو بوصف ما يجب في الذمة من المكيلات والموزونات من غير الدراهم عند دخول الباء عليه لأنه حينئذ يثبت في الذمة ولا كذلك العبد؛ لأنه لا يصلح أن يكون ثمنًا، وإن دخل الباء عليه فلم يتعين الخمر لكونه مبيعًا، فلذلك فسد البيع ولم يبطل.

(بخلاف الميتة) والدم، فإن كلًا منهما ليس بمال، وإن كانت طائفة يتمولونه لما أن تمولهم ليس بمعتمد على الدين السماوي، فلا يكون معتبرا، أما الخمر والخنزير كان مالًا في الدين السماوي فاعتبرت ديانتهم لذلك في حق دفع إلزام عدم الضمان. (لأنه ليس بمال)؛ لأن جلد الميتة جزء الميتة، والميتة ليست بمال، والجزء لا يخالف الكل. (غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العوض). يقال: بيع رابح، وبيع خاسر. علم بهذا أن الفضل وصف للبيع كالنقصان. (وكذلك الشرط الفاسد) أي المفسد (في البيع مثل الربا)؛ لأن الربا عبارة عن: الفضل الخالي عن العوض المستحق بعقد البيع وهذا كذلك، فكان الشرط المفسد فيه مثل الربا.

(يعدم الوصف من شهادته)، وهو الأداء حتى يخرج القاذف من أن يكون أهل اللعان؛ لأن اللعان أداء وأداؤه فاسد بعد هذا النهي، ويبقى الأصل حتى ينعقد النكاح بشهادته. (صوم يوم العيد حسن مشروع بأصله) إلى أن قال: (بل هو طاعة انضم إليه وصف هو معصية) لا يعني بقوله: (انضم إليه وصف) صفة زائدة على وجود الصوم؛ لأن العرض لا يقوم بالعرض وإنما عنى به أن للصوم في هذا اليوم جهة في الإعراض، فصار قبيحًا من حيث إنه إعراض لا من حيث إنه صوم، فكان صوم يوم العيد مشروعًا بأصله لمصادفته وقت الصوم؛ لأن يوم العيد يوم كسائر الأيام، فكان مشروعًا في نفسه، ولكن هو متضمن لرد الضيافة باعتبار أن هذا اليوم يوم أكل وشرب وبعال وهذا المعنى باعتبار صفة اليوم، وهو أنه يوم عيد فيثبت القبح في الصفة دون الأصل. فإن قيل: لم يصادف هذا الصوم وقته؛ لأنه تعين هذا اليوم للأكل

والشرب بالحديث فيخرج عن وقتية الصوم كما خرج الليل عن وقتيته لتعينه للأكل والشرب لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ} وقوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وكُلُوا واشْرَبُوا} قلنا: نجمع بين ما ذكرت وبين ما تمسك محمد بن الحسن-رحمه الله- بحديث النهي عن صوم يوم العيد فقال: أفينهانا عما لا يتكون أو عما يتكون؟ فنقول: على قضية ما ذكرت ينبغي ألا يصح الصوم ولا النذر لتعينه للأكل والشرب، وعلى موجب ما ذكر محمد بن الحسن-رحمه الله- من النكتة ينبغي أن يصح، والأصل في المتعارضين الجمع، فجمعنا.

وقلنا: لا يجوز الصوم ابتدًاء عملًا بما ذكرت ويصح النذر بما ذكر محمد-رحمه الله - من النكتة، ولئن صام صار صومه صومًا شرعيًا، وكان الصوم مستحق الفطر، ولا يضمن بالشروع عملًا بما ذكرت. وقيل: إنما افترق هذان الحكمان من قبل أن الصوم إعراض منه عن الضيافة فكان هو مطالبًا بالكف عنه شرعًا لا بإتمامه، فلا يكون الإفطار جناية منه على حق الشرع، ولا يبقى في عهدته حتى يحتاج إلى القضاء. فأما بالنذر فلا يصير مرتكبًا للحرام، فيصح نذره ويؤمر بالخروج عنه بصوم يوم آخر، فبه يتم التحرز. عن ارتكاب الحرام، ولكن لو صام فيه خرج عن موجب نذره؛ لأنه التزم المشروع في الوقت ويتيقن بأنه أدى المشروع في الوقت إذا صام، فيسقط عنه الواجب وإن كان الأداء فاسدًا منه. كمن نذر أن يعتق عبدًا بعينه فعمي ذلك العبد أو كان أعمى يتأدى المنذور بإعتاقه، وإن كان لا يتأدى بإعتاقه شيء من الواجبات، لما أن العبد مستهلك باعتبار وصفه، قائم باعتبار أصله، وكذلك الصوم في هذا اليوم مشروع باعتبار أصله، فاسد الأداء باعتبار وصفه، ولهذا لا يتأدى واجب آخر بصوم هذا اليوم؛ لأن ذلك وجب في ذمته كاملًا، وبصفة الفساد والحرمة في الأداء ينعدم الكمال ضرورة.

(ألا ترى أن الصوم يقوم بالوقت) أي يوجد به كما نقول: قيام العرض أي وجوده به، وهذا إيضاح كونه طاعة (ولا فساد فيه)؛ لأنه يوم كسائر الأيام من طلوع الشمس وغروبها. وأما القبح فباعتبار شيء آخر وهو كونه متضمنًا للإعراض عن ضيافة الله تعالى. (والنهي يتعلق بوصفه وهو أنه يوم عيد) وإنما قال: إن قوله: (يوم عيد) صفة لليوم؛ لأن الصفة هي الاسم الدال على بعض أحوال الذات، فلليوم أوصاف من كونه حارًا وباردًا وأول الشهر وعاشره ويوم عيد، أو لأن الصفة هي المعنى الذي يقع به التفرقة بين المشتركين وهذا كذلك؛ لأن بكونه يوم عيد يقع التفرقة بين هذا اليوم وبين سائر الأيام. (والمتناول من جنس الشهوات بأصله طيب بوصفه)؛ لأن بإراقة الدم تزول المعصية بأول قطرة منه كما جاء في الحديث فبقى اللحم طيب

الوصف، أو لأنه داخل تحت قوله تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (فصار تركه طاعة بأصله) من حيث إن الصوم يقوم باليوم ولا فساد فيه من حيث إنه يوم كسائر الأيام. (معصية بوصفه) وهو لزوم رد ضيافة الله تعالى باعتبار أنه يوم عيد إنما وصف المعصية متصل بذاته فعلًا؛ لأن رد الضيافة إنما ينشأ من فعل الصوم. (لا باسمه ذكرًا) أي لا تتصل المعصية به وقت نذره به بسبب نذره، فلما كان نذره خاليًا عن المعصية صح نذره؛ لأنه نذر بالطاعة نظرًا إلى أن الصوم طاعة.

(وهو منسوب إلى الشيطان) وذلك في حديث الصنابحي- رضي الله عنه- أن النبي عليه السلام نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وقال: (إنها تطلع بين قرني الشيطان، وإن الشيطان يزينها في عين من يعبدها حتى يسجدوا لها، فإذا ارتفعت فارقها، وإذا كان عند قيام الظهيرة قارنها، وإذا مالت فارقها، وإذا دنت للمغيب قارنها، وإذا غربت فارقها، فلا تصلوا في هذه الأوقات) كذا في (المبسوط).

قرن الشيء قوته، أنا مقرن لهذا الأمر أي مطيق له وقوة الشيطان في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجدوا لها فيها، والتثنية للمبالغة، ولا يقال: لما كان تسويل الشيطان في هذه الأوقات لعبدة الشمس كان ينبغي أن يباح الصلاة في هذه الأوقات بل أن يستحب رغمًا للشيطان وردًا لتزيينه؛ لأنا نقول: النسبة إلى الشيطان كافية في إيراث الكراهة كما في ظرف المكان في كراهة الوقوف في بعض المواضع من بطن عرنة ووادي محسر لنسبتهما إلى الشيطان فكذلك في ظرف الزمان في

بعض الأوقات، وهذا لأن في بعض الطاعات لزوم رغم الشيطان، ولكن في بعضها ورد الحديث بالنهي عن الطاعة في ذلك الزمان أو المكان، فعلينا الانقياد أو التسليم غلي موجب ما ورد به الحديث. (وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة). وقوله: وهو سببها كأنه جواب إشكال يرد على قوله "وهو ظرفها لا معيارها"؛ بأن يقال: لما كان الفساد وصف للصلاة من حيث الوقت، جب ألا تنتقص الصلاة بذلك كالصلاة في الأرض المغصوبة حيث يتأدى فيها الكامل وإن ورد النهي عنها أيضًا، لما أن ذلك ظرف مكان وهذا ظرف زمان فيستويان في الظرفية فيجب أن يستويا في عدم إيراث النقصان. فأجاب عنه وقال: نعم كذلك، إلا أن الوقت سبب للصلاة وقد اتصف السبب بالنقصان فظهر ذلك في المسبب، وهو الصلاة إذ الحكم يثبت على حسب ثبوت السبب، فلذلك لا يتأدى به الكامل بخلاف ظرف المكان، فإنه لا سببية فيه، فلم يورث النقصان فتأدى به بالكامل. وقوله: لا فاسدة "نتيجة لقوله: لا معيارها" يعني لما لم يكن الوقت معيارًا للصلاة كان الفساد المتمكن في الوقت اقل اتصالًا بالصلاة بالنسبة إلى الصوم، فإن الوقت في الصلاة معيار له، والمعيار مستغرق لجميع ما يودي فيه، فكان القبح الثابت في المعيار أكثر اتصالًا بالمؤدي، فكثر تأثيره في

الفساد، فلذلك فلا يضمن في الصوم، ولأن الوقت داخل في ماهية الصوم، لأن الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهارًا مع النية، فكان القبح المتمكن في الوقت متمكنًا في الصوم، فأزداد أثر القبح في الصوم فأورث الفساد، فبهذين المعنيين أعني- كون الوقت معيارًا للصوم وكونه داخلًا في ماهية الصوم- صار الصوم كأنه فسد من أصله، فلم يضمن بالشروع. وأما الوقت في الصلاة فغير داخل في ماهيتها فلم يكن القبح المتمكن في الوقت متمكنًا في الصلاة بصفة الكمال، فلم يوجب الفساد كالقبح الثابت في الأرض المغصوبة، إلا أن الوقت سبب الصلاة وهو ناقص في الأوقات المكروهة، فيظهر النقصان في المسبب. أما الأرض فليست بسبب ولا معيار فلم يورث النقصان. فحصل من هذا كله أن المشرع الذي يتصل به القبح من الصوم والصلاة على ثلاثة أوجه: فاتصال كامل ووسط وناقص، فبحسب ذلك تثبت الأحكام، والكمال في الصوم يوم العيد، فذلك فلم يضمن بالشروع ولم يتأد به الكامل، والوسط وهو الصلاة في الأوقات المكروهة. إذ اتصال القبح بها اقل بالنسبة إلى الصوم وأكثر بالنسبة إلى الصلاة في الأرض المغصوبة، فلذلك لا يتأدى بها الكامل وتضمن بالشروع. وأما الصلاة في الأرض المغصوبة فاتصال القبح بها أقل من اتصال القبح بالأولين، ولذلك وجب فيها مجرد الكراهة فلم يورث الفساد والنقصان؛

لأن القبح فيها عن طريق المجاورة لا على طريق الاتصال في الحقيقة؛ لأنه ليس للأرض اتصال بالصلاة من حيث السببية ولا من حيث المعيارية، ثم كون الوقت سببًا وهو ناقص في حق صلاة العصر ظاهر. وأما في حق مطلق الصلاة كالتطوع وغيره فإن سبب الصلاة هو البقاء وترادف نعم الله تعالى على المكلف على هذا الوقت. هكذا ذكره صاحب «ميزان الأصول» علاء الدين أو بكر محمد بن أحمد السمرقندي- رحمه الله- فأقيم الوقت مقامه تيسيرًا والبقاء موجود في حق المتطوع فكان السبب موجودًا. أو نقول: لما كان الوقت سببًا لجنس الصلوات وهو الفرائض ألحق التطوع بها؛ فجعل سببًا في حق التطوع أيضًا لما أن التطوع يجب الشروع والشروع فعل العبد فكان فعل العبد إيجابًا له، وإيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، والوقت سبب فيما أوجب الله تعالى فكذلك فيما أوجب العبد؛ لأنه لو شرع فريضة الوقت كان هذا الوقت سببًا لها، فكذا إذا شرع التطوع في هذا الوقت كان هذا الوقت سببًا له. والدليل على أن الوقت عند الشروع سببًا لصلاة التطوع، أن من شرع صلاة التطوع في وقت مكروه فأفسدها فقضاها في وقت آخر مكروه يجوز.

كذا في نوادر صلاة «المبسوط» فعلل وقال: لأنه لو أداها حين افتتحها لم يكن عليه شيء آخر، فكذلك إذا قضاها في مثل ذلك الوقت لم يلزمه شيء آخر؛ لأن القضاء بصفة الأداء أثبت جواز نقصان القضاء بنقصان الوقت في الأداء، أو نقصان الوقت في الأداء إنما يؤثر في القضاء أن لو كان الوقت سببًا له. (والصوم يقوم بالوقت) أي يوجد به؛ لأن الوقت معيار للصوم (ويعرف به) أي يقال: الصوم هو الإمساك عن المفطرات الثلاثة نهارًا مع النية. (فأزداد الأثر فصار فاسدًا) أي ازداد أثر فساد الوقت وقبحه في الصوم لكون الوقت معيارًا له ومعرفًا له فصار الصوم فاسدًا، وهذا لأن القبح إذا أشتد قربه من الصوم والصلاة اشتد تأثيره. ألا ترى أن البيع وقت النداء جائز نافذ لبعد القبح عن البيع، والقبح في الصلاة في الأوقات المكروهة أبعد من القبح في الصوم؛ لأن القبح في الصوم ينشأ من الوقت الذي هو داخل في الصوم ففسد، والقبح في الصلاة لوصف

يقوم بالوقت والوقت غير داخل في ماهية الصلاة فكان أبعد فلا يوجب الفساد كالقبح في الأرض المغصوبة إلا أن الوقت سببها وهو ناقص، فيظهر النقصان في المسبب فانتقص، والناقص لا يكون فاسدًا بخلاف الصلاة في الأرض المغصوبة لأن القبح لا ينشأ من سببها فصار مجاورًا فيتأدى به الكامل، كذا قرره ملانا حميد الدين- رحمة الله. (وهذا بخلاف بيع الحر والمضامين والملاقيح). يعني ورد في الحديث «نهى النبي عليه السلام عن بيع الحر» وروي أنه: «نهى عن بيع الملاقيح والمضامين» أي عن بيع ما في البطون وما في أصلاب الفحول. جمع ملقوحة ومضمون.

(وهذه الاستعارة) أي استعارة النهي عن النفي. (لما بينهما من المشابهة) أي صورة ومعنى. أما الصورة: فلوجود حرف النفي فيها. وأما المعنى: فلأن كل واحد منهما للإعدام ولما كان كذلك جازت استعارة النهي للنفي هاهنا للقيام الدليل عليه. كما جازت استعارة النهي للنفي في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وقوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بشهود» في أحد التخريجين، وقوله عليه السلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وقوله (لا صلاة للآبق).

(ولا خلاف فيه) أي في جواز الاستعارة عند قيام الدليل عليه، (إنما الخلاف في حكم حقيقته) أي في حكم حقيقة النهي يعني أن حقيقة النهي ما هي؟ فعندنا أن النهي في الأفعال الشرعية يقتضي الشرعية وعند الخصم لا يقتضيها. (وكذلك صوم الليالي) أي النهي الوارد في صوم الوصال، وهي راوية الراوي: «نهي النبي عليه السلام عن صوم الوصال» أو روايته بقوله: «لا تواصلوا في الصيام» ذلك النهي مستعار عن النفي، والمراد بصوم الوصال أن يواصل الرجل الأيام والليالي بالصوم ويمسك عن المفطرات، وإنما قلتا: أنه مستعار عن النفي؛ لأن الصوم لا يتكون في الليل شرعًا. وقد ذكرنا أن النهي في الأفعال الشرعية يقتضي تكون المنهي عنه شرعًا فلذلك كان النهي مستعارًا عن النفي، والقبح الذي كان في صوم الليالي وإن كان لعينه بحيث لا شرعية فيه أصلًا، وهو مجاور لصوم النهر فلم يؤثر في كمال صوم النهر، فلذلك قلنا: بأن صوم الفري يتأدى في أيام الوصال إذا نواه، لأن النهي للمجاور لا لمعنى اتصل بالوقت الذي يؤدى فيه الصوم. إلا أن الوصال لا يتحقق؛ لأن الشرع أخرج زمان الليل من أن يكون وقتًا لركن

الصوم وهو الإمساك باعتبار أن الإمساك عادة، كذا ذكره الأمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه- الله- (فيتعين للصوم تحقيق تحقيقًا للابتلاء)؛ لأن الله تعالى ابتلى عباده بأفعال بالترك أو بالأقدام، وهذا المعنى في حق الصوم يتحقق بالنهار؛ لأن النفس داعية إلى الأكل والشرب وذلك بالنهار في العادة، فيتحقق به خلاف هوى النفس. فأما في الليل فعلى وفاق هوى النفس فلا يتحقق فيه معنى الابتلاء على الكمال، ولا يقال بأن الجماع يوحد بالليالي في الأعم والإمساك عن الجماع ركن في الصوم أيضًا كالأكل والشرب؛ لأنا نقول: إن ذلك تبع لشهوة البطن؛ لأن ذلك ينشأ من الشبع. (ولا يلزم النكاح بغير شهود) وجه الورود أن قوله عليه السلام: «لا نكاح إلا بالشهود» مستعار عن النهي؛ لأنه لو حمل عن النفي على ما هو صيغته لكان إخبارًا عن عدمه وقد يوجد حسًا، فحينئذ يلزم الخلف في كلام صاحب الشرع، وعن هذا جمل النفي المذكور في قوله تعالى:

{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} على النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. أو لأن إحضار الشهود في النكاح مأمور به فيكون الأمر نهيًا عن ضده اقتضاء ضرورة فيما إذا لم يتعرض ضد الأمر بشيء، فكيف إذا ما تعرض الضد بالنفي الذي هو أبلغ من النهي، فورد نقصًا عن الأصل الذي قلنا إن النهي في الأفعال الشرعية لا ينفي المشروعية، والنكاح أمر شرعي وعند عدم الشهود يفسد النكاح أصلا ووصفًا فأجاب عنه بطريقتين: أحدهما: على وجه المنع يعني لا نسلم بأنه نهي بل هو نفي على حقيقة فلا يرد علينا نقصًا؛ لأن كلامنا في النهي لا في النفي. وأما قوله: «فلولا حمل علي النهي يلزم الخلف في كلام صاحب الشرع». فقلنا: لا نسلم لزوم الخلف؛ لأن المنفي هو النكاح الشرعي وهو كذلك؛ لأن النكاح الشرعي بغير شهود لا يوجد أصلًا، فكان النفي على حقيقته.

بخلاف الرفث ونحوه فإنه يوجد حسًا أينما وجد، فلا يمكن حمله على النفي والثاني: على وجه التسليم فنقول: إن سلمنا أنه نهي لكن النهي يقتضي الحرمة لا محالة وملك النكاح ملك ضروري؛ لأنه استيلاء على جزء الحرة وهي بجميع أجزائها غير قابلة لتملك الغير إياها، وإنما شرع لحل الاستمتاع مع منافاة الدليل، فكان الحل فيه ضروريًا، والثابت بالضرورة يتقدر بقدرها فمتى اتصف ذلك المحل بالحرمة لم يبق الحل أصلًا ووصفًا. أو نقول: الحل في النكاح يثبت مقصودًا؛ لأن الحل لا ينفك عن النكاح الشرعي أصلًا، ثم من ضرورة فساد السبب ثبوت صفة الحرمة فيه لما أن بين الحرمة وبين ملك النكاح منافاة فينعدم الملك، ومن ضرورة انعدامه خروج السبب من أن يكون مشروعًا؛ لأن الأسباب الشرعية يراد لأحكامها. فأما ثبوت النسب ووجوب المهر والعدة وسقوط الحد به من حكم الشبهة لا من حكم انعقاد أصل العقد شرعًا. وقوله: (والتحريم لا يضاده) أي تريح الاستمتاع لا يضاد ملك اليمين؛ لأن الحل فيه تابع فلا يبالي بفوات الحل عند وجود حكم مخصوص مقصود للبيع وهو ملك اليمين. وأما النكاح فالحكم المقصود له الحل، ومتى لم يثبت الحل لم يكن وجود

النكاح إلا صورة بلا معنى، ولصورة النكاح شبهة النكاح، فتثبت بها من الأحكام ما تثبت بالشبهة وهي ما ذكرناه من ثبوت النسب وغيره. (ولفظ النهي في قوله تعالى {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} مستعار عن النفي بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أو نقول: إن قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} لا يرد نقضا علينا، فإن ذلك لم يكن مشروعًا أصلًا بدليل آخر الآية {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} وما هذا شأنه لا يكون مشروعًا من الأصل وكلامنا فيما كان مشروعًا ثم ورد النهي عنه في حقه. هكذا قرره الأستاذ الكبير- رحمة الله- (وأما استيلاء أهل الحرب) وجه الإيراد فيه أن الشافعي- رحمه الله- يقول: عندي أن النهي يقتضي القبح لعينه على الإطلاق سواء كان المنهي عنه شرعيًا أو حسيًا فلا يفيد حكمًا مطلوبًا، وأنتم تفرقون بينهما، وقد وافقتموني في أن القبيح لعينه لا يفيد حكمًا مطلوبًا كبيع الحر والمضامين والملاقيح وغيرها، واستيلاء أهل الحرب من الأفعال الحسية، وهو محظور قبيح لعينه، والكفار بالحرمات مخاطبون بالإجماع، والملك المشروع يقتضي

سببًا مشروعًا بالإجماع؛ لأنه لابد من الملاءمة بين المؤثر والأثر وقد قلتم بثبوت الملك به مع أن الملك نعمة واستيلاء أهل الحرب معصية محضة، وكذلك هذا في الملك بالغضب وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وهذه أيضا نعمة بدليل أن الله تعالى من به في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} والنعمة لا تنال بالمعصية. والجواب عنه ما ذكره في الكتاب وهو قوله: (فإنما صار منهيًا بواسطة العصمة) أي إنما صار الاستيلاء منهيًا عنه بواسطة أن المال معصوم لمالكه بعصمة ثابتة شرعًا، والعصمة إنما تثبت في حقنا، فكانوا منهيين عن الاستيلاء في اعتقادنا وهم يعتقدون ذلك وولاية الإلزام منقطعة عنهم بانعدام ولايتنا عليهم فلم يثبت النهي باعتقادهم فلم يعمل ما هو الحق الذي هو في اعتقادنا من حرمة الاستيلاء، فكان ثبوت الملك لهم باستيلائهم على

تقدير أنه ليس بمنهي عنه فلم يتجه علينا نقضًا. فإن قيل: ينبغي أن لا يثبت الملك لهم في اعتقادنا؛ لأن في اعتقادنا أنهم منهيون، والمرء مؤاخذ بزعمه. ألا ترى أن من زعم أن العبد الذي يسترقه زيد وهو حر فهو مؤاخذ بزعمه، حتى أنه لو وقع في ملكه بسبب من الأسباب يعتق عليه عملًا باعتقاده، فلم لم نجعل هنا كذلك حتى لا يثبت الملك لهم لما أن استيلاءهم على أموالنا قبيح لعينه ومعصية محضة فلا ينال له الملك الذي هو نعمة؟ قلنا: نعم كذلك، إلا أننا مأمورون بالعمل على حسب اعتقادهم وبتركهم مع اعتقادهم خذلانًا لهم. ألا ترى أن العقود الفاسدة التي هي محكومة بفسادها في اعتقادنا لو دانوا بصحتها نقول بصحة تلك البياعات، ونحكم بتلك البياعات على ما نحكم بالبياعات الصحيحة من لزوم الملك بنفس العقد ولزوم البيع بحيث لا ينفرد أحمد المتعاقدين بالفسخ. وكذلك في الأنكحة الفاسدة لو دانوا بصحتها حكمنا أيضا بصحتها حتى قلنا بثبوت الإرث بها وثبوت الملك وثبوت النسب حسب ثبوتها بالعقود لصحيحة إلا ما استثنى منها من نكاح المحارم على ما قاله عليه السلام:

"ولدت من نكاح لا من سفاح"، بخلاف ما ذكرت من اعتقاد حرية عبد زيد، فإن المعتقد هناك بالحرية غير مأمور بالعمل على حسب اعتقاد غيره، بل هو مأمور بالعمل بما هو في اعتقاده؛ لأن اعتقاده في حق نفسه يقين، واعتقاد غيره في حقه باطل أو شك، واليقين لا يترك بالشك.

أو نقول: وإن كان النهي ثابتًا على الإطلاق وتثبت العصمة على الإطلاق لكنها سقطت بالإحراز بدار الحرب، لأنها لم تبق محرزة بدار الإسلام فسقط حكم النهي في حق أحكام الدنيا؛ لأن الحكم ينتهي بانتهاء سببه، والعصمة كانت ثابتة بسبب الإحراز بدار السلام فسقطت هي بانتهاء سببها وهو الإحراز بدار السلام. ألا ترى أن الحل إذا ثبت بالنكاح يبطل الحل ببطلان النكاح، وكذلك الملك والحل ينتهي بانتهاء البيع، حتى إن في رقاب الأحرار لما كانت العصمة عن الاسترقاق بالحرية المتأكدة بالإسلام ولم ينته بالإحراز الموجود منهم قلنا إنهم لا يملكون رقابنا. ثم قوله: (وهي ثابتة في حقنا) أي والعصمة ثابتة في حقنا لبقاء ولاية إلزام عصمة ملك المالك في حقنا، وأما في حق أهل الحرب فلا. وقوله: (ولأن العصمة متناهية بتناهي سببها)، وسببها إحراز المسلمين بدارهم، فإذا أحرز الكفار بدارهم انتهي ذلك السبب فسقط حكم.

النهي عنهم في حكم الدنيا ففلم يبق حرامًا في حقهم لذلك، حتى إن رقاب الأحرار لما كان عصمتها متأكدة بالإسلام لم يملكوا أحرارًا بإحرازهم في دارهم بالأسر والقهر لبقاء الإسلام، وهذا لأن العصمة على نوعين: مقومة، ومؤثمة، فالعصمة المؤثمة بالإسلام، والعصمة المقومة بالدار، فلا تبقى العصمة المقومة إذا أحزروا أموالنا بدارهم لانقطاع إحرازنا بدار الإسلام، وتبقى العصمة المؤثمة في الإحراز بدارهم لبقاء الإسلام. آو نقول في الفرق بين الأموال والرقاب: إن الأصل في الأموال أن لا تكون معصومة لأحد لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} ثم الاختصاص بالملك كان بعارض الاختصاص بسبب من الأسباب ليتمكن من الانتفاع من باشر سببه، فلما زال تمكنه من الانتفاع بسبب استيلاء الكفار عاد إلى الأصل الذي هو عدم العصمة، وإن الأصل في الرقاب عدك كونها محلًا للتملك لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، وفي التملك ترك التكريم، لكن يثبت فيها محلية التملك بعارض الكفر، وليس في رقابنا ذلك.

فبقيت على ما يقتضيه الأصل وهو عدم التملك، فكانت صفة الأموال مع صفة الرقاب على طرفي النقيض. (وأما الملك بالغضب فلا يثبت مقصودًا بالغضب، بل شرطًا لحكم شرعي وهو الضمان). بيان هذا أن الضمان حكم مشروع ثابت بالغصب بالإجماع، وهذا الحكم لا يثبت إلا بثبوت الملك للغاصب في المبدل، فكان ثبوت الملك للغاصب شرطًا لثبوت هذا الحكم المشروع وهو الضمان، وهذا لأن الضمان إنما شرع جبرًا لما فاته من المال لاعتبار جنابة الغاصب بالغصب. ألا أن طائفة إذا اجتمعوا على غصب عين واحد يجب عليهم قيمة واحدة، ولو كان جنابة الفعل لوجب على كل واحد منهم قيمة تامة. كما لو اشترك المحرمون في قتل صيد واحد يجب على كل واحد منهم جزاء كامل؛ لأن ضمان الفعل يتعدد بتعدد الفاعلين وهو معروف. (وشرط الحكم تابع له) أي وفوات ملك المغصوب منه تابع لوجوب الضمان. قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-: فإن الضمان ضمان الجبر، وإنما يجبر الفائت لا القائم، فكان انعدام ملكه في العين شرطًا لسلامة

الضمان له، وشرط الشيء تبعه، فإنما تراعي صلاحية السبب في الأصل لا في التبع. ثم بعد فوات الملك المغصوب منه من المغصوب لضرورة ملكه في يد له لم يكن أحد اقرب في ثبوت الملك في المغصوب من الغاصب؛ لما أن الضمان وجب عليه فيثبت الملك له أيضًا، فكان ثبوت الملك بالغصب تبعًا للضمان الذي هو مشروع، والتبع لا يعطي له حكم الأصل كما إذا ضحى نصف سبع البدنة لا يجوز بالإجماع، وإذا ضحى ثلاثة أجزاء ونصف سبعة يجوز؛ لأن النصف هنا وقع ضمنا لا حكم له أصلًا؛ بل شرطًا لحكم شرعي؛ لأن النصف هنا وقع ضمنا لا حكم له أصلًا؛ بل شرطًا لحكم شرعي؛ أي بل يثبت الملك للغاصب لكون ثبوت الملك له شرطًا لحكم شرعي وهو الضمان. (فصار حسنًا بحسنه) أي فصار ثبوت الملك للغاصب حسنًا بسبب حسن الضمان عليه إذ لا يمكن إيجاب الضمان على الغاصب بدون أن يخرج المغصوب عن ملك المغصوب منه ويدخل في ملك الغاصب، وإلا يلزم اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وهو المغصوب منه، وليس له نظير في الشرع. وكان الأستاذ الإمام المحقق مولانا فخر الدين المايمرغي- رحمه الله-

يقول في تقرير قوله: إذا الجبر يعتمد الفوات، أو نمي بيني كه إسبان جامه رابر جاي مي زنيد كه در وي دريدكي بودنه در جائيكه أن جاي درست بود، وإن في قوله: وإن قبح كان مقصودًا به للوصل، يعني: اكر جه قبيح أست زوال ملك المالك در أن حالتيكه زوال ملك مقصود بود بغصب، ولكن حسن بود در آن حالت كه بطريق تبعيت أمر حسن مي شود. وقوله: (في ضمان المدبر) جواب شبهة ترد على قوله: بل يثبت الملك شرطًا لحكم شرعي وهو الضمان بان يقال: يشكل على هذا المدبر فإن الضمان واجب على غصبه ومع ذلك لم يثبت الملك له؟ فأجاب عنه بهذا، وتحقيقه ما ذكر شمس الأئمة- رحمه الله- فقال: وفي المدبر على هذا الطريق نقول: لما سلم الضمان للمغصوب منه يجعل الأصل زائلًا عن ملكه؛ لأن المدبر محتمل لذلك، ولهذا لو اكتسب كسبًا ثم لم يرجع من إباقه حتى مات كان ذلك الكسب للغاصب، وإنما لم يثبت الملك للغاصب صيانة لحق المدبر، والتدبير موجب حق العتق له عندنا ولهذا امتنع بيعه.

وأما في القن بعد زوال الملك المغصوب منه فلا مانع من دخوله في ملك الغاصب الضامن وهو أحق الناس به؛ لأنه ملك عليه بدله. وذكر في "شرح الطحاوي" فائدة عدم ثبوت الملك لغاصب المدبر في المدبر ان المدبر لو ظهر يرد على مولاه ويسترد منه القيمة، وليس للغاصب حبسه لأجل القيمة؛ لأنه لا يجوز بيعه فلا يجوز حبسه بالدين.

(ولا يدخل في ملك المشتري) أراد به الغاصب لما قلنا: إن مآله المعارضة، فكان الغاصب مشتريًا، أو أراد به المشتري حقيقة؛ لأن من اشترى مدبرًا وهلك في يده ضمن ضمان الغصب، (ولأن ضمان المدبر جعل مقابلًا بالفائت وهو اليد، وهذا طريق جائز. والأول طريق واجب) أي يصرف إليه على الإطلاق. وأما هذا الطريق وهو أن يكون الضمان بمقابلة تفويت اليد إنما يصار إليه عند العجز عن العمل؛ بأن يكون الضمان بمقابلة تفويت ملك الرقبة، والضمان بمقابلة تفويت اليد إنما يكون في ضمان المدبر لا في ضمان القن؛ لأنه لا ضرورة في المصير إلى أن يجعل الضمان بمقابلة تفويت اليد في القن؛ لأنه قابل للنقل من ملك إلى ملك. وقد قلنا: إن كون الضمان بمقابلة تفويت ملك الرقبة هو الأصل المقرر فلا يعدل عنه بدون الضرورة. فكان القول بالضمان بمقابلة اليد أمرًا جائزًا، فإن الضمان قد يكون بمقابلة ما ليس بمال كما قلنا بوجوب الدية في القتل الخطأ، وهذا إنما يكون ضرورة لا أصلًا، وهذه الضرورة إنما يصار إليها في المدبر لا في القن؛ لأنه يمكن هناك إجراء الحكم على ما هو الموجب الأصلي فلا يصار إلى الأمر المحتمل كما قلنا في موجب اللفظ مع محتمله: إن الأصل هو العمل

بحقيقة اللفظ وموجبه، فإذا تعذر العمل بالحقيقة حينئذ يصار إلى المجاز وهو محتمل اللفظ، والمراد من الوجوب والجواز هذا. (وأما الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة أصلًا بنفسه) أي من حيث الأصالة بنفسه أي من حيث إنه زنا لما عرف أن الفاسد لا ينتج إلا الفاسد، وحرمة المصاهرة نعمة على ما ذكرنا فكيف تضاف إلى ماهو قبيح وحرام لعينه؟ ولكن إنما ثبت حرمة المصاهرة باعتبار شبهة البعضية والجزئية. بيان ذلك (أن الزنا سبب للماء، والماء سبب لوجود الولد، والولد هو الأصل في استحقاق) حرمة المصاهرة باعتبار أنه جزء الوالدين لما خلق من مائهما على ما قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن ْنُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}. علم أن الولد جزء لوالديه لما أن المشج- بكسر الميم- ما أختلط من ماء الرجل بماء المرأة، والولد كله يضاف إلى الأب، ويضاف أيضًا كله إلى الأم، فكان الرجل والمرأة صارا شخصًا واحدًا كزوجي الباب وزوجي الخف، فصار جزء الرجل جزء المرأة، فكان آباؤه كآبائها، وأبناؤه كأبنائها، وأمهاتها وبناتها كأمهاته وبناته. وهو معنى ما قال في الكتاب "الأصل في ثبوت حرمة المصاهرة الولد ثم

يتعدى إلى أطرافه". وقيل: هذا التعليل مستخرج من قول عمر- رضي الله عنه- وتعليله في عدم جواز بيع أمهات الأولاد: "فكيف تبيعونها وقد أختلط لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن"، وكان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنا باعتبار أنه سبب للولد لا باعتبار أنه زنا، فأخذ حكم الأصل وهو الولد في الأصل. لا عصيان ولا عدوان بل هو محترم مكرم داخل تحت قوله تعالى:} وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم {والأصل أن ما قام مقام شيء يعمل عمل أصله لا عمل نفسه. ألا ترى أن الوكالة جائزة غير لازمة، وإذا وقعت في ضمن الرهن أخذت حكم الرهن وهو صفة اللزوم، وبطل حكمها بنفسها لقيامها مقام الرهن، وكذلك عبد الهاشمي إذا أعتقه مولاه أخذ حكم الهاشمي في حق حرمة الصدقة لقيامه مقام مولاه بحكم الاتصال بالسببية، فكذلك هاهنا قام الزنا مقام الولد باعتبار أنه سببه، فأخذ حكم الولد ويهدر وصف الزنا في إيجاب حرمة المصاهرة فكان الولد مثبتًا لحرمة المصاهرة لا باعتبار أنه حلال ولا باعتبار أنه حرام بل باعتبار أنه قام مقام الولد. وقوله: الولد هو الأصل في استحقاق

الحرمات؛ أي في استحقاق حرمة المصاهرة. (ولا عصيان فيه) أي ولا معصية لله تعالى في الولد، أي لم يوجد منه عصيان لله تعالى. (ولا عدوان) أي ولا تعدي، أي لم يوجد منه تعد في حق العباد. (ثم يتعدى منه إلى أطرافه) أي إلى الأب وألام، (وإلى أسبابه) أي إلى أسباب وجود الولد، كدواعي الوطء من القبلة والمس بشهوة. (فإنما يعمل بعلة الأصل) وإذا كان عمله بعلة الأصل صار المنظور إليه الأصل لا القائم مقام الأصل. (وسقط وصف التراب) وهو التلوث. (لقيامه) أي لقيام الزنا (مقام ما لا يوصف) وهو الولد بذلك أي بالحرمة بتأويل التحريم، (في إيجاب حرمة المصاهرة) أي عدم اتصاف الزنا بالحرمة، إنما كان في حق إيجاب حرمة المصاهرة لا غير؛ لأنه في حق غيره هو معصية محضة وفعله فاحشة موجبة للجلد أو للرجم الذي هو أسوأ القتل.

(وأما سفر المعصية فغير منهي عنه لمعنى فيه) يعني أن العاصي في سفره يترخص برخص المسافرين عندنا خلافًا للشافعي، لأن سبب الرخصة السير المديد وهو موجود بصفة الكمال. وأما العصيان فليس في نفس السفر؛ لأن العصيان هو التمرد على من يلزمه طاعته، والبغي على المسلمين ينفصل عن السفر وجودًا وعدمًا، فإنه قد يتمرد على مولاه وهو غير مسافر، بل هو في المصر، ويوجد سفره وهو مطيع على مولاه، وكذلك في قطع الطريق. ألا ترى أن الرجل قد يخرج غازيًا ثم يستقبله غير، فيبدو له فيقطع عليهم.

فعلم بهذا أن النهي عن هذه الجملة كان نهيًا لمعنى في غير المنهي عنه من كل وجه، وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل مشروعًا، فلا يمتنع تحقق الفعل سببًا للرخصة بخلاف السكر، فإنه عصيان بعينه فلم يصح أن تتعلق الرخصة بأثره. (ولا يلزم على هذا النهي عن الأفعال الحسية) أي ولا يلزم على ما ذكرنا من أن النهي عن الأفعال الشرعية يقتضي المشروعية في المنهي عنه النهي عن الأفعال الحسية؛ حيث لا مشروعية في المنهي عنه أصلًا بل هو قبيح لعينه؛ (لأن القول بكمال القبح فيها وهو مقتضى مع كمال المقصود) وهو بقاء النهي نهيًا ممكن، أو أن المقصود من النهي هو الابتلاء، ويشترط في ذلك أن يكون العبد قادرًا على تحصيل ما نهي عنه ليكون مبتلى بين أن يكف عنه باختياره ليثاب عليه وبين أن يفعله ليعاقب، وهذا ممكن مع ثبوت القبح بكماله في الأفعال الحسية. ألا ترى أن أقبح القبائح الكفر وهو مقدور للعبد، فثبت أن النهي يتصور فيها مع ثبوت القبح لمعنى في عين المنهي عنه؛ لأن وجوده ليس من الشرع حتى ينعدم بانعدام المشروعية، فوجب القول بكمال القبح فيها وهو الأصل. فأما الأفعال الشرعية فلا يمكن القول بكمال القبح فيها مع بقاء النهي عنها، فلذلك وجب القول فيها على وجه لا يبطل النهي على ما بينا ليبقى مقدورًا للعبد.

(والنهي في صفة القبح ينقسم انقسام الأمر) يعني أن الحسن في المأمور به ينقسم إلى أقسام: منها ما هو حسن لعينه، ومنها ما هو حسن ملحقًا بالحسن لعينه، ومنها ما هو حسن لغيره، وما حسن لغيره ينقسم إلى أن الغير يتأدى بنفس المأمور به، وما لا يتأدى بنفس المأمور به، فكذلك النهي ينقسم إلى هذه الأقسام تحقيقًا للمقابلة؛ لأن النهي يقابل الأمر وأقسامه مذكورة في الكتاب، وهي: (أن القبيح لعينه وضعًا الكفر، وما قبح لعينه ملحقًا به بيع الحر والمضامين والملاقيح، وما قبح لمعنى في غيره) وهو أيضًا على نوعين: (الذي قبح لمعنى في غيره وهو مجاور للمنهي عنه: البيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة، والذي قبح لمعنى في غيره وهو متصل بالمنهي عنه وصفًا وهو صوم يوم النحر والبياعات الفاسدة).

وعن هذا قال مشايخنا- رحمهم الله- في البيع الفاسد ونحوه، فمن حيث إنه مشروع يوجب الصحة ومن حيث إنه قبيح بوصفه يوجب البطلان، فقلنا بالفساد عملًا بالأدلة؛ لأن الأصل في الأدلة إعمالها لا إهمالها، فمن نتيجة فساد الوصف عدم اللزوم بالشروع، ومن نتيجة صحة الأصل لو صامه يخرج عن عهدة نذره. ***

[باب معرفة أحكام العموم]

[باب معرفة أحكام العموم] لما فرغ من بيان أحكام الخصوص بأنواعها وشعبها ومتقابلاتها من الأمر والنهي شرع في بيان أحكام العموم، وقدم الخاص على العام؛ لأن الخاص كالجزء للعام، والجزء مقدم على الكل، أو لأن حكمه قطعي بالاتفاق، وحكم العام مختلف فيه. (العام عندنا يوجب الحكم فيما يتناوله قطعًا بمنزلة الخاص) كما إذا

قال: عبيدي أحرار يثبت هذا الحكم في كل فرد من أفراده، كما إذا قال عبدي هذا حر. قوله: (الخاص لا يقضي على العام) قيل: القضاء الإلزام أي لا يلزم الخاص حكمه على العام ولا يرد حكم العام، (بل يجوز أن ينسخ به) حتى إن الخاص إذا كان متقدمًا، ثم جاء العام بخلاف حكم الخاص ينسخ هذا العام المتأخر الخاص المتقدم ويقضي عليه. (نسخ، وهو خاص بقول النبي عليه السلام "إستنزهوا من البول") فإن قيل: لم قلتم بأن النسخ إنما ثبت بكونه عامًا بل لكونه محرما؟ قلنا: لا نثبت النسخ بكونه عامًا، ولا لكونه محرما بل نثبت بكونه متأخرًا مساويًا للأول في الرتبة وإفادة الحكم. ألا ترى أن المبيح إذا تأخر ينسخ المحرم المتقدم، والخاص إذا تأخر ينسخ العام إذا كان مساويًا له في الرتبة.

فعلم أن النسخ لا بكونه عامًا ولا بكونه خاصًا ولا بكونه محرما ولا بكونه مبيحًا بل بكونه متأخرًا مساويًا للأول في الرتبة، ولكن لما كان عامًا ناسخًا للخاص المتقدم علم به أن العام مساو للخاص في القوة، فكان فيه رد لقول الشافعي حيث لا يجعله مساويًا للخاص في القوة. فإن قيل: إنما يثبت ما ادعيتم إذا كان العام متأخرًا، ويجوز أنه كان متقدمًا على حديث العرنيين. قلنا: لا كذلك، بل ثبت تأخره وتقدم الخاص بالدليل، وهو أن المثلة قد نسخت بالاتفاق، وهي في حديث العرنيين، فدل الدليل على تقدم ذلك الحديث؛ لأنه كان في ابتداء الإسلام ولم يدل الدليل على تقدم الحديث العام بل فيه مجرد احتمال، والاحتمال إذا لم ينشأ عن دليل لا يكون معتبرًا.

(ومثل قوله عليه السلام ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" نسخ بقوله عليه السلام "ما سقته السماء ففيه العشر"). فإن قلت: لا نسلم أن أبا حنيفة- رضي الله عنه - يقول بينهما بطريق التناسخ بل يحمل كل واحد من الحديثين على محل على حدة. وقال في "المبسوط" ويقول أبو حنيفة- رحمه الله- تأويل قوله عليه السلام "ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة" التجارة، فإنهم كانوا يتبايعون بالأوساق كما ورد به

الحديث. وقيمة خمسة أوسق مائتا درهم، فحينئذ لم يكن قوله عليه السلام: "ما سقته السماء ففيه العشر" ناسخًا لذلك الحديث، فلا تتم الحجة لمن تمسك بهذا في أن العام ينسخ الخاص. قلت: قد يكون للكتاب والسنة وجوه من التخريج والحمل، فنقول: يحتمل أن يكون هذا على طريق النسخ، فعلى ذلك الوجه يكون حجة لمن تمسك به، ومثل هذا كثير في التمسكات كما ذكر في "شرح التأويلات" في قوله تعالى:} وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَه وَأَنصِتُوا {أختلف أهل التفسير في سبب نزول الآية، فقال بعضهم: كان الكفرة يقولون} لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ {، فأمر الله للمؤمنين بالاستماع إليه مكان قولهم} لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ {، وبه قال مقاتل.

وقال بعضهم: فإن نزولها في حق الخطبة. وقال بعضهم: فإنه في حق الصلاة. قال الشيخ- رحمه الله- فعلى تقدير نزولها في حق الصلاة كان فيها دلالة على النهي عن القراءة خلف الإمام؛ لأنه أمر بالاستماع والإنصات له، فكان هو حجة لنا على الخصوم. (فيمن أوصى بخاتمه لإنسان ثم بالفص منه لآخر بكلام مفصول) قيد بالمفصول؛ لأنه إذا كان هذا في كلام موصول كانت الحلقة للأول والفص للثاني من غير اشتراك فيه بالإجماع. وأما إذا كان في كلام مفصول قال هاهنا مطلقًا إن (الفص بينهما)، وذكر بعد هذا (وهذا قولهم جميعًا). وذكر في "زيادات العتابي" و"قاضي خان" و "الهداية" أن هذا قول

محمد- رحمه الله- وكأنه لم يعتبر خلاف أبي يوسف. وذكر في "المنظومة" في باب اختلاف الآخرين: فالفص للثاني ولم يستهما.

فعلم بهذا أن على قول محمد يستهمان. فإن قلت: كيف يصلح هذا نظيرًا للعام، والعام هو ما كان أفراده متفقة الحدود، وليست حلقة الخاتم مع فصها متحدين في الحدود، وليستا بأفراد بل فردان، فكيف يصلح نظيرًا للعام؟ قلت: سنذكر جواب هذا وما يلحقه في باب البيان إن شاء الله تعالى. (ولولا إستواؤهما وقيام المعارضة بينهما لما وجب الترجيح بدلالة العقد)؛ لأن الترجيح يعتمد المساواة إذ لا ترجيح عند عدم المساواة، بل يعمل بالأقوى دون الأدنى؛ لأنه لا يقاومه ولا يساويه حتى يقال: إن الدينار راجح على الدانق؛ لأنه لا مساواة بينهما أصلًا بوجه من الوجوه.

(والقاضي الشهيد) هو الحاكم المرزوي- رحمه الله- (أن المذهب عندنا ما قلنا)، وهو قوله في أول الباب: العام عندنا يوجب الحكم فيما يتناوله قطعًا ويقينًا". وقوله: (لأن الناسي في معنى الذاكر). هذا جواب إشكال بأن يقال: لا نسلم أن قوله تعالى:} وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُا للَّهِ عَلَيْهِ {من العام الذي لم يثبت خصوصه بل ثبت خصوصه، فإن الناسي مخصوص عنه بالإجماع بيننا وبينكم، فيخص الباقي بخبر الواحد أو القياس في حق العامد أيضًا.

فأجاب عنه بهذا وقال: لم يخص منه الناسي؛ لأن الناسي بسبب عذره جعل ذاكرًا لقيام ملته مقام التسمية تخفيفًا عليه بسبب عذر النسيان، وأما العامد فليس به عذر، فلا يستحق التخفيف بإقامة الملة مقام التسمية. فإن قلت: التسمية شرط لحل الذبيحة وما كان شرطًًا لا يسقط لا بعذر النسيان ولا بغيره كالطهارة في الصلاة. قلت: هاهنا أيضًا لم يسقط حيث أقيمت الملة مقامها كما أقيم التيمم هناك مقام الوضوء، والشيء إذا فات ببدل لا يكون فائتًا من كل وجه. (فلا يجوز تخصيصه بالقياس) أي بالقياس على الناسي وعدم جواز القياس هاهنا بوجهين: أحدهما- أن هذا عام لم يخص منه شيء بالدليل القطعي، فلا يجوز تخصيصه لذلك ابتداء بالقياس. وثانيهما- أن العامد ليس بنظير للناسي؛ لأن الناسي معذور والعامد لا، فلو أستحق الناسي التخفيف بسبب عذره لا يلزم أن يكون العامد مستحقًا له؛ لأنه غير معذور. (وخبسر الواحد) وهو ما روي عن عائشة- رضي الله عنها - قالت: "قال

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: يا رسول الله إن هنا أقوامًا حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: "أذكروا أنتم اسم الله، وكلوا" كذا في "المصابيح". (ولا يصح تخصيصه بالآحاد)، منها ما روي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي عليه السلام دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه

المغفر، فلما نزعه جاء رجل، وقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتله"هذا أيضًا في المصابيح، (والقياس) وهو أن يقول: لو قتل في الحرم اقتص في الحرم، وكذلك إذا قتل خارجًا ثم التجأ إليه قياسًا على سائر الأمكنة. (وقال الشافعي- رحمه الله- العام يوجب الحكم لا على اليقين) ولما

كان كذلك كان هو نظير القياس وخبر الواحد، فصح تخصيصه بهما. (وعلى هذا) دل مسائله منها: هاتان المسألتان ذكرناهما في متروك التسمية عامدًا، وفي الملتجئ إلى الحرم مع ورود عام فيهما لم يخص شيء منهما بدليل قطعي، وهو خصصهما القياس والخبر الواحد، وكذلك قال بفرضية تعديل الأركان بخبر الواحد. وقال بفرضية الوضوء في الطواف في البيت بخبر الواحد، وهو قوله عليه السلام «الطواف صلاة». وقال بفرضية تعيين الفاتحة في الصلاة لتخصيص عموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} بخبر الواحد، وهو قوله عليه السلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". (وقال بعض الفقهاء: الوقف واجب في كل عام) إلى آخره. وثمرة الاختلاف في الأقوال تظهر أيضا فين قال: لفلان على دراهم، فمن قال بالوقف في العام قال: لا يلزمه ثلاثة دراهم، بل يجب الاستفسار.

كما في قوله: لفلان على شيء. وعند من قال بأخص الخصوص يجب ثلاثة دراهم. وعندنا يجب ثلاثة دراهم أيضًا لأن موجب العموم هذا؛ لأن الكل من الدراهم غير المراد هاهنا؛ لأن وجوب جميع الدراهم مستحيل في العادة، فيصار إلى ما هو متيقن في صيغة الجمع وهو الثلاثة، فاتفق الجواب واختلف التخريج لاختلاف أعداد الجمع كالثلاثة والأربعة والخمسة وغيرها. (لا يؤكد بمثله) أي بمثل ما يؤكد به العام. (لا جميعه) يعني لا يقال زيد جميعه. {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي قال للصحابة نعيم بن مسعود الأشجعي: إن أبا سفيان وأهل مكة جمعوا العسكر.

لقتالكم وقصته: أن أبا سفيان نادي عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شيءت، فقال ص: "إن شاء الله"، فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران وهو موضع، فألقى الله الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرًا، فقال: يا نعيم إني واعدت محمدًا أن نلتقي بموسم بدر، وأن هذا عام جدب وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد ولم يخرج زاده ذلك.

جرأة، فألحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ما هذا بالرأي! آتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم أحد إلا شريدًا، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد، ثم تسمية المثبط هاهنا بالناس وهو نعيم وحده؛ إما لأنه من جنس الناس كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرود وما له إلا فرس واحد وبرد فرد، أو لأنه حين قال: ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ويصلون جناح كلامه، ويثبطون مثل تثبيطه. كذا في "الكشاف". وأورد ألإمام نجم الدين النسفي- رحمه الله- نعيم بن مسعود بن عامر

الأشجعي من جملة الصحابة المكرمة، والله أعلم بحاله. (ووجه قولنا والشافعي). هذا من حيث النحو لا يصح. لأن فيه عطف الاسم على الضمير المجرور إلا أن يقال: إن قوله: والشافعي "معطوف على المضاف في قولنا، فكان تقديره: ووجه قولنا، ووجه قول الشافعي، ولكن عدول عما يسوق إليه الكلام. (لأن الألفاظ لا تقصر عن المعاني أبدًا). قال الله تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} من بالتعليم، ثم لا قصور في القدرة والتعليم والخلق ولا ضيق أيضًا في المراد، والعموم من المعاني فلابد له من لفظ ليظهر المراد فلا يقصر. (ألا ترى أن من أراد أن يعتق عبيده) إلى آخره، وكذلك السلطان إذا احتاج إلى إركاب الجيش على العموم يقول: ي خيل الله اركبي، ولا يقول يا زيد اركبي، ويا عمرو اركب.

(والاحتجاج بالعموم من السلف متوارث). ألا ترى أن النبي عليه السلام حين دعا أبي بن كعب- رضي الله عنه- وهو في الصلاة- فلم يجبه بين له خطأه فيما صنع بالاستدلال بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} وهذا عام، فلو كان موجبه الوقف كما زعموا لم يكن لاستدلاله عليه به معنى، والصحابة في زمن الصديق- رضي الله عنهم- حين خالفوه ابتداء في قتال مانعي الزكاة استدلوا عليه بقوله عليه السلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»، وهو عام ثم استدل الصديق عليهم بقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فخلوا سبيلهم} فرجعوا

إلى قوله: وهذا عام. وكذلك الله تعالى ألزم عليهم الإتباع لما أنزل إليهم بالأمر العام بقوله {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، والإتباع لفظ خاص في اللغة لمعنى معلوم، وفي المنزل عام وخاص، فيجب بهذا الخاص إتباع جميع المنزل. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- (أنه ينسخ سائر وجوه العدد) نحو العدة بالحيض والأشهر وأبعد الأجلين، فصار نسخًا للخاص الذي في سورة البقرة، وهو قوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ}. وإنما قال لتلك الآية خاصًا؛ لأن المعتدة على نوعين: معتدة بالطلاق ومعتدة بالوفاة، وهذه الآية وهي قوله {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} (يتناولهما) وهي مخصومة بعدة الوفاة، فكانت هي خاصة وهذه الآية

عامة من هذا الطريق، ولكن لتلك الآية عموم من وجه ولهذه الآية خصوص من وجه آخر، لأن تلك الآية عامة تتناول أولات الأحمال وغير أولات الأحمال. (واحتج- رضي الله عنه- في تحريم الجمع بين الأختين) إلى قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، فوجه الدلالة على الحرمة أن الجمع بين الأختين لما حرم نكاحًا، وهو سبب مفض إلى الوطء، فلأن يحرم الجمع بينهما وطئا بملك اليمين وفيه حقيقة الوطء أولى. فإن قلت: بل الإباحة فيه أقوى من التحريم؛ لأن الإباحة ثابتة بالعبارة، والحرمة ثابتة بالدلالة، فالعبارة مع الدلالة إذا تعارضتا كان الرجحان للعبارة لا للدلالة؛ لأن العبارة أقوي من سائرها لما عرف. قلت: نعم كذلك إلا أن الدلالة هنا أقوى من هذه العبارة؛ لأن العبارة هنا وهي قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} عام دخل في الخصوص، فإنه خص منه الأمة المجوسية والمشركة والمزوجة والأخت من الرضاع وأخت المنكوحة،

والعام الذي خص منه البعض أدى من القياس فكيف من الدلالة؟ ثم قال الشافعي: كل عام يحتمل إرادة الخصوص إلا بعض العمومات. ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، لا يحتمل إرادة الخصوص وإرادة الباطن لا يصلح دليلًا؛ لأن كل احتمال لم ينشأ عن دليل لا اعتبار له. والله أعلم. | | |

[باب العام إذا لحقه الخصوص]

[باب العام إذا لحقه الخصوص] (سواء كان المخصوص معلومًا) كما في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} في حق الذمي، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} في حق المستأمن بعد قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (أو مجهولًا) كما في قوله تعالى:

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وكذلك ما دون ثمن المجن مخصوص من آية السرقة وهو مجهول.

(ودلالة صحة هذا المذهب أي مذهبنا إجماع السلف على الاحتجاج بالعموم)، فإن أبا حنيفة- رحمه الله- استدل على فساد البيع بالشر المفسد بما روى عن النبي عليه السلام "أنه نهى عن بيع وشرط" مع أنه مخصوص، فإن كل شرط يوافق مقتضى العقد غير مراد بهذا النص، واحتج أصحابنا جميعا في استحقاق الشفعة بالجوار بقوله عليه السلام: "الجار أحق بصقبة" أي: بقربة مع أنه مخصوص؛ لأن الشريك في نفس المبيع أو في حق المبيع أحق من الجار، واحتج محمد- رحمه الله- في عدم جواز بيع العقار قبل القبض بـ "نهى النبي عليه السلام عن بيع ما لم يقبض" مع أنه مخصوص،

ودلالة أنه مخصوص جواز بيع المهر قبل القبض فيما إذا كان المهر عروضًا أو عقارًا. (وذلك دون خبر الواحد) أي العام الذي خص منه البعض دون خبر الواحد. ألا ترى أن القياس الصحيح يترك بخبر واحد. مثل قوله عليه السلام "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك"، فإن القياس الصحيح هو أن أكل الناسي أن يفسد الصوم، ومع ذلك لا يعمل بموجبه بل يعمل بموجب خبر الواحد، وكذلك تركنا القياس الصحيح في القهقهة في الصلاة في حق الوضوء بخبر الواحد، وهو قوله عليه السلام: "ألا من ضحك منكم قهقهة" الحديث، وكذلك في الحدث الذي سبق في الصلاة في جواز البناء.

ترك القياس الصحيح وعمل بخبر الواحد، ثم لا يترك القياس بالعام الذي خص منع البعض بل يعمل بالقياس. علم بهذا أن العام الذي خص منه البعض أدنى رتبة من خبر الواحد. (لأن الخصوص بمنزلة الاستثناء؛ لأنه يبين أنه لم يدخل تحت الجملة كما في الاستثناء) حيث يتبين بالاستثناء أن الكلام عبارة عما وراءه، ولهذا لا يكون دليل الخصوص إلا مقارنًا. فأما ما يكون طارئًا فهو دليل النسخ لا دليل الخصوص، ثم إذا كان المستثنى مجهولًا يصير ما وراءه مجهولًا بجهالته. كما أن المستثنى إذا تمكن فيه شك يصير وراءه مشكوكًا فيه، حتى إذا قال: مماليكي أحرار إلا سالمًا أو بزيعًا، لم يعتق واحد منهما، وإن كان المستثنى أحدهما؛ لأنه مشكوك فيه، فيثبت حكم الشك فيهما، وإذا صار ما بقى مجهولًا لم يصلح حجة بنفسه، بل يجب الوقف فيه كما في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}.

(لأن دليل الخصوص نص قائم بنفسه فيصح تعليله)؛ لأنه مستبد بصيغته غير مفتقر إلى صدر الكلام، فصار بمنزلة سائر النصوص، والأصل في سائر النصوص التعليل لما أن المراد من التعليل هو أن يكون معقول المعنى، والعقل حجة من حجج الله تعالى كالنص، فكان الأصل في حجج الله تعالى الموافقة لا التناقض، إذ التناقض الحقيقي من أمارات الجهل، والله تعالى عليم لا يجهل وحكيم لا يسفه، فكان التناقض الحقيقي منه محالًا، وإنما قال: لأن دليل الخصوص نص قائم بنفسه «احترازا عن الاستثناء، فإن الاستثناء غير معلول بالاتفاق، فيتخايل أن دليل الخصوص لا يحتمل التعليل لمشابهته الاستثناء في الحكم، وذكر ذلك رفعًا لذلك الخيال. (أن دليل الخصوص إذا كان مجهولًا فعلى ما قلنا) أي في وجه الكرخي أي لا يبقى العام حجة أصلًا؛ لأن دليل الخصوص بمنزلة الاستثناء على ما قلنا أي بقولنا: لأنه يبين أنه لم يدخل تحت الجملة كالاستثناء، فلا يؤثر في الباقي؛ لأن دليل الخصوص لا يتعرض لما وراءه، فيبقى العام فيما وراءه حجة موجبة قطعًا، ولا معنى لما قال الكرخي: إنه محتمل للتعليل؛ لأنه إذا كان بمنزلة الاستثناء لم يحتمل التعليل، فإن المستثنى معدوم على معنى أنه

لم يكن مرادًا من الكلام أصلا، والعدم لا يعلل؛ لأن لتعليل شيء والعدم ليس بشيء، ولا يقوم التعليل إلا بشيء، وعلى هذين القولين يسقط الاحتجاج بآية السرقة؛ لأنه لحقها خصوص مجهول وهو ثمن المجن على ما روى "كانت الأيدي لا تقطع على عهد رسول الله عليه السلام فيما دون ثمن المجن". (سقط بنفسه) أي سقط دليل الخصوص بنفسه (بخلاف الاستثناء؛ لأنه وصف قائم بالأول) بحيث إنه لا يعقل انفكاك الاستثناء من صدر الكلام كما لا يعقل انفكاك الوصف عن الموصوف، ومتى كان الاستثناء وصفًا قائمًا بالأول صار بمنزلة البعض للكل، وقيام الجهالة بالبعض يوجب الجهالة في الكل، فلذلك كانت الجهالة في المستثنى أوجبت الجهالة في

المستثنى منه بخلاف دليل الخصوص، فغنه نص قائم بنفسه غير متصل بالعام اتصال الاستثناء بصدر الكلام، ولهذا يجوز انفكاكه عن العام صيغة وإفادة، فلم يوجب جهالته جهالة ما لم يتصل هو به؛ لأن قيام الصفة بالذات لا يوجب اتصاف ذات آخر بتلك الصفة التي لم تقم هي به. (ودليل ما قلنا: إن دليل الخصوص يشبه الاستثناء بحكمه) وهو أن كل واحد منهما تصرف في النظم ببيان أن بعض الجملة غير مراد بالنظم، ويشبه الناسخ بصيغته من حيث أن كل واحد منهما قائم بنفسه مفيد لحكمه، (فلم يجز إلحاقه بأحدهما بعينه) أعني الناسخ والاستثناء، (بل وجب اعتباره في كل باب) أي في كل نوع إذا كان معلومًا أو مجهولًا، كما هو الأصل في المتردد بين الشيئين يأخذ حظًا معتبرًا من كل واحد منهما، كالفم لما كان ظاهرًا من وجه باطنًا من وجه أخذ من كل واحد منهما، كالفم لما كان ظاهرًا من وجه باطنًا من وجه أخذ من كل واحد منهما حظا فكذلك هاهنا. (فقلنا إذا كان دليل الخصوص مجهولًا أوجب جهالة في الأول بحكمه اعتبارًا يشبه الاستثناء)، فإن المستثني إذا كان مجهولا يصير المستثنى منه.

مجهولًا، فيسقط حكم العموم لجهالته. (وسقط في نفسه بصيغته إذا اعتبر بالناسخ) أي وسقط دليل الخصوص إذا كان مجهولًا اعتبارًا لشبهه بالناسخ إذا لم يكن معلومًا لا يثبت النسخ، فبقى النص الأول موجبًا للحكم قطعًا كما كان، فكذاك دليل الخصوص إذا كان مجهولًا بقى العام موجبًا للحكم كما كان. (فصار الدليل مشتبهًا فلم نبطله بالشك) حتى يكون العام بعد جهالة دليل الخصوص حجة عملًا بشبه الناسخ المجهول، وغير قطعي عملًا بشبه المستثنى للمجهول، فإن المستثنى إذا كان مجهولًا أوجب جهالة في المستثنى منه، فلا يبقى المستثنى منه معلومًا أصلًا، وأحد الشبهين لم يؤثر في العموم والآخر أسقط حكم العموم ومشابهتهما أورثت الشك، فلم نبطل دليل العموم بالشك، والكناية في قوله: "فلم نبطله" جاز أن ينصرف إلى دليل الخصوص وجاز أن ينصرف إلى دليل العموم وهو الأوجه. وكذلك قوله: والدليل "أي ودليل الخصوص أو دليل العموم بيانه أن دليل الخصوص لما كان ساقطًا لاعتباره بالناسخ ومعتبرًا لاعتباره بالاستثناء صار هو مشتبهًا فلم نبطله بالشك، فقلنا بسقوطه من وجه دون وجه، فلذلك بقا العام موجبًا للعمل دون العلم، وكذلك العام يسقط من وجه لاعتبار شبه دليل الخصوص بالاستثناء ولم يسقط لاعتبار شبه دليل

الخصوص بالناسخ، فصار دليل العموم مشتبهًا، فلم نبطله بالشك، ولكن انصرافها إلى العام أولى، لأن الكلام وقع فيه، لأن قولنا: " فلم نبطله بالشك "إنما وقع بمقابلة قول الكرخي إنه لا يبقى حجة أصلًا أي إن العام الذي لحقه بالخصوص لا يبقى حجة أصلًا، وكذلك قول غيره، فكذلك قولنا: "فصار الدليل مشتبهًا فلم نبطله بالشك" إنما يكون في العام الذي لحقه الخصوص لا في دليل الخصوص. (وكذلك إذا كان المخصوص معلومًا، لأنه يحتمل أن يكون معلومًا، وعلى احتمال التعليل يصير مخصوصًا من الجملة) يعني يصير ما وراء الثابت بالنص الخاص مخصوصًا أيضًا بالتعليل، ولا يدري أن القدر صار مخصوصًا؟ فأشبه دليل الخصوص إذا كان مجهولا، فتذكر هاهنا السؤال المعروف الجاري على ألسنة العلماء وأندية الفقهاء وهو: أن دليل التخصيص لما شابه الناسخ والاستثناء وجب أن لا يقبل التعليل كما أنهما لا يقبلانه. والجواب فيه على وجه الاختصار هو أن الناسخ والاستثناء إنما لا يقبلان التعليل لمعنى اختص بهما، وهو أن الناسخ ورد على معارضة النص المنسوخ وخالفته، والتعليل فرع النص، فلو قلنا بجواز تعليل الناسخ لقلنا بكون جواز التعليل معارضًا للنص وهو لا يصح، وفي الاستثناء كون المستثنى معدومًا في التقدير، والتعليل سيء موجود فلا يقوم إلا بشيء موجود وليس

في دليل التخصيص هذان المانعان. بل فيه جهة الاستبداد والبيان، وهما لا يمنعان التعليل فيعلل هو وإن كان الناسخ والمستثنى لا يعللان. (كأنه لا يدخل لا على سبيل المعارضة للنص) أي للنص العام، وبهذا الذي ذكر احترز عن الناسخ، فإنه على سبيل المعرضة للمنسوخ. وأما دليل الخصوص فلم يعارض النص العام فلم يمتنع عن التعليل؛ لأن العلة فرع النص، والنص المخصص لبيان أن المخصوص لم يدخل في العام، فكذلك العلة بيان لذلك (فوجب العمل بالتعليل) لخلوه عن معارضة النص (فيصير قدر ما يتناوله لنص العام مجهولا. هذا على اعتبار صيغة النص) أي أن احتمال التعليل باعتبار صيغة النص. فأما الاعتبار بالحكم فلا يوجب هذا الاحتمال؛ لأنه من حيث الحكم يشبه الاستثناء؛ لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا، فلم يكن صدر الكلام موجبا مقدار المستثني، والتعليل إنما يجري لإثبات الحكم، والمستثني معدوم تقديرًا بالعدم الأصلي. (والعدم لا يعلل)؛ لأن كوم المذكور معلولًا يستدعي سابقة العلة ليثبت الحكم به، وهذا لا يتصور في العدم؛ لأن العدم أصل فاعتبار دليل الخصوص بالاستثناء لم يوجب شبهة في صدر الكلام؛ لأنه لما لم يعلل دليل الخصوص.

باعتبار شبهه بالاستثناء من حيث الحكم بقي صدر الكلام موجبًا قطعًا كما كان، واعتباره بالصيغة يوجب جهالة في الأصل على ما ذكرنا، فوفرنا للشبهين حظهما فقلنا: يبقى موجبًا للعمل لشبهه بالاستثناء، ولم يبق موجبًا قطعًا لشبهه بالناسخ. وهو معنى ما قال في الكتاب: (فدخلت الشبهة وقد عرف موجبًا فلا يبطل بالاحتمال). (وهذا بخلاف الناسخ إذا ورد معلومًا في بعض ما تناوله النص، فإن الحكم فيما بقي لا يتغير لاحتمال التعليل) وقوله: لاحتمال التعليل "ليس بدليل لقوله: لا يتغير" لأنه لا يناسب للمدعى؛ لأن احتمال التعليل يوجب التغير فلا يصلح أن يكون دليلًا لعدم التغير، بل المراد أن احتمال التعليل في النسخ لا يوجب التغير فيما بقي؛ لأن العلة لو صحت هاهنا لكانت معارضة للنص العام، وشرط صحة التعليل أن لا يكون معارضًا للنص، فلم يصح التعليل للناسخ لهذا المعنى، فألحق بما لا يحتمل التعليل أصلًا، فلم يتغير ما بقي عما كان عليه، وهو كونه موجبًا قطعيًا فبقي موجبًا قطعيًا كما كان ولا

كذلك دليل الخصوص، فإنه لبيان أن المخصوص لم يدخل تحت الجملة فلا تصير العلة معارضة للنص على ما ذكرنا فلابد من اعتبار التعليل، فحينئذ يوجب شبهة فيما بقي فلم يبق النص العام قطعيا لذلك؛ لأن الناسخ إنما يعمل على طريق المعارضة؛ لأن الناسخ إنما يرد بعد ثبوت النص المنسوخ فكان النص الناسخ معارضًا. وأما دليل التخصيص فإنما يرد مقارنا للنص العام عند عامة العلماء، فلا يقع إلا مبينًا بأن قدر المخصوص غير داخل تحت العام من الأصل كالاستثناء. تبين أن قدر المستثني غير داخل تحت المستثني منه من الأصل؛ لوروده مقارنًا وهو بمعزل من المعارضة، وقولنا: عند عامة العلماء "احتراز عن قول الإمام أبي منصور- رحمة الله- فإنه لا يشترط المقارنة لورود دليل التخصيص. كذا ذكر في "تبصير الأدلة" في بيان الوعد والوعيد. (فصار الدليل مشكوكًا) أي العام الذي ص منه البعض صار مشكوكًا. (أن البيع إذا أضيف إلى حر وعبد بثمن واحد إلى قوله: فهو باطل).

هذا بالاتفاق. وأما إذا سمى لكل واحد منهما ثمنا بأن قال: اشتريتهما بألف كل واحد منهما بخمسمائة، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة- رحمه الله- وعندهما العقد جائز في العبد بما سمى بمقابلته؛ لأن أحدهما منفصل عن الآخر في البيع ابتداءً وبقاءً، فوجود المفسد في أحدهما لا يؤثر في العقد على الآخر؛ لأن تأثيره في العقد على الآخر إما باعتبار التبعية وأحدهما ليس بتبع للآخر، أو باعتبار أنهما كشيء واحد وليس كذلك، وكل منهما منفصل عن الآخر في العقد. ألا ترى أنه لو هلك أحدهما قبل القبض بقى العقد في الآخر، وذلك فيما إذا كان واحد منهما عبدا ويؤذن ذلك. في هذا انفصال أحدهما عن الآخر. وأبو حنيفة- رحمه الله- يقول: البائع لما جمع بينهما في الإيجاب وقد شرط في قبول العقد في كل واحد منهما قبول العقد في الآخر؛ بدليل أن المشتري لا يلك العقد في أحدهما دون الآخر، واشتراط قبول العقد في الحر في بيع العبد شرط فاسد، والبيع يبطل بالشرط الفاسد، فصارت هذه الجملة نظير الاستثناء؛ لأنه يجعل في الاستثناء عبارة عما وراء المستثنى حكمًا، فكذلك هاهنا جعلت إضافة البيع إليهما عبارة عن إضافته إلى العبد

ابتداء؛ لأن الحر ومن في معناه غير داخل في العقد أصلا؛ لأن دخول الشيء في العقد بصفة المالية والتقوم، وذلك لا يوجد في الحر ومن في معناه، فلو جاز العقد في العبد إنما يجوز بالحصة، والبيع بالحصة لا ينعقد ابتداء على الصحة لمعنى الجهالة كما لو قال: اشتريت منك هذا العبد بما يحصه من الألف إذا قسم على قيمته، وقيمة هذا العبد الآخر، فإنه لا يجوز لجهالة الثمن كذا هاهنا. كذا في "المبسوط". (وإذا باع عبدين فمات أحدهما قبل التسليم) إلى آخره. يبقى العقد صحيحًا في الآخر؛ لأن العقد تناولهما باعتبار قيام صفة المالية والتقويم فيهما، وهو المعتبر في المحل لتناول العقد إياه، ثم خرج أحدهما لصيانة حق مستحق إما للعبد في نفسه أو للغير فيه أو لتعذر التسليم بهلاكه، فيبقى العقد في الآخر صحيحًا بحصته، والبيع بالحصة بقاء لا يفسد البيع، وكذلك إذا كان أحدهما أم الولد وهذا الذي ذكرنا مذهبنا، وقال زفر- رحمه الله- لا يجوز لما إذا كان أحدهما حرًا. كذا في "المبسوط".

وقوله: (يدخلان في البيع). والدليل على الدخول ما ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في "المبسوط" بقوله: لأن دخول الآدمي في العقد باعتبار الرق والتقوم وذلك موجود في المدبر والمكاتب، ثم استحق أحدهما نفسه فكان بمنزلة ما لو استحقه غيره بأن باع عبدين فاستحق أحدهما، وهناك البيع جائز في الآخر سواء سمي لكل واحد منهما ثمنا أو لم يسم. يوضحه أن البيع في المدبر ليس بفاسد على الإطلاق بدليل جواز بيع المدبر من نفسه، فإنه إذا باع نفس المدبر من نفسه يجوز. بدليل أن القاضي إذا قضي بجواز بيع المدبر ينفذ قضاؤه، وكذلك المكاتب فإن بيعه من نفسه جائز ولو باعه من غيره برضاه جاز في أصح الروايتين، وكذلك بيع أم الولد من نفسها جائز، ولو قضى القاضي بجواز بيع أم الولد نفذ قضاؤه عند أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله-. (فصار هذا من قسم دليل النسخ) حيث وقع الحكم الثابت في مقدار ما يتناوله التص الذي هو ناسخ بعد الثبوت ويبقى ما وراء ذلك من حكم العام على ما كان قبل ورود الناسخ.

(في رجل باع عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما)، والمسائل على أربعة أوجه: أحدها- أن لا يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن. الثاني- أن يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن. والثالث- أن لا يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن. والرابع- أن يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، والكل فاسد إلا الوجه الأخير. (فصار في السبب نظير دليل النسخ وفي الحكم نظير الاستثناء)، وهذا لأن شرط الخيار لا يدخل في أصل السبب، وإنما يدخل على الحكم، فيجب اعتباره في كل جانب بنظيره، حتى إن باعتبار السبب إذا سقط الخيار استحق المشتري المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة وباعتبار الحكم إذا أعتق المشتري والخيار مشروط البائع، ثم سقط الخيار لم ينعقد العتق. كذا ذكره شمس الأئمة- رحمه الله- في "أصول الفقه" وهذا لأن خيار الشرط يشبه الناسخ ويشبه الاستثناء. أما أنه يشبه الناسخ على معنى أن الخيار لا يمنع دخولهما تحت الإيجاب،

ويشبه الاستثناء على معنى أن الخيار يمنع انعقاد العقد في حق الحكم فلشبهة بالناسخ إذا عين وبين يجوز. بخلاف الحر والميتة، فإنه لا يدخل تحت الإيجاب عين أو لم يعين ولشبهة بالاستثناء إذا لم يعين ولم يبين لا يجوز. وقوله: (بمنزلة الحر والعبد) متصل بقوله: وفي الحكم نظير الاستثناء أي أن شرط الخيار في البيع يمنع السبب في حق الحكم، ويصير كأن البيع لم يوجد في حق الحكم بمنزلة المستثنى، فإنه غير داخل في الإيجاب كما إذا جمع بين حر وعبد في البيع ولم يفصل الثمن لم يدخل العبد أيضًا في الإيجاب كما أن المستثنى لم يدخل في الإيجاب. (بخلاف الحر والعبد وما شاكل ذلك في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه-) إذا جمع بين الحر والعبد في البيع، وفصل الثمن لم ينعقد العقد في العبد صحيحًا عند أبي حنيفة- رحمه الله- خلافًا لهما؛ لأن اشتراط قبول العقد في الحر شرط فاسد، وقد جعله مشروطًا في قبول العقد في القن حين جمع بينهما في الإيجاب، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة. فأما اشتراط قبول العقد في الذي فيه الخيار لا يكون شرطًا فاسدًا، لأن

البيع بشرط الخيار منعقد صحيحًا من حيث السبب، فكان العقد في الآخر لازمًا كما إذا جمع بين قن ومدبر في البيع كان العقد في القن لازمًا، فكان في هذا المجموع الذي ذكر نظير الاستثناء والنسخ دليل الخصوص، فنظير الاستثناء ما إذا جمع بين حر وعبد في البيع وأمثاله. ونظير النسخ ما إذا جمع بين عبد ومدبر في البيع وأنواعه. ونظير دليل الخصوص مسألة من باع عبدًا بشرط الخيار، والله أعلم. | | |

باب ألفاظ العموم

باب ألفاظ العموم لما ذكر بيان أحكام العموم وما يختلف من أحكامه قبل الخصوص وبعده احتاج إلى ذكر الألفاظ التي يحصل بها العموم، فتقديم الأحكام بسبب أن الأحكام هي المقصودة، وكونها مقصودة جهة في التقديم. (فهو صيغة كل جمع مثل الرجال والنساء) أي بغي الألف واللام بأن قيل: رجال ونساء. (أما صيغته فموضوعة للجمع)؛ لأن واضع اللغة وضع هذه الصيغة للجماعة، وقال: رجل ورجلان ورجال، وامرأة وامرأتان ونساء، وهو عام بمعناه أيضًا؛ لأنه شامل لكل ما يتناوله عند الإطلاق، وأدنى ما ينطلق عليه هذا اللفظ ثلاثة؛ لأن (أدنى الجمع) الصحيح (ثلاثة نص عليه محمد-

رحمه الله- في "السير الكبير" في الأنفال ويرها)، ومن قال: لفلان علي دراهم يلزمه الثلاثة والمرأة إذا اختلعت من زوجها بما في يدها من دراهم، فإذا ليس في يدها شيء تلزمها ثلاثة دراهم. (والكلمة عامة لكل قسم يتناوله) أي كلمة العموم تعم ما تتناوله صيغة العموم مثل: كلمة العبيد عام في العباد، والنساء في الإناث

ليستقيم تعريفه. (لأن كل جنس معهود فكان فيه عمل بالوصفين) أي وصف الجنس ووصف الجمع. بيان ذلك أن معنى الجمع مراعى في الجنس من وجه ولا يراعى معنى الجنس في الجمع أصلًا، وذلك لأن الجنس إذا أريد به الكل كان معنى الجمع فيه موجودًا في الجمع أصلًا، وذلك لأن الجنس إذا أريد به الكل كان معنى الجمع فيه موجودًا وهو الثلاث فصاعدًا، فعلى هذا التقدير كان معنى الجمع في الجنس مراعى في كل وجه. وأما إذا أريد به الجمع فليس فيه معنى الجنس أصلًا؛ لأن الجنس ما يتناول الواحد ويحتمل الكل، وهذا معنى غير موجود في الجمع، فإنه لا يكون الواحد فيه مرادًا أصلًا، فلا يكون معنى الجنس على هذا التقدير موجودًا أصلًا، ولم يوجد أيضًا إذا أطلق الجمع على الثلاث لا غير. فعلم بهذا أن معنى الجنسية في الجمع فائت على تقديرين أي على تقدير إرادة الثلاث فصاعدًا من الجمع على تقدير الثلاث منه لا غير. وأما معنى الجمع. فمراد من كل وجه من الجنس إذا أريد به الجنس الأعلى، فاتضح الفرق فيهما فكان الحمل على الجنس أولى عند تعارض مقتضيهما.

وأما في قول المرأة لزوجها: خالعني على ما في يدي من الدراهم وليس في يدها شيء حيث يلزمها ثلاثة دراهم؛ فلأن الجمع المحلى بالألف واللام التي هي للجنس كان يجب أن يراعى الجمعية على تقدير إرادة الكل به، وذلك غير ممكن؛ لاستحالة كون الدراهم أجمع في يدها، وإذا انعدم المعنى الموجب لاعتبار الجنسية اعتبرنا جانب الصيغة وهو الجمع، وقد ذكرنا ما هو أريد من هذا في هذه المسألة في "النهاية".

(فإن آدم عليه السلام وحده كان كل الجنس)، وكذلك (حواء- رضي الله عنها) - وحين لم يكن غيرهما كان اسم الجنس حقيقة لكل واحد منهما، فبكثرة الجنس لا تتغير تلك الحقيقة، وكما كان اسم الجمع واقعًا على الثلاثة فصاعدًا كان اسم الجنس واقعًا على الواحد فصاعدًا، فعند الإطلاق ينصرف إليه إلا أن يكون المراد الجمع، فحينئذ لا يحنث فقط ويدين في القضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه بخلاف ما إذا نوى التخصيص في صيغة العام، فإنه لا يدين في القضاء، فتذكر هاهنا ما ذكرنا من ورود الشبهة على هذا الأصل في مسألة الكوز قبل هذا في باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار.

(مثل الرهط والقوم). ذكر في "الصحاح" والرهط ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} والقوم: الرجال دون النساء؛ لأنه لا واحد له من لفظه، وجمع القوم أقوام، وجمع الجمع أقاوم (ولما كان فردًا بصيغته جمعًا بمعناه كان اسمًا للثلاثة فصاعدًا) أي لما كان كل واحد من رهط وقوم فردا بصيغته. فإن قيل: لما كان اللفظ مفردًا والمعنى جمعًا كان كالطائفة حيث اجتمعت فيها علامتا فرد وجماعة، فإن الطائف في أصله اسم فاعل على صيغة الفرد، وفيها علامة الجماعة وهي التاء، فلذلك صارت متناولة للواحد فصاعدا فيجب أن يكون الرهط كذلك، بأن يكون متناولًا للواحد فصاعدًا. قلت: الفرق بينهما ظاهرًا؛ لأن الرهط والقوم من حيث الصيغة كقلب وكلب على صيغة الأسماء المفردة، ومع ذلك هما موضوعان لمعنى الجمع ولم يوضعا فيما دون الثلاثة كالركب والصحب والإبل والغنم، وكان عدم

استعمالهما لما دون الثلاثة بوضع الواضع. وأما الطائفة فهي نعت فرد بحسب الاشتقاق. يقال: امرأة طائفة. إلا أنهما لما استعملت للجماعة أول تأنيثها بتأويل الجماعة، فلذلك اعتبر فيها حقيقة الفردية والاستعمال للجماعة. ({فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}) أي فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير؛ لأنه نعت فرد صار جنسا بعلامة الجماعة، فإن التاء فيها لعلامة الجماعة كالمعتزلة والكرامية؛ لأن الطائفة في أصلها نعت للمرأة الواحدة من طاف يطوف، لكن هي غير مرادة بالإجماع، فتعين الآخر وهو أن تكون التاء لسبب النعت الجماعة، فكانت للجنس بهذا الطريق؛ لأنه اجتمع فيها دليلان. والأصل في الأدلة الجمع عند التعارض، فحملناها على الجنس ليكون عملا بهما؛ لأن الجنس يتناول الفرد مع احتمال الكل، والمراد من الجنس نفس الماهية واحدة في الذهن، وإنما تكثر في الخارج بكثرة أفراده، ولكل فرد من أفراده صلاحية أن يكون كل الجنس، وهو المعني من قولهم: الجنس يقع

على الواحد على أنه كل الجنس. [من] (ومن ذلك) أي ومن الذي هو عام بمعناه دون صيغة كلمة من، فإنها كلمة مبهمة عبارة عن ذات من يعقل (وهي تحتمل العموم والخصوص)، والنظير الواضح لها فيه قوله تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} في بعض ضمائرها ذكر بلفظ الفرد وفي بعضها بلفظ الجمع. (فشاؤوا جميعًا عتقوا)؛ لأن كلمة من تقتضي العموم، وإنما أضاف المشيئة إلى من دخل تحت كلمة من فتعمم بعمومه.

(فصار الأمر متناولًا بعضًا عامًا، فإذا قصر أي الأمر بالإعتاق عن الكل بواحد كان عملا بهما). فإن قيل: إن قوله: عبيدي جمع فيتناول الثلاث لما عرف، فينبغي أن يعتق بعض الثلاث عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- وعندهما أن يعتق الثلاث لما أن الجمع يصرف إلى الثلاث لما مر في قوله: "إن اشتريت عبيدًا فعليه كذا" أن ذلك يقع على الثلاث. قلنا: الجمع إنما يتناول الثلاث فيما ذكرت من الصورة وأمثالها؛ لأنه متيقن وما وراءه غير متناه وغير معلوم ولم يدل الدليل على ما وراءه. وأما هاهنا فدل الدليل على ما وراء الثلاث وهو إضافة العبيد إلى نفسه، فكان مجموع العبيد معلوم العدد بسبب الإضافة إلى نفسه، فلما علم مجموع العبيد صرف كلامه إليه لا إلى الثلاث؛ لأن ذلك كان للضرورة وليس هاهنا ضرورة في الصرف إلى الثلاث. فإن قلت: ما جواب أبي حنيفة- رحمه الله- عن الآيتين اللتين وردتا على وفاق صورة المسألة، وهما شهدتا لصحة قولهما، وهو قوله تعالى: {فَاذَنْ

لِمَنْ شئتَ مِنْهُمْ} وقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}، فإضافة المشيئة إلى الخاص في هاتين الآيتين لم تغير العموم الثابت بكلمة من؟ قلت: قال هو- رحمة الله- وإنما رجحنا معنى العموم فيهما بالقرينة المذكورة فيهما، وهي قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} وقال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ}. (وكذلك قوله: من شاء من عبيدي عتقه فهو حر). يعني لا يلزم على المسألة المتقدمة وهي قوله: من شيءت من عبيدي عتقه فأعتقه"، وإن كان المولى جمع بين من ومن في الصورتين، ومع ذلك عمل في المسألة المتقدمة بكلمتي العموم والخصوص، وفي هذه المسألة لم يعمل بكلمة الخصوص، فأجاب عنه بقوله: (إلا أنه أي إلا أن ذلك البعض موصوف بصفة عامة وهي المشيئة، فسقط بها أي بسبب الصفة العامة الخصوص) أي التبعيض. فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يعم الكل في قوله: من شيءت عتقه" أيضًا؛

لأن محلية العتق عام، فإن العبيد هناك كانوا موصوفين بكونهم شائين العتق، وهاهنا أيضًا كانوا موصوفين بكونهم مشيئين للعتق. قلنا: نعم كذلك إلا أن الاعتبار في الصفة جهة الفاعل لا جهة المفعول والمشيئة في قوله: أعتق من عبيدي من شيءت عتقه" خاصة باعتبار الشائي وهو المخاطب، وإن كانت عامة باعتبار المفعول لما أن الاعتبار للفاعل. وحاصله أن كلمة من للبيان عندهما وللتبعيض عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- وهذا الأصل لم يفترق في الصورتين أي صورة قوله: من شاء من عبيدي عتقه"، وصورة قوله: من شيءت من عبيدي عتقه"، إلا أن المخالفة بينهما من حيث الحكم إنما جاءت من شيء آخر، وهو أن البعض في قوله: من شاء من عبيدي" وصف بصفة عامة وهي المشيئة فعمت، وهذا لا يدل على أن كلمة من فيه للبيان. ألا ترى أن من قال لآخر: أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوا جميعًا عتقوا.

ولو قال: أي عبيدي ضربته فهو حر، فضربهم لم يعتق إلا واحد منهم. لما أن في الأول أن النكرة وهي أي وصفت بصفة عامة فتعممت، وهذا لا يل على أن النكرة عامة في جميع الصور. وأما في الثاني فقد وصف المخاطب بالضرب فبقيت النكرة وهي أي متعرية عن الصوف العام فلم تتعمم، فكذلك هاهنا أضاف المشيئة في قوله: "شيءت" إلى المخاطب، فبقي الأول بعضًا عامًا متعريًا عن دليل يوجب العموم، ولا كذلك من شاء من عبيدي عتقه على ما ذكرنا. (وهذه الكلمة أي كلمة من تحتمل الخصوص أي تحتمل أن يراد به الفرد المحض؛ لأنها وضعت مبهمة أي وضعت كلمة من صالحة لإرادة العموم والخصوص، فإنها تذكر ويراد بها العموم وتذكر ويراد بها الخصوص. (فلما قرنه بهذه الكلمة) أي فلما قرن الأول بكلمة من حملت كلمة من على الخصوص؛ لأن كلمة من تحتمل العموم والخصوص، وكلمة "الأول" محكمة في الخصوص؛ لأن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه غيره، فلما قرن بينهما حمل المحتمل على المحكم، وكان هذا بمنزلة من قال: لفلان علي ألف

درهم وديعة تكون وديعة لما أن كلمة الإيجاب وهي علي تحتمل إيجاب الحفظ بكون المال وديعة عنده، وتحتمل إيجاب المال في ذمته بسبب الدين، وقوله: "وديعة" محكم في الإيداع، فحمل المحتمل على المحكم، فكذلك هاهنا. ولما ترجح معنى الخصوص فيها لم يستحق النفل إلا واحد دخل سابقًا على الجماعة، فنظير كلمة من في هذه الوجوه كلمة ما على ما يجيء بعد هذا. [كل] (وقسم آخر) أي وقسم آخر من ألفاظ العموم التي هي عام بمعناها دون صيغتها. (وهذا معنى أي معنى الانفراد على وجه أن يعتبر كل مسمى منفردا ليس معه غيره) إنما يثبت في حق المضاف إليه الذي أضيف إليه كل، وهو نفس في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، وامرأة في قول الرجل: كل امرأة يتزوجها؛ لأن كلًا من النفس والمرأة ذكرتا نكرة في موضع الإثبات، فكان الانفراد هو المراد لذلك، ومعنى الإحاطة إنما جاء من لفظ كل، فلذلك كان معناه أن يحيط كل ما يتناوله على سبيل الانفراد.

وقوله: (كأنها صلة) أي كأن كلمة كل صلة للذي أضيف هي إليه، وهو نفس وامرأة فيما ذكرنا من النظير، وإنما شبهها بالصلة؛ لأن الصلة لا تستعمل بدون الموصول كذلك كلمة كل لا تستعمل بدون ما أضيفت هي إليه إما لفظًا أو تقديرًا، وإنما ذكر هذا لبيان أن المقصود هو المضاف إليه فيه، والمضاف إليه فيما ذكر من النظير نكرة ذكرت في موضع الإثبات، فكانت خاصة، فلذلك اعتبر كل مسمى منفردًا كأن ليس معه غيره. (وهي تحتمل الخصوص أيضًا مثل كلمة من) على ما ذكر بعد هذا بقوله: ولو دخل العشرة فرادى في كلمة كل كان النفل للأول لا غير؛ لأنه هو الأول من كل وجه. (وإذا دخلت على النكرة أوجبت العموم) أي عموم الأفراد، وإنما قيد بقوله: وإذا دخلت على النكرة "احترازا عما لو دخلت على المعرفة، فإنها توجب عموم الأجزاء حينئذ. كما في لفظ "المنظومة" مستودع كل المراد ولم يقل كل مراد لما أنه لم يرد به كل فرد من أفراد المراد؛ لأن المرادات جمة، وهو ليس بجامع للجميع، بل أراد أنه جامع كل جزء من أجزاء المراد من نوع

المسائل الخلافية. وعن هذا قالوا: كل رمان مأكول صادق، وكل الرمان مأكول ليس بصادق؛ لأن قشوره غير مأكولة. (فإذا وصلت أوجبت عموم الأفعال)، ولكن يقتضي عموم الأفعال عموم الأسماء لا على القلب، فوجه الفرق هو أن الفعل لا يتصور بدون الاسم حتى إن التزوج لا يتصور بدون المرأة، فلذلك جاء من ضرورة عموم الأفعال عموم الأسماء، فلذلك حنث كل عند تزوج في قوله: كلما تزوجت امرأة سواء كان تكرار التزوج على المرأة الأولى أو على غيرها. بخلاف ما لو قال: كل امرأة أتزوجها؛ لأن من عموم النساء لا يلزم عموم التزوج، إلا أنها عند العموم تخالفها في إيجاب الإفراد أي أن كلمة كل تخالف كلمة من في اقتضاء العموم، وكلمة كل توجب الإحاطة على سبيل الانفراد، على وجه أن يكون مع كل واحد مما دخلت هي عليه كأن ليس معه غيره ولا كذلك إفراد كلمة من، بل ذلك يوجب هي الاجتماع ولا يوجب الانفراد.

ويظهر ذلك في مسألة ("السير الكبير" التي ذكرها محمد) - رحمه الله- على ما ذكر في الكتاب، وهو قوله: (من دخل منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا، فدخل جماعة بطل النفل، ولو قال: كل من دخل منكم هذا الحصن أولا، فدخل عشرة معا وجب لكل رجل منهم النفل كاملا على حياله). وذكر الإمام قاضي خان في "الجامع الكبير" فقال: إذا قال الرجل: كل امرأة لي تدخل الدار فهي طالق، وله أربع نسوة فدخلت واحدة فطلقت؛ لأن كلمة كل تتناول كل واحدة على سبيل الانفراد، وبخلاف ما لو قال: إذا دخلتن الدار فأنتن طوالق. لا يقع م لم تدخل الكل. لأن لفظ الجمع لا تناول الفرد في حق من تخلف من الناس، وهم الذين لم يدخلوا.

(ولو دخل العشرة فرادى) يعني لو دخل العشرة على التعاقب كان النفل الأول خاصة في الفصلين؛ لاحتمال الخصوص في كلمة كل. [الجميع] (فصارت بهذا المعنى) أي بصفة معنى الاجتماع (مخالفة للقسمين الأولين)، وهما: كلمة كل وكلمة من، وذلك لأن كلمة للإحاطة على سبيل الانفراد على التفصيل الذي ذكرنا، وكلمة من توجب العموم من غير أن تتعرض لصفة الاجتماع ولا لصفة الانفراد، فعلى أي وجه وجد وجب اعتباره وهو معنى ما ذكر في كلمة من وجب اعتبار جماعتهم؛ لأنها وجدت كذلك لا أن كلمة من توجبه، وكلمة الجميع تخالفهما في هذا؛ لأنها متعرضة لصفة الاجتماع، فصار كلمة من عامة مطلقة، وكلمة الجميع عامة مقيدة بصفة الاجتماع وكذلك كلمة كل عامة مقيدة، لكن بصفة الانفراد على مضادة قيد الجميع.

(أن لهم نفلًا واحدا بينهم جميعًا)؛ لأن لفظ الجميع للإحاطة على وجه الاجتماع وهم سابقون بالدخول على سائر الناس. (لأن الجميع يحتمل أن يستعار لمعنى الكل)؛ لأن كل واحد منهما عام، فيستعار هذا لذلك لمعنى يجمعهما وهو العموم عند تعذر موجب حقيقته، فإذا دخلوا فرادى لم يوجد موجب الجميع وهو الاجتماع، وقد دل الدليل على الاستعارة؛ لأن الحال حال التشجيع وهذا في واحد أقوى؛ لأن المراد الترغيب في دخول الحصن، ومعنى الشجاعة والجرأة من واحد أقوى عند الإرادة. فإن قيل: لم لا يجوز أن يستعار من لمعنى الكل فيما إذا قال: من دخل

منكم هذا الحصن أولا فله من النفل كذا، فدخل عشرة حتى يستحق كل واحد منهم نفلًا كاملًا كما في كلمة كل. كما استعير كلمة الجميع لمعنى الكل حين دخلوا فرادى كان النفل للأول في مسألة الجميع استعارة لها لمعنى كل؟ قلنا: لا يصح ذلك لما ذكرنا أن كلمة من تحتمل الخصوص وقد قرن بها الأول وهو محكم في الفرد السابق، فصار المراد به فردًا سابقًا على الحقيقة كما لو قال: إن دخل فلان الحصن أولًا فله من النفل كذا، فدخل معه غيره لم يستحق النفل لانتفاء صفة الأولية، فكذلك هاهنا الشرط دخول رجل واحد سابق لا يشاركه غيره في الدخول حقيقة، فلم يجز استعارته لذلك بخلاف الجميع والكل؛ لأنه يجوز أن يذكر العام ويراد به الخاص. وأما استعارة الجميع لمعنى الكل حين دخلوا فرادى كان النفل للأول كما في مسألة كل فحقق ما ذكرنا بأن الأول محكم في الفرد السابق وقد قرن بالجميع، فكان ترجيح جانب المحكم أولى. [الذي] (وكذلك كلمة الذي في مسائل أصحابنا)؛ فإنها مبهمة مستعملة فيما يعقل وفيما لا يعقل، وفيها معنى العموم حتى إذا قال المولى لأمته: إن كان الذي في بطنك غلامًا كان بمنزلة قوله: إن كان ما في بطنك غلاما. [ما] (وهذه في احتمال الخصوص) أي كلمة ما.

(لما قلنا في الفصل الأول) أي في قوله: من شيءت من عبيدي عتقه فأعتقه. (ويجوز أن يستعار كلمة ما لمعنى كلمة من) كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} كما يستعار كلمة من لمعنى كلمة ما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} وهو الأصنام، وإنما أوثرت كلمة ما على كلمة من في قوله: {وَمَا بَنَاهَا} لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها، وفي كلامهم: سبحان ما سخركن لنا. وأما استعارة كلمة من لمعنى كلمة ما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} مع إرادة الأصنام من قوله: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}، فلأنه ذكر فعل الخلق وهو صفة من يعلم، فإن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها وأجروها مجرى أولي العلم، ذكرها الله تعالى على حسب اعتقادهم". وبكلمة من في قوله: {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} أو ذكرت كلمة من في قوله:

{كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} لمشاكلة {أَفَمَنْ يَخْلُقُ} كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية. إلى هذا أشار في "التيسير"، و"الكشاف". (وهذه كلمات موضوعة غير معلولة) أي لم يقل إنها موضوعة لهذه المعاني بسبب هذه العلة بخلاف المسلمين والكافرين وسائر الكلمات المشتقة من ألفاظ العموم، فإنها موضوعة على معانيها باعتبار عللها وهي قيام الإسلام والكفر. وقوله: "هذه" إشارة إلى الكلمات المذكورة من قوله: وأما العام الذي بمعناه دون صياغته مثل: الرهط، والقوم، والطائفة، ومن، وكل، والجميع، وما، والذي، فإن هذه الكلمات موضوعة لما ذكرها من موضوعاتها الحقيقية، وليست هي بموضوعة لما وضعت باعتبار العلة، فلذلك لم يقس

الرهط على الطائفة حتى يطلق على الواحد وما فوقه كما هو حقيقة الطائفة، وكذلك لم يجز قياس كلمة من على كلمة كل في مسألة من دخل منكم هذا الحصن أولًا، فدخل جماعة حتى يستحق كل واحد منهم نفلًا كاملًا كما يستحقه في مسألة كل. وأما ما ورد من استعارة بعض الكلمات لبعضها، فلم يكن ذلك باعتبار أنها معلولة بعلة، ثم وجد تلك العلة في كلمة أخرى، فاستعرت هي لها باعتبار وجود بعض أوصاف كلمة في كلمة أخرى. كما استعير لفظ الأسد للرجل الشجاع؛ لوجود بعض صفة الأسد في الرجل الشجاع وهو الشجاعة لا أن الأسد إنما سمي أسدًا لأنه شجاع. أن النكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص. قيل: هذا الذي ذكره في الإثبات فيما إذا كانت تلك النكرة اسمًا غير مصدر، فيحتمل العموم حتى وصف هو بالكثرة في قوله تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}. وكذلك لو قال رجل لامرأته: أنت طالق طلاقًا، ونوى به الثلاث يصح.

(وذلك ضروري لا للمعنى في صيغة الاسم) أي كون النكرة في موضع النفي للعموم لا لدلالة العموم في صيغته مثل صيغة الجمع ومثل الألف واللام التي هي للجنس، ولكن كان ذلك لضرورة الكلام ومقتضاه. ولذلك وقع الفرق بين وقوع النكرة في الإثبات ووقوعها في النفي؛ لأن في موضع الإثبات المقصود إثبات المنكر، وفي موضع النفي المقصود نفي المنكر، فالصيغة في الموضوعين تعمل فيما هو المقصود، إلا أن من ضرورة نفي رؤية رجل منكر في قوله: ما رأيت رجلا نفي رؤية جنس الرجال، فإنه بعد رؤية رجل واحد لو قال: ما رأيت رجلا كان كاذبًا. ألا ترى أنه لو أخبر بضده، فقال: رأيت اليوم رجلًا كان صادقًا، وليس من ضرورة إثبات رؤية رجل واحد إثبات رؤية غيره، فهذا معنى قولنا: النكرة في النفي تعم وفي الإثبات تخص.

(لا يحتمل التعريف بعينه لمعنى العهد) أي في موضع لا يراد به معين. مثل قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} والواو في قوله: {وَالزَّانِيَةُ} للعطف، فكان من حقها أن يلفظ بقطع الهمزة. (ومثاله قول علمائنا: المرأة التي أتزوجها طالق) تطلق كل امرأة يتزوجها. ولو قال: العبد الذي يدخل الدار من عبيدي حر، يعتق كل عبد يدخل الدار؛ وهذا لأن الألف واللام للمعهود، وليس هنا معهود، فيكون بمعنى الجنس مجازا كالرجل يقول: فلان يحب الدينار، ومراده الجنس، وفي

الجنس معنى العموم. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-. (وفيه نظر عندنا) أي عندي أي مما يتأمل في صحته، وإنما قال هذا؛ لأنه غير مطرد طردًا وعكسًا أما طردًا: ففي صورة إعادة المعرفة معرفة،

والثانية غير الأولى، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ}، فإن المراد من الكتاب الثاني الكتاب الذي أنزل على من قبلنا، ومن الأول القرآن وهما غيران مع إعادة المعرفة معرفة. وأما عكسا ففي صورة إعادة النكرة نكرة، والثانية عين الأولى، وذلك في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ}، فالضعف الثاني عين الضعف الأول مع أن كلًا منهما نكرة، وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ}. وقال الإمام المحقق مولانا حميد الدين- رحمه الله- وإنما قال هذا؛ لأنه إنما يستقيم هذا إذا كانا كلامين كل واحد منهما منفرد على حياله كما لو قال: جاءني رجل، وكلمت رجلا، فهذا كلامان، فكان الثاني غير الأول. وأما لو قال جاءني رجل، وجاءني رجل، فهو تكرار للأول في كلام واحد، فكان التكرار للتأكيد.

وأما ما نحن بصدده عند أهل التحقيق فكلام واحد كرر التأكيد كقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}، وكقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ذكر في سورة واحدة مرارًا للتأكيد والتكرار لما هو المقصود؛ ليتقرر في الأذهان. (والله لا أقربكما إلا يومًا أقربكما فيه)، وقوله: "أقربكما" صفة لقوله: "يوما" كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ} أي لا تجزي فيه. قال المصنف- رحمه الله- في "شرح الجامع الكبير" إذا قال رجل لامرأتين له: والله لا أقربكما إلا يوما أقربكما فيه لم يكن موليا بهذا الكلام أبدًا، لأن يوم الاستثناء عام فيمكنه أبدا أن يقربهما في كل يوم يأتي، فلا يلزمه شيء، فعدمت علامة الإيلاء؛ لأن كل يوم يقربهما فيه فهو مستثنى، فلذلك لا

يكون موليًا بهذه اليمين أبدًا. بخلاف ما لو قال: والله لا أقربكما إلا يوما واحدًا أو إلا يومًا أو إلا في يوم، ثم قربهما في يوم، فإذا مضى اليوم انعقد الإيلاء، فإن قلت: لا شك أن النكرة إذا كانت موصوفة كانت أخص مما لم تكن موصوفة. ألا ترى أن قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} كانت أخص من قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}؛ لأن تلك مقيدة وهذه مطلقة ولا يرتاب أحد في أخصية المقيد بالنسبة إلى المطلق. وكذلك لو قلت: جاءني رجل، هو أعلم من قولك: جاءني رجل عالم، حتى إن المطلق عند الشافعي عام، وعندنا إن لم يكن عامًا فهو محتمل للأوصاف والمقيد لا، فلابد من تأويل قول المشايخ: إن النكرة إذا وصفت بصفة عامة تتعمم وتترى، أي إن قولهم: ذلك محمول على ما إذا كانت

النكرة الموصوفة مستثنى من النفي، فإن ذلك مخصوص به بدليل ما أورد من النظائر في الكتاب من هذا القبيل. قلت: لا، بل قولهم ذلك في المستثنى وفي غير المستثنى أيضًا بدليل ما ذكر في الكتاب أيضًا بعيد هذا بقوله: وقال محمد- رحمه الله- أي عبيدي ضربك فهو حر، فضربوه. إنهم يعتقدون إلى قوله: لكنها متى وصفت بصفة عامة عمت لعمومها كسائر النكرات. ألا ترى أنه كيف عم هذا التعليل في النكرات أجمع، وأما قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}، فإنما كان خاصًا مع عموم الصفة لعدم احتماله العموم بوجه آخر وإن كان فيه دلالة العموم. إذ ليس في وسعه إعتاق جميع الرقاب المؤمنات؛ إما لعدم الملك في الجميع أو لعدم التصور، فكان من قبيل ما قيل: إن صيغة العموم إذا أضيفت إلى محل لا يقبل العموم "يراد بها أخص الخصوص الذي دل عليه الكلام كما في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}، فلذلك اكتفي هاهنا بإعتاق رقبة واحدة مؤمنة إذ لا أخص منها. ألا ترى أنه لو قيل في هذا الموضع: فتحرير الرقبة- بالألف واللام- لما

كان عليه أيضًا إلا إعتاق رقبة واحدة، لما ذكرنا من المعنى بأن إجراء العموم على عمومه لا يتحقق؛ لما ذكرنا أنه لا يمكن له إعتاق جميع الرقاب في العالم، فكان أخص الخصوص مرادًا وهو الرقبة الواحدة. [أي] (قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا}). فإن قيل: لم ينتهض هذا دليل على أن كلمة أي فرد، فإن كلمة من عامة بالاتفاق، ومع ذلك ما أسند الفعل إلى ضميره. جاء على لفظ فعل أسند إلى ضمير الاسم المفرد كقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} نظرًا إلى اللفظ. قلنا: انعقد إجماع أهل اللغة على ما ذكرنا، وما ذكرنا من الاستعمال مؤيد لذلك، ولأن صيغة العموم استعملت أيضًا في كلمة من. قال تعالى: {ومنهم من يستمعون إليه}، ولم يستعمل مثل ذلك في أي، فثبت بهذا

عموم كلمة من، ولما ثبت عمومها ثبت احتمال خصوصها أيضًا نظرا إلى اللفظ، لكن لما وصفت بصفة عامة عمت لعمومها. فإن قيل: أيكم يحمل هذا الخشبة فهو حر، فحملوها جميعًا وهي خفيفة يحملها كل واحد منهم، لم يعتقوا، وإن عمهم صفة الحمل. قلنا: إنه ما ميز العتيق بالحمل مطلقًا، ولكن بحمل الخشبة، وإذا حملوها جملة فما اتصف واحد منهم بحمل الخشبة، وإنما اتصف بحمل البعض وبوجود بعض الشرط لا يترك شيء من الجزاء، فأما الضرب فيتم من الواحد بفعله وإن ضرب معه غيره. (وإذا قال: أي عبيدي ضربته فقد قطع الوصف عنها فلم يعتق إلا واحد)؛ لأن صفة الضرب قائمة بالضارب لا بالمضروب، فكان الضرب مضافًا إلى المخاطب لا إلى النكرة التي تناولها كلمة أي، فبقيت نكرة غير موصوفة، فلذلك لم يتناول إلا الواحد منهم. فإن قيل: كما ن الضاربية صفة فكذلك المضروبية صفة أيضا، وهي قائمة بالعبيد فتعم على العبيد بعموم المضروبية. قلنا: عموم صفة المضروبية ثابت بطريق الاقتضاد؛ ليصح الضرب ولا

وجود للاقتضاء فيما وراء المقتضي وثبوت الحرية وراءه، فلا يظهر في حقه فلا يعتق. إلى هذا أشار الإمام قاضي خان- رحمه الله- في "شرح الجامع الكبير"، وهذا لأنه لم يذكر المضروب صريحًا بل قال: ضربته، والضرب قام بالضارب لا بالمضروب، فكان ثبوت المضروبية مقتضى فلا يتعمم لما أن الضرب صفة المخاطب فيستحيل أن يكون صفة أي؛ الوصف الواحد يستحيل أن يقوم بشخصين، والمتصل بالمضروب أثر الضرب وهو الألم لا الضرب، فلم يتصف أي بما هو يعممه وهو الضرب، والمفعولية زائدة على أصل الفعل وكم من فعل لا مفعول له. بخلاف قوله: لا أقربكما إلا يومًا أقربكما فيه "أن المستثنى عام بعموم وصفه وهو وجود القربان في ذلك اليوم، واليوم هاهنا ظرف وهو أحد المفاعيل، فحصل العموم بعموم صفحة المفعول لما أن الفعل المحدث يتعلق بالزمان فيكون اليوم عامًا بما اتصل به من الوصف العام وهو القربان. ولا كذلك قوله: "أي عبيدي ضربته"؛ لأن الضرب اتصل بالضارب فيستحيل اتصاله بالمضروب، ثم لما لم يعتق من العبيد إلا واحد في قوله:

"أي عبيدي ضربته" بعد ذلك ينظر إن ضربهم المأمور على الترتيب عتق الأول؛ لأنه لا مزاحم له، وإن ضربتهم جملة عتق واحد منهم والخيار إلى المولى؛ لأن الإجمال منه. كذا ذكره المصنف في "شرح الجامع الكبير". قلت: وعن هذا يظهر حمل أهل السنة والجماعة قوله عليه السلام: "القدرية مجوس هذه الأمة" على القائلين بأن القضاء والقدر منا لا من الله وهم المعتزلة. لما أن قيام الصفة لما كان بالفاعل لا بالمفعول. وهم يجعلون أنفسهم فاعلي القدر، فكانوا هم أولى باستحقاق وصف القدرية. وأما أهل السنة فإنهم ينفون القدر عن أنفسهم بل يضيفون القدر إلى الله تعالى، فكيف يستقيم قيام صفة القدرية بهم وهم ينفون هذه الصفة عن أنفسهم والله الموفق. (لأن المراد به فيما يخف حمله انفراد كل واحد منهم). فإن قيل: الإرادة أمر باطن وهذا اللفظ ظاهر، فيجب أن يعمل بالظاهر.

قلت: الأمر الباطن لما صار مستعملا معتادا صار بمنزلة الظاهر، فإذا كان مراده انفراد كل احد منهم في العادة لم يبق مطلقًا بل صار مقيدًا. (فأما النكرة المفردة في موضع الإثبات فإنها تخص عندنا أي لا تتناول إلا واحدًا إلا أنها مطلقة). اعلم أن المعنى من المطلق هو كل نكرة مفردة غير موصوفة في موضع الإثبات؛ لأنها إذا كانت موصوفة كانت مقيدة، وإذا كانت في موضع النفي كانت عامة، ثم المطلق ليس بعام عندنا (خلافًا للشافعي، فإنه قال بعمومه، حتى قال في قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إنها عامة تتناول الصغيرة والكبيرة والبيضاء والسوداء المؤمنة والكافرة) حيث جعل الأوصاف المحتملة بمنزلة الأفراد؛ أي الأعيان الموجودة.

(وقد خص منها الزمنة بالإجماع، فيصح تخصيص الكافرة منها بالقياس على كفارة القتل) وهو وإن لم يكن محتاجًا إلى تخصيص العام أولا بالدليل القطعي لتخصيصه بالقياس عليه، ثانيًا على مذهبه ذكر ذلك على وفاق مذهبنا ليتيسر عليه تخصيص العام بالقياس بالإجماع. وقلنا نحن: هذه مطلقة لا عامة؛ لأنها فرد فتتناول على احتمال وصف دون وصف، (والمطلق يحتمل التقييد) دون التخصيص؛ لأنه ليس بعام والتقييد نسخ للإطلاق، فالتقييد مع التخصيص على طرفي نقيض؛ لأن التخصيص يبين أن بعض أفراد العام ليس بمراد بالعام، والباقي من ذلك البعض مراد بصدر الكلام، فكان الأول وهو العام الباقي معمولًا. وأما المقيد فهو بنفسه مراد ولم يبقى لصدر الكلام حكم البتة، فكان المراد من التقييد الثاني ومن التخصيص الأول، ولأن التقييد مفرد والتخصيص جملة، ولأن التقييد تصرف فيما كان الأول عنه ساكتًا كصفة الإيمان في الرقبة، والتخصيص تصرف فيما تناوله العام السابق، ولأن التقييد زيادة

معنى، والتخصيص إخراج من العام السابق بعضه بإثبات ضد حكم العام السابق، وهذه فروق بين التخصيص والتقييد. وأما الفرق بين المطلق والعام: فإن المطلق واحد لا أفراد له؛ لأنه ليس بمحلى بحرف الجنس، وليس بجمع صيغة، وليس من المبهمات في شيء، ولم يتصل بصفة عامة، ولم يذكر نكرة في موضع النفي. والعام ما كان موصوفًا بواحد من أضداد هذه الأشياء، فكانا هما أيضًا على طرفي نقيض، ومعرفة الفرق بين المطلق والعام، وبين التقييد والتخصيص من أهم المهمات لترتيب الأحكام عليها بحسب ذلك (قد جعل وجوب التحرير جزاء الأمر، فصار ذلك سببًا، فيتكرر مطلقًا بتكرره). هذا جواب سؤال وهو أن يقال: لو لم تكن الرقبة عامة لما وجبت الرقاب عند تعدد الحنث باليمين وتحت الرقاب جمعًا عند ذلك، فكانت عامة بهذا الطريق، فأجاب عنه وقال: وجوب تعدد الرقاب هنا بسبب تعدد الوجوب وتكرره لأن الرقبة عامة. (وصار مقيدًا بالملك لاقتضاء التحرير) وهذا أيضًا جواب سؤال، وهو أن يقال: لو لم تكن الرقبة عامة لما قيدت هي بكونها مملوكة.

فأجاب عنه وقال: إنما اشترط الملك لاقتضاء التحرير الملك؛ لأن التحرير لا ينفذ إلا في الملوك. لا أن التقييد بالملك لكونها مخصوصة من الرقبة العامة، أو هو جواب عما ورد شبهة على قوله: "فصار نسخًا" بأن يقال: لو كان تقييد المطلق نسخًا له لما قيدت الرقبة بكونها مملوكة لئلا يلزم النسخ. فأجاب عنه بهذا، وهو قوله: لاقتضاء التحرير الملك"، فلم يكن ذلك زائدًا على النص حتى يلزم النسخ. وقوله: (ولم يتناول الزمنة) جواب عن قوله: وقد خص منها الزمنة بالإجماع". وتفسير الجواب هو أن خروج الزمنة عن مطلق الرقبة لا باعتبار التخصيص، بل باعتبار أن إطلاق الرقبة يقتضي كمال البنية- لأن الرقبة اسم للبنية السالمة عن النقصان- والزمنة قائمة من وجه دون وجه، فلم تكن قائمة مطلقًا حتى تتناولها اسم الرقبة مطلقًا، ولهذا شرط كمال الرق أيضًا؛ لأن التحرير منصوص عليه مطلقًا وذلك إعتاق كامل ابتداء، وفي المدبر وأم الولد تعجيل لما صار مستحقا لهما مؤجلًا، فلا يكون إعتاقهما إعتاقًا مبتدأ مطلقًا- فلا يجوز- إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-.

[وصار ما ينتهي إليه الخصوص] (وأما الفرد بمعناه فمثل قوله: لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد إنه يصح الخصوص حتى يبقى الواحد) هذا الذي ذكره عند أهل الفقه. وأما صاحب "الكشاف" جعل الجمع المحلى بلام الجنس كالجمع بدون لام الجنس، حتى لم يجوز تخصيصه إلى الواحد بل إلى أقل الجمع.

فقال: "إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحًا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه، وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا. إلى الواحد "ذكره في تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وذكر أيضًا في سورة الحاقة في قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}، أن الملك أعم من الملائكة. ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة، ذكر الأصل في الجمع مع لام الجنس وأرى النظير من الجمع بدون لام الجنس. قلت: قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} وقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ}، يدلان على وهاء ما ذكره في "الكشاف".

[أقل الجمع] (وعلى ذلك مسائل أصحابنا) فإن من أقر لآخر بقوله: لفلان علي دراهم يصدق في الثلاث ولا يصدق فيما دونه. {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} حيث يقوم في الحجب هاهنا الاثنان مقام الثلاث، (وفي المواريث والوصايا). أما في المواريث: ففي قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، والحكم في الاثنتين كذلك. وأما في الوصايا: فإن من أوصى لأقربائه، فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم منه ويكون للاثنين فصاعدًا.

(ولا خلاف أن الإمام يتقدم إذا كان خلفه اثنان)، ومن شرط الجماعة تقدم الإمام عليهما، ولو لم يكن الاثنان جمعًا لما تقدم الإمام عليهما، كما لا يتقدم على الواحد. ("الواحد شيطان والاثنان شيطانان")، فلو كان الاثنان ينطلق عليهما اسم الجمع لما أقامهما مقام الواحد في كونهما شيطانًا. (فإن أهل اللغة مجمعون على أن الكلام ثلاثة أقسام: آحاد ومثنى وجمع)، فكل منها على ما وضع له حقيقة. والدليل عليه أنه يستقيم نفي صيغة الجمع عن المثنى بأن يقال: ما في الدار رجال. إنما فيها رجلان، وقد بينا أن اللفظ إذا كان حقيقة في شيء لا يستقيم نفيه عنه، ولأن قسمتهم الكلام على هذا الوجه بأن الكلام ثلاثة

أقسام: آحاد ومثنى وجمع دليل على أن كل واحد منها مخالف للآخر، كما نقول: الإنسان قسمان: ذكر وأنثى، ولا شك أن الذكر يخالف الأنثى، وهو ظاهر. (وله علامات) أي وللمثنى علامات على الخصوص، فإن رفعه بالألف والنون في آخره لازم عند عرائه عن الإضافة وهي مكسورة وما قبل الياء مفتوح. (وأجمع الفقهاء على أن الإمام لا يتقدم على الواحد). هذا جواب عن قول الخصم. يعني أن الإمام من الجمع ولو كان المثنى جمعًا لتقدم الإمام على الواحد حيث اجتمعا والتقدم شرط الجماعة، وقد حصلت الجماعة على قول الخصم، ومع ذلك لا يتقدم بالإجماع. علم أن المثنى ليس بجمع. (فإن الواحد إذا أضيف إليه الواحد أي ضم إليه تعارض الفردان، فلم يثبت الاتحاد ولا الجمع)، وهذا لأن الفرد بالنظر إلى نفسه واحد وبالنظر إلى مقابله جمع. إذ بالمقابلة يحصل الاجتماع بينهما، وهما فردان متساويان في القوة، فلا يترجح أحدهما على الآخر، فسقط الوصفان؛ أعني الاتحاد

والاجتماع عند التعارض، فثبت لهما وصف آخر سواهما وهو التثنية، وهذا معنى ما ذكره الإمام بدر الدين- رحمه الله- فقال: إن الواحد إذا أضيف إليه الواحد تعارض الفردان. إذ الفرد الأول يمنع نفسه عن الإتباع إلى مماثله ليبقى هو فردًا كما هو صفته، والثاني يجذب المقابل إلى نفسه ويجعله جمعًا مع نفسه وهما متساويان في القوة فتعارض الشبهان، فلم يبق التوحد حيث وجد الجمع، ولم يحصل التجمع حيث لم يرتفع التعارض، فبقي قسمًا آخر بين القسمين وهو المثنى بين الواحد والجمع، وهو المنزلة بين المنزلتين، والمنقول عن الأساتذة في هذا بالفارسية في معنى التعارض بين الفردين يك فرد مي خواهد كه با آن يكي جمع شود وآن يكي فدر خويشتن را منع مي كند أز وي جمع بودن را فيثبت التعارض بينهما. (وأما في الثلاث فقد عارض لكل فرد اثنان) فغلبا وترجح جانب التجمع وبطل التوحد بمرة، فحصل التجمع فصار الثلاث حقيقة لصيغة الجمع حيث لا ينفى عنه، وأما في المثنى فينفى عنه كما ذكرنا. (وقد جعل الثلاثة في الشرع حدا في إبلاء الأعذار) أي في إظهار الأعذار والاختبار بها، كما في قصة موسى مع معلمه عليهما السلام حيث جعل السؤال الثالث نهاية في ترك المؤاخذة، وكذلك في حد مدة السفر

وخيار الشرط ومدة مسح المسافر وغيرها. يعني ليس هذا الذي جعل الشرع الثلاثة في إبلاء الأعذار للاثنين. علم بهذا أن الاثنين ليسا في حكم الثلاثة. (وأما الحديث فمحمول على المواريث) أي الحديث الذي ذكر في تعليل الشافعي، وهو قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة" محمول على المواريث، ثم في المواريث إنما جعل للاثنين حكم الجماعة بدلالة النص، لا لأن لفظ الاثنين أطلق على لفظ الجمع. بيان ذلك هو أن قوله تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} بين أن للاثنين من الأخوات إذا كانتا لأب وأم أو لأم الثلثين، فهذا بيان أن الثلثان نصيبهما، ولا يزاد

على الثلثين وإن زدن. علم ذلك بدليل آخر وهو قوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}، فكان فيه بيان أن النساء وإن كثرن لا يزاد نصيبهن على الثلثين فكان للجمع حكم الاثنين بهذا الطريق. لا أنه أطلق حقيقة الجمع على الاثنين، وهذا صريح في الأختين، وأما للبنتين فلهما الثلثان أيضًا بدلالة النص وإشارته. أما الدلالة: فلأنه لما كان للأختين الثلثان، لأن يكون للبنتين الثلثان بالطريق الأولى؛ لأن الأخت تبع للبنت في استحقاق الفرض حتى لا يفرض للأخت مع وجود البنت. وأما طريق الإشارة فهو قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، فهذا يقتضي أن يكون للابن مثل حظ البنتين في جميع صور اختلاط الابن مع البنت، حتى إذا كان للميت ابن وبنت لا غير، فللابن الثلثان ولو لم يكن للبنتين الثلثان لتناقض {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وتعالى كلام الله عن التناقض. وأما الوصايا: فمبينة على المواريث أيضًا من حيث إن كلًا منهما سبب لملك المال بعد الموت، ولأن الإرث فرض ثابت قطعًا والوصية نافلة وهما بعد الموت، فكانت الوصية تبعًا للإرث لما أن النوافل تبع للفرائض.

(والثاني ما قلنا: إن الخبر محمول) أي الوجه الثاني من حمل حديث الشافعي نقول: إن ما ذكرنا من الخبر في تعليلنا بقوله: ولنا قول النبي عليه السلام "الواحد شيطان" إلى آخره هو محمول (على ابتداء الإسلام)، فإذا ظهر قوة المسلمين قال ذلك الحديث الذي رواه الشافعي بقوله: "الاثنان فما فوهما جماعة". (فإذا ظهر قوة المسلمين قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة") أي المسافرة مع الاثنين جائزة كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}، وكان موسى عليه السلام مع فتاه اثنين في السفر، علم أن المسافرة كانت جائزة في الأصل، وإنما كان الحظر عنه في ابتداء الإسلام لعارض الخوف. (وأما الجماعة فإنما تكمل بالإمام) فيكون الإمام مع القوم جماعة، فالإمام مع الاثنين جماعة والتقدم من سنة الجماعة، فيتقدم الإمام على الاثنين لهذا المعنى لا أن الاثنين جماعة، (حتى شرطنا في الجمعة ثلاثة سوى الإمام)؛ لقيام الدليل على اشتراط أن يكون القوم جماعة سوى الإمام،

وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ففي قوله {نُودِيَ} فهم المنادي وهو المؤذن، وفي قوله: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فهم الذاكر وهو الخطيب، وفي قوله {فَاسْعَوْا} يفهم الساعون الخاطبون وأقلهم اثنان بالاتفاق، فيعلم من هذا كله اشتراط ثلاثة سوى الإمام. (فألحق الفرد بالزوج لعظم منفعته). ألا ترى أن من قطع لسان إنسان يلزمه كمال الدية، كما لو قطع اليدين خطأ كأنه زوج، فصار قلب اثنين كأنه أربع قلوب، (وقد جاء في اللغة خلاف ذلك كقوله): ظهراهما مثل ظهور الترسين. قاله في صفة مفازتين. هذا الذي ذكره من ذكر الجمع وإرادة الاثنين فيما إذا كان متصلين.

وأما في المنفصلين فلا يجوز ذكر الجمع، وإرادة الاثنين للإلباس حتى لا يقال: أفراسهما ولا غلمانهما، إذا كان لكل منهم فرس واحدة وغلام واحد. * * *

باب معرفة أحكام القسم الذي يليه

باب معرفة أحكام القسم الذي يليه (وهذا تكثر في تعارض السنن والأحاديث) كما في قوله عليه السلام: "القلس حدث"، وروي عن النبي عليه السلام: "أنه قاء فلم يتوضأ"

وكذا ذكر في الأثر "أو دسعة تملأ الفم". قلنا: أما قوله: "قاء فلم يتوضأ"، فإنه حكاية فعل فلا عموم له، لأن العموم من أوصاف النظم، ولا جائز أن يكون قليلًا في نفسه وكثيرًا، فلم يستقم الاحتجاج به. وقوله: "القس حدث" فيه الألف واللام ولا معهود له، فكان العموم. وقوله: "أو دسعة" معارض له، لكن في قوله: "القلس حدث" دليل على أنه الكثير لا القليل، فإن القلس هو الرفع لغة، ومنه القلاس (البحر) لقذفه ما فيه، وذلك لا يكون إلا عند الكثرة حتى يرمي نفسه ويدفع، أما عند القلة فلا.

(فقال الآخر: الحق اليقين الصدق)، يعني قال: الحق لا غير، أو قال: اليقين لا غير، وكذا إلى الآخر، وحاصله أن هاهنا خمسة ألفاظ: فالحق والصدق واليقين في الإقرار نصوص تحتمل التغيير، والبر مجمل يحتمل البيان، والصلاح محكم لا يحتمل التغيير. كذا في "الجامع الكبير" للصدر الشهيد- رحمه الله-. والصلاح لما كان محكمًا فأي لفظ قرن به لا يكون إقرارًا حتى لو قال: الحق الصلاح أو الصلاح الحق، أو ضم الصلاح إلى اليقين قدم أو أخر لم يكن إقرارًا؛ لأن الصلاح محكم في أنه لا يكون إقرارًا، ثم فائدة كون الألفاظ الأول نصوصًا أن كل واحد منهما إذا انفرد بنفسه كان إقرارًا، أو إذا انضم البر بواحد منها كان إقرارًا أيضًا؛ لما ذكرنا أن البر مجمل فيحمل المجمل على النص والظاهر. وقال المصنف- رحمه الله- في "شرح الجامع" الحق الحق، أو اليقين

اليقين، أو الصدق الصدق، أو البر البر، أو الصلاح الصلاح، أو قال: حقًا حقًا أو يقينًا إلى آخرها، وفي هذه الجمل الثلاث الأولى تصديق وإقرار، والبر والصلاح ليس بإقرار، لأن الحق واليقين والصدق يوصف بها الدين، فوجب العمل به، ولو قال: الحق حق واليقين يقين والصدق صدق إلى آخرها، لم يكن إقرارًا؛ لأن الكلام في الفصول الأولى كان ناقصًا، يحمل على الجواب ظاهرًا، فأما هذا الكلام تام مبتدأ وخبر فلم يصلح جوابًا. وقوله: (فإذا قارنه نص أو ظاهر) وهو الكلمات الثلاث الأول وهي: الحق واليقين والصدق أي يصح أن يطلق على كل منها اسم النص أو اسم الظاهر، فاسم النص باعتبار أن لجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فكأنه سيق الكلام لأجله، واسم الظاهر باعتبار أن المقصود من الكلام هو قول المدعي: لي عليك ألف درهم. وأما الجواب فإنهما ثبت في ضمن ذلك الكلام، فكأنه لم يسق الكلام إليه، فصح إطلاق اسم الظاهر على كل واحد منها لما أن الاعتبار للمتضمن لا للمتضمن، ولهذا يطلق اسم النص على هذه الألفاظ الإمام المحقق شمس

الأئمة السرخسي- رحمه الله-. فأما قوله: (إلى شهر محكم في المتعة لا يحتمل النكاح مجازًا)؛ لأن النكاح لا يحتمل التأقيت، لأنه منسوخ، فكان التوقيت محكمًا في كونه متعة، والتزوج محتمل للمتعة، لأن الازدواج كما يحصل في التأبيد يحصل في التوقيت، فحمل هو على المتعة ولم يحمل قوله: إلى شهر على النكاح لذلك. (لأن السرقة أخذ المال على وجه المسارقة عن عين الحافظ الذي قصد حفظه). فإن قيل: لو سرقت من بيت رجل غائب يقطع كما لو سرق من بيت رجل حاضر، فلو كانت السرقة عبارة عن أخذ المال على المسارقة عن عين الحافظ

الذي قصد حفظه لما وجب القطع هنا لانعدام حد السرقة؛ لأن المسارقة عن عين الحافظ إنما تكون إذا كان الحافظ حاضرًا. قلنا: معناه عن عين الحافظ أو عن عين نائب الحافظ، وفي حق الغائب إن كان عينه غائبة فعين نائبه وهو بيته لقصد حفظ الأموال حاضرة، وهذا لأن حفظ الحافظ بنفسه غير معتبر فيما هو محرر بالمكان. هكذا ذكر في "المبسوط" بخلاف القبر، فإن القبر ما حفر لحفظ الكفن، فلم يكن النبش مسارقة عن عين الحافظ ولا عن عين نائبه فلا يقطع. وقوله: (ولا قاصد) احتراز عن الحفظ بالبناء الذي قصد ببنائه على حفظ الأموال كالبيوت. وأما القبر فلم يكن لذلك بل حفر القبر لمواراة الميت عن أعين الناس وما يخاف عليه من السباع لا للإحراز. ألا ترى أن الدفن يكن في ملأ من الناس، ومن دفن مالًا على قصد الإحراز فإنه يخفيه عن أعين الناس، وإذا فعله في ملأ من الناس على قصد الإحراز ينسب إلى الجنون، ولا نقول: أنه مضيع ولكنه مصروف إلى حاجة الميت، وصرف الشيء إلى الحاجة لا يكون تضييعًا ولا إحرازًا كتناول الطعام وإلقاء البذور في الأرض لا يكون تضييعًا ولا إحرازًا. واختلف مشايخنا فيما إذا كان القبر في بيت مقفل.

قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- والأصح عندي أنه لا يجب القطع. (وهذا من الأول) أي النباش من السارق (بمنزلة التبع من المتبوع)، فإن السارق يسرق من الحافظ والنباش ينبش الكفن من غير الحافظ، والأصل أن توجد السرقة من الحافظ فكانت السرقة أصلًا والنبش غير أصل، فكان المراد من المتبوع والتبع كونهما أصلًا وغير أصل لا حقيقة التبعية، وعن هذا خرج الجواب عن قول من يقول: لما كان النباش تبعًا للسارق يجب أن يقطع النباش كالسارق، لأن الحكم الثابت في المتبوع ثابت في التبع. (والتعدية بمثله في الحدود خاصة باطل)، وإنما قيد بالحدود؛ لأن في غير الحدود إذا ثبت الحكم في الأعلى يثبت في الأدنى بالقياس عليه. ألا ترى أن الوطأ يثبت حرمة المصاهرة وهو أعلى، وكذلك يثبتها أيضًا المس بشهوة وهو أدنى ولا يثبت مثل هذا في الحدود؛ لأنها تندرئ بالشبهات. (وأما الطرار) فهو على وجهين: إما أن كانت الدراهم مصرورة في داخل الكم أو ظاهر الكم، فإن كانت مصرورة في داخله، فإن طر الصرة يقطع؛ لأنه بعد القطع يبقى المال في الكم، فيدخل يده حتى يخرجه، وإن حل الرباط

لم يقطع؛ لأنه إذا حل الرباط يبقى المال خارجًا من الكم، فلم يوجد إخراج المال من الكم والحرز، وإن كان مصرورًا في ظاهر الكم، فإن طر لم يقطع لانعدام الإخراج من الحرز، فإن حل الرباط يقطع؛ لأن الدراهم تبقى في الكم بعد حل الرباط حتى يدخل يده فيخرجها، وتمام السرقة بإخراج المال من الحرز، وعن أبي يوسف- رحمه الله- استحسن أن أقطعه في الأحوال كلها؛ لأن المال محرز بصاحبه والكم تبع، وفرق أبو حنيفة ومحمد- رحمهما الله- بين الطرار والنباش فقالا: اختصاص الطرار بهذا الاسم لمبالغة في سرقته؛ لأن السارق يسارق عين حافظه في حال نومه، وغفلته عن الحفظ، والطرار يسارق عين المنتبه في حال إقباله على الحفظ، فهو زيادة حذق منه في فعله، فعرفنا أن فعله أتم ما يكون من السرقة فيلزمه القطع. وأما النباش فلا يسارق عين المقبل على حفظ المال أو القاصد كذلك، بل يسارق عين من يهجمه عليه من غير أن يكون له قصد إلى حفظ الكفن، وذلك دليل ظاهر على النقصان في فعل السرقة، فلهذا لا يلزمه القطع. كذا في "المبسوط" والله أعلم. * * *

[باب أحكام الحقيقة والمجاز والصريح والكناية]

[باب أحكام الحقيقة والمجاز والصريح والكناية] قوله: (أمرًا كان أو نهيًا خاصًا كان أو عامًا)، فالأمر كقوله تعالى: {وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، والنهي كقوله: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ}، والخاص أيضًا كذلك. وأما العام فكقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ}، فإن كلام منهما حقيقة شرعية، وقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الدرهم بدرهمين" وجود ما استعير له خاصًا. كقول من يقول يصف غيره بالشجاعة: رأيت أسدًا يرمي، أو يقول لغيره: لا تضع قدمك في دار زيد أي لا تدخل، أو عامًا كقوله عليه السلام: "ولا الصاع بالصاعين"، وحاصله أن

الحقيقة: استعمال اللفظ في الموضع الأصلي كلفظ الأسد للهيكل المعروف. والمجاز: استعماله في غير موضعه الأصلي بنوع مناسبة بالاتصال بين الأصل والفرع. والصريح هو: الظاهر الجلي بواسطة الاستعمال حقيقة كان أو مجازًا. والكناية: المستتر المراد حقيقة كان أو مجازًا، وقد ذكرنا قبل هذا نظائرها. (وطريق معرفة الحقيقة التوقيف والسماع)، فالتوقيف التعليم من جهة المعلم، والسماع: من جهة المتعلم. (بمنزلة النصوص)، فإن في حق النصوص التوقيف والسماع، فكذا في حق الحقائق؛ لأن الحقيقة موضوعة بوضع الواضع أن اسم هذا كذا واسم هذا كذا، كما قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، وفيه سؤال وهو أن الله تعالى علمه الأسماء والأفعال والحروف، فكيف خص الأسماء دونهما؟ والجواب عنه: أنك إذا أخبرت عن الأفعال والحروف فهما أيضًا يصيران اسمين، وهذا مقام الإخبار فكذا ذكر الكل، والله أعلم بالأسماء، وهذا لأن

كونه مخبرًا عنه من خواص الاسم فكان كل منهما اسمًا بواسطة الإخبار عنه، فلذلك أطلق اسم الأسماء على المجموع. (فإن الحقيقة أولى منه)؛ لأن الوضع الأصلي أولى بأن يكون مرادًا من العارضي لسبقه على العارضي في الوجود، أو لتسارع الوضع الأصلي إلى أفهام السامعين. (وأبى أن يعارضه حديث ابن عمر- رضي الله عنهما-) فإن قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" مع "نهي النبي عليه السلام عن الصاع بالصاعين" يتعارضان. بيان المعارضة هو: أن قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" يشعر بكون الطعم علة لما عرف أن الحكم إذا كان مرتبًا على اسم مشتق كان مأخذ

الاشتقاق علة، كما في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وكما يقال: أكرم العالم وأهن الجاهل، وقوله: "ولا الصاع بالصاعين" يقتضي كون الكيل علة، فيقتضي أن لا يجري الربا في غير الصاع؛ لأنه رتب حكم النهي على شيء مكيل يصاع، فكان الكيل علة لما ذكرنا من الأصل، فبين كون الطعم علة وبين كون الكيل علة تناف فتحققت المعارضة، إذ الأول يقتضي الحل في صاع بصاعين من الجص والنورة، والثاني الحرمة. أو نقول: قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" يقتضي الحرمة في القليل والكثير، والحديث الآخر يقتضي الحرمة في الكثير لا في القليل، وإباحة القليل تثبت بالنص المبيح، وهو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، فقال: لا معارضة بينهما؛ لأن العموم لم يرد بالحديث الثاني؛ لأن لا عموم للمجاز عندي.

والمطعوم مراد بالصاع بالإجماع، فكان موافقًا لما ذكرت من كون الطعام علة، وهو مرجح المحرم لكونه حقيقة على حديث ابن عمر لكونه مجازًا. (والصحيح ما قلنا؛ لأن المجاز أحد نوعي الكلام)، فإن الكلام منقسم إلى قسمين: حقيقة ومجاز؛ لأنه لا يخلو إما أن كان مستقرًا في محله أو لا يكون مستقرًا في محله ولا واسطة بينهما، فإذا ثبت أن المجاز أحد نوعي الكلام كان العموم الذي ثبت للكلام بدليله شاملًا لنوعيه من الحقيقة والمجاز؛ لأن الحكم إذا كان مرتبًا على الجنس كان مرتبًا على أنواعه، فإن الحكم إذا كان مرتبًا على الحيوان كان مرتبًا على الإنسان. أما إذا كان مرتبًا على الإنسان لا يكون مرتبًا على الحيوان، بل يكون مرتبًا

على الذكر والأنثى من الإنسان، وهنا حكم العموم مرتب على الكلام، فكان مرتبًا على أنواعه لا محالة، وأنواع الكلام: الحقيقة والمجاز، فكان مرتبًا على المجاز ضرورة. (لأن عموم الحقيقة لم يكن لكونه حقيقة)؛ لأن عمومها لو كان لحقيقتها لما جاز الخصوص في الحقيقة، وقولك: جاءني زيد أو رجل حقيقة وليس بعام. (إلا أنهما يتفاوتان لزومًا، وبقاء) أي لا تسقط الحقيقة عن موضوعها بخلاف المجاز، واللزوم والبقاء مترادفان. (حتى كثر ذلك في كتاب الله تعالى).

.......................................................................

فإن قيل: المقتضى ضروري ومع ذلك موجود في كتاب الله تعالى كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي رقبة مملوكة. قلنا: إن الضرورة في المقتضى في حق السامع لا في حق المتكلم، فإن المتكلم يتكلم بما هو معلوم المراد عنده، لكن السامع يضطر إلى إدراج شيء حتى يعلم بذلك ما هو مراد المتكلم، فكانت الضرورة فيه راجعة إلى السامع لا إلى المتكلم؛ لأنا محتاجون إلى البيان لا الله تعالى. (وهو أفصح اللغات)؛ لأن القرآن أنزل على أعلى طبقات الفصاحة، وقد يكون المجاز في موضعه أفصح اللغات، حتى أن الحقيقة لو ذكرت في موضعه يلزم القبح كما قال الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولو قال: حتى يطلع الفجر لم يكن على تلك الفصاحة.

(إلا أن يكون مهجورًا) كقولهم بالفارسية: ديك بخت، والناس يفهمون من هذا طبخ الطعام في القدر، ولا يفهمون طبخ نفس القدر التي يطبخ في كانون الخزاف وهو حقيقتها. (فيصير ذلك دلالة الاستثناء) من حيث إن المهجور غير المراد بهذا الكلام كما أن المستثنى غير مراد بصدر الكلام. (كمن حلف لا يسن هذه الدار) فأخذ في الحال في النقلة لم يحنث، وصار ذلك القدر من السكون وهو حقيقة مستثنى من هذه اليمين بدلالة في الحالف، وهي أن مقصوده البر وهو منع النفس من السكون في الدار، وهذا القدر لا يستطاع الامتناع عنه، فلم يحصل ما هو المقصود من اليمين وهو المنع فصار كأنه قال: لا يسكن هذه الدر إلا زمان الانتقال. أن السكون في ذلك الزمان كان مهجورًا.

(وكمن حلف لا يطلق) وقد حلف. قيل ذلك بأن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال بعد ذلك: إن طلق امرأته فعبده حر، ثم دخلت الدار لم يعتق عبده لما ذكرنا أن المقصود من اليمين منع النفس من التطليق، وهو كان ممتنعًا قبل هذا الحلف فلا يمكنه الامتناع بعد ذلك، فصار ذلك الحلف السابق مستثنى عن هذا الحلف، وكذلك في نظائرها. (فصار ذلك كأولاده لإحيائهم بالإعتاق) يعني أن المولى بالإعتاق يصير سببًا لحياتهم كالأب يصير سببًا لحياة الولد، وهذا لأن الكفر موت. قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} أي كافرًا فهديناه، وقال تعالى: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} والرق أثر الكفر، فكان إزالته كإزالة الموت من

كل وجه، فكان الإعتاق سببًا للحياة من هذا الوجه، والمعنى فيه أن الكافر لم ينتفع بحياته وهو اكتساب الحياة الأبدية صار كأنه جماد ميت؛ لأن الجماد لا ينتفع بشيء، فصار كأنه ميت معنى. ألا ترى أن الله تعالى سمى الكفار صمًا بكمًا عميًا مع أن كلًا منهم سميع ناطق بصير إلا أنه لما لم ينتفع بسمعه وهو اكتساب السمع الأبدي كان أصم وكذا في غيره، إذا ثبت أن الرق أثر الكفر، ولهذا لا يجوز ضرب الرق على المسلم ابتداء، فالمولى بالإعتاق صار سببًا لحياته، فيكون معتقًا بمنزلة الولد، ومعتق معتقه بمنزلة ولد الولد، وولده ولده حقيقة، وولد ولده ولده مجازًا لصحة النفي عنه، فلا يكون معتق المعتق مرادًا بهذه الوصية. كما أن أولاد أولاده لا يكونون مستحقين شيئًا فيمن أوصى لبني فلان أو لأولاد فلان، وله بنون لصلبه وأولاد البنين، وتشبيه سببيته إلى الحياة بالإعتاق بسببية الولاد إلى الحياة مستفاد من قوله عليه السلام: "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه" لما أن الجزاء مكافأة، وهي تنبئ عن المماثلة، فكل ما يوجد من الولد من الإنعام والإحسان في حق الأب لا

يماثل ما يوجد من الأب في حق الولد؛ لأن ما وجد منه كان سبب حياته وما يوجد من الولد لا يقابل هذا إلا إذا وجد مرقوقًا فاشتراه فأعتقه فهذا يماثل ما وجد من الأب في حق الولد وهو تحصيل الحياة في الأبد، كما أن الأب تسبب لحصول الحياة في الابن، فلذلك لم يجعل النبي عليه السلام جميع إنعامات الابن مساوية لإنعام الأب إلا إعتاقه؛ ليكون هذا جزاء وفاقًا منه لإنعام الأب بهذا الطريق. وقيل: كان الأستاذ الكبير مولانا شمس الدين الكردري- رحمه الله- يقول: هذا المعنى في هذا الحديث. (والحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز)، وإنما قيد بقوله: والحقيقة ثابتة؛ "لأن الحقيقة لو لم تكن ثابتة أصلًا بأن لم يكن للموصي معتقون ولكن له معتقوا معتقين كانت الوصية لمعتقي معتقيه؛ لأن الحقيقة هنا غير مادة فيتعين المجاز، ولو كان له معتق واحد والوصية بلفظ الجماعة فاستحق هو نصف الثلث وكان الباقي مردودًا على الورثة، ولا يكون لموالي المولى من ذلك شيء؛ لأن الحقيقة هنا مرادة. (حتى إن الوصية للمولى وللموصي موال أعتقوه باطلة) أي باطلة إلى

أن يبين أن مراده منها من هم؟ هكذا ذكره الإمام قاضي خان في "شرح الجامع الكبير" ثم هذا الذي ذكره هنا هو ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه- أنها جائزة ويكون الثلث بين الفريقين؛ لأن الاسم حقيقة لهما فيتناولهما. كما لو أوصي بثلث ماله لإخوته وله ستة إخوة، أخوان لأب وأم وأخوان لأب، وأخوان لأم كان الثلث بينهم السوية. وعن أبي يوسف- رحمه الله- أنه قال: الوصية للمولى الأعلى؛ لأنه منعم، ومجازاة المنعم واجب والزيادة على الإنعام ليس بواجب، فتصرف إلى الواجب، وعنه في رواية أنها تكون للمولى الأسفل؛ لأن كونه منعمًا عليه دليل الحاجة، فكان الصرف إلى المحتاج أولى. وعن محمد- رحمه الله- الوصية لا تجوز إلا أن يصطلح الموليان فيما بينهما. كما لو قال لرجلين: لأحدكما علي ألف درهم، قال محمد- رحمه الله- الإقرار باطل إلا أن يصطلح المقر لهما على شيء. وجه ظاهر الرواية أنه لا وجه لصرف الوصية إليهما؛ لأن اسم المولى

مشترك يتناول الأعلى والأسفل والناصر، واللفظ الواحد لا يتناول معنيين متنافيين في موضع الإثبات، ولا يمكن الصرف إلى أحدهما عينا؛ لأن المقصود من الوصية المجازاة والشكر، فلا يمكن تعيين أحدهما بغير دليل، ولا يمكن الصرف إلى أحدهما غير عين لجهالة المستحق فلا تصح، ولو صحت لدخل فيه الناصر والمحب وغيرهما؛ لأن اسم المولى يتناولهم بخلاف ما إذا أوصى لإخوته؛ لأن اسم الإخوة يتناول الكل بمعنى واحد وهو التفريع عن أصل واحد، فجاز أن يتناول الأشخاص المختلفة لمعنى واحد كاسم الحيوان وغير ذلك. بخلاف ما إذا خلف لا يكلم موالي فلان، فكلم ثلاثة من الفريقين، فإنه يحنث في يمينه؛ لأن ذلك موضع النفي واللفظ الواحد يجوز أن يتناول شيئين متنافيين في موضع النفي. يقول الرجل: ما رأيت لونًا ينتفي به السواد والبياض جميعًا. كذا في "شرح الجامع الكبير" للإمام قاضي خان- رحمه الله إنه (لا يلحق بالخمر في الحد) أي لا يلحق سائر الأشربة المسكرة بالخمر حتى لا يجب الحد بها ما لم تسكر؛ لأن الاسم للنيئ من ماء العنب المشتد حقيقة ولسائر الأشربة المسكرة مجاز، فإذا كانت الحقيقة مرادة يتنحى المجاز. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. (لأن الحقيقة أريدت بذلك النص) وهو قوله عليه السلام: "من شرب

الخمر فاجلدوه". (لأن المجاز مراد بالإجماع وهو الوطء حتى حل للجنب اليتيم أي بإجماع بيننا وبين الشافعي فبطلت الحقيقة) وهو المس باليد. فإن قلت: يحتمل أن يقول الشافعي بحل اليتيم للجنب بدليل آخر غير هذه الآية، فحينئذ لا يتم الاستدلال على أن المجاز هو المراد من هذه الآية استدلالًا بجواز اليتيم بالإجماع. قلت: لا يحتمل ذلك؛ لأنه لما قال بجواز التيمم للجنب، وذلك لا يخلو إما أن يقول بهذه الآية بغير الوجه الذي ذكرنا في الآية بأن يقول بالتقديم والتأخير على تقدير {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، أو بالحديث من حديث عمار وغيره فلا يجوز الأول؛ لأن الصحابة- رضي الله عنهم- كانوا

مختلفين في جواز التيمم للجنب على قولين: قال علي وابن عباس- رضي الله عنهم بجوازه، وقال ابن عمر وابن مسعود- رضي الله عنهما- بعدم جوازه. فكل من قال منهم بالجواز حمل اللمس والملامسة على مجازهما، وهو المجامعة، ولم يقل أحد منهم بالتقدير والتأخير، وكل من قال بعدم جواز التيمم للجنب قال: المراد من اللمس اللمس باليد، فجوز التيمم للمحث خاصة، فكان الفريقان كلاهما متفقين على عدم جواز التقديم والتأخير، فكان القول به قولًا باطلًا. إذ الاختلاف على القولين إجماع منهم على بطلان قول ثالث، وكذلك لا يجوز التمسك في جواز التيمم للجنب بحديث عمار وغيره؛ لأن ذلك كله من أخبار الآحاد فلا تجوز الزيادة على كتاب الله تعالى بخبر الواحد. فعلم بهذا أن الدليل على جواز التيمم للجنب إنما كان لحمل اللمس والملامسة على المجاز الذي هو الوطء لا غير، وإنما علم ذلك بجواز التيمم للجنب فكان الاستدلال بجواز التيمم للجنب على أن المراد من الآية المجاز تامًا. وقوله: (دون بني بنيه لما قلنا) إشارة إلى قوله: الحقيقة ثابتة فلم يثبت المجاز.

(لأنه موجبه) أي لأن الدخول موجب وضع القدم. (إذا كان لا يمتد كان الظرف أولى به) ثم المراد من الفعل الذي لا يمتد في مسألتنا فعل القدوم لا معنى الفعل الذي هو حر كما هو مزعوم بعض الأحداث لبطلان ما زعموا بمسألتي "الجامع الصغير"، وقد أوفيناه في "الوافي".

(ثم العمل بعموم الوقت واجب، فلذلك دخل الليل والنهار)، واليوم إنما يكون عبارة عن بياض النهار إذا قرن بما يمتد ليصير معيارًا له حتى إذا قال: أمرك بيدك يوم يقدم فلان ليلا لا يصير أمرها بيدها، وكذلك إذا قرن بما يختص ببياض النهار كقوله: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان. فأما إذا قرن بما لا يمتد ولا يختص بأحد الوقتين يكون عبارة عن الوقت كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (ففيها رواية أخرى بعد ذلك الباب) أي في "السير".

(لله علي أن أصوم رجبًا أنه إن نوى اليمين كان نذرًا ويمينًا) حتى إذا لم يصم رجبًا وجب عليه قضاء الصوم وتجب عليه الكفارة أيضًا، فوجب الكفارة يتعلق باليمين، ووجوب القضاء يتعلق بالنذر؛ لأن القضاء لا يجب في اليمين، والكفارة لا تجب في النذر. ألا ترى أنه لو قال: والله لأصومن رجبًا ولم يصم يجب عليه القضاء دون الكفارة ولو قال: لله علي أن أصوم رجبًا ولم يصم لا تجب الكفارة بالإجماع، وفيما نحن فيه يجب القضاء والكفارة. فعلم أنه نذر ويمين.

(أما أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- فقد عملا بإطلاق المجاز وعمومه)؛ لأنه الحقيقة إذا كانت مستعملة ولكنها نادرة والمجاز متعارف، فالمجاز عندهما أولى من الحقيقة والمستعملة النادرة؛ لأنه عمل بالحقيقة والمجاز وهذا هو العمل بعموم المجاز. وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- الحقيقة أولى وإن كانت نادرة إذا كانت مستعملة إلا إذا كانت الحقيقة مهجورة فحينئذ يصير بمنزلة دليل الاستثناء على ما ذكرنا إلا عند زفر، فإن عنده الحقيقة المهجورة أولى ويتبين هذا فيمن حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه، فإذا كان المجاز المتعارف عندهما أولى لم يكن جمعًا بينهما. (وهذه النسبة لا تنقطع بالأواني) قيد بالأواني؛ لأن هذه النسبة تنقطع بالأنهار الكبار التي تأخذ الماء من الفرات.

(بل هو نذر بصيغتة ويمين بموجبه) يريد به أنه قبل إصدار هذه الصيغة كان صوم رجب لم يكن واجبًا عليه، فبالنذر يصير واجبًا وباليمين أيضًا يصير واجبًا، لكن عند إرادة اليمين يكون الوجوب لغيره، وهذه الإرادة صحيحة بالإجماع من هذه الصيغة؛ بدليل أنه إذا نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرًا يصير يمينًا بالإجماع. علم أن إرادة الوجوب لغيره من هذه الصيغة صحيحة، فإذا نوى اليمين ولم ينف النذر حصل فيه دليلان: أحدهما يدل على الوجوب لعينه وهو الصيغة، والآخر يدل على الوجوب لغيره، فنعمل بالدليلين إذ لا تنافي بينهما؛ لأن الواجب لعينه يجوز أن يكون واجبًا لغيره مع ذلك. ألا ترى أنه لو حلف ليصلين ظهر هذا اليوم صح حتى أنه لو لم يصل يجب عليه القضاء باعتبار أنه أوجب لعينه، وتجب الكفارة باعتبار أنه ترك الواجب لغيره وهو محافظة اسم الله تعالى، فلما جاز الاجتماع بينهما ولا تنافي، فنعمل بهما فيما نحن فيه وهو عمل بموجبين مختلفين لا أنه جمع بين الحقيقة والمجاز كالهبة بشرط العوض هبة وبيع، لأنه هبة باعتبار صيغته وبيع باعتبار معناه. إذ البيع هو مبادلة المال بالمال بالتراضي وهو موجود هاهنا، فقلنا بهما عند وجود الدليل عليهما، وكما ذكر في الكتاب بقوله:

(وصار ذلك كشراء القريب)؛ لأن الشراء تملك بصيغته فيستحيل أن يكون هو بهذه الجهة إعتاقًا إلا أنه لما اختلف الجهة صح الجمع بينهما؛ لأنه باعتبار صيغته ليس بإعتاق، وباعتبار أنه إعتاق ليس بتملك؛ لأن التملك كان باعتبار الصيغة والإعتاق كان باعتبار الحكم، والحكم غير الصيغة، والصيغة غير الحكم، فكذلك ما كان يثبت بكل واحد منهما لا يكون ثابتًا بالآخر، والمنافاة إنما تكون إذا ثبت الحكمان المتنافيان في محل واحد إذا كانا من جهة واحدة وليس كذلك، فيصح الجمع بينهما بموجبين مختلفين. وقوله: بل هو نذر بصيغته "وهي قوله: على"، وهذه الصيغة مجاز لليمين بموجبها وهو الوجوب، فإن لهذه الصيغة موجبًا وهو الوجوب، وباعتبار هذا الوجوب يكون يمينًا؛ لأن إيجاب المباح يمين بمنزلة تحريم المباح، وتحريم المباح يمين، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ}، ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}. ويلزم من هذا أن يصير إيجاب المباح يمينًا؛ لأن في تحريم المباح إيجاب المباح؛ لأن الترك قبل النذر كان مباحًا وبعده صار واجبًا، وكان ترك الصوم عليه حرامًا؛ فيلزم من إيجاب المباح تحريم المباح، فكان يمينًا بموجبه لهذا، وقوله: "وهو الإيجاب" أي الوجوب؛ لأن موجب نذر الوجوب لا

الإيجاب" إلا أن الوجوب لا يكون إلا بالإيجاب، فكان في الوجوب اقتضاء، فأطلق عليه اسم المقتضى. (وطريق الاستعارة عند العرب الاتصال بين الشيئين). اعلم أن الاستعارة تفتقر إلى ستة أشياء: المستعار هو لفظ الأسد، والمستعار له: وهو الإنسان الشجاع، والمستعار عنه: وهو الهيكل المخصوص، والمستعير: وهو المتلفظ بهذه اللفظة، والاستعارة: هي التلفظ به لإثبات معنى الشجاعة، وما يقع به الاستعارة: وهو الاتصال بين المستعار عنه والمستعار له (وذلك الاتصال يكون صورة أو معنى؛ لأن كل موجود من الصور)، فالتقييد بالصور إما للاحتراز عن ذات الله تعالى، أو للاحتراز عن موجودات لا تشاهد معاينة كالعلم والقردة والحلم والغضب،

فإنها موجودات لم تجر السنة برؤيتها، فلم يكن لها بالشيء اتصال صورة. (ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم) هذا من قبيل إطلاق اسم السبب على المسبب حيث أطلق اسم السماء على المطر، وكذا في قوله: إذا سقط السماء بأرض قوم .... رعيناها وإن كانوا غضابا وكذا في قوله الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا}، ويجوز أيضًا إطلاق اسم المسبب على السبب كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أي عقدتم؛ بدليل ما بعده بقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} والنكاح: هو الوطء حقيقة، والعقد سببه، فكان

فيه إطلاق اسم المسبب على السبب، وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} أي إذا أردتم القيام إليها والقيام مسبب وإرادته سببه. (وقال الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وهو المطمئن من الأرض) أي الساكن منها أي إلى المنخفض الغائط: من غاط في الشيء أي دخل، والمضارع: يغوط ويغيط، وإنما يكون فيه عند الحدث عادة تسترًا عن أعين الناس. وكان شيخي- رحمه الله- يقول: الآدمي فهرست الملكوت. فيه الملكية والإنسية والبهيمية والشيطنة، فالأكل والشرب والتغوط والبول من خواص البهائم، فينبغي أن يستر الإنسان نفسه فيما يشبه به البهائم. فلذلك وقع في الشرع والعادة أن يكون الحدث في المكان المطمئن تسترًا عن أعين الناس، ولذلك قال عليه السلام: "الأكل عورة؛ رحم الله من ستره".

(الثفل) ما يسفل من كل شيء أي يرسب. (وهو السببية والتعليل) يعني أن استعارة السبب للمسبب والعلة للمعلول أو المعلول للعلة هو الاستعارة من حيث الصورة في المحسوسات؛ لأنه لا اتصال بينهما من حيث المعنى؛ لأن معنى السبب لا يوجد في المسبب. ومعنى العلة لا يوجد في المعلول؛ لأن العلة هي الموجبة، والمعلول هو الموجب، ولا مشابهة بينهما من حيث المعنى بل بينهما مضادة إذ من أثر الموجب المؤثر القوة، ومن أثر الموجب المتأثر الضعف، لكن بينهما قرب ومجاورة؛ لأن حال وجود السبب حال وجود المسبب. وكذا العلة والمعلول، فلذلك كان الاتصال بينهما من حيث الصورة؛ لأن الاتصال الصوري في المحسوسات بين الشيئين لم يكن بينهما إلا القرب والمجاورة من غير اتصال بينهما من حيث المعنى، وهذا كذلك في الشرعيات بين الشيئين من حيث السببية والتعليل، فلذلك جعل الاتصال من حيث السببية، والتعليل نظير الاتصال الصوري في المحسوسات.

بيانه أنك إذا نظرت في الحكمين إن كان بين سببيهما اتصال بأن كان أحدهما يثبت الحكم الذي أثبته الآخر كالبيع والنكاح، فإن حكم البيع ملك الرقبة وحكم النكاح ملك المتعة، والبيع يثبت الحكم الذي يثبت النكاح في الجارية عند زوال المانع، فتجوز استعارة البيع للنكاح حتى ينعقد النكاح بلفظ البيع، ولا ينعقد البيع بلفظ النكاح، وكان ينبغي أن ينعقد؛ لأن المناسبة بين الشيئين يكون من الطرفين جميعًا، إلا أنه لم ينعقد لما نبين في هذا الكتاب بعد هذا. (هو نظير القسم الآخر من المحسوس). بيانه أنك إذا تأملت في مشروع ووقفت على معناه، فإن وجدت هذا المعنى في المشروع الآخر يجوز استعارة أحدهما للآخر، كما أنك لو تأملت في معنى شرعية الميراث وكيفيتها وجدت أن الميراث شرع بعد فراغ الميت عن حوائجه، ووجدت الوصية كذلك شرع بعد فراغ الميت عن حوائجه، فاتصلا في معنى المشروع كيف شرع جازت الاستعارة بأن يذكر الميراث ويراد الوصية، أو الوصية ويراد الميراث، ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} أي يورثكم، وكذلك معنى الحوالة هو: نقل الدين من ذمة إلى ذمة، والوكالة أيضًا نقل ولاية التصرف،

فتستعير لفظ الحوالة للوكالة فتقول: أحل رب المال، أي وكله كما استعار محمد- رحمه الله- هكذا في "كتاب المضاربة"، فقال: يقال للمضارب أحل رب المال أي وكله. وكذلك نص في المكاتب إذا قال المولى لعبده: جعلت عليك ألفا تؤديها إلي نحو ما أولها كذا وآخرها كذا، فإذا أديتها فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق، فإن هذه مكاتبة، لأنه أتى بتفسير الكتابة، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. فالقصاص إماتة لا إحياء، لكن إحياء معنى من حيث الشرع والاستيفاء، وقد ذكرنا وجهه في باب القضاء والأداء، فلذلك أطلق اسم الحياة على القصاص، وكذا أيضًا قال الشافعي: يجوز استعارة الطلاق للعتاق، والعتاق للطلاق لاتصال بينهما في المعنى؛ لأن الطلاق بني على السراية والإسقاط واللزوم، وهذا المعنى موجود في العتاق، فيجوز استعارة كل واحد منهما للآخر.

(أن الاتصال بين اللفظين من قبل حكم الشرع) وهذا احتراز عن المحسوس، ومعناه ما ذكرنا أن أحد اللفظين يثبت من الحكم ما يثبته الآخر، فيجوز استعارة أحدهما للآخر. (ومن حيث وجدا) يريد به أن الاستعارة إنما تجوز بين الموجودين حيث وجد القرب والاتصال سواء كانا شرعيين أو حسيين؛ لأن ما هو المجوز القرب والاتصال بينهما وذلك لا يختص باللغة. (والمشروع قائم بمعناه الذي شرع له، وبسببه الذي تعلق به). أما بسببه الذي تعلق به فظاهر كالنكاح يتعلق وجوده بقول المتناكحين زوجت وتزوجت، والبيع بقول المتبايعين: بعت واشتريت، وهذان المشروعان قائمان بسببهما ويوجدان بهما. وكذلك المشروع قائم بمعناه الذي شرع له؛ أي قائم بالماهية التي شرع لأجلها وقائم بها. كالولد قائم بمعناه الذي هو له وقائم بسببه وهو الوالدان، وكذلك النكاح قائم بمعناه الذي هو له من الانضمام والازدواج الموضوعين للتوالد والتناسل، وقائم بسببه وهو زوجت وتزوجت، وكذلك هذا في البيع

والهبة وفي جميع المشروعات، فعند وجدان المعنى الجامع بطريقة يجري المجاز، ولكن الشأن في الطلب والوجدان. (ولأن حكم الشرع متعلقًا بلفظ شرع سببًا أو علة لا يثبت من حيث يعقل إلا واللفظ دال عليه لغة)؛ وهذا لأن حكم الشرع نوعان: حكم يدرك معناه بالعقل، وحكم لا يدرك معناه بالعقل، فالقسم الأول إذا تعلق بلفظ شرع ذلك اللفظ سببًا أو علة يدل على اللفظ على معناه لغة كالبيع والهبة وغير ذلك. فإن الأحكام الثابتة بهذه تدرك معانيها بالعقل؛ لن العقل يقتضي أن يكون كل من فاز بالسبب فاز بالحكم؛ لأنه إذا لم يكن كذلك يؤدي إلى التنازع والتقابل، فالشرع جعل هذه الأحكام مختصة بأسباب. من فاز بها فاز بأحكامها لما عرف، فالألفاظ إذن دلالات على معانيها لغة فصحت الاستعارة، فكانت هذه الاستعارة شرعية فيها معنى اللغة أيضًا. ألا ترى أنهم لم يجوزوا استعارة الخمر لغير الخمر لإثبات حكم ثبت بشرب الخمر، لما أن هذا الحكم لا يدرك بالعقل، وهو ضرب ثمانين سوطًا أو أربعين، وقوله: "متعلقًا" حال عن حكم الشرع والعامل فيه لا يثبت مؤخرًا، أي أن حكم الشرع لا يثبت حال كونه متعلقًا بلفظ من حيث السببية أو العلية من الجهة التي يعقل، إلا واللفظ دال على ذلك الحكم، فلما دل اللفظ عليه من

حيث اللغة لو استعير لغيره باعتبار مشابهته في المعنى كان هذه الاستعارة استعارة من حيث اللغة أيضًا، وإنما قال: "متعلقًا بلفظ"؛ لأن عامة وجوب العبادات متعلقة بالمعنى لا باللفظ، كوجوب الصلاة تعلق بدلوك الشمس، والصوم بشهود الشهر. (ولا استعارة فيما لا يعقل)؛ لأن الاستعارة نظير القياس، فالقياس إنما يجري فيها يعقل معناه، فكذلك الاستعارة والذي لا يعقل كالمقدرات في الحدود وغيرها. وقوله: (ألا ترى أن البيع لتمليك العين) إيضاح للنوع الذي يعقل معناه وهو صالح للاستعارة، فاستعرنا لفظ البيع للنكاح؛ لأن في تمليك العين تمليك ملك المتعة في محله بطريق السببية، والنكاح أيضًا يثبت ملك المتعة مقصودًا، فلما اتحدا في إثبات ملك المتعة وإن كانا يتفاوتان في الأصالة وغير الأصالة جوزنا استعارته للنكاح، (وكذلك ما شاكله) كالهبة استعيرت للنكاح، وكذلك الكفالة والحوالة والوكالة يجوز استعارة كل واحدة منها للأخرى.

(ولا اختصاص للرسالة بالاستعارة). هذا جواب عن قول الشافعي ذكره في موضع في تعليل جواز نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة بطريق الاستعارة، ويقول: كان ذلك الجواز مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره حتى لا يجوز لغيره أن يستعير لفظ الهبة للنكاح لا أنه انعقد هبة؛ لأن انعقاده هبة إنما يكون فيما إذا كانت المرأة أمة ولم يكن كذلك، فلذلك قلنا: إنه لم ينعقد هبة حقيقة؛ لأن تمليك المال في غير المال لا يتصور يعني أن الهبة لتمليك المال. وانعقد نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة، ولم يكن نفس المرأة الحرة مالًا، فلابد من أن يجعل ذلك استعارة للنكاح؛ لأنه لما لم يمكن العمل بالهبة بحقيقتها التي هي لتمليك المال كانت هي مستعارة لا محالة. (لأنه عقد شرع لأمور لا تحصى) كالتوارث وانتفاع كل منهما بالآخر،

وحصول غض البصر عن الحرام، وحصول المصاهرة التي تشبه قرابة الآباء والأمهات وغير ذلك. (بل فيهما إشارة إلى ما قلنا) أي من معنى النكاح والتزويج، فالنكاح يدل على الضم، والتزويج يدل على التلفيق، وهو إن لم يذكر معنى النكاح والتزويج هاهنا لكن جعل دلالة هذين اللفظين على ذينك المعنيين بمنزلة ذكره إياهما (فلم يصح الانتقال عنه) أي عن اللفظ الموضوع للنكاح وهو لفظ النكاح أو التزويج (لقصور اللفظ عن اللفظ الموضوع له) أي

لقصور لفظ التمليك عن لفظ النكاح أو التزويج، وهذا لن هذا العقد عقد مشروع لمقاصد لا تحصى مما يرجع إلى مصالح الدين والدنيا، ولفظ النكاح والتزويج يدل على ذلك باعتبار أنه ينبئ عن الاتحاد، فالتزويج تلفيق بين الشيئين على وجه يثبت الاتحاد بينهما في المقصود كزوجي الخف ومصراعي الباب. والنكاح بمعنى الضم الذي ينبئ عن الاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة، وليس في هذين اللفظين ما يدل على التمليك باعتبار أصل الوضع، ولهذا لا يثبت ملك العين بهما، فالألفاظ الموضوعة لإيجاب ملك العين فيها قصور فيما هو المقصود بالنكاح. إلا أن في حق رسول الله عليه السلام كان ينعقد نكاحه بهذا اللفظ مع قصور فيه تخفيفًا عليه وتوسعة، وفي حق غيره لا يصلح هذا اللفظ لانعقاد النكاح به لما فيه من القصور. وقوله: "من مصالح الدين والدنيا". أما مصالح الدين: فإن مباشرة منكوحته التي هي حلال له تمنعه عن طموح العين إلى غيرها التي هي حرام محض عليه على وجه يوجب مباشرته إياها والرجم أو جلد مائة، وأيده قوله عليه السلام: "من تزوج فقد حصن نصف دينه".

وأما مصالح الدنيا: فإنها تقوم بأمور داخل البيت، كما أن الزوج يقوم بأمور خارج البيت، وبهذين الأمرين ينتظم أمور المعيشة في الدنيا. (وهو أن يقول: أحلف بالله؛ لأنه موجب لغيره) وهو الاحتراز عن هتك اسم الله تعالى. (لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة عندكم)، وإنما قيد بقوله: "عندكم" لأن شركة المفاوضة غير جائزة عنده، وهذا الذي ذكره هو أن ذلك العقد لا ينعقد إلا بلفظ المفاوضة غير مجرى على إطلاقه بل ذلك فيما إذا لم يعرف المتعاقدان أحكام المفاوضة. وأما إذا كانا يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها؛ لأن المعتبر المعنى دون اللفظ، ثم فيما إذا لم ينعقد مفاوضة فيما إذا لم يعلما أحكامهما ولم يذكرا لفظ المفاوضة كانت

الشركة عنانًا. كذا ذكره في "المبسوط". (مقام ما ذكرنا من المجاورة) أي في المحسوسات بهذا الاتصال بين الشيئين، وهما: الهبة والنكاح، والحكمين وهما: ملك الرقبة وملك المتعة. (على حكم الملك له عليها) وهو حل الوطء، وهذا جواب عما قاله الشافعي بقوله: "لأنه عقد شرع لأمور لا تحصى". قلنا: لم يشرع لتلك الأشياء مقصودًا، بل شرع لحكم واحد وهو حل الاستمتاع للزوج بثبوت الملك له عليها. (لأنه أمر معقول) أي ما ذكرناه وهو شرعية النكاح لإثبات الملك عليها. ألا ترى أن للمرأة تثبت الملك عليه في المهر، فيثبت ملك المتعة للزوج عليها تحقيقًا للمعادلة، وإنما قلنا. إن ثبوت حل الوطء له بثبوت الملك له

عليها أمر مقصود، وما ذكره الشافعي من أمور لا تحصى من الثمرات لوجود تلك الأمور من غير النكاح، ووجود النكاح مع عدم تلك الأمور، فإن من تلك الأمور التوارث، وهو أخصهما فهو معدوم في صورة نكاح الكتابية، وكذلك المصاهرة لا تثبت فيما إذا طلق امرأته قبل الدخول في حق بينهما حتى حل له نكاحها. وأما نكاح ما فلا يوجد بدون إثبات الملك له عليها في حل الاستمتاع. فعلم بهذا أن تلك الأمور من الثمرات، وثبوت الملك له عليها في حل حق الاستمتاع من المقاصد. فإن قيل: ملك المتعة أيضًا مشترك بينهما. ألا ترى أن للمرأة أن تطالب زوجها بالوطء، حتى إذا لم يوف حقها في ذلك يفرق كما في العنين. قلنا: ثبوت حق المطالبة لا يدل على الملك كما في نفقة المماليك، أو لأن حد الملك الذي هو الاختصاص بالمطلق الحاجز يوجد في حق الرجل لا في حق المرأة، فإن المرأة ممنوعة عن تزوج غيره، وليست للمرأة أن تمنع زوجها عن غيرها حتى لا يختل حقها في الوطء. (وإذا كان كذلك قلنا): أي لما كان بناء النكاح لأجل حل الوطء له

وثبوت ملك المتعة له عليها لا بمعناه بمنزلة النص، فإنه يوجب الحكم فيما تناوله سواء كان هو معقول المعنى أو لم يكن. لما أن الاسم الموضوع للشيء يدل على ما وضع له سواء عقل معناه أو لم يعقل؛ لأن الحقيقة موقوفة على السماع من غير أن يعقل. ألا ترى أن الولد الرضيع يسمى أميرا وعالمًا من غير وجود معناهما فيه، وأقصر خليقة الله تعالى يسمى طويلا، والأسود يسمى كافورا، والأعمى يسمى أبا العينا من غير وجود المعاني. علم أن الأعلام إنما تعمل وضعًا لا باعتبار المعاني، كما أن النصوص توجب الأحكام بأنفسها سواء عقل معناها أو لم يعقل؛ لأن النصوص بمنزلة الحقائق، فإذا احتيج إلى القياس حينئذ يعتبر فيها المعاني. فكذلك في الاستعارة تعتبر المعاني حين يعدى هذا اللفظ إلى محل آخر، وإذا كان كذلك فالنكاح والتزويج هما (اسمان جعلا علمًا لهذا الحكم، والعلم يعمل وضعًا لا بمعناه)، ثم لما ثبت ملك النكاح بهما مع أنهما لا ينبئان عن الملك لغة فالبيع وأخواته ينبئ عنه لغة كان ثبوت ملك النكاح بها أحق؛ لأن اللفظ الدال على المعنى كان أحق من اللفظ الذي لم يدل عليه لغة، وعلى هذا التقرير كان ثبوت ملك النكاح بلفظ البيع وأخواته من قبيل ما يثبت الحكم بدلالة النص.

وقوله: (فلما ثبت الملك بهما) أي بالتزويج والنكاح (وضعا) أي شرعا (صحت التعدية به) أي بثبوت الملك بلفظ التزويج والنكاح إلى ما هو صريح في التمليك وهو البيع وأخواته. (فهلا صحت استعارة النكاح للبيع)؟ أي لم لم يجز أن يستعار لفظ النكاح للبيع بأن يقول البائع للمشتري: نكحت هذا العبد أو هذه الجارية لك، فقال المشتري: قبلت. حتى يصح البيع بلفظ النكاح كما يصح النكاح بلفظ البيع بقوله: بعت ابنتي منك، ولهذا قلنا: فيمن قال إن ملكت عبدًا فهو حر، إنما وضع المسألة في المنكر؛ لأن تعليق العتق بالملك في العبد المعين كتعليق العتق بالشراء في أنه يحنث في الوجهين أي في اجتماع النصفين في ملكه أو في غير الاجتماع بعد أن ملك الكل، ثم هذا الذي ذكره في العبد المنكر في الملك من اجتماع النصفين في ملكه جواب الاستحسان. وأما جواب القياس فهو كالشراء؛ لأن الشرط ملك العبد مطلقًا من غير شرط الاجتماع وقد حصل. وأما وجه الاستحسان فإن الملك المطلق يقع على كماله وذلك بصفة

الاجتماع يكون فاختص بها. ألا ترى أن الرجل إذا قال: إن ملكت مائتي درهم فعبده حر، أنه يقع على اجتماع الملك فيهما. وألا ترى أن الرجل يقول: والله ما ملكت من مائتي درهم قط، ولعله أن يكون ملك ذلك وزيادة متفرقًا ولكن لم يجتمع في ملكه مائتا درهم، فكان صادقًا، وإذا كان الاجتماع مقصودًا اعتبر هذا الوصف في غير العين؛ لأنه يعرف بأوصافه، فإذا لم يوجد لم يحنث، وفي المعين لم يعتبر الاجتماع حتى أنه إذا قال: إن ملكت هذا العبد فهو حر، فملك نصفه فباع ثم ملك النصف الباقي، فإنه يعتق هذ الذي في ملكه؛ لأن صفة الاجتماع مرغوبة

فلم تعتبر في العين؛ لأنها تعرف بالإشارة إليه كمن حلف لا يدخل هذه الدار أنه لا يعتبر فيها صفة العمران وتعتبر في غير العين، فكذلك هذا. (ولو قال: إن اشتريت عبدا عتق النصف الباقي وإن لم يجتمع)، ففرق بين الشراء والملك من وجهين: أحدهما- أن في الملك إنما يقيد بصفة الاجتماع في المنكر بحكم العرف ولا عرف في الشراء، فبقي على ما يقتضيه القياس من غير تقييد صفة الاجتماع. والثاني- أن صفة كونه مشتريًا تبقى بعد زوال الملك. أما صفة كونه مالكًا لا تبقى بعد زوال الملك فافترقا، وهذا لأن الاشتراء لا يقتضي أصل الملك فكيف يقتضي وصفه؟ ألا ترى أنه لو قال: إن اشتريت عبدًا فامرأته طالق. أنه لو اشتراه لغيره حنث في يمينه، فلما كان كذلك أنه إذا اشترى النصف الباقي بعد بيع النصف الأول فقد اشترى كله فوجب الحنث. هذا كله في جامعي فخر الإسلام وقاضي خان- رحمهما الله-. (وفي العبد المعين يستويان) أي يعتق في كلا وجهي التفرق والاجتماع سواء كان ذلك في صورة الملك أو صورة الشراء؛ لأن استعار الحكم لسببه في الفصل الأول.

(واستعار السبب لحكمه في الفصل الثاني) أي استعار الحكم لعلته في مسألة ذكر الملك، واستعار العلة لحكمها في مسألة ذكر الشراء. أراد بالسبب العلة في الصورتين، ثم عند ذكر الملك لو أراد به الشراء كان مصدقًا قضاء وديانة؛ لأنه لا تخفيف فيه بل فيه تغليظ. وأما عند ذكر الشراء لو أراد به الملك يصدق ديانة؛ لأنه استعار العلة لحكمها وهو جائز، ولا يصدق قضاء؛ لأن استعارة العلة للحكم لا يجوز، بل لأنه نوى التخفيف على نفسه مع احتمال ما ذكره التغلظ ظاهرا؛ لأن عند ذكر الشراء هو إرادة ما يتعلق بالشراء وهو أن يعتق النصف الثاني الذي في ملكه، وإن حصل في ملكه بطريق التفرق هو الظاهر. وأما العدول عن إرادة الشراء بذكر الشراء إلى إرادة الملك الذي هو يقتضي صفة الاجتماع فليس هو بظاهر مع وجود التخفيف عليه، فلذلك لا يصدقه القاضي. (وأما الاتصال الثاني) أراد به اتصال السبب المحض بمسببه (فاستعارته جائزة من أحد الطرفين) وهو استعارة السبب لمسببه. كما جوزنا استعارة البيع للنكاح لما أن البيع سبب لملك المتعة في محله وليس بعلة له؛ لأن للبيع

حكما آخر موضوعًا له، وهو ملك الرقبة فكان ثبوت ملك المتعة له بحسب اتفاق الحال لا حكمًا مقصودًا له بدليل شرعيته فيما لا يحتمل ملك المتعة أصلا كما في العبيد والبهائم، فلذلك كان البيع لإثبات ملك المتعة سببا محضًا وذلك يجوز استعارة السبب للحكم، ولا يجوز استعارة الحكم للسبب بأن يذكر النكاح ويراد البيع، وهذا لأن موجب النكاح ملك المتعة وليس هو بسبب لملك الرقبة البتة، وملك المتعة في حق ملك الرقبة بمنزلة العدم، فلو قلنا بالاستعارة يؤدي إلى استعارة المعدوم للموجود فلم يثبت الاتصال بينهما؛ لأن الاتصال إنما يكون بين الشيئين الموجودين لا بين الموجود والمعدوم، فلم يجز الاستعارة لعدم طريق الاستعارة وهو الاتصال. يحققه أن الأصل- يعني ملك الرقبة- مستغن عن ملك المتعة لوجوده بلا ملك المتعة، وكان ملك المتعة في حق ملك الرقبة بمنزلة العدم لما عرف أن الأصل مستغن عن الفرع، والفرع لا يستغنى عن الأصل، فلذلك صلح هذا الاتصال الثاني طريقا للاستعارة في أحد الطرفين دون الآخر. وقوله: (وهو أن يستعار الأصل للفرع والسبب للحكم) جاز أن يكون مراده من ذكر السبب للحكم الأصل للفرع لكن كرر هذه للتنبيه على أن في هذا السبب معنى الأصالة والسببية، وفي حكمه هذا معنى الفرعية، وكونه حكمًا لبيان استغناء السبب عن وجود المسبب بتسميته له ذكر الأصل والسبب.

أما الأصل فظاهر فإنه مستغن في وجوده عن الفرع، وكذلك ذكر السبب؛ لأن المراد من هذا السبب هو السبب المحض لا السبب الذي هو بمعنى العلة، وله حكم آخر مقصود به وعلة في حقه، فكان هو مستغنيًا في وجوده عن هذا المسبب بخلاف العلة والمعلول؛ لأن لكل واحد منهما افتقارا إلى الآخر. (وهذا كالجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة) كما إذا قال: أنت طالق وعمرة. لما أن الجملة الناقصة مفتقرة إلى الجملة الكاملة كالفرع مفتقر إلى الأصل، والمسبب مفتقر إلى السبب، وكذلك الجملة الكاملة لا تفتقر إلى الجملة الناقصة، والناقصة تفتقر إلى الكاملة. (وعلى هذا الأصل قلنا: إن ألفاظ العتق تصلح أن تستعار للطلاق) أي عند نية الطلاق بأن يقول لامرأته: أنت حرة، ونوى به الطلاق تطلق بطريقين استعارة لفظ العتق للطلاق وبدون النية لا يقع الطلاق. فإن قلت: ما الفرق بين استعارة ألفاظ العتق للطلاق هنا حيث تحتاج إلى النية لصحة الاستعارة وبين استعارة ألفاظ التمليك في باب النكاح للنكاح وهناك لا تحتاج إلى النية لصحة الاستعارة؟

قلت: الفرق بينهما من حيث إن استعمال ألفاظ العتق على حقيقته هاهنا ممكن بأن يخبر بها عن حريتها بقوله: أنت حرة، فلذلك لم تتعين الاستعارة للطلاق إلا عند النية لاحتماله الطلاق على ما ذكرنا من استلزام هذا اللفظ زوال ملك المتعة في محل الاستلزام، فجاز أن يستعار اللفظ الموضوع لإزالة ملك المتعة وهو الطلاق مع إمكان العمل بحقيقته على طريق الإخبار، والنية وضعت لتعيين بعض ما احتمله اللفظ، فلما كان المستعار له من محتملات اللفظ احتيج إلى النية. وأما ألفاظ التمليك المضافة إلى الحرة عند وجود شرائط النكاح لم تقبل شيئًا إلا النكاح وإلا فيلغو، فتعينت لذلك لاستعارتها للنكاح من غير نية، وهذا لأن الأب إذا قال لآخر: بعت ابنتي منك أو وهبت لك لا يحتمل هذا المحل حقيقة البيع والهبة، وللفظ التمليك صلاحية الاستعارة للنكاح بطريق السببية؛ لأن البيع أو الهبة يصلح أن يكون سببًا لملك المتعة في الأمة بواسطة ملك الرقبة، فكانت هذه الاستعارة استعارة السبب للمسبب، وهي طريق من طرق الاستعارة، فيجوز بغير النية لعدم احتمال شيء آخر. وقوله: (تبعًا لا قصدا على نحو ما قلنا) إشارة إلى ما ذكر من ألفاظ التمليك في النكاح بقوله: وملك الرقبة سبب لملك المتعة"، إلى آخره يعني لما ثبت ملك المتعة عند ثبوت ملك الرقبة بطريق التبعية ثبت زوال ملك المتعة أيضًا عند زوال ملك الرقبة بطريق التبعية، فصار هذا نظير عزل السلطان واحدًا من

أمرائه، فإنه يكون عزلا لإتباع ذلك الأمير بطريق التبعية. (لأن كل واحد منهما إسقاط بني على السراية واللزوم)، فأثر الإسقاط في صحة التعليق، ولو كان للإثبات لما صح التعليق، وكذلك يثبت من غير قبول المرأة والعبد، وكذلك يصح كل واحد منهما بغير شهود، وأثر السراية ما إذا قال: أنت طالق نصف تطليقة ونصف عتق تطلق ويعتق، وأثر اللزوم في حق عدم قبول كل واحد منهما الفسخ والرد والرجوع. (والمناسبة في المعاني من أسباب الاستعارة) أي من طرق الاستعارة. وقوله: (من الوجه الذي قلنا) أي في طرف الشافعي أن التعليل بكل وصف صحيح من غير أثر خاص، كما علل الشافعي في مسح الرأي بقوله: إنه ركن في الوضوء، فيسن فيه التثليث، وليس الركنية بأثر خاص في استدعاء التثليث لانتقاضه بالمضمضة والاستنشاق. وأما قولنا: إنه مسح في الوضوء فلا يسن فيه التثليث فتعليل بأثر خاص

على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. (وأما بكل وصف) مثل الوجود والحيوانية (فلا) (ولا منسبة بينهما من هذا الوجه) أي من الوجه الذي ذكره الشافعي من المناسبة بينهما من حيث الإسقاط والسراية واللزوم؛ (لأن معنى الطلاق ما وضع له اسمه) أي الذي وضع له اسمه. (والنكاح لا يوجب حقيقة الرق) والتقييد بحقيقة الرق للاحتراز عن تعليل الشافعي في موضع آخر بقوله: لأن النكاح فيه معنى الرق قال عليه السلام:"النكاح رق".

كذا علل له في "المبسوط". (ولا يسلب المالكية). ألا ترى أنها إذا وطئت بالشبهة يلزم العقر على الواطئ للمرأة لا للزوج. لم قلنا إن الملك بالنكاح ضروري ليس بأصلي فلا يظهر في حق العقر، فالطلاق لا يسقط إلا ما أثبته النكاح وهو القيد عن التزوج، والحبس عند التزوج بالملك الذي له عليها، فكان حاجتها إلى رفع المانع، وذلك يكون بالطلاق كما يكون برفع القيد عن الأسير؛ لأن المرأة بعد النكاح حرة محبوسة عن التزوج، وبالفرقة يزول المانع من الانطلاق. (وأما الإعتاق فإحداث القوة) في الذات؛ لأنه لم يبق في الرقيق صفة المالكية، وبالعتق يحدث له صفة المالكية، ولا مشابهة بين إحداث القوة وبين إزالة المانع، وقوله: وأما الإعتاق فإثبات القوة". فإن قلت: هذا إنما يستقيم على قولهما؛ لأن عندهما الإعتاق إثبات

العتق وهو القوة. وأما عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- فعبارة عن إزالة الملك، فكان على هذا بين الطلاق والعتاق مناسبة من حيث إن كل واحد منهما موضوع لإزالة الملك، فينبغي أن تجوز الاستعارة من الجانبين على مذهبه. قلت: في الطلاق إزالة محضة من غير شائبة إثبات القوة لا من حيث الوضع ولا من حيث الشرع. وأما العتاق، فإزالة الملك مع دلالته على إثبات القوة نظرا إلى موضوع اللغة، ونظرا إلى حكمه من حصول ولايته على نفسه وصلاحيته للولاية على غيره؛ من القضاء والشهادة والإرث ووجوه التصرف من تملك المال وتمليكه ونفاذ وصيته وإعتاقه وغير ذلك، فكان بين الإزالتين تفاوت فاحش، فلا تصح الاستعارة لفحش التفاوت بينهما. قوله: (قيل له: وقد قال بعض مشايخنا: إن البيع لا ينعقد بلفظ الإجارة، والإجارة تنعقد به)، وفي هذا منع لقوله: أليس لا يصح أن

يستعار البيع للإجارة؟ فإنه قد استعير عند بعضهم عند إضافة البيع إلى الحر على ما ذكر في الكتاب يعني بل يصح. وقد ذكر شمس الأئمة- رحمه الله- جواز استعارة لفظ البيع للإجارة عند إضافة لفظ البيع إلى نفس الحر مطلقا من غير تقييد بذكر بعض المشايخ. وأما عند إضافة البيع إلى العبد، فإنما لم تصح الإجارة به، لانعدام المحل لا لانعدام الصلاحية للاستعارة، وهذا لأن لفظ البيع إذا أضيف إلى العبد فلا يخلو إما أن أضيف إلى منافع العبد أو إلى رقبته، ولو أضيف إلى منافع العبد لا يصح؛ لأن المنافع معدومة في الحال وهي ليست بصالحة حال عدمها لا للبيع ولا للإجارة. ألا ترى أنه لو أضاف إليها صريح لفظ المستعار له وهو لفظ الإجارة بأن قال: آجرتك منافع هذا العبد لا يصح، فكذا ما يقوم مقامه وهو لفظ البيع. وأما إذا أضيف لفظ البيع إلى عين العبد فلا تصح الإجارة أيضا؛ لأن المحل صالح لحقيقة اللفظ، والحقيقة حقيق بأن تراد؛ لأن المستعار لا يزاحم الأصل، فلما وجب العمل بحقيقة اللفظ لتقدمها سقط المجاز فلم تصح الإجارة، حتى إنه لو قال: بعت منافع عبدي هذا شهرا بعشرة دراهم كانت إجارة صحيحة بلفظ البيع، وإن أضيف لفظ البيع إلى منافع العبد لقيام القرينة الدالة على إرادة المجاز. هكذا ذكر في "التقويم".

وقوله: (وذلك يتصور في الحر) أي انعقاد الإجارة بلفظ البيع إنما يتصور في الحر لا في العبد؛ لأن في العيد يصير بيعا لا إجارة. (لا تصلح محلا للإضافة) أي لعقد الإجارة. (فكذلك ما يستعار لها) أي فكذلك لفظ البيع الذي استعير للإجارة (ولكن العين أقيمت مقامها) أي عين الدار أقيمت مقام منافعها (في حق الإضافة في الأصل) أي في حق عقد الإجارة في إثبات الإجارة. (فكذلك فيما يستعار لها) أي فكذلك في لفظ البيع الذي يستعار للإجارة يعني لما أقيمت العين مقام المنفعة في حق عقد الإجارة عند إضافة لفظ الإجارة إلى العين أقيمت العين أيضا في حق المستعار للإجارة، وهو لفظ البيع الذي أريد به الإجارة مجازا مقام المنفعة، ولكن إنما يكون ذلك إذا أضيف لفظ البيع إلى الحر مع ذكر المدة كما في قول الحر: بعت نفسي منك شهرا. وأما إذا أضيف لفظ البيع إلى منافع العين وأريد الإجارة فلا يكون للإجارة، كما لو أضيف صريح لفظ الإجارة إلى منافع العين بأن قيل: أجرتك منافع هذه الدار لا يجوز، فكذلك فيما استعير لها وهو لفظ البيع إذا أضيف

إلى منافع العين لا يجوز سوى ما ذكرنا من رواية "التقويم" أن فيه يجوز أيضا عند قيام الدلالة على إردة المجاز. (وصار هذا كالبيع للنكاح) وكلمة هذا إشارة إلى لفظ البيع إذا أضيف إلى منافع الدار. وقوله: يستعار للنكاح (في غير محله) أي في غير محل النكاح (وهي المحرم من النساء) أي المحرم من النساء كما هي ليست بمحل لحقيقة لفظ النكاح، فكذلك أيضا ليست هي بمحل للفظ المستعار للنكاح وهو لفظ البيع الذي أريد به النكاح، فكان هذا عين نظير لفظ البيع الذي أريد به الإجارة إذا أضيف إلى منافع العين، فإن هناك لا تصح الإجارة لإضافته إلى المحل الذي لو أضيف إليه حقيقة لفظ الإجارة لا يصح، فكذا إذا أضيف إليه اللفظ المستعار للإجارة، فكذا هنا لما لم يصح النكاح بحقيقة لفظ النكاح إذا أضيف إلى المحرم من النساء، فكذا لا يصح النكاح باللفظ المستعار للنكاح إذا أضيف إلى المحرم من النساء؛ وهذا لأن المستعار لا يكون أقوى حالا من الحقيقة، فلما لم يصح النكاح بصريح لفظ النكاح الذي هو حقيقة في هذا المحل لم يصح هو أيضا باللفظ المستعار للفظ النكاح، وهو لفظ البيع إذا أضيف إلى هذا المحل

فعلم بهذا كله أن عدم جواز استعارة البيع للإجارة فيما لا يجوز لا باعتبار أن الاستعارة في نفسها لا تجوز بينهما، بل باعتبار أن اللفظ المستعار لم يضف إلى محله، حتى إذا أضيف إلى محله وهو عين غير قابل للبيع يجوز كما في استعمال لفظ المستعار له، وهو لفظ الإجارة إنما تنعقد إجارة إذا أضيف إلى العين لا إلى المنفعة، فكذا في اللفظ المستعار له لما أن اللفظ المستعار إنما يعمل على حسب عمل حقيقة لفظ المستعار له، فأينما يعمل فيه حقيقة لفظ المستعار له يعمل اللفظ المستعار في ذلك المحل وما لا فلا. (ومن أحكام هذا القسم أيضا أن المجاز خلف عن الحقيقة في حق التكلم لا في حق الحكم عند أبي حنيفة) - رضي الله عنه- أي التكلم بلفظ المجاز مقام التكلم بلفظ الحقيقة بأن التلفظ بلفظ الأسد عند إرادة الرجل الشجاع به مقام التلفظ بلفظ الرجل الشجاع، ثم الحكم الثابت بلفظ المجاز كالحكم الثابت بلفظ الحقيقة كما في الوكالة، فإن الحكم الثابت بالوكيل كالحكم الثابت بالموكل حتى حل للموكل وطء جارية اشتراها الوكيل لموكله كما لو باشر شراءها بنفسه، وكذلك التراب مع الماء، فإن الخلفية هناك في حق الآلة وهي: الماء والتراب، وأما حصول الطهارة فيهما بطريق الأصالة، لأن حصول الطهارة حكم لهما فلا خلفية فيه. (وعندهما المجاز خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم)؛ لأن الحكم هو

المقصود، فكان اعتبار الأصالة والخلفية فيما هو المقصود أولى، وبعد هذا إجماع بينهم أن شرط الخلف انعدام الأصل في الحال على احتمال الوجود، فعند أبي حنيفة- رحمه الله- لما كانت الأصالة والخلفية في حق التكلم كان المنظور إليه والملتفت له تتبع صحة اللفظ وتصوره لغة من غير أن ينظر إلى صحته من حيث الشرع، فكان ذلك عنده كعمل الاستثناء، فإن الاستثناء تتبع صحته من حيث اللفظ على أن يكون عبارة عما وراء المستثنى، وإن لم يصادف أصل الكلام محلا صالحا له من حيث الحكم باعتبار أنه تصرف من المتكلم في كلامه، حتى إذا قال لامرأته: أنت طالق ألفا إلا تسعمائة تسعة وتسعين لم تقع إلى واحدة، ومعلوم أن المحل غير صالح لما صرح به، ومع ذلك كان الاستثناء صحيحا؛ لأنه تصرف من المتكلم في كلامه فهنا أيضا كذلك، وعندهما لما كان المجاز خلفا عن الحقيقة في حق إثبات الحكم كان المنظور إليه والملتفت له توهم صحة حكم الحقيقة، حتى يصير المجاز خلفا عنها في حق إثبات الحكم. أما لو كان الحكم مستحيلا بمرة لا يمكن أن يجعل المجاز خلفا عن الحقيقة في إثبات الحكم، لأنه لا حكم للحقيقة أصلا، فكيف يصح المجاز عنه خلفا في إثبات الحكم المستحيل كما عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- إن التكلم لما لم يصح لغة أصلا لا يصير مجازه خلفا عنه في التكلم؛ لأنه لم يصح تكلما، فكذا هنا. ثم في قوله (لعبده وهو أكبر سنا منه: هذا ابني لا يعتق عندهما)؛ لأن حكم حقيقة كلامه ها هنا، وهو إثبات البنوة محال، والمجاز خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم، ففي كل موضع يصلح أن يكون السبب منعقدًا

لإيجاب الحكم الأصلي، يصلح أن يكون منعقدا لإيجاب الحكم الخلفي كما في قوله: ليمسن السماء، وفي كل موضع لم يوجد في السبب صلاحية الانعقاد للحكم الأصلي لا ينعقد موجبا للحكم الخلفي كما في اليمين الغموس، وكما في حق الحائض والنفساء أنهما لما لم تخاطبا بآية الوضوء لم تخاطبا بآية التيمم. قال أبو حنيفة- رحمه الله- المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم. أي التكلم بلفظ المجاز خلف عن التكلم بلفظ الحقيقة حتى إن قوله: هذا أسد، للإنسان الشجاع مجاز عن قوله: هذا أسد في حقيقة للهيكل المخصوص. هكذا كان تقرير أستاذي مولانا فخر الدين المايمرغي- رحمه الله-

فإن قيل: كيف يستعار قوله: هذا أسد عن قوله: هذا أسد وهما جميعا على عبارة واحدة؟ قلنا: يجوز ذلك عند قرينة دالة على المجاز بأن أشار إلى إنسان بقوله: هذا أسد، أو يقول: رأيت أسدا يرمي، ولا يبعد أن يختلف الشيء باختلاف صفته اسما وحكما. ألا ترى إلى العصير هو حلال شربه، فإذا تخمر صار حراما، ثم إذا تخلل يصير أيضا حلالا، وتغير الأسماء والأحكام باعتبار تغير الصفات وهو في ماهيته شيء واحد وهو ماء العنب، وكذلك قوله: هذا أسد عند الاستعمال في الموضوع له حقيقة وعين هذا اللفظ عند الاستعمال في المستعار له مجاز بسبب اختلاف في محله. واقرب من ذلك ما إذا أعطى رجل رجلا عشرة دراهم مثلا بأن يعطي مثلها للرجل المعطي غدا أو بعد غد إن ذكر لفظ البيع لا يجوز؛ لأنه ربا، وإن ذكر لفظ القرض يجوز؛ لأنه في معنى العارية، وفي كلتا الصورتين هو إعطاء الدراهم بمقابلة ما يأخذ مثل تلك الدراهم وهو شيء واحد، فيتغير الاسم والحكم بسبب شيء اقترن به، فكذلك هاهنا كان قوله: هذا ابني لعبده الذي هو أكبر سنا منه مجازا عن قوله: هذا ابني لعبده الذي هو يولد مثله لمثله، فلو قال ذلك في الذي يولد مثله لمثله كان يثبت البنوة والحرية لمصادفة حقيقة كلامه محلها، وفي الذي لا يولد مثله لمثله يثبت الحرية التي هي لازمة البنوة لقيام هذا المجاز مقاام تلك الحقيقة، وإن تخلف هذا المجاز لتلك الحقيقة في إثبات

البنوة للتعذر لم يتخلف في إثبات لازمته لعدم التعذر فيثبت، وهذا لأن المجاز لما كان خلفا عن الحقيقة في التكلم كان الشرط فيه أن يكون الكلام الحقيقي في نفسه مفيدا، وإفادته ها هنا بكونه مبتدأ وخبرا موضوعا للإيجاب بصيغته وقد وجد، فكان هذا الكلام عاملا في إيجاب الحكم الذي يقبله بطريق المجاز وهو الحرية، وإن تعدد العمل بحقيقة كلامه وهي إثبات البنوة؛ لأن ذلك إنما يعتبر إذا كانت الأصالة والخلفية في حق الحكم، وليس كذلك على ما قررنا؛ لأنه إن لم يتعذر كان الكلام عاملا بحقيقته، وعند التعذر بالعمل بحقيقته صير إلى مجازه؛ لأن هذا أولى من الإلغاء، فصار كأنه قال: عتق علي من حين ملكته بأن البنوة سبب لهذا، فإنه إذا ملك ابنه يعتق عليه من حين ملكه، فيجعل هذا النسب كناية عن موجبه مجازا، وتصحيح كلام العاقل واجب ما أمكن. فإن قلت: يشكل على هذا التقرير الذي قاله أبو حنيفة- رضي الله عنه- من أنه يتبع صحة الكلام لغة وأفادته في أن يكون المجاز خلفا عن الحقيقة لا

استحالته من حيث الحكم، لكن إذا كان لذلك الكلام الذي استحال حكمه حكم آخر لازم غير مستحيل يثبت ذلك كما في صورة النزاع. أما إذا قال لعبده الصبي الصغير: هذا جدي، أو لعبده هذه ابنتي، أو لأمته هذا ابني، أو قال لغلامه: أعتقتك قبل أن أخلق حيث لا يعتق من هؤلاء بهذا الكلام، وكذلك لو قال في غير هذا الباب لو قال: قطعت يد فلان وله علي الأرش، فأخرج فلان يده صحيحة لم يستوجب شيئا. قلت: أما في مسائل الإعتاق ففيه منع، وعلى ذلك التقدير لا يحتاج إلى الفرق على قوله، وعلى تقدير التسليم إذا قال لعبده: هذه ابنتي. قلنا: الأصل إلى المشار إليه إذا لم يكن من جنس المسمى فالعبرة للمسمى كما لو باع فصا على أنه ياقوت فإذا هو زجاج فالبيع باطل، والذكور والإناث من بني آدم جنسان مختلفان، فإذا لم يكن المشار إليه من جنس المسمى تعلق الحكم بالمسمى وهو معدوم، ولا يمكن تصحيحه إيجابا ولا إقرارا في المعدوم، فلا يمكن أن يجعل البنت مجازا عن الابن بوجه، وكذا عكسه. ألا ترى أنه لا يعتق وإن احتمل أن يكون ولده بأن كان يولد مثله لمثله بخلاف ما نحن فيه، فإنه إن كان يولد مثله لمثله يعتق بالاتفاق، وتثبت البنوة إن كان مجهول النسب، وفي معروف النسب تثبت لازمة البنوة وهي الحرية بطريق المجاز، وكذا قوله لعبده الصغير: هذا جدي ففيه منع وتسليم، وعلى تقدير التسليم نقول: لا موجب لهذا الكلام في ملكه إلا بواسطة الأب، وتلك الواسطة غير ثابتة وبدونها لا موجب لكلامه حتى يجعل كناية عن

موجبه مجازاً، وبخلاف قوله: أعتقتك قبل أن أخلق؛ لأنه لا موجب فيما صرح به- فكذا للذي يقوم مقامه لما أن الإعتاق قبل الخلق إعتاق قبل الملك، ولو أعتقه قبل أن يملكه ثم يملكه لم يلزمه العتق، فكذا هنا؛ لأنه لما لم يكن لصريحه حكم العتق لم يكن لما كنى عنه أيضا حكم العتق- وكذلك قوله: قطعت يدك؛ لأنه لا موجب للجرح بعد البرء إذا لم يبق له أثر، فلا يمكن تصحيح كلامه بأن يجعل كناية عن موجبه، فلهذا كان لغوا. هذا كله مما أشار إليه في "المبسوط" و"الأسرار". (بخلاف الندى؛ لأنه لاستحضار المنادي) أي لو قال: يا ابني لا يعتق؛ لأن الاستعارة إنما تصح لإثبات معنى والمعنى غير مرعي في الندى؛ لأنه لاستحضار المنادي (بصورة الاسم لا يمعناه، فإذا لم يكن المعنى مقصودا لم تجب الاستعارة لتصحيح معناه)، وإنما صير إلى الاستعارة فيما سبق؛ كي لا يلغو الكلام، وها هنا الكلام صحيح من غير أن يستعار للحرية لحصول المقصود وهو استحضار المنادي، فلا ضرورة في استعارة هذا الكلام للحرية بخلاف قوله: (با حر فإنه يستوي نداؤه وخبره) لما ذكر في

الكتاب (أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز)؛ لأن المستعار لا يزاحم الأصل؛ لأن الخلف لا يوجد مع وجود الأصل. وحاصل هذا الأصل ما ذكره شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- بقوله: الكلام على ضربين: حقيقة ومجاز، وأنه لا يحمل على المجاز إلا عند تعذر حمله على الحقيقة، فتمس الحاجة- لذلك- إلى معرفة الحقيقة والمجاز، والطريق في ذلك هو النظر في السبب الداعي إلى تعريف ذلك الاسم في الأسماء الموضوعة لا لمعنى، وإلى تعريف المعنى في المعنويات، فما كان أقرب في ذلك فهو أحق، وما كان أكثر إفادة فهو أولى بأن يجعل حقيقة، وذلك يكون بطريقتين: التأمل في محل الكلام، والتأمل في صيغة الكلام. أما بيان التأمل في المحل، ففي قوله تعالى:} أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ {حملنا على المجامعة دون المس باليد؛ لأنه إذا حمل على المس باليد كان تكرارا لنوع حدث واحد، وإذا حمل على المجامعة كان بيانا لنوعي الحدث في التيمم، فكان هو أكثر فائدة مع أنه معطوف على ما سبق، والسابق ذكر نوعي الحدث، فإن قوله تعالى:} إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ {أي وأنتم محدثون، ثم

قال: {وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا {، ثم قال:} وإن كُنتُم مَّرْضَى {إلى قوله:} فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا {، فبدلالة محل الكلام يتبين أن المراد الجماع دون المس باليد. وأما بيان الدلالة من صيغة الكلام ففي قوله تعالى:} ثَلاثَةَ قُرُوءٍ {إنها الحيض دون الأطهار؛ لأن اللفظ إما أن كان مأخوذا من القرء الذي هو الاجتماع إلى آخره. وقوله: (لأن القرء للحيض حقيقة وللطهر مجاز). فإن قلت: جعل المصنف - رحمه الله- القرء من الأسماء نظير المشترك بين الحيض والطهر في بيان المشترك ثم كيف جعل ها هنا نظير الحقيقة والمجاز حيث جعل الطهر مجازا له وبينها منافاة؛ لأن الاسم المشترك حقيقة في أنواعه؟ قلت: لا يبعد أن يسمى الشيء الواحد باسمين مختلفين. ألا ترى أن الغائط الذي هو المطمئن من الأرض لما أطلق على الحدث جعلوه في قوله تعالى:} أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ {في موضع مجازا وفي موضع كناية، فالمجاز باعتبار أنه أطلق في غير موضعه الأصلي لاتصال بينه وبين الحدث بطريق المجاورة، والكناية باعتبار وجود الملازمة بينهما من حيث العادة. إذ الكناسة هي ذكر اللازم وإرادة الملزوم، فكذلك ها هنا جاز أن

يكون القرء مشتركا بين الحيض والطهر للاستعمال فيهما على السواء، وجاز أن يكون للحيض حقيقة دون الطهر لقوة دلالته على الحيض من وجوه الاشتقاق الذي ذكر في الكتاب. ولا شك أن ما هو أكثر دلالة على شيء بحسب الاشتقاق كان هو أحق بذلك من غيره على ما ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-. ثم قوله: (إنه مأخوذ من الجمع) أي أن لفظ القرء مأخوذ من القرء الذي هو الجمع (وهو معنى حقيقة هذه العبارة) أي كونه للجمع حقيقة للقرء (لغة) لا للطهر؛ لأن الاجتماع صفة الدم؛ لأن الاجتماع حقيقة يوجد في قطرات الدم على وجه لا بد منه ليكون حيضا، فإنه ما لم تمتد رؤية الدم لا يكون حيضا، فكان الحمل عليها أولى من الحمل على الطهر؛ لأن الطهر زمان انقطاع الدم لا اجتماع الدم، فكان ما وضع له اللفظ موجودا في

الحيض، فكان هو أقرب إلى الحقيقة. (وكذلك العقد لما ينعقد حقيقة)؛ لأن العقد شد بعض الجسم وربط بعضه بالبعض من عقد الحبل، والعقد في الكلام: اسم لربط كلام بكلام. نحو ربط لفظ اليمين بالخبر الذي فيه رجاء الصدق لإثبات حكم وهو الصدق منه أعني البر، وكذلك عقد البيع ربط الإيجاب بالقبول لإثبات حكم وهو الملك، ثم يستعار لما يكون سببا لهذا الربط وهو عزيمة القلب، فكان ذلك دون العقد الذي هو ضد الحل فيما وضع الاسم له، فحمله عليه يكون أحق، وبهذا الذي ذكرنا يبطل قول الخصم حيث يطلق لفظ عقد اليمين على اليمين الغموس الذي فيه القصد، فقال: العقد عبارة عن القصد، فإن العزيمة تسمى عقيدة. (وكذلك النكاح للجمع في لغة العرب) يعني نحن نحمله على الوطء، والخصم يحمله على العقد، وأصل الخلاف في قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا

نَكَح} وقلنا: موطوءة الأب على الابن حام سواء كان ذلك بالعقد أو بالزنا حملا للنكاح على الوطء لا على العقد، وعند الشافعي مزنية الأب لا تحرم على الابن حملا للنكاح على العقد، فما قلناه أحق؛ لأن الاسم في أصل الوضع لمعنى الضم والالتزام يقول: انكح الصبر أي التزمه وضمه إليك، ومعنى الضم في الوطء بتحقق حقيقة، ولهذا يسمى جماعا، ثم العقد يسمى نكاحا باعتبار أنه سبب يتوسل به إلى ذلك المضم. فعلم به أن الوطء أحق به إلا في الموضع الذي يتعذر حمله على الوطء، فحينئذ يحمل على ما هو مجاز عنه، وهو العقد كما في قوله تعالى:} حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ {. وأمثلة هذا أكثر من أن تحصى، ومن تلك الأمثلة قوله تعالى: {لا

يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ {. قال علماؤنا- رحمهم الله- اللغو ما يكن خاليا عن فائدة اليمين شرعا ووضعا، فإن فائدة اليمين إظهار الصدق من الخبر، فإذا أضيف إلى خبر ليس فيه احتمال الصدق كان خاليا عن فائدة اليمين فكانوا لغوا، وقال الشافعي: اللغو ما يجري على اللسان من غير قصد، ولا خلاف في جواز إطلاق اللفظ على كل واحد منهما، ولكن ما قلناه أحق؛ لأن ما يجري من غير قصد له اسم آخر موضوع وهو الخطأ الذي هو ضد العمد، والسهو الذي هو ضد التحفظ. فأما ما يكون خاليا عن الفائدة لمعنى في نفسه لا لحال المتكلم وهو عدم القصد، فليس له اسم موضوع سوى أنه لغو فحمله عليه أولى. ألا ترى إلى قوله تعالى:} وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ {، يعني الكلام الفاحش الذي هو خال عن فائدة الكلام بطريق الحكمة دون ما يجري من غير قصد، فإن ذلك لا عتب فيه، وأصل الخلاف في هذا راجع إلى أن الغموس هل هو داخل تحت اللغو أم لا؟ فعندنا هو داخل خلافا له.

قوله: (ولهذا قال ألو حنيفة- رضي الله عنه- في الدعوى) إيضاح لقوله: إن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز؛ لأن المستعار لا يزاحم الأصل. (في رجل له أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطون مختلفة) قيد بالبطون المختلفة إذ لو كانوا في بطن واحد لا يثبت هذا الحكم، بل عند دعوى أحدهم يثبت نسب الآخرين؛ لأن الحكم في التوأمين ذلك إذ من ضرورة ثبوت أحدهما ثبوت الآخر؛ لأنهما خلق من ماء واحد. (إنه يعتق من كل واحد ثلثه)؛ لأن قول المولى: أحد هؤلاء ولدي؛ صار بمنزلة قوله: أحد هؤلاء حر؛ لأن العمل بثبوت النسب لا يمكن إذا مات قبل البيان لكونه مجهولا، فلما كان هذا بمنزلة الحقيقة لم يعتبر أبو حنيفة- رحمه الله- ما يصيب الأوسط والآخر من قبل أمهما؛ لأن الإصابة منة قبيل الإيجاب المضاف إليه حقيقة؛ لأنه يصيبه من نفسه بلا واسطة، وما يصيب الولد من قبل أمه بمنزلة المجاز؛ لأنه لم يرد به حقيقته، بل أريد به غيره كما في المجاز، لأن المجاز إنما يصح

بواسطة وهي القرينة، والاتصال بين محل المجاز وبين الحقيقة، فلم يعتبر المجاز عند الحقيقة. وذكر في دعوى "المبسوط" أمة لها ثلاثة أولاد ولدتهم في بطون مختلفة وليس لهم نسب معروف فقال المولى في صحته: أحد هؤلاء ابني ثم مات قبل أن يبين، لم يثبت نسب واحد منهم؛ لأن المدعي نسبه مجهول، ونسب المجهول لا يمكن إثباته من أحد؛ لأنه إنما يثبت في المجهول ما يحتمل تعليقه بالشرط ليكون متعلقا بخطر البيان، والنسب لا يحتمل التعليق بالشرط، فلا يثبت في المجهول والجارية تعتق؛ لأنه أقر لها بأمية الولد، وهي معلومة، وأم الولد تعتق بموت مولاها من جميع المال، ويعتق من كل واحد من الأولاد ثلثه في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- لأن دعوى النسب إذا لم تعمل في إثبات النسب كانت إقرارا بالحرية، فكأنه قال: أحدهم حر، فيعتق ثلث كل واحد منهم من جميع المال، وعلى قول محمد- رحمه الله- يعتق من الأكبر ثلثه ومن الأوسط نصفه والأصغر كله؛ لأن الأكبر إن كان هو المقصود بالدعوى فهو حر، وإن كان المقصود هو الأصغر أو الأوسط لم يعتق الأكبر، فهو حر في حال عبد في حالين فيعتق ثلثه.

وأما الأوسط فإن كان هو المقصود فهو حر، وكذلك إن كان المقصود هو الأكبر؛ لأنه ولد أم الولد فيعتق بموت المولى كما تعتق أمه، وإن كان المقصود الأصغر لم يعتق الأوسط، فهو يعتق في حالين ولا يعتق في حال، وأحوال الإصابة حالة واحدة في الروايات الظاهرة بخلاف أحوال الحرمان، فلهذا يعتق نصفه. وأما الأصغر فهو حر بيقين سواء كان المقصود هو الأوسط أو الأكبر أو هو، إلا أن أبا حنيفة- رضي الله عنه- لم يعتبر هذه الأحوال؛ لأنه مبني على ثبوت النسب، ولم يثبت النسب، ولأن جهة الحرية مختلفة وحكمه مختلف، فإنه إذا كان مقصودا بالدعوة كان حر الأصل، وإذا كان المقصود غيره كانت حريته بطريق التبعية للأم بعد موت المولى، وبين كونه مقصودا وتبعا منافاة، فلا يمكن اعتبار الجهتين جميعا. فلهذا قال: يعتق من كل واحد منهم ثلثه، وقد روي عن أبي يوسف مثل قول محمد- رحمهما الله- إلا في حرف واحد وهو أنه قال: يعتق من الأكبر نصفه؛ لأن حاله تردد بين شيئين فقط، إما أن يكون ثابت النسب من المولى فيكون حرا كله أو لا يكون ثابت النسب منه فلا يعتق منه شيء، فلهذا قال: عتق نصفه وسعى في نصف قيمته. كذا في "المبسوط". وقيل: إنما صار أحوال الحرمان أحوالا وأحوال الإصابة حالة واحدة؛

لأن عدم الشيء يجوز أن يكون لمعان شتى كما إذا قيل: إن زيدا غير مالك للنصاب؛ لأنه لم يكتسب، ولأنه لم يرث، ولأنه لم يتصدق عليه، ولأنه لم يوهب له، فيجتمع انعدام هذه الأسباب في حق عدم الملك. وأما إذا ملك النصاب فلا بد أن يكون سبب ملك النصاب شيئا واحدا لا غير من تلك الأسباب، ومحال أن يتعدد سبب الملك عند وجود الملك، وهكذا ذكر أيضا علاء الدين- رحمه الله- في "زياداته" وجه الفرق بين الإصابة والحرمان. وذكر في "الأسرار" من تعليل محمد- رحمه الله- في هذه المسألة. ألا ترى أن الأم تصير أم ولد له، لو كان كناية عن قوله: أحدهم حر لما صارت الأم أم ولد له، وكذلك قيل في أمة لرجل ولدت ابنا فزوجه أمة له أخرى فولدت منه ابنا فنظر المولى إلى الابنين فقال: أحدهما ابني، ثم مات عتق نصف الأكبر وكل الأصغر، وعلى ما قاله أو حنيفة- رحمه الله- يجب أن يعتق نصف كل واحد منهما. (وكذلك لو حلف لا يشرب من هذا البئر لم يقع على الكرع) فالكرع

والكروع: دهان بر آب نهادن بوقت آب خوردن جعله في المصادر من باب علم، وجعل في "الصحاح" من باب منع، وجعل كسر الراء فيه لغة أخرى. وقال في "المغرب" الكرع: تناول الماء بالفم من موضعه، ومنه كره عكرمة الكرع في النهر؛ لأنه فعل البهيمة يدخل فيه أكارعه، فالكراع ما دون الكعب من الدواب وما دون الركبة من الإنسان، وجمعه أكرع وأكارع.

(وعلى هذه الجملة يخرج قولهم) أي على الأصل الذي ذكر وهو قوله: أن العمل بالحقيقة متى أمكن سقط المجاز (أن الأم تصير أم ولد له) ولو لم يكن بطريق الحقيقة لما صارت أنه أم ولد له. (وقال في "الجامع") أي قال في "الجامع الكبير في الباب الثالث عشر من كتاب الإقرار منه فقال: رجل له عبد ولعبده ابن وللابن ابنان في بطنين مختلفتين، فقال المولى في صحته: أحد هؤلاء ولدي، وكل واحد منهم يولد مثله لمثله، ثم مات قبل أن يبين، فإن الأول يعتق ربعه ويسعى في الباقي إلى آخره. قيد بقوله: في بطنين مختلفين"، إذ لو كانا في بطن واحد يعتق كل واحد منهما جميعا؛ لأن أحد التوأمين إذا صار ولدا لشخص أو حافدا له صار

الآخرُ أيضاً ولدًا أو حافدا ضرورة وإن لم يدع، فلذلك قال: في بطنين مختلفتين ليتأتى التفريع المذكور في الكتاب وهو عتق البعض من كل واحد منهم. فقلنا: يعتق من الأول ربعه ويسعى في الباقي، (ومن الثاني ثلثه ومن كل واحد من الآخرين ثلاثة أرباعه) ويسعى في ربع قيمته. أما النسب فلا يثبت إذا مات قبل البيان؛ لأنه لو ثبت في المجهول لبقي متعلقا بالبيان، وتعليق النسب بالشرط باطل؛ لأنه إخبار عن أمر كائن، والتعليق إنما يكون في أمر معدوم، فلذلك لم يصح تعليقه. أما وجه التقسيم فإن الأول لو كان مرادا عتق هو وعتق أولاده جميعا، فيعتق الأولاد ها هنا عند إرادة الأول باعتبار سراية أنه ملك أولاده وحافده لا لمعنى أن الأب صار حرا؛ لأن الأب لو كان حرا لا يلزم أن يكون ولده حرا، وإنما يلزم ذلك في حرية الأم، لكن بطريق أن الأول لو كان ولده لكان أولاده حفدة له وهم ملكه، فيعتقون عليه؛ لان (من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه).

وأما لو كان الثاني مرادا فعتق هو وولداه لما ذكرنا ولا يعتق الأول، وإن كان أحد الآخرين مرادا عتق هو ولم يعتق الأول والثاني وأحد الآخرين، فيعتق الأول في حال ولا يعتق في ثلاثة أحوال وهو ما ذكرنا، وأحوال الحرمان أحوال فعتق زبعه لذلك، والثاني يعتق في حالين ولا يعتق في حالين كما ذكرنا، وأحوال الإصابة حالة واحدة وأحوال الحرمان أحوال فيعتق في حال ولا يعتق في حالين، فيعتق ثلثه، وأحد الآخرين حر بيقين؛ لأنه حر بكل حال والآخر يعتق في ثلاثة أحوال وهي ما إذا أراد به نفسه أو أباه أو جده، ولا يعتق في حال وهو ما إذا كان المراد به أخاه، وأحوال الإصابة حالة واحدة، فيعتق حينئذ في حال ولا يعتق في حال، فاجتمع لهما عتق رقبة ونصف عتق رقبة، فيتصنف بينهما إذ ليس أحدهما أولى من الآخر فيعتق من كل واحد منهما ثلاثة أرباعه ويسعى كل منهما في الربع الآخر. ثم قيل: هذا الذي ذكره هنا قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- فأما على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- ينبغي أن يعتق من كل واحد منهم ربعه؛ لأن من أصله أن الإقرار بالنسب إذا لم يفد إثبات النسب للجهالة ينقلب إقرارا بالعتق كما مر في المسألة الأولى وهي أن من له جارية ولها ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال: أحد هؤلاء ولدي. يعتق من كل واحد منهم ثلثه عنده، ولا يستغل باعتبار الأحوال فهذا كذلك، وإذا صار إقرارا بالحرية صار كأنه قال: احدهم حر بين أربعة نفر، فيعتق هناك ربع

كل واحد منهم وهنا كذلك، والأصح أنن هذا قولهم جميعا، وأبو حنيفة- رحمه الله- يفرق بين هذه المسألة وبين تلك المسألة التي مرت فيقول: هناك جهة الحرية مختلفة في الحكم فمنها باعتبار النسب ومنها باعتبار أمية الولد من قبل أن ابن أم الولد له حكم أم الولد وهما يختلفان؛ لأن باعتبار النسب تتجزأ الحرية في الحال فيكون مقصودا، وباعتبار أمية الولد يتأخر إلى ما بعد الموت ويكون تبعا. لأمه وبين كونه تبعا ومقصودا تضاد، فلهذا لم يعتبر الأحوال هناك. وأما ها هنا فجهة الحرية واحدة باعتبار النسب وهذا لأنه ابنه أو ابن ابنه وهو في كل ذلك مقصود، فلهذا اعتبر الأحوال. كذا في "شرح الجامع الكبير" للإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- وغيره. (وأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة- رحمه الله- طريقان). إنما قال هذا؛ لأن العتق في المسألة السابقة وهو في الأصغر سنا منه، ويلد مثله لمثله يثبت العتق فيه وفي أولاده بقوله: أحد هؤلاء ولدي"؛ لاحتمال النسب وهذا الاحتمال في الأكبر سنا منه غير ثابت حقيقة فبأي طريق قال ذلك أبو حنيفة- رحمه الله- فيه؟ فقال في جوابه: فأما في الأكبر سنا منه فلأبي حنيفة طريقان".

(أحدهما - أنه تحرير مبتدأ من قبل) أنه ذكر السبب وإرادة المسبب فيكون هذا إنشاء إعتاق، (ولهذا قلنا في رجلين ورثا عبدا فقال أحدهما: هذا ولدي يغرم لشريكه) نصف قيمته إذا كان موسرا (كما إذا أعتقه)؛ لأنه لو كان بطريق النسب لا يضمن؛ لأنه إذا ورث ابنه هو وغيره لا يضمن لشريكه. فعلم أنه بمنزلة تحرير مبتدأ، فعلى هذا الطريق لا تصير أنه أم ولد له؛ لأن هذا إنشاء إعتاق في ولدها، وذلك لا يؤثر في صيرورة الأم أم ولد له البتة. (وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى) يعني أن أمومية الولد لا يحتمل الثبوت بإنشاء تصرف فيها ففي ولدها أولى، وهذا لأن (أمومية الولد) حكم الفعل المخصوص على الخصوص والخلوص، فلا يحتمل أن تصير حكما لقول بطريق الإنشاء بأن تقول: أنشأت فيك أمومية الولد. (والثاني) - وهو الوجه الأول في الكتاب أنه جعل (إقرارا بحرية الولد) من حين ملكه، فصار قوله: هذا ابني لأكبر سنا منه" إقرارا بعتقه من حين ملكه؛ لان ما صرح به وهو البنوة سبب لحريته من حين ملكه، وهذا الطريق هو الأصح، فقد قال في كتاب الإكراه: إذا أكره على أن يقول لعبده هذا ابني فأقدم عليه لا يعتق عبده، والإطراه يمنع صحة الإقرار بالعتق لا صحة

إنشاء العتق. فعلم أن الأصح ما ذكرنا، فعلى هذا الطريق تصير أنه أم ولد له؛ لأن هذا الحق يحتمل الإقرار فيثبت في حق الأم أيضا؛ لأن هذا الكلام سبب موجب هذا الحق في الأم أيضا، فإذا جعل هذا الكلام مجازا عن الإقرار بالعتق عن حكم حقيقة هذا الكلام جعل إقرارا أيضا بكون الأم أم ولد له؛ لأنه من حكم حقيقة هذا الكلام أيضا، ووجوب الضمان في مسألة كتاب الدعوى بهذا الطريق أيضا، وهو الإقرار بالحرية لا باعتبار إنشاء التحرير؛ لأنه لو قال: عتق علي من حين ملكته يضمن لشريكه، فكذلك إذا قال: هذا ابني؛ لأن موجب هذا الكلام عتقه من حين ملكه فلا ضرورة تدعونا إلى جعله تحريرا مبتدأ وهو إخبار. وحاصله أن ما قاله أبو حنيفة- رحمه الله- في الأكبر سنا منه هذا ابني يحتمل أن يكون ثبوت العتق في العبد بهذا اللفظ باعتبار أن اللفظ إقرار منه بالعتق، أو بهذا اللفظ ينشيء العتق فيه ويحدثه من غير إقرار، وعلى تقدير الإقرار بكون العبد حرا يكون إقرارا أيضا بأن أمه أم ولد له، وأمومية الولد تثبت بطريق الإقرار، وهو معنى قوله: (لأنه يحتمل الإقرار) أي لأن كونها أم ولد يحتمل الإقرار، ولكن لا تثبت أمومية الولد بطريق الإنشاء، وهو معنى قوله: (وحق الأم لا يحتمل الوجود بابتداء تصرف المولى) وقوله:

بابتداء تصرف المولى "احتراز عن تصرف المولى في أمومية الولد بطريق الإقرار وهو صحيح؛ لأن ذلك ليس بتصرف في أمومية الولد ابتداء، بل هو إخبار عن كونها أم الولد وهو صحيح، فتثبت به أمومية الولد. (وقد تتعذر الحقيقة والمجاز معا إذا كان الحكم ممتنعا)؛ لأن الحكم إذا كان ممتنعا بحقيقة اللفظ كان ممتنعا أيضا بالاستعارة عنها كما قلنا ذلك في المحرم من النساء، فإن النكاح فيها كما لا يثبت بحقيقة لفظ النكاح فكذلك لا يثبت باللفظ المستعار عنها، وهو لفظ البيع أو لفظ الهبة، ثم جعل النكاح ها هنا مستعارا عنه مع أنه مستعار له في الحقيقة، كان كجعل وضع القدم مستعارا عن الدخول في قوله: "قلنا وضع القدم صار مجازا عن الدخول"، مع أن الدخول مستعار له لوضع القدم لما أن وضع القدم في الدار سبب للدخول فيها، كذلك البيع أو الهبة سبب لملك المتعة الذي هو موجب النكاح، فكان في كل منهما ذكر السبب وإرادة المسبب وهو جائز. وقوله: (إذا استحال حكمه) وهو الحرية (ومعناه) وهو ثبوت النسب.

وقيل: "حكمه" أي حكم الحقيقة وهو البنتية ها هنا، وحكمه" أي حكم المجاز وهو الحرية لا يثبت ها هنا واحد منهما، وكذلك قلنا أيضا بعدم جواز الإجارة بحقيقة لفظ الإجارة إذا أضيفت إلى المنافع، نقول أيضا بعدم جواز الإجارة باللفظ المستعار عنها كلفظ البيع إذا أضيف إلى المنافع، لم يثبت الحقيقة ولا المجاز؛ لعدم إضافة اللفظ إلى محلهما، وهذا لأن الاستعارة لإثبات حكم الحقيقة في محل المجاز ليعمل عمله في محل الحقيقة كما قلنا في القياس لإثبات حكم النص في الفرع، فإذا كان الحكم ممتنعا بالحقيقة لم تصح الاستعارة؛ لأن مثال المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص، ومن شرط صحة القياس ثبوت الحكم في المنصوص عليه على وجه لا يتغير عند القياس، فإذا تغير حكم النص بالقياس بطل القياس، فكذلك ها هنا إذا تعذر حكم الحقيقة بالمجاز بطلت الاستعارة، وهو معنى قوله: (لأن التحريم الثابت بهذا الكلام لو صح معناه مناف للملك فلم يصح حقا من حقوق الملك) وقوله: مناف للملك" أي لملك النكاح أي الحرمة الثابتة بهذا الكلام لم تصلح حقا من حقوق الملك، وهذا لأن حكم الحقيقة انتفاء المحلية والحرمة المؤبدة، فكان منافيا وجود النكاح فلم يصلح أن يستعار هذا؛ لأنه لو استعير تغير حكم الحقيقة؛ لأن الحرمة الثابتة بتفريق الزوج تعتمد صحة النكاح ووجوده، والحرمة الثابتة لحكم الحقيقة منافية للنكاح، فيستحيل أن تثبت مرتبة على صحة النكاح، فتغير حكم الحقيقة، بطلت الاستعارة وبطلت الحقيقة أيضا فلغا كلاهما.

فإن قلت: إذا لم يثبت موجب حقيقة كلامه وهو البنتية باعتبار تكذيب القاضي فلم لم يثبت لازمة تلك الحقيقة وهي الحرمة المؤبدة كما ثبت ذلك في قوله: وهو أكبر سنا منه عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- فإنه لما لم يثبت موجب حقيقة كلامه وهو النسب ثبت لازمه وهو الحرية، وكما قالوا جميعا في الأصغر سنا منه إذا اشتهر نسبه من الغير، وقال له: هذا ابني، يعتق بالاتفاق ولم يثبت نسبه باعتبار اشتهار نسبه من الغير ويثبت لازمه وهو الحرية؟ قلت: لا وجه لذلك هاهنا؛ لأن في حكم الحرمة ها هنا بهذا الطريق إقرارا بها على المرأة لا على نفسه؛ لأن ملك الحل واقع عليها، ولو أثبتنا لازم حكم الإقرار ها هنا كان هو واقعا عليها؛ لأن العين هي التي يتصف بالحرمة، وهو مكذب شرعا في إقراره على غيره، وهذا لأن المرأة حرة مالكة على نفسها، فلم يصح إقرار الغير عليها بخلاف العبد، فإنه ليس بمستبد بنفسه وهو في حق الملك بمنزلة سائر الجمادات المملوكة، والإقرار ببطلان الملك فيها إقرار على نفسه فصح، ولأن الفرقة الصادرة من جانب الزوج إنما تثبت شرعا بالطلاق أو بالمستعار عن الطلاق الذي يعمل عمل الطلاق، والطلاق يستدعي سابقة النكاح، والبنتية مانعة للنكاح فكيف تكون البنتية موجبة للذي هو يثبت بالنكاح، وهو الفرقة الصادرة من جانب الزوج شرع بناء على صحة النكاح؟ يوضحه أن المجاز يقرر حكم الحقيقة فيما هو فيه، وحكم الحقيقة ها هنا انتفاء المحلية والحرمة المصمتة الباتة التي لا تنكشف أصلا، ومثل هذه الحرمة لا تثبت

في محل المجاز لو كان هو مجازا عن الطلاق، ولو كان هو مجازا عن الطلاق مع ذلك كان فيه تغيير حكم الحقيقة في المجاز، والمجاز وضع للتغير في اللفظ لا في الحكم. بخلاف قوله: هذا ابني، فإنه يعمل مثل عمله في محل حقيقته؛ لأن عمله في الحقيقة عتقه من حين ملكه لا انتفاء الملك من الأصل، فكذا يعمل في محل المجاز بالعتق من حين ملكه، فاتحد الحكم ولم يتغير، فلذلك صح ولم يلغ، وقوله: فإن الحرمة لا تقع به أبدا عندنا" غير أنه إذا دام على هذا اللفظ إنما يفرق القاضي بينهما لا باعتبار أن هذا اللفظ يوجب الحرمة، فإنه لو كان يوجب الحرمة لكان لا يشترط الدوام كما في الرضاع وغيره من المحرمات، لكنه لما دام على ذلك ولا يقربها وصار ظالما في حقها وصارت هي كالمعلقة لا ذات بعل ولا مطلقة. فرق بينهما دفعا للظلم، ولأن الإمساك بالمعروف لما فات، تعين التسريح بالإحسان. فلم تصلح حقا من حقوق الملك" أي لم تصلح الحرمة الثابتة بهذا الكلام الصادر من الزوج حقا من حقوق ملك النكاح كالطلاق، فلو جعل هذا الكلام مجازا عن الطلاق لصار حقا من حقوق ملك النكاح. لما أن الطلاق يملك بالنكاح، فكذا مجازه (وهو التجريم في الفصلين متعذر) أي الحرمة الثابتة بطريق المجاز عن الطلاق متعذر في فصل معروفة النسب التي يولد مثلها لمثله وفي فصل المرأة التي هي أكبر سنا منه. (لأن الرجوع عنه صحيح) أي الرجوع عن الإقرار بالنسب صحيح.

والدليل على صحته ما أشار إليه في الفرائض بقوله: ثم المقر له بالنسب على الغير إذا مات المقر على إقراراه ففي تقييده بقوله: "إذا مات المفر على إقراره" دليل على أنه إذا رجع عن إقراره بالنسب يصح رجوعه، ثم لما صح رجوعه عن إقراره بالنسب في قوله لامرأته: هذه بنتي، وهي معروفة النسب عن الغير عند تكذيب القاضي إياه، لم يبق الإقرار ولم تثبت به الحرمة في محل المجاز؛ لأنه لا إقرار، إذ لو ثبتت الحرمة كانت ثابتة بناء على إقراره ولم يبق الإقرار بالرجوع عنه فيما يحتمل الرجوع عنه، فكذلك ما بني عليه وهو الحرمة لما أن هذا الإقرار بالنسب لم يصلح أن يقوم مقام الإقرار بالطلاق؛ لأنه لا يصلح أن يكون حقا من حقوق ملك النكاح لما بينا. وأما في قوله: هذا ابني" وإن كان مكذبا حقيقة إذا كان العبد أكبر سنا منه أو شرعا فيما إذا كان صغيرا ونسبه مشهور من الغير، فهو قائم مقام قوله: "عتق علي من حين ملكته" فكان هذا إقرارا منه بالعتق، والرجوع عن العتق لا يصح، وإن كان يصح رجوعه من الإقرار بالنسب. (وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- العمل بعموم المجاز أولى). والدليل على جواز العمل بعموم المجاز ما ذكره في "الكشاف" في سورة

النحل في قوله تعالى: {ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ {الآية. سأل نفسه بقوله: إن سجود المكلفين على خلاف سجود غيرهم، فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ ثم قال: قلت المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى، وأنها غير ممتنعة وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا، فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد، وهذا التخريج يؤيد صحة القول بعموم المجاز في القرينة. (وعندهما يقع على شرب ماء يجاور الفرات)، فلذلك يحنث عندهما إذا شرب من الفرات بالكرع أو بالاغتراف بالإناء أو بيده؛ عملاً بعموم

المجاز كما في قوله: لا يضع قدمه في دار فلان. كذا في "شروح الجامع". (وذلك لا ينقطع بالأواني؛ لأنها دون النهر في الإمساك) أي لأن الأواني دون النهر في الإمساك، فلما كان كذلك من اغترف بالأواني من الفرات فشرب منها كان حانث عندهما. وأما إذا شرب من نهر منشبعة من الفرات فلا يحنث؛ لأن ماء الفرات ينقطع من الفرات بالنهر دون الأواني، وفي "نظم الجامع". ولم يحنث بشرب من سري ... وذلك كان ينشعب الفراتا وهذا لأن ماء الفرات إذا جرى في نهر آخر يضاف فعل الشرب إلى ذلك النهر؛ لأن الشرب من الفرات إنما يكون إذا كان الفرات ظرفا للماء الجاري، وهذا الماء جار في نهر لا يسمى فراتا، وإنما قيد في صورة المسألة بقوله: إذا حلف لا يشرب من الفرات"؛ لأنه إذا حلف لا يشرب من ماء الفرات، فشرب من نهر يأخذ الماء من الفرات كرعا أو في إناء، حنث في يمينه في قولهم جميعا؛ لأنه عقد يمينه ها هنا على ماء الفرات، وهذا الماء ماء الفرات وإن تحول إلى نهر آخر بخلاف الأول، فإنه هناك عقد اليمين على المحل وهو الفرات، والله أعلم.

باب جملة ما تترك به الحقيقة

باب جملة ما تترك به الحقيقة لما ذكر الحقيقة والمجاز، والحال أن الحقيقة قد تترك في مواضع مع أصالتها في الكلام- لم يكن بد من ذكر المعاني الموجبة للترك، فذكرها في هذا الباب. (وهي خمسة) فوجه الحصر على هذه الخمسة هو: أن الموجب إما أن يكون أمرا عاما أو خاصا، فإن كان عاما فهو دلالة الاستعمال والعادة، وإن كان خاصا فلا يخلو إما أن كان في المفرد أو في المركب، فإن كان في المفرد فهو دلالة اللفظ في نفسه، وإن كان في المركب فلا يخلو إما أن كان لمعنى راجع إلى الكلام أم لا، فإن كان فهو دلالة سياق النظم، وإن لم يكن فلا يخلو إما أن كان لمعنى راجع إلى المتكلم أو إلى غيره، فالأول هو دلالة ترجع إلى المتكلم، والثاني هو دلالة في محل الكلام. قوله: (وهو خمسة) أي ما تترك به من الدلائل التي تدل على ترك الحقيقة خمسة أنواع، ثم الفرق بين الاستعمال والعادة، أن العادة: هي مشتقة من العود، فتدل هي على التكرار في الفعل بخلاف الاستعمال فإنه

لا يدل على التكرار في الفعل. (وكذلك نظائرها من العمرة)، فإن العمرة في اللغة: عبارة عن الزيارة يقال: اعتمر فلان فلانا إذا زاره، وفي الشرع: عبارة عن زيارة مخصوصة، وهي زيارة البيت والسعي بين الصفا والمروة مع الإحرام. وقوله: (أو المشي إلى بيت الله) فإنه لو قال: علي المشي إلى بيت الله؛ في القياس لم يلزمه شيء؛ لأنه إنما يجب بالنذر ما يكون من جنسه إيجاب شرعا، والمشي إلى بيت الله ليس بواجب شرع، ولأنه لا يلزمه عين

ما التزم وهو المشي، فلأن لا يلزمه شيء آخر- وهو الحج أو العمرة- أولى، وفي الاستحسان يلزمه حجة أو عمرة. هكذا روي عن علي- رضي الله عنه- ولأن في عرف الناس يذكر هذا اللفظ بمعنى التزام الحج أو العمرة، وفي النذور والإيمان يعتبر العرف، فجعلنا هذا عبارة عن التزام حجة أو عمرة مجازا وهو مخير بينهما؛ لأنهما النسكان المتعلقان بالبيت لا يتوسل إلى أدائهما إلا بالإحرام وبالذهاب إلى ذلك الموضع، ثم يتخير إن شاء مشى وإن شاء ركب وأراق دما. (أو أن يضرب بثوبه حطيم الكعبة،) فضرب الثوب على حطيم الكعبة في العرف عبارة عن إهداء الثوب إلى مكة. قال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله. لو قال: لله علي أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة- يلزمه التصدق بالثوب للاستعمال عرفا، واللفظ حقيقة لغير ذلك، ومثاله كثير. ومن ذلك المثال ما لو قال: لله علي أن أذبح الهدي في الحرم يجب عليه ذبح الهدي بالحرم. ومن ذلك أيضا ما لو قال: أن أنحر ولدي أو أذبح ولدي أو أضحي

بولدي - يلزمه ذبح شاة في قول أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله- استحسانا. وقوله: (علي حسب ما اختلفوا)، فإن عند أبي حنيفة رحمه الله- في قول الحالف لا يشتري رأسا يقع على رأس البقر والغنم، وعندهما يقع على رأس الغنم خاصة. (وكل عام سقط بعضه كان شبيها بالمجاز) هذا جواب إشكال يرد على قوله: وقالوا فيمن لا يأكل رأسا: "إنه يقع على المتعارف".

وكذلك في قوله: لا يأكل بيضا أنه يختص ببيض الإوز والدجاج إلى آخره، فإنه لما أورد هذه الأشياء مثالا للكلام الذي ترك حقيقته بدلالة الاستعمال والعادة. قيل له: كيف يكون هذا الذي ذكرته من قبيل ترك الحقيقة في الكلام، فإن حقيقته مرادة، فإن رأس الغنم مثلا رأس حقيقة، فإنه يحنث بأكله في يمينه: لا يأكل رأسا بالاتفاق، وكذلك بيض الإوز والدجاج بيض حقيقة، وقد أراد هو في يمينه لا يأكل بيضا، فكيف يكون هذه الصور من قبيل ترك الحقيقة؟ فأجاب عنه بهذا وقال: نعم كذلك. إلا أن هذا يشبه المجاز من حيث إن حقيقة العموم هي أن يراد عمومه فلما لم يجر العموم على عمومه تركت حقيقته وكان مجازا، ولما أريد بعض تلك الحقيقة كان حقيقة، فلذلك قلنا: هو حقيقة تشبه المجاز، فحقيقة من حيث إنه أريد به بعض ما تكلم في موضعه الأصلي، ومجاز من حيث أنه تركت حقيقة العموم؛ إذ إجراء العام على عمومه حقيقة. (وهو لحم في الحقيقة)، ولهذا لا يصح نفي اللحمية عن لحم السمك؛ لأن اللحم يتكامل بالدم؛ لأن ما يشتق من اللحم يدل على القوة والشدة،

ومنه قولهم: التحمت الحرب إذا اشتدت، والملحمة الوقعة العظيمة بالفتنة وفيها شدة وإظهار قوة، وإنما تحصل القوة للحم من الدم ولما كان كذلك لم يكن لحم السمك لحما كاملا؛ لأنه لا دم له. (فخرج عن مطلقه) أي عن مطلق اللحم، بدلالة اللفظ أي لفظ اللحم وهو ما ذكرنا. (وكذلك قول الرجل: كل مملوك لي حر لا يتناول المكاتب)؛ لأن المكاتب قاصر في المملوكية؛ لأنه غير مملوك يدا وإن كان مملوكا ذاتا، فلذلك لم يتناوله مطلق اللفظ حتى لو نوى دخل. وكذلك قوله: (امرأته طالق لم يتناول المبتوتة)، لقصور معنى اللفظ؛ لأن النكاح لم يبق لكنه بقي بعض أحكامه، فصار قاصرا فلم يتناوله مطلق اللفظ حتى لو نوى دخلت هي أيضا. (وللمخصوص شبه بالمجاز)؛ لأن الحقيقة في العام أن يجري على عمومه

وكونه مخصوصا مجاز له؛ لأن العام لا يكون مخصوصا إلا بدلالة دلت عليه. (ومن هذا القسم ما ينعكس) يعني في الفصل الأول اللفظ كامل لا يقع على الناقص وههنا عكس ذلك، فإن اللفظ ناقص لا يقع على الكامل كالفاكهة هي اسم للتابع فلا تتناول ما هو أصل من وجه وهو الأشياء الثلاثة وهي: الرطب والرمان والعنب. (وإذا كان كذلك كان فيها) أي في هذه الأشياء الثلاثة. (والاسم ناقص) أي اسم الفاكهة ناقص (مقيد في المعنى) أي مقيد بنقصانه في المعنى. (وكذلك طريقه) أي طريق أبي حنيفة- رضي الله عنه- في عدم تناول

الأدنى للأعلى، وإنما صرف الضمير إليه؛ لأنه تقدم ذكره قبل هذا. وكذلك صرح شمس الأئمة - رحمه الله- فقال: وكذلك لو حلف لا يأكل إداما. عند أبي حنيفة- رحمه الله- لا يتناول ما يتأتى أكله مقصودا؛ لأنه اسم للتابع. (كما في المسألة الأولى) أي في مسألة الفاكهة، فكان فيه رد المحلف إلى المحلف. (وحمل على الإنكار والتوبيخ مجازا) من حيث إن الأمر والتخيير ضد الإنكار والتوبيخ، فجاز ذكر أحد الضدين وإرادة الآخر لملازمة بينهما في المعاقبة، لما أن الأمر والتخيير شرع للمأمور به والذي خير فيه وفتح

لهما، والإنكار والتوبيخ للإذهاب له والإعدام، فكان بينهما ملازمة من حيث التضاد، أو يلزم عند ترك المأمور به ما يوجب الإنكار والتوبيخ، فكان الذي يوجب الإنكار بمنزلة موجب موجب المأمور به، فيجوز إرادته عند دلالة الدليل عليه حمل على إمكان الأمر وإقداره عليه مجازا؛ لأن الأمر الموجب يقتضي إمكان الفعل من المكلف وإقداره عليه؛ لأن تكليف ما ليس في الوسع غير مشروع، فاستعير الأمر للأقدار فيكون ذكر السبب وإرادة المسبب، والمراد بالقدرة هنا القدرة الظاهرة وهي سلامة الآلات والأسباب. فإن قلت: ما الفرق بين قوله تعالى:} واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ {هذه صيغة أمر بالمعصية والكفر، وكذلك قوله تعالى:} فَلْيَكْفُرْ {صيغة أمر

بالكفر. فكيف جعل الأول من قبيل ترك الحقيقة بدلالة من قبل المتكلم وجعل الثاني من قبيل ترك الحقيقة بدلالة سياق النظم؟ قلت: كل ما كان ترك الحقيقة فيه من قبل المتكلم لم يذكر فيه سياق يدل على ترك الحقيقة، وكل ما كان ترك الحقيقة فيه بسياق النظم كان في سياقه لا محالة شيء مذكور يدل على ترك الحقيقة في الأول وإن اتفق هذان الموضعان في وصف واحد. ألا ترى أن من دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى حيث تركت حقيقة العموم بدلالة من قبل المتكلم لا بدلالة في السياق؛ لأنه لا سياق له. وأما في قوله: (أنت آمن ستعلم ما تلقى) "كيف ألحق به ما هو الدال في سياقه على نفي حقيقة الأمان، وكذلك في قوله:} فَلْيَكْفُرْ {كيف ألحق في السياق به ما يدل على ترك حقيقة الأمر وهو قوله:} إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ {وإن كان يعلم ذلك أيضا من قبل المتكلم، ولكن المنظور إليه السياق بخلاف قوله} واسْتَفْزِزْ {لأنه ليس في السياق دليل على ترك حقيقة الأمر بل الدليل فيه من قبل المتكلم. (فحلف لا يتغدى أنه يتعلق به) حتى إنه بعد الحلف لو رجع إلى بيته

وتغدى لم يحنث، لأن المتكلم دعاه إلى الغداء الذي بين يديه، وقد أخرج المجيب كلامه مخرج الجواب، ولما تقيد الخطاب بالمعلوم من إرادة المتكلم يتقيد الجواب به أيضا. فحاصله أن المخرج عنا عن العموم صفة كونه مجيبا؛ إذ الجواب يقتضي إعادة ما في السؤال يقع على الفور ولم يقدر في الكتاب وقت الفور إلى أي وقت يكون. وقال شمس الأئمة- رحمه الله- في "أصول الفقه": س لو قامت امرأة لتخرج فقال لها: إن خرجت فأنت طالق، فرجعت ثم خرجت بعد ذلك اليوم لم تطلق، ولم يذكر وقته في "المبسوط" بل قال: ونوع من اليمين مؤبد لفظا مؤقت معنى كيمين الفور. وفي "الهداية" إشارة إلى أن ما يقطع الفور فهو كاف وإن قل في نفي

العموم حيث قال: ولو أرادت المرأة الخروج فقال: إن خرجت فأنت طالق فجلست ثم خرجت لم يحنث. (ومثاله كثير) ومن ذلك المثال ما لو قالت له زوجته: إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من الجنابة فقال: إن اغتسلت فعبدي حر، ثم اغتسل في غير تلك الليلة أو في تلك الليلة من غير الجنابة لم يحنث. } ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ {حقيقة هذا الكلام لعموم نفي الاستواء بينهما من جميع الوجوه؛ لأن الفعل المستقبل يقتضي مصدرا منكرا. أما مصدرا فلأن الفعل مركب من الزمان والمصدر، فكان ذكر الفعل ذكرا للمصدر، وأما المنكر فلأنه هو الأصل، إذ المعرف إنما يكون بأحد الأشياء الخمسة على ما وصلناها في "الموصل" فكان التعريف عارضا والأصل عدم العارض، والموضع موضع النفي، والنكرة في موضع النفي تعم، والعمل بعموم نفي المساواة بينهما من كل الوجوه متعذر لقيام المساواة بينهما في أشياء كثيرة من الوجود والإنسانية والرجولية والتكليف وغيرها، (فوجب الاقتصار) نفي المساواة بينهما.

على ما دل عليه صيغة الكلام (وهي التغاير في) عمى القلب وبصره؛ إذ صرف نفي المساواة إلى الأمر المعلوم في ذهن كل أحد غير مستحسن لعدم احتياجه إلى البيان. وكذلك في قوله تعالى:} لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ {على هذا الطريق؛ لأن صيغة العموم إذا أضيفت إلى محل لا يقبل العموم يراد به أخص الخصوص الذي دل عليه الكلام، وهو في الفوز ها هنا وعدمه بدلالة قوله تعالى:} أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ {. فإن قلت: على هذا التقرير الذي ذكرته كان هذا من قبيل ما تركت حقيقة الكلام بدلالة سياق النظم لا من قبيل ما تركت حقيقته بدلالة محل الكلام. قلت: لا؛ بل هذا من قبيل الكلام الذي تركت حقيقته بمحل الكلام، وهذا لأنه لما قيل:} ومَا يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ {علم أن هذه صيغة العموم، ولم يرد حقيقة العموم بدلالة محل الكلام؛ لأن هذا المحل لا يقبل

ذلك العموم؛ لأن المساواة بينهما ثابتة في وجوه كثيرة على ما ذكرنا. فعلم بموجود المساواة بينهما في وجوه كثيرة أنه لم يرد به حقيقة العموم في نفي المساواة، وإنما نشأ ذلك من محل الكلام، ثم لما انتفى إجراء العام على عمومه بدلالة محل الكلام لم يكن بد من صرفه إلى الخاص الذي دل عليه سياق النظم إن كان في سياقه عليه دلالة، وقد وجدت الدلالة على أخص الخصوص في سياق الكلام في قوله تعالى:} لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ {، وهذا بخلاف ما إذا تركت حقيقته بدلالة سياق النظم، فإن في قوله: أنت آمن. كانت حقيقته هي ثبوت الأمان وهو ممكن الحمل على حقيقته لكن لما قرنه بقوله بعد ذلك:"ستعلم ما تلقى" تركت حقيقة الأمان بهذه الدلالة، وأما فيما نحن فيه لم يمكن العمل بحقيقة العموم قبل الرجوع إلى سياقه، فإن هذا عام عندنا حتى يقتل المسلم بالذمي، ويضمن المسلم إذا أتلف خمر الذمي أو خنزيره. (قول النبي عليه السلام:"إنما الأعمال بالنيات") وحقيقته متروكة، فإن العمل يوجد كثيرا بدون النية، ومعناه: اعتبار الأعمال بالنيات، وتتمة الحديث دليل عليه.

وكذلك قوله تعالى: {إنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى {فإن إعطاء المال للطاعة أو للمعصية من حيث إنه إعطاء لا يتفاوت ذلك، إنما يتفاوت من حيث النية وصار ذكر الخطأ والعمل مجازا عن حكمه وموجبه، فصار كأنه قال: حكم الأعمال، وحكم الخطأ. (وحكمه: نوعان مختلفان) على ما قرر في الكتاب. فصار مشتركا. فإن قيل: ينتقض هذا باسم الشيء فإنه يقع أيضا على السواد والبياض والحركة والسكون وفي الأعيان على الحيوان وغير الحيوان، وغير ذلك من الأسماء المختلفة والمتضادة، فهو عام ليس باسم مشترك، فيجب أن يكون الحكم كذلك وإن كان يقع على الجواز والفساد والثواب والمأثم بأن يكون عاما لا مشتركا- قلنا: لا كذلك، بل هذا- أعني الحكم- من قبيل العين للينبوع والشمس والباصرة والمولى والقرء وغيرها لا من قبيل الشيء؛ لأن الشيء إنما بتناول السواد والبياض لا باعتبار السواد والبياض بل باعتبار الموجود، فالسواد والبياض معنى وراء الشيئية لم يوضع الشيء للسواد والبياض وغيرهما باعتبار ذلك المعنى بل باعتبار معنى الوجود، فلم يكن معنى السواد

والبياض مقصودا في الشيئية بل المقصود هو الوجود فيها. وأما الحكم فإنه يتناول الجواز والفساد والثواب والمأثم قصدا؛ لأن هذه الأحكام شرعية مقصودة كالعين للينبوع والشمس وغيرهما، فلذلك كان الحكم مشتركا. قال الشيخ أبو المعين- رحمه الله - في "تبصرة الأدلة" في مسألة خلق الأفعال في جواب شبهة المعتزلة في قوله تعالى:} خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {وهي أنه لم يبق عاما حيث خص منها ذات الله تعالى. قال في جواب هذا: إن الشيء مشترك. وأما إذا أريد به المحدثات كان عاما؛ لأن الكل بمعنى واحد وهو معنى الوجود، وأما إذا أريد به ذات الله تعالى لم يكن بطريق العموم؛ لأن المعنى مختلف؛ لأنه شيء قديم وواجب الوجود لذاته لا يشبه شيئا من المخلوقات، فيكون الاختلاف بينه وبين خلقه أكثر اختلافا لين الينبوع والشمس والباصرة في حق العين؛ لأنها تشابه بوجوه كثيرة ومع ذلك كان اسم الشيء مشتركا في أنواعه، فاسم الشيء أولى أن لا يكون مشتركا بين الله وبين خلقه، فكانت لفظة الشيء إذا أريد بها القديم لا يجوز دخول المحدث تحتها وإذا أريد بها

المحدث يمتنع دخول القديم تحتها كما في الأسماء المشتركة، وعن هذا قلنا: إن الشيء ليس باسم جنس، والله تعالى- وإن أطلقت عليه لفظة الشيء - ليس من جنس العالم، ولو كانت لفظة الشيء عامة في القديم والمحدث لكانت اسم جنس لما تحتها، وكان القديم نوعا منه والمحدث نوعا آخر، فيختلفان نوعا ويستويان جنسا، والقول بإثبات المجانسة بين القدم والمحدث كفر. (ألا ترى أن الجواز والفساد يتعلق بركنه وشرطه) يعني أن الجواز يتعلق بوجود الركن، والشرط والفساد يتعلق بعدمهما، (والثواب يتعلق بصحة العزيمة) وإخلاص النية، والمأثم يتعلق بعدمهما، وإذا كان المتعلق بهما مختلفا كان المتعلق أيضا مختلفا، وإيضاح الاختلاف بينهما بوجه آخر أيضا وهو: إن الجواز والفساد حكمان دنيويان، والثواب والمأثم حكمان عقبويان، فلا تبنى أحكام الدنيا على أحكام الآخرة ولا على العكس، ولما ثبت الاختلاف بينهما لم ينتظمهما لفظ واحد لا محال. (وإذا صارا مختلفين صار الاسم بعد صيرورته مجازا مشتركا)، فحكم المشترك التوقف (حتى يقوم الدليل على أحد الوجهين)، فبعد ذلك (يصير

مؤولا)، وهو لم يصح حجة على الخصم أيضا كما يحتج الشافعي علينا في الوضوء غير المنوي، وكما يحتج علينا في عدم فساد الصوم في الإكراه والخطأ، فلا يصح احتجاجه لما ذكرنا. يقرره أن في فصل الإكراه والخطأ الإثم مرفوع، فلا يبقى الآخر مرادا وهو الجواز لما أن المشترك لا عموم له، فحصل من هذا أنه لا يصح الاحتجاج به على الخصم لا قبل التأويل؛ لأنه مشترك فلا يصح الاحتجاج بالمشترك، ولا بعد التأويل؛ لأن تأويله لا يكون حجة على خصمه، فلا يصح احتجاجه لما ذكرنا. (وكذلك حكم المأثم على هذا) يعني الحكم الذي هو مأثم متعلق بصحة العزيمة أي عزيمة الفساد، حتى إن من جرى على لسانه شيء من كلام الناس من غير قصده في صلاته تفسد صلاته ولا إثم عليه، فلا يصح الاحتجاج به للخصم علينا في عدم الفساد. (ومن الناس من ظن أن التحريم المضاف إلى الأعيان مثل الخمر والمحارم مجاز).

ذكر ذلك الناس الظانين شمس الأئمة - رحمه الله- بأنهم العراقيون من مشايخنا، وإنما ظنوا ذلك؛ لأن التحريم تكليف والتكليف يقع في الأفعال؛ لأن التحريم والنهي واحد؛ لأن كليهما منع، والعبد إنما يكون ممنوعا عن تحصيل ما هو مقدور له لا ما هو غير مقدور له، والفعل مقدور للعبد؛ لأنه يمتنع عن الفعل ويقدم عليه وينهي عن تحصيل الفعل ويؤمر بأن يمتنع عنه، فأما العين فغير مقدور للعبد حيث لا يمكن له إيجاده ولا إعدامه بالكلية؛ بل له قدرة النقل من محل إلى محل وذلك ليس بإيجاد ولا إعدام من كل وجه، ولما كان كذلك كان معنى قوله تعالى:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ {وقوله عليه السلام:"حرمت الخمر لعينها"أي حرم نكاح أمهاتكم وحرم شربها، فلذلك قالوا:"كان وصف العين بالحرمة مجازا".

ولكنا نقول: بأن التحريم متى أضيف إلى المحل كان ذلك أمارة لزومه وتحققه، وهذا ينفي كونه مجازا لما أن اسم المجاز غير لازم لمحل المجاز، ولهذا صح نفيه. أما بيان أمارة لزومه أن العين يبقي فيبقى التحريم ما بقي العين. فأما إذا كانت الحرمة مضافة إلى الفعل، والفعل مما لا يبقى حينئذ يبقى العين مطلقا غير محرم حين انعدم الفعل أو اتصف الفعل بالحل كما في أكل مال الغير ينقلب إلى الحل بالإذن. ومن المشايخ من قال: هذه المسألة بناء على مسألة خلق الأفعال، فإن عندنا جميع الأفعال الاختيارية للحيوانات مخلوقة لله تعالى، وعند المعتزلة لا. لما أن في أفعال العباد ما هو قبيح وشر، ثم لو قلنا بأن الله تعالى يخلق الأفعال القبيحة كان نسبة القبح إلى الله تعالى وهو لا يجوز. قلنا: هذا التعليل يبطل بخلق الله تعالى الأعيان القبيحة، فإن الله تعالى خلق الأعيان القبيحة ولم يلزم من ذلك نسبة القبح إلى الله تعالى، فاضطرت المعتزلة في التفصى عن هذا النقض إلى أن يقول: لا قبح في الأعيان

البتة، وقد ارتكبوا هذا المحال بناء على أصولهم الفاسدة لئلا ينتقض عليهم أصولهم، وقد خرقوا فيه الإجماع لما أن العقلاء أجمعوا على تقسيم الأعيان إلى حسن وقبيح. وقال محمد - رحمه الله- وهو موثوق به في اللغة: رجل اشترى جارية فوجدها قبيحة ولم ينكر أحد عليه لقوله: هذا وهم لم يبالوا بخرق الإجماع في هذا، فلذلك قالوا: إن التحريم إذا أضيف إلى عين يكون مجازا؛ لأن التحريم يقتضي قبح المحرم كالأمر يقتضي حسن المأمور به ولا قبح في العين عندهم، فكان التحريم مضافا إلى حقيقة الفعل الذي هو قبيح، وعندنا لما جاز أن يكون في الأعيان قبح جاز أن يكون العين محرما لكونه قبيحا؛ لأن المنع نوعان: منع الشيء عن العبد، ومنع العبد عن الشيء، فعلى الأولى كان بمنزلة النسخ، وعلى الثاني كان بمنزلة النهي؛ لأن الحكم في الأول امتناع فعل العبد بناء على كون المحل ممنوعا عنه كما قلنا في النسخ، وذلك في تحريم العين حتى لم يبق محلا للتصرف الشرعي أصلا كالخمر لم يبق محلا للشرب أصلا، وكالأم لم تبق محلا للنكاح أصلا بل كانت هي بمنزلة الصخر في حق انفعال النكاح في حقها، كما أن الصخر لا ينفعل النكاح فيه، فكذلك الأم لا ينفعل

نكاح الابن فيها لما أن الفعل يمتنع بناء على عدم المحل، كفعل الصوم ينعدم في الليل بناء على عدم المحل، فيكون الفعل تابعا من هذا الوجه والمحل أصلا. وأما إذا منع عن الفعل مع أن المحل لم يكن محرما لعينه كان الفعل أصلا في المنع والمحل تابعا، فمن قال بأن التحريم المضاف إلى العين مضاف إلى الفعل حقيقة فقد جعل ما هو أصل وهو العين فرعا، وما هو فرع وهو الفعل أصلا. وهو معنى قوله: (وهو غلط فاحش)، وإنما أورد هذا الكلام هنا؛ لأن الحرمة هنا على ظن ذلك البعض من الناس إنما ثبتت بدلالة محل الكلام، فلذلك امتنع ثبوت حكم العموم في قوله تعالى:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ {حتى جازت دباغة جلده، وكذلك في قوله تعالى:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ {لم يحرم النظر والمس، فلم يكن حراما لعين المحل، وكذلك في قوله عليه السلام: "حرمت الخمر لعينها" جاز اقترابها وإمساكها للتخليل، فما تركت حقيقة العموم هنا من قبل دلالة محل الكلام كان إيراده هنا أوفق. وقوله: ويصير الفعل تابعا من هذا الوجه، يعني من ضرورة تبديل المحل من الحل إلى الحرمة يتبدل الفعل أيضا من الحل إلى الحرمة، والنسخ إنما يجري

في حق الأفعال، فلذلك قيل قيم المحل مقام الفعل حيث جعل الفعل أصلا، ولكن إنما ينشأ اشتداد الحرمة في الفعل إذا كانت الحرمة مضافة إلى المحل، وفي بيان غلظ الحرمة كانت إضافة الحرمة إلى المحل هي الأصل، فلذلك نسب التجريم إليه ليفيد هذا البيان، وعلى قود ظن بعض الناس كانت إضافة التحريم إلى العين وإلى الفعل سواء في أن الفعل في أصله لم يكن حراما لعينه، (وهو غلظ فاحش)، والله أعلم.

باب حروف المعاني

باب حروف المعاني هذه الإضافة إضافة بمعنى اللام أي الحروف التي تأتي للمعني كالترتيب والتراخي وغير ذلك، وكان هذا احترازا عن الحروف التي ليست لها معان كالجيم، والحاء، والخاء، وغيرها، ذكر وجه المناسبة في الكتاب فإنه ما من حرف من حروف المعاني ها هنا إلا له حقيقة ومجاز، فلاق إيرادها عقيب باب الحقيقة والمجاز، ثم وجه تقديم حروف العطف على غيرها وتقديم حرف الواو من بينها على غيرها مذكور في "الوافي".

[الواو] (وقوله تعالى:} إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ {ورود هذا النص لإثباتهما من الشعائر، فلا يتصور فيه الترتيب، وصار الترتيب واجبا بفعل النبي عليه السلام لا بمقتضى الواو.

وترتب السجود على الركوع لكون الركوع وسيلة إلى السجود، حتى إن من سقط عنه السجود سقط عنه الركوع، ولا يجوز تقدم الأصل على الوسيلة، فاعتبر هذا بالصلاة مع الوضوء لا لأن الواو يوجب الترتيب مع أن ذلك معارض بقوله تعالى:} واسْجُدِي وارْكَعِي {، ولم يقل أحد بترتيب الركوع على السجود، فلو كان الواو للترتيب لقيل ذلك أيضا. (وهذا حكم لا يعرف إلا باستقراء كلام العرب) فيه علامة الفصل، إذ منه ابتداء كلامنا، فكأنه قال: قلنا إن هذا حكم ... إلى آخره. (وكلاهما حجة عليه) أي الاستقراء والتأمل حجة على بعض أصحاب الشافعي. (فيفهم به اجتماعهما في المجئ من غير تعرض للقران والترتيب في المجئ) حتى إنه يكون صادقا في كلامه أن لو جاء عمر وقبل زيد وعلى

العكس أو جاءا معا. لا تنه عن خلق وتأتي مثله. فلو أتى بالمثل قبل النهي عار أيضا، فعلم أن الواو ليس للترتيب، والمعنى: لا تجمع بين النهي والإتيان بالمثل. وأما الثاني وهو التأمل في موضوع كلام العرب.

(أو عذر دعا إليه) وهو معنى الإبهام والإجمال، ومعنى عذر معنى إذا أريد من الواضع الله تعالى. (فلو كان الواو للترتيب لتكررت دلالة الترتيب وليس ذلك بأصل). فإن قيل: لم يلزم تكرار الدلالة مع سائر الحروف؛ لأن الفاء للترتيب مع الوصل، وثم للترتيب مع التراخي، فلو وضعت الواو لمطلق الترتيب من غير تعرض للترتيب مع الوصل أو التراخي لم يتكرر بهما. قلنا: إن لم يتكرر معهما يتكرر مع "بعد" إذ هو موضوع لمطلق الترتيب، فصح قوله: "لتكررت الدلالة" وأورد على شيخي- رحمه الله- قوله تعالى} والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ {فإن اعتبار العمل الصالح إنما يكون بعد تقديم الإيمان عليه، فكان العمل الصالح مرتبا على الإيمان لا محالة، فعلم أن الواو للترتيب.

قال - رضي الله عنه وأثابه الجنة- ترتب العمل الصالح على الإيمان لم يعلم باعتبار الواو، بل علن بآية أخرى وهي قوله تعالى:} فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ {، جعل الإيمان شرطا للعمل الصالح، والشرط مقدم على المشروط أبدا، فلذلك ثبت ترتب العمل الصالح على الإيمان لا باعتبار الواو. (ثم انشعبت الفروع إلى سائر المعاني) يعني الفاء للتعقيب وثم للتراخي وغيرهما، وهو كالإنسان أنه لا يتعرض للذكر والأنثى (ثم وضعت لأنواعها أسماء على الخصوص)، وكالتمر؛ إنه جنس وله أنواع مثل: العجوة واللينة والبرلي والصيحاني، وكالبعير جنس وله أنواع فإن البعير بمنزلة الإنسان، والجمل كالرجل، والناقة كالمرأة، والقلوص كالجارية. (وصارت الواو فيما قلنا نظير اسم الرقبة في كونه مطلقا غير عام ولا مجمل) يعني به إن كلمة الواو وضعت لمطلق العطف كما أن الرقبة وضعت

لمطلق الرقبة التي هي عبارة عن البنية السليمة، المطلق متعرض للذات دون الصفات، فيتناول فردا من الأفراد غير عين فلم يكن عاما؛ لأن العام ما له أفراد، والمطلق يمكن العمل به من غير توقف واستفسار، فلم يكن مجملا؛ لأن المجمل لا يمكن العمل به من غير استفسار من المجمل وبيانه، بل كان مطلقا كرقبة ورجل وامرأة وغيرها. (فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه- موجبه الافتراق) يعني أن الواو للعطف، وإنما يتعلق الطلاق بالشرط كما علقه، وهو علق الثانية بالشرط بواسطة الأولى، فإن من ضرورة العطف هذه الواسطة، فالأولى تتعلق بالشرط بلا واسطة، والثانية بواسطة الأولى، بمنزلة القنديل المعلق بالحبل بواسطة الحلق، ثم عند وجود الشرط ينزل ما يعلق، فينزل كما تعلق، ولكن

هما يقولان: هذا أن لو كان المتعلق بالشرط طلاقا وليس كذلك، بل المتعلق ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط إذا وصل إلى المحل، فإنه لا يكون طلاقا بدون الوصول إلى المحل. (كما إذا حصل التعليق بشروط يتخللها أزمنة كثيرة) يعني لو قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم بعد ذلك اليوم أو أيام قال: أنت طالق إن كلمت زيدا، ثم بعد ذلك بأزمنة قال: أنت طالق إن شتمت عمرا، فوجد الشروط تطلق ثلاثا وإن وجد الترتيب عند التعليق، وكذلك إن علق في كل مرة بدخول الدار، وكذلك إن قدم الشرط. (فلا يترك المطلق بالمقيد)، فالمقيد كون موجب هذا الكلام الاجتماع والاتحاد، والمطلق هو كون الواو محتملا للوجوه المختلفة من الترتيب والجمع. أي لا يترك موجب هذا الكلام الذي يوجب الاجتماع لما قررنا بالواو المطلق الذي لا يتعرض للتفرق والترتيب. (وإذا تقدمت الأجزية) فقال قبل الدخول بها:

(أنت طالق وطالق وطالق) إن دخلت الدار، فدخلت طلقت ثلاثا بالاتفاق؛ لأن موجب هذا الكلام الاتحاد والاجتماع؛ لأن في آخر كلامه ما يغير أوله، فتتوقف الجملة الأولى فيتعلق. بخلاف ما إذا تأخرت الأجزية؛ لأنه ليس في آخر كلامه ما يغير أوله، فيتعلق الأول بالشرط قبل التكلم بالثاني والثالث، فيتعلقن على التفرق فنزلن كذلك وهو الفرق لأبي حنيفة- رحمه الله. (فلا يترك بالواو) يعني لم يترك موجب هذا الكلام وهو الاجتماع والاتحاد على ما قلنا بالواو وهو المطلق، فيحتمل هذا القسم أيضا؛ لأنه مطلق غير متعرض للترتيب، وقوله: (بغير إذن الزوج) قيد اتفاقي، ولهذا لم يذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في "شروح الجامع" و"أصول الفقه" بل قال: لو تزوج أمتين بغير إذن مولاهما ثم أعتقهما المولى إلى آخره؛ لأن في هذا الحكم الذي ذكره لا يحتاج إلى ذلك القيد، ولكن ذكر الإمام قاضي خان - رحمه الله- في "الجامع" ولو تزوج أمتين في عقدة بغير إذن مولاهما

فأعتق المولى إحداهما بعينها فأجاز الزوج نكاح الأمة لم يجز؛ لأن نكاح الأمة قد بطل فلا تلحقه الإجازة؛ لأنه جمع بينهما في عقدة، وإحداهما حرة لا يصح نكاح الأمة، فكذا إذا صارت إحداهما حرة حالة البقاء. وكذلك لو زوج رجل رجلا يعني بغير إذنه أمتين في عقدة بإذنهما وإذن المولى فأعتقت إحداهما، فالمسألة على ثلاثة أوجه: أحدها- أن يعتقهما بكلام واحد معا بأن قال: أنتما حرتان أو أعتقتكما، فنكاحهما جائز. والثاني- أن يقول: هذه حرة وهذه حرة، وهي على وجهين: إما أن فصل بينهما بالسكوت أو لم يفصل والجواب في الفصلين واحد إن أجاز نكاح الأولى جاز، وإن أجاز نكاح الثانية لم يجز، وكذا إذا أجاز نكاحهما جميع جاز نكاح الأولى في كلمتين منفصلتين بأن قال: هذه حرة وهذه. (فيمن هلك عن ثلاثة أعبد وقيمتهم سواء) إنما قيد باستواء القيمة ليكون كل واحد منهم ثلث المال، فإن أقر به في كلام متصل ومعنى الاتصال

ها هنا هو أن يقول الوارث: (أعتق والدي في مرضه هذا وهذا وهذا) من غير سكوت بينهما، فكان هذا بمنزلة قوله: أعتقهم والدي في مرضه. قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في "الجامع": من أصحابنا من يقول المجموع بحرف الجمع وهو الواو كالمجموع بلفظ الجمع، فكأنه قال: أعتقهم والدي، وهذا ليس بصحيح، فإن الواو عندنا ليس له عمل في الجمع ولا في الترتيب، ولكنا نقول: الكلام موصول بحرف العطف، وفي آخره ما يغير حكم أوله؛ لأن حكم أول الكلام سلامة جميع الثلاث الأول، ويتغير ذلك بآخره فلت يسلم له إلا ثلث الثلاث، وفي مثله يتوقف أول الكلام على آخره؛ كما لو ألحق بآخره شرطا أو استثناء، وهذا بخلاف ما لو قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق، لم تقع عليها إلا واحدة؛ لأنه ليس في آخر الكلام ما يغير حكم أوله ولم يتوقف أوله على آخره، فإن سكت فيما بين ذلك عتق الأول ونصف الثاني وثلث الثالث وإنما كان هذا هكذا؛ لأنه لما أقر بعتق الأول فقد أقر بالثلث له فعتق من غير سعاية، ثم لم يصلح ما بعده في تغيير حقه؛ لأن المغير إنما يصح بشرط الوصل، وإذا أقر بالثاني فقد زعم أن الثلث بينهم أثلاثا، لكنه لم يصدق في إبطال حق الأول وصدق في إبطال حق

الثاني، ولما أقر بالثالث فقد زعم أن الثلث بينهم أثلاثا، لكنه لم يصدق في إبطال حق الأولين. كما ذكره المصنف- رحمه الله- في "شرح الجامع الكبير". (لكنه غلط لما قدمنا) وهو قوله: "والأصل في كل قسم منها أن يكون لمعنى خاص ينفرد به، والمشترك والتكرار من غفلة الواضع، وقد جاءت كلمة (مع) للقران، فلو حملنا الواو عليه كان تكرارا". (ولم يقف على التكلم بالثاني)؛ لأنه لم يوجد في آخره ما يقرر أوله؛ لأن الطلاق الثاني يقرر الطلاق الأول في حق رفع القيد، ولما لم يتوقف الأول وقع الطلاق وبانت المرأة من غير عدة، فلم يقع الثاني لذلك. (فسقطت ولايته) أي ولاية الزوج لفوات محل التصرف؛ لأن المرأة بانت من غير عدة فلم تبق محلا للطلاق الثاني. (لا لخلل في العبارة) أي لا يكون الواو للترتيب؛ لأن الواو لو كان للترتيب كان مقيدا بالترتيب، وفي القيد نوع خلل بالنسبة إلى المطلق؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل،

وبيان كماله أنه يتناول الترتيب والمقارنة، والمقيد لا يتناول المطلق. فإن قلت: يشكل على هذا كله ما لو قال لأمرأته قبل الدخول لها: أنت طالق وحد وعشرين، فإنها تطلق ثلاثا عندنا خلافا لزفر مع وجود حرف العطف بين الطلاق الأول والثاني، وليس في آخره ما يغير أوله، وكذلك لو قال لها: أنت طالق إحدى وعشرين تطلق ثلاثا عندنا، وكذلك لو قال لها: أنت طالق واحدة ونصفا كانت طالق ثنتين عندنا ولم يعتبر بالواو. قلت: جعل هذا الكلام في الكل بمنزلة كلام واحد لا واو فيه لما أن هذه الجمل من الكلام ليس لها صيغة بدون الواو التي هي أوجز منها فجعلت لذلك بمنزلة تركيب كلام لا واو فيه كما لو قال: أنت طالق أحد عشر طلاقا، وهناك تطلق ثلاثا بالاتفاق، فكذا في غيره. إلى هذا أشار في "المبسوط". (ثم لم يصح التدارك) أي بإعتاق الثانية؛ لأن نكاح الحرة على الحرة جائز، ولكن لما بطل نكاح الثانية في حكم التوقف لم يكن إعتاقها بعد ذلك تداركا لذلك البطلان لا لاقتضاء واو العطف القران؛ بل باعتبار أن آخر

الكلام هنا يغير أوله؛ لأنه إذا لم تضم الثانية إلى الأولى صح نكاح الأولى، وإذا ضم إليه بطل النكاح الأول؛ لأنه جمع بين الأختين فنزل منزلة الاستثناء والتعليق، فيتوقف الأول عليه فصار كالجمع بكلمة واحدة فلذلك بطلا. كذا ذكره المصنف- رحمه الله. (إن ضم إلى الأولى لم ستغير نكاح الأولى من الصحة إلى الفساد) بخلاف نكاح الأختين إذا كان في عقدتين بدون إذن الزوج، فإن صدر الكلام فيه توقف على آخره؛ لما أن نكاحهما لو كان في عقدتين توقف كما في الشرط يتوقف أول الكلام عليه. (وعن الوجود إلى العدم) كما في قوله: إن علي ألف درهم إلا مائة، توقف أول الكلام على آخره؛ لأنه لولا استثناء المائة لوجب عليه الألف

كاملاً، فإذا الحق استثناء المائة يغير أول الكلام من وجوب المائة إلى عدمه، فلذلك توقف أول الكلام لوجود المغير في آخره، فلما لم يتغير أول الكلام في مسألة الأمتين بلحوق آخره لم يتوقف أول الكلام على آخره. فإن قيل: نكاح الأختين في عقدة واحدة لا يجوز، ولو عقد نكاحهما بطريق الفضولي في عقدتين متفرقتين يتوقف نكاحهما، وكذلك نكاح الأمة مع الحرة لا يجوز نكاح الأمة، ولو كان نكاحهما بطريق الفضولي لا يتوقف نكاح الأمة، فيجب أن يتوقف نكاحهما كما يتوقف نكاح الأختين؛ بل أولى؛ لأن نكاح الأختين لا يجوز أصلا سواء تقدم نكاح إحداهما على نكاح الأخرى أو اجتمعا، ونكاح الأمة إذا كان متقدما على الجرة جائز، فما وجه الفرق بينهما؟ قلنا: وجه الفرق نشأ من صيغة النص في نكاح الأختين، أضاف الله تعالى الحرمة إلى المباشرين بقوله:} وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ {لا إلى المحل، فلم يكن المحل خارجا عن محليته؛ بل الحرام هو فعل الجمع والفعل لم يوجد من الزوج في نكاح الفضولي، فلم تكن الحرمة في حقه ثابتة فيتوقف، وأما نكح الأمة مع الحرة فقد أخرج النبي عليه السلام الأمة في ذلك عن

محلية النكاح بقوله: "لا تنكح الأمة على الحرة" فلا تحل عليها بوجه من الوجوه، ولو توقف نكاحها على نكاح الحرة كان نكاح الأمة على الحرة من وجه، وهذا لا يجوز لما عرف من الأصل أن كل حكم يرجع إلى المحل فالابتداء والبقاء فيه سواء/ (ولهذا قلنا: إن قول محمد - رحمه الله- في الكتاب) أي في "الجامع الصغير". وذكر في كتاب الصلاة (وينوي) بالتسليمة الأولى (من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء). (ولا يتصور فيه الترتيب) أي لا يتصور الترتيب في أنهما من الشعائر؛ لأن الترتيب إنما يكون في الأفعال لا في الأعيان، (وصار الترتيب واجبا

بفعله) أي وجوب تقديم الصفا في السعي على المروة إنما صار بفعل النبي عليه السلام لا بمقتضى الواو في النص. فإن قيل: أفعال النبي عليه السلام غير موجبة عندنا على ما مر قلنا: نعم كذلك إلا أن فعله هاهنا صار بيانا لمجمل قوله عليه السلام: "إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا"، لما أن السعي بين الشيئين لا بد أن يكون له مقدم ومؤخر وهو مجمل، فبين ذلك بفعل النبي عليه السلام في تقديم الصفا على المروة في الشعري، ولأن مواظبة النبي عليه السلام على الشيء بدون الترك تدل على الوجوب، وواظب النبي عليه السلام على بداية السعي من الصفا من غير ترك، فكان هو دليلا على الوجوب لا مجرد الفعل. (كما قال أصحابنا- رحمهم الله- في الوصايا بالقرب: النوافل) كالوصية ببناء الرباطات والسقايات والمساجد، وإنما قيد بالنوافل؛ لأنه إذا أوصى بأشياء من الفرائض والنوافل وأخر الفرائض كما في أداء الزكاة وغيرها، فإنه تقدم الفرائض على النوافل، وإن أخرها الموصي لما عرف.

(وأما قول الرجل: لفلان علي مائة ودرهم) إلى آخره، فإيراده هنا لسبب أن واو العطف هنا موجود، والعطف يقتضي المغايرة، وقد اختلف حكمه في هذه المسائل حتى صارت المائة دراهم في قوله: مائة ودرهم "وما صارت المائة أثوابا في قوله: مائة وثوب" فأورد هنا ليعلم أن الاختلاف ليس من قضية العطف بل (لأصل آخر يذكر هو في بابه إن شاء الله). (ولهذا قلنا: إن الجملة الناقصة تشارك الأولى فيما تتم به الأولى بعينه) يعني أن الكلام الثاني إذا كان ناقصا يشارك الكلام الأول في عين ما تم به الكلام الأول ضرورة ثبوت الشركة؛ لأنه لو أفرد الثاني بالخبر لم يكن هذا شركة في خبر الكلام الأول؛ لأنه حينئذ يصير كالجملة المنفردة بالخبر ولم تكن

ناقصة، نظيره: إن دخلت الدار فأنت طالق وفلانة، فإن فلانة تشارك الأولى في عين ذلك الشرط حتى لو دخلت الأولى طلقتا (ولا يقتضي الاستبداد به). (كأنه أعاده) يعني كأنه أفرد الثانية بشرط على حدة، كأنه قال: وفلانة إن دخلت الدار؛ لأنه لو جعل كذلك لم تطلق فلانة بدخول الأولى الدار، فعلم أن الجملة الناقصة تشارك الكلام الأول في عين ما تم به الأول، وهذا في تمام الأول بالشرط. ونظير آخر فيه ما قال في الكتاب بقوله: (إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق. إن الثاني يتعلق بعين ذلك الشرط) إذ لو لم يتعلق بعين ذلك الشرط بل جعل كأنه قال: وطالق إن دخلت الدار تقع تطليقتان عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- أيضا، وإن كانت المرأة قبل الدخول بها؛ لأنه حينئذ يصير كأنه قال لامرأته قبل الدخول بها: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار تقع تطليقتان بالاتفاق، وحيث

وقعت عليها تطليقة واحدة- علم أن الثاني يتعلق بعين ذلك الشرط في الأول، وأما إذا كانت المرأة مدخولا بها لم يقع التفاوت بين ما أفرد الخبر للثاني أو لم يفرد، (فصار الثاني ضروريا) أي صار إفراد الكلام الثاني وهو الجملة الثانية بخبر على حدة ضروريا كما في جاءني زيد وعمرو، فإن تقديره وجاءني عمرو لاستحالة الاشتراك في الخبر الأول. (والأول أصليا) أي وصار اشتراك الجملة الناقصة في عين ما تم به الكلام أصليا كما إذا قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان، يكون الألف بينهما. ذكر هذه المسألة في "الجامع الكبير" في باب من إقرار الوارث بالعتق بعد موت المورث من كتاب الإقرار، وفرق بين هذه المسألة وبين من قال لامرأته قبل الدخول: أنت طالق وطالق وطالق أنه تقع عليها واحدة ولا تقع الثلاث، والفرق أن آخر الكلام إذا غير أوله توقف عليه كما توقف على الشرط والاستثناء، وفي مسألة الإقرار بألف درهم إذا اتصل آخر الكلام بأوله صار حق الأول ناقصا فتوقف عليه. وأما في الطلاق فلا يتغير أول الكلام بآخره؛ لأن التحريم حكم الكل فذلك لم يتوقف عليه. فإن قيل: يشكل على هذا قوله: هذه طالق ثلاثا وهذه؛ أن الثانية تطلق ثلاثا أيضا، وإن كان الخبر صالحا بأن يجعل لهما جميعا بأن يقسم الثلاث

عليهما فتقع لكل واحدة منهما تطليقتان؛ لأن عند القسمة يصيب لكل واحدة منهما طلاق ونصف، ولم يجعل كذلك بل أفرد الثانية بالخبر، كما في جاءني زيد وعمرو مع أنه لا ضرورة فيه في إفراد الثانية بالخبر. قلنا: فيه ضرورة؛ لأنه ذكر الثلاث وهي محرمة للمحل حرمة غليظة، وعند القسمة لا تكون محرمة للمحل، فيقع حينئذ على خلاف ما أصدره الزوج، وهذا لأنا ذكرنا أن الطلاق إذا قرن بالعدد كان الاعتبار للعدد لا لقوله: أنت طالق حتى إذا ماتت المرأة قبل قوله: ثلاثا لا يقع الطلاق بقوله: أنت طالق، وهو وإن صادفها في حالة الحياة، ولما كان كذلك قد أشرك الزوج الثانية للأولى في إيقاع الحرمة الغليظة، ولا يحصل ذلك إذا قسمت الثلاث بينهما، ولأن عند القسمة يزداد الثلاث إلى الأربع، والزوج لم يتلفظ به ووقوع الطلاق متعلق باللفظ، فلما لم يقبل الشركة بهذين المعنيين أضمر للثانية مثل الخبر الأول ضرورة فكان مثل قوله: جاءني زيد وعمرو. (ومن عطف الجملة قول الله تعالى) أي ومن عطف الجملة على الجملة بدون إثبات المشاركة بينهما} وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ {في قصة القذف) هذا مبتدأ وخبر غير مشارك للأول؛ لأن الاشتراك إنما يكون للافتقار، وهذه

مسألة تامة. وأما قوله:} ولا تَقْبَلُوا {وإن كانت تامة تثبت الشركة فيها؛ لأنها ناقصة من وجه آخر وهو كونها مفتقرة إلى السبب- فلذلك تعلقت بعين ما تعلق به الجد، وأما قوله:} وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ {فحكاية حال قائمة بهم بمعنى، ثم فسقوا أي خرجوا من أمر ربهم، وهو لا يصلح جزاء للقذف لأنهم فسقوا فسموا فاسقين، والدليل على الانقطاع عن الأول أن الأئمة لم يخاطبوا به، وإقامة الحد مما يخاطب به الأئمة. ومثل قوله تعالى:} يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ {وما قبله} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ {وقوله:} ويَمْحُ {إنما صح وجه التمسك به في حالة الوقف حيث يوقف عليه بالواو، ولو كان مجزوما لوقف عليه بدون الواو، وهو في خط المصحف بدون الواو، وهو غير متعلق بالأول على أن يكون داخلا في جزاء الشرط بل هو مطلق، واستئناف الكلام ومعناه: يذهب الله الباطل ويزيله، وهذا لأن محو الله الباطل غير متعلق بمشيئته بل هو يمحوه على الإطلاق. والدليل عليه قوله تعالى:} لِيُحِقَّ الحَقَّ ويُبْطِلَ البَاطِلَ ولَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ {. فعلم بهذا أن محو الباطل غير متعلق بالمشيئة، فلا يجوز عطفه على جزاء

شرط المشيئة لذلك، ولأن قوله تعالى:} َأن يُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ {مرفوع. علم أن المعطوف وهو} ويَمْحُ اللَّهُ {مرفوع أيضا. وذكر في "الكشاف": فإن قلت: إن كان} ويَمْحُ اللَّهُ البَاطِلَ {كلاما مبتدأ غير معطوف على} يَخْتِمْ {فما بال الواو ساقطة في خط؟ قلت: كما سقطت في قوله تعالى:} ويَدْعُ الإنسَانُ بِالشَّرِّ {أيضا وقوله:} سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ {، على أنها مثبتة في بعض المصاحف، قال قتادة

{فَإن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ {: أي ينسيك القرآن فلا تبلغه ولا يكذبونك، وقال مقاتل: أي يختم بالصبر حتى لا تجد غصة التكذيب. (ومثل قوله تعالى:} والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ {هذا على قول من يقول بوجوب الوقف عند قوله:} إلاَّ اللَّهُ {. ((وهذا معنى) أي كونه للحال (يناسب معنى الواو)؛ لأن الواو لمطلق الجمع والحال تجامع ذا الحال فكان فيها الجمع، فصحت الاستعارة لها؛ لأن مطلق الجمع يحتمل الجمع المكيف.

(واختلف مسائل أصحابنا على هذا الأصل، فقالوا في رجل قال لعبده: أد إلي ألف وأنت حر. أن الواو للحال حتى لا يعتق إلا بالأداء). اعلم أن ها هنا أربع مسائل: إحداها- هذه. والثانية- وهي أنه لو قال: أد إلي ألفا فأنت حر؛ عتق في الحال أدى أو لم يؤد. والثالثة- إذا قال: إذا أديت إلي ألفا وأنت حر؛ عتق في الحال أيضا. والرابعة- إذا قال: إذا أديت إلي ألفا فأنت حر؛ فإنه لا يعتق فيها إلا بالأداء؛ لأن جواب الشرط بالفاء دون الواو، فإن الجزاء يتصل بالشرط على أن يتعقب نزوله وجود الشرط، وحرف الفاء للوصل والتعقيب، فيتصل به الجزاء على الشرط لأنه يوجب تعليقه بالشرط، فكان تنجيزا. وأما جواب الأمر بحرف الواو على معنى أنه بمعنى الحال أي وأنت حر

في حال أدائك. فأما حرف الفاء في صيغة الأمر يكون بمعنى التعليل بقول الرجل: أبشر فقد أتاك الغوث بمعنى لأنه أتاك الغوث، فإذا قال: أد إلي ألفا فأنت حر معناه لأنك حر، فلهذا يتنجز به العتق في الحال. كذا ذكر في باب الأول في المأذون الكبير في "المبسوط" وهذا لأن الواو لما كانت للحال والأحوال شروط كما في قوله لأمته: إن دخلت الدار راكبة فأنت حرة. يجعل الركوب شرطا أيضا كالدخول. وقيل: إن الحرية لما كانت حالا للأداء لا تسبق الأداء؛ لأنه معمول الأداء، والمعمول لا يتقدم على العامل. فإن قلت: كيف وجه تفسير هذا الكلام في "المبسوط" أي وأنت حر في حال الأداء، والواو إنما دخلت على قوله: وأنت حر، وهو جعل معنى الحال في الأداء؟ قلت: لما كان هذا المجموع عبارة عن كلام واحد جاز تقديم المؤخر وتأخير المقدم على حسب ما يسوق معنى الكلام إليه. ألا ترى إلى ما ذكر في "الجامع" قال: كل امرأة أتزوجها إن دخلت الدار فهي طالق ثلاثا فتزوج امرأة ثم دخل الدار، ثم تزوج أخرى تطلق التي تزوجها بعد الدخول خاصة على طريق التقديم والتأخير، فصار كأنه قال: إن

دخلت الدار كل امرأة أتزوجها طالق كما في قوله تعالى:} ولا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ {. معناه إن كان الله يريد أن يغويكم، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، ثم معنى الكلام يسوق إلى ما ذكره في "المبسوط" لأن مثل هذا الكلام إنما يذكر للتحريض على أداء المال، ولا يتأتى ذلك إلا على ذلك التقدير. (وقالوا فيمن قال لامرأته: أنت طالق وأنت مريضة أو أنت تصلين) إلى آخره، وفي "المبسوط" وإن قال: أنت طالق وأنت تصلين طلقت للحال؛ لأن قوله: وأنت تصلين، ابتداء، فإن قال: عنيت إذا صليت لم يصدق في القضاء؛ لأن الشرط لا يعطف على الجزاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن هذا اللفظ بمعنى الحال تقول: دخلت على فلان وهو يفعل كذا أي في تلك الحالة، فيكون معنى هذا أنت طالق في حال اشتغالك بالصلاة، فيدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال لفظة ما نوى، وكذلك لو قال: أنت طالق مصلية في القضاء تطلق في الحال، وإن قال: عنيت إذا صليت دين فيما بينه وبين الله تعالى لمعنى الحال، وأهل النحو يقولون: إن قال: مصلية بالرفع لا يدين فيما بينه وبين الله، وإن قال مصلية بالنصب حينئذ يصدق في القضاء

أيضا وهو نصب على الحال. وكذلك قوله: أنت مريضة. إذا قال: عنيت إذا مرضت صدق في القضاء عند أهل النحو، وعند الفقهاء يدين فيما بينه وبين الله تعالى. (وقالوا في المضاربة إذا قال لرجل: خذ هذا المال مضاربة واعمل به في البر إن هذه الواو لعطف الجملة لا للحال حتى لا يصير شرطا). وكذلك لو قال: خذه مضاربة بالنصف واعمل به في الكوفة فله أن يعمل به حيث شاء؛ لأن الواو للعطف، والشيء لا يعطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره. وقد تكون الواو للابتداء خصوصا بعد الجملة الكاملة، وقوله: خذه

مضاربة بالنصف جملة تامة، وقوله: واعمل عطف فتكون مشورة أشار به عليه لا شرطا في الأمر الأول. فإن قيل: لماذا لم يجعل لمعنى الحال كما قال في قوله: أد إلي ألفا وأنت حر. قلنا: لأنه غير صالح للحال هاهنا فحال العمل لا يكون وقت الأخذ، وإنما يكون العمل بعد الأخذ مع أن الواو تستعار للحال مجازا، وإنما يصار إليه للحاجة إلى تصحيح الكلام، والكلام صحيح ههنا باعتبار الحقيقة، فلا حجة إلى حمل حرف الواو على المجاز. كذا في "المبسوط". لأن حال الخلع حال المعاوضة وفي المعاوضات لا يعطف أحد العوضين على آخر إنما يلصق أحدهما بالآخر. كما في قوله: احمل هذا المتاع إلى بيتي ولك درهم.

وقوله: (لأن الحال فعل) كما لو قال: خذ هذه الألف مضاربة تعمل بها في الكوفة، (أو اسم فاعل) كما لو قال: خذ هذه الألف مضاربة عاملا بها في الكوفة، فلو عمل بها في غير الكوفة كان ضامنا في الصورتين. وأما ما يجئ من الحال التي ليست هي بفعل ولا اسم فاعل من الجمل الاسمية والظرفية كقوله: كلمته فوه إلى في، ولقيته عليه جبة وشيء. (وأما قوله: أد إلي ألفا وأنت حر)، فصيغته للحال باعتبار أن قوله: "حر"صيغة نعت من الجزاء من حد علم بمعنى العتق، فكان قوله: "وأنت حر" بمعنى وأنت عتيق، وصار كأنه قال: أد إلي كونك حراً أو حال

أدائك على ما ذكرنا. (وصدر الكلام غير مفيد) أي أول قوله: "أد إلي ألفا وأنت حر" غير مفيد شيئا إلا بآخره، فإنه يصير به تعليقا بأداء المال، وههنا أول الكلام إن صدر من الزوج بأن قال: أنت طالق وعليك ألف درهم كان إيقاعا مفيدا منه بدون آخره فل حاجة إلى أن يحمله على الحال، وإن صدر منها فهو التماس صحيح منها، فلهذا لا يحمل على واو الحال. الضريبة: وظيفة يأخذها المالك من عبده. وقوله: أد إلي ألفا لا يصلح ضريبة؛ لأن الضريبة على أداء الألف من غير عقد واصطلاح بينهما لا يكون؛

لأن الضريبة لا تزيد في شهر على عشرين أو ثلاثين درهما، فكان ذكر ألف دلالة على الحال. فإن قلت: ما جواب أبي حنيفة- رضي الله عنه- عن قولهما: لا يستقيم هنا حمل الواو على العطف الذي هو حقيقته؛ لأنه لا يعطف أحد العوضين على الآخر وذلك معنى الباء، فكان مستعارا لها لا محالة؟ قلت: بل يستقيم إجراء الواو على حقيقته التي هي للعطف، فإن معنى قولها لزوجها: طلقني ولك ألف درهم، أي ولك ألف درهم في بيتك فلا حاجة لك إلي، بل لك سعة أن تتزوج غيري أو تشتري جارية، فكان عطف الجملة على الجملة، ففي عطف الجمل بعضها على بعض لا يطلب تمام المناسبة، أو بمعنى الابتداء فيكون وعدا منها إياه المال، والمواعيد لا تتعلق بها اللزوم، ولأن أكثر ما في الباب أن يكون حرف الواو محتملا لجميع ما ذكرنا، والمال لا يجب بالشك. إلى هذا أشار في "المبسوط".

[الفاء] (إن وجوه العطف منقسمة على صلاته) يعني مطلق العطف كلي لا وجود له في الخارج، وإنما وجوده في الخارج بأحد الأقسام الثلاثة، وهو: القران، والوصل مع التعقيب، والترتيب مع الفصل. فمعنى قوله:"على صلاته" أي على حروفه وكلماته، وسماها صلات العطف؛ لأنه لا وجود للعطف بدون هذه الأوجه، كما لا وجود للموصول بدون الصلة كالذي وغيره. (فإذا هو لا يكفيه أنه يضمن) لأن الفاء

للوصل والتعقيب، فكأنه قال: إن كفاني قميصا فاقطعه. بخلاف ما إذا قال: اقطعه، فقطعه فإذا هو لا يكفيه قميصا فإنه لا يكون ضامنا لوجود الإذن مطلقا. (حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فدل ذلك على كونه معتقا حكم للشراء بواسطة الملك)؛ لأن الإعتاق يستحيل أن يكون حكما للشراء بلا واسطة؛ لأن الشراء لإثبات الملك إزالة إلا أن الشراء حكمه الملك، والملك في القريب سبب للعتق فكان العتق حكم الشراء بواسطة الملك، والحكم كما يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة. (وقد تدخل الفاء على العلل أيضا إذا كان ذلك مما يدوم) أي كان من حق الفاء أن تدخل على أحكام العلل لا على العكس؛ لأن الحكم مرتب على العلة وهو موضوع الفاء كما ذكر. إلا أن العلة لما كانت مما يدوم صارت بمعنى المتراخي من الحكم، فلذلك صح دخوله على العلل. (فقد أتاك الغوث) فهذا على سبيل بيان العلة للخطاب بالبشارة، ولكن لما كان ذلك ممتد صح ذكر حرف الفاء مقرونا به.

وقوله: (لما قلنا) إشارة إلى قوله: "وقد تدخل الفاء على العلل فصار معنى كلامه ههنا: انزل لأنك آمن فالآمان ممتد (ولم يجعل بمعنى التعليق كأنه أضمر الشرط). هذا جواب لسؤال سائل بأن قال: لم لا يضمر حرف الشرط حتى يكون هذا الذي دخل فيه جزاء للشرط كما في قول من قال لخياط بعد قوله: نعم، "فاقطعه" فحينئذ كان الآمان معلقا بالنزول لوا يثبت قبله، فأجاب عنه بقوله: (لأن الكلام صح بدون الإضمار) يعني أن الإضمار في الكلام إنما جاز باعتبار الحاجة، ولما لم يحتج إلى الإضمار في تصحيح الكلام لم يجز الإضمار بدون الحاجة والضرورة. فإن قلت: ففي صورة العلة لا يصح الكلام أيضا بدون الإضمار. ألا ترى أنه كيف ذكر تقديره بقوله: وتقديره أد إلي ألفا فإنك قد عتقت، ولما كان كذلك كان إضمار الشرط أولى؛ لأن ذلك طريق مسلوك في أفصح اللغات. قال الله تعالى:} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ {، أي إن لم تعرفه فذلك الذي يدع اليتيم. قلت: نعم كذلك، إلا أن هذا الذي ذكره من التقدير ليس ببيان

للإضمار، بل هو بيان وإيضاح لعلية قوله: فأنت حر، ولهذا لا يجتمع معه، فصار هذا التقدير الذي ذكره هو أصل الكلام، وما هو المذكور قائما مقامه ونائبا منابه، فالنائب مع المنوب لا يجتمعان بخلاف إضمار الشرط، فكان إضمارا، وفيما نحن فيه يصح بدون الإضمار؛ لأنه قار على أصله إلا أنه غير واضح، فأوضح ذلك المبهم بهذا التقدير، فلا يكون إضمارا بل يكون تفسيرا للمبهم. وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لقوله: (وإنما الإضمار ضروري في الأصل) يعني إنما يصار إلى الإضمار عند الضرورة لا عند عدمها. (ولهذا قلنا فيمن قال: لفلان علي درهم فدرهم) بصحة الكلام بدون الإضمار لعدم احتياجه إليه، وقلنا: إنه يلزمه درهمان، فذلك لتحقيق معنى العطف؛ إذ المعطوف غير المعطوف عليه، واعتبار معنى الوصل والترتيب في الوجوب لا في الواجب وهو الدرهم كالقوم المجتمع في مكان لا يقال: هذا أول وهذا آخر بل يقال: دخل هذا أولا وذلك آخرا، فكذلك ها هنا لا يقال:

هذا الواجب أول وهذا آخر، ولكن يقال: وجب هذا أولا وذلك آخرا لما أن الترتيب إنما يكون في الأفعال لا في الأعيان، أو هو عبارة عن الواو مجازا؛ لأن معنى الترتيب لغو، فكان حرف الفاء صلة للتأكيد، فكأنه قال: درهم ودرهم، ولكن ما قلناه أحق؛ لأن الشافعي يضمر ليسقط به اعتبار حرف الفاء والإضمار لتصحيح ما وقع عليه لا لإلغاء به. الإعراب: سخن بإعراب كفتن وبيان كردن يقال: أعرب كلامه إذا لم يلحن في الإعراب. والإعجام خلاف الإعراب، فهو أن يلحن في إعراب كلامه. قيل الشعر لرؤبة، وقيل للخطيئة وترتيبه: (والشعر لا يستطيعه من يظلمه) إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه (يريد أن يعربه فيعجمه). أي فهو يعجمه- رفع يعجمه- لأنه استأنفه ولو نصب لفسد المعنى. وفي "الصحاح" فيعجمه أي يأتي به عجميا أي يلحن فيه. قال الفراء: رفعه على المخالفة يريد أن يعربه ولا يريد أن يعجمه.

وقال الأخفش: رفعه لوقوعه موقع المرفوع؛ لأنه أراد أن يقول: يريد أن يعربه فيقع موقع الإعجام، فلما وضع قوله: فيعجم موضع قوله: فيقع رفعه. وقيل: يريد أن يعربه أي يظهره فيعجمه أي عين ذلك الإعراب إعجام له. كقوله تعال:} لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ {أي عين ذلك البيان إضلال له كقوله تعالى:} وإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}

فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ {بين بهذه الآية أن القرآن وإن كانت آياته آية قاطعة في الحجة لكن إن كانت في موضع الإيمان يزداد منها الإيمان لمن آمن، وفي غير موضع الإيمان يزداد منها الكفر لمن كفر، فكذلك ها هنا إذا كان إعراب الشعر في موضعه تزداد فيه الفصاحة، وإذا كان في غير موضعه يزداد فيه الإبهام والإعجام. (إلا أن هذا لا يصح إلا بإضمار فيه ترك الحقيقة، والحقيقة أحق ما أمكن). فإن قيل: لو قال الخصم: وفيما قلتم أيضا ترك الحقيقة وهو أن يكون الفاء مستعارا للواو، وما الفرق بين التركين؟ قلنا: ما قلناه أولي؛ لأن في استعارة الفاء للواو تقريرا لحقيقة الكلام، وهي: أن المعطوف غير المعطوف عليه، والخصم أضمر لتغيير حقيقة الكلام وهي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، فيلزم على قوله شيئان: أحدهما- ترك الحقيقة وهي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، والثاني- إلغاء حرف الفاء المذكور، وهو أقبح من ترك الحقيقة، وليس على قولنا إلا استعارة حرف لحرف عند وجود المناسبة بينهما، وهي سائغة شائعة.

[ثم] (قولا بكمال التراخي)؛ لأن ثم وضع للتراخي، فلو كان معنى وجود التراخي في وجود الطلاق دون التكلم بالطلاق لكان معنى التراخي فيه موجودا من وجه دون وجه، فيظهر أثره في حكم التكلم أيضا قولا بكماله، واثر هذا الاختلاف ظهر في الفروع كما ذكر في الكتاب. وحاصله إنه إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن كلمت فلانا، فعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- إن كانت مدخولا بها تقع في

الحال ثنتان والثالثة تتعلق بالكلام، وإن لم يكن دخل بها تقع واحدة في الحال ويلغو ما سوى ذلك، وإذا قدم الشرط فقال: إن كلمت فلانا فأنت طالق ثم طالق ثم طالق، فإن كان قد دخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية والثالثة في الحال، وإن كان لم يدخل بها تعلقت الأولى بالشرط ووقعت الثانية في الحال والثالثة لغو، وعند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- سواء قدم الشرط أو أخر تتعلق الثلاث بالشرط إلا أن عند وجود الشرط إن كانت مدخولا بها تطلق ثلاثا وإن كانت غير مدخول بها تطلق واحدة. فأبو حنيفة- رضي الله عنه- يقول: ثم للتعقيب مع التراخي، فإذا دخل بين الطلاقين كان معناه سكتة بينهما، وهما يقولان: ثم للعطف ولكن مقيدا بالتراخي، فلوجود معنى العطف يتعلق الكل بالشرط، ولمعنى التراخي يقع مرتبا عند وجود الشرط. كذا في "المبسوط". فإن قيل: كلمة ثم إذا أدخلت بين الطلاقين لو كانت هي بمنزلة سكتة على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- كان ينبغي أن لا تقع الطلقة الثانية والثالثة سواء كانت المرأة مدخولا بها أو لم تكن؛ لأنه حينئذ يكون بمنزلة قول الرجل لامرأته: أنت طالق، ثم قال بعد سكتة: أنت طالق؛ هناك لا تقع إلا واحدة؛ لأن الثاني يقع لغوا لعدم المبتدأ.

قلت: يضمر المبتدأ بدلالة العطف لتصحيح كلامه؛ لأن قوله: "طالق""في المرة الثانية خبر، والخبر يفتقر إلى المبتدأ، فيصير كأنه قال: ثم أنت طالق، فتقع واحدة في الحال في غير المدخول بها. فإن قيل فقوله: "طالق" كما هو محتاج إلى المبتدأ كذلك هو محتاج إلى الشرط أيضا، فيجب أن يضمر الشرط في الثاني لكي يتعلق هو أيضا بالأول. قلنا: احتياجه إلى المبتدأ ليس كاحتياجه إلى الشرط؛ لأنه لو لم يضمر المبتدأ لكان كلامه في الثاني لغوا محضا ملحقا بنعيق الغراب، ولا كذلك الشرط؛ لأن لكلامه صحة بدونه والإضمار إنما كان للحاجة والحاجة اندفعت بإضمار المبتدأ حتى صح الكلام في الطلاق الثاني ووقعت الغنية عن إضمار الشرط. فإن قلت: كيف احتيج إلى إضمار الشرط في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق وعبدي حر مع استقلال قوله:" وعبدي حر" بفائدته حتى تعلقا جميعا بالشرط؟ قلت: ليس اتصال الجمل بالواو كاتصالها بثم، فلو كان مقصود الحالف تعليق كل الطلقات لذكرها بحرف الواو، فإن حرف ثم بمنزلة السكتة عند أبي حنيفة -

رضي الله عنه- فكان أثرها في قطع التعليق عنده. وقد يستعار ثم لمطلق العطف كما أن الرقبة وضعت لمطلق الرقبة التي هي عبارة عن البنية السليمة، والمطلق متعرض للذات دون الصفات، فيتناول فردا من الأفراد غير عين فلم يكن عاما؛ لأن العام ما له أفراد والمطلق يمكن العمل به من غير توقف واستفسار فلم يكن مجملا؛ لأن المجمل ما لا يمكن العمل له من غير استفسار من المجمل وبينه، بل كان مطلقا كرقبة ورجل وامرأة وغيرها. فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: موجبه الافتراق؛ يعني أن الواو للعطف، وإنما يتعلق الطلاق بالشرط كما علقه وهو علق الثانية بالشرط بواسطة الأولى، فإن من ضرورة العطف هذه الواسطة، فالأولى تتعلق بالشرط بلا واسطة والثانية بواسطة الأولى بمنزلة القنديل المعلق بالحبل بواسطة الحلق، ثم عند وجود الشرط ينزل ما تعلق فينزل كما تعلق، ولكن هما يقولان: هذا أن لو كان المتعلق بالشرط طلاقا، وليس كذلك بل المتعلق ما سيصير طلاقا عند وجود الشرط إذا وصل إلى المحل، فإنه لا يكون طلاقا بدون الوصول إلى المحل كما إذا حصل التعليق بشروط يتخللها أزمنة كثيرة، يعني لو قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم بعد ذلك بيوم أو أيام قال: أنت طالق إن كلمت زيدا، ثم بعد ذلك بأزمنة قال: أنت طالق إن شتمت عمرا، فوجد الشروط تطلق ثلاثا، وإن وجد الترتيب عند التعليق،

وكذلك إن علق في كل مرة بدخول الدار، وكذلك إن قدم الشرط فلا يترك المقيد بالمطلق، فالمقيد كون موجب هذا الكلام الاجتماع والاتحاد، والمطلق هو كون الواو محتملا للوجوه المختلفة من الترتيب والجمع أي لا يترك موجب هذا الكلام الذي يوجب الاجتماع لما قررنا بالواو المطلق الذي لا يتعرض للتفرق والترتيب. (وقد يستعار ثم لمعنى واو العطف مجازا للمجاورة التي بينهما) إذا تعذر العمل بحقيقة ثم، وبيان المجاورة بينهما أن الواو لمطلق العطف، فكان يحتمل معنى ثم؛ لأن المطلق إنما يكون وجوده في الخارج بحسب ما يحتمله من المقيدات، فتثبت المجاورة بينهما بسبب الاحتمال. (قال الله تعالى:} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا {أي وكان، فإن أول الآية قوله تعالى:} فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ (11) ومَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ {إلى قوله} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا {). فقد عد الأعمال الصالحة، ثم ذكر الإيمان بعده بكلمة ثم، فلو عمل بحقيقتها يلزم أن تكون الأعمال الصالحة المنجية من عذاب النار قبل الإيمان وليس كذلك؛ لأن عمل الكافر وإن كان صالحا من حيث الظاهر كتخليص الأسارى وإطعام الجائعين والصدقات فليس بمنج شيئا من العذاب؛ لأن كونه

مؤمناً شرط لصحة عمله وانعقاده منجيا من العذاب بفضل الله. } ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ {أي والله شهيد لتعذر العمل بحقيقة ثم؛ لأنه للترتيب ولا ترتيب في صفات الله تعالى، لما أن الله تعالى قديم بجميع صفاته العلى، وأول الآية لقوله تعالى:} وإمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ {. (ولهذا قلنا في قول النبي عليه السلام "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه": إنه يحمل على حقيقته)؛ لأن الإتيان بالذي هو خير هو الحنث، فتجب الكفارة بعده لا محالة فكان ثم على حقيقته؛ لأن الكفارة واجبة بعد الحنث بالإجماع،

ويروى "فليكفر يمينه ثم ليأت بالذي هو خير" فحملنا ههنا كلمة ثم على واو العطف؛ لأن العمل بحقيقتها غير ممكن؛ لأن التكفير قبل الحنث غير واجب بالإجماع. فكان المجاز متعينا تحقيقا لما هو المقصود) وهو الوجوب؛ لأن البر في اليمين واجب. وهو الأصل في الإيمان، والكفارة تجب خلفا عن البر، فلو أجريت على حقيقتها لم يحصل المقصود وهو الوجوب. ألا ترى أنه لو كفر بالصوم قبل الحنث لا يجوز، وقوله: "فليكفر عن يمينه" شامل للكفارة بالمال والصوم، فتحمل كلمة ثم على المجاز ليبقى أمر التكفير موجبا، ولا يقال إن ثم إذا استعير للواو والواو لمطلق العطف فيقتضي الجواز كيف ما كان؛ لأنا نقول: ثم إنما استعير للواو ليكون العمل بالأمر واجبا على موجبه وهو الوجوب، فبسبب هذا المعنى قلنا: لا يجوز قبل الحنث إذ لو جاز لوجب تقرير ثم على الحقيقة إذ لا فائدة في الاستعارة لبقاء الحكم الثابت بالحقيقة بعد الاستعارة. فإن قيل: إن كان في قول الشافعي ترك الحقيقة وهو ترك إجراء الأمر على حقيقته ففي قولكم أيضا ترك الحقيقة، وهو ترك العمل بحقيقة ثم، فمن أين ظهر رجحان قولكم على قوله؟

قلنا: فيما قاله الشافعي ترك الحقيقة في الموضعين وهو ترك العمل بموجب الأمر، وترك العمل بجواز التكفير قبل الحنث حيث أراد بهذا جواز التكفير قبل الحنث ولا يجوز الصوم، وفيما قلنا تحقيق المقصود وهو القول بوجوب الكفارة فيما هو مقتض للوجوب. والأولى فيه أن يقال: إن فيما قاله الشافعي ترك الحقيقة في أمر الشارع وهو فعل بلا خلف، وفيما قلنا ترك الحقيقة في ثم، وهو حرف بخلف وأمر الحرف أسهل من أمر الفعل؛ لما أن الحروف هي الوصلات تنوب بعضها مناب البعض في الأغلب، والاعتبار لقوة الأثر في التعليل، وإنما قلنا هذا أولى؛ لأن على التقرير الأول لزوم الترجيح بكثرة العلل وذلك لا يجوز، والرجحان لا يثبت بكثرة العلل. ألا ترى أن أربعة شهود تعارض الشاهدين في الدعوى ولا يترجح الأكثر على الأقل، والذي يؤيد ما قلنا ما قاله في "المبسوط" في المعنى وهو أن مجرد اليمين ليس بسبب لوجوب الكفارة؛ لأن أدنى حد السبب أن يكون مؤديا إلى الحكم طريقا له، واليمين مانعة من الحنث محرمة له، فكيف تكون موجبة لما يجب بعد الحنث؟ ألا ترى أن الصوم والإحرام لما كان مانعا أي لما كان كل واحد منهما مانعا

مما يجب به الكفارة وهو ارتكاب المحظور لم يكن بنفسه سببا لوجوب الكفارة بخلاف الجرح فإنه طريق مفض إلى زهوق الروح. فعلم بهذا أن الاعتبار في الأسباب للسبب الذي هو مفض إلى حكمه وضعا لا للسبب الذي ينعقد سببا للحكم بعد ارتفاع المانع، ولئن سلمنا أن اليمين سبب فالكفارة إنما تجب خلفا عن البر الواجب باليمين ليصير عند أدائها كأنه تم على بره ولا معتبر بالخلف في حال بقاء الأصل، وقبل الحنث ما هو الأصل باق وهو البر، فلا تكون الكفارة خلفا كما لا يكون التيمم طهارة مع القدرة على الماء. وذكر هذا السؤال والجواب بعبارة أخرى: وقيل: فإن قيل: إذا حملته على واو العطف يلزم المجاز في ثم، ولو عملت بحقيقة ثم يلزم المجاز في الأمر، فيتساوي في ترك الحقيقة والعمل بالمجاز، فلم حملتم ثم على الواو؟ قلنا: لأنا لو حملنا ثم على الواو يحصل منه الإيجاب، ويكون المجاز معمولا من كل وجه، وفيما قاله الخصم تترك الحقيقة ولا يحصل العمل بالمجاز من كل وجه؛ لأن التكفير بالصوم لا يجوز قبل الحنث عنده، فحملناه على هذا المجاز تحقيقا لما هو المقصود وهو إيجاب الكفارة؛ لأن المقصود بالحديث إيجاب الكفارة. (وإذا صح أن يستعار ثم للواو فالفاء به أولى) أي لما جاز استعاره ثم للواو مع بعد ثم عن الواو فلأن تستعار الفاء للواو أولى من استعارة ثم للواو؛

لأن الفاء أقرب إلى الواو بالنسبة إلى ثم، فالقرب والمجاورة من أسباب الاستعارة مع اتحاد كلها في معنى العطف. والدليل على أن جواز الفاء بالواو أقرب من جواز الواو بثم شيئان: أحدهما- أن المشايخ اختلفوا في موجب الفاء كما اختلفوا في موجب الواو لقرب معناهما، ولم يختلفوا في ثم لبعد معناها عن معنى الواو. والثاني- أن الواو لمطلق الجمع، والفاء للوصل والتعقيب، وفي الجمع معنى الوصل موجود. وأما ثم فللتراخي، فالجمع أو الوصل مع التراخي ضدان، فعلم أن جواز الفاء بالواو أقرب من جواز ثم بالواو. (ولهذا قال بعض مشايخنا فيمن قال لامرأته) إلى آخره. هذا لإيضاح استعارة الفاء للواو، فإن الفاء في هذه المسألة بمعنى الواو على قول بعض المشايخ (والمراد به الطحاوي رحمه الله). وقال في "المبسوط": ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق. ذكر الطحاوي أن هذا أيضا على الاختلاف، فإن حرف الفاء للعطف كحرف الواو فتطلق ثلاثا عندهما، والأصح أنها تطلق واحدة عند وجود الشرط- يعني بالاتفاق- لأن الفاء للتعقيب في أصل الوضع لا لعطف مطلق، فإن كل حرف موضوع لمعنى خاص، وإذا كان للتعقيب ففي كلامه تنصيص

على أن الثانية تعقب الأولى، فتبين بالأولى لا إلى عدة بخلاف الواو (إلا أن الحقيقة أولى، فلذلك اخترنا الاتفاق) يعني تطلق واحدة بالاتفاق في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق. (وإذا قدم الجزاء بحرف الفاء فعلى هذا أيضا) أي لا تقع إلى واحدة على الأصح، يعني إذا قال: أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار هو بمنزلة الواو عند الطحاوي. إذا دخلت الدار طلقت ثلاثا كما في التعليق بالواو. [بل] (على سبيل التدارك) أي على سبيل تدارك الغلط بإقامة الثاني مقام الأول، وإظهار أن الأول كان غلطا كما لو قال لامرأته: أنت طالق واحدة بل

ثنتين إنها تطلق ثلاثا أي لو قال لامرأته التي دخل بها، وأما إذا قاله لغير المدخول بها فإنها تطلق واحدة على ما ذكر في الكتاب بعيد هذا. (وقلنا نحن) أي عندنا: يجب ألفان. وقعت ثنتان لما قلنا إشارة إلى قوله: "ويراد بالجملة الثانية كمالها بالأولى، وهذا في الأخبار ممكن" لأن الغلط في الأخبار ممكن.

(ويتصل بهذا أن العطف متى تعارض له شبهان اعتبر أقواهما) أي متى تعارض للعطف معطوف عليهما اثنان. (مثاله: ما قال) محمد- رحمه الله- (في "الجامع) أي في الباب الثامن عشر من أيمان "الجامع الكبير" بقوله: (أنت طالق إن دخلت الدار، لا بل هذه لامرأة أخرى؛ أنه جعل عطفا على الجزاء دون الشرط) حتى إذا دخلت الأولى الدار طلقتا، ولو دخلت الثانية لم تطلق واحدة منهما؛ لأنه تعارض للعطف شبهان: أحدهما- أنت طالق، ومعناه لا بل هذه طالق،

والشبه الآخر- (التاء في قوله: "دخلت") ومعناه لا بل هذه إن دخلت فأنت طالق، وحكمه لو كان كذلك إن دخلت الثانية طلقت الأولى. وقال المصنف- رحمه الله- هذا الذي ذكره محمد- رحمه الله- يحتمل وجوها ثلاثة: أحدها- أن يكون تقديره: لا بل هذه طالق إن دخلت أنت، وهو الذي اختاره محمد- رحمه الله- والثاني- لا يل هذه إن دخلت هذه المرأة الدار فأنت طالق، ولم يحمل على هذا إلا بالنية. والثالث- أنت طالق إن دخلت هذه الدار لا بل هذه المرأة الأخرى. إن دخلت فهي طالق، ولم يحمل على هذا أصلا أي لا بالنية ولا بغيرها. وقال الإمام قاضي خان- رحمه الله- في "شرح الجامع": وإذا جعلنا هذا رجوعا عن الجزاء، والرجوع عن الأول لم يصح، وإقامة الثانية مقام الأولى صحيح، فيتعلق طلاق الثانية بدخول الأولى حسب تعلق طلاقها بدخولها، فإذا دخلت الأولى الدار يقع الطلاق عليهما، وإن نوى به الرجوع عن الشرط صحت نيته لأنه نوى ما يحتمله لفظه، وأيتهما دخلت وقع الطلاق على الأولى قضاء وديانة؛ لأن طلاق الأولى كان متعلقا بدخولها، وهو قصد الرجوع عن دخول الأولى بإقامة دخول الثانية مقام دخول الأولى، فيتعلق

طلاق الأولى بدخول الثانية، والرجوع عن الأول لم يصح، وإقامة الثاني مقام الأول صحيح، فيتعلق طلاق الأولى بدخول الثانية حسب تعلق طلاقها بدخولها، فأيتهما دخلت وقع الطلاق على الأولى وتطلق الثانية أيضا بدخول الأولى؛ لأن كلامه كان رجوعا عن الجزاء ظاهرا، وطلاق الثانية كان متعلقا بدخول الأولى، والرجوع عنه لم يصح، فبقي معلقا كما كان. وقوله: (وذلك قبيح) أي العطف على الضمير المرفوع المتصل الذي هو غير مؤكد بالضمير المرفوع المنفصل كما في قوله تعالى:} اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ {. فإن قلت: كيف حصر جواز العطف على الضمير المتصل المرفوع بما أكد

هو بالضمير المرفوع المنفصل وهو حسن أيضا عند وجود الفاصل، وإن لم يؤكد هو بالضمير المرفوع المنفصل كما في قوله تعالى:} فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ومَن تَابَ مَعَكَ {، وقوله:} ومَن تَابَ {معطوف على الضمير المستكن في} فَاسْتَقِمْ {أي فاستقم أنت وليستقم من تاب، وكذلك قوله تعالى} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وامْرَأَتُهُ {، وقوله} وامْرَأَتُهُ {معطوفة على الضمير المرفوع في} سَيَصْلَى {أي سيصلى هو وامرأته. هكذا صرح فيهما صاحب "الكشاف". قلت: ذلك عند النحويين، وأما عند الفقهاء وبعض أهل التفسير فقوله:} ومَن تَابَ {مرفوع؛ لأنه أدرج وليستقم بدلالة قوله:} فَاسْتَقِمْ {فكان هو حينئذ عطف الجملة على الجملة، ورفعية قوله:} ومَن تَابَ مَعَكَ {بعامل مضمر

كرفعية رجال في قوله تعالى} يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا {على قراءة من قرأ على بناء المفعول لا أن يكون معطوفا على الضمير المتصل المرفوع. وذكر المصنف- رحمه الله- وأما قوله تعالى:} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا {، ولم يؤكده بالضمير المنفصل وهو نحن، واختار اللغة الأخرى، وكتاب الله منزه عما يقبح فإنما حسن ذلك لإعادة حرف النفي، وهو قوله:} ولا آبَاؤُنَا {تقول: ما فعلت كذا ولا فلان فيحسن، وتقول: ما فعلت كذا وفلان فيقبح حتى تقول: أنا وفلان. وحاصله إنا عطفنا ها هنا على الجزاء فقط؛ لأنا إن عطفناه على الشرط كان جائزا لكنه قبيح، فيصار إليه عند تعذر العطف على الجزاء، كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار لا بل فلان. أنه جعل عطفا على الشرط وإن كان قبيحا؛ لأنه تعذر العطف على الجزاء؛ لأن فلانا يستحيل أن يكون طلاقا فيصار إليه وإن لم يكن مستحسنا عند الفقهاء للضرورة، وإنما قبح ذلك؛ لأن الضمير المرفوع لما لم يقم بنفسه وهو التاء في قوله: "دخلت"كان موجودا له شبه العدم، فمن حيث إنه موجود جاز العطف، ومن حيث إن له شبها بالعدم قبح العطف، فإذا تعارضا عطف على ما هو جائز مستحسن، ولم يعطف على ما هو قبيح؛ لأن الجائز المستحسن أقوى من الجائز القبيح إلا إذا مست

الضرورة حينئذ يصار إليه، ولا يلغى لأن إلغاء تصرفه أقبح بخلاف ضمير المفعول، فإن العطف عليه جائز وإن كان متصلا كما في قوله تعالى:} فَأَخَذْنَاهُ وجُنُودَهُ {لما عرف أنه في حكم الانفصال بسبب أنه فضلة في الكلام. وقوله: (وذلك أن الفاعل مع الفعل كشيء واحد) وقد قيل في اتحاد الفاعل مع الفعل عشرة أوجه: وأوردنا أربعة أوجه منها في "الموصل" والأشهر منها مسألة يضربان وضربنا- بسكون الباء- وقد ذكرنا وجههما في "الموصل". (فإذا استويا) أي إذا استويا في حسن العطف بأن يحسن العطف على كل واحد منهما اعتبر أقربهما كما في قوله: (إن لفلان علي ألف درهم إلا عشرة دراهم ودينارا)، فإن لعطف الدينار تعارض الشبهين؛ لأنه يحسن

العطف على عشرة وهو المستثنى، ويحسن العطف على ألف درهم وهو المستثنى منه، فيعطف على عشرة دراهم حتى صارا مستثتيين عن الألف، فيلزم عليه ألف درهم ناقصا بعشرة دراهم وقيمة دينار؛ لأن المستثنى وهو عشرة دراهم أقرب من الدينار إلى الألف، فيترجح بالقرب كما هو الأصل في التعارض. فإن قيل: يجب أن يعطف الدينار على الألف وإن كان أبعد، فإن استثناء الدينار من الدراهم مختلف فيه فيعطف على الألف ليكون استثناء الدراهم من الدراهم. قلنا: لا انفصال عما احترز بهذا الطريق فإنه حينئذ يصير استثناء الدراهم من الدينار وهو أيضا مختلف فيه، وذلك لأنه لو عطف على الألف صار المستثنى منه ألفا ودينارا، فيكون استثناء عشرة من الألف والدينار، وإذا كان كذلك كان عطف الدينار على العشرة أولى لكونها أقرب. وفي "المبسوط" ما يدل على أن هذا التقرير فيما إذا كان المقر له اثنين. أما إذا كان واحدا فالاستثناء من الجنس جواب الاستحسان، وإن كان أبعد فقال: ولو قال لفلان علي ألف درهم ولفلان علي مائة دينار إلا درهما جعل ذلك استثناء من الدينار؛ لأن المستثنى موصول بالإقرار بالدنيانير، وحقيقة الاستثناء ما يكون موصولا بالمستثنى منه، وهذا على أصل أبي حنيفة

وأبي يوسف- رحمهما الله- ظاهر؛ لأن عندهما سواء جعلته مستثنى من الأول أو من الآخر كان الاستثناء صحيحا، فلما استويا تترجح الدنانير لاتصال المستثنى بها، ولو قال: لرجل واحد علي ألف درهم ومائة دينار إلا درهما، في القياس هذا الاستثناء من الدنانير أيضا؛ لأنه متصل بالدينار، ولكنه استحسن فقال: إذا كان المقر له واحدا فالاستثناء من الدراهم؛ لأنا إن جعلنا المستثنى من الدينار صح باعتبار المعنى، وإن جعلناه من الدراهم صح باعتبار الصورة والمعنى، وضرر النقصان في الوجهين يدخل على واحد، فكان جعله من الدراهم أولى.

[لكن] (وأما لكن فقد وضع للاستدراك بعد النفي). الاستدراك: دريافتن جيزي. (فأما نفي الأول فيثبت بدليله) أي بدليل النفي وهو حرف النفي كما في قوله تعالى:} فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمَى {(بخلاف كلمة بل)، فإن موجبيها جميعا- وهما نفي الأول وإثبات الثاني- يثبتان بنفي استعمال كلمة بل. (الاتساق): الانتظام، والمراد من الاتساق ها هنا إمكان التوفيق بين المتنافيين (فإذا اتسق الكلام تعلق النفي بالإثبات الذي وصل به) يعني يثبت النفي والإثبات جميعا كما في قولنا: ما جاءني زيد لكن عمرو، وهذا

الاستدراك إنما يصح أن لو توهم متوهم عدم مجئ عمرو، وعند سماع نفي مجئ زيد لدوام ملازمة كل واحد منهما بالآخر، فأزال ذلك الوهم بهذا الاستدراك، فكان كل واحد من النفي والإثبات في محزه فيصح. وكذلك (لو أقر رجل بعبد هو في يده أنه لفلان)، وقال فلان: ما كان لي قط لكنه لفلان آخر ووصل، فهو للمقر له الثاني)، ولا يكون هذا ردا لإقرار المقر؛ لأن من الجائز أن يكون هذا معروفا بكونه له، ثم وقع في يد المقر بسبب من الأسباب فأقر أنه له، فقوله: "ما كان لي قط" لا يكون تكذيبا له؛ لأن عنده أنه ليس له لكنه لفلان، فالكلام الأول مع الثاني ليس بمتنافيين، فإذا وصل به قوله: "لكنه لفلان" كان بيانا أنه نفي ملكه إلى الثاني بإثبات الملك له بقوله: "لكن" وإن قطع كلامه كان محمولا على نفي ملكه أصلا كما هو الظاهر وهو رد للإقرار، ثم قوله: "ولكن لفلان" شهادة بالملك للثاني على المقر، وبشهادة الفرد لا يثبت الملك.

(وقالوا في المقضي له بدار بالبينة- إلى أن قال- إن الدار للمقر له وعلى المقضي له القيمة). فإن قيل: هذا إنما يستقيم فيما إذا قدم الإقرار، ثم قال: "لم يكن لي قط" فقبلنا في حق البعض دون البعض، أما إذا قال: " ما كانت لي قط ولكنها لفلان" فقد أكذب شهوده أولا، فلا يصح إقراره بعد إكذاب الشهود؛ لأن الإقرار لا يصح إلا في الملك. قلنا: الكلام صدر جملة واحدة فلا يفصل البعض عن البعض في حق الحكم؛ لأن الكلام يتم بآخره؛ لأن أول الكلام يتوقف على آخره إذا كان في آخره ما يغير أوله، وها هنا أيضا النفي معلق بالإثبات، فصار بمنزلة قوله: أنت طالق إن دخلت الدار، وذكر صورة هذه المسألة في "شروح الجامع" بقوله: رجل ادعى دارا في يد رجل أنها داره، والذي في يده يجحد ذلك، فأقام المدعي البينة أنها داره، فقضى القاضي له بها، ثم أقر المقضي له أنها لفلان لا حق لي فيها، وصدقه المقر له، وقال المقضي عليه: إن المقضي له قد أكذب شاهديه فأنا أحق بها، فلا شيء للمقضي عليه وهي للمقر له؛ لأن قوله: "هي لفلان لا حق له فيها" يحتمل أنها صارت له بسبب تمليكها إياه بعد

الحكم بالبيع منه، وإذا احتمل ذلك والأصل في الإقرار القصر على أدنى ما يمكن فلم يبطل القضاء بالشك. فإن قيل: هذا التقرير إنما يصح أن لو احتمل الوقت التمليك. أما إذا لم يكن بين القضاء والإقرار زمان يحتمل التمليك فيه فكيف يمكن التوفيق بين الدعوى لنفسه وبين الإقرار لغيره أنها له بسبب تمليكي إياها له بعد القضاء؟ قلنا: يحمل ذلك على إمكان التوفيق، وإن كان نادرا بأن باعها قبل القضاء وبقي خصما؛ لأنه لم يسلمها إلى المقر له، وبقيت النسبة إليه باعتبار حق الحبس يعني يقول المدعي: إن الدار كانت لي من الأصل وقد كنت بعتها قبل القضاء من المقر له على أني بالخيار ثلاثة أيام حتى بقيت الدار على ملكي في مدة الخيار، فصحت النسبة إلي بهذا الطريق، ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها مني، ثم لما قضى القاضي بالدار انقضت مدة الخيار عقيبه بلا فصل، فأمكن الجمع بين هذا الإقرار والدعوى الأولى والشهادة بهذا الوجه، ولما احتمل هذا لم يبطل الحكم بالشك، ولا شيء للمقضي عليه على أحد لهذا الاحتمال. فإن قال المقضي له: هي دار فلان ولم تكن لي قط أو بدأ، فقال: ما كانت لي قط ولكنها لفلان، فإن صدقه المقر له في ذلك كله فقد تصادقا أن الدعوى والبينة والحكم كل ذلك كان باطلا، فوجب رد الدار على المقضي

عليه، وإن قال المقر له: كانت الدار للمقر ولكنه وهبها لي بعد القضاء وقبضتها وهي لي بالهبة، فإنه يدفع الدار إلى المقر له ويضمن المقر قيمة الدار للمقضي عليه؛ لأنه أقر ببطلان القضاء، وإنه يبطل الإقرار، والإقرار حق عليه، والقضاء حق له، فإذا كذبه المقر له أي في قوله: "لم يكن لي قط" بطل ما له دون ما عليه، وإذا لم يبطل إقراره بقي الدار للمقر له ويضمن قيمة الدار للمقضي عليه؛ لأنه لما أقر ببطلان القضاء قد أقر على نفسه بوجوب رد الدار على المقضي عليه، وبالإقرار للغير صار متلفا للدار، والدار تضمن بالإتلاف عند الكل كما تضمن بالشهادة الباطلة. وهذا الجواب ظاهر فيما إذا بدأ بالإقرار وثني بالنفي، وإن بدأ بالنفي وثني بالإقرار، فكذلك الجواب وينبغي أن لا يصح إقراره ويرد الدار على المقضي عليه؛ لأنه لما قال: "ما كانت لي قط" بطل القضاء، فإذا قال:"ولكنها لفلان" فقد أقر بعد بطلان القضاء ووجوب الرد على المقضي عليه فلا يصح إقراره، إلا أنا نقول: بأن الإقرار وإن كان مؤخرا فهو مقدم؛ لأنه قصد صحة الإقرار، ولا صحة له إلا بالتقديم، والكلام يحتمل التقديم والتأخير دون الإلغاء، ويقدم بشرط أن يكون موصولا ويضمن قيمة الدار للمقضي عليه. (إلا أنه بالإسناد صار شاهدا على المقر له) أي إلا أن المقضي له بإسناد

الملك لنفسه بالنفي بقوله: "ما كانت لي قط" صار شاهدا على المقر له لما ذكرنا أن قوله: "ما كانت لي قط" يتضمن بطلان الإقرار؛ لأنه يتضمن بطلان القضاء للتناقض، وإقراره للمقر له إنما يصح على تقدير بقاء الملك له ببقاء القضاء له، فلما تضمن هذا بطلان القضاء له وبطلان الملك لنفسه لزم منه بطلان الإقرار له، وهو ضرر للمقر له، فلذلك كان بقوله: " ما كانت لي قط شاهدا" على المقر له، ومعنى قوله: إلا أنه بالإسناد صار شاهدا للمقر له هو أنه لما قال: "لكنها لفلان" أقر ببطلان القضاء أيضا للتناقض بدعواه لنفسه، ثم إقراره بها للغير وفي بطلان القضاء بطلان الإقرار له فكان شاهدا على المقر له إلا أن أول الكلام يتوقف على آخره، فصار هذا تمليكا مطلقا للمقر له بقوله: "لكنها لفلان" ونفيه الملك عن نفسه أولا لم يعمل في إبطال الإقرار لما ذكرنا أن النفي يؤخر والإقرار بها له يقدم؛ لأن مقصوده من ذلك صحة الإقرار للمقر له فيصح. (وجعل لكن مبتدأ) وإنما تعرض بقوله: "لكن" لأن كون قوله: "لا أجيز النكاح" للفسخ إنما نشأ من ذكر قوله: "لكن"عقيبه. إلى هذا أشار في "شروح الجامع". ألا ترى أنه لو قال: لا أجيز النكاح إلا بزيادة الخمسين أو حتى تزيدني خمسين درهما لا ينفسخ العقد بل يتوقف؛ لأن قوله: لا أجيز إلا بزيادة" استثناء بعد النفي فيكون إجازة لشرط الزيادة، ويصير قوله: "لا أجيز" عبارة عن الكف عن الإجازة لا عن الفسخ؛ لأن الكف عن الإجازة هو الذي

يحتمل الاستثناء وهو الذي يحتمل الغاية أيضا في قوله: "حتى تزيدني فأما الفسخ فلا يحتمل الاستثناء ولا الغاية، فإذا كان كذلك لم يصر إجازة ولا فسخا. وأما في قوله: "لا أجيز النكاح ولكن أجيزه بمئة وخمسين" فيبطل النكاح رضي الزوج بالزيادة أو لم يرض؛ لأن قوله: "لا أجيز" مطلقه للفسخ؛ لأن النفي حصل مطلقا إلا أن يدخل عليه ما يدل على أن المراد به الإمساك عن الإجازة لا الفسخ، وهذا لأن قوله: "ولكن أجيزه بمئة وخمسين" كلام مبتدأ مستقل بنفسه بخلاف الاستثناء والشرط. قال الله تعالى:} ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا {فرق بين هذا وبين ما لو قال لغيره: لك علي ألف درهم من ثمن بيع ولكن من قرض أو غصب لزم المقر ألف درهم، ولو جعل ابتداء كلام غير موصول بالأول لا يلزمه، كما لو قال المقر له: ليست من ثمن بيع وسكت، ثم قال بعد ذلك: ولكن من قرض أو غصب لا يلزمه شيء. ووجه الفرق بينهما أن قوله: "ليست من ثمن بيع نفي للجهة والسبب، فانتفى السبب وبقي الوجوب على حاله حتى لو نفي أصل الوجوب بأن قال: "ليس لي عليك شيء" ثم قال: "ولكن من غصب أو قرض" لا يلزمه شيء.

أما قوله: "هلا أجيز النكاح" رد للنكاح فيبطل النكاح، حتى لو قال: "لا أجيز النكاح بمئة ولكن أجيزه بمئة وخمسين" لا يبطل النكاح. وقوله: (الكلام متسق) أي كلام المقر له مع كلم المقر متوافقان لا متنافيان؛ لأنهما توافقا في أصل الواجب وإن اختلف في السبب. وقال شمس الأئمة- رحمه الله- ولو قال: لفلان علي ألف درهم قرض، فقال فلان: لا ولكنه غصب فإنه يلزمه المال؛ لأن الكلام متسق فيتبين آخره أنه نفي للسبب لا أصل المال، وأنه قد صدقه في الإقرار بأصل المال ولا تفاوت في الحكم بين السببين، والأسباب مطلوبة للأحكام فعند انعدام التفاوت يتم تصديقه له فيما أقر به فيلزمه المال. ] أو [ (وأما أو فإنها تدخل بين اسمين) كقوله تعالى:} فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن {(أو فعلين) كقوله تعالى:} ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن

دِيَارِكُم}. (ولم يوضع للشك، وليس الشك بأمر مقصود يقصد بالكلام وضعا). في هذا نفي لقول الإمام القاضي أبي زيد- رحمه الله- فإنه يجعلها للشك، وكذلك أهل النحو يجعلونها للشك، فقال: ليس كذلك؛ لأن الشك إنما يجئ لأمر عارض وهو ليس بمقصود من الكلام حتى يوضع له لفظ؛ لأن وضع الألفاظ للإفهام في الأصل، وبالشك يختل الإفهام فل يجوز أن يكون للاختلال الذي يجئ من الشك لفظ موضوع وإنما جاء الشك من قبل محل الكلام وهو الخبر، فإنها إذا استعملت في الخبر تناولت أحد

المخبر بهما وذلك غير عين فأفضى إلى الشك وهذا هو الصحيح؛ لأن الخبر دليل على ثبوت المخبر ولا يثبت لمخبر به بالخبر لما عرف أن الخبر لفظ دل على أمر كان أو سيكون غير مضاف كينونته إلى الخبر، فإذا تساوى الدليلان على التعارض من غير رجحان لأحدهما على الآخر جاء الشك، فعلم أن الشك إنما جاء من محل الكلام لا من نفس كلمة "أو"، ولهذا إذا استعملت في الإنشاء لا تحتمل الشك وهي حقيقة فيه لا مجاز. (ولو استعملت في الابتداء) كما في قوله: إيت زيدا أو عمرا، (والإنشاء) كقول الرجل: هذا حر أو هذا، فعلى هذا كان ما ذكره بعدها نظيرا لهما على طريق اللف والنشر. (حتى جعل البيان إنشاء من وجه وإظهارا من وجه) أي جعل تعيين العتق المبهم في أحدهما إنشاء من وجه وإظهارا من وجه، وكذلك في الطلاق، حتى لو قال لعبديه: هذا حر أو هذا، فمات أحدهما فقال المولى:

كنت أردت بذلك الميت لا يصدق ويعتق الحي عملا بجهة الإنشاء؛ لأن قيام المحل بالحياة شرط إنشاء من كل وجه لما أجبر، وكذلك لو كان هذا في الطلاق المبهم بين المرأتين لو ماتت إحداهما قبل التعيين طلقت الباقية؛ لأنه إنما كان لا يتعين قبل الموت في إحداهما لمزاحمة الأخرى معها وقد زالت بالموت، فإذا خرجت إحداهما من أن تكون محلا للطلاق تعينت الأخرى، وإن قال: عينت الميتة حين تكلمت صدق في حق نفسه حتى بطل ميراثه عنها ولا يصدق في إبطال الطلاق على الحية؛ لأن الطلاق يعين فيها شرع فلا يملك صرف الطلاق عنها بقوله، وكذلك لو كانت تحته حرة وأمه فقال في مرض موته: هذه طالق ثنتين أو هذه، ثم أعتق المولى الأمة فقال الزوج: أردت بذلك الأمة؛ تحرم عليه الأمة حرمة غليظة عملا بكونه بيانا، وجعل الزوج فارا وترث المرأة التي كانت أمة عملا بكونها إنشاء. (ويبيع أيهما شاء) يعني لا يشترط اجتماعهما على البيع بخلاف ما لو قال: وفلانا حيث يشترط هناك اجتماعهما؛ لأن "أو" في موضع الابتداء

تخيير، فينظر إن كان هو منفردا بذلك الفعل فالاختيار له، وإن كان تمام ذلك الفعل موقوفا على الآخر كان الآخر كالتوكيل المبهم؛ لأن تمام ذلك الفعل بالاختيار، فيكون الاختيار لمن إليه تمام الفعل، والوكالة لا تتم إلا بالقبول، والتوكيل صح استحسانا. قال في وكالة "المبسوط": وإذا كان لرجل عدل زطي فقال لرجلين: أيكما باعه فهو جائز، وكذلك لو قال: وكلت هذا أو هذا ببيعه فباعه أحدهما في القياس لا يجوز لجهالة من وكله ببيعه وفي الاستحسان يجوز؛ لأن هذه جهالة مستدركة فتحملت فيما هو مبني على التوسع، ثم قال: قد نص على القياس والاستحسان ها هنا ولم ينص في توكيل الواحد ببيع أحد العبدين حتى تكلف بعضهم للفرق فقال: الجهالة فيما تناولته الوكالة بالبيع دون الجهالة فيمن هو وكيل بالبيع لما بينا في الإقرار أن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وجهة المقر له تمنع من ذلك، ولكن الأصح أن القياس والاستحسان في الفصلين، والتخيير لا يمنع الامتثال كما في كفارة اليمين. (إلا أن يكون من له الخيار معلوما) أي خيار التعيين (في اثنين أو ثلاثة فيصح استحسانا). وقال في "الأسرار": إذا اشترى ثوبين بعشرة على أنه بالخيار يأخذ أيهما

شاء ويرد الآخر، وكذلك أحد الأثواب الثلاثة، فهذا الشرط جائز استحسانا عندنا، وعند زفر لا يجوز قياسا، كما لو اشترى أحد الأثواب الأربعة على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر. ووجه الاستحسان أن فساد البيع بالجهالة مثل الفساد بالشرط، فلما احتملت الجهالة الشرط في مدة الثلاث نفيا للغبن فلأن تحتمل الجهالة من الثلاث نفيا للغبن أولى، فوجه الأولوية باعتبار أن الأعيان الثلاثة تحتمل الأوصاف الثلاثة، وهي: الجيد، والوسط، والردئ بخلاف الأيام، ثم هناك لم يتحمل أكثر من ثلاثة أيام فكذا ها هنا (لكنه يوجب خطرا)؛ لأنه يحتمل أن يختار هذا فيكون هو المبيع ويحتمل أن يختار ذلك فيكون هو المبيع، فهذا يشبه القمار، وشبهة الحرمة ملحقة بحقيقة الحرمة، فالقياس أن لا يجوز لما ذكرنا من شبهه بالقمار إلا أنه صح في الثلاث استحسانا بدلالة

النص وهي أن النبي عليه السلام شرع شرط الخيار، بخلاف القياس ونبهنا على العلة وهي دفع الغبن والخسران، فكأنه قال للمشتري: لك ولاية دفع الغبن وهذا في معناه؛ لأن دفع الغبن كما يحصل بالتأمل في عين واحد يحصل باختيار عين واحد من الأعيان، بل ها هنا أقوى فكان في معناه، وإنما قلنا في الثلاث دون ما فوقه؛ لأن الأعيان لا تخلو عن جيد ووسط وردئ، فاندفعت الحاجة بالثلاثة فيبقى ما وراءها على قضية القياس. (لزمه الأقل) أي عينا؛ لأنه لا فائدة في التخيير بين القليل والكثير في الجنس الواحد بل يثبت الأقل لكونه متعينا في اليسر، والتخيير لليسر. (وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه- يصار إلى مهر المثل) أي يحكم مهر المثل في الوجوه كلها حتى أنه لو تزوجها على ألف حالة أو ألفين إلى سنة فعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- ينظر على مهر مثلها، فإن كان ألفين أو أكثر فالخيار لها عن شاءت أخذت الألفين إلى سنة وإن شاءت أخذت الألف حالا، وإن

كان مهر مثلها أقل فالخيار إليه إن شاء أعطاها الألف الحالة وإن شاء أعطاها الألفين إلى سنة؛ لأن كل واحد من المالين أنقص من صاحبه من وجه وأزيد من وجه، وإن كان مهر مثلها فيما بين ذلك فلها مهر مثلها وعندهما الخيار للزوج لتشككنا في وجود الأكثر إلا أن يرضى هو بالأكثر، فإن طلقها قبل الدخول فلها نصف ما يختار الزوج بالإجماع؛ لأنه الأقل. كذا ذكره الإمام التمرتاشي- رحمه الله- وقال في "المبسوط" وغن تزوجها على ألف درهم أو ألفي درهم فعلى قول أبي حنيفة- رحمه الله- يحكم مهر المثل، فإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل فلها الأقل، وإن كان ألفين أو أكثر فلها ألفان، وإن كان أكثر من ألف وأقل

من ألفين فلها مهر مثلها، وعند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- لها الألف في الوجوه كلها، (يتعين باختياره من طريق الفعل). قيد به لئلا يظن تعيينه بالاختيار من طريق القول، فإنه لو عين أحد الأشياء الثلاثة بالقول لا يتعين، بل يتعين في ضمن الفعل كما في أجزاء وقت الصلاة للصلاة، حيث يتعين الجزء الواحد من الأجزاء سببا للصلاة من حيث الفعل لا من حيث القول، ثم إذا تعين أحد هذه الأشياء الثلاثة بالفعل لا يبقى غيره محتملا للواجب ولكن يبقى مباحا، فأوجب التخيير على احتمال الإباحة حتى إذا فعل الكل جاز. فإن قيل: إذا فعل الكل بأن وكل بكل نوع إنسانا ففعلوه معا ينبغي أن لا يجوز؛ لأنه لم يثبت التخيير فلم تثبت الإباحة؛ لأن الإباحة تثبت في ضمن التخيير. قلنا: قد أثبت الله تعالى التخيير بقوله:} إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ {الآية، فتثبت الإباحة في ضمنه فيبقى ما لم يقم الدليل المزيل. بخلاف ما لو قال: بع هذا أو هذا، فإن هناك ثبوت الاختيار بدون الإباحة على ما يجئ لقيام الدليل على عدم الإباحة فيهما جميعا؛ لأنه لا يرضي ببيع كليهما.

(فأما أن يكون الكل واجبا فلا) أي هذه الأنواع الثلاثة جائزة إذا فعلها، ولكن الواجب أحدها بخلاف ما زعم بعض الفقهاء إن الكل واجب؛ لأن كل واحد منها يحتمل أن يكون واجبا على سبيل البدل، فإذا فعل الكل وليس أحدها بأولى مما سواه فيقع الكل واجبا. (وكذلك قولنا في كفارة الحلق) هو قوله تعالى:} فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ {وجزاء الصيد وهو قوله تعالى:} فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ {. فأما قوله تعالى} إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ {(فقد جعله بعض الفقهاء للتخيير)، وهو مالك عملا بحقيقة كلمة (أو) فإنها للتخيير، وقد ورد بيانه على هذا المثال بالسنة في حديث جبريل عليه السلام.

وهي ما روى محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس- رضي الله عنهم- أنه قال: "وادع رسول الله عليه السلام أبا بردة- هلال بن عويمر الأسلمي- فجاءه أناس يريدون الإسلام

فقطع عليهم أصحاب أبي بردة الطريق، فنزل جبريل على رسول الله عليهما السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال صلب، ومن قتل ولم يأخذ المال قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه في الشرك- وفي رواية عطية عنه: ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي". وفي هذا الخبر دليل على أن "أو" ليست للتخيير إنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجناية كما يقال لمن يسأل عن حدود الكبائر هي: الجلد، أو الرجم، أو القطع لا يراد به التخيير. ذكر إمام الهدى- رحمه الله- في هذه الآية: إن الأصل فيه أن كلمة "أو"

متى ذكرت بين الأجزية المختلفة الأسباب يراد بها الترتيب كما في هذه الآية، وإلا فهي للتخيير كما في قوله تعالى:} فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ {الآية. وقوله: (فاستغنى عن بيانها) أي عن بيان أنواع المحاربة، فصارت أنواع الجزاء مقابلة بأنواع المحاربة؛ لأن جزاء الشيء يقابل سببه، كما يقال: الرجم يقابل زنا المحصن، والجلد يقابل زنا غير المحصن، وجناية المحاربة معلومة وهي مختلفة، فتنقسم الأجزية على حسب أنواع الجناية وهو معنى قوله: (فأوجبت التفصيل والتقسيم على حسب أحوال الجناية) لما أن الجزاء يناسب الجناية، فيقابل الخفيف الخفيف، والغليظ الغليظ إذ الغليظ في

مقابلة الخفيف والخفيف في مقابلة الغليظ لايحسن ولا يناسب. (ثم قتله أو صلبه) أي مع القطع؛ لأن الجناية تحتمل الاتحاد يقال: قطع الطريق والتعدد وهو أخذ المال وقتل النفس، فإن كل واحد منهما على الانفراد يوجب الجزاء، فإذا اجتمعا كان موجبهما أيضا يتعدد، فكان متعددا بنفسه متحدا بأثره وهو قطع الطريق وانقطاع المارة، والشيء قد يعلم بأثره كما يعلم بمؤثره، وكذلك من الجائز أن المقصود هو القتل بأن كان القطاع مواترين للمارة، وأخذ المال وقع تبعا لا قصدا، ومن الجائز أن أخذ المال هو الأصل وقتل النفس وقع تبع حتى لا يقوم أحد من يطلبهم، فلذلك خير أبو حنيفة- رحمه الله- الإمام بين إقامة حد أخذ المال والقتل عملا بالتعدد، وبين إقامة حد القتل عملا بالاتحاد. وقوله: (ولهذا قال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- فيمن قال لعبده) يتعلق بكلام قبل هذا بورق وهو قوله: فإن استعملت في الخبر تناولت

أحدهما غير عين إلى أن قال هذا حر أو هذا، ولهذا ذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- هذه المسألة متصلا بذلك الأصل المذكور بتلك المسألة. (وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه- نعم هو كذلك، لكن على احتمال التعيين) يعني أن أصل هذا الإيجاب يتناول أحدهما بغير عينه على احتمال التعيين. ألا ترى أنهما لو كانا عبدين تناول أحدهما على احتمال التعيين إما ببيانه أو بانعدام المزاحمة بموت أحدهما، فيصح الإيجاب هنا باعتبار هذا المجاز كما هو أصل أبي حنيفة- رحمه الله- في العمل بالمجاز، وإن تعذر العمل بالحقيقة لعدم صلاحية المحل له، يعني لما كان هذا الإيجاب صالحا لإثبات العتق في حقيقة هذا الكلام في حق العبدين كان صالحا أيضا لإثبات العتق في محل المجاز أيضا، وهذا هو المحل بجامع وجود العينين الذي كان هو محلا صالحا

لدخول كلمة "أو" وله مجاز متعين وهو إيجاب العتق. غير أن هذا الإيجاب في محل الحقيقة يوجب العتق المبهم، وفي محل المجاز يوجب العتق المعين، فكان منزلة موت أحد العبدين قبل البيان في محل الحقيقة. (فتصير شبيها بواو العطف لا عينه)، فشبهه بواو العطف من حيث إنهما متعينان كما في واو العطف وليس هو بعينه من حيث إن كل واحد منهما مراد بالنفي خلاف الواو. (حتى إذا كلم أحدهما يحنث) بخلاف واو العطف، (ولو كلمهما لا يحنث إلا مرة واحدة)؛ لأنه لما حنث بكلام أحدهما لم تبق اليمين فلم يحنث إلا مرة واحدة ولا خيار له في ذلك، ولو كان على حقيقة لكان له الخيار، وهذا لأنه لما كان كلاهما مرادا لم يبق له الخيار، وثبوت الخيار إنما يلزم من كون أحدهما مرادا وليس كذلك (حتى لو استعمل هذا في الإيلاء) بأن قال: والله لا أقرب هذه أو هذه (بانتا جميعا) كما في واو العطف. فلذلك صار عاما أي لما وقعت النكرة في موضع النفي صار عاماً ولا

يمكن إثبات التعميم إلا أن يجعل بمعنى واو العطف؛ لأن الإباحة دليل العموم؛ لأن الإباحة رفع القيد، وعند ارتفاع لقيد تثبت الإباحة على سبيل العموم، فاعتبر هذا برفع القيد الحسي، وكذلك في الشرعيات إذا حلف لا يخرج من داره إلا إلى جنازة فخرج إلى جنازة وفعل أفعالا أخر لم يحنث؛ لأنه موضع الإباحة، وكذلك إذا أذن لعبده في نوع من الأنواع يصير مأذونا في الأنواع كلها لما أنه في موضع الإباحة؛ لأن العبد كان ممنوعا عن التصرفات فيكون الإذن فك الحجر، وبالفك تثبت الإباحة، (وفرق ما بين الإباحة والتخيير) أن الجمع بين الأمرين في التخيير يجعل المأمور مخالفا وفي الإباحة موافقا؛ لأنه إذ جمع بينهما في التخيير يقع الامتثال في أحدهما

ولا يقع في الآخر، وفي الإباحة يقع الامتثال بهما؛ لأن موضع الإباحة موضع التعميم على ما ذكرنا. (وإنما تعرف الإباحة من التخيير بحال تدل عليه) وهي: أن تكون هذا بعد سبق الخطر قبله كما في قوله: (لا يكلم أحدا إلا فلانا أو فلانا/ فإن له أن يكلمهما جميعا)، أو أن يعرف الصفة المرغوبة في كل واحد منهما فكان له رضا في الجمع بينهما كما في قوله: جالس الفقهاء أو المحدثين، أو استعملها في موضع إظهار السماحة والجود كما في قوله: خذ من مالي هذا أو هذا، وهذه دلالات الإباحة وإلا فهي للتخيير، ولا فرق بينهما من حيث الصيغة في نفسها إذ في كل منهما استعمال كلمة "أو" بين الشيئين عند إصدار صيغة الأمر من المتكلم. (قد برئ فلان من كل حق لي قبله إلا دراهم أو دنانير أن له أن يدعي المالين جميعا)؛ لأن صدر الكلام للتحريم معنى؛ لأنه يحرم على نفسه الدعوى فكان الاستثناء في موضع الإباحة.

(وقال محمد- رحمه الله- بكل قليل أو كثير على معنى الإباحة) يعني لو باع الدار لا يدخل الطريق والشرب في البيع، ولو قال بكل قليل أو كثير يدخل على معنى الإباحة، ومعنى الإباحة فيه أن المشتري كان ممنوعا عن الانتفاع بالطريق والشرب. قيل: قوله: "بكل قليل أو كثير" فكان هذا بعد الحظر فكان موضع إباحة، ولكن فيه نوع إشكال وهو أنه لو ثبت الملك للمشتري في الطريق والشرب بطريق الإباحة لأمكن البائع من الرجوع فيهما ومع ذلك لا يمكن. والجواب عنه: إن الملك هنا للمشتري وإن كان ثابتا في موضع الإباحة لكن ثبت ذلك في ضمن عقد لازم وهو البيع فأعطي له حكم المتضمن في اللزوم فلم يملك البائع الرجوع فيهما لذلك. وقوله: (أوجبت التخيير. مثل قول الرجل: والله لأدخلن هذه الدار أو لأدخلن هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار أن له الخيار). اعلم أن في هذه المسألة نوع تخليط فلا بد من حفظه، فإن قوله: "إن له

الخيار راجع إلى المسألة الأولى دون الثانية قطعا وبتاتا بدليل روايات الكتب المعتمد عليها. منها: ما ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- في "أصول الفقه" على وفق ما ذكرته حيث قال: وعلى هذا قال في "الجامع": لو قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار، فأي الدارين دخل بر في يمينه لأنه ذكر الكلمة في موضع الإثبات فتقتضي التخيير في شرط البر، ولو قال: لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار، فأي الدارين دخل حنث في يمينه؛ لأنه ذكرها في موضع النفي فكانت بمعنى ولا، وهكذا أيضا في "شروح الجامع الكبير" في الباب الآخر من أيمانه. وقال المصنف- رحمه الله- في "شرح الجامع الكبير": رجل قال: والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه الدار، فأيهما دخل حنث؛ لأنه التزم أحد الأمرين، فلو لم يحنث بأحدهما لصارت اليمين واقعة عليهم جميعا معا وذلك باطل. ألا ترى أنه لو عطف بالواو مع إعادة حرف النفي لكان الجواب ما قلنا، فكان هذا أولى. والفصل الثاني: ولله لأدخلن هذه الدار اليوم، أو لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار، فأيهما دخل بر، وإن مضى اليوم قبل أن يدخلهما حنث؛ لأنه التزم دخول إحداهما، فلو لم يبر بدخول إحداهما

لصار ملتزما دخولهما وليس كذلك، وهكذا أيضا في غيره من "شروح الجامع الكبير" ثم لا يمكن أن يقال: إن معناه أن له الخيار أي في المسألة الثانية أيضا بأن يكون مختارا بين الدخول في إحدى هاتين الدارين مع الحنث؛ لأنه لا يطلق في مثله اسم الخير. ألا ترى أنه كيف نفى الخيار قبل هذا في الكتاب في مثل ذلك في قوله في رجل قال: "والله لا أكلم فلانا أو فلانا- إلى قوله- ولا خيار له في ذلك"، ثم يحتمل أن تكون فائدة إعادة ذكر هذه المسألة الثانية مع ذكر نظيرها قبلها هي إعلام أنه لا يتفاوت ذكر كلمة "أو" في موضع النفي بين أن يكون هي في اسمين كما في المسألة الأولى أو بين فعلين كما في هذه المسألة، ففي كل منهما يقتضي التعميم. (ولها وجه آخر ها هنا) أي في الأفعال. (ويحتمل ضرب الغاية) أي ويحتمل صدر الكلام ضرب الغاية لكونه التحريم للفعل. وهو} يَتُوبَ {على الاسم وهو {شَيْء}.

(وللمستقبل) وهو} يَتُوبَ {(على الماضي) وهو} لَيْسَ {يعني لو كان قوله:} أَوْ يَتُوبَ {معطوفا على ما قبله لكان لا يخلو إما إن كان معطوفا على} شَيْءٌ {أو معطوفا على} لَيْسَ {، وليس كل واحد منهما صالحا لكونه معطوفا عليه له لما ذكر، فلذلك سقطت ها هنا حقيقة العطف من "أو" فكان أو ها هنا على هذا التقدير بمعنى "إلا أن" على معنى} لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ {فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم. كذا في "الكشاف" جعل هذا الوجه آخر الوجوه، وذكر فيه قبل هذا إنه معطوف على ما قبله وهو قوله:} لِيَقْطَعَ طَرَفًا {وقوله:} لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ {اعتراض، والمعنى إن الله مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر، وليس لك من أمرهم شيء. وقيل: إن} يَتُوبَ {منصوب بإضمار أن، وإن} يَتُوبَ {في حكم اسم معطوف ب} أو {على الأمر، أو على} شَيْءٌ {أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم إلى آخره. (واستعير) أي حرف "أو" استعير (لما يحتمله) وهو يحتمل الامتداد أي والتحريم يحتمل الامتداد ويكون الامتداد في غير التحريم أيضا كما في قولك:

لألزمنك أو تعطيني حقي،، وعلى هذا قراءة من قرأ:} تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ {بالنصب كما في قول الشاعر. لا أستطيع نزوعا عن مؤدتكم ... أو يصنع البين غير الذي صنعا أي حتى يصنع. وعلى هذا كان قوله: أو أدخل هذه الدار الأخرى بالنصب في قوله: والله لا أدخل هذه الدار، (أو أدخل هذه الدار الأخرى)، والله أعلم.

باب حتى (لا يسقط ذلك عنه) أي لا يسقط معنى الغاية عن هذا الحرف إلا مجازا ليكون الحرف موضوعا لمعنى يخصه أي يخص الحرف ذلك المعنى حتى ينتفي الاشتراك، أو المعنى يخص ذلك الحرف لينتفي الترادف، هذا هو الأصل، وقوله: "إلا مجازا" يعني أينما وجد هذا الحرف وجد فيه معنى الغاية إلا إذا استعمل هذا الحرف بمعنى حرف آخر مجازا، حينئذ يسقط عنه معنى الغاية كما في قوله: عبده حر إن لم آتك حتى أتغد عندك، كان هذا هنا للعطف المحض. (فعلمنا أنها وضعت له) أي إن كلمة (حتى) وضعت لمعنى الغاية،

فأصلها كمال معنى الغاية وخلوصها لذلك بمعنى إلى، ولكن الفرق بينهما من وجوه: أحدها- وهو أيسرها مأخذا- أن كلمة (حتى) تدخل في الغاية الوضعية لا في الجعلية، ونعني بالوضعية أن ينتهي بها الغيا أو ينتهي عندها، وعن هذا لا يقال: نمت البارحة حتى نصف الليل؛ لأن الليل لا ينتهي به ولا عنده، وكلمة إلى تدخل فيهما جميع كقوله تعالى:} ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ {وقوله:} وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ {فالأيدي لا تنتهي بالمرافق ولا عندها، وكذا صح فيها أن يقال: نمت البارحة إلى نصف الليل، وباقي الفروق مذكور في "الموصل" بعبارة تليق به. وتقول: (أكلت السمكة حتى رأسها أو إلى رأسها، فإنه بقي)، اعلم أن المصنف- رحمه الله- بهذا التفسير بين خلوص معنى الغاية في حتى؛ لأن كلمة إلى خاصة في الغاية لا كلام فيها، فإنها لو ذكرت في هذا المقام بأن قيل: أكلت السمكة إلى رأسها كان معناها هكذا، وهو أن يقال: إن رأسها بقي، فلما جاءت حتى هاهنا في معنى إلى في حق بقاء الرأس علم أن حتى جاءت للغاية الخالصة، فإن حتى لو لم تكن خالصة للغاية ها هنا لجاءت على ما يقوله

أهل النحو، وهو: أن يدخل ما بعدها فيما قبلها، وبه تفارق كلمة إلى أيضا هو فرق آخر بينهما على ما ذكر في كتب النحو بقوله: ومن حق حتى ن تدخل ما بعدها فيما قبلها. ففي مسألتي السمكة والبارحة قد أكل الرأس. ونيم الصباح، بخلاف كلمة إلى. (وهذا على مثال سائر الحقائق) أي الكمال هو الأصل في سائر الحقائق فكذا هنا، فعلى هذا الطريق جعل ها هنا ورود حتى لخلوص معنى الغاية حقيقتها الأصلية، ولكن الاستعمال فيها على وفق ما ذكر في كتب النحو وهو: أن يدخل ما بعدها فيما قبلها. (ثم قد يستعمل للعطف لما بين الغاية والعطف من المناسبة) لما فيهما من التعاقب، فإن المعطوف يعقب المعطوف عليه ويجتمع معه، فكذلك الغاية تذكر بعد لمغيا وتجتمعان، فاستعيرت للعطف.

لهذا (جاءني القوم حتى زيد) فيه معنى العطف؛ لأن زيدا جائي فكان للعطف من هذا الوجه، ومن حيث إن مجئ القوم ينتهي بمجيئه فيه معنى الغاية، وذلك إنما يكون إذا كان (زيد أفضلهم) لا يتوقع مجيئه عادة، فينتهي مجئ القوم بمجيئه، (أو أرذلهم)؛ لأن في العادة إنما يعتبر مجئ الأكابر لا الأراذل، فلما أراد ذكر تعميم مجئ القوم ذكر بهذا الطريق ليعلم به مجئ جميعهم، فكان مجئ الأراذل غاية لانقطاع مجئ القوم. ألا ترى إلى وصل (قولهم: استنت الفصال حتى القرعى) بهذا القول علم بهذا أنه أراد به الأرذل وهذا مثل يضرب لمن يتكلم مع من لا ينبغي أن يتكلم بين يديه لجلالة قدره. يقال: استن الفرس إذا رفع يديه ويطرحهما معا ويضرب برجليه كذلك في العدو، والقريع: الفصيل الذي به قرع- بالتحريك- هو بثر أبيض يخرج بالفصال ودواؤه الملح، فإذا لم يجدوا

ملحاً نتفوا أوباره ونضحوا جلده بالماء ثم جروه على السبخة وجمعه القرعى كمريض ومرضى، ثم ها هنا الاستنان أي العدو لا يتوقع من القريع لضعفه لما اتصل به من القرع، فينتهي استنان سائر الفصال باستنانها. وحاصله أن في حتى لم يكن بد من اعتبار معنى الغاية إما في الأعلى أو في الأدنى، وهو معنى ما ذكر في "المفصل" بقوله: وحتى للغاية والدلالة على أحد طرفي الشيء.

(فكانت حقيقة قاصرة)؛ لأن كمال الغاية هو أن لا تدخل الغاية تحت المغيا على ما أشار إليه قبل هذا بقوله: فأصلها كمال معنى الغاية فيها وخلوصها لذلك بمعنى إلى. وهناك لم تدخل الغاية تحت المغيا، ولما دخلت الغاية هنا تحت المغيا باعتبار وجود معنى العطف فيها حتى دخل زيد تحت الجائين في قوله: جاءني القوم حتى زيد مع وجود معنى الغاية كانت الغاية فيها قاصرة بالنسبة إلى ما ذكر قبله من كمال معنى الغاية فيها، تقول: (ضربت القوم حتى زيد غضبان) يعني ضربت القوم حتى صار زيد غضبان، فصار غضب زيد غاية الضرب. (ومواضعها في الأفعال أن يجعل غاية بمعنى إلى) كقوله تعالى:} حَتَّى تَغْتَسِلُوا {. (أو غاية هي جملة مبتدأة) كقول الله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُول}

في قراءة من قرأ بالرفع. (وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد) كقوله تعالى:} فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ {(وأن يصلح الآخر دليلا على الانتهاء)؛ لأن الغاية هي التي ينتهي إليها الشيء، فلا بد من الامتداد في الأول والانتهاء في الآخر. (فإن لم يستقم فللمجازاة) وعدم الاستقامة، إما بعدمهما أو عدم أحدهما، فيحمل على المجازاة إذا كان صدر الكلام سببا لما بعده وما بعده يصلح حكما له، فحينئذ يحمل على المجازاة؛ لأن جزاء السبب غاية لسببه، فيكون المجازاة مع قيام معنى الغاية نظير قسم العطف من الأسماء كما قلنا: جاءني القوم حتى زيد، وأكلت السمكة حتى رأسها أنه للعطف مع قيام معنى الغاية، فكذلك ها هنا إنه للمجازاة مع معنى الغاية.

قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ {وما قبله:} قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ {إلى قوله:} حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ {فالمقاتلة ها هنا تصلح دليلا للامتداد؛ لأنه يقال: قتل شهرا وقاتل سنة، والآخر يصلح للانتهاء؛ لأن نفس الكفر غير مبيح للقتل إذا لم يكن من أهل صلاحية القتال؛ لأن قتل رهابين الكفار وشيوخهم ونسائهم غير مشروع، بل المبيح للقتل كفر المحارب أو صلاحيته، والجزية خلف عن الإسلام وقبول ما هو خلف عن الإسلام يصلح دليل لانتهاء القتال، فلذلك كانت كلمة (حتى) هنا للغاية. (} وقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ {) أي كيلا تكون فتنة؛ لأن آخر الكلام لا يصلح لانتهاء صدر الكلام؛ لأن القتال واجب مع عدم الفتنة، فإن القتال واجب وإن لم يبدأ الكفار لقوله تعالى:} قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ {

الكُفَّار} وقوله تعالى:} ولْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً {. ولكن صدر الكلام يصلح سببا لانتفاء الفتنة فلذلك حمل على لام كي. هذا على تقدير تفسير الفتنة بالخراب والقتال. وأما على تقدير تفسيرها بالشرك والكفر كان غاية للقتال؛ لأن القتال ينتهي بانعدام الشرك، وتفسيرها بالشرك أولى بدلالة ما بعدها، وهو قوله تعالى:} ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ { وقوله: (على ما هو موضوع الغايات أنها أعلام الانتهاء من غير أثر) معناه أن الغاية علامة على انتهاء صدر الكلام من غير أن يكون للغاية أثر في انتهاء صدر الكلام، على ما عرف أن علامة الشيء أن تعرف ذلك الشيء ولا توجبه، ولا يضاف ذلك الشيء إليه لا وجودا ولا وجوباً كالإحصان

مع الرجم، فإن الإحصان علامة على وجوب الرجم إذا وجد الزنا من المحصن من غير أن يكون الرجم مضافا إليه لا وجوبا ولا وجودا. ثم معنى قوله:} وزُلْزِلُوا {حركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع،} حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ {أي إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها} مَتَى نَصْرُ اللَّهِ {أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة، وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدة وتماديه في العظم؛ لأن الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها، وقرئ} حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ {بالرفع على أنه في معنى الحال

كقوله: شريت الإبل حتى يجئ البعير يجر بطنه. إلا أنه حال ماض محكية، فلا يكون فعلهم سببا لمقالة الرسول. فإن قيل: فليس لهم الفعل في زلزلوا، بل وقع الزلزال عليهم، فكيف جعل ذلك فعلهم؟ قلنا: فإنهم لما زلزلوا كان التزلزل موجودا منهم؛ لأنهم إذا حركوا كان التحرك موجودا منهم خصوصا على اصطلاح أهل النحو، فإنهم هم الفاعلون بسبب أنهم أسند إليهم الزلزال على بناء المفعول. (والكف عنه محتملة في حكم الحنث لا محالة) يعني أن الضرب لما كان ممتدا بطريق التكرار فالكف عنه الذي حكم الحنث يحتمل الامتداد بالطريق الأولى؛ لأن الكف عن الضرب امتناع، والامتناع عن الشيء أكثر امتدادا من ذلك الشيء، وإنما قال: "والكف منه محتمله لا محالة" لأن صدر الكلام إن لم أضرب فلا بد من كونه ممتدا. أو نقول: "والكف عنه أي عن الضرب محتمله" أي الكف عن الضرب محتمل الضرب أي الامتناع عنه محتمل؛ لأنه يشترط أن يكون فعل الحنق مقدورا حتى يتحقق الحنث. ألا ترى أن من قال: إن لم أقتل فلانا فعبده حر، وفلان ميت وهو لا يعلم بموته لم يحنث؛ لأن شرط الحنث عدم القتل وهو غير ممكن.

(وهذه الأمور دلالات الإقلاع عن الضرب) أي الامتناع عنه؛ لأن الصياح يصلح دليلا على انتهاء الضرب، وكذلك إخواته، وصدر الكلام يحتمل الامتداد؛ لأن الضرب بطريق التكرار يحتمل الامتداد يعني بتجدد أمثاله يمتد كالجلوس وغيره، فيكون الضرب إلى هذه الأمور ممتدا في حكم البر. يعني إذا ضربه إلى هذه الغاية بر في يمينه، فإذا أمسك عن الضرب قبل وجود هذه الأمور حنث لفوات البر فوجب العمل بحقيقتها إذا لم يغلب على الحقيقة عرف هو راجح حينئذ، وفيما نحن فيه لم يغلب فوجب العمل بالحقيقة حتى لو غلب على الحقيقة عرف هو راجح تترك الحقيقة وتحمل على العرف في قولهم: إن لم أضربك حتى أقتلك أو حتى تموت، فإنه يحمل على الضرب الشديد حتى إذا ضربه ضربا شديدا ثم أمسك عن الضرب قبل أن يقتله أو يموت فقد بر، ولو قال: إن لم أضربك حتى يغشى عليك فأميك عن الضرب قبل أن يصير مغشيا عليه حنث؛ لأنه لم يغلب على الحقيقة عرف راجح، فإن الضرب إلى أن يغشى عليه كالضرب إلى أن يشفع فلان وغير ذلك.

(لأن هذا الفعل إحسان) أي فعل التغدي إحسان من المتعدي لصاحب الطعام. فإن قلت: كيف يكون أكل طعام الغير إحسانا لذلك الغير بل هو إحسان لنفسه وهو الأكل؟ قلت: نعم هو أحسان لنفسه وهو ظاهر لكن مع ذلك هو إحسان لصاحب الطعام أيضا. ألا ترى إلى قصة ضيف إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى:} هل أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ (24) إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا {إلى قوله:} فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَاكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً {فلما خاف إبراهيم عليه السلام بسبب تركهم الأكل علم أن أكل طعامه إحسان له منهم؛ لأنهم يزيلون به خوفه، فإزالة الخوف من الغير إحسان له. (ولا يصلح إتيانه سببا لفعله)؛ لأنه موقوف على اختيار مختار وفعل بإرادة، والحكم ما يحصل عقيب السبب كالملك عقيب الشراء والحل عقيب النكاح، وفي هذا موقوف على اختيار مختار، فلذلك لم يصلح إتيانه سببا لفعله بخلاف ما إذا كان بين اثنين بأن قال: إن لم آتك حتى تغذيني حيث صار الأول سببا للثاني، والثاني حكما للأول، وإن توقف على فعل مختار؛

لأن الثاني يجعل كأنه فعل من غير اختيار فرارا من اللوم وشين التغيب، فإنه في العرف يعد لوما ويعير على ذلك بأن يأتيه إنسان وهو لا يقدم إليه الطعام، ولا كذلك في مسألتنا فإنه لا يعد من اللوم فافترقا من هذا الوجه. (ولا فعله جزاء لإتيان نفسه)؛ لأنه لا يصلح مكافيا لنفسه؛ لأن المكافئ غير المكافي، ولهذا لأن الجزاء الخير بطريق المكافأة إنما يفعل لكي يكون ذلك داعيا ومحرضا إلى ذلك الفعل الذي صار ذلك الفعل سببا لوجود مثل هذا الجزاء الحسن الذي يحصل من الغير بطريق الشكر لفعله والمكافأة، وذلك إنما يصح له من الغير لا من نفسه لنفسه؛ لأن ذلك مطلق العنان كامل الاختيار فيتمكن من الإقدام على إحراز المحاسن التي يتيسر من غير أن يجازي الجزاء الحسن نفسه لنفسه. فلذلك حمل على العطف المحض لا على المجازاة، ثم بحمل الجزاء المذكور في الكتاب على الجزاء الحسن الذي يحصل من الغير بطريق الشكر يخرج الجواب عن شبهة يقولونها بأن فعل الإنسان يصلح جزاء لفعل نفسه. ألا ترى أن أداء المثل فعل نفسه في كفارة الحج في قتل الصيد الذي هو فعل نفسه أيضا، وكذلك سجدة السهو في صلاته، وكذلك ضمان إتلاف مال الغير كل ذلك فعل منه صلح جزاء لفعل نفسه.

قلنا: قد أوجب الله تعالى تلك الأفعال عليه إما زجر عليه كما في كفارة الصيد أو لجبر النقصان كما في سجدة السهو، وضمان الإتلاف فلا يرد علينا نقضا لما أن الجزاء المذكور هو الذي يجازي به بطريق الشكر، وذلك لا يتصور من نفسه لنفسه. وقوله: (فصار كنه قال إن لم لآتك فأتغد عندك) متصل بقوله: ولو قال: "عبدي حر إن لم آتك حتى أتغدى عندك" لأن قوله: "حتى أتغدى" لا يصلح أن يكون تفسيرا لقوله: " إن لم آتك حتى أغذيك" وقوله: حتى إذا آتاه فلم يتغد ثم تغدى من غير تراخ). فإن قيل: في هذا اللفظ تناقض؛ لأنه لما لم يتغذ حين آتاه ثم تغذى بعده لا بد أن يقع تغذيه متراخيا عن الإتيان فكيف قال بعد ذلك: ثم تغذى من بعد غير متراخ؟ قلنا: المراد من قوله: "لم يتغذ" أي لم يتغذ مقارنا بالإتيان، ولكن تغذى بعد الوصول إليه من غير تراخ، أو معناه من غير تراخ أي من غير تبدل المجلس، فإن الفعل إذ أوتي به من غير تبدل المجلس لا يسمى متراخيا. (وهذه الاستعارة) أي الاستعارة للعطف المحض (اقترحها أصحابنا)

أي قالها، وفي المصادر الاقتراح: جيزي رادر وقت كفتن. (وهذا على مثال استعارات أصحابنا في غير هذا الباب) كما في استعارة البيع والهبة للنكاح، واستعارة العتاق للطلاق، ثم حاصل هذا المجموع هو ما ذكر في خزيادات صاحب الهداية بقوله: "إنه إذا كان للغاية لا يبر في يمينه إذا أقلع عن الفعل قبل وجود الغاية، وفي المجازاة لا يتوقف البر على وجود الفعل الثاني، وفي العطف يتوقف البر على وجودهما، وفي قوله: "إن لم آتك حتى أتغذى" صر كأنه قال: إن لم آتك فأتغذى فما لم يوجد الفعلان لا يبر في يمينه، ولو أتاه في اليوم وتغذى عنده بر في يمينه إلا إذا غني به الفور؛ لأن شرط البر وجود الفعلين بوصف التعقيب، والتعقيب قد يكون بوصف الاتصال، وقد يكون بوصف التراخي، فإذا وجد الفعلان فقد وجد شرط البر، والله أعلم.

باب حروف الجر

باب حروف الجر (ولهذا صحبت الباء الأثمان) إيضاح لقوله: "إن الباء للإلصاق". ووجه الاستدلال به على أن الباء للإلصاق هو أن المبيع صل في البياعات والثمن تبع، وهو معروف بدليل صحة البيع عند عدم ملك الثمن وعدم صحته عند عدم ملك المبيع، وكذلك في الإقالة لا تحتاج صحتها إلى بقاء الثمن وتحتاج إلى بقاء المبيع، ولما كان كذلك لم يكن بد من استعمال الباء في إبدال المعاوضات ليستدل بها على أن هذا البدل بمقابلة ذلك البدل وهو معنى الإلصاق؛ لأنه يلصق هذا بذاك، وفي إلصاق الشيء بالشيء يعلم أن ما دخل فيه الباء تبع كالآلة، وما لم يدخل فيه أصل، كما يقال: كتبت بالقلم، وضربت بالسوط، وتكلمت باللسان، والآلة ليست بمقصودة فتعين دخول الباء في الثمن ليكون داخلا في الآلة في البيع كما في النظائر ليكون المبيع

ملصقاً بالثمن (فيمن قال: إن اشتريت منك هذا العبد بكر من حنطة)، ووصفها أن الكر ثمن) وإنما عين هذه الصورة؛ لأن ما ادعاه من دخول الباء في الأثمان لا يتأتى إلا في هذه الصورة. بيان ذلك مذكور في "النهاية" هو أن الأموال ثلاثة: ثمن محض كالدراهم والدنانير، فإنها خلقت للثمنية سواء صحبها حرف الباء أو لا. ومبيع محض وهو الأعيان التي ليست من ذوات الأمثال كالحيوانات، ومتردد بين كونه مبيعا وثمنا فهو المكيلات والموزونات، فإنها مبيعة باعتبار أنها منتفع بأعيانه ثمن باعتبار أنها مثلية كالدراهم والدنانير، فإن قابلها الدراهم والدنانير فهي مبيعة. وأما إذا كان في مقابلتها عين فإن كانت المكيلاات والموزونات معينة فهي مبيعة وثمن سواء دخل فيها الباء أم لا؛ لأن البيع لا بد له من مبيع وثمن، وليس أحدهما بأن يجعل مبيعا بأولى من الآخر، فجعلنا كل واحد منهما مبيعا من وجه ثمناً من وجه.

وأما إذا كانت غير معينة فإن استعملت استعمال الثمن فهي ثمن بأن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة ويصف ذلك، وإن استعملت استعمال المبيع كانت مبيعة بأن قال: اشتريت منك كذا حنطة بهذا العبد فلا يصح العقد إلا بطريق السلم. كذا في "الذخيره" وغيرها. " إن الكر ثمن يصح الاستبدال به" وإنما ذكر هذا لأن جواز الاستبدال من خاصية الأثمان (بخلاف ما إذا أضاف العقد إلى الكر فقال: اشتريت منك كر حنطة بهذا العبد فإنه يكون سلما)؛ لأنه لما أضاف إليه العقد جعله مبيعا لأن المبيع ما يضاف إليه البيع، والمبيع لا يثبت في الذمة إلا سلما، فلذلك جعل ها هن هذا سلما. (فصار الكر شرطا) أي تبعا؛ لأن ما صحبه الباء لا يصلح مفعول الخبر؛ لأن ما صحبه الباء صار جارا ومجرورا وهو شاغل ومشغول، فلا يصلح أن يكون مشغول الغير.

ولا يقال يقولون: فلان شكر لفلان، وقوله: لفلان شاغل ومشغول ومع ذلك يصلح مفعولا؛ لأنا نقول: إن حرف الجار ها هنا صلة؛ لأنه يستعمل باللام وغير اللام، وشغله لم يكن أصليا بخلاف الباء، فإنه للإلصاق، وفي جعله مفعولا إبطال الإلصاق فلا يجوز، فأمكن أن يجعل شيئا آخر مفعولا وهو خبر في قوله: (إن أخبرتني) خبرا ملصقا بقدومه، والتحقيق فيه أن يقال: إن الباء لما كانت للإلصاق اقتضى الاسم الذي دخل فيه الباء اسما آخر يلصق هو به (ومفعول الخبر) أي ومفعول الثاني للإخبار إنما يجئ بغير حرف الجر كما في قوله: إن أخبرتني خبرا أو إن أخبرتني أن فلانا قد قدم، فلم يصلح لذلك أن يكون الاسم الذي دخل فيه الباء مفعول الخبر؛ لاقتضاء حرف الإلصاق إلصاق الاسم بالاسم الذي هو المفعول الثاني للإخبار في قولك: أن أخبرتني خبرا ملصقا بالقدوم، ومعنى حرف الإلصاق قولهم: مررت بزيد أي التصق مروري بموضع يقرب من زيد.

ولما كان كذلك (والقدوم اسم لفعل موجود) لم يقع لذلك يمينه على الكذب. فإن قيل: يشكل هذا قول من قال لامرأته: إن كنت تحبيني بقلبك فأنت طالق، فقالت: أحب. طلقت وإن كانت كاذبة فيما أخبرت على قولهما خلافا لمحمد. قلنا: إنما وقع ذلك على الإخبار فحسب؛ لأن الإطلاع على ما في القلب غير ممكن على العباد، فجعل اللسان خلفا عن القلب، فطلقت لوجود ما هو خلف عن القلب لا باعتبار أنه صادق أو كاذب، والأصل أن الشيء إذا قام مقام شيء آخر لتعذر الوقوف على ذلك الشيء الآخر، فالملتفت إليه هو الظاهر القائم مقام غيره لا معرفة حقيقة ذلك الغير، بخلاف القدوم فإنه أمر محسوس معاين ولم يتعذر الوقوف عليه، فلذلك اشترط الخبر الملصق بالقدوم الموجود وذلك بالصدق، ومفعول الخبر كلام لا فعل فصار كأنه قال: إن تكلمت بقدوم فلان، فصار المفعول التكلم بقدومه وقد وجد. (وذلك دليل الوجود) أي الإخبار دليل الوجود (لا موجب له)؛ لأن الخبر دليل والمدلول غير ثابت به

وفي "التقويم" الخبر هو الكلام الدال على أمر كان أو سيكون غير مضاف كينونته إلى الخبر وهذا لأن قولهم: ضرب فلان فلانا يدل على وجود الضرب من فلان في الزمان الماضي، ويستحيل أن يثبت الضرب بقولهم: ضرب، فكذلك قوله: "قدم فلان" دليل على قدومه لا أن هذا القول يثبت قدومه بل الإخبار دليل على وجود الصانع، والعالم مثبت الله تعالى ومنشأه، فيستحيل أن يكون العالم مثبتا، فكن شرط الحنث قوله: "قدم فلان" وقد وجد ذلك فيحنث وجد القدوم أو لم يوجد. وقوله: () ولهذا قالوا في قول الرجل: أنت طالق بمشيئة الله إنه بمعنى الشرط)، حتى لا يقع الطلاق كما لا يقع بقوله: أنت طالق إن شاء الله، إيضاح لقوله: "أما الباء فللإلصاق" لما أن بين الإلصاق والشرط مناسبة، فكان كون الباء بمعنى الشرط في قوله: "بمشيئة الله" إنما كان بسبب أن الباء للإلصاق، فوجه المناسبة بينهما أن بالإلصاق يتصل الملصق بالملصق به، ولا وجود للملصق بدون الملصق به، فكذلك المشروط يتصل بالشرط أيضا، ولا وجود للمشروط بدون الشرط فتناسبا فاستعير الإلصاق للشرط، (وكذلك أخواتهما) وهي الرضا والمحبة.

(حتى أوجب مسح بعض الرأس) وذلك أدنى ما يتناوله اسم الرأس ولو ثلاث شعرات، هكذا نص في "المبسوط".

(فيصير تقديره: وامسحوا رؤوسكم)، فيلزمه استيعاب جميع الرأس. (وقد بينا أن التكرار والاشتراك لا يثبت في الكلام أصلا) أي لا يثبت بطريق الأصالة، و (لا يصار إلى إلغاء الحقيقة)، وهي أن الباء للإلصاق، فيلزم من قول الشافعي إلغاء حقيقة الإلصاق، ويلزم من قول مالك حمل الكلام على التوكيد من غير ضرورة، وإذا حمل على التوكيد تلغى حقيقة الإلصاق أيضا، فكان العمل بالحقيقة هو ما قاله أصحابنا- رحمهم الله: إن الباء للإلصاق، ولكن التبعيض والاستيعاب إنما ينشأ من شيء آخر وهو ما

قرره في الكتاب. وقوله: (وأما الاستيعاب في التيمم) إلى آخره جواب لما ورد شبهة على الدعوى الأولى وهي أن الباء للإلصاق، لكن إذا دخل في محل المسح لم يقتض استيعابه. والجواب: أما على رواية الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- فلا يشكل؛ لأنه لا يشترط الاستيعاب لهذا المعنى، وأما على ظاهر الرواية فهو ما ذكره في الكتاب. (وعلى هذا قول الرجل) أي وعلى أن الباء للإلصاق؛

(لأن الاستثناء يناسب الغاية)؛ لأن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها، فكذا في الاستثناء يخالف ما بعده لما قبله، ولأن الغاية تكون متصلة بالمغيا، فكذلك الاستثناء يكون متصلا بالمستثنى منه. [على] (فإن دخلت في المعاوضات المحضة كانت بمعنى الباء)؛ لأن تقريره على ما وضع له فيها متعذر؛ لأن فيها معنى الشرط، والمعاوضات المحضة لا تليق بالشرط لما فيه من الإيجاب بالخطر وهو قمار وذلك لا يجوز، فلذلك استعيرت للباء؛ لأنها مخصوصة لمصاحبة الأعواض وإلصاق بعضها ببعض فاستعير له، (لأن اللزوم يناسب الإلصاق) بل هو أثر الإلصاق، فكان بمنزلة المطاوع للمتعدي؛ لأن اللزوم في اللغة هو اللصوق، واللصوق مطاوع

الإلصاق، والملصق يلزم الملصق به، فكان بينهما تناسب. (وإذا استعملت في الطلاق كانت بمعنى الشرط عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- حتى) إن الزوج إذا طلقها واحدة عقيب قولها: طلقني ثلاثا على ألف درهم لم يجب شيء، ولكن يقع الطلاق الرجعي؛ لأن كلمة (على) للزوم على ما قلنا، والألف لازم على المرأة بقضية كلمة على. (وليس بين الواقع وهو الطلاق وبين ما لزمها من المال مقابلة)؛ لأن المقابلة من الإضافيات، فيثبت المقابل مع ما يقابله معا معا، وفي المعاوضات يثبت العقد 977، ومع المعوض معا معا تحقيقا للمقابلة، ومن ضرورته يلزم توزع أجزاء العوض على أجزاء المعوض، وما نحن فيه ليس بمعاوضة محضة، فلا يتحقق فيه ما يتحقق في المعاوضة المحضة. (بل بينهما معاقبة) أي يثبت أحدهما وهو المشروط عقيب الآخر وهو الشرط، فإن جعل ثلاث تطليقات شرطا لوجوب الألف يتقدم على وجوب

الألف؛ لأن وجوب الألف مشروط، وإن جعل الألف شرطا وهو الظاهر لدخول كلمة "علي" عليها فوجوب المال يتقدم وقوع الطلاق، وهذ معنى الشرط والجزاء وهو بمنزلة حقيقة كلمة "على" للزوم، وبين الشرط والمشروط ملازمة، وقد أمكن العمل بحقيقة هذه الكلمة فيما نحن فيه فيعمل بها. ومعنى الحقيقة بينهما باعتبار المعاقبة؛ لأن حقيقة هذه الكلمة التعلي وفيه التعاقب؛ لأن الصاعد على الشيء فوق ذلك الشيء، وكذلك بين الشرط والمشروط معاقبة، أو معنى الحقيقة بينهما باعتبار الملازمة وفيهما ذلك، فكان العمل بمعنى الشرط عملا بحقيقة كلمة "على" بهذا الطريق؛ لأن الطلاق وإن دخله العوض يصلح تعليقه بالشروط، حتى إن الزوج إذا قال: أنت طالق على ألف أنه يمين لا يملك الرجوع عنه قبل قبول المرأة، ولما كان كذلك لم يتوزع أجزاء المشروط على أجزاء الشرط بل المشروط يثبت عقيب جملة الشرط. والفقه فيه أنه لو توزع أجزار المشروط على أجزاء الشرط يتقدم المشروط على الشرط وهو محال. (وفي المعاوضات المحضة لا يستقيم معنى الشرط) لما فيه من تعليق المال

بالخطر وهو لا يجوز بخلاف تعليق المال بالطلاق؛ لأن المال وقع في ضمن ما يصح فيه التعليق، وما ثبت الشيء في ضمن شيء لا يعطى له حكم نفسه بل يعطى له حكم المتضمن، ثم في مسألتنا جاز أن يقال: تعلق ثلاث تطليقات بألف، تطليقة بثلث الألف، وجاز أن يقال: تعلق الألف بثلاث تطليقات؛ لأن معنى هذا الكلام: إن طلقتني ثلاث تطليقات فعلي ألف درهم. وقول المصنف في الكتاب: "فصار هذا منها طلبا لتعليق المال بشرط الثلاث يقرر الأخير، إلا أنه بقي إشكال وهو أن كلمة "على" دخلت على الألف فكان هو شرط، ووقوع الثلاث مشروطا غير أن الكلام لما كان شيئا واحدا كان دخول كلمة "على" على الألف دخولا في ذاك. والدليل على صحة هذا التقرير الذي ذكرت صريح ما ذكره المصنف- رحمه الله- في "شرح الجامع الكبير" في هذه المسألة بقوله: ولأبي حنيفة- رحمه الله- أن كلمة "على" بمعنى الشرط؛ لأن أصلها اللزوم، واستعير للشرط؛ لأنه يلازم الجزاء فصارت طالبة للثلاث بألف كلمة هي للشرط، فصار كل واحد منهما- أي المال والطلاق- شرطا لصاحبه فصار بحكم الاتحاد دخولها على المال مثل دخولها على الطلاق، وهذا بعينه لفظه- رحمه الله. وما ذكره في "المبسوط" يدل على هذا أيضا فقال: والطلاق مما يحتمل التعليق بالشرط وهذا يدل على أن وجوب المال على المرأة شرط، والطلاق

مشروط - ثم قال بعده: وإنما شرطت لوجوب المال عليها إيقاع الثلاث، وهذا يدل على أن الإيقاع الثلاث شرط ووجوب المال مشروط. فإن قلت: ما جواب أبي حنيفة- رحمه الله- عن قولهما بأن الألف يتوزع على التطليقات الثلاث في كلمة"على" أيضا كما يتوزع إذا ذكرت بالباء. ألا ترى أنها لو قالت: طلقني وفلانة على ألف درهم فطلقها وحدها كان عليها حصتها من المال بمنزلة ما لو التمست بحرف الباء، فكذلك ها هنا يجب أن يكون كذلك؟ قلت: إن جوابه أن للمرأة في طلب ثلاث تطليقات بمقابلة العوض غرضا صحيحا، وهو حصول البينونة الغليظة حتى لا تصير في وثاق

نكاحه، وإن أكرهها على ذلك فاعتبرنا معنى الشرط في ذلك لتحصيل مقصودها. وأما في قولها: طلقني وفلانة على كذا فليس لها غرض صحيح؛ لأنه لا غرض لها في طلاق فلانه ليجعل ذلك كالشرط منها. بخلاف ما نحن فيه فإن لها فيها غرضا صحيحا على ما ذكرنا. كذا في "المبسوط"، فصار هذا بمنزلة حقيقة هذه الكلمة. وقد ذكر في " المبسوط" وأبو حنيفة - رحمه الله- يقول: حرف "على" للشرط حقيقة؛ لأنه حرف الالتزام ولا مقابلة بين الواقع وبين ما التزم، بل بينهما معاقبة كما يكون بين الشرط والجزاء، فكان معنى الشرط فيه حقيقة والتمسك بالحقيقة واجب حتى يقوم دليل المجاز. قال الله تعالى:} حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ {وما قبله:} وقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلاَّ الحَقَّ {؛ أي بشرط أن لا أقول على الله إلا الحق.

[من] (وأما (من) فللتبعيض هو أصلها) قال في "الجامع" لو قال: إن كان في يدي من الدراهم إلا ثلاثة فجميع ما في يدي صدقة، فإذ في يده أربعة فهو حانث؛ لأن الدرهم الرابع بعض الدراهم، وكلمة (من) للتبعيض، ولو قالت المرأة لزوجها: اخلعني على ما في يدي الدراهم فإذ في يدها درهم أو درهمان تلزمه ثلاثة دراهم؛ لأن (من) هنا صلة لتصحيح الكلام، فإن الكلام لا يصح إلا بها حتى إذ قالت: اخلعني على ما في يدي دراهم كان الكلام مختلا، وفي الأول لو قال: إن كان في يدي دراهم كان الكلام صحيحاً.

وكلمة (من) للتبعيض في أصل الوضع فحمل عليه، وقد تكون لابتداء الغاية وللتمييز كما في باب من مديد، وبمعنى الباء قال الله تعالى:} يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ {وقد تكون للصلة كما في قوله تعالى:} يَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ}، إلا أن أصلها للتبعيض، وجعل في كتب النحو كونها لابتداء الغاية أصلها وسائر المعاني راجعا إليه كما عرف في "المفصل" ] إلى [ (وأما (إلى) فلانتهاء الغاية)، وإنما قال هكذا ولم يقل للغاية؛ لأن الغاية نوعان، كما يقال في "من" إنها لابتداء الغاية و (إلى) لانتهاء الغاية.

أي الغاية التي بها ينتهي صدر الكلام، (ولذلك استعملت في آجال الديون) لأن الدين إذا كان مؤجلا يصير حالا عند الأجل، فينتهي التأجيل به. (وإن لم يكن له نية يقع للحال عند زفر). وأما عندنا فلا يقع إلا بعد مضي شهر، فعند زفر لما وقع في الحال كان ذكر التأجيل بقوله: "إلى شهر" لغوا لما أن الواقع من الطلاق لا يحتمل التأجيل، وقلنا نحن: إن الواقع لا يحتمل الأجل، ولكن الإيقاع يحتمل ذلك؛ لأن علمه في التأخير، والإيقاع يحتمل التأخير، وكلام العاقل مهما أمكن تصحيحه لا يجوز إلغاؤه، وها هنا ممكن بإدخال حرف (إلى) على أصل الإيقاع لا على الحكم فقلنا به. كذا في "المبسوط". (والتأجيل لا يمنع الوقوع) كما في الدين، فإن الدين واقع ثم يتأجل، والطلاق إذا وقع لا يمكن تأجيله، فلذلك يقع في الحال. (وقلنا: إن التأجيل لتأخير ما يدخل عليه، وها هنا دخل على أصل الطلاق)، وأصله يحتمل التأخير بالتعليق بمضي شهر أو بالإضافة إلى ما بعد

الشهر فكان مؤخرا أصله لذلك. وأما أصل الثمن لا يحتمل التأخير بالتعليق والإضافة؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال، ولو تأخر وجوب الثمن لم تتحقق مبادلة المال بالمال، فلا يتحقق البيع، فإذا تعذر تأخير وجوب أصل الثمن حملنا الكلام هناك على تأخير المطالبة. وأما ها هنا فيحتمل التأخير بهذين الوجهين، فلذلك قلنا: لا يقع في الحال عملا بكلمة (إلى) احترازا عن إلغاء ذكر الغاية فيقع الطلاق بعد مضي الشهر. (والأصل في الغاية إذا كان قائما بنفسه لم يدخل في الحكم)، وهذا احتراز عن قوله تعالى:} إلَى المَرَافِقِ {، فإن معنى القيان بنفسه أنه في وجوده لا يفتقر إلى غيره. أي إلى محل آخر مثل ما قلنا في المرافق؛ لأن صدر الكلام تناولها، فلا يكون ذكر الغاية لمد الحكم إليه، فيكون لإسقاط ما وراءها، ونظير هذا أيضا قوله: والله لا أكلم فلانا شهرا. صدر الكلام يتناول الشهر فما فوقه، فيكون ذكر الشهر لإخراج ما وراءه عن صدر الكلام لا لمد

الحكم إليه بخلاف الصوم، فإن مطلقه يتناول ساعة، فكان ذكر الغاية لمد الحكم إليها فلا يدخل في الحكم. (ولهذا قال أبو حنيفة- رحمه الله) هذا لإيضاح قوله: إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة، فكانت الغاية لإخراج ما وراءها فيبقى داخلا بمطلق الاسم فكذلك ها هنا. فبيان هذه المسألة مذكور في باب الخيار في البيع من بيوع "المبسوط" فقال: إذا اشترى الرجل شيئا على أنه بالخيار إلى الغد أو إلى الليل أو إلى الظهر، فله الغد كله والليل كله ووقت الظهر كله في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه-، وقال ألو يوسف ومحمد- رحمهما الله: الخيار إلى طلوع الفجر وإلى أن تغيب الشمس، ولا تدخل الغاية في الخيار عندهما؛ لأن الغاية حد والحد لا يدخل في المحدود. كما لو قال: بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل الحائطان في البيع، وكذلك لو حلف لا يكلم فلانا إلى رمضان لا يدخل الحد، ولأبي حنيفة- رحمه الله- في المسألة حرفان: أحدهما- إن البدل الذي في جانب من له الخيار باق على ملكه سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، والملك الثابت له بيقين لا يزال بالشك. والثاني- إن الغاية في كل موضع تكون لمد الحكم إلى موضع الغاية لا يدخل الغاية كما في الصوم لما عرف، وفي كل موضع ذكر الغاية لإخراج ما

وراءها فيبقى موضع الغاية داخلا، وها هنا لو شرط الخيار مطلقا ثبت الخيار مؤبدا ولهذا فسد العقد، فكان ذكر الغاية لإخراج ما وراءها، فيبقى موضع الغاية داخلا، ولكن يشكل على هذه الطريقة فصل اليمين. وروى الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- أن الغاية تدخل في اليمين، فنأخذ في اليمين على هذه الطريق بتلك الرواية. وقوله: (وكذلك في الآجال في الأيمان) وهي جمع يمين بمعنى الحلف. لا الأثمان في البياعات على ما وقع في بعض النسخ؛ بدليل ما ذكرنا من رواية الحسن في اليمين من رواية "المبسوط". وكذلك ذكر شمس الأئمة- رحمه الله- في "أصول الفقه" في هذا الموضع وقال: وفي اليمين إذا حلف لا يكلم فلانا إلى وقت كذا تدخل الغاية في رواية الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- لأن مطلقه يقتضي التأبيد، فذكر الغاية لإخراج ما وراءها، ولا تدخل في ظاهر الرواية؛ لأن في حرمة الكلام ووجوب الكفارة بالكلام في موضع الغاية شكا، ولأن ما ذكره من إيضاح الأصل الذي ذكره بقوله: "إلا أن يكون صدر الكلام يقع على الجملة، فتكون الغاية لإخراج ما وراءها، فيبقى داخلا بمطلق الاسم" إنما يصح في اليمين لا في الثمن.

وقال في (قوله: لفلان علي من درهم) إلى آخره. أي وقال أبو حنيفة- رحمه الله- لم يدخل؛ (لأن مطلق الاسم لا يتناوله) أي لأن مطلق اسم الدرهم لا يتناول العاشر فلا يدخل العاشر، وفي مثل هذا لا يدخل الحد في المحدود. كما في مسألة بيع الأرض من هذا الحائط إلى هذا الحائط، ولأن الأصل هو ما قاله زفر: إن الحد لا يدخل في المحدود، وما لا يقوم بنفسه حد ذكرا وإن لم يكن واجبا إلا أن الغاية الأولى لا بد من إدخالها؛ لأن الدرهم الثاني والثالث واجب، ولا يتحقق الثاني بدون الأول، فلأجل هذه الضرورة أدخلنا الغاية الأولى، ولا ضرورة في إدخال الغاية الثانية، فأخذنا فيها بالقياس. (وقالا: يدخل) أي يدخل العاشر؛ لأنه ليس بقائم بنفسه، وهذا لأنا ذكرنا أن معنى القائم بنفسه هو أن لا يكون مفتقرا في وجوده إلى غيره، والعاشر مفتقر في وجوده إلى غيره وهو التسعة، فكان غير قائم بنفسه، فيدخل كما في قوله تعالى:} إلَى المَرَافِقِ {، وهذا لأن العاشر في الإقرار والثالث في الطلاق لما كانا غايتين لم يكن بد من وجودهما ليصلح غاية، ووجود العاشر بوجوبه ووجود الثالث من الطلاق بوقوعه، فلذلك دخلا.

(وكذلك هذا في الطلاق) يعني لو قال الرجل لامرأته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لا تخل الغاية الثانية؛ لان مطلق الكلام وهو مطلق الطلاق لا يتناوله وفي ثبوته شك، ولكن الغاية الأولى تدخل للضرورة، وعندهما تدخل الغايتان؛ لان هذه الغاية لا تقوم بنفسها فلا تكون غاية ما لم تكن ثابتة. وقوله: (وإنما دخلت الغاية الأولى للضرورة). إنما ال هذا لدفع شبهة، وهي أن يقال: إذا لم يكن صدر الكلام متناولا للجملة ينبغي أن لا تدخل الغاية الأولى أيضا كما لو قال: بعت من هذا الحائط إلى هذا الحائط فقال في جوابها: إنما دخلت الغاية الأولى للضرورة؛ لأن الطلقة الثانية داخلة في الكلام بالاتفاق، وهي لا تكون ثابتة قبل ثبوت الأولى. ] في] (وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- هما سواء) أي حكم في غد

كحكم غدا، لأن الظرف هو غد في الحقيقة فلا يختلف حكمه بحذف حرفه وإثباته. كقولهم: دخلت الدار وفي الدار. ولأبي حنيفة- رحمه الله- (إن حرف الظرف إذا سقط اتصل الطلاق بالغد بلا واسطة) فيكون جميع الغد مفعولا، وإذا قال: في غد جعل المفعول جزءا من الغد، كذا ذكر في "بديع الإعراب" وجزء من الغد مبهم، فإليه تعينه؛ لأن الإبهام جاء منه. (فيصدقه القاضي) إلا أنه إذا لم يكن له نية يقع في الجزء الأول من الغد لعدم المزاحمة بخلاف قوله: غدا. حيث لا يصدق فيه في نية آخر النهار. وقيل: المعنى فيه هو أن قوله: "غدا" يصير ظرفا بطريق الضرورة؛ لأن الظرفية ثبتت فيه لا بلفظ الظرف الذي يدل عليها، والثابت بالضرورة يثبت

بقدر الضرورة، فلا يكون عاما حتى تصح نية آخر النهار. وأما في قوله: "في غد" تثبت الظرفية بلفظ ظرف يدل عليها، والثابت باللفظ يحتمل النية؛ لأن النية لتعيين ما احتمله اللفظ فصحت نيته، ولكن لما كان لفظ "في" حقيقة في الظرفية، وحقيقة الظرف لا تستوعب المظروف كان محل المظروف وهو الطلاق في الظرف، وهو في غد بمنزلة المجمل في جزء من الغد غير معين، فلذلك صدقه القاضي في نيته آخر النهار. (وإن صمت الدهر فعلى كذا أنه يقع على الأبد) إلى آخره، يعني أنه لو قال: إن صمت الدهر فعبدي حر، فإنه يقع على صوم الأبد، ولو قال: إن صمت في الدهر فعبدي حر؛ إنه يقع على صوم ساعة. كذا ذكره المصنف في "شرح الجامع الصغير". (أنت طالق في مكان كذا) كقوله: في مكة يقع الطلاق في الحال؛ لأن الطلاق فعل ولا اتصال للفعل بالمكان؛ لأن الطلاق إذا كان واقعا في مكان

يكون واقعاً في الأماكن كلها. فعلم بهذا أن المكان لا يصلح ظرفا للطلاق، فإن الظرف الحقيقي إنما يكون أن لو وجد المظروف في ظرف لا يوجد في ظرف آخر حال وجوده في الظرف الأول كالحنطة في الجوالق لا يكون تلك الحنطة في جوالق أخر حال كونها موجودة في الجوالق الأول، وليس ها هنا كذلك، ولما لغى معنى الظرفية ها هنا بقي قوله" أنت طالق" مطلقا فوقع في الحاال، وهذا لأن المكان الذي أضيف إليه الطلاق موجود في الحال، فكان هذا بمنزلة تعليق الطلاق بأمر كائن، فيكون تنجيزا بخلاف ما إذا أضيف إلى زمان، فإن الفعل يتصل بالزمان؛ لأنه إذا جعل وقته غدا لا يكون واقعا قبل ذلك، فإن الزمان إذا كان معدوما كان الطلاق المضاف إليه معدوما لا محالة. وإذا قال: أنت طالق في دخولك الدار يتعلق بدخول الدار كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار؛ لأن الدخول لا يصلح ظرفا لكونه فعلا، والفعل لا يصلح ظرفا لشيء، وبين الظرف والمظروف مقارنة، كما أن بين الشرط والمشروط مقارنة من حيث إنه لا يتحلل بينهما زمان؛ بل متصل بالمشروط، وإن كان يعقبه فيستعر للشرط تصحيحاً لكلامه.

(وعلى هذا مسائل "الزيادات" أنت طالق في مشيئة الله تعالى) إلى آخره. هاهنا عشرة ألفاظ: المشيئة، والإرادة، والمحبة، والرضى، والأمر، والحكم، والإذن، والقضاء، والقدرة، والعلم. لو قال لامرأته: أنت طالق بمشيئة الله تعالى أو بإرادة الله أو بمحبته أو برضاه لا يقع الطلاق أصلا، ولو قال: أنت طالق بمشيئة فلان، أو بإرادته، أو بمحبته، أو برضاه لا يقع الطلاق حتى يشاء فلان في المجلس، ولو قال: أنت طالق بأمر الله، أو بإذن الله، أو بحكمه، أو بقضائه، أو بقدرته، أو بعلمه يقع الطلاق في الحال. وكذلك إن أضاف إلى العبد فقال: أنت طالق بأمر فلان إلى آخره يقع في الحال، ولو ذكر بحرف اللام وقال: أنت طالق لمشيئة الله أو لمشيئة فلان أو غيرها من الألفاظ يقع الطلاق في الحال سواء أضافها إلى الله أو أضافها إلى العبد؛ لأن حرف اللام للتعليل والإخبار عن السبب، قال عليه السلام:

"صوموا لرؤيته" فكان هذا إيقاع الطلاق والإخبار عن العلة، ولا يلتفت إلى وجود العلة فصار كأنه قال: أنت طالق؛ لأن فلانا شاء وأراد وأحب، ولو ذكر بكلمة (في) فإن أضافها إلى الله بأن قال: أنت طالق في مشيئة الله أو في إرادة الله أو في محبته أو غيرها من الألفاظ لا يقع الطلاق في الألفاظ كلها أصلا إلى في العلم، فإنه يقع الطلاق فيه في الحال؛ لأن كلمة (في) للظرف حقيقة. وإذا تعذر حمله على الظرفية بأن صحب الأفعال يحمل على التعليق لما بينهما من المناسبة من حيث الاتصال والمقارنة غير أنه إنما يصح حمله على التعليق إذا كان الفعل مما يصح وصفه بالوجود وبضده ليصير في معنى الشرط، فيكون تعليقا، والمشيئة والإرادة والرضا والمحبة مما يصح وصف الله تعالى به وبضده، فإنه يصح أن يقال: شاء الله كذا أو لم يشأ كذا، وأراد ولم يرد، وأحب ولم يحب، وكذلك الأمر والرضا والحكم والقضاء والتعليق بمشيئة الله تعالى إبطال بخلاف العلم، فإنه لا يصح وصف الله بضده لأن علمه محيط بجميع الأشياء، وأنه كائن في الأزل، والتعليق به تحقيق وتنجيز

فيقع الطلاق في الحال ويشكل على هذا القدرة، فإنه لا يصح وصفه بضدها، ومع ذلك لا يقع الطلاق في القدرة، والأصح من الجواب: إن القدرة تذكر ويراد بها التقدير، وقرئ قوله تعالى:} فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ {بالتشديد والتخفيف، والتقدير مما يصح وصف الله تعالى به وبضده؛ لأنه يصح أن يقال: قدر الله كذا ولم يقدر كذا، فكان بمنزلة المشيئة والإرادة. فلا يقع الطلاق بخلاف العلم لما ذكرنا، ولو أضافها إلى العبد بأن قال: أنت طالق في مشيئة فلان، ففي المشيئة والإرادة والمحبة والرضى والهوى يتعلق الطلاق بوجود الفعل في الحال حتى يقتصر على المجلس؛ لأن هذه الألفاظ للتمليك، وفي غيرها من الألفاظ يتعلق بوجود مطلق الفعل ولا يقتصر على المجلس؛ لأن الشرط مطلق لانعدام معنى التمليك فيها. كذا في "الزيادات البرهانية". وقوله: (إلا في علم الله) أي فإن الطلق فيه يقع بأن قال: أنت طالق في علم الله يقع الطلاق، وفي أخواته لا يقع البتة؛ لأن علم الله يستعمل في المعلوم وقد أضاف الطلاق إلى معلوم الله، وإنما يكون الطلاق في معلوم الله إذا كان الطلاق واقع؛ لأنه إذا لم يكن واقعا لم يكن الطلاق في معلوم الله بل عدمه في معلوم الله، لهذا يقع الطلاق لاستحالة جعل معلومه شرطا؛ لأن الشرط أمر معدوم على خطر الوجود، وهذا فيما نحن فيه محال بخلاف

أخواته، فإنه يصح أن يقال: إن شاء الله وإن حكم الله وإن قدر، ولا يقال إن علم الله؛ لأن جميع المذكورات معلومة، ولأن تقدير قوله: أنت طالق في معلوم الله أنت طالق في هذا المحل؛ لأن هذا المحل في معلوم الله فيقع الطلاق في الحال كما في قوله: (أنت طالق في الدار) وأنت طالق في مكة على ما ذكرنا. (لفالن علي عشرة دراهم في عشرة دراهم يلزمه عشرة)؛ لأن الدراهم لا تصلح ظرفا فيلغو، ولا يقال ينبغي أن يحمل على معنى الواو على معنى (مع) كيلا يلغو؛ لأنا نقول: المجاز خلاف الأصل؛ لأن الأصل هو الحقيقة، وشغل الذمة خلاف الأصل، وبراءة الذمة عن الدين أصل، فاجتمع أمران حينئذ كل منهما خلاف الأصل، ولكلامه بدون المصير إلى المجاز وجه،

وهو أن يراد به تكثير أجزاء العشرة فلا ضرورة إلى المصير إلى ما هو خلاف الأصل.

[حروف القسم] وقوله (وكذلك في سائر الأسماء والصفات) غاير بينهما بالعطف، وجعل بعضها أسماء وبعضها صفات وليس كذلك، بل كلها صفات غير اسم الله تعال، فكان ذكره أسماء باعتبار السمع، وذكره صفات باعتبار الأصل. أما السمع فقد جاء في الحديث، قال النبي عليه السلام: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"، وكذلك جاء في القرآن أيضا بتسمية الأسماء،

قال الله تعالى:} قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى {. وأما الأصل فنقول: إن كلها صفات في أصل الوضع سوى اسم الله تعالى. إلى هذا أشار في "الكشاف" حيث قال: فإن قلت: اسم هو- يعني اسم الله تعالى- أم صفة؟ قلت: بل اسم غير صفة ألا تراك تصفه ولا تصف به، وفي قوله: "ألا تراك تصفه ولا تصف به" إشارة إلى أن الاسم الذي تصف به كان صفة، وجميع أسماء الله تعالى سوى اسم الله بهذه المثابة كما في} بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {وفي قوله تعالى} هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ {الآية، فكانت صفات، ولأنه صرح بتسمية اسم الصفة على الرحمن الرحيم بعد هذا بقوله: وهو من الصفات الغالبة كالدبران. وقال بعده: فلم قدم ما هو أبلغ من الوصفين على ما هو دونه؟

فعلم بهذا أن تسمية الأسماء لغير اسم الله تعالى من صفاته باعتبار ورود السمعيات من الكتاب والسنة وإلا فهي كلها صفات في الأصل مع أن بعضهم قال بوقوع اسم الله صفة أيضا استدلالا بقوله تعالى:} صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ {} اللَّهِ الَّذِي {بطريق النعت للأولـ، وعند الأكثرين هو بدل وليس بنعت. إلى هذا أشار المصنف- رحمه الله- في "الجامع". (فلم يكن لها اختصاص) أي فلم يكن للباء اختصاص بالدخول في المظهر بل تدخل في المضمر أيضا على ما ذكر، أو لم يكن له اختصاص بالدخول في القسم بل كما تدخل في القسم تدخل في المعاوضات أيضا حيث يقال: اشتريت هذا بكذا واحمل هذا الطعام بدرهم. إلا أنه لا يحسن إظهار الفعل ها هنا بخلاف الباء حيث يحسن إظهار الفعل بها قال الله تعالى:} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا}.

[الواو] (لصار مستعارًا بمعنى الإلصاق) أي لصار مجرى كمجرى الباء في جميع الوجوه ولا ضرورة فيه، ولأنه لو صار مستعارًا لمعنى الإلصاق من كل وجه لجاز أن يستعمل الواو في موضع كان الباء فيه لمحض الإلصاق، ويقال: إن أخبرتني وقدوم فلان مكان قوله: إن أخبرتني بقدوم فلا، ولجاز أن يقال: مررت وزيد مكان قوله: مررت بزيد ولم يقل به أحد. (فتصير الاستعارة عامة في بابها) أي في باب الاستعارة. وقوله: (ويشبه قسمين) معطوف على قوله: "فتصير" أي لو أظهر فعل القسم مع واو القسم، ويقول: أحلف أو أقسم والله لكان مشابهًا لقسمين وهو يريد الواحد، فكان المذكور خلاف ما أراد فلا يجوز، ولا يرد هذا الكلام في استعمال الباء القسمية مع فعل القسم؛ لأن الباء في حقيقته للإلصاق، فيقتضي الملصق والملصق به، فيظهر الفعل لضرورة تحقيق معنى الإلصاق، حتى لو لم يظهر فهو مقدر فيه، فلا يلزم عند الإظهار مشابهة قسمين. إذ إظهار الفعل من ضرورات مقتضى الباء.

(فإنهما من حروف الزوائد). معنى هذا أن الزيادة أينما وقعت وقعت من هذه الحروف، وليس معناه أين ما وقعت هذه الحروف وقعت زوائد؛ لأن قولك: اليوم تنساه أو سألتمونيها كل من هذه الحروف أصول هاهنا ومجموعها من حروف الزوائد. (وقد ذكر في "الجامع" ما يتصل بهذا الأصل في قول الرجل: والله الله والله الرحمن الرحيم) أي قال: والله الرحيم، والذي في "الجامع" رجل قال: والله والرحمن لا أكلمك، فكلمه لزمته كفارتان؛ لأن قوله: والله مقسم به، وقوله: والرحمن معطوف عليه، فكان غيره في تسمية الحالف فتعدد الاستشهاد فتعدد الهتك يعني عند الحنث، فتعددت الكفارة؛ لأنها جزاء الهتك، ولو قال: والله والله لا أكلمك ثم كلمه فعليه كفارة

واحدة، وكذلك لو قال: والله الرحمن وعند تكرار الواو لو نوى رد الكلام كان يمينًا واحدًا، يعني إذا نوى بالواو في والرحمن واو القسم فقطع كلامه قبله كأنه سكت ثم استأنف، وقال: والرحمن لا أكلمك، ولم يحمل عليه بغيرنية. كذا في "جامع المصحف"- رحمه الله-. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في "الجامع": ولو أن رجلا قال والله والرحمن لا أكلمه، فكلمه وجب عليه كفارتان؛ لأنه عطف أحد الاسمين على الآخر بحرف العطف وهو الواو إلا أن يكون نوى فيكون يمينًا واحدةً؛ لأن هذا اللفظ قد يذكر للتأكيد عادة، ويكون مراده من إعادة حرف الواو الصلة، فكان نظير قوله: والله الرحمن لا أكلمك وهو يمين واحدة، ولو قال: والله الله لا أكلمك، أو قال والله والله لا أكلمك، فهذه يمين واحدة، إلا في رواية شاذة عن محمد- رحمه الله- يقول: إنه يمينان؛ لأنه لا يمكن جعل الكلمة الثانية صفة للأولى، فكانتا يمينين، وفي ظاهر الرواية يقول: كرر الكلمة الواحدة فلا يقصد بتكرار الكلمة الواحدة إلا معنى التأكيد، فكانت يمينًا واحدة بخلاف قوله: والله الرحمن، فإن الكلمة الثانية فيها معنى غير معنى الكلمة الأولى، فلم تكن تكرارًا إلا أن ينويه. قلت: فحصل من هذا كله إن ذكر الاسمين بدون الواو لا يوجب يمينين،

وذكرهما بالواو يوجب يمينين إلا عند النية على اليمين الواحدة كان يمينا واحدة، وأما في الاسم الواحد كاسم الله فإن فيه بتكرار الاسم بالواو يكون يمينًا واحدة في ظاهر الرواية بدون نية الاتحاد. (إن ذلك صلة وضعت للقسم) أي كلمة بنفسها وضعت للقسم حيث يوصف بها المقسم به، فكانت هي بمنزلة الباء في بالله لا أن يكون جمعًا ليمين بدليل وصل همزتها، فلو كانت جمعًا لكانت همزتها للقطع كما في أكلب وأرجل في جمعي كلب ورجل. وقال في "الصحاح": وألفه ألف الوصل عند أكثر النحويين، ولم تجيء في الأسماء ألف الوصل مفتوحة غيرها. (وأما لعمر الله) وقد ذكرنا في "الموصل" أنه لا يكتب الواو بعده

لاختصاصه بالقسم ارتفع اللبس بينه وبين عمر، وهو في الأصل مصدر عمر الرجل من باب علم بقي، يقال: عمر يعمر عمرًا وعمرًا على غير قياس؛ لأن قياس مصدره التحريك، واستعمل في القسم أحدهما وهو المفتوح دون الآخر، وإذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء. قلت: لعمر الله واللام لتوكيد الابتداء، والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي، ولعمر الله ما أقسم به، فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر وهو للقسم أيضًا، وقلت: عمر الله ما فعلت كذا، وعمرك الله ما فعلت، ومعنى لعمر الله وعمر الله أحلف ببقاء الله ودوامه. وإذا قلت: عمرك الله فكأنك قلت: بتعميرك الله أي بإقرارك له بالبقاء. كذا في "الصحاح"، ولما كان معنى لعمر الله قائمًا مقام لبقاء الله أقسم به في الاستعمال الغالب صار صريحًا في ذلك المعنى فبعد ذلك لا يحتاج إلى قولهم أقسم بالله لتأدى ذلك المعنى بهذا الاستعمال الصريح في معناه فلذلك لم يجمع بينهما. [أسماء الظروف] (ومن هذا الجنس أسماء الظروف) أي ومن جنس الكلمات أو الألفاظ

التي تجر الأسماء أسماء الظروف، والجنسية هاهنا باعتبار عمل الجر لا غير لما أن الأسماء لم تكن من جنس الحروف. [مع] (أنه يقع ثنتان معًا قبل الدخول) أي مع أنه قال ذلك لغير المدخول بها، وكذلك في المدخول بها؛ لأنه لما وقع في غير المدخول بها فأولى أن يقع في المدخول بها. [قبل] (وقبل للتقديم) إلى آخره، وحاصله إن كلمة (قبل) بالضمير مثل كلمة (بعد) بدون الضمير في أنه تقع الثنتان فيهما، وفي العكس ينعكس الحكم لانعكاس العلة، فلذلك انعكس حكمهما بحسب وجود الضمير وعدمه، فإنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق واحدة قبل واحدة تقع واحدة؛ لأن معناه أنت طالق واحدة قبل واحدة أخرى تقع عليك، فبانت

بالأولى ولم يبق محلًا للثانية، وهذا المعنى إنما يحصل في بعد إذا كان بالكناية بأن يقول: أنت طالق واحدة بعدها واحدة أي بعدها واحدة أخرى تقع عليك. وأما إذا قال: قبلها واحدة صار كأنه قال: قبلها أخرى وقعت عليك، فكان وقوع الواحدة بالإنشاء، ووقوع الأخرى بالإقرار فتكون اثنتين، ولا يحتاج في صحة الإقرار إلى بقاء العدة. [بعد] وقوله: (هذا الحرف) إشارة إلى قوله: "إن الظرف إذا قيد بالكناية كان صفة لما بعده، وإذا لم يقيد كان صفة لما قبله" وتقريره في قوله: جاءني زيد قبله عمرو، وقوله: جاءني زيد بعد عمرو سواء في المعنى؛ لأن القبلية إذا كانت صفة لعمرو تكون البعدية صفة لزيد لا محالة، والبعدية إذا كانت صفة

لزيد تكون القبلية صفة لعمرو لا محالة، فلهذا استويا في المعنى، وفي قوله: جاءني زيد قبل عمرو تكون القبلية صفة لزيد، وكذلك في قوله: بعده عمرو تكون القبلية صفة لزيد أيضًا ضمنًا، لكون البعدية صفة لعمرو قصدًا، فلذلك استويا. فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين مسألة الإقرار في عين هذه الصورة حيث خالف حكم مسألة بعد، فإنه لو قال: لفلان علي درهم بعد درهم أو بعده درهم يلزمه درهمان. أما لو قال: درهم قبل درهم يلزمه درهم واحد، ولو قال: قبله، فعليه درهمان كما ذكرها هنا. قلت: لأن الطلاق بعد الطلاق هنا لا يقع، وأما الدرهم بعد الدرهم، فيجب دينًا في الذمة لبقاء المحل. كذا في "المبسوط" في باب من الإقرار بألفاظ مختلفة. [عند] (و (عند) للحضرة) وقد يراد به الحكم. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} أي في حكم الله.

(حتى إذا قال: لفلان عندي ألف درهم كان وديعة) إلا أن يقول: دين، (وعلى هذا) أي على تخريج المسائل على كلمات الظروف. (قلنا: إذا قال: أنت طالق كل يوم طلقت واحدة) ولو قال أنت طالق في كل يوم تطلق ثلاثًا في ثلاثة أيام؛ هاتان المسألتان بلا خلاف بين أصحابنا الثلاثة فكان ثبوت حكم هاتين المسألتين على هذا الطريق شاهدا عدل لأبي حنيفة- رضي الله عنه- في مسألة الغد في الفرق بين حذف حرف الظرف وإثباته، وذكر في "المبسوط" قبيل باب طلاق الأخرس: ولو قال لامرأته- وقد دخل بها-: أنت طالق كل يوم، فإن لم يكن له نية لم تطلق إلا واحدة عندنا، وعن زفر- رحمه الله- تطلق ثلاثًا في ثلاثة أيام؛ لأن قوله: أنت طالق إيقاع، وكلمة

"كل" تجمع الأسماء، فقد جعل نفسه موقعًا للطلاق عليها في كل يوم وذلك بتجدد الوقوع حتى تطلق ثلاثًا. ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق في كل يوم طلقت ثلاثًا في كل يوم واحدة، ولكنا نقول: صيغة كلامه وصف قد وصفها بالطلاق في كل يوم وهي بالتطليقة الواحدة، تتصف في الأيام كلها، وإنما جعلنا كلامه إيقاعًا لضرورة تحقيق الوصف وهذه الضرورة ترتفع بالواحدة. ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق أبدًا لم تطلق إلا واحدة بخلاف قوله: في كل يوم؛ لأن حرف "في" للظرف والزمان ظرف للطلاق من حيث الوقوع فيه فما يكون اليوم ظرفًا له لا يصلح الغد ظرفًا له، فيتجدد الإيقاع لتحقيق ما اقتضاه حرف "في" وفي قوله: كل يوم إن قال أردت أنها طالق كل يوم تطليقة أخرى فهو كما نوى، وتطلق ثلاثًا في ثلاثة أيام؛ لأنه أضمر حرف "في". وذكر شمس الأئمة- رحمه الله- في "أصول الفقه" بعد ذكر حكم كلمات الظروف كما ذكر في الكتاب: لأنه إذا لم يثبت في كلامه شيئًا من الظروف يكون الكل ظرفًا واحدًا، فلا تقع إلا واحدة وإن تكررت الأيام، وإذا ذكر شيئًا من أسماء الظروف يتفرد كل يوم بكونه ظرفًا على حدة، وإنما يتحقق ذلك إذا وقعت تطليقة في كل يوم.

[حروف الاستثناء] (يلزمه درهم إلا دانقًا)، فالدرهم أربعة عشر قيراطًا، ويكون العشرة منه على وزن سبعة مثاقيل، والدانق- بفتح النون وكسرها- سدس الردهم، وقيل: الدانق قيراطان، والقيراط نصف الدانق، وأصله قراط- بالتشديد- لأن جمعه قراريط، وأبدل الياء من إحدى حرفي التضعيف. كذا

في "الصحاح" و"المغرب". (وكذلك لو قال: علي دينار غير عشرة بالرفع) إلى قوله: (وما يقع من الفصل بين المعارضة والبيان) نذكره في باب البيان معناه أن عند محمد- رحمه الله- لا يصح استثناء الدراهم من الدنانير؛ لأن صدر الكلام لا يتناول المستثنى لغة فاستثناؤها من الدنانير كاستثناء الثوب من الدينار، ولا معارضة بين ثبوت الدينار عليه وبين انتفاء الدراهم عنه كما في الثوب عندهما هذا الاستثناء صحيح بطريق بيان التغيير، وهو أنه تكلم بالباقي

بعد الثنيا وهو من جنس البيان لا من قبيل المعارضة، والفرق بين البيان والمعارضة يذكر في باب البيان إن شاء الله تعالى، واستثناء الدراهم من الدنانير أمكن أن يجعل بيانًا بخلاف استثناء الثوب، فتعين للمعارضة ولا معارضة، يجب الدينار كله إلى آخره. [سوى] (وسوى وغير مثل إلا في قوله: إن كان في يدي دراهم إلا ثلاثة أو غير ثلاثة أو سوى ثلاثة) فهي صدقة على المساكين، والجواب في الكل واحد، فإن كان في يده أربعة دراهم أو خمسة دراهم لا يجب عليه التصدق؛ لأن الشرط كون الدراهم في يده سوى ثلاثة ولم يوجد. بخلاف ما لو قال: إن كان في يدي من الدراهم سوى ثلاثة فإنه يجب التصدق بما زاد على الثلاث،

لا يتوقف على وجود الثلاث؛ لأن شرط الحنث هاهنا أن يكون من الدراهم في يده، فدرهم ودرهمان من الدراهم. [حروف الشرط] [حرف إن] (وأما حرف إن وهو الأصل في باب الشرط)؛ لأنه حرف موضوع للشرط في أصله بخلاف سائر كلمات الشرط، ولأن غيرها إنما تعمل عمل الشرط إذا تضمن معنى إن، فلذلك كانت هي الأصل في الباب، (وأثره أن يمنع العلة عن الحكم أصلًا) أي أثر الشرط أن يمنع العلة عن انعقادها علة للحكم بل تبقى معدومة كما كانت (حتى يبطل التعليق) أي إلى أن يبطل التعليق. يعني إذا وجد الشرط وهو دخول الدار مثلًا في تعليق الحكم بدخول الدار لم يبق تعليقًا، فحينئذ يصير ما ليس بعلة علة، وعند الشافعي أثره أن يمنع الحكم عن العلة لا العلة عن انعقادها علة، بل العلة علة موجبة للحكم في الحال، ويمتنع الحكم بوجود إن، وأثر هذا الخلاف بيننا وبينه إنما يظهر في

قوله للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، على ما يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى. إذا قال (إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثًا)، فإنه ما دام حيًا يتصور البر وهو الطلاق، فإذا قرب موته أو موتها على وجه لا يسع فيه قوله: أنت طالق بل يسع فيه أنت أو أقل حينئذ فات البر وهو التطليق، فوجد الشرط وهو عدم التطليق فتقع ثلاث تطليقات، فإن قيل: المعلق بالشرط كالملفوظ عند وجود الشرط فكيف تقع ثلاث تطليقات ولا يسع فيه أنت طالق ثلاثًا؟ قلنا: هو أمر حكمي فلا يشترط فيه ما يشترط في حقيقة الإرسال والتطليق؛ لأن شرط هذا وأهلية هذا إنما يشترط عند التعليق لا عند وجود الشرط. ألا ترى أن المعلق إذا علق طلاق امرأته ثم جن فوجد الشرط وهو مجنون يقع الطلاق، وإن لم يتصور منه حقيقة الطلاق شرعًا. وقوله: (فتطلق في آخر حياته)، وفائدة الطلاق في ذلك الوقت إنها

تبين بالطلاق عن زوجها لا بالموت، حتى إنها لو كانت غير مدخولة لا ترث؛ لأنها بانت لا إلى عدة، ويجب لها نصف المهر لا كله، ولما بانت بالطلاق قبل الموت من غير عدة الطلاق لم تجب عليها عدة الوفاة أيضًا. [حرف إذا] (فيجازى بها مرة ولا يجازى بها أخرى) أي تستعمل للشرط مرة ولا تستعمل له أخرى، وإنما قال: يجازي مكان قوله: تستعمل للشرط؛ لأن الجزاء لازم للشرط، فكان ذكر الجزاء ذكرًا للشرط، ولأن فيه إشارة إلى أن المقصود من ذكر الشرط والجزاء هو الجزاء، ووجود الشرط وسيلة له بطريق الانقلاب، والمجازاة بها لازمة.

(في غير موضع الاستفهام). أما في موضع الاستفهام فإنها لا تستعمل استعمال الشرط، فلذلك لا يجزم بها فيقال: متى يخرج زيد- برفع يخرج- لأن الاستفهام عبارة عن طلب الفهم عن وجود الفعل، فلا يليق هناك إضمار حرف إن، واستعمالها للشرط لا يكون بدون إضمار إن. وأما إذا لم يكن الاستفهام فيه مقصودًا فيصح إضمار حرف الشرط فيها فنقول: متى تخرج أخرج، فإنه يصح أن يقول في معناه: إن تخرج أخرج يجزم الشرط والجزاء. (وإذا تدخل للوقت على أمر كائن) أي يستعمل كلمة (إذا) في الوقت الواقع في الحال كقول الشاعر:

وإذا تكون كريهة أدعى لها. وتستعمل أيضًا في حق الوقت المستقبل الذي هو آت لا محالة كما في قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، وكذلك استعملت مقام جزاء الشرط الذي هو مقام الفاء، والجزاء إنما يكون عند وجود الشرط وهو في ذلك الوقت كائن لا محالة كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي فهم يقطنون، وإذا كان كذلك كان استعمال إذا في الأوقات المعلومة لا محالة، والمعلومية منافية لمعنى الشرط إذ الشرط إنما يكون في الوقت المبهم أيكون أم لا؟ على ما ذكر قبل هذا إن كلمة إن هي الأصل في باب الشرط، وهي تدخل على كل أمر معدوم على خطر الوجود، وما كان معلومًا كان منافيًا لكلمة هي أصل في الشرط، ولئن كان شرطًا على الطريق الاستعارة للشرط ينبغي أن لا يسقط عنه معنى الوقت لأن الوقت معناه الأصلي، فكان مثل متى إذا استعمل للشرط، فإنه لا يسقط عنه معنى الوقت مع لزومه للشرط في غير موضع الاستفهام فأولى أن لا يسقط معنى الوقت

من إذا؛ لأنه غير لازم للشرط على ما ذكرنا من استعماله في الأوقات المعلومة، وهذا معنى قوله: (وإذا كان كذلك كان مفسرًا من وجه ولم يكن مبهمًا فلم يكن شرطًا) أي لما استعمل إذا في الأمر الواقع في الحال وفي الأمر المستقبل الذي هو كائن لا محالة، وفي المفاجأة التي هي جزاء الشرط كان ما دخل هو عليه مفسرًا لا مبهمًا، فلا يليق حينئذ لمعنى الشرط؛ لأن الشرط أمر مبهم وجوده. وقوله: (وقد يستعمل فيه) أي وقد يستعمل إذا في الشرط. فإن قيل ففي قوله: (إلا أنه قد يستعمل فيه مستعارًا مع قيام معنى الوقت) جمعًا بين الحقيقة والمجاز؛ لأن حقيقة إذا للوقت على ما ذكرنا، ثم لو استعير هو للشرط مع قيام معنى الوقت كان جمعًا بينهما، وهو لا يجوز على ما مر. قلنا: عدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز كان للمنافاة كما في لفظ الأسد لو أريد الهيكل المخصوص به مع إرادة الرجل الشجاع. أما هاهنا فلا منافاة بين الوقت المعدوم وبين الشرط. إذ الشرط أمر معدوم على خطر الوجود، فيجوز أن يكون الفعل الذي يوجد في الوقت شرطًا لشروط معدوم؛ لأن كلا منهما معدوم فيجوز أن يجتمعا لعدم المنافاة،

وهذا لأن الوقت ظرف لجميع الأفعال، والامتناع عن الظرف الذي هو شرط وقوع الطلاق الثلاث فعل من الأفعال، فكان الوقت ظرفًا له كما في سائر شروط الطلاق في التعليق غير أن الوقت في حق وجود شرط سائر التعليقات مقدر وهنا مصرح، فإن تقدير قولك: إن دخلت الدار فأنت طالق أي في الوقت الذي دخلت فيه الدار أنت طالق؛ لأن الدخول لا يوجد إلا في وقت من الأوقات، غير أن ذلك الوقت المقدر في قوله: إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثًا لم يعمل به؛ لأن الوقت إنما يعمل به بالتصريح أو بكلمة هي موضوعة للوقت، وتصريح ما قدر من الوقت في سائر التعليقات لا يكون منافيًا للشرط. والدليل على أن الجمع بين الحقيقة والجاز جائز عند عدم المنافاة مسألة (حتى) في قولهم: جاءني القوم حتى زيد، فإن (حتى) في حقيقتها للغاية ثم استعيرت هي للعطف. قلنا: بقاء معنى الغاية التي هي حقيقتها لعدم المنافاة بينهما فكذلك استعارة كلمة (أو) لمعنى الواو في موضع النفي مع بقاء معناها الأصلي كما عرف في قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا} وهو كثير النظير. (فصار الطلاق مضافًا إلى زمان خال عن إيقاع الطلاق) أي لما لم يسقط معنى الوقت من إذا حينئذ كان الطلاق مضافًا إلى وقت خال عن إيقاع

الطلاق، فيقع الطلاق لوجود شرط الحنث وهو وجود الوقت الخالي عن إيقاع الطلاق. (ووقع الشك في انقطاع المشيئة فلا تبطل بالشك). يعني لما كان في إذا معنى الشرط الخالص كإن ومعنى الوقت كمتى على التعارض خرج الأمر من يدها بالقيام عن مجلسها لو جعلناها بمعنى إن؛ لأنها للتمليك والتمليكات تقتصر على المجلس، ولو جعلناها بمعنى متى لا يخرج بل هي عامة في الأوقات كلها فصار كأنه قال: أنت طالق في أي وقت شيءت فلا يقتصر على المجلس، وكان المر في يدها فلا تبطل، وعمل أبو حنيفة- رضي الله عنه-

في المشيئة في إذا بمعنى الوقت، وفي إذا لم أطلقك بمعنى الشرط، ومعنى كليهما راجع إلى الأصل الذي ذكر، وهو أن الأصل الثابت قبل الشك لا يزول بالشك، وفي الطلاق لم تكن طالقًا قبل هذا فلا تطلق بهذا نظرًا إلى جانب الشرط، وفي المشيئة كان الأمر في يدها فلا يخرج عن يدها بالقيام عن المجلس نظرًا إلى جانب الوقت، وهذا أصل مطرد لأبي حنيفة- رحمه الله-. في غاية المسائل كما في خروج وقت الظهر وبقائه، وكون دار الإسلام دار الحرب وبقائها، وكون العصير خمرًا وبقائه عصيرًا، وبطلان السكنى وبقائها فيمن حلف لا يسكن هذه الدار وغيرها. [متى] (فاسم للوقت المبهم بلا اختصاص) سواءً كان لمحض الاستفهام عن الوقت أو الاستفهام مع الشرط، فإنك تقول في الشرط: متى تأتني

أكرمك؛ أي إن تأتيني يوم الجمعة أكرمك؛ وإن تأتني يوم السبت أكرمك إلى حد فيه من الإطالة، فأتى بمتى للإيجاز مشتملًا للأزمنة كلها، كما في أين مشتملًا للأمكنة كلها، ثم لما كان متى لا تخص وقتًا دون وقت كان مشاركًا لإن في تردد ما دخل فيه بين أن يوجد وبين أن لا يوجد كما في إن. (فيلزم في باب المجازاة) أي المجازاة لازمة في متى في غير موضع الاستفهام على ما ذكرنا كما أن إن لازمة للشرطية، والتفاوت بينهما في ثبوت الوقت وانتفائه.

(أنت طالق لولا صحبتك) أي لا يقع الطلاق لما فيه من معنى الشرط؛ لأن لولا لامتناع الشيء لوجود غيره، كما في قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}، فامتناع انتفاء الزكاء لوجود فضل الله، فصار كأن الطلاق معلق بعدم صحبتها، وإذا كانت الصحبة موجودة لم يوجد الشرط، فلا يقع الطلاق. وقوله: (وما أشبه ذلك) قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: قال- محمد رحمه الله- في قوله: أنت طالق لولا دخولك الدار: أنها لا تطلق ويجعل هذه الكلمة بمعنى الاستثناء. (آمنوني على عشرة من أهل الحصن) أي من أهل الحرب (ففعلنا) أي أجاب أهل الإسلام لالتماس أهل الحرب، (والخيار إليه) أي إلى رأس الحصن؛ لأنه شرط ذلك لنفسه بكلمة على، وهو مبني على ما ذكر من حكم كلمة على، فإنها في أصلها للزوم، ثم تستعار هي لمعنى الشرط في غير

المعاوضات المحضة؛ لما أن بين العالي والمعلو معاقبة كما بين الشرط والمشروط، وتلك الاستعارة التي تستعار لمعنى الشرط بمنزلة الحقيقة عند أبي حنيفة- رحمه الله- على ما مر، ولما كان كذلك كان رأس الحصن في قوله: آمنوني على عشرة شارطًا الأمان لنفسه، فكان الخيار إليه بخلاف ما لو قال: (آمنوني وعشرة) أو فعشرة أو ثم عشرة، فالخيار في تعيين العشرة إلى من آمنهم؛ لأن المتكلم عطف آمانهم على آمان نفسه من غير أن شرط لنفسه في آمانهم شيئًا. (ولو قال: بعشرة فمثل قوله: وعشرة) في أن الأمان وقع له ولعشرة سواه، (والخيار إلى إمام المسلمين) لما أن البلاء للإلصاق، فلابد له من ملصق وملصق به، وهو يقتضي المغايرة، فلابد أن يكون هو غير العشرة، ثم رأس الحصن لم يشترط لنفسه شيئًا، فلا يكون الخيار له كما لو ذكره بالواو. (ولو قال: في عشرة وقع على تسعة سواه، والخيار إلى الإمام) إما هو أحد العشرة، فلأن معنى الظرف في العدد بهذا يتحقق؛ لأن معنى الظرف في العدد بأن يكون معدودًا منهم، ولن يكون كذلك إلا بأن يكون واحدًا من

العشرة. ألا ترى أنه إذا قيل في الفارسية فلان درين ده أست يفهم منه أنه من العشرة وغيره تسعة وأما الخيار في التسعة إلى الذين آمنهم لا إلى رأس الحصن؛ لأنه ما شرط لنفسه شيئًا في أمان من ضمهم إلى نفسه ليكونوا عشرة. (ولو قال: آمنوني إلى عشرة وقع على عشرة لا غير، ولرأس الحصن أن يدخل نفسه فيهم، والخيار فيهم إليه). أما وقوع الأمان على العشرة لا غير، لأن الأمان وقع عليها، فلو قلنا بعشرة سواه كان وقوع الأمان حينئذ على أحد عشر، والإمام لم يوقعه على ذلك. وأما ولاية إدخال نفسه فيهم فلدلالة؛ لأنه لما آمن تسعة غيره فلن يؤمن نفسه أولى، وكذلك ثبوت الخيار إليه لثبوت هذه الدلالة؛ لأن إمام المسلمين لما ثبت لرأس الحصن هذه الدلالة لأجله كان الخيار إليه. (وذلك يخرج على هذا الأصل) أي على هذا الأصل الذي ذكرنا قبل هذا من حروف المعاني التي تتعلق بمسائل الأمان لا أن يكون ذلك إشارة إلى ما اتصل بهذا من كلمة إذا، ومتى، وأو، ولولا.

ولهذا ذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- مسائل الآمان التي تختص بحروف المعاني في مواضع تلك الحروف. [حرف كيف] (فإن استقام وإلا بطل) أي إن كان المسئول عنه ذا أحوال يستقيم السؤال عنه بهذه الكلمة، وإن لم يستقم فيبطل معنى كيف، فصار ذكر كيف وعدم ذكره بمنزلة، حتى لو قال لعبده: (أنت حر كيف شيءت أنه إيقاع) في الحال عند أبي حنيف- رحمه الله- ولا يتعلق بمشيئته؛ لأن كيف للاستيصاف ولا أوصاف للحرية فلا يتعلق بمشيئته. (وفي الطلاق تقع الواحدة) في الحال؛ لأن للطلاق أوصافًا من البينونة الخفيفة والغليظة والرجعة، (ويبقى الفضل في الوصف) وهو البينونة (والقدر) وهو الثنتان والثلاث (وهو الحال مفوضًا) إشارة إلى الفضل (بشرط نية الزوج).

فإن قيل: ينبغي أن لا تشترط نية الزوج؛ لأن الزوج فوض الطلاق إليها على أي صفة شاءت. قلنا: كلمة كيف وضعت للسؤال عن الحال، والحال في الطلاق نوعان: صفة وعدد، فصارت الكلمة بمنزلة الاسم المشترك، فتشترط نية الزوج لتعيين جهة المفوض إليها. كذا في "مبسوط" المصنف. (وقالا: ما لا يقبل الإشارة فحاله) أي كونه بائنًا ورجعيًا، (ووصفه) أي كونه سنيًا وبدعيًا بمنزلة أصله وهو نفس الطلاق، وهذا لأن ما لا يتأتى الإشارة إليه حاله ووصفه بمنزلة ذاته من حيث إن كل واحد منهما مما لا يشار إليه، فإذا تعلق الوصف بمشيئتها تعلق الأصل لا محالة، فإن الزوج إذا أوقع الواحدة ليس له أن يثلثها عندهما، فكذلك من قام مقامه فلهذا يتعلق أصل الطلاق ووصفه بمشيئتها. (فتعلق الأصل بتعلقه) أي يتعلق الوصف يعني أجمعنا على أن وصف الطلاق متعلق بمشيئتها، فيجب أن يكون أصله أيضًا متعلقًا بمشيئتها.

[حرف كم] (وأما كم فاسد للعدد الذي هو الواقع) أي الثابت فيما استعمل هو فيه حتى إذا قال الزوج لامرأته: أنت طالق كم شيءت كان الطلاق بعدده ثابتًا ومفوضًا إليها، فلا تطلق ما لم تشأ، وتتوقت المشيئة بالمجلس؛ لأنه ليس فيها ما تنبئ عن الوقت، فتطلق نفسها على أي عدد شاءت، فإن ردت الأمر كان ردًا؛ لأن هذا خطاب في الحال فيقتضي الجواب في الحال. [حرف حيث] (وحيث اسم لمكان مبهم). وكذلك أين، ولهذا لو قال: أنت طالق حيث شيءت أو أين شيءت أنه لا يقع ما لم تشأ، وتتوقف مشيئتها بالمجلس؛ لأنه ليس فيها معنى الوقت حتى يقتضي عموم الأوقات بخلاف قوله: إذا شيءت ومتى شيءت، حيث لا يقتصر فيهما على المجلس لتعلق الطلاق بالزمان، ولأن حيث وأين لما كانا من أسماء المكان ولا تعلق للطلاق بالمكان لغا ذكر المكان، فعلى هذا كان ينبغي أن يلغي المشيئة أيضًا؛ لأن عند إلغاء

المكان بقي قوله: أنت طالق شيءت فلا يتعلق هناك بالمشيئة فكذا هنا، إلا أن قوله: حيث شيءت يفيد ضربًا من التأخير، وحرف الشرط أيضًا يفيد ضربًا من التأخير فيشتركان في تحقيق معنى التأخير، فيجعل مجازًا عن حرف الشرط، فلذلك لا يقع بدون المشيئة، وكذلك في أين. والله أعلم. * * *

باب الصريح والكناية

باب الصريح والكناية (حتى استغنى عن العزيمة وكذلك الطلاق والعتاق)، فلذلك إذا أضيف العتق إلى المحل مبتدأ أو وصف أو خبر كان موجبًا للحكم، حتى إذا قال: يا حر، أو هذا الشخص الحر، أو قد حررتك- يعتق، وكذلك في الطلاق. (وحكم الكناية أن لا يجب العمل به إلا بالنية) وما يقوم مقامها من دلالة الحال، (وذلك مثل المجاز قبل أن يصير متعارفًا) كما في قولهم: فلان كثير الرماد قبل أن يصير متعارفًا في إثبات الجود، وكذلك في قول من قال: لا

يضع قدمه في دار فلان، فإنه في حق الدخول كناية قبل أن يصير متعارفًا فيه. (إلا في قول الرجل: اعتدي؛ لأن حقيقتها) أي حقيقة كلمة اعتدي، أو أراد بقوله: اعتدي العدة؛ لأنه يدل على العدة. وحاصله إن لقوله: بائن وحرام وأخواتهما تأثيرًا في قطع النكاح، فإذا نوى الطلاق انقطع النكاح بهذه الألفاظ فكان الطلاق بائنًا. أما الاعتداد فحقيقته (للحساب، ولا أثر له في قطع النكاح)، فإذا نوى الطلاق لا يمكن أن يقال: وقع الطلاق بائنًا لما قلنا، ولكن وقع الطلاق بطريق الاقتضاء؛ لأن الأمر بالاعتداد لا يصح إلا وأن يكون الطلاق واقعًا، فثبت الطلاق تصحيحًا للأمر بالاعتداد، وهذا هو الاقتضاء، ولكن إنما يصح هذا بعد الدخول، فأما قبل الدخول فلا يمكن القول بالاقتضاء؛ لأن ثبوت المقتضى لصحة المقتضي، وهاهنا المقتضي وهو العدة لا يصح؛ لأن العدة غير واجبة بالإجماع فانعدم معنى الاقتضاء فجعل مستعارًا محضًا؛ لأن

الطلاق سبب لوجوب العدة على ما هو الأصل؛ لأن الطلاق قبل الدخول إنما يباشر الزوج أو وجد نادرًا بعارض لما أن النكاح لم يوضع لهذا، بل المقصود منه الدخول والعوارض غير داخلة تحت القواعد، فكان الطلاق علة لوجوب العدة بالنظر إلى أصله، (فاستعير الحكم له). (زمعة) - بفتحتين-. (كان دلالة على الصريح لا عاملًا لموجبه)؛ لأنه إذا نوى بقوله: (أنت واحدة) الطلاق كان هذا اللفظ دلالة على وجود الطلاق؛ لأن وجود صفة الطلاق ولا طلاق محال، فلذلك كان دلالة على وجود الموصوف وهو الطلاق لا محالة؛ لا أن قوله: "واحدة" عاملة لموجبها، فكان رجعيًا لما أن المدلول هنا الطلاق وهو تعقب الرجعة، وقد ذكرنا وجه إضمار الطلاق دون البائن في "الوافي".

(فصار جنس الكنايات بمنزلة الضرورات) أي الأصل في الكلام هو الصريح؛ لأنه وضع للإفهام، والمراد من الكلام الإفهام، وإنما يعمل بالكنايات لانعدام الصريح الذي يدل على ما دل عليه الكناية، ويعمل بها كي لا يلغى كلام المتكلم، فصار بمنزلة الضرورات التي لا يؤتى بها إلا للحاجة. (فقال له آخر: صدقت لم يحد المصدق)؛ لأن ما تلفظ به كناية عن القذف لاحتمال التصديق وجوهًا مختلفة أي كنت صادقًا فيما مضى فكيف تتكلم بهذه الكلمة الشنعاء. (وكذلك إذا قال: لست بزان يريد التعريض للمخاطب لم يحد) وقال مالك- رحمه الله-: يحد، وكان في هذا اختلاف الصحابة، فعمر- رضي الله عنه- كان لا يوجب الحد في مثل هذا ويقول في حالة المخاصمة مع الغير مقصودة بهذا اللفظ نسبة صاحبه إلى شين وتزكيته لنفسه لا أن يكون

قذفًا للغير، وأخذنا بقوله لأنه إن تصور معنى القذف بهذا اللفظ فهو بطريق المفهوم والمفهوم ليس بحجة (بخلاف من قذف رجلًا بالزنا فقال آخر: هو كما قلت)؛ لأن فيه كاف التشبيه وهو يوجب العموم عندنا في المحل الذي يحتمله، ولهذا قلنا في قول علي رضي الله عنه: "إنما أعطيناهم الذمة، وبذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا": إنه مجرى على العموم فيما يندرئ بالشبهات، وما يثبت مع الشبهات، فهذا الكاف أيضًا موجبه العموم؛ لأنه حصل في محل يحتمله، فيكون نسبة له إلى الزنا قطعًا بمنزلة كلام الأول. وهذا مثل من قال لآخر: أشهد أنك زان، فقال الآخر: وأنا أشهد أيضًا. لا حد على الآخر؛ لأن قوله: "أشهد" كلام محتمل فلا يتحقق به القذف إلا أن يقول: أنا أشهد عليه بمثل ما شهدت به، فحينئذ يكون قاذفًا له؛ كذا في "مبسوط" الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- وأصول فقهه. والله أعلم بالصواب. * * *

باب وجوه الوقوف على أحكام النظم

باب وجوه الوقوف على أحكام النظم ({وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} فسيق الكلام لإيجاب النفقة على الوالد)، فأول الآية: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} الآية، ومعنى الآية- والله أعلم- والأمهات المطلقات يرضعن أولادهن أي هن أحق بإرضاع الأولاد من أجنبيات ليسترضعهن الآباء؛ لأنهن أرق عليهم وألطف بهم، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي الأب وأريد به الجمع {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} وهذا على طريق الأجر؛ لأنهن تحتجن إلى ما يقمن به أبدانهن {بِالْمَعْرُوفِ} أي من غير إسراف ولا تقصير. ومنهم من حمل الآية على الوالدات المنكوحات، وجعل

الرزق والكسوة والنفقة دون الأجر، فظاهر الآية تدل على أنها في المطلقة؛ لأن ما قبلها وما بعدها في حق المطلقات. كذا في "التيسير". ودلت الآية على أن الأم أحق برضاع ولدها وليس للأب أن يسترضع غيرها إذا أرضعته؛ لأن الله تعالى قال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وهذا أمر، وإن كان صيغته الخبر، ودلت أيضًا على أن الأم مخيرة بين أن ترضع أو لا ترضع؛ لأنه قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فبهذا يندفع سؤال من سأل: لما كانت الوالدات مأمورات بالإرضاع كان ينبغي أن يجب الإرضاع عليها. قلنا: ذلك الأمر مصروف إلى الاستحباب بهذا الدليل، ولقوله تعالى أيضًا: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وذكر في "الكشاف" {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}. أي وعلى الذي يولد له وهو الوالد، -وله في محل الرفع على الفاعلية نحو {عَلَيْهِمْ} في {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} -. (لأنه نسب إليه بلام الملك) أجمعوا على أنه لا يصير أحق به ملكًا؛ لأن الولد لا يصير ملكًا للوالد، فدل أنه اختص بالأب نسبًا فكان نسبه إلى الآباء فإن قلت: ما فائدة تخصيص نسبة الأولاد إلى الآباء مع أن الولد كما ينسب

إلى الأب فكذلك نسب إلى الأم؟ فيقال: هذا ولد فلانة كما يقال: هذا ولد فلان، فالولد بجملته منسوب إلى كل واحد منهما كاملًا، وكذلك نصيب الولد في الإرث بينهما على السواء؟ قلت: فائدته تظهر في حق الأمور التي تميز بها بين نسب ونسب، فيصلح الولد لذلك الأمر إن اعتبرنا فيه جانب الأب، ولا يصلح له إن اعتبرنا فيه جانب الأم. كما في الإمامة الكبرى وهي الخلافة، فإن كان أبوه قرشيًا يصلح الولد لها وأمه أي نسب كانت، وفي عكسه لا يصلح الولد لها، وكذلك في الكفارات يعتبر نسب الآباء دون الأمهات، وكذلك في اعتبار مهر المثل يعتبر نسب الآباء دون الأمهات. (وفيه إشارة إلى أن للأب حق التمليك)، والفرق بين حق التمليك وحق الملك فلمن له حق التملك ولاية، وأن يجعل ذلك الشيء ملكًا لنفسه في المستقبل. فأما في الحال فليس له فيه ملك بوجه من الوجوه كالشفيع له أن يتملك الدار المبيعة إن شاء. وأما ليس فيه حق الملك بوجه في الحال، وحق الملك عبارة عن الملك من وجه في الحال كالمكاتب، فإن له حق الملك في نفسه حتى لا يملك المولى وطء الجارية المكاتبة؛ لأن لها في نفسها حق ملك وهو ملك اليد، وليس

للأب في مال الابن من وجه، ولهذا يملك الابن وطء جاريته، فلو كان للأب في ماله ملك من وجه لما ملك الابن وطء جاريته. (وعليه تبنى مسائل كثيرة) منها: أن الأب لا يحد بوطء جارية ابنه وإن علم حرمتها عليه. ومنها أن نفقة الأب تفرض على الابن إن كان محتاجًا والابن موسر. سواء كان الأب قادرًا على الكسب أو لم يكن. هكذا ذكره الإمام خواهر زادة- رحمه الله- بخلاف الابن إذا كان بالغًا وهو قادر على الكسب لا يجب على الأب نفقته باعتبار أن للأب زيادة فضله على الولد. ألا ترى أنه يستحق مال ولده باعتبار الحاجة الضرورية كالنفقة وتعتبر الضرورة كاستيلاد جارية الابن بخلاف الولد، ولم يكن هذا الفرق بينهما إلا باعتبار؛ لأنه الملك في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}. ومنها أن نفقة خادمة الأب واجبة على الابن سواء كانت الخادمة امرأة

أو جارية، بخلاف نفقة خادمة الابن حيث لا تجب على الأب. كذا في "النفقات البرهانية" و"فتاوى قاضي خان". (وفيه إشارة إلى أن النفقة تستحق بغير الولاد) أي وفي آخر هذه الآية إشارة إلى هذا، وهو قوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وهي نفقة ذوي الأرحام. فإن قيل: هذا الحكم معلوم بعبارة النص، فإن النص سيق لإيجاب النفقة وهو قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وبعد ذلك قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} معطوف عليه، فكان ذلك عبارة لا إشارة، فكيف سماه إشارة النص؟ قلنا: نعم سيق الكلام لإيجاب النفقة على الوارث، لكن لم يسق الكلام على أن يأخذ الاشتقاق علة لإثبات النفقة. ألا ترى أن النفقة لا تجب إذا لم يكن أهلًا للإرث بأن كان الوارث كافرًا سوى قرابة الولاد.

(وهو اسم مشتق من معنى) أي اسم مأخوذ من اسم له معنى، فإن الوارث مأخوذ من الإرث، فيجب أن يكون الإرث علة لوجوب النفقة، فلذلك وجب بناء الحكم على معناه كما في (الزاني والسارق). فإن قلت: لو كان وجوب النفقة مبنيًا على علة الإرث ينبغي أن تدور وجوبها مع الإرث أينما دار وجودًا وعدمًا كما في الزاني والسارق وليس كذلك، فإنا نجد وارثًا في غير الولاد، وليس عليه النفقة، وغير وراث وجبت عليه النفقة، فإن الرجل المعسر إذا كان له خال وابن عم يكون نفقته على خاله ويحرز ميراثه ابن عمه. قلت: وجوب النفقة مبني على علة الإرث، لكن الاعتبار لأهلية الإرث لا لإحرازه، فالحاصل أن تأثير إحراز الإرث في وجوب النفقة إنما هو في ذوي الأرحام لا في غيرهم، وأما في حق ذوي الأرحام بمقابلة غير ذوي الأرحام تعتبر أهلية الإرث لا إحرازه. بيان ذلك أن الرجل إذا كان له عم

وخال فالنفقة على العم دون الخال؛ لأنهما استويا في المحرمية وترجح العم على الخال بكونه وارثًا حقيقة، وكذلك إذا كان له عم وعمة وخالة فالنفقة على العمة والخالة على قدر ميراثها، وأما في حق ذوي الأرحام بمقابلة غير ذوي الأرحام فالمعتبر هو أهلية الإرث لا إحرازه، كما ذكرناه في صورة الخال وابن العم، فإن النفقة على الخال؛ لأنه ذو رحم محرم منه والإرث لابن العم؛ لأنه عصبه وهو مقدم على ذوي الأرحام. قال شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-: وفيه دليل أيضًا على أن النفقة للوالدين على الأولاد لا تكون باعتبار ميراثهما، فإنه اعتبر صفة الوراثة في حق سائر القرابات، فعرفنا أن فيما بين الأولاد والأب إنما يعتبر نفس الولاد؛ ولهذا قلنا في أصح الروايتين: أن المعسر إذا كان له ابن وبنت وهما موسران فنفقته عليهما نصفان، ثم معنى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي وعلى وارث الصغير عند عدم الأب مثل ما كان على الأب من أجر إرضاع الولد للمرضعة. (وفيه إشارة إلى استواء الكل في الحظر؛ لأنه قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي الكف عن هذه الجملة، فكان حظر الكل بطريق واحد) أي

الكف عن هذه الأشياء المذكورة في الآية ثبت بخطاب واحد، فكان الكل كشيء واحد لما عرف أن الأمرين المختلفين فصاعدًا لا يجوز أن يراد بلفظ واحد لما ذكرنا في المشترك، إلا أن يجعل الأشياء المختلفة واحدة في المعنى فحينئذ يراد باللفظ الواحد. كالأشياء المختلفة والمتضادة يتناولها اسم الشيء، إذًا الكل في معنى الشيئية وهو الوجود واحد، (فلم يكن للجماع اختصاص ولا مزية)، فلذلك قلنا: إن الكفارة إذا وجبت بالجماع وجبت بالأكل والشرب لكونها واحدة تقديرًا. ألا ترى أن غسل جميع اليدين لما وجب بخطاب واحد وهو قوله {فاطهروا} صار جميع اليدين كعضو واحد حتى جاز نقل البلة من عضو إلى عضو بخلاف الوضوء، فإن نقل البلة من اليد إلى الرجل ومن الوجه إلى اليد لا يجوز؛ لأن كل واحد من هذه الأعضاء ثبت بخطاب على حدة، ولا يلزم أن الصلاة وجبت بخطاب واحد والأركان فيها متفاوتة في القوة والضعف، فإن السجدة أقوى من الركوع والقيام؛ لأنا نقول: إن الأصل فيه ما ذكرنا. إلا إذا قام الدليل على مزية البعض، وفي الصلاة قام الدليل على مزية البعض، فإن من سقط عنه السجود سقط عنه القيام والركوع، وإن كان قادرًا عليهما، ولأن الصلاة عبادة والعباد تنبئ عن التذلل والتواضع، يقال:

طريق معبد أي مذلل، والتواضع والتذلل في السجود أكثر، فصار أقوى لهذا. فأما فيما نحن فيه لم يقم الدليل على مزية البعض فكان الكل سواء. (وفيه إشارة إلى أن النبية في النهار منصوص عليه لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ})؛ لأنه لما أباح هذه الأشياء إلى آخر الليل والصوم عبادة تفتقر إلى النية، وقوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} أمر بالإتمام فكان امتثال هذا الأمر إنما يقع بعد الفجر لا محالة، عملًا بكلمة التراخي وهي ثم، والإتمام فعل اختياري لا يتصور بدون العزيمة، فتكون النية في النهار منصوص عليها (إلا أنا جوزنا تقديم النية على الصبح بالسنة) لا لأن يكون الليل أصلًا فيه؛ لأن النية لصيرورة الإمساك عبادة، وفعل الصوم قط لا يوجد في الليل، فجواز النية في الليل لا يكون أصلًا بل يكون الجواز في الليل ثابتًا بالسنة. فإن قيل: فعلى هذا التقدير ينبغي أن تكون النية في النهار أفضل، والأمر بخلافه. قلنا: النية في الليل أفضل؛ لأنه يكون عملًا بالسنة والكتاب جميعًا؛ لأنا

جوزنا النية في النهار بإشارة النص وهي غير نافية لجواز النية في الليل، وعملنا بالسنة في الأفضلية كما فعلنا في غير هذا في الوضوء المنوي والوضوء المرتب ومع التسمية، فيكون هذا مكملًا لما كان فرضًا في التسمية والنية والترتيب والوضوء وغير ذلك. (فالإطعام جعله طاعمًا) أي آكلًا كسائر الأفعال كالإجلاس جعله جالسًا. (خلافًا لبعض الناس) وهو حمدان بن سهل وهو يقول: لا يتأدى

بالتمليك، وإنما بالتمكين فقط لظاهر قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}، والإطعام فعل متعد لازمه طعم يطعم وذلك الأكل دون الملك، ففي التمليك لا يوجد حقيقة الإطعام والكلام محمول على حقيقته. كذا في "المبسوط". (أن الإباحة جزء من التمليك في التقدير)؛ لأن الطعام قضاء حاجة واحدة وهي حاجة الأكل، وللمساكين حوائج كثيرة، (والملك سبب لقضاء الحوائج) وقضاء الحوائج أمر باطن، (فأقيم الملك مقامها والتمليك بمنزلة قضائها كلها). ألا ترى أن الفقير صار مصرفًا في الزكاة لهذا؛ لأن الصرف إليه سبب دفع الحاجة. فعلم أن الإباحة جزء من التمليك، فالتعدية إلى التمليك في الإطعام

تعدية إلى الإباحة إلى غيرها من الحوائج، فكان أولى بالجواز (فاستقام تعديته) أي بطريق الدلالة، (وهو مشتمل على هذا المنصوص عليه) وهو الإطعام الذي يدل على الإباحة، ومشتمل على غير المنصوص عليه من حاجة قضاء الدين وحاجة أجرة البيت وحاجة ما يشتري في البيت وغيرها. (لأن الإعارة في الثياب منقضية قبل الكمال) أي قبل حصول المقصود بالثوب من دفع الحر والبرد وغير ذلك؛ لأن من الجائز أن يسترد المعسر الثوب قبل ذلك، وإنما قال هذا تأكيدًا لعدم جواز التعدية؛ لأنها لو كانت كاملة لا يجوز التعدية لكونها جزءًا من الكل والمنصوص عليه وهو الكل، فكيف وهي قاصرة! بخلاف الإباحة في الطعام؛ لأنه إذا وجد الأكل لا يمكن الاسترداد فلا

يلزم من عدم جواز الإباحة في الثوب عدم جواز الإباحة في الطعام، لما أنهما يختلفان في تحصيل المقصود عند الإباحة. والأولى في هذا أن يقال ما قال شيخي- رحمه الله- في معنى قوله: "لأن الإعارة في الثياب منقضية قبل الكمال" وهو أن الكفارة إنما تقع كاملة إذا خرج العين الذي يكفر به عن ملك المكفر، وحصل سد خلة الفقير عنده، فلذلك لا يتحقق في إعارة الثوب وإباحته؛ لأن المكفر إذا أعار الثوب للفقير إلى أن يبلى ويهلك في يده حينئذ خرج ذلك العين عن ملك المالك المكفر، وعند ذلك تتجدد حاجة الفقير، ولا يخرج المكفر عن عهدة الكفارة به؛ لأن ركن الكفارة على ما ذكرنا لم يوجد بخلاف الإطعام، فإن عين الطعام يخرج عن ملك المكفر إذا أكل الفقير، وبه يقضي حاجة الفقير، ولذلك وقع الفرق بين إباحة الطعام وإعارة الكسوة وإباحتها. (فهما في طرفي نقيض) أي إباحة الطعام وإعارة الثوب على ما بينا من قضاء حاجة الفقير في إباحة الطعام، وتجدد حاجته في إعارة الثوب عند انقضاء الثوب، أو أراد بطرفي نقيض الإطعام والكسوة؛ لما أن الإطعام فعل والكسوة عين، والفعل مع اللافعل نقيضان، فكيف يقاس أحدهما بالآخر؟ (وكان قول الشافعي في قياس الطعام بالكسوة في الفرع والأصل معا غلطًا). أما في الفرع فظاهر؛ لأن الكفارة في الفرع الذي هو الإطعام اسم للفعل

المخصوص على ما ذكرنا، فكان جعله تمليكًا غلطًا في الفرع؛ لأنه خلاف مقتضى النص؛ لأن النص يقتضي الجواز بالإباحة وهو لم يجوز فكان غلطًا، أو كونه غلطًا في الفرع هو أن شرط صحة القياس أن لا يكون المقيس الذي هو الفرع منوص عليه، وهو قد قاس المنصوص مع خلاف ما اقتضاه النص على منصوص آخر. وأما الغلط في الأصل: فإن المنصوص عليه في الأصل الذي هو الكسوة عين، والفعل غير منصوص، فإنما يشترط الفعل في الأصل ليصير العين كفارة؛ لأن العين بدون الفعل لا يكون كفارة، فكان الفعل فيه ضمنيًا وتبعًا وفي الفرع قصدًا، فكان في قياسه قياس الفعل القصدي على الفعل الضمني، فإثبات التسوية بينهما مع وجود هذا التفاوت كان غلطًا في الأصل؛ لأن القياس في هذا أن يكون الفعل الذي هو التمليك في الأصل منصوصًا عليه على وجه لا تجوز الإباحة فيه حتى يكون قياس الإطعام عليه مثلًا له، وليس كذلك فكان غلطًا. (ومن قضية الإطعام الحاجة إلى الطعم) فلما تجددت الحاجة بتجديد الأيام كان المسكين الواحد في المعنى المساكين كان المقصود سد الخلة، وذلك يتجدد بتجدد الأيام، فكان هو في اليوم الثاني بمعنى مسكين آخر بتجدد سبب

الاستحقاق له، ولأن الإطعام يقتضي طعامًا لا محالة، فمعنى الآية {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}، وقد أدى ذلك بخلاف الشاهد الواحد، وإن كرر شهادته في مجلسين لا يصير في معنى شاهدين؛ لأن المقصود هناك طمأنينة القلب، فبتكرار الواحد شهادته لا يحصل المقصود، فكان المسكين الواحد بمنزلة رأس الواحد في باب صدقة الفطر حيث يكون رأسًا آخر في السنة الثانية باعتبار تجدد وصف المؤنة. فكذلك نصاب الزكاة يتجدد باعتبار تجدد الحول القائم مقام النماء، والقاطع لشغب أن أربعة أمنًا من شعير لما صلحت أن يصير أربعين منا باعتبار تجدد السبب حتى جاز أداء أربعة أمنا مقام أربعين منا بأن يؤدي أربعة أمنا من شعير إلى مسكين، ثم يشتريها منه ويؤديها إلى مسكين آخر حتى تمت عشرة مساكين بهذا الطريق، وجازت الكفارة بهذا الطريق صلح أيضًا أن يكون المسكين الواحد في اليوم الثاني مسكينًا آخر، وهذا لأن لتجدد السبب تأثيرًا في تغيير العين، فكذلك لتجدد الوصف كما في الزكاة على ما ذكرنا. وقوله: (وجوزتم ذلك) أي مع أنه ليس فيه عدد ولا قضاء الحوائج المتجددة.

(هذا الذي تقول حاجة اللبوس) أي حاجة الثوب الذي يلبس، فإن اللبس اسم لما يلبس، وأجاب في "المبسوط" عن هذا السؤال بقوله: قلنا نعم، الحاجة إلى الملبوس كذلك أي يتجدد بتجديد الأيام- وإنما يتجدد في كل ستة أشهر- ولكنا أقمنا التمليك مقامه في باب الكسوة- أي مقام تجديد الحاجة- والتمليك يتحقق في كل يوم، وإذا أقيم الشيء مقام غيره سقط اعتبار حقيقته في نفسه، وهذا لأن الحاجة لا نهاية لها إلا أنه لا يجوز أداء الكل دفعة واحدة للتنصيص على تفريق الأفعال، وذلك بتفريق الأيام في حق الواحد، وقد يحصل أيضًا بتفريق الدفعات في يوم واحد، إلا أنه ليس لذلك حد معلوم، فقدرنا بالأيام وجعلنا تجدد الأيام في حق الواحد كتجدد الحاجة تيسيرًا. (فكان يجب أن يصح الأداء على هذا متواترًا)؛ لأنه كلما أدى إلى الفقير هلك في يده واحتاج إلى كسوة أخرى، فصار محللا لأداء كسوة

أخرى، وأدنى ذلك يوم لجملة الحوائج؛ لأن التمليك لما صار قضاء للحوائج كلها لم يكن بد من زمان مضبوط تتجدد حاجته بتجدده، وهو اليوم، كما في تمليك الطعام لما أن ما دون اليوم ساعة غير مضبوطة فلا يدار الحكم عليه. (ولا يلزم إذا قبض المسكين كسوتين من رجلين)، فوجه الإشكال هو أن المسكين إذا قبض الكسوتين من رجل واحد في ساعة واحدة لا يجوز عن كسوتين؛ لأن تملك إحداهما قضت حاجته فلم يجز الآخر، وهذا المعنى موجود فيما إذا قبض الكسوتين من رجلين في ساعة واحدة يجوز عنهما. فعلم بهذا أن عدم الجواز في كسوتين في يوم واحد من رجل واحد لم يكن مبنيًا على ما ذكرتم من عدم تجدد حاجته في يوم واحد، فإن حاجته في يوم واحد كما لا تتجدد إذا قبض الكسوتين من رجل واحد كذلك إذا قبضهما من رجلين. فأجاب عنه وقال: بل هو مبني على ما ذكرنا أيضًا إلا أن تمليك كسوة كل واحد من الرجلين في حق صاحبه حكم العدم، فلم يوجد في حق المعطى إلا أداء كسوة واحدة؛ لأن كل رجل مكلف بفعله لا بفعل غيره، فلم يكلف بالتفريق بخلاف الواحد، فإن تمليك الكسوتين فعله فيكلف بالتفريق.

[دلالة النص] (وأما دلالة النص فما ثبت بمعنى النظم لغة) يعني أن دلالة النص هي الحكم الذي لم يتناوله لفظ المنصوص، بل تناوله معنى لفظ المنصوص. مثل قوله تعالى: {أف} لا يتناول الضرب والشتم من حيث اللفظ؛ لأنهما لا يسميان تأفيفًا، فكان معنى قوله: "بمعنى النظم لغة لا استنباطًا" أي كل من يعرف العربية يعرف معنى النظم، هذا من غير توقف إلى الاجتهاد، وبه يقع الفرق بينه وبين القياس، فإن القياس يعرف بمعنى النظم أيضًا، لكن يتوقف عرفانه إلى الاجتهاد. (مثل: الضرب اسم لفعل بصورة معقولة) أي معلومة وهي إيقاع آلة التأديب في محل قابل للتأديب، (ومعنى مقصود وهو الإيلام)، ولهذا قلنا: إن من حلف: إن ضربتك فعبده حر، فمات فضربه بعد الموت لا يحنث، (والتأفيف اسم لفعل بصورة معقولة)، وهو أن تقول: أفا له عند التضجر منه، (ومعنى مقصود وهو الأذى)، فصار استعماله في حق الوالدين

حرامًا بمعناه لا بصورة النظم حتى لا يحرم على قوم لا يعقلون معناه. أو كان هذا عندهم اسمًا لضرب كرامة. كذا في "التقويم". (فأثبتنا الحكم بذلك المعنى بعينه في الأكل) والشرب. فإن قيل: سؤال الأعرابي في المواقعة وقع عن الهلاك والإهلاك، فكيف يثبت الحكم بالدلالة في الأكل وهاهنا الهلاك لا الإهلاك، فيحتمل أن يكون هذا الحكم مرتبًا على المجموع؟ قلنا: الحكم مرتب على الهلاك فقط، ولهذا لو جامع امرأته وهي مسافرة

غير صائمة أو ناسية تجب الكفارة عليه بالإجماع، وإن لم يوجد الإهلاك، فعلم أن وجوب الكفارة مرتب على الهلاك فقط؛ لأنه فوقه في الجناية، فإن دعاء الطبع إلى اقتضاء شهوة البطن أظهر منه إلى اقتضاء شهوة البطن عادة وهو النهر، فأما اقتضاء شهوة الفرج يكون بالليالي عادة، فكان الحكم ثابتًا بدلالة النص.

(ومن ذلك أن النبي عليه السلام قال "لا قود إلا بالسيف") لهذا الحديث معنيان: أحدهما- لا قود يستوفى إلا بالسيف. والثاني- لا قود يجب إلا بالسيف. إذ له طرفان: طرف الوجوب، وطرف الاستيفاء، فإن أريد به نفي الوجوب كان حجة لنا على الشافعي في مسألة الموالاة، وعلى أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- في القتل بالمثقل؛ لأنه قتل بغير السيف، ولا يجب فيه القصاص لظاهر هذا الحديث، وإن أريد به نفي الاستيفاء إلا بالسيف كان حجة لنا أيضًا على الشافعي وعليهما. أنه لما لم يستوفى إلا بالسيف لا يجب القصاص إلا به؛ لأن المماثلة شرط في ضمان العدوان ما أمكن، والقتل بالسيف لا يماثل القتل بسائر

الآلات؛ لأن القتل يحصل بالسيف صورة ومعنى وبسائر الآلات إذا لم يكن جارحًا معنى، وهذا الحكم مرتب على القتل المطلق وهو القتل من كل وجه. كذا في "مبسوط" المصنف. (وأراد به الضرب بالسيف) إلى آخره. تحقيق هذا أن الضرب بالسيف له صورة ومعنى مقصود وهو الجناية بالجرح وما يشبهه من نقض البنية، والحكم وهو الجزاء غير متعلق بالصورة بدليل وجوب القصاص بالضرب بالخنجر والسنان وغير ذلك، ولابد من رعاية المماثلة في الجزاء، فلو كانت الصورة داخلة لما وجب القصاص في غيره، فإذا صار المعنى هو المناط للحكم في المنصوص عليه يثبت هذا المعنى في غير المنصوص عليه بالمعنى الموجود في المنصوص عليه، إذ لو لم يثبت في غيره والمعنى بكماله موجود لكان تناقضًا، ولهذا لا يحتمل النص الخصوص؛ لأن معنى النص إذا وجد علة لا يتصور أن لا تكون علة ثم الحكم الثابت من هذا النص بدلالته القتل بالرمح والنشابة؛ لأن

لعبارة النص معنى معلومًا في اللغة، وذلك المعنى كامل في القتل بالرمح والنشابة، وقد عرفنا أن المراد بذكر السيف القتل به لا قبضه، وإنما السيف آلة يحصل به القتل، وإذا حصل بآلة أخرى مثل ذلك القتل تعلق حكم القصاص به بدلالة النص لا بالقياس. فإن قلت: لو كان الرمح أو النشابة مثلًا للسيف في القتل من كل وجه حتى وجب القصاص بكل منهما بدلالة النص لجاز استيفاء القصاص به أيضًا كما يجوز بالسيف، فكيف اعتبرت المثلية بينهما في سبب القصاص لا في استيفائه؟ قلت: إنما افترقا بسبب وجود زيادة التعذيب في القتل بالرمح على المقتول بالنسبة إلى القتل بالسيف، وذلك يصلح في الإلحاق بالسيف في السبب دون حكمة وهو الاستيفاء؛ لأن في السبب لزومًا لتعدية الحكم من الأدنى إلى العلى وذلك جائز في الحكم الثابت بدلالة النص كالضرب مع التأفيف، وأما الاستيفاء فلا يجوز؛ لأنه ليس لولي القصاص أن يستوفي زيادة على حقه لقوله تعالى: {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، وأما إذا كان القتل الأول بالرمح فاستيفاء القصاص بالسيف كان إسقاط للزيادة من حقه، وللولي إسقاطها لا استيفاؤها، فلذلك افترقا. وقوله: (وكان ثابتًا بذلك المعنى) أي وكان الحكم وهو الجزاء ثابتًا.

للمعنى الذي قلنا لا بصورة الفعل إنما البدن وسيلة إلى صيانة الحياة، فلا يدخل في الأمر المقصود؛ لأن الوسائل لا تزاحم الأصول في كونها مناطًا للحكم. فما يقوم بغير الوسيلة كان أكمل؛ لأنه يكون أشد في كونه قتلًا؛ لأن زهوق الروح في القتل بالسيف كان أسرع وجودًا من القتل بالمثقل، فإنه أبطأ وجودًا، فكان القتل بالمثقل أشد من هذا الوجه من القتل بالسيف، أو لأن القتل بالمثقل يكون قتلًا بغير واسطة لعدم احتمال البنية إياه، والقتل بالجرح لا يحتمل البنية بواسطة السراية، فإنه إذا ألقي على إنسان حجر الرحى لا يحتمله البنية بنفسها مع صفة سلامة البدن. وما كان عمله بدون الواسطة كان أكمل؛ فحينئذ كان ثبوت الحكم القصاص في القتل بالمثقل بدلالة النص كما في الضرب مع التأفيف.

(والجواب لأبي حنيفة- رضي الله عنه- عن هذا) أن يقول: لا شك أن الجناية في الموضعين كان أكثر جناية من الجناية في موضع واحد، فلذلك كان الكمال في نقض البنية بما يكون عملًا في الظاهر والباطن جميعًا، فعلى هذا اعتبار مجرد عدم احتمال لابنية إياه مع صفة سلامة البدن قضاء بمقابلته، والناقص لا يصلح أن يكون أصلًا ومناطًا للحكم فيما يندرئ بالشبهات، وإنما ثبتت به الأحكام التي تثبت بالشبهات كالدية والكفارة. والدليل على أن ما ينقض البنية ظاهرًا وباطنًا كامل بمقابلة الذي لا ينقض البنية ظاهرًا وإن كانت البنية لا تحتمله حكم حل الزكاة، فإنه يختص بما ينقض البنية ظاهرًا وباطنًا ولا يعتبر فيه مجرد عدم احتمال البنية إياه، (بل الكامل يجعل أصلًا ثم يتعدى حكمه إلى الناقص إن كان من جنس ما يثبت بالشبهات) كالمعاملات وغيرها. ألا ترى أن من حلف لا يبيع فباع بشرط الخيار أو باع بيعًا فاسدًا يحنث وإن كان الكامل في البياعات هو البيع البات الصحيح. ألا ترى أنهما لا يثبتان الملك للمشتري بمجرد البيع بل لسقوط الخيار في

شرط الخيار، ووجود القبض في البيع الفاسد، وكذلك حرمة المصاهرة تثبت في أصلها بالكامل وهو الجزئية والبعضية، ثم تعدي حكمه إلى الناقص، وهو التقبيل والمس بالشهوة وغير ذلك. (هو الكامل في النقض على مقابلة كمال الوجود) أي نقض البنية ظاهرًا وباطنًا هو الكامل في النقض استدلالًا على مقابلته من كمال وجود استيفاء القصاص يعني أن القصاص إنما يستوفى بما ينقض البنية ظاهرًا وباطنًا، فيجب أن يكون كمال سببه أيضًا شيئًا هو ناقض للبنية ظاهرًا وباطنًا لتحقق البقاء سواء بسواء. (والقصاص مقابل بذلك) لقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (ومعنى الإنسان بدمه وطبائعه) عند أهل الإسلام. إذ الإنسان عندهم إنسان بصورته ومعناه، (فلا تتكامل الجناية إلا بجرح يريق دمًا) وما ينقض الباطن والظاهر جميعًا. فأما القتل بدون نقض الظاهر فناقض فلا يتعدى الحكم إليه؛ لأن هذه

عقوبة تندرئ بالشبهات. وقوله: "فأما الجسم ففرع" لا يريد به أن البدن غير داخل في معنى الإنسان، وإنما أراد- والله أعلم- أن مجرد الجسم بدون الطبائع بمنزلة الفرع. وأما الروح فلا يقبل الجناية؛ لأنه غير محسوس، وليس بمعنى مكانه حتى يتصور القصد إليه بالجناية، ومعنى الإنسان خلقه بدمه وطبائعه لما عرف أن الإنسان إنسان بصورته ومعناه لا بمعناه دون صورته كما ذهب إليه الفلاسفة. كذا ذكره الإمام بدر الدين الكردري- رحمه الله- وأراد بالطبائع الطبائع الأربع وهي: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة؛ فلا تتكامل الجناية على معنى الإنسان الذي هو عبارة عنها لا يخرج بذلك دمًا، فإذا أراد دمه على وجه أثر ذلك في الظاهر والباطن كان قصدًا منه على إهلاك معنى الإنسان وكان موجبًا للقصاص، وإنما ذكر القصد؛ لأن القصاص لا يجب بدون القصد إلى إهلاكه وإن أراق دمه حتى هلك. وإنما شرطنا هذا المجموع وهو إراقة الدم بالجرح على وجه يفضي إلى الهلاك والقصد فيه لكي يكون هذا القتل مثلًا للقتل الذي يستوفى به القصاص، فإن هذا المجموع شرط فيه بالاتفاق، فيجب أن يكون في القتل الذي هو سببه أيضًا شرطًا حتى يحصل التماثل بينهما لما أن النص ورد به

وهو قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. (لأنه في الحرمة فوقه) لما أن هذا الفعل وهو اللواطة في هذا المحل لا يتصور حله ولا ينكشف حرمته بكاشف أصلًا، وفعل الوطء في المرأة يتصور حله بالنكاح وملك اليمين، (وفي سفح الماء فوقه)؛ لأنه يضيع الماء على وجه لا يتخلق منه الولد (وفي الشهوة مثله)، وبهذا القيد يقع الاحتراز عن وطء البهيمة، وإنما قلنا: أنه مثل الزنا في الشهوة؛ لأن اشتهاء المحل في حق هذا الفعل لمعنى الحرارة واللين وهو موجود فيه. ألا ترى أن الذين لا يعرفون الشرع لا يفصلون بينهما، بل يرجحون ذلك على الزنا في الشهوة كما أخبر الله تعالى عن قول قوم لوط بقوله: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}. قال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: (الكامل أصل في كل باب، والكامل في سفح الماء الزنا) لا اللواطة؛ لأن المعنى من سفح الماء هو إهلاك البشر؛ لأن ولد الزنا هالك من وجه لعدم من ينفقه ويريبه، فكان الزنا بمعنى القتل من

هذا الوجه، ولهذا إذا أكره الرجل على الزنا بالقتل لا يرخص له الإقدام على ذلك، فإذا أقدم عليه أثم؛ لأن فيه معنى القتل كما لو أكره على قتل رجل آخر بالقتل لا يرخص له الإقدام لما ذكرنا ولهذا إذا أكرهت المرأة على الزنا بالقتل يرخص لها وإن كان الامتناع أفضل؛ لأن زناها ليس في معنى القتل؛ لأن نسب الولد يثبت منها وكان سفح الماء في اللواطة أنقص من هذا الوجه. (وأما تضييع الماء فقاصر؛ لأنه قد يحصل بالعزل) ومن حيث إفساد الفراش أيضًا الزنا كامل واللواطة قاصرة؛ لأنه لا يتصور أن يكون المفعول فراشًا. (وكذلك الزنا أيضًا كامل بحاله؛ لأنه يغلب وجوده لوجود الشهوة الداعية إلى الزنا من الطرفين ففسد الاستدلال بالكامل على القاصر)؛ لأن

وجوب الحد في الزنا هو كامل لم يدل على وجوب الحد في اللواطة التي هي قاصرة؛ لأن من شرط إثبات الحكم بدلالة النص كون المحل الذي هو غير منصوص أكمل من المحل المنصوص كما في الضرب بالنسبة إلى التأفيف، أو كانا متماثلين من كل وجه كما في زنا ماعز، وزنا غيره من المحصنين، وهاهنا المتنازع فيه ناقص والزنا كامل، فلا يمكن فيه القول بثبوت الحد بالاستدلال على حكم الحد في الزنا؛ لأنه لا مساواة بينهما فلا يثبت الحد فيه بدلالة النص. (لأن الخطأ عذر مسقط حقوق الله تعالى) أي الحقوق التي هي متعلقة

بأحكام الآخرة بالاتفاق. (في اليمين المعقودة) أي المنعقدة إذا صارت كاذبة، أي إذا حنث لقيام معنى النص وهو صيرورته كاذبًا وزيادة، وهو كونه كاذبًا من الأصل. (لا تخلو الكفارة عن معنى العبادة العقوبة). أما معنى العبادة فلأنها تؤدى بما هو طاعة وهو الصوم وتشترط النية وتجب مع الشبهات، أو لأنه لما جنى لم يكن بد من أن يفعل طاعة بعده لتكون ساترة وماحية لتلك الجناية، قال عليه السلام: "أتبع السيئة الحسنة تمحها". وأما معنى العقوبة فلأنها وجبت جزاء زجرًا بمقابلة جنايته، ولهذا لم تجب

بالمباح المحض، ولما كانت بين العبادة والعقوبة لم يكن ب من أن يكون سببها أيضا دائرًا بين الحظر والإباحة لتكون جهة العبادة مضافة إلى جهة الإباحة؛ لأن سبب العبادة هو الشيء الذي لا حظر فيه، وجهة العقوبة مضافة إلى جهة الحظر؛ لأن المحظور المحض يصلح سببًا للعقوبة أبدًا كما في الحدود والقصاص، وإنما يفعل هكذا ليكون الأثر على وفاق المؤثر، فاعتبر هذا بالأحكام التي ثبتت بالنص القطعي والخبر المشهور وخبر الواحد والقياس. (فلا تجب إلا بسبب دائر بين الحظر والإباحة)، وهذا لأن المسبب يجب أن يكون مناسبًا للسبب، والعبادة المحضة لا تصلح أن تكون أثرًا للجناية؛ لأن الجناية تستدعي كون الجزاء عقوبة وهذا أولى. والمباح المحض لا يصلح أن يكون سببًا لوجوب الكفارة مع كون العبادة فيها راجحة، وإن المباح يحتمل أن يصير سببًا لوجوب العبادة كملك نصاب كامل، فلأن لا تكون الجناية المحضة سببًا لوجوب الكفارة مع كون العبادة فيها راجحة أولى. (واليمين عقد مشروع). أما عقد فلأنه ربط جزء الكلام بجزئه الآخر لإثبات حكم مطلوب.

وأما مشروع فلقوله عليه السلام: "من كان منكم حالفًا فليحلف بالله أو ليذر". (والكذب غير مشروع) وهو الحنث في اليمين إنما صارت سببًا للكفارة عند الحنث. فعلم أن سبب الكفارة دائر بين الحظر وهو الحنث وبين الإباحة وهي اليمين. وأما الخطأ فدائر بين الوصفين؛ أعني الحظ وهو ترك التثبت والتأمل في الرمي وبين الإباحة وهي مشروعية نفس الرمي والاصطياد، فيصلح أن يكون سببًا لوجوب الكفارة لاشتماله على الحظر والإباحة. فإن قيل: يشكل على هذا كفارة الظهار والفطر، فإن كلًا من الظهار والفطر العمد محظور محض ليس فيهما شائبة الإباحة، ومع ذلك وجبت فيهما الكفارة؟

قلت: لا بل فيهما أيضًا معنى الإباحة موجود. أما في الظهار فإن علماءنا- رحمهم الله- لم يوجبوا الكفرة بمجرد قوله لامرأته: أنت علي كظهر أمي؛ لأن ذلك منكر من القول وزور، وهو بانفراد ليس بسبب لها، وإنما سببها ما تردد بين الحظر الإباحة، وذلك إنما يتحقق بالعزم على الجماع الذي هو إمساك بالمعروف، وهو الأمر المباح كما في اليمين باجتماع اليمين مع الحنث يتحقق سبب الكفارة، غير أن هناك ما هو المحظور متأخر عن الإباحة وفي الظهار على العكس. وأما في كفارة الفطر فإن العمد للفطر وإن كان محظورًا محضًا لكن إطلاق قوله تعالى: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا} أو إطلاق إباحة الوقاع في أصله أورث شبهة الإباحة بالنظر إلى أصل هذه الأشياء، فإن هذه الأفعال في أصولها مباحة، فكان فيها أيضًا اجتماع الحظر والإباحة، ولكن مع ذلك لما كانت جهة العمدية راجحة فيها كانت جهة العقوبة راجحة أيضًا حتى سقطت بالشبهة، وتداخلت الكفارتان بخلاف سائر الكفارات على ما يجيء بيانها إن شاء الله تعالى في باب معرفة الأسباب والعلل. وقوله: (ولا يلزم) جواب إشكال يعني لو قال الشافعي- رحمه الله- قد قلتم: إن الكبيرة لا تصلح سببًا للكفارة ومع ذلك أوجبتم الكفارة في القتل العمد بالحجر العظيم وهو كبيرة؟

فقال في جوابه: "ولا يلزم ... " إلى آخره. (لأن فيه شبهة الخطأ) أي في القتل بالحجر وما أشبهه شبة الخطأ من حيث استعمال الآلة التي لم توضع للجرح والقتل، والآلة وضعت لتتميم القدرة الناقصة، فكانت الآلة داخلة في فعل العبد، فتمكنت الشبهة في الفعل، فلا يجب القصاص، إذ هو مما يسقط بالشبهات وتجب الكفارة إذ هي مما يحتاج في إثباتها وهو معنى قوله في الكتاب: "فعمت القود والكفارة" أي القود بالإسقاط والكفارة بالإيجاب. (فتثبت بشبهة السبب) أي لأن في الكفارة جهة العبادة فتثبت العبادة بالشبهة، فكذلك هاهنا تثبت الكفارة بشبهة سبب الخطأ كما تثبت بحقيقة سبب الخطأ. (أحكام القرآن) اسم كتاب للجصاص. (وقد جعله في الكتاب شبهة العمد) أي وقد جعل القتل بالحجر العظيم في "المبسوط" شبهة العمد، فكان نصًا على الكفارة؛ لأن التنصيص على أنه شبهة العمد تنصيص على وجوب الكفارة باعتبار أن موجب شبهة

العمد ذلك أي وجوب الدية على العاقلة، ووجوب الكفارة على القاتل. ألا ترى أن من أشرع في طريق روشنا أو ميزابًا فسقط وهلك به إنسان، أو حفر بئرًا على قارعة الطريق أو وضع حجرًا فيها فهلك به إنسان كانت الدية على العاقلة ولا تجب على مباشرة الكفارة، وإنما جعلنا القصور في الآلة شبهة في الفعل دون المحل؛ لأن الفعل ينشأ من القدرة والآلة متممة للفعل، فكانت الآلة من القدرة، فكانت من جنس الفعل معنى، فكيف أن تكون الشبهة فيها شبهة في الفعل كذلك. وأما المحل فشرط الفعل وكان غير الفعل لا محالة، فلم تكن الشبهة في شرط الفعل مؤثرة في الفعل، فلذلك لم تجب الكفارة لشبهة في المحل. (وإذا قتل مسلم حربيًا مستأمنًا عمدًا لم تلزمه الكفارة مع قيام الشبهة) حتى أثرت تلك الشبهة في وجوب القصاص؛ حيث لم يجب القصاص بقتل المستأمن، يعني لما تحققت الشبهة في القتل بالحجر العظيم حتى وجبت الكفارة، ولم يجب القصاص كان ينبغي أن تجب الكفارة في قتل المستأمن

عمدًا؛ لأن في قتله أيضًا تحققت الشبهة حتى لا يجب القصاص بقتله، وإن كان قتله أيضًا محظورًا كما في القتل بالحجر العظيم، والحكم أنه لا تجب الكفارة بقتل المستأمن. وأجاب عنه بقوله: (لأن الشبهة في محل الفعل)، وتحقيق الجواب هو أن الشبهة في قتل المستأمن في المحل لا في الفعل؛ إذ الفعل عمد محض، فكان معصية محضًا، والكفارة جزاء الفعل الذي هو دائر بين الحظر والإباحة، فلذلك لم يصلح أن يكون هذا الفعل سببًا للكفارة، فكان هذا نظير قتل الأب ابنه بالسيف عمدًا. وأما عدم وجوب القصاص فيه لا باعتبار شبهة في عله بل باعتبار شبهة في المحل، لأن المستأمن وإن كان حرام التعرض في دار الإسلام وهو في دار الحرب في التقدير حتى يرث هو من أهل الحرب، ولا يستدام سكناه في دار الإسلام، ولا يرث من الذمي وإن كانا في دار الإسلام، ولما كان كذلك لم تقع المماثلة بينه وبين المسلم والذمي، فلذلك لم يجب القصاص؛ لأن القصاص إنما يجب على المسلم والذمي لأجل من هو محصون الدم على التأبيد كالمسلم والذمي؛ لأن القصاص مبني عن المماثلة لغة. ولهذا يجب القصاص على المستأمن بقتل المستأمن لوجود المماثلة بينهما، وإنما قلنا: إن الكفارة جزاء الفعل؛ لأنها واجبة لله تعالى علينا زجرًا على المباشر، فكانت هي جزاء الفعل المحظور من وجه، ولا تجب بإزاء المحل؛ لأن الواجب بإزاء المحل إنما يجب جبرًا بما يجب جبرانًا، والله تعالى يتعالى عن النقصان والجبران فتجب جزاءً للفعل له كسائر الأجزية الواجبة

بإزاء الفعل من نحو الحدود والزنا والسرقة. (فاعتبرت في القود) أي الشبهة التي كانت في محل الفعل وهي شبهة حل القتل اعتبرت في إسقاط القود؛ (لأنه مقابل) أي لأن القود مقابل بالمحل. ألا ترى أن وجوب القصاص ينافي الدية، والدية بدل المحل، فلو لم يكن القصاص مقابلًا بالمحل لما نافى في الدية؛ لأن اتحاد المحل من شرط المنافاة. ألا ترى أن المحرم إذا قتل صيدًا مملوكًا لإنسان يجب عليه جزاء الإحرام، ويجب عليه قيمة المقتول، إذ لا تنافي بينهما؛ لأن أحدهما- وهو الكفارة- جزاء الفعل المحض دون المحل بوجه، والقيمة بدل المحل من كل وجه، فلم يتنافيا فلو لم يكن القصاص مقابلًا بالمحل بوجه من الوجوه لأمكن وجوب القصاص والدية جميعًا. قوله: (من وجه) قيد به؛ لأن القصاص جزاء الفعل في الحقيقة؛ لأنه جزاء القتل، ولهذا يتعدد بتعدد الفاعل، فإن ألف رجل إذا قتلوا رجلًا عمدًا يجب على كل واحد منهم القصاص، ولو كان مقابلًا بالمحل لوجب قصاص واحد كما قلنا في عشرة رجال وهم حلال صيد الحرام يجب جزاء واحد إذ هو بدل المحل، وبيان كونه مقابلًا بالمحل من وجه أن يعتبر في عصمة المحل، ولا يجتمع مع الدم.

وقوله: (ولهذا قلنا إن سجود السهو متصل) بقوله: "فلا يجب إلا بسبب دائر بين الحظر والإباحة". (ولم يصلح أن يكون السهو دليلًا على العمد) أي دلالة لما قلنا أي وجوب الكفارة في القتل الخطأ دون القتل العمد، (فوجب به الكفارة على المرأة استدلالًا به)؛ لأنه لما وجبت الكفارة على الرجل بسبب جنايته على الصوم باختياره وجبت على المرأة أيضًا لوجود هذه العلة في حقها بتمامه؛ لأنها جنت على صومها بالتمكين من المواقعة معها باختيارها. [اقتضاء النص] (وأما المقتضى) فما كان غير مذكور حقيقة (يثبت شرطًا لصحة) المذكور، والنص المذكور يسمى مقتضيًا؛ لأنه يقتضي ذلك، والمقتضى إنما يثبت إذا صلح تبعًا للمقتضي إذ هو شرطه. فأما إذا كان أصلًا له فلا يثبت بطريق الاقتضاء؛ إذ فيه جعل الأصل تبعًا، وهذا لا يجوز كما قال أصحابنا: إن الكفار لا يخاطبون بالشرائع ولا يقال

بأنهم مخاطبون بالصلاة وغيرها من الشرائع بشرط نقص الإيمان اقتضاء؛ لأن الإيمان أصل الشرائع، فلا يجوز أن يثبت الإيمان تبعًا للشرائع، وكذلك إذا وجبت الكفارة على عبد وقال له مولاه: كفر بهذا العبد عن يمينك لا يثبت الإعتاق بهذا بطريق الاقتضاء؛ لأن الأهلية للإعتاق أصل فلا يثبت بطريق الاقتضاء. (وقال الشافعي- رحمه الله فيه بالعموم) ونظير ذلك ما ذكره بعد

هذا بصفحة بقوله: ومثال خلاف الشافعي إن أكلت فعبدي حر إلى آخره. (فيبقى على أصله) أي على أصل العدم (فيما وراء صحة المذكور)؛ لأن ذلك ثابت لحاجة السامع في تصحيح المقتضي المذكور إلى إثبات المقتضى الذي هو غير مذكور، والثابت بالحاجة يتقدر بقدرها، ولا حاجة إلى إثبات صفة العموم للمقتضى، فإن الكلام فيد بدونه وهو نظير تناول الميتة لما أبيح للحاجة تقدر بقدرها وهو سد الرمق، وفيما وراء ذلك من الحمل والتمول والتناول إلى الشبع لا يثبت حكم الإباحة فيها بخلاف المنصوص، فإنه عامل بنفسه فيكون بمنزلة حل الذكية يظهر في حكم التناول إلى الشبع وغيره مطلقًا. وقوله: (وشرطا) معطوفًا على مقتضى العتق من حيث المعنى، أي يتضمن البيع اقتضاء للعتق، وشرطًا له على أنه مفعول له. (حتى يثبت بشروط العتق) يعني أن البيع يثبت اقتضاء للآمر بالإعتاق عنه بألف لا يثبت بنفسه بل يعطى له حكم ذلك الشيء.

ألا ترى أن محل الإقامة شرط لصحة الإقامة قصدًا حتى لا تصح في المفازة، ولو ثبتت الإقامة ضمنًا يشترط محل الإقامة للمتضمن كالجندي يصير مقيمًا في المفازة بدخول الإمام في المصر فاعتبر في البيع شرط الأصل، فكذلك هاهنا يثبت بشرط العتق حتى لا يشترط فيه ما يشترط في البيع القصدي من القبول وغيره، وكذلك لو كان الآمر ممن لا يملك الإعتاق كالصبي لم يثبت البيع بهذا الكلام ولو صرح المأمور بأن قال: بعته منك بألف وأعتقته لم يجز عن الآمر؛ لأنه لم يقع هذا جوابًا لكلامه، بل كان ابتداء، ووقع العتق عن نفسه؛ لأن الآمر ما أمره ببيع مقصود، وإنما أمره ببيع ثابت ضرورة العتق، فإذا أتى به مقصودًا لم يأت بالذي أمره فوقع عنه ولم يقع عن الآمر. وكذلك من قال لامرأته: حجي ونوى الطلاق لم يصح، وإن اقتضى الحج ذهابًا؛ لأنه اقتضاه ضرورة أن الحج لا يتصور إلا بذهاب، وثبت ذهاب لتصحيح الحج لا ذهاب مطلق، وذهاب الحج لا يحتمل معنى الطلاق. (ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله-) أيضًا لقوله: "حتى يثبت بشروط العتق" الذي هو المقتضي لا بشروط الهبة التي هي المقتضى.

(والاستغناء عن القبض وهو شرط أولى)؛ لأن رتبة الركن أقوى من رتبة الشرط؛ لأن الركن يتوقف عليه وجود الشيء، والشرط يتوقف عليه وجود الشيء، والشرط يتوقف عليه جواز الشيء، فكان وجود الماهية بالركن ولا مدخل للشرط في الماهية. (والبيع الفاسد مثل الهبة) في حق اشتراط القبض في ثبوت الملك. لأن (رقبة العبد بحكم العتق يتلف على ملك المولى)؛ لأن الإعتاق للملك، فملكه يتلف بإعتاقه فيكون تالفًا على ملكه (ورقة العبد غير مقبوض للطالب ولا للعبد ولا هو محتمل للقبض)؛ لأنه تالف، ولا يتصور القبض في التالف، فلا يمكن القول بجعل العبد قابضًا بطريق النيابة عن الآمر بخلاف ما إذا قال: أطعم عن كفارتي فأطعم المأمور، فإنه يجوز، فيثبت الملك للآمر، وإن لم يقبض؛ لأنه أمكن القول بجعل الفقير نائبًا عن الآمر في

القبض لكون الطعام قائمًا، فجعل الفقير نائبًا عن الآمر تصحيحًا للأمر بالإطعام. أما هاهنا فبخلافه؛ لأن المالية هالكة تالفة في يد نفسه يحتمل أن تكون الكناية راجعة إلى المولى؛ لأن العبد في يد المولى، فتكون مالية رقبته في يد المولى ضرورة، ويحتمل أن تكون راجعة إلى العبد؛ لأنه مال وهو في يد نفسه حسًا، وكذلك للعبد يد شرعًا، فلهذا يصح اشتراط العمل لعبد رب المال في المضاربة ويستحق قسطًا في الربح، ولو لم يكن للعبد بدل كان هذا اشتراط العمل لرب المال وهو لا يجوز. ألا ترى أن العبد إذا أودع شيئًا ليس للمولى أن يسترد ما أودعه من يد المودع. (لأن ثبوت المقتضى بهذا الطريق) وهو السقوط. (ودليل السقوط) وهو كونه ثابتًا في ضمن الإعتاق (يعمل في محله) أي محل السقوط. معناه أن القبض والتسليم في الهبة لا يحتمل السقوط فلم يكن القبض محتملًا للسقوط فلم ينتصب الدليل على سقوطه؛ لأن سقوطه لو كان بطريق الاقتضاء- والاقتضاء أمر شرعي- فيجب أن يكون سقوطه في الشرع جائزًا في الجملة، حتى يقال بالسقوط بطريق الاقتضاء وليس كذلك،

فلم يمكن ثبوت السقوط بطريق الاقتضاء بخلاف القبول على ما ذكر في المتن. (ولم يتكلم؛ صح) يعني كان البيع بينهما تامًا من غير ذكر القبول. (ولهذا كان رجعيًا)، وكذلك يقع به الطلاق على المعتدة من طلاق بائن، ولو كان وقوع الطلاق به بائنًا لما وقع به الطلاق لما أن البائن لا يلحق البائن، وهذا كله على أن وقوع الطلاق بقوله: اعتدي بطريق الاقتضاء لا بطريق الكناية. فإن قلت: لو كان وقوع الطلاق بقوله: "اعتدى" بطريق الاقتضاء لما وقع الطلاق به في هذه الصورة، وهي ما إذا قال للمعتدة: "اعتدي" لأن للمقتضي هاهنا- وهو قوله: اعتدي- صحة بدون المقتضى وهو طلقتك؛ لأن ثبوت المقتضى كان لضرورة تصحيح المقتضى المذكور قبله وإلا فلا يثبت. قلت: إنما وقع الطلاق بقوله: اعتدي؛ لأن موجب الأمر هو وجوب الاعتداد الذي وقع وجوبه مضافًا إلى الأمر بالاعتداد، وليس ذلك إلا أن وقع به الطلاق الثاني بمقتضى الأمر بالاعتداد، وإلا كان الاعتداد عليها قبل هذا الأمر كان واجبًا بطلاقه قبله، فلابد لقوله: "اعتدي" من فائدة جديدة وهي

وقوع الطلاق به اقتضاء (ونوى خصوص الطعام والشراب لم يصدق عندنا) وعند الشافعي يصدق وقال: لأن الأكل في قوله: "إن أكلت" يقتضي مأكولًا، وذلك كالمنصوص عليه، فكأنه قال: إن أكلت طعامًا، ولما كان للمقتضى عموم على قوله عمل فيه نية التخصيص، وعندنا لا تعمل؛ لأنه لا عموم للمقتضى، ونية التخصيص فيما لا عموم له لغو، بخلاف ما لو قال: إن أكلت طعامًا، وكذلك لو قال: إن اشتريت، أو قال: إن لبست، أو قال: إن ركبت. وعلى هذا لو قال: إن اغتسلت الليلة- ونوى الاغتسال من الجنابة- لم تعمل نيته. بخلاف ما لو قال: "إن اغتسلت غسلًا" فإن هناك نيته تعمل فيما بينه وبين الله تعالى. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله تعالى- في "أصول الفقه".

(أو إن اغتسلت غسلًا) يعني يصدق إذا نوى تخصيص الأسباب؛ لأن الغسل اسم لفعل وضع من قبل الأسباب وهو نكرة في موضع النفي، فيصير عامًا، وإذا نوى سببًا دون سبب صدق ديانة. (لعدم الشبهة) يعني لا شبهة أن السؤال عن الأهل لا عن القرية فصح الحذف؛ إذ الحذف إنما يجوز في مثل هذا؛ أي فيما إذا لم يكن فيه شبهة لثبوت ذلك المحذوف. وأما إذا كان فيه شبهة فلا يصح كما قالت المعتزلة في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي إلى ثواب ربها. قلنا: لا يصح هذا الإضمار للشبهة، فإنه لو صح إضمار ذلك يصح إضمار النعمة وغيرها. (والمقتضى لتحقيق المقتضي لا لنقله)؛ لن المقتضى إنما يثبت ليصح

المقتضي، فكيف يبطل وينقل عما أريد به لصحة المقتضي؟ وهذا نقض الأصول؛ إذ لو لم يصح المقتضي المذكور عند وجود المقتضى كان وجود المقتضى لإبطاله لا لتصحيحه، وهو باطل. (فلم يسقط عموم هذا الحديث من قبل الاقتضاء) قيد بهذا احترازًا عن قول القاضي الإمام أبي زيد- رحمه الله- فإنه جعل سقوط عموم هذا الحديث من قبل الاقتضاء، والمصنف والإمام شمس الأئمة- رحمهم الله- لم يجعلاه من قبيل المقتضى، والإمام شمس الأئمة حاكيًا قول القاضي في قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" ليس المراد عين العمل، فإن ذلك يتحقق بدون النية، وإنما المراد الحكم ثبت كذلك بمقتضى الكلام. فقال الشافعي- رحمه الله-: يعم ذلك حكم الدنيا والآخرة فيما يستدعي القصد، والعزيمة من الأعمال قولًا بعموم المقتضى، وقلنا: المراد به حكم الآخرة وهو أن ثواب العمل بحسب النية؛ لأن ثبوته بطريق الاقتضاء ولا عموم للمقتضى. إلى هذا حكى شمس الأئمة نقل قول القاضي أبي زيد- رحمه الله- بهذا الطريق، ثم قال شمس الأئمة- رحمه الله-: وعندي أن هذا

سهو من قائله، فإن المحذوف غير المقتضى لما أن ثبوت المحذوف يكون لغة وثبوت المقتضى يكون شرعًا لا لغة، ففي قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" إنما لم يثبت العموم هنا؛ لأن المحذوف وهو الحكم بمنزلة المشترك في أنه يحتمل كل واحد من الأمرين على الانفراد، ولا عموم للمشترك. فأما أن يجعل المحذوف ثابتًا بمقتضى الكلام فلا، وهكذا أيضًا ذكر الكلام في قوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ" فإن عند التصريح بالحكم يتحول الرفع إلى الحكم لا إلى ما وقع التنصيص عليه مع المحذوف. وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لقوله: "فأما الاقتضاء فأمر شرعي ضروري" مثل تحليل الميتة بالضرورة. وحاصله أن قوله: (أنت طالق) وصف للمرأة بالطلاق، وصفة الطالقية

غير قائمة لها، وكان هذا الوصف في أصله من حيث اللغة لغوًا وكذبًا، كقوله: أنت جالس لرجل هو قائم، وأنت مريضة لامرأة وهي صحيحة؛ لما عرف أن فعل البيان هو الإخبار والإظهار لا الإنشاء، كما أن فعل سائر الجوارح هو الإنشاء لا الإظهار والإخبار، وإذا كان كذلك كان أنت طالق إخبارًا لغة لا إنشاء أمر لم يكن في المحل كقوله: أنت عالم، هو إخبار لا إنشاء علم في المحل حتى لا يثبت العلم في المحل بهذا اللفظ، وإن قال ذلك مرارًا، فعلى هذا كان قوله: أنت طالق كذبا لغة أنه لم يطلقها قبل، فكان ثبوت الطلاق بهذا اللفظ- الذي لو خلى هو واللغة يكون كذبًا وهدرًا- شرعًا لا لغة، فكان ثابتًا اقتضاء لا لغة؛ لأن ثبوت الطلاق قبيل هذا القول لتصحيح هذا القول، فيثبت بقدر الضرورة وهو تصحيح المنطوق، وإنها تندفع بواحد، فلم تصح نية الثلاث. وكذلك هذا التخريج في: طلقت؛ لأنه لغة إخبار عن فعل موجود فيما مضى ولم يطلق قبل فكان من طريق اللغة هدرًا وكذبًا كما في قوله: "ضربت" إذا لم يسبق منه الضرب ليكون هذا القول بناء عليه، فأما إذا ثبت المصدر بهذا اللفظ ليصح هذا القول من غير وجود في الماضي يكون اقتضاء شرعيًا لا لغويًا، فيكون ثابتًا بطريق الضرورة، ولا ضرورة في الثلاث، فلا يثبت به الثلاث. فإن قيل: والضرورة إنما تتحقق في قوله: "أنت" أن لو بقي إخبارًا؛ لأن الإخبار به إنما يكون أن لو كانت المرأة موصوفة قبل هذا بالطالقة، ولم تكن

مطلقة قبل هذا حتى يصح الإخبار به. وأما إذا كان هو الإنشاء لم تثبت هذه الضرورة، ولم يكن اقتضاء موجب أن تصح نية الثلاث. قلنا: ففي الإنشاء أيضًا لا تثبت نية الثلاث؛ لأن الإنشاء بمنزلة فعل الجوارح، وفعل الجوارح إذا كان واحدًا لايكون متعددًا حتى إن ضربة واحدة لا تكون ضربات بالنية، فكذا هنا. أو نقول: هاهنا حقيقة الإخبارية باقية مع كونه إنشاء، بل الإخبار فيه هو الأصل حتى أنه إذا كان للرجل امرأتان إحداهما مطلقة والثانية منكوحة فقال: إحداكما طالق لا تطلق المنكوحة لانصراف خبره إلى المطلقة. (أما البائن) فإنه في الحال يتصل بالمحل، وعند اتصاله بالمحل يتنوع إلى خفيفة وغليظة، فكان متنوعًا في نفسه، فلذلك صار محلًا للنية إذ هي تعين تفسير بعض محتملات اللفظ فيصح. أما قوله: "أنت طالق" فإنه في الحال غير متصل بالمحل لما عرف أن حكمه تعلق بانقضاء العدة، وإنه في الحال انعقاد العلة وإنه غير متنوع؛ لأنه لا يتنوع في الانعقاد؛ لأن الحرمة الغليظة إنما تثبت بواسطة العدد، وإنه خارج عن نفس الطلاق أو هو غير متنوع في نفسه كما تنوع البائن إلى غليظة وخفيفة،

فلم تصادف النية المتنوع في فصل الطلاق فصادفت في فصل البائن، فكذلك عملت النية في قوله: "أنت بائن" دون قوله: "أنت طالق" وقوله: لم يكن المصدر هاهنا ثابتًا لغة؛ لأن النعت يدل على المصدر الثابت بالموصوف لغة ليصير الوصف من المتكلم بناء عليه، فأما أن يصير الوصف ثابتًا بالواصف بحقيقته تصحيحًا لوصفه فأمر شرعي. تحقيق هذا ما ذكره المصنف في "مبسوطه" هو أن قوله: "أنت طالق" وصف لها فيقتضي وجود الطلاق من قبلها لا من قبل الزوج لغة كقولك: خارج يقتضي وجود الخروج من قبل من وصف بأنه خارج. وقوله: "ضارب" يقتضي وجود الضرب ممن وصف بأنه ضارب. هذا هو قضية اللغة وهاهنا هذا اللفظ يقتضي وجود الطلاق من قبل الزوج. دل أن وجود الطلاق من قبله أمر شرعي ضرورة صحة الكلام، فيقدر بقدر ما يصح به الكلام، وكذلك قوله: "طالق" إخبار عن وصف لها لغة فيقتضي طلاقًا ماضيًا لا حالًا كقوله: "مطلقة"، وطلقتك" على ما بينا. فصار الحاصل أن كل موضع كان الطلاق فيه مقتضى اللفظ لغة على الطلاق مذكورًا حتى تصح نية الثلاث كما في قوله: "طلقي نفسك" بعلة أنه كل لا يعله أنه يحتمل العدد، وفي كل موضع يثبت شرعًا ضرورة صحة الكلام لا يقتضي العلة لا يجعل كالمذكور، فلا تعمل النية فيه بل يثبت بقدر ما يصح به الكلام كما في قوله: أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك. وقوله:

"بالواصف" أي بكلام الواصف، فكان شرعيًا، ولما كان أمرًا شرعيًا لم يكن المذكور لغة فلا يصح التعميم. (وأما طالق فلا يتصل بالمرأة للحال). ألا ترى أنه يجري الإرث بينهما والإرث حكم من أحكام النكاح، ولذلك يحل له مسها ووطؤها ويمكن من مراجعتها على كره منها، ولو انقطع النكاح لما تمكن من مراجعتها كما في الطلاق البائن؛ (لأن حكمه) وهو الانقطاع (في الملك تعلق بالشرط) وهو انقضاء العدة (وحكمه في الحل معلق بكمال العدد) وهو الثلاث، (فيصير العدد أصلًا)، وما كان ثبوته بطريق الأصالة لا يثبت هو بطريق الاقتضاء؛ لأن في الاقتضاء معنى التبعية؛ وإنما ثبت العدد عند الذكر ولم يذكر العدد فلا يثبت موجب العدد لذلك. (فكان مختصرًا من الكلام) أي من الكلام المطول وهو قوله لها: أطلب منك فعل الطلاق، وهو المطول المصدر مذكور لغة فكان مذكورًا في المختصر أيضًا؛ لأنه يعمل عمل المطول على نحو سائر الأفعال كقولك: اضرب واجلس وغيرهما، وستقيم طلب الفعل المتعدد والمتوحد في المستقبل، فكان

المصدر ثابتًا لغة (فاحتمل الكل والأقل). وأما وقوع الطلاق في قوله: "طلقت" فشرعي؛ لأنه لم يوجد منه طلاق قبله حتى يخبر عنه، بل كان قوله: "طلقت" إنشاء للطلاق شرعًا كسائر أفعال الجوارح، والفعل حال وجوده يستحيل أن يتعدد بالعزيمة كالخطوة والضربة يستحيل أن تكون خطوتين وضربتين بالنية، فكذلك لم تصح نية الثلاث في قوله: "طلقت" أو نقول: لما كان قوله: "طلقت" إنشاء شرعًا صار بمنزلة سائر الجوارح من الأفعال، وفي أفعال سائر الجوارح لا يقدر المصدر؛ لأن المصدر إنما يذكر في فعل اللسان وهو القول لا في أفعال الجوارح. ألا ترى أنه إذا كسر شيئًا بيده مثلًا لا يقدر له المصدر بل إذا أخبر عنه بقوله: كسر أو كسرت، حينئذ يقدر المصدر فيه لكونه في القول. (ونوى السكنى في بيت واحد) أي غير معين (أنه يصح). (لكن نية جمل البيوت تصح) أي نية بيت غير معين تصح. من أجمل

الكلام إذا أبهم، والجمل جمع الجملة. (لأنه راجع إلى تكميل فعل المساكنة) أي نية المساكنة معه في بيت واحد إنما تصح؛ لأنه نوى أتم ما يكون من المساكنة، فإن أعم ما يكون من المساكنة في بلدة، والمطلق من المساكنة في عرف الناس في دار واحدة، وأتما ما يكون من المساكنة في بيت واحد في هذه النية ترجع إلى بيان نوع المساكنة الثابتة بصيغة كلامه بخلاف تعين المكان. وقوله: (لكن اليمين وقعت على الدار وهو قاصر عادة) لدفع شبهة ترد على قوله: "وإنما تتحقق بين الاثنين على الكمال إذا جمعهما بيت واحد" وهي أن يقال: لما كانت المساكنة في البيت الواحد كاملة ينبغي أن تقع اليمين عليها بدون النية، فأجاب عنها بهذا وقال: وإن كان ذلك كذلك إلا أنه يقع على الدار أيضًا عرفًا وعادة. (ولا يلزم عليه رجل قال لصغير) إلى آخره أي لا يلزم على ما ذكرنا أي ما ثبت بطريق الاقتضاء ليس بعام هذه المسألة (وهي أم معروفة) أي لهذا الولد.

(لكن المقتضى) وهو النكاح (غير متنوع) أي إلى نكاح يوجب الإرث وإلى نكاح لا يوجب الإرث بل كل نكاح يوجب الإرث على ما عليه الأصل بقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الآية، ولا يشكل على هذا نكاح المسلم الكتابية، فإنه نكاح لا يوجب الإرث. قلنا: إن ذلك ليس بأصل؛ لأن الكفر من العوارض، والعوارض لا تدخل تحت القواعد، ولما كان هكذا كان إثبات نكاح يوجب الإرث هاهنا بمنزلة إثبات بيع يوجب الملك في قوله: أعتق عبدك عني بألف درهم، ولما ثبت المقتضى لضرورة حاجة المقتضي المذكور في صحته إليه يثبت أيضًا ما كان من ضرورات المقتضى الذي هو غير مذكور، ولأن الشيء إذا ثبت إنما يثبت بلوازمه ولواحقه التي لا تنفك هي منه، فإن قيل: النكاح الفاسد غير موجب للإرث مع أن النكاح الفاسد أحد نوعي النكاح عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- حتى أن الإذن بالنكاح ينتظم الفاسد والصحيح عند أبي حنيفة- رضي الله عنه. علم بهذا أن النكاح متنوع إلى نكاح موجب الإرث وإلى نكاح لا يوجبه.

قلنا: إنما تناولهما عند ذلك لإطلاق لفظ النكاح في الإذن، واللفظ المطلق يجري على إطلاقه وفيما نحن فيه ليس فيه اللفظ حتى يثبت فيه إطلاق اللفظ بل يثبت النكاح ضرورة ثبوت المقتضى، فلذلك انصرف ذلك النكاح الثابت بطريق الاقتضاء إلى ما هو المعهود في الشرع لا على الإطلاق والتعميم، والنكاح المعهود في الشرع هو النكاح الذي يوجب الإرث وهو النكاح الصحيح لا الفاسد مع أن الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في أحد الوجهين أثبت النكاح في مسألة الكتاب بطريق الدلالة لا بطريق الاقتضاء، فقال: ثبوت النكاح هاهنا بدلالة النص لا بمقتضاه، فإن الولد اسم مشترك إذ لا يتصور ولد فينا إلا بوالد ووالدة، فالتنصيص على الولد يكون تنصيصا على الوالد والوالدة دلالة بمنزلة التنصيص على الأخ يكون كالتنصيص على أخيه؛ إذ الأخوة لا تتصور إلا بين شخصين، وقد بينا أن الثابت بدلالة النص يكون ثابتًا بمعنى النص لغة لا أن يكون ثابتًا بطريق الاقتضاء. وجعل الإمام القاضي أبو زيد- رحمه الله- ثبوت النكاح هاهنا بطريق الإشارة لا بالدلالة ولا بالاقتضاء ذكره في "التقويم" ثم قال: وهذه "أي الإشارة والدلالة والاقتضاء" حدود متشابهة ما يميز بينهما إلا الفهم المنصف، ثم قال: وشيء منها لا يحتمل الخصوص، أما المقتضى فلأنه لا عموم له. وأما الدلالة فلأنها تعم بحسب عموم العلة، والعلة بعد ما ثبتت علة لا

تحتمل الخصوص لما ذكرنا أن الخصوص لبيان أن قدر المخصوص لم يدخل تحت النص. فأما بعد الدخول فلا يكون تخصيصًا بل يكون تركًا، ولأن الخصوص والعموم من أوصاف اللفظ في الحكم الثابت بدلالة النص اللفظ معدوم، فلم يكن فيه العموم، ولما لم يكن فيه العموم لم يكن فيه التخصيص؛ لأن التخصيص إنما يتحقق في الحكم الذي ثبت باللفظ العام. فإن قيل: اشتراط الطهارة في المكان للصلاة ثبت بدلالة النص ومع ذلك صار هو مخصوصًا بقدر الدرهم وما دونه. قلنا: ليس هذا من قبيل التخصيص الحكم الثابت بدلالة النص بل هذا هو قبيل إثبات حكم النص على وفاق الحكم الثابت بعبارة النص وهو طهارة الثوب، فإن خصوص الطهارة بقدر الدرهم وما دونه ثبت أولًا في الثياب حتى إذا كانت النجاسة بقدر الدرهم وما دونه في ثوب لا يمنع جواز الصلاة، فكذلك في المكان على وفاق ذلك. (وأما الثابت بإشارة النص فيصلح أن يكون عامًا يخص)، وقال شمس الأئمة- رحمه الله-: وأما الثابت بإشارة النص فعند بعض مشايخنا لا يحتمل الخصوص أيضًا- ويحتمل أن يريد بقوله: "فعند بعض مشايخنا" القاضي

الإمام أبا زيد، فإنه ذكر هكذا فقال: وأما الإشارة فلأنها زيادة معنى على معنى النص، وإنما يثبت بإيجاب النص إياه لا محالة فلا يحتمل الخصوص. ثم قال شمس الأئمة- رحمه الله-: والأصح عندي أنه يحتمل ذلك؛ لأن الثابت بإشارة النص كالثابت بالعبارة من حيث إنه ثابت بصيغة الكلام، والعموم باعتبار الصيغة، وصورة ذلك تتحقق فيما قاله الشافعي في أن الشهيد لا يصلى عليه. تمسك في ذلك بإشارة النص التي هي عام وهو قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}؛ حيث سماهم الله تعالى أحياء، والآية سيقت لبيان علو درجات الشهداء عند الله ولا صلاة على الأحياء، ثم لما أوردنا عليه حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه صلى على حمزة- رضي الله عنه- حين استشهد سبعين

صلاة"؛ فقال هو في جوابه: خصت تلك الإشارة في حقه فبقيت في حق غيره على عمومها، ثم تأويل تكرار صلاة الجنازة عندنا أنه كان موضوعًا بين يديه فيؤتى بواحدة واحد فيصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظن الراوي أنه يصلي على حمزة- رضي الله عنه- في كل مرة، فقال: "صلى سبعين صلاة" فاحفظ صورة تخصيص الإشارة وأحكمها، فإنها عزيزة الوجود.

[تقسيمات الشافعية للدلالة]

[تقسيمات الشافعية للدلالة] (باسمه العلم) المراد من العلم هو اسم العين دون الصفة. (الإكسال): مجامع را انزال مي افتادن. (لأن النص لم يتناوله فكيف يمنع). لما أن حكم النص لا يخلو إما أن كان نفيًا وإثباتًا، فالإثبات لا يثبت بدون التناول، فكذلك النفي وهو المنع لا يثبت بدون التناول. (ولأنه لإيجاب الحكم في المسمى فكيف يوجب النفي وهو ضده). وتحقيق هذا أن الثبوت مع الانتفاء ضدان، ولهذا يستحيل اجتماعهما

في محل واحد في زمان واحد كالحركة والسكون والسواد والبياض، فما يوجب البياض لا يوجب السواد وإن كانا في محلين، فكذلك الثبوت والانتفاء لا يصلحان موجبين لعلة أي بطريق القصد وإن اختلف المحل كالبياض والسواد، ولا يشكل على هذا الأمر مع النهي فإن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده، مع أنه لم تناول الضد؛ لأنا نقول: إن الآمر أوجب المأمور به قصدًا على المكلف، فيقتضي وجوده ولو كان ضده مباحًا لما اشتغل به، فيفوت المأمور به، فلذلك جعلناه مقتضيًا كراهة ضده. وأما الإثبات في صورة مستغن عن إثبات النفي في موضع آخر، فلذلك لا ثبت النفي في موضع آخر؛ لأنه لم يتناوله. فإن قلت: النكاح يثبت الحل في المنكوحة والحرمة في أمها مع أن لفظ النكاح لم يتناول أمها لا بالنفي ولا بالإثبات. قلت: تثبت حرمة الأم بنص آخر، وهو قوله تعالى: {وأمهات

نسائكم}. وعن هذا أيضًا خرج الجواب عن سؤال من سال بأن النكاح مثبت للحل في حق الزوج ومثبت للحرمة في حق غير الزوج، لما أن حرمة غير الزوج تثبت بنص آخر، وهو قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ}. (وقد أجمع الفقهاء على جواز التعليل) يعني أجمع الفقهاء على جواز تعليل النصوص لتعدية الحكم منها إلى الفروع، فلو كان التخصيص موجبًا نفي الحكم في غير المنصوص لكان التعليل باطلًا؛ لأنه يكون ذلك قياسًا في مقابلة النص، ومن لا يجوز العمل بالقياس فإنما لا يجوزه لاحتمال فيه بين أن يكون صوابًا أو خطأ لا لنص يمنع منه بمنزلة العمل بخبر الفاسق، وأنه لا يعمل بخبره لضعف في سنده لا لنص في خبره مانع من العمل به، ثم فائدة التخصيص عندنا أن يتأمل المجتهد فيه فيثبت الحكم في غيره بذلك المعنى لينال درجة المجتهدين.

(وعندنا هو كذلك فيما يتعلق بعين الماء) يعني أن الاستغراق ثابت في وجوب الغسل الذي يتعلق بعين الماء لا في غيره. ألا ترى أن المسلمين أجمعوا على وجوب الغسل على الحائض والنفساء إذا اقتضى الحيض والنفاس فيما لا يمكن القول به فهو مستثنى عن النصوص، فكذلك وجب القول بانحصار وجوب الغسل الذي يتعلق بعين الماء بالماء. (غير أن الماء يثبت مرة عيانًا كالإنزال، ومرة دلالة) كالتقاء الختاننين لما عرف من الأصل أن الشيء إذا تعسر الوقوف عليه فقام سبب ذلك الشيء مقامه كالنوم مضطجعًا قام مقام الحدث، وكان انتقاض الطهارة مضافًا إلى الحدث معنى، فكذلك هاهنا التقاء الختانين بتواري الحشفة سبب داع إلى نزول الماء فقام مقام نزول الماء، فكذلك أضيف وجوب الغسل إلى الماء. فحاصله أن التخصيص بالشيء لا يدل على نفي ما عداه عندنا وحيث دل

إنما دل عند علمائنا لأمر من خارج لا من قبل التخصيص. من ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} استدل أهل الحق بهذه الآية على الرؤية لا من حيث التخصيص؛ بل لأنهم كونهم محجوبين عقوبة لهم، فيجب أن يكون أهل الجنة على خلافهم وإلا لا يكون الحجب في حق الكفار عقوبة لاستواء الفريقين في الحجب. (وذلك في الزنا) لو زنا رجل بامرأة يجوز له أن يتزوج ابنتها؛ لأن حرمة

ابنة المزنية إنما تكون إذا كانت هي من نسائه؛ لأنها معلق بذلك والمزنية ليست من نساء الزاني فلا تحرم ابنتها على الزاني. (بيانه أن الشرط لما دخل على ما هو الموجب لولا هو صار الشرط مؤخرًا ونافيًا حكم الإيجاب) أراد بالموجب العلة بمعنى أن الشرط شيء إذا دخل على الوجوب هو موجب كما هو لولا الشرط الذي دخل عليه. علم بهذا أن الشرط صار مؤخرًا حكم الإيجاب، والوصف يشارك الشرط في هذا العمل، فكان الوصف بمعنى الشرط لذلك، فينبغي أن يوقف على هو؛ لأن قوله: ((صار)) جواب لما، وترجمته بالفارسية: يعني آن خبرست كه اكر وي نه بود موجب موجب است وقتيكه وي بر موجب مي در آيد حكم إيجاب را أز وي تأخبر كند وصف مساوي است، ومراد وي را در اين عمل معمول شد كه وصف در معنى شرط نبوده است. (بخلاف العلة) يعني إنها توجب وجود الحكم عند وجودها، ولا توجب عدم الحكم عند عدمها؛ (لأنها لابتداء الإيجاب لا للاعتراض على ما يوجب). هذا كله جواب عما يقول له. فقولنا: ولنا أن أقصى درجات الوصف إذا كان مؤثرًا أن يكون علة الحكم

إلى آخره، وتحقيق هذا الكلام هو أن الشرط للمنع بالإجماع. أما عندنا فيمنع العلة عن الانعقاد، وأما عنده الحكم عند الثبوت، فكان الشرط معترضًا على ما هو موجب، والوصف بمعناه على ما ذكر في الكتاب. فأما العلة فهي لابتداء إثبات الحكم وهي ليست بمانعة بل هي مثبته، والحكم قد يثبت بعلل شتى على طريق البدلية فلا يكون عدم العلة المعينة دليلًا على عدم الحكم حتى إن عدم البيع لا يدل على عدم الملك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الملك بالهبة أو بالإرث أو بالصدقة. (ولا يلزم على هذا الأصل) وهو ما ذكرنا أن الحكم إذا أضيف إلى مسمى بوصف خاص لا يكون دليلًا على نفيه عند عدم ذلك الوصف عندنا، ثم ذكر هاهنا أن إضافة الحكم إلى مسمى بوصف خاص وهو قوله: ((الأكبر مني)) دلت على نفي نسب من بعده كما يجعل الخصم ذلك التخصيص به نفيًا لغيره. وهو قوله: (وما قال أصحابنا- رحمهم الله- في أمة ولدت ثلاثة أولاد في بطن مختلفة) بأن يكون بين كل واحد من الأولاد ستة أشهر فصاعدًا.

(فادعى المولى نسب الأكبر). إن نسب الآخرين لم يثبت، فهذا يدل على أن التخصيص بالوصف نفي؛ لأنا نقول: إن نسب الآخرين إنما يثبت لا لأن التقييد بالوصف ينفي ثبوت نسبهما، فإنه لو أشار إلى الأكبر فقال: هذا ولدي، فإن نسب الآخرين لم يثبت أيضًا مع أن التنصيص بالاسم لا يدل على نفي الحكم في غير المسمى، فعلم أن انتفاء النسب لا يتعلق بالتقييد بالوصف بل إنما لا يثبت؛ لأن قل الدعوى يحتمل ثبوت نسب كل واحد منهم وتلزمه الدعوى إذا كان الولد منه، فإنه كما يجرم عليه دعوى ما ليس منه يحرم عليه ترك دعوى ما هو مخلوق من مائة. فإذا قال: الأكبر مني، وهو ساكت في هذا الزمان عن دعوة نسب الآخرين وهو موضع الحاجة إلى البيان كان سكوته نفيًا لنسبهما. إذا لو لم يكن نفيًا كان تاركًا للفرض فيحمل على النفي، كي لا يصير تاركًا للفرض. وقوله: (لولا ذلك لثبت) أي لولا تخصيصه نفيًا لثبت نسبهما؛ لأن ولد أم الولد لا ينتفي بدون النفي. فقلنا: لا يثبت نسبهما لا باعتبار التقييد بالوصف، فإنه لو أشار إلى

الأكبر وقال: هذا ابني، لا يثبت نسب الآخرين منه أيضًا، ولا يقال لا حاجة إلى دعوى؛ لأنهما ولدا لأم ولده، لأنا نقول: إن أمومية الولد تثبت بالدعوة للأكبر، فيكون ما هو دليل النفي مقارنًا لأمومية الولد فلم يثبت النسب. وقال في ((المبسوط)): وقال زفر: يثبت الآخرين منه أيضًا؛ لأنه تبين أنها ولدتهما على فراشه، فإنها صارت أم ولد له من حين علقت بالأكبر- إلى أن قال- قلنا: إن تخصيصه الأكبر بدعوى النسب دليل النفي في حق الآخرين هاهنا- لأنه يجب على المولى شرعًا إظهار النسب الذي هو ثابت منه بالدعوى، فإن تخصيصه الأكبر بعد وجوب الإظهار عليه بهذه الصفة دليل النفي في حق الآخرين- ودليل النفي كصريح النفي، ونسب ولد أم الولد ينتفي بالنفي فكذلك بدليل النفي، وهذا نظير ما قيل إن سكوت صاحب الشرع عن البيان بعد وقوع الحاجة إليه بالسؤال دليل النفي؛ لأن البيان وجب عند السؤال، فكان تركه بعد الوجوب دليل النفي، ولكن يعتق الآخران بموت المولى؛ لأنهما ولدا أم الولد فيعتقان بموت المولى، وقوله: ((نفيًا))

خبر صار أي فصار السكوت نفيًا، وقوله: ((ولو كان ثابتًا)) متصل بما يليه وهو: ((البيان)) أي لزم البيان لو كان النسب ثابتًا. (وبالشبهة ترد الشهادة) كشهادة الوالد لولده. ذكر مسألة الشهادات الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في ((المبسوط)) بقوله: ولو شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثًا بأرض كذا وكذا غير فلان جاز ذلك في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- ولم يجز ذلك في قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله تعالى- حتى يقولوا مبهمة: لا نعلم له وارثًا غيره؛ لأن في تخصصهم مكانًا إيهام أنهم يعلمون له وارثًا في غير ذلك المكان. أرأيت أنهم لو قالوا: لا نعلم له وارثًا سواه في هذا المجلس أكان يقضى بالميراث لهم؟ وأبو حنيفة- رضي الله عنه- يقول: هذا اللفظ مبهم للمبالغة في بيان أنه لا وارث له غيره، ومعناه: أن بلده كذا مولده ومسقط رأسه كذا ولا نعلم له بها وارثًا غيره، فأحرى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر، ثم تخصيصهم هذا المكان بالذكر في هذا اللفظ لغو؛ لأن ما لا يعلم المرء لا

يختص بمكان دون مكان فهذا وما لو أطلقوا سواء. وقولهما: أن هذا إيهام، فلئن كان كذلك فهو مفهوم، والمفهوم لا يقابل المنطوق وذكر في أصوله وقالا: لا تقبل هذه الشهادة لا لأنها توجب علمهم بوارث آخر بمكان آخر؛ بل لتمكن التهمة؛ فإنه يحمل بأنهما خصا ذلك المكان للتحرز عن الكذب أو لعمهما بوارث آخر له في غير ذلك المكان، ولكن الشهادة ترد بالتهمة، فأما الحكم فهو أنا لا نثبت نفيًا ولا إيجابًا بالتهمة بل الحجة المعلومة. (لأنه في حكم التعليق قاصر) يعني أن قوله: ((عبد هذا حر)) تام في نفسه لكنه في حق التعلق قاصر؛ لأن غرض المتكلم من هذا الكلام التعليق،

فصار كالجملة الناقصة في حق هذا الحكم، دل أن الشركة إنما وجبت للافتقار. ألا ترى أنه لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق وضرتك طالق طلقت ضرتها في الحال؛ لأنه كلام تام فلا حاجة إلى الاشتراك، إذا لو كان غرضه الشركة في التعليق لا قتصر على قوله: ((وضرتك)) فإذا أفرد بالخبر دل أن مراه التنجيز لما أن خبر الأول يصلح خبرًا للثاني بخلاف قوله: وعبدي حر؛ لما أن خبر الأول لا يصلح خبرًا له عند تجريده عن الخبر، فلذلك كان هو مع وجود خبره قاصرًا في حق التعليق فتثبت الشركة في التعليق.

(مثل قوله {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ}) وما قبله {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}، ومثل قوله: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ}، وكذلك قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ}، فقد بينا مثله في بيان واو العطف. (والشافعي قطع قوله: {وَلا تَقْبَلُوا} أي عن قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}؛ حيث جعل الاستثناء الذي في آخر الكلام منصرفًا إلى قوله: {وَلا تَقْبَلُوا} وإلى قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لا إلى قوله {فَاجْلِدُوهُمْ}، ولأنه لم يجعل رد الشهادة من تتمة الحد حتى جعل التوبة رافعة لرد الشهادة ولم يجعلها رافعة للجلد (مع قيام دليل الاتصال)، فإن

كلًا منهما يصلح جزاء للقذف، وكل واحد منهما جملة فعلية. كل واحد منهما خوطب به الأئمة، ووصل قوله: {وَأُوْلَئِكَ} بما قبله وهو قوله: {وَلا تَقْبَلُوا} جملة فعلية: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} جملة اسمية والأولى جملة خوطب بها الأئمة، والثانية إثبات شبهة الفسق على الإطلاق وبيان لجريمة القاذف فلا تصلح جزاء على القذف بطريق الحد؛ بل هذا لإزالة الإشكال عن وهم متوهم بأن يتوهم: ينبغي أن لا يجب الحد على القاذف؛ لأن القاذف في قذفه لا يخلو إما أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فإن كان صادقًا لا يجب الحد قطعًا، ولو كان كاذبًا يحب، فلا يجب بالشك كالشيء المتردد بين الوجود والعدم حيث ترجع جانب العدم؛ لأنه هو الأصل في الشيء يثبت بالشبهات.

فأولى أن لا يثبت جانب الوجود في الحدود، وهو مما يثبت بالشبهات والله تعالى أزال ذلك الإشكال بقوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي هم العاصون بهتك ستر العورة، وليس غرضهم من ذلك الطلب الحسنة لكذبهم في ذلك، وإليه في قوله تعالى: {لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فلذلك وجب عليهم حد القذف، ولأن الشافعي رد الشهادة بدون مدة العجز، والله تعالى جعل رد الشهادة حكمًا لصفة التراخي بحرف (ثم) إلى وقت العجز بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} والشافعي غير هذا حيث رد الشهادة بدون مدة العجز. [العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب] (ومن ذلك قول بعضهم: إن العام يختص بسببه) أي بسبب ورود العام كما لو قال رجل لآخر: تعالى تغد معي، فقال الآخر مجيبًا: إن تغديت اليوم فعده حر، وخص عموم هذه اليمين عند بعضهم بغداء ذلك الشخص الذي دعا إلى غدائه حتى لو ذهب إلى بيته وتغدى لا يحنث عندهم وألغى الزيادة. (لأن النص ساكت عن سببه) أي عن سبب مخصوص بذلك الشخص، (والسكوت لا يكون حجة)؛ لأن الاستدلال بالسكوت يكون استدلالًا بلا دليل، فكيف يجوز باعتباره ترك العمل بالدليل وهو المنصوص.

(ألا ترى أن عامة الحوادث مثل الظهار واللعان وغير ذلك وردت مقيدة بأسباب). أما آية الظهار وهي قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية نزلت في شأن خولة بنت ثعلبة بن قيس بن مالك امرأة أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم الأنصاري أخي عبادة رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم فلما

سلمت راودها فأبت فغضب وقال لها: أنت علي كظهر أمي إلى آخره. وأما آية اللعان فنزلت لما قاله عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك؛ إن وجد رجل مع امرأته رجلًا فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته أبدًا وفيق، وإن ضربه بالسيف قتل، وإن سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجئ بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى. اللهم افتح، وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال: ما وراءك؟ قال: شر!

وجدت على امرأتي خولة وهي بنت عاصم شريك بن سحماء فقال: هذا والله سؤالي ما أسرع ما ابتليت به، فرجع فأخبر عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلم خولة فقالت: لا أدري الغيرة أدركته أم بخلًا على الطعام؟ فكان شريك نزيلهم وقال هلال: لقد رأيته على بطنها، فنزلت آية اللعان ولا عن بينهما. كذا في ((الكشاف))، وأما قوله: ((غير ذلك)) حكاية القذف، فإنها نزلت بسبب قصة عائشة- رضي الله عنها- (وهذه الجملة) أي جملة حكم العام المعلق بالسبب. (أن يكون بلى بناء على النفي في الابتداء مع الاستفهام)، فإن بلى

إيجاب لما بعد النفي كما في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ} أي مجمعها، (ونعم لمحض الاستفهام) كما في قوله: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}. (وأجل يجمعهما) أي يجمع محض الاستفهام كما في نعم وغير محض الاستفهام كما في بلى. قال الأخفش: إن أجل جواب مثل نعم إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، فإذا قال: أنت سوف تذهب. قلت: أجل. فكان أحسن من نعم، وإذا قال: أتذهب؟ قلت: نعم، فكان أحسن من أجل. كذا في ((الصحاح)). (وقد يستعملان في غير الاستفهام على إدراج الاستفهام)، فنظير إدراج الاستفهام ما ذكر في إقرار ((المبسوط)) بقوله: ولو قال: أخبر فلان أن للان عليم ألف درهم، أو قال: أعلمه أو أبشره أو قول له، فقال: نعم، فهذا كله إقرار؛ لأن قوله: ((نعم)) ليس بمفهوم المعنى بنفسه وهو مذكور في موضع الجواب، فصار ما يبق من الخطاب معادًا فيه، فلهذا كان إقرارًا.

وأما قوله: ((وغير احتمال الاستفهام)) فهو ما استعمل نعم في جواب الأمر بأن قيل: ابت مني عبدي هذا، أو استأجره مني، فقال: نعم، فهذا إقرار له بالملك، وكذلك لو قال: افتح باب داري هذه أو جصص داري هذه أو أسرج دابتي هذه أو ألجم بغلي هذا فقال: نعم، فهذا إقرار لما بينا أن نعم غير مفهوم المعنى بنفسه فلا بد من حمله على الجواب؛ لأنه لو لم يحمل عليه صار لغوًا، وكلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن، ولا يحمل على اللغو إلا إذا تعذر حمله على الصحة. (فيقول الآخر: إن تغديت فعبدي حر. أنه يتعلق به)؛ لأن هذا عام مبني على سؤال فيتخصص به؛ لأن العام يجوز تخصصه بالدليل، وهاهنا قد وجد الدليل وهو دعاؤه إلى الغداء المدعو إليه فيتخصص بدلالة الحال. والرابع- ما هو مستقل بنفسه خرج عقيب سؤال لكنه زائد على ما هو

الجواب، فيصير هو كلامًا مبتدأ لا يتعلق بهذا الذي تنازعنا فيه، لأن هذا عام موجب بنفسه زائد على سببه فلم يتعلق به. (ومن ذلك أن الشافعي جعل التعليق بالشرط موجب العدم) إلى آخره. وحاصله عند الشافعي قوله: أنت طالق في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، انعقد سببًا لوقوع الطلاق، وأثر التعليق في منع حكمه، فصار موجب هذا الكلام عنده: وجود الحكم عند وجود الشرط، وعدمه عند عدم الشرط، فصار كأنه قال: إن دخلت الدار فأنت طالق وإن لم تدخلي فلست بطالق،

وهذا لأنه انعقد سببًا عنده قد وجد ما هو المقتضى لوقوع الطلاق، وإنما لم يثبت الحكم لوجود التعليق، فيكون العدم مضافًا إلى المانع، وعندنا لما لم ينعقد سببًا لم يكن عدم وقوع الطلاق مضافًا إلى التعليق؛ بل يبقى كما كان قبل اليمين، وعن هذا الأصل تنشعب الفروع لنا وله. منها: جواز تعجيل الكفارة قبل الحنث عنده؛ لأنه تكفير قبل السبب، وعدم جواز تعليق الطلاق بالنكاح عنده خلافًا لنا. (والمالي يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه)؛ لأن المال مع الفعل يتغايران، فجاز أن يتصف المال بالوجوب لا يثبت وجوب الأداء. ألا ترى أن المال وهو الثمن يجب في ذمة المشتري بمجرد البيع ولا يجب الأداء ما لم يطالب به لما أنهما يتغايران. (وأما البدني فلا يحتمل الفصل بين وجوبه ووجوب أدائه)؛ لأن الفعل لما وجب أداؤه ولو لم يجب الفعل لا يجب الأداء. إذا لا واسطة بين الفعل والأداء، فلا يتصور انفصال وجوب الفعل عن وجوب الأداء، فلما تأخر وجوب الأداء إلى ما بعد الحنث تأخر الوجوب ضرورة، فلو أجى قبل الحنث تقع الكفارة قبل الوجوب فلا يجوز. وحاصله أنا لمالي يحتمل الفصل لإمكان القول بالفصل؛ لأن في المال شيئين: المال، والفعل في المال، ويكون المال واجبًا الفعل فيه متأخرًا كما في الثمن المؤجل.

وأما البدني فليس فيه إلا الفعل، فلما تأخر الأداء لم يبق الوجوب. (ولنا أن الإيجاب لا يوجد إلا بركنه)؛ لأن ركن الشيء ما يقوم به ذلك الشيء، وقيام الشيء بدون ذاته مجال؛ ألا ترى أن البيع لما كان عبارة عن الإيجاب والقبول لا ينعقد بدونهما أو بدون أحدهما أو ما يقوم مقامهما وكذلك الصلاة لما كانت عبارة عن الأركان المعهودة لا تتصور بدونها أو بما يخلها، وكذلك في الحسيات لما كان ركن السرقة من كذا وكذا لا يتصور بدونه. والإيجاب لا يثبت أيضًا بدن محله كالبيع لا ينعقد بدون محله وهو المال، وفيما نحن فيه المحل هو المرأة في تعليق الطلاق بالشرط، فما لم يتصل هذا الإيجاب إليها لم يثبت الإيجاب، وهاهنا لم يتصل بالمرأة لأن اتصاله بها اتصال شرعي، ولم يثبت شيء من أحكام الطلاق فيها لم ينعقد سببًا كالبيع المضاف إلى الحر لما لم يفد حكمًا من أحكام البيع لم ينعقد سببًا، واعتبر هذا بالاتصال الحسي، فإنه ما لم يظهر أثر فعل النجار في المحل وهو الخشب لم ينعقد شجرًا فإذا ثبت هذا تبين أن الشرط ليس بمعنى الأجل. يعني لو أجل الثمن في البيع.

قلنا: إن الأجل ليس بمانع للبيع ولا بحكمه، فإن المبيع يخرج من ملك البائع ويدخل في ملك المشتري ولكن أثره في تأخر المطالبة ودخول الثمن في ملك البائع ليس بشرط صحة البيع، ولهذا لو أسقط الثمن عن المشتري صح، فلا يقدح عدم وصول الثمن إلى البائع في البيع ولا في حكمه ولا كذلك التعليق، فإنه يمنع العلة عن الانعقاد على ما بينا. والتعليق بالشرط يمين عقدت للبر، فموجب التعليق هو امتناع حكم الإيجاب والسبب طريق إلى الحكم، فكيف يكون سببًا إلى الحكم وهو مانع عنه؟ فالقول بكونه سببًا إلى الحكم كان قولًا عائدًا على موضوعه بالنقض، وعن هذا الحرف ينشأ الفرق بين التعليقات وبين الإضافة؛ لأن الإضافة لثبوت الحكم بها فكان سببًا؛ لأنها تفضي إليه بخلاف التعليق، فإنه للمنع عن الحكم في أصله. ألا ترى أن قوله: أنت طالق غدًا أأنت حر غدًا هو لوقوع الطلاق والحرية في الغد، فكيف يكون مانعًا؟ فلم يوجد المانع من السبب، بل وجد ما يحقق كونه سببًا؛ لأن الغد وما يشبهه تعيين لزمان الوقوع، والزمان من لوازم وقوع الطلاق كما إذا قال: أنى طالق الساعة، فتكون الإضافة محققة للسببية والتعليق مانعًا لها، فلا يتقاسان. (وبدون الاتصال بالمحل لا ينعقد سببًا)، ولكن ينعقد يمينًا؛ لأن التعليق

بالشرط يمين فلا تتوقف صحته على ملك المحل كاليمين بالله، وهذا لأن اليمين تصرف منا لحالف في ذمة نفسه فيصح. فإن قلت: لو قال الشافعي إذا لم يكن سببًا في الحال عندكم ولكن له شبهة السببية، فيجب أن يشترط المحل ما يشترط لحقيقة السبب، وهذا لأن التعليق معتبر بالتنجيز، فلما لم يكن له ولاية الطلاق قبل النكاح لم يكن له ولاية تعليق قبله. قلت: لا يصح قياس التعليق بالتنجيز؛ لأنه قد يملك التعليق دون التنجيز. ألا ترى أنا لرجل إذا قال لجاريته التي ليس بها حبل: إذا ولدت ولدًا فهو حر صح بالإجماع، وإن كان لا يملك تنجيز العتق في الولد المعدوم، وكذلك إذا قال لامرأته الحائض: إذا طهرت فأنت طالق كان هذا تعليق طلاق السنة، وإن كان لا يملك تنجيزه في الحال. إلى هذا أشار في ((المبسوط)) وجواب اقتصار شبهة الإيجاب إلى المحل فيجئ بعد هذا إن شاء الله تعالى.

(فيصلح التدارك به) أي كان الشرط (لأدنى الخطرين) وهو دخول الشرط في الحكم، وذا لأن ثبوت الخيار في البيع ثبت بخلاف القياس؛ نظرًا لمن لا خبرة له في المعاملات، فيثبت بقدر الضرورة، والضرورة ترتفع بكون الخيار داخلًا في الحكم دون السبب؛ عملًا بما هو الأصل في الشرع بقدر الإمكان، وهو تقليل الخطر في البيع بخلاف الطلاق، فقلنا فيه بكمال التعليق أن لو دخل الشرط على الحكم كان تعليقًا من وجه دون وجه فكان ناقصًا في التعليق، والنقصان إنما كان بالعوارض، فلذلك أدخلناه فيه في السبب وفي البيع في الحكم، وهو معنى قوله: (وأما هذا فيحتمل الخطر) أي الطلاق يحتمل التعليق بالشرط الذي فيه خطر وتردد أنه يوجد أم لا؟ لأنه من الإسقاطات والذي يسقط قابل للتعليق كما في الحسيات، فإن القنديل قابل للتعليق؛ لأنه مما يسقط وما يتناول من يد إلى يد وتبادل به غيره غير قابل للتعليق في ذلك الغرض؛ إذ في التعليق بالشرط الذي يوجد أم لا معنى

القمار، والقمار حرام بالنص، وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}. (وفرقه باطل؛ لانا قد بينا أن حق الله تعالى في المالي فعل الأداء لا عين المال، وإنما يقصد عين المال في حقوق العباد)؛ لأن المقصود لهم يحصل بالمال. ألا ترى أن صاحب الحق إذا ظفر بجنس حقه له أن يأخذه ولم يوجد من المديون فعل البتة. فعلم أن المقصود هو المال، وفي باب الزكاة لا بد من فعل من المخاطب فصار كالصلاة (والمال آلته)، ولا يقال: بأنه يتأدى بالنائب؛ لأنا نقول: المقصود يحصل بالنائب لأن المخاطر قطع طائفة منا لمال، وبهذا تلحقه المشقة فحصل المقصود، والإنابة فعل منه فاكتفى به مع حصول المقصود، وإنما لا تتأدى الصلاة بالنائب؛ لأن المشقة فيها إنما تتحقق في فعل نفسه فلا يتصور

فيه الإنابة، والأصل أن فعل الإنسان لا يكون فعل غيره لما فيه من الاستحالة، وإنما جعل فعل النائب في الزكاة فعل المنوب بخلاف القياس عند حصول ما هو المقصود من إيجاب الزكاة، وهو الابتلاء بوصول المشقة إليه وقد وجد ذلك في الزكاة عند الإنابة فقطع طائفة من ماله، فلا تحلق بها الصلاة بالقياس عليها؛ لأن ذلك ثبت بخلاف القياس مع وجود المفارقة بينهما على ما بينا، فلم تكن الصلاة في معنى الزكاة من كل وجه حتى تلحق هي بها بالدلالة. (قال زفر- رحمه الله-: ولما بطل الإيجاب) أي ولما بطل أن كون المعلق سببًا لوقوع الطلاق (لم يشترط قيام الملك)؛ لأن المحل إنما يشترط لتثبيت الإيجاب كالمال شرط لتثبيت البيع فيه، فلما بطل كونه سببًا لم يفتقر إلى المحل، (وكذلك العتق) يعني إذا قال لأمته: إن فعلت كذا فأنت حرة فأعتقها قبل وجود الشرط بطل اليمين عندنا حتى لو ارتدت- والعياذ الله- ولحقت بدار الحرب ثم أسلمت ثم ملكها المالك الحالف ثم وجد منها الشرط لا تعتق عندنا، وعند زفير تعتق، وأما إذا لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر ثم اشتراه فدخل فإنه يعتق بالاتفاق؛ لأنه بصفة الرق كان محلًا للعتق وبالبيع لم تفت تلك الصفة. وقوله: (وإنما شرط قيام الملك) هذا جواب لزفير عن شبهة ترد على

قوله: لما بطل الإيجاب لم يشترط قيام المحل لبقائه)) فوجه الورود هو أن التعليق لما لم يبق له العلية ولا شبهها بل بطل من الأصل؛ لذلك لم يشترط قيام المحل لبقاء التعليق؛ لأن المحل إنما يشترط للعلة وليس هو بعلة عندنا فلا يشترط قيام المحل فالحل ورد عليه. لو كان كذلك لوجب أن لا يشترط الملك في ابتداء التعليق جمعنا واتفقنا على أن قيام الملك في ابتداء الملك شرط حتى أنه لو قال لأجنبية: إن دخلت الدار فأنت طالق فتزوجها ثم دخلت الدار لا تطلق فعلم بهذا أن الإيجاب لم يبطل من كل وجه حتى اشترط الملك في ابتداء التعليق لشبهة بالعلة، فيجب أن يشترط لبقائه الحل وإن لم يشترط الملك. فأجاب هو عنه وقال: اشترط الملك في ابتداء التعليق لا باعتبار أن الإيجاب لم يبطل بل الإيجاب بطل لما قلنا إن التعليق يمنعه عن وقوع الطلاق، فكيف يكون شببًا له. ولكن إنما يشترط الملك في ابتداء التعليق لتفيد اليمين فائدته، وذلك أن التعليق وإن لم يكن علة للطلاق ولا شبهة العلة ولكن هو يمين، واليمين إنما تفيد فائدته أن لو كان الملك موجودًا حالة اليمين وهي ابتداء التعليق؛ لأن المقصود من اليمين البر، فاشترط قيام الملك في ابتداء التعليق تحقيقًا لما هو المقصود من اليمين، وذلك أن حال وجود الشرط متردد بين أن يوجد الشرط والملك قائم فيلزمه الجزاء وبين أن يوجد والملك غير قائم فلا

ينزل الجزاء فلا يحصل ما هو المقصود فرجحنا وجود الملك حال وجود الشرط بوجود الملك حال ابتداء التعليق لما أن الأصل في كل موجود دوامه واستمراره، ولما وجب الترجيح بالملك في الحال لجانب وجود الملك حال وجود الشرط لم يعتبر جانب عدم وجود الملك حال وجود الشرط لما عرف أن المغلوب بمقابلة الغالب بمنزلة المعدوم المستهلك، فإذا كان ذلك فزوال الملك لم يبطل اليمين بالاتفاق؛ لأنه لا ينافي وجود الجزاء عند الشرط لاحتمال أن يتزوجها فيوجد الشرط وهي في ملكه، وهذا المعنى قائم في زوال الحل لاحتمال أن يتزوجها بعد زوج آخر فيوجد الشرط وهي في ملكه فيجب الجزاء، فعلم بهذا التقرير أنه إذا وجد التعليق حال وجود الملك بعد ذلك لا يتفاوت في المستقبل بين زوال الملك وزوال الحل في حق بقاء اليمين، ثم بزوال الملك لا يبطل اليمين بالاتفاق فكذلك بزوال الحل. وقوله: (ولو كان التعليق يتصل بالمحل لما صح تعليق طلاق المطلقة ثلاثًا بنكاحها) وإنما خص هذه الصورة، وإن كان الحكم في الأجنبية كذلك أيضًا لما أن المطلقة ثلاثًا أبعد من الحل، ولما جاز تعليق طلاقها بنكاحها فلأن يجوز تعليق طلاق الأجنبية بنكاحها أولى. (وطريق أصحابنا- رحمهم الله- لا يصح إلا أن يثبت للمعلق ضرب اتصال بالمحل)، والمعنى من ضرب الاتصال هو كونه مضمونًا بالجزاء في

الحال، وتقدير هذا أن المعلق وهو التطليق أو الإعتاق لم يكن سببًا للطلاق والعتاق لما قلنا: إن إيجاب السببية لا يوجد إلا بركنه ولا يثبت إلا في محله فلم يوجد الركن ولم يتصل بالمحل لكون الشرط حائلًا بينه وبين المحل على ما قلنا، لكن له شبهة كونه سببًا؛ لأن اليمين تعقد للبر والبر لا بد له من أن يكون مضمونًا بالطلاق تحقيقًا للمقصود، فإذا حلف بالطلاق كان البر هو الأصل وضمانه بوقوع الطلاق عند وجود الشرط، فيثبت في الحال شبهة إيجاب الطلاق كالمغصوب يلزم على الغاصب رده فيكون له حال قيام العين شبهة إيجاب القيمة، ولهذا لو أجى الضمان يمتلك من حين الغصب وإنما يملكه بأداء القيمة، فلم يكن الغصب في الحال سببًا لوجوب القيمة لما ملك من وقت الغصب وكذلك الكفالة تصح بالمغصوب حتى أنه يلزم على الكفيل رد العين حال بقائها، ودفع القيمة حال هلاكها كذا ذكره في ((زاد الفقهاء)) مع أن الكفالة لا تصح إلا بالدين الصحيح. ولهذا لا تصح ببدل الكتابة؛ لأنه ليس بدين صحيح؛ لأن الدين الصحيح لا يسقط إلا بالأداء أو بالإبراء ولا يسقط بغيرهما، ودين الكتابة يسقط بغيرهما، وهو تعجيز المكاتب نفيه، فلما كان البر هاهنا مضمونًا بالطلاق في الحال ثبت شبه الطلاق، وشبهة الطلاق لا تستغني عن المحل كحقيقة

الطلاق؛ لأن الشبهة دلال الدليل على ثبوت المدلول وإن تخلف المدلول وقط لا يدل الدليل على ثبوت المدلول في غير المحل. ألا ترى أنه لا يمكن دلالة الدليل على ثبوت الطلاق في البهيمة لعدم المحل، فإذا بطل الحل بطل اليمين لما عرف أن كل حكم يرجع إلى المحل فالابتداء والبقاء فيه سواء، وفي الابتداء لا يصح التعليق عند عدم المحل فيما إذا كان التعليق بغير سبب الملك فكذلك البقاء. (فأما قيام هذا الملك فلم يتعين لما قلنا إنه ليس بتصرف في الطلاق ليصح اعتبار الملك) وإنما قال هذا ليفرق بين زوال الملك وزوال الحل، وذلك أن المحل شرط صحة التعليق لما أن التصرف إذا أخطأ محله يلغو، واشتراط الملك عند التعليق لا لصحة تعليق الطلاق؛ لأن هذا ليس بتصرف فيه وإنما يشترط لتحصيل فائدة اليمين لما أن حال الملك وقت وجود الشرط

متردد، فوجب ترجيح وجوده وقت وجود الشرط بوجود الملك في الحال لما أن الظاهر من كل موجود بقاؤه، فتحصل فائدة اليمين وهي المنع. وأما تعليق الطلاق بالنكاح فصحيح وإن لم يكن الحل والملك في الحال موجودًا؛ لانا لتعليق بعلة ملك الطلاق تحصل فائدة اليمين وهي المنع لكون البر مضمونًا بالطلاق لا محالة، فصار مثل التعليق بغير علة ملك الطلاق حال قيام المحل والملك، بل هذا أولى بالصحة؛ لأن في حال قيام الملك كان البر مضمونًا بالطلاق من حيث الظاهر مع احتمال غير مضمونيته، وفي تعليق الطلاق بالملك كان البر مضمونًا بالطلاق من حيث القطع والبتات، فكان هذا أحق بالصحة، فعلى خذا تسقط الشبهة التي ذكرناها في المتنازع وهي شبهة وجوب الطلاق؛ لأنه لما صح تعليق الطلاق بالنكاح لزم سقوط تلك الشبهة لاستحالة حقيقة الطلاق قبل النكاح، والشبهة إنما تعتبر عند إمكان الحقيقة، وما ذكرنا من الشبهة حال قيام النكاح وحقيقة التطليق فيه ممكنة فصح القول بشبهة التطليق أيضًا لقيام الدليل عليه، وانعدمت الحقيقة لقيام الدليل عليه فاعتبرت الشبهة وهو المعنى بقله: ((فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة)) يعني أن تعليق الطلاق بالنكاح يوجب سقوط هذه الشبهة وهي أن لتعليق الطلاق شبهًا بالإيجاب، فصارت هذه الشبهة التي حصلت من تعليق الطلاق بالنكاح معارضة للشبهة السابقة التي اقتضاها تعليق الطلاق بدخول الدار فأسقطت تلك الشبهة، وإنما رجحنا جانب هذه الشبهة التي حصلت من تعليق الطلاق بالنكاح على جانب تلك الشبهة لقوة هذه عليها بوجهين:

أحدهما- أن هذه الشبهة نشأت من جانب علة العلة، فإن النكاح علة ملك الطلاق، والطلاق علة وقوع الطلاق، وتلك الشبهة نشأت من جانب مطلق تعليق الطلاق بالشرط كدخول الدار وغيره، فعلة العلة وهي النكاح اقتضت أن لا تكون المرأة منكوحة ولا شبهة كونها منكوحة ليتحقق النكاح في حقها، وتلك الشبهة اقتضت محلية الطلاق، فثبت هي كونها منكوحة، فوجب ترجيح جانب على العلة على مطلق الشرط؛ لأن علة العلة تصلح أن تكون علة والشرط لا. والثاني- أن عند وجود هذا الشرط وجود كونها محلًا للطلاق لا محالة؛ لأن المنكوحة محل للطلاق لا محالة، وعند وجود ذلك الشرط لكونها محلًا للطلاق من حيث الظاهر فيحتمل أن لا تكون محلًا للطلاق فوجب ترجيح جانب الشرط الذي هو كائن لا محالة لمحلية الطلاق عند وجوده؛ لأن الشرط الذي يوجد لا محالة أو يوجد عند وجوده محلية العلة لا محالة كان هو أشبه بالعلة من مطلق الشرط. ألا ترى أن تعليق العتاق بالموت وهو التدبير كان أشبه بالعلة التي في الإعتاق من التعليق بسائر الشروط حتى أثر ذلك في منع البيع وسائر التمليكات بخلاف سائر التعليقات؛ لما أن ذلك معلق بالموت وهو كائن لا محالة فجعل كأنه وجد العتق، وكذلك الشرط الذي يوجد عند وجوده العلة لا محالة أشبه بالعلة من مطلق الشرط، وعن هذا افترق خطاب الكفار

بالإيمان والشرائع، فقلنا: بأنهم مخاطبون بالإيمان دون الشرائع؛ لأن عند وجود الإيمان صاروا أهلًا لموجب الإيمان وهو دخول الجنة لا محالة. وأما إذا وجدت الشرائع بدون الإيمان فلا، فكذلك هاهنا صح تعليق طلاق الأجنبية بالنكاح ولم يصح تعليق طلاقها بدخول الدار وغيره كما أن وجود النكاح صيرورتها محلًا للطلاق لا محالة بخلاف وجود دخول الدار. فعلم بهذا أن الشرط الذي يوجد لا محالة أو يوجد عند وجوده محلية العلة لا محالة كان أشبه بالعلة من مطلق الشرط الذي ليس فيه أحد هذين الوصفتين، فلذلك رجحنا جانب الشرط الذي هو أشبه بالعلة وهو تعليق الطلاق بالنكاح، فحققنا مقتضاه هو أن لا تكون المرأة منكوحة حقيقة ولا شبهة منكوحة. وهذا معنى قوله: (فيصير قدر ما ادعينا من الشبهة مستحقًا به) أي كون تعليق الطلاق بالنكاح مضمونًا بالطلاق لا محالة عند وجود الشرط أغنانا عن شبهة الطلاق قبل وجود الشرط، وقوله: ((من الشبهة)) أي شبهة الإيجاب. ((مستحقًا به)) أي يتعلق الطلاق بالنكاح، (فتسقط هذه الشبهة) وهي شبهة إيجاب الطلاق (بهذه المعارضة) وهي معارضة اقتضاء علة العلة سقوط شبهة الإيجاب قبل وجود الشرط لما ذكرنا أن انفعال النكاح وتحققه مقتض أن تكون المرأة أجنبية للمعلق لا منكوحة، وشبهة الإيجاب مقتضية

أن تكون المرأة منكوحة؛ لأن شبهة الإيجاب إنما تتحقق في المنكوحة كحقيقته؛ لأن كلا منهما مفتقر إلى المحل، فتعارضتا فرجحنا جانب علة العلة لما ذكرنا. فإن قلت: لو قال زفر: يرد على قولكم هذا الظهار فإنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم طلقها ثلاثًا ثم عادت إليه بعد زوج يكن مظاهرًا منها إن دخلت الدار، فيجب أن يكون في تعليق الطلاق بالشرط كذلك؛ لأن كل واحد من الطلاق والظهار يتحقق في حق المنكوحة. قلت: ليس هذا اليمين كاليمين بالظهار؛ لأن المحلية هناك لا تنعدم بالتطليقات الثلاث؛ لأن الحرمة بالظهار غير الحرمة بالطلاق؛ فإن تلك الحرمة حرمة إلى وجود التكفير، وهذه حرمة إلى وجود ما يرفعها وهو الزوج الثاني، فكان من حق الظهار على هذا أن يثبت بعد التطليقات الثلاث إذا وجد الشرط، إلا أنها لو دخلت الدار بعد التطليقات إنما لا يصير مظاهرًا؛ لأنه لا حل بينهما في الحال، والظهار تشبيه المحللة بالمحرمة وذلك يوجد بعد التزوج بها إذا دخلت الدار. إلى هذا أشار في ((المبسوط)). (وأبعد من هذه الجملة ما قال الشافعي- رحمه الله- من حمل المطلق

على المقيد أي أبعد من الصواب فوجه أبعديته هو من أن حمل المطلق على المقيد إبطال لإطلاق المطلق الذي هو ممكن العمل، وهو مصالح أن يكون

الإطلاق مراد المتكلم، فكان فيه إبطال مراد المتكلم من الكلام، وهذا لأن المعنى من حمل المطلق على المقيد ترك دليل المطلق والعمل بدليل المقيد، فكان ترك العمل مع وجوده ظاهر البطلان، وهذا لأنا لنص المقيد غير ناف للحكم عند عدم القيد على ما سنذكر فكان في حمل المطلق على المقيد إبطال حكم موجود ثابت بالنص بمعدوم لا يصلح هو أن يكون حكمًا شرعيًا على ما ذكر في الكتاب بعيد هذا، أو نقول بما أشار إليه الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- من وجه الأبعدية هو: أن التغيير في الوصف والشرط في موضع واحد وهو إضافة ما ليس بحكم النص إلى النص حيث قال: بأن كلا من الوصف والشرط ناف للحكم عند عدم الوصف والشرط، والتغيير هنا في موضعين: أحدهما- هذا وهو جعل النص المقيد نافيًا للحكم عند عدم القيد. والثاني- إبطال حكم ثابت بالنص وهو الإطلاق مع إمكان العمل به. (والمطلق ساكت) عن ذكر الوصف (والمقيد ناطق) أي بذكر الوصف، فكان محكمًا في أن ذلك الوصف هو المراد والمطلق محتمل له، فوجب حمل

المحتمل على المحكم (كما قيل في قوله عليه السلام: ((في خمس من الإبل شاة))) لا يتعرض إلى الإسامة لا بالنفي ولا بالإثبات، وقوله عليه السلام: ((في خمس من الإبل السائمة شاة)) يتعرض للإسامة، فوجب حمل المطلق على هذا المقيد. وفي نظيره من (الكفارات) أي يشترك الإيمان في تحرير الرقبة في كفارة الظهار واليمين والصم أيضًا إلحاقًا بكفارة القتل بخلاف زيادة الصوم في القتل، فإنه لم يلحق به كفارة اليمين، يعني لم يشترك في كفارة اليمين صوم شهرين متتابعين مع ورود النص في كفارة القتل بصوم شهرين متتابعين كما قلنا بصفة الإيمان في تحرير الرقبة؛ لانا ما ادعينا أو ورود النص الخاص في حادثة يكون ورودًا بالأخرى، بل نقول: الحكم إذا ثبت مضافًا إلى مسمى بوصف خاص يكون ذلك الوصف بمعنى الشرط، والشرط عندي يوجب

النفي عند عدم الشرط في المنصوص عليه، وفي نظائره بخلاف زيادة الصوم وأخواتها، فإن ذلك ثابت باسم العلم وهو شهران وعشرة مساكين وركعتان وثلاث وأربع، فيقتضي الوجود لا النفي. وقوله: (ووظائف الطهارات) مثل سنية التثليث وسنية المضمضة والاستنشاق في الوضوء دون التيمم. (وأركانها)، ففي الوضوء أربعة أعضاء وفي التميم عضوان، (ونحو ذلك) كاشتراط الأربعة في شهود الزنا وفي غير مشروطة في سائر الشهادات، والجملة الشرطية في قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفة للنكرة وهي أشياء أي لا تكثروا مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها أو كلفكم إياها تعمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها، وذلك نحو ما روي ((أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن

محصن قال: يا رسول الله الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله عليه السلام حتى أعاد مسألته ثلاث مرات، فقال: ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عم شيء فاجتنبوه)) كذا في ((الكشاف)).

(فنبه على أن العمل بالإطلاق واجب)، وهذا لأنه ورد النهي عن السؤال، والسؤال عما هو محكم ومفسر لا يكون، فلا يحتاج فيهما إلى السؤال، ولا يكونا لنهي عن السؤال واردًا فيهما. وأما في حق المجمل فالرجوع إلى السؤال عنه والاستفسار واجب. فعلم أن النهي عن السؤال إنما جاء فيما هو ممكن العمل مع نوع إبهام فيه وهذا هو عين المطلق، فالسؤال فيه يكون تعميقًا وذلك لا يجوز، فهذا تنبيه على أن العمل بالإطلاق اجب والرجوع إلى المقيد ليتعرف حكم المطلق منه ارتكاب المنهي فلا يجوز. (وهو قول عامة الصحابة في أمهات النساء) يعني إجراء المطلق على إطلاقه في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} حيث قيل بحرمة الأمهات مطلقًا سواء دخل بابنتها التي هي امرأته أو لم يدخل بها؛ لأن حرمة الأمهات مطلقة عن قيد الدخول بابنتها فأجري على إطلاقه. وأما حرمة الربيبة إنما تثبت إذا دخل بأمها. وأما إذا لم يدخل بأمها فلا تثبت حرمة الربيبة بمجرد نكاح أمها؛ لأن هذا مقيد بقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}.

(ولأن المقيد أوجب الحكم ابتداء، فلم يجز المطلق؛ لأنه لم يشرع) معناه قبل ورود النص المقيد لم يجز العمل بالمقيد؛ لأنه لم يشرع، فإذا ورد المقيد لم يجز العمل بالمطلق؛ لأنه لم يشرع لا لأن النص المقيد نفى حكم المطلق؛ لأنه لم يتناوله فكيف يوجب الحكم فيه بالنفي. يعني إذا ورد النص المقيد في حادثة ولم يرد النص المطلق في تلك الحادثة بعينها لم يجز العمل بالإطلاق لا لأن النص المقيد نفاه كما في كفارة القتل ورد النص المقيد بتحرير الرقبة المؤمن بقيد الإيمان لم يجز الكفارة لكفارته، لا لأنا لنص المقيد أوجب النفي حكم إطلاق نص آخر؛ لأن النص المطلق لم يرد فيه، ولأن النص المقيد لم يتناول حكم الإطلاق فكيف يوجب النفي فيه بل هذا الحكم وهو حكم النص المقيد حكم متلقى من جهة الشرع، فينتهي إلى ما أنهانا إليه الشرع. وقوله: ((لأنه غير مشروع)) أي لأن المطلق غير مشروع، فلذلك لم تتأد كفارة القتل بإعتاق الرقبة الكافرة (لما قلنا إن الإثبات لا يوجب نفيًا صيغة) يعني أن عدم الجواز بالطلق لا باعتبار أن النص المقيد أوجب فيه عدم الجواز؛ لأن إثبات النص الحكم الذي هو نفي أو إثبات لا يخلو إما أن يثبت ذلك

الحكم إما بالعبارة أو بالإشارة وهذا غير موجود هاهنا، أو بطريق الدلالة وهو لا يصح أيضًا؛ لأن النص المقيد للإثبات وليس للإثبات معنى لغويًا يتناول النفي بل يضاده فكيف يثبت النفي بالدلالة أو بطريق الاقتضاء، وهو أيضًا غير مستقيم؟ لأن الحكم الثابت بالاقتضاء إنما بكون بمقتضى النص المذكور الذي ليس له استغناء بنفسه عند السامع؛ بل هو محتاج إلى ما يصححه، وفي ضمن ذلك المصحح يثبت الحكم الثابت بالاقتضاء، وهاهنا النص المذكور وهو المثبت لحله من غير احتياج إلى آخر، فلا يكون الحكم هنا ثابتًا بالاقتضاء. ولئن تصور افتقاره لا يفتقر إلى نص هو ناف؛ لأن النفي لا يصحح المثبت، ولما كان هذا هكذا كان هذا من الشافعي احتجاجًا بلا دليل، وما قلناه عمل بوجل كل نص؛ لأنه عمل بالنص المقيد بالتقييد وعمل بالنص المطلق بالإطلاق، فإن العمل هكذا هو موضوعهما الحقيقي، فكان هو عملًا بالدليلين. (ألا ترى أن قوله تعالى {مِنْ نِسَائِكُمُ} معرفة بالإضافة، فلا يكون المقيد معرفًا ليجعل شرطًا) إذ فيه جعل ما ليس بصالح للشرط شرطًا، وهو باطل، يعني أن وصف المعرف بالإضافة أبالإشارة بالوصف ليجعل شرطًا لا

يجوز. كما في قوله: هذه المرأة التي أتزوجها طالق كان لغوًا حتى لو تزوجها لا تطلق؛ لأن جعل الوصف إنما يصح في حق الغائب لا في حق الحاضر، ولذلك إذا وصف غير المعرف بالإشارة وبالإضافة جاز أن يجعل شرطًا كما في قوله: المرأة التي أتزوجها طالق فإنه يكون تعليق الطلاق بالتزوج، وإنما ذكر هذا لأن الشافعي- رحمه الله- جعل الوصف بمنزلة الشرط وجعل الشرط نافيًا للحكم عند عدمه. فكذلك أيضًا جعل الوصف نافيًا للحكم عند عدمه إلحاقًا للوصف بالشرط، وكذلك جعل نص وصف الإيمان في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} نافيًا للإطلاق ونحن لم نجعله نافيًا. قلنا: إن تحرير الرقبة الكافرة في كفارة القتل لا يجوز؛ لأنه غير مشروع لا لأن النص المقيد بوصف الإيمان نفاه على ما ذكرنا، ولما كان كذلك جهل الشافعي الوصف في قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} بمنزلة وصف الإيمان في الرقبة، كما أن ذلك الوصف ناف لحكم الإطلاق فكذا هذا الوصف أيضًا ناف لحكم الإطلاق، فحينئذ كانت حرمة الربائب منفية عند عدم وصف دخول أمهاتهن؛ لأن عدم ذلك الوصف نفاه كما أن جواز تحرير الرقبة الكافرة في كفارة القتل منتف عند عدم وصف

الإيمان؛ لأن عدم ذلك الوصف نفاه، فأجاب عنه بهذا وقال: ليس كذلك لأن الوصف إنما يلحق بالشرط ويعمل عمله إذا كان ذلك الوصف واقعًا للغائب على ما ذكرنا من قوله: المرأة التي أتزوجها طالق، فإنه يصح ويكون بمنزلة الشرط. كأنه قال: إن تزوجتها فهي طالق، وأما إذا وقع الوصف وصفًا للمضاف إلى المخاطب وأوقع وصفًا للحاضر لا يكون ذلك الوصف بمعنى الشرط، فكذلك لا يكون قوله: هذه المرأة التي أتزوجها طال بمنزلة قوله/ إن تزوجتها فهي طالق، فكذلك لا تطلق إذا تزوجها. (فأما العدم فليس بشرع) يعني أن العدم كائن بالعدم الأصلي لا أن شيئًا ما يجعله عدمًا يعني أن عدم جواز تحرير الرقبة الكافرة في كفارة القتل كان بالعدم الأصلي لا أن هذا الوصف الذي في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} بمعنى الشرط، وهو يجعله عدمًا. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- وفي كفارة القتل ذكر صفة الإيمان في الرقبة لتعريف الرقبة المشروعة كفارة لا على وجه الشرط، وإنما لا تجزئ الكافرة؛ لأنها غير مشروعة لا لانعدام شرط الجواز فيما هو مشروع كما لا تجزئ إراقة الدم وتحرير نصف الرقبة؛ لأن الكفارة ما عرفت إلا شرعًا فما ليس بمشروع لا يحصل به التكفير، وفي الموضوع الذي هو مشروع يحصل به التكفير.

(ولأنا إن سلمنا له النفي ثابتًا بهذا القيد لم يستقم له الاستدلال به على غيره إلا إذا صحت المماثلة). يعني قد ذكرنا قبل هذا أن عدم جواز حرير الرقبة الكافرة في كفارة القتل باعتبار أن هذا النص المقيد بالإيمان أثبته لا يلزم منه عدم جواز تحرير الرقبة الكافرة في كفارة اليمين والظهار إلا بعد أن تثبت المساواة بين كفارة القتل وسائر الكفارات، وهذا لأنه لا شك أن اشتراط الإيمان في الرقبة باعتبار زيادة التغليظ على من باشر سبب الكفارة، وليس بين كفارة القتل وسائر الكفارات مساواة لا في السبب ولا في الحكم. أما في السبب فإن القتل بغير حق لا يكون في معنى الجناية كاليمين والظهار، فأن الله تعالى جعل القتل بغير حق قرين الإشراك بالله تعال في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} واليمين في أصله مشروع كما في الخلف في بيعة الرضوان.

وكذلك الظهار ليس هو إلا تشبيه المحللة بالمحرمة، والتشبيه يحتمل معاني أخر ليس فيها معنى الكذب بان يشبهها بها من حيث السمن أو الهزال أو اللون أو غير ذلك فكان هو صادقًا فيها، ولأنه كان هو في الجاهلية طلاقًا والطلاق مباح في أصله ولكن الشارع جعل ذلك التشبيه في حق الحل والحرمة وجعله كاذبًا فيه، وأوجب فيها لكفارة، ولكن مع ذلك لم يبلغ هو من حيث الجريمة جريمة القتل بغير حق، فوجوب تحرير الرقبة المؤمنة في كفارة القتل لزيادة غلظ معصية القتل لم يدل ذلك على وجوب تحيري الرقبة المؤمنة في كفارة اليمين والظهار لعدم مساواتهما في السبب، وكذلك في الحكم، فالرقبة عين في كفارة القتل ولا مدخل للطعام فيها، والصوم مقدر بشهرين متتابعين وفي الظهار للإطعام مدخل عند العجز عن الصوم، وفي اليمين يتخير بين ثلاثة أشياء ويكفي إطعام عشرة مساكين، فعند العجز تتأدى بصوم ثلاثة أيام، فمع انعدام المماثلة في السبب والحكم كيف يجعل ما يدل على نفي الحكم في كفارة القتل دليلًا على النفي في كفارة اليمين والظهار؟ (فإن قال: أنا أعدي الوصف الزائد ثم النفي يثبت به)، وإنما قال بهذا الطريق حيث قدم الوصف الزائد على النفي لا على التعليق احترازًا عما ذكرنا أن العدم ليس بشرع فلا تصح التعدية فيه. قلنا: لا يصح هذا أيضًا لما ذكرنا أن تحرير الرقبة الكافرة في كفارة القتل

إنما لا يجوز؛ لأنه غير مشروع لا لأن النص المقيد بذكر وصف الإيمان نفى ذلك حتى أنه لو كان جاء النص المطلق بتحرير الرقبة في كفارة القتل أيضًا لقلنا بجواز تحرير الرقبة الكافرة فيها ولم يجئ فلذلك لم نقل بجوازه. وأما في كفارة اليمين والظهار جاء النص بتحرير الرقبة مطلقًا فلذلك قلنا: بجواز تحرير لرقبة الكافرة فيها لما أن النص المطلق ممكن العمل بإطلاقه فيجب العمل له؛ لأنه يصلح أن يكون الإطلاق منا لمطلق مراد المتكلم كالعموم من العام، ولما كان كذلك كانت تعدية شرط الإيمان على قود كلامه تعدية معدوم لإبطال موجود أي تعدية عدم جواز تحرير الكافرة الذي هو لا يصلح أن يكون حكمًا شرعيًا لإبطال صفة الإطلاق التي هي مجودة وصالحة لأن تكون حكمًا شرعيًا فلذلك كان هذا أبعد عن الصواب مما سبق. أو نقول: وهو الأوجه لتقرير الكتاب وهو أن النص المقيد بوصف الإيمان لما لم ينف جواز تحرير الرقبة الكافرة في كفارة القتل بل لأنه غير مشروع على ما ذكر في الكتاب بقوله: ((لا لأن النص نفاه)) كان عدم جواز تحرير الرقبة الكافرة فيها لم تكن ثابتًا بالنص، فحينئذ كانت التعدية تعدية أمر غير ثابت بالنص إلى موضع آخر لإبطال حكم ثابت فيه بالنص وهو الإطلاق وذلك لا يجوز. (وهذا أمر ظاهر التناقض) يعني اعتبر وصف التقييد في النص المقيد على وجه ينفي غيره ولم يعتبر وصف الإطلاق في النص المطلق بوجه ما. مع أن كلا من الوصفين ثابت بالنص ممكن العمل به، ويصلح أن يكون الكل منهما مراد المتكلم، فكان هذا العمل منه تناقضًا حيث يعتبر وصف النص في

موضع ولا يعتبر في موضع آخر. وقوله: (ولكن السنة المعروفة) وهي قوله عليه السلام: ((ليس في الحوامل والعوامل ولا في البقرة المثيرة صدقة)) (أوجبت نسخ الإطلاق) أي أجبت هذه السنة نسخ الإطلاق في ذلك الحديث الذي رواه وهو قوله عليه السلام: ((في خمس من الإبل شاة)) لا أن يكون هذا الحديث المطلق حمل على الحديث المقيد بالصفة وهو قوله عليه السلام: ((في خمس الإبل السائمة شاة)) (لكن نص الأمر بالتثبيت في نبأ الفاسق) وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، وقرأ ابن مسعود- رضي الله عنه-: ((فتثبتوا)) فالتثبيت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف. (فكذلك قيد التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب نفيًا في كفارة اليمين، بل ثبت زيادة على المطلق بحديث مشهور) يعني أن قيد

التتابع في كفارة القتل والظهار لم يوجب نفي جواز التفرق في كفارة اليمين أي لم يكن ذلك على طريق حمل المطلق على المقيد، بل ثبت التتابع في كفارة اليمين بطريق الزيادة على المطلق بحديث مشهور فإن قلت: ما الرق بين القول بالزيادة وبين القول بحمل المطلق بل هما متساويان؛ لأن في كل منهما تركا لعمل بدليل المطلق والعمل بدليل المقيد، فأجيزت الزيادة ولم يجز الحمل؟ قلت: لا بل هما مختلفان لا متساويان، وإن استويا من حيث الصورة؛ لأن في حمل المطلق على المقيد تعدية أمر معدوم لا يصلح حكمًا شرعيًا على موضوع يلزم منه إبطال حكم موجود يصلح حكمًا شرعيًا على ما ذكرنا بيانه، وليس في الزيادة ذلك، بل فيه عمل بحديث مشهور، والعمل مقتضاه واجب بشهادة السلف بصحته، وإن كان يلزم فيه نسخ من وجه لما أن النسخ من كل وجه جائز في الشرع فأولى أن يجوز النسخ من وجه، وأما تعدية

المعدوم لإبطال الموجود فلا يصح أصلًا، ولما كان كذلك فعند استوائها في الصورة وجب أن يحمل ذلك على ما هو موجود في الشرع وهو الزيادة بالمشهور لا على ما هو غير موجود فيه، ولذلك صرح المصنف- رحمه الله- بتأبيد عدم جواز حمل المطلق على المقيد، فنظير استواء الحكمين في الصورة مع وجوب الحمل على الصحة دون الفساد لاختلافهما معنى- إذا استفتح الإمام في قراءته ففتح عليه المقتدى، إن نوى المقتدي بتلك القراءة فتح إمامه يجوز، وإن نوى به القراءة لا يجوز؛ لأن المقتدي مرخص في الفتح دون القراءة، فإنه ممنوع عنها مع أن صورتهما واحدة وهي قراءة المقتدى خلف إمامه في الوجهين، ولكن يجب حمل أمره على الصلاح دون الفساد، وهذا كثير، النظير، يظهر ذلك في مسائل الصرف وغيرها، فكذلك هاهنا لما ورد قراءة ابن مسعود- رضي الله عنه- بقيد التتابع في كفارة اليمين رد بأنها التتابع على مطلق الصوم، لا أن يكون ذلك من قبيل حمل المطلق على المقيد لما فيه منا لفساد الذي ذكرنا. ولا مزاحمة في الأسباب؛ لأن الحكم الواحد جاز أن يثبت بأسباب كثيرة أي على سبيل البدل لا على سبيل الاجتماع، فجاز أن يكون رأس المؤمن سببًا لوجوب صدقة الفطر والرأس المطلق أيضًا جاز أن يكون سببًا مع ذلك كالملك جاز أن يثبت لشخص بالشراء وقبول الهبة والصدقة والوصية والإرث؛ لكن إذا لا يثبت إلا بسبب واحد، ولا مزاحمة في الأسباب أي

لا ينفي وجود سبب وجود سبب آخر على طريق البدل. هذا في السبب. وأما في الحكم فلا يصح ذلك؛ لأن النص المطلق الموجب لصوم ثلاثة أيام مع النص المقيد بالتتابع الموجب لصوم ثلاثة أيام لا يخلو إما أن يوجب كل واحد منهما صومًا غير ما يوجبه الآخر أو عين ما يوجبه الآخر، فلو أوجب كل واحد منهما صومًا غير ما يوجبه الآخر لزم على الحانث المعسر صوم ستة أيام، ثلاثة بطريق الإطلاق وثلاثة بوصف التتابع، وهو خلاف ما أوجبه النص وذلك لا يجوز، ولو أوجب غير ما يوجبه الآخر يجب التتابع فيهما جميعًا؛ لأنه لما وجب عليه التتابع الذي هو وصف زائد على مطلق الصوم بنص يوجبه استحال أن لا يجب؛ إذ لو قلنا بحرمان الإطلاق التقييد في حق الحكم يجب أن يقال: يجب عليه التتابع في الصوم ولا يجب وهذا خلف من القول. ولهذا أشار بقوله في الكتاب: (والحكم وهو الصوم لا يقبل وصفين متضادين)، وحاصله أن الشيئين إذا ترادفا في إيجاب الحكم ولأحدهما زيادة وصف والآخر الذي ليس له زيادة وصف يكون تبعًا للذي له زيادة وصف، فيثبت لهما جميعًا تلك الزيادة كالطلاق الرجعي مع البائن، فالبائن للطلاق زيادة وصف على الرجعي؛ لأن الطلاق لا يكون أقل من الرجعي، فلأن الرجعي زيادة وصف فيلحق الرجعي البائن مقدمًا ومؤخرًا، فيكونان بائنين

لئلا يلغى وصف البينونة التي هي زيادة وصف في الطلاق، فكذلك ههنا النص الموجب لمطلق الصوم كان تبعًا للنص الموجب للتتابع لئلا يلغى وصف التتابع الذي هو زيادة وصف في الصوم. (هو نظير ما سبق) أي كما أن عندنا أن (التعليق بالشرط لا يوجب نفي الحكم) عند عدم وجود ذلك الشرط كذلك التقييد في السبب في النص لا يوجب نفي الحكم عند عدم ذلك القيد في النص المطلق (مثل نكاح الامة تعلق بطول الحرة) أي بعدم طول الحرة بالنص. (وبقى مرسلًا مع ذلك) أي مطلق حله بدون تعليق ذلك الشرط بعدم طول الحرة بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ} وهكذا نقول في قوله: إن دخل عبدي الدار فأعتقه، فإن ذلك لا يوجب نفي الحكم الذي قبله حتى لو كان ذال أولا: أعتق عبدي، ثم قال: أعتقه إن دخل الدار- جاز له أن يعتقه قبل الدخول بالأمر الأول، ولا يجعل هذا الثاني نهيًا عن الأول، وتمام هذا مذكور في ((أصول الفقه)) للإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-. (لأن الإرسال والتعليق يتنافان وجودًا) يعني أن الحكم الواحد إذا وجد لا يجوز أن يكون حال كونه موجودًا بهذين الطريقين للتنافي كالملك في شيء إذا ثبت لشخص لا يجوز أن يثبت بالبيع والهبة للاستحالة. فأما قبل وجوده فجاز أن يثبت بهذا أو بهذا، فكذلك نقول في الحكم

المعلق والمرسل. (وذلك المعنى ذكرناه) يعني أن الصلاة إذا أضيفت إلى وقت كصلاة الظهر مثلًا كان ذلك الوقت سببها وظرفًا لأدائها وشرطًا له أيضًا، فلا يجوز تقديم الحكم على السبب ولا يوجد المشروط قبل الشرط، وعدم جواز التقديم على سببها لهذا لا لأنه وجد سببها، ومع ذلك لا يجوز التقديم على وقت معين، وكذلك صوم السبعة في المتعة قبل أيام النحر لا يجوز؛ لأنه لم يشرع قبل وقته وهو وقت الرجوع إلى أهله؛ لأن ذلك أضيف إلى الرجوع بكلمة (إذا) بقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} والمضاف إلى وقت لا يجوز قبل ذلك

الوقت كصوم رمضان قبل شهود الشهر لا أن يكون الفساد لعدم التفريق حتى لو فرق ولكن صام قبل الرجوع لم يجزه أيضًا. علمنا أن الفساد ليس لعدم التفريق وأنه ليس بشرط للجواز، والتتابع شرط للجواز فلا يبقى للتتابع معارض، ومع ذلك لم يقيد المطلق من الصيام بالتتابع، فبطل أصله. كذا في ((التقويم)). ولأنه لا يصح هذا العذر من الشافعي ما قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- فالمطلق في الكفارة إنما يحمل على المقيد في الكفارة أيضًا، وليس في صوم الكفارة مقيد بالتفرق، فإن صوم المتعة ليس بكفارة بل هو نسك بمنزلة إراقة الدم الذي كان الصوم خلفًا عنه. قلت: ولكن للشافعي أن يقول: صوم المتعة بدل عن دم المتعة، ودم المتعة عندي دم جبر وهذا الصوم خلف عنه فكان هذا الصوم أيضًا صوم كفارة لكونه جبرًا للنقصان الثابت بالقرآن والمتعة، فإن الإفراد عنده أفضل من المتعة والقرآن، ولكن هذا العذر أيضًا لا يجدى له؛ لأن عدم جواز صوم السبعة قبل الرجوع لا لوجوب التفريق بل لعدم وقته على ما ذكرت فلم يصح قوله: إن الأصل يتعارض لأني وجدت صوم المتعة لا يصح إلى متفرقًا؛ لأنه لا يقال للصوم الذي لم يجئ وقته أنه صوم متفرق.

فعلم بهذا أنه لم يوجد صيام أصلًا كان التفرق فيها واجبًا، وإنما وجد من وصف الصيام وجوب التتابع لا غير، مع ذلك لم يحمل المطلق على المقيد في حق التتابع في الكفارة، فكان أصله متناقضًا حيث حمل المطلق على المقيد في موضع ولم يحمل على المقيد في موضع، فكان أصله متناقضًا، والله أعلم بالصواب. * * *

باب العزيمة والرخصة

باب العزيمة والرخصة لما فرغ من تقسيم المشروعات من حيث ثبوت الأحكام من الكتاب على قدر ما يليق من التقسيم من وسعه ذكر في هذا الباب تقسيم الثابت منها، وهو نوعان: عزيمة، ورخصة. فالعزيمة: عبارة عما استقر على الأمر الأول بحكم أنه إلهنا ونحن نعبده؛ يعني أثبت الحكم في حقنا بحكم أنه إلهنا وخالقنا من غير نظر إلى الأعذار منا. والرخصة: ما يغير من عسر إلى يسر بواسطة عذر المكلف.

وقوله: (حتى صار العزم يمينًا) حتى إذا قال القائل: أعزم؛ كان حالفًا أي عند النية. (وهذا الاسم) أي اسم الفرض والكتابة. (ففي التقدير والتناهي يسر) أي بالنسبة إلى كونه غير مقدر وهو في

لفظ الفرض. [الواجب] (ويشير إلى شدة المحافظة) وهي في اسم المكتبة، وسميت مكتوبة؛ لأنها كتبت علينا في اللوح المحفوظ. (ومعنى السقوط أنه ساقط علمًا) أي ساقط عنا من حيث الاعتقاد به قطعًا، يعني لا يجب علينا أن نعتقد قطعًا أنه علينا؛ لأنه يجب الاعتقاد بكونه واجبًا بغلبة الظن. (هو الوصف الخاص سمي به) أي سقوط العلم عما هو الوصف الخاص للواجب، فلذلك سمي بلفظ الواجب؛ لأن الفرض واجب، مستويان في حق لزوم العمل، وإنما المفارقة بينهما من حيث لزوم الاعتقاد في حق الفرض بأنه فرض عليه قطعًا، وعدم لزوم الاعتقاد في حق الواجب، فكان لفظ الواجب هو اللفظ الدال على سقوط العلم والاعتقاد عن المكلف لأنه لازم قطعًا، فلذلك سمي به.

.........................................................................

(صار كالساقط عليه) أي صار الواجب كالساقط على الذي لم يجب عليه العلم بأنه لازم عليه قطعًا لا كما تحمل كما في الفرض، (ويحتمل أن يؤخذ من الوجبة وهو الاضطراب) وهو أي والجبة، والتذكير لتذكير الخير وهو الاضطراب. قال الشاعر: وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلاء وراء الغيب بالحجر

الوجيب: الاضطراب، والأبهر: عرق مستبطن الصلب إذا انقطع مات صاحبه والدم: الضرب، والغيب: الجدار هنا. وقال في ((ميزان الأصول)): الواجب نوعان: لازم قطعًا كالزكاة والصوم، وواجب لا يكون لازمًا قطعًا. مثل: تعين الفاتحة وغيره. (والسنة الطريقة) ومنها الحديث في مجوس هجر: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) أي اسلكوا بهم طريقهم. يعني عاملوهم معاملة هؤلاء في

إعطاء الأمان لأخذ الجزية منهم وهو معروف الاشتقاق (وهو في الشرع: اسم للطريق المسلوك في الدين). (وهو معروف الاشتقاق) أي هي مأخوذة من قولهم: سن الماء إذا صبه، وإنما أخذت السنة منه؛ لأن من يستن بسنة غيره ينصب في الفعل على وفق فعله كالماء الثاني يجري في جريه كجريان الماء الأول، ولذلك سمي الطريق سنة؛ لأن المار ينصب فيه ويجري نحو جريان الماء من غير انعراج ولا التفات إلى شيء آخر. (بل زيادة على ما شرع له الجهاد) من إعلاء كلمة الله وكبت أعدائه. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}.

(وإذا تفاوت الدليل لم ينكر تفاوت الحكم)؛ لأن الحكم نتيجة الدليل، فمهما كان الدليل أقوى كان المدلول وهو الحكم أقوى، (وبيان ذلك) أي بيان أن الدليل نوعان: ما لا شبهة فيه وما فيه شبهة؛ (لأن النص الذي لا شبهة فيه أوجب قراءة القرآن في الصلاة وهو قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}) وإنما تعين ذلك الأمر في حق الصلاة إما بالاستدلال بسياق هذه الآية وسباقها، فإن في كل منهما ذكر الصلاة، وإما بالاستدلال بدلالة الإجماع؛ لأنهم أجمعوا على أن الأمر للوجوب ولا وجوب خارج الصلاة فتعين في الصلاة.

(وذلك فيما قلنا)؛ لأن خبر الواحد مكمل لحكم الأول مقرر له؛ لأن حكم الأول وجوب قراءة القرآن، وبعدما أوجبنا الفاتحة لم يتغير ذلك؛ لأن مقتضى الكتاب أن تجوز الصلاة بأي سورة قرأ، وإذا لم يتبدل هذا الحكم بوجوب الفاتحة عندنا، فلم يجز تغيير الأول بالثاني، وتغييره بأن يصير مقيدًا؛ لأنه لا شبهة في الأول، وفي الثاني شبهة. فإن قيل: لا نسلم بأنه لا شبهة في الأول وهو الكتاب بل فيه شبهة حتى صار هو أدنى من الخبر الأول، فإن ذلك نص عام خص منه ما دون الآية، فيخص فيما وراءه بخبر الاحد، فحينئذ يجب تعيين الفاتحة فرضًا كما هو مقتضى خبر الواحد لقوله عليه السلام: ((لا صلاة إلى بفاتحة الكتاب)). قلنا: ثبت عدم الجواز فيما دون الآية بمعنى لا يوجد ذلك المعنى في الآية، وهو أن ما دون الآية وإن كان من القرآن لا يسمى من قرأه قارئ القرآن على الإطلاق، حتى جوز بعض العلماء قراءة ما دون الآية للجنب والحائض بهذا المعنى فلما لم يتناوله اسم القرآن على الإطلاق لم يكن عدم جواز الصلاة بما دون الآية بسبب أنه مخصوص من قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فكان هو عامًا حينئذ لم يخص منه شيء، فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد،

وإنه لو جاز بما دون الآية- لأنه من القرآن- لوجب أن يجوز بحرف واحد من القرآن؛ لأنه من القرآن، ولم يقل به أحد. فإن قيل: يجب أن لا يثبت الوجوب أيضًا بخبر الفاتحة حينئذ؛ لأنه جاء مخالفًا للكتاب؛ لأن الكتاب يقتضي الجواز بدون فاتحة الكتاب، وذلك الخبر يقتضي الجواز بالفاتحة. قال عليه السلام في الخبر الواحد: ((وما خالف فردوه)). قلنا: ذلك الرد إنما يكون فيما إذا لم يكن العمل بخبر الواحد ممكنًا مع العمل بالكتاب، وهاهنا ممكن على الوجه الذي قلنا بأن يكون مكملًا لموجب الكتاب، وهو أن يحمل على الوجوب. (وخبر الواحد أوجب التعديل)، وهو قوله عليه السلام للأعرابي: ((قم فصل فإنك لم تصل)). (فمن رد خبر الواحد) كما فعله أهل الاعتزال. (ومن سواه بالكتاب كما فعله أهل الحديث.

(واجب ثبت بخبر الواحد)، وهو قوله عليه السلام لأسامة بن زيد حين كان هورديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة إلى مزدلفة فقال: الصلاة يا رسول الله. قال عليه السلام: ((الصلاة أمامك)).

(فإن لم يفعل حتى طلع الفجر سقطت الإعادة). فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين وجوب الترتيب في الصلاة فإن ذلك أيضًا بخبر الواحد، ووجوب الإعادة هناك إذا صلى الوقتية مع ذكر الفائتة لا تسقط سواء خرج الوقت أو لم يخرج ما لم يدخل حد التكرار، وهنا تسقط الإعادة إذا خرج وقت العشاء؟ قلت: جواب هذا وجواب ما يشاكله من الأسولة مذكورة في حج ((النهاية)) فسقوط الإعادة هنا بعد طلوع الفجر مثل سقوط الإعادة في الصلاة عند كثرة الفوائت. وذكر في ((التقويم)) بعد ذكر سقوط الإعادة بعد طلوع الفجر هنا، وقال: وكذلك قال أبو حنيفة- رضي الله عنه- فيمن ترك الفجر، ثم صلى الظهر وهو ذاكر لما عليه: أن ظهره فاسد وعليه القضاء، فإن لم يقض حتى كثرت الفوائت فلا قضاء عليه.

(وخبر الواحد لا يوجبه) أي لا يوجب العلم (فلا يفسد العشاء) أي المغرب. (فجعلنا الطواف به واجبًا لا يعارض الأصل) عملًا بخبر الواحد، هو قوله عليه السلام: ((الحطيم من البيت))؛ لأن الطواف حول الحطيم عمل بخبر الواحد على وجه لا يعارض الكتاب؛ لأنا لطواف حول الحطيم طواف حول البيت أيضًا. (من غير افتراض ولا وجوب) إلا إذا كان من شعائر الإسلام فحينئذ يكون بمعنى الواجب كالأذان والجماعة. وقوله: (إلا أن السنة عندنا) هذا استثناء منقطع بمعنى لكن. اللائمة: الملامة.

(أنه لا يتنصف إلى الثلث لقول سعيد بن المسيب: السنة) أي السنة هكذا. أراد به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. بيان هذا في زيادات ((المبسوط)) وهو ما روي عن ربيعة قال: قلت لسعيد بن المسيب: ما تقول فيمن قطع أصبع امرأة؟ قال: عليه عشر من الإبل. قلت: فإن قطع أصبعين منها؟ قال: عشرون من الإبل، فإن قطع ثلاثة أصابع؟ قال: عليه ثلاثون من الإبل، فإن قطع أربعة أصابع؟ قال:

عليه عشرون من الإبل. قلت: سبحان الله لما كبر ألمها واشتد مصابها قل أرشها! قال: أعراقي أنت؟ فقلت: لا، بل جاهل مسترشد، أو عاقل مستثبت، فقال: إنه السنة، وبهذا أخذ الشافعي وقال: السنة إذا أطلقت فالمراد بها سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرون حديثًا أن النبي عليه السلام قال: ((تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية))، وقوله: ((تعاقل)) أي تساوي المرأة

الرجل في الدية. وقال في المغرب: وعن ابن المسيب ((المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها)) أي تساويه في العقل تأخذ كما يأخذ الرجل (فقال ذلك في القتل الحر بالعبد) أي قال الشافعي- رحمه الله- ذلك أيضًا وهو أن مطلق السنة تقع على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن عليًا- رضي الله عنه- قال: ((إن من السنة أن لا يقتل الحر بالعبد)) فكانت هي محمولة على سنة النبي عليه السلام، وإنما ذكر هذين وإن كان فيهما معنى الإرسال لما أن الشافعي يقبل مراسيل سعيد بن المسيب؛ لأنه تتبعها فوجدها مسانيد، وأما إرسال علي- رضي الله عنه- فإنه مقبول أيضًا؛ لأن إرسال الصحابة مقبول بالإجماع؛ لأن ذلك محمول على السماع. (وعندنا هي مطلقة لا قيد فيها) أي لفظ السنة مطلق لا قيد فيه ويذكر ويراد به غير سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يوجب ذلك الاختصاص سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال عليه السلام: ((من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إل يوم القيامة، ومن ين سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)).

وقوله: (وكان السلف يقولون: سنة العمرين) لبيان أن لفظ السنة يطلق على سنة غير النبي عليه السلام أيضًا. (سنة الهدى، وتركها يستوجب إساءة)، وذلك نحو صلاة العيد والأذان والإقامة والصلاة بالجماعة، ولهذا لو تركها قوم استوجبوا اللوم والعتاب، لو تركها أهل بلدة وأصروا على ذلك قوتلوا ليأتوا بها. (فقيل مرة يكره) فقال: يكره القعود في الأذان ويكره أن يؤذن وهو جنب وهو من آثار سنن الهدى (ومرة أساء) كما في قوله: وإن صلى

أهل المصر جماعة بغير أذان ولا إقامة أساؤوا؛ لأنهم تركوا ما هو من سنن الهدى، ومرة لا بأس، وقال: لا بأس بأن يؤذن واحد ويقيم آخر. (وإذا قيل: يعين فذلك من حكم الوجوب)، فقال: ولا يؤذن لصلاة قبل دخل وقتها ويعاد في الوقت، وفي ((شرح الطحاوي)) يستحب إعادة أذان أربعة: الجنب والمرأة والسكران والمجنون. (ولهذا قلنا: إن ما زاد على القصر في صلاة السفر نفل)؛ لأنه لا يعاقب على تركه ويثاب على فعله، وقد قال الشافعي به فكان نفلًا لجود حده، ولا يلزم على هذا صوم المسافر، فإنه لا يعاقب على تركه ويثاب على فعله مع أنه لو صام يقع فرضًا؛ لأنا نقول: المراد من قوله: لا يعاقب على تركه لو تركه أصلًا، والمسافر يعاقب على ترك الصوم في الجملة وهو ما إذا أدرك عدة من أيام أخر ولم يقضه يعاقب عليه، فكذلك لم يكن الصوم في حالة السفر نفلًا، والنفل شرع دائمًا، فلذلك جعلناه من العزائم؛ لأن شرعية النفل لما لم يبن على عارض من جهة العبد لم يجعلها منا لرخص بل جعلناها من العزائم، وإنما ترض لذكر قوله دائمًا لجانب الرخصة في النفل.

فإن قيل: لم يشرع النوافل في الأوقات المكروهة فلم تكن شرعيتها دائمًا. قلنا: ذلك لأجل المانع وهو نسبة تلك الأوقات إلى الشيطان إلى ما جاءت به السنة مع أن تلك الكراهة لا تنفي نفس شرعية الصلاة فكانت شرعية النوافل دائمة. (ولذلك صح قاعدًا) أي ولشرعيته دائمًا صح قاعدًا (وراكبًا)؛ لأن في مراعاة أركانه على التمام مع وجود وصف الدوام إفضاء إلى الحرج، فلذلك لازم اليسر فصح قاعدًا، وهذا القدر يشعر بالرخصة، فلذلك كان فيه شبهة الرخصة وإن كان هو في أصله منا لعزائم، ولما كان النفل مشتملًا لهذين الوصفين أخر ذكره عن ذكر سائر العزائم؛ لأنه لم يخلص عزيمة. (قال الشافعي- رحمه الله- لما شرع النفل على هذا الوصف وجب أن يبقى عليه (دائمًا ولا يلزم بالشروع؛ لأن حقيقة الشيء لا تتغير في حال دون حال، وهو نفل حقيقة بعد الشرهه فيبقى على صفة النفلية كما قبل الشروع؛ لأن آخره من جنس أوله، ففي الأول كان مخيرًا بين الإتيان به

والترك فيبقى كذلك.

قلنا: نعم كذلك بالنظر إلى ذاته فإنما يلزم الإتمام لغيره وهو صيانة ما أداه؛ لأن ذلك صار مؤدى مسلمًا إلى الله تالى وحق الله محترم. ألا ترى إذا مات قبل الإتمام يثاب على ذلك، فيجب التحرز عن إبطاله مراعاة لحق صاحب الحق، وهذا التحرز لا يتحقق إلا بالإتمام فيجب الإتمام لهذا وإن كان هو نفسه نفلًا كالسعي إلى الجمعة يجب عليه لوجوب غيره عليه وهو الجمعة. وحاصله أن الخصم نظر إلى جانب ما لم يؤد، وما قلناه أولى لوجهين: أحدهما- أن ترجيح جانب الموجود أولى من ترجيح جانب المعدوم؛ لأن الموجود خير من المعدوم. والثاني- أن ما قلنا أقرب إلى الاحتياط. فإن قيل: النفل بعد الشروع قبل التمام لم يصر مسلمًا إلى الله تعالى؛ لأن صحة أول الصلاة موقوفة على آخرها فلا يقال في الأمر الموقوف أنه مسلم إلى الله. قلنا: لا كذلك؛ بل ما قدر من أدائه صار مسلمًا إلى الله تعالى وما ذكره لا يدل على أنه لم يصر الله تعالى بل صار الله تعالى لكن بإبطال آخر الصلاة يبطل أولها لعدم تجزئتها لا لأنه لم يصر مسلمًا إلى الله تعالى. ألا ترى أن مسلمًا لو ارتد-والعياذ بالله- تبطل أعماله الصالحة كلها، ولم

نقل فيها أنها لم تصر مسلمة إلى الله تعالى فكذا هذا. والدليل على أن التسليم إلى الله تالى في ذلك القدر أنه لو مات بعد الشروع في الصلاة يثاب عليه بقدر ما أدى. (والسنن كثيرة في باب الصلاة والحج) أي الأحاديث وردت كثيرة في إلزام القضاء به إذا أفسد النفل في باب أداء الصلاة والحج.

[أنواع الرخص] (وإن شاء بذل نفسه) من حسبة الله تعالى، والحسبة: فعلة من الحساب، يعني: أز جهت آخرت شمردن. وفي ((الصحاح)) قال ابن دريد: واحتسبت بكذا أجرًا عند الله، والاسم الحسبة- بالكسر- وهي الأجر. النكاية: أثري تمام كردن در دشمنان بكشتن يا بجراجت كردن يا

بهزيمت كردن من حد ضرب. (لرجحان حقه في النفس) يفوت صورة ومعنى وحق غيره في المال إنما يفوت في الصورة لا غير. (أن الحكم متراخ) وهو وجوب الأداء؛ لأن أصل الواجب واقع على المسافر، ولهذا صح أداؤه بلا توقف، وهو أمارة كون الوجوب واقعًا عليه، بخلاف أداء الزكاة في أول الحول، فإنه لا تقع زكاة إلا بعد الحول، فعلم أن أصل الوجوب لم يقع عليه في أول الحول، ولا يقال إن وجوب الأداء لا

يضاف إلى السبب بل إلى الخطاب؛ لأن نقول: الخطاب هاهنا مقارن لشهود الشهر، وهو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} والوقت هو معيار، فيكون وجوب الأداء ثابتًا عند وجود الشهر في وقته وهوا لنهر، ولكن مع ذلك أباح التأخير إلى عدة من أيام أخر نظرًا له. (فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه) يعني أن في القسم الأول الحكم ثابت وهو الحرمة مع السبب المحرم، والرخصة تعترض على مثل هذه العزيمة إلى سببها وحكمها قائمًا فكان هو دلالة قوة الرخصة، فكانت رخصة محضة، فظهر أثر ذلك في رفع المؤاخذة. فأما في القسم الثاني فالسبب المحرم قائم وهو شهود الشهر إلا أن الحكم متراخ عن السبب، وفي حق المسافر فلكون السبب القائم موجبًا للحكم

كانت الاستباحة ترخصًا للعذر، ولكون الحكم متراخيًا عن السبب كان هذا النوع دون الأول، فإن كمال الرخصة يتبنى على مال العزيمة؛ لأن الرخصة مقابلة للعزيمة فمهما كانت العزيمة أقوى كانت الرخصة أقوى تحقيقًا للمقابلة، مع ذلك كانت العزيمة هي الصوم هاهنا أولى من التأخير إلى حال الإقامة نظرًا إلى قيام السبب في الحال من غير تعلق؛ لأنه لو كان معلقًا لا يجوز الأداء قبل وجود الشرط؛ لأنه لم ينعقد سببًا كثوم السبعة في الحج قبل الرجوع. (لكمال سببه ولتردد في الرخصة) يعني أن التأخير إنما ثبت رخصة لليسر والرفق، واليسر فيه متعارض؛ لأن فيه نوع يسر وهو الإفطار ونوع عسر وهو الانفراد بالصوم؛ لأن غيره لا يصوم فكان في الصوم في حال الإقامة اليسر متعارضًا بالعسر، وكذلك في الصوم في حال السفر أيضًا اليسر مع العسر متعارضان؛ لأنه إن كان فيه عسر ترك الإفطار وفيه يسر شركة المسلمين، فكان في الأخذ بالعزيمة نوع من الرخصة، فلما كان في الأخذ بالعزيمة أخذ بالرخصة من وجه كان الاخذ بالعزيمة أولى؛ لأن في العزيمة عملًا لله تعالى، وفي التأخير عملًا للنفس.

وهو معنى قوله: (فلذلك تمت العزيمة) أي كان العمل بالعزيمة أولى لتمامها، وتمامها بما ذكرنا هو أن سببها قائم وفي العمل بها عمل لله تعالى وصيانة حق الأداء عند شهود الشهر، وقيل معنى قوله: ((تمت العزيمة)) أي انتقصت العزيمة لما أن التمام مستلزم النقصان، كما قيل: إذا تم أمر دنا نقصه بخلاف الفصل الأول، فإن الحكم هناك ثابت في الحال وهوا لحرمة، وكذا السبب قائم فكملت العزيمة وكملت الرخصة أيضًا بمقابلتها. فكمال العزيمة فيه أثر في أفضلية الأخذ بالعزيمة على وجه لو كان فيه هلاك نفيه كان مأجورًا بخلاف الفصل الثاني؛ لأن في القول الثاني انتقص معنى الرخصة لنوع نقصان في العزيمة وهو معنى قوله: ((فكان دون ما اعترض على سبب حل حكمه)) فلذلك كانت أفضلية الأخذ بالعزيمة مقيدة ببقاء صحته، فإنه إذا أدى إلى هلاك نفسه لم يبق الأخذ بالعزيمة مباحًا له، فلمكان أن السبب الموجب للأخذ بالعزيمة قائم كانت الرخصة حقيقة، ولمكان أن الحكم غير ثابت في الحال كان هذا دون الأول. (وقد أعرض الشافعي- رحمه الله- عن ذلك فجعل الرخصة أولى)، وقال: لما كان حكم الوجوب متراخيًا إلى إدراك عدة من أيام أخر كان الفطر

أفضل ليكون إقدامه على الأداء بعد ثبوت الحكم بإدراك عدة من أيام أخر. قلنا نحن: الصوم أفضل؛ لأن السبب الموجب قائم فكان المؤدى للصوم عاملًا لله تعالى في أداء الفرائض إلى آخر ما ذكرنا. وقوله: (إلا أن يضعفه الصوم) استثناء عن قولنا، وهو قوله: ((فكانت العزيمة أولى)). (فلم يكن نظير من بذل نفسه لقتل الظالم) أي من بذل نفيه لإقامة الصوم في السفر حتى أهلك نفيه ليس نظير من أكره على الفطر في صوم رمضان فبذل نفسه حتى قتل، فإن في صبره هناك هو مأجور وفي صبره في سفر غير مأجور؛ بل هو معاقب لكونه قاتلًا نفسه، وعلى المرء أن يحترز عن قتل نفسه بخلاف قتل الظالم عند الإكراه على الفطر لأن الفعل هناك مضاف

إلى فعل الظالم. وأما هو في الامتناع عن الفطر عند الإكراه مستديم للعبادة مظهر للطاعة عن نفسه في العمل لله تعالى، وذلك عمل المجاهدين. (الإصر): الثقل الذي يأصر حامله أي يحبسه في مكانه لفرد ثقله (والأغلال): جمع غل، وكل منهما عبارة عن الأمور الشاقة التي كانت على الأمم السابقة مثل التوبة بقتل النفس، كقوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}، ومثل قطع الثوب عند إثابة النجاسة، واختصاص جواز الصلاة بالمسجد وغير ذلك، فهذه الأحكام وضعت عنا أصلًا ولم يكن هي في شريعتنا أصلًا، لكن من حيث إن وضعه عنا تخفيف

محض سمي رخصة بطريق المجاز لمشابهته الرخصة في المعنى وهو التخفيف. (فكان دون القسم الثالث) أي في استحقاق اسم الرخصة مجازًا لرخصته ولمشابهته بحقيقة الرخصة. (وذلك أن أصل البيع أن يلاقي عينا) لما روي عن النبي عليه السلام أنه ((نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان))، وروي أنه ((نهى عن بيع الكالي بالكالي)). وقوله: (مشروعا ولا عزيمة) عطف العزيمة على المشروع في النفي لما أن العزيمة أخص من المشروع؛ (لأن دليل اليسر متعين) في السلم بخلاف

الصوم في السفر، فإن الرخصة فيه مترددة لما أنه يسر من وجه وعسر من وجه على ما مر ذكره. أما اليسر في السلم فمتعين؛ لأنه بيع المفاليس وليس يشترط وجود البيع، فكان اليسر فيه متعينًا حتى إذا عين المسلم فيه يبطل السلم، فلا يكون السلم نظير الصوم، (وكذلك اليسر في شرب الخمر) متعين، فلذلك لم يبق الخيار فيه للمكره وهو المضطر للعطش. (لم يستقم صيانة البعض)، والمراد من البعض العقل؛ لأن حرمة أكل الميتة وشرب الخمر باعتبار صيانة عقله عن الفساد، فإذا فاتت نفسه كان هو فائتًا لجميع أجزائه والعقل بعض أجزائه (إلا أن حرمة هذه الأشياء مشروعة في الجملة) يعني في غير حالة الضرورة في هذه الأمة.

(أنقصر) الصلاة (ونحن آمنون) أي غير خائفين إنما تعرض لهذا؛ لأن ظاهر الآية تقتضي اشتراط الخوف لجواز القصر. قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. (((فاقبلوا صدقته))) أي اعتقدوا هذا، واعملوا به.

(فصار الاختيار ضروريًا) أي لأجل أن يختار الأرفق عنده لا مطلق الاختيار، وهو أن يكون مختارًا في شيء مع أنه ليس في ذلك الاختيار نفع يعود إليه. (فأما مطلق الاختيار فلا؛ لأنه إلهي). معناه أن الله تعالى يستحيل أن يعود إليه رفق أو يندفع عنه ضرر؛ لأنه هو الضار النافع على الإطلاق. وأما الاختيار للعبد في جلب المنفعة أو دفع المضرة، فإذا خلا عنهما لم يصلح هو اختيارًا للعبد؛ لأنه إلهي يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. (بظاهر العزيمة) والرخصة حيث قال: القصر في الصلاة رخصة

والإكمال عزيمة، فكان الأخذ بالعزيمة أولى من الأخذ بالرخصة كما في الصوم. (لأن الجمعة هي الأصل عند الإذن) فيتعين عليه أداء الجمعة كما في الحر المقيم. هذا الجواب على طريق المنع. قوله: (ولأنهما مختلفان) هذا على طريق التسليم، يعني ولئن سلمنا أنه

مخير فالفرق بينه وبين ظهر المسافر ظاهر، وهو أن صلاة الجمعة وصلاة الظهر مختلفان، فيستقيم القول بالتخيير هناك. وأما هاهنا فالظهر بأربع ركعات والظهر بركعتين واحد، فالتخيير بين القليل والكثير في شيء واحد لغو؛ لأنهما مختلفان فاستقام طلب الرفق؛ لأن الشيئين إذا كانا متغايرين لا يتعين اليسر في أحدهما، حتى أن العبد إذا جنى وقيمته عشرون درهمًا وقيمة الأرش ألف درهم يتخير المولى بين الدفع والفداء لتغايرهما وعدم تعين اليسر، فكذلك هاهنا الجمعة مع الظهر مختلفان، ولهذا لا يجوز بناء أحدهما على الآخر فلم يتعين الرفق في الأقل عددًا، وهذا لأن الجمعة قليل في عدد الركعات، ولكن مع تحمل مشقة السعي، والظهر كثير في عدد الركعات مع عدم تحمل مشقة السعي، فيخير المكلف بينهما لعدم تعين الرفق في أحدهما. (بخلاف العبد لما قلنا) أي إذا جنى العبد يخير المولى بين الدفع والفداء

لما قلنا إنهما متغايران، ولا يتعين في أحد المتغايرين. (والفصل كان برأ منه)، والدليل على أن ذلك كان تفضلًا منه لا واجبًا عليه؛ قوله تعالى: {فَمِنْ عِنْدِكَ}. (وهذا تابع مقصود) أي معرفة حكم ضد الأمر والنهي تابع غير مقصود؛ لأن المقصد معرفة حكم الأمر والنهي لا معرفة ضدهما. * * *

باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما

باب حكم الأمر والنهي في أضدادهما ذكر وجه المناسبة ووجه التأخير عن ذكر الأمر والنهي المقصودين في الكتاب، وقد ذكرنا بغير الضد في ((الوافي)) وهو المهم في الباب. (وقال بعضهم: يقتضي كراهة ضده) وهذا أدنى مرتبة من قولهم:

يوجب كراهة ضده. (وقال الجصاص: إن كان له ضد واحد كان أمرًا به) حتى لو قال: لا تتحرك يكون أمرًا بالسكون، وإن كان له أضداد لم يكن أمرًا بشيء منها، حتى لو قال: لا تقم لا يكون أمرًا بالقعود ولا بالركوع ولا بالسجود ولا

بالاضطجاع. (ألا ترى أنه لا يصلح دليلًا لما وضع له فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل فلغير ما وضع له أولى)، وهذا لأن الأمر بالشيء وضع لطلب ذلك الشيء ولإيجابه، والأمر ساكت عن ثبوت موجبه فيما لم يتناوله إلا بطريق التعليل، فلأن لا يوجب حكمًا في ضد ما وضع له كأن أولى، ونظير ذلك قوله عليه السلام: ((الحنطة بالحنطة مثل بمثل والفضل ربا))، وتقديره: بيعوا الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل على ما يجيء في القياس إن شاء الله تعالى، فموجب الأمر وجوب التسوية بينهما كيلًا، وحرمة الفضل فيما يتناوله الأمر وهو الحنط والشعير وغيرهما من الأشياء الستة، فالأمر ساكت عن غير هذه الأشياء، ولا دلالة له في ثبوت موجبه في غير هذه الأشياء لا نفيًا ولا إثباتًا. ولو ثبت حكم هذه الأشياء في غيرها إنما يثبت بالتعليل لا بدلالة النص على ذلك، فلما لم يصلح هذا النص دليلًا على ما وضع له في غير ما تناوله فلأن لا يكون دليلًا على ضد ما تناوله هذا النص كان أولى، وضد هذا النص هو أن يقال: لا تبيعوا الحنطة بالحنطة متفاضلًا.

ثم عند هؤلاء وهم الفريق الأول إنما يعاقب إذا فعل ضد المأمور به؛ لأنه لم يأتمر بالأمر؛ لأن الضد عندهم ليس بحرام لعدم تناول هذا الأمر ضده، ولم يجئ صريح النهي في ضد هذا الأمر وهذا العقل فاسد؛ لأنه يؤدي إلى استحقاق العبد العقاب بما لم يفعله، وهو بطل لمخالفة العقل والسمع. أما العقل: فإن المرء لم يعاقب على العدم؛ لأن العقاب شيء والعدم ليس بشيء، فكيف يجوز بناء الموجود على المعدوم؟ وأما السمع: فقال الله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وغيرهما من آيات الوعيد. فإن قلت: كما أن استحقاق العبد العقاب موقوف إلى وجود الفعل القبيح منه فكذلك استحقاقه الثواب الحسن موقوف إلى وجود الفعل الحسن منه، وأيده قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} والسعي أمر وجودي، فيجب أن لا يستحق العبد الثواب الحسن إلا بالسعي الجميل وهو اكتساب الطاعات، ثم قد يحصل له الثواب الحسن بالأمر العدمي وهو الانتهاء عن ارتكاب المنهي عنه، فإن الانتهاء ليس إلا بإبقاء المنهي عنه عدمًا كما كان وهو في ذلك مثاب بالجزاء الحسن. قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ

مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} فيجب أن يكون في استحقاق العقاب كذلك بأن لا يشترط الفعل القبيح. قلت: أما قوله تعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أخبر عن النهي أي المنع وهو فعل، وكذلك الانتهاء الذي يستحق به الثواب عبارة عن ترك الفعل القبيح شرعًا، وترك الفعل فعل لما فيه من استعمال أحد الضدين كالسكون يكون تركه بالحركة وهو فعل. وحاصله أن موجب النهي الانتهاء وهو الامتناع عن المباشرة، ثم إن دعته نفسه إلى المباشرة يلزمه الترك والترك فعل منه فيثاب به، فكان مثابًا بالفعل، وإن كان الانتهاء قد يتحقق بدون الترك الذي هو الفعل. ألا ترى أنا لامتناع الذي به يتحقق الانتهاء يستغرق جميع العمر، والترك الذي هو فعل لا يستغرق، فإنه قبل أن يعمل به يكون منتهيًا بالامتناع منه، ولا يكون مباشرًا للفعل الذي هو ترك الإتيان به، فإن ذلك لا يكون إلا عن قصد منه بعد العلم به. وبيان هذا أن الصائم مأمور بترك اقتضاء الشهوتين في حال الصوم فلا يتحقق منه هذا الفعل ركنًا للصوم حتى يعلم به ويقصده، والمعتدة ممنوعة من الخروج والتزوج والتطيب، وذلك ركن الاعتداد، ويتم ذلك وإن لم تعلم به

حتى يحكم بانقضاء عدتها بمضي الزمان قبل أن تشعر به، وعلى هذا لو قال لامرأته: إن لم أشأ طلاقك فأنت طالق ثم قال: لا أشاء طلاقك- لم تطلق، ولو قال: إن أبيت طلاقك فأنت طالق، ثم قال: قد أبيت- طلقت؛ لأن الإباء فعل يقصده ويكسبه فيصير موجودًا بقوله: ((قد أبيت)) ولا يكون ذلك مستغرقًا لعمره، وعدم المشيئة عبارة عن امتناعه من المشيئة وذلك يستغرق عمره، فلا يتحقق وجود الشرط بقوله: ((لا أشاء)) ولا بامتناعه من المشيئة في جزء من عمره. هكذا ذكره الإمام المحقق شمس الأئمة- رحمه الله- في نهي ((أصول الفقه)). (واحتج الجصاص- رحمه الله- بأن الأمر بالشيء وضع لوجوده، ولا وجود له مع الاشتغال بشيء من أضداده) فلذلك استوى فيه ما يكون له ضد واحد أو أضداد، فبأي ضد اشتغل ينعدم ما هو المطلوب. ألا ترى أنه إذا قال لغيره: اخرج من هذه الدار سواء اشتغل بالقعود فيها أو الاضطجاع أو القيام ينعدم ما أمر به وهو الخروج.

(وأما النهي فإنه للتحريم ومن ضرورته فعل ضده إذا كان له ضد واحد)، فإن قول القائل: لا تتحرك يكون أمرًا بضده وهو السكون؛ لأن المنهي عنه ضدًا واحدًا. (وأما إذا تعدد الضد فليس من ضرورة الكف عنه إتيان كل أضداده) فإنه إذا قال لغيره: لا تقم فللمنهي عنه أضداد من القعود والاضطجاع والركوع والسجود فلا موجب لهذا النهي في شيء من أضداده، فلذلك لا يكون مأمورًا بأضداده. فإن قلت: ينبغي أن يكون مأمورًا بأحد الأضداد على طريق الإجمال كما في كفارة اليمين؛ لأن الانتهاء لا يتحقق إلا بالاشتغال بأحد الأضداد. قلت: الأمر بأحد الأشياء على طريق الإجمال إنما يصح في الأمر القصدي كما في كفارة اليمين. وأما في الأمر الذي يثبت من ضرورة حكمه النهي فلا؛ لأن في الأمر القصدي المقصود حصول الائتمار، وبفعل كل واحد يحصل الائتمار فيصح، وأما في النهي فالمقصود تحريم فعل المنهي عنه والانتهاء عن الإتيان بذلك الفعل المنهي عنه، وفي حصول الانتهاء الاشتغال بكل واحد من الأضداد مستو، ثم لو قلنا: بأن المنهي مأمور بالإتيان بكل أضداد المنهي عنه كان قولًا بالأمر بضد

النهي من غير ضرورة، فإن الانتهاء يحصل بالاشتغال بواحد منها فلا يحتاج إلى الاشتغال بالآخر، فكذلك لا يكون مأمورًا بالكل وفي كونه مأمورًا بواحد منها يلزم ترجيح أحد المتساويين من غير مرجح فلا يصلح ذلك أيضًا. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: وقول من يقول بأن مثل هذا النهي يكون أمرًا بأضداده يؤدي إلى القول بأن لا يتصور من العبد فعل مباح أو مندوب إليه، فإن المنهي عنه محرم أضداده واجب بالأمر الثابت بمقتضى النهي، فيكون يتصور منه فعل مباح أو مندوب إليه. ألا ترى أن من قال لآخر: لا تأكل أمرًا بقوله: اترك الأكل، قوله: اترك الأكل أمر فيوجب عليه ما يحصل به ترك الأكل من القراءة والتكلم والمضمضة والذهاب والبول والتغوط والجماع وغيرها، فإن بكل منها يحصل ترك الأكل على الكمال، والأمر بالشيء طلب لتحصيل المأمور به على أبلغ الجهات فلا يبقى فعل مباح، وفي اتفاق العلماء على أن أقسام الأفعال التي يأتي بها العبد عن قصد أربعة: واجب ومندوب إليه، ومباح ومحظور- دليل على فساد قول هذا القائل. قال: أي الجصاص.

(ولم يكن مأمورًا بلبس شيء متعين من غير المخيط)؛ لأن غير المخيط غير متعين في شيء واحد؛ لأن له أنواعًا. فإن قلت: المنهي عنه مخيط فيكون ضده غير مخيط وهو شيء واحد فكان نظير الإظهار مع الكتمان. قلت: ليس كذلك، فإن الإظهار والكتمان ليس له أنواع بخلاف المخيط مع غير المخيط؛ فإن لكل واحد منهما أنواعًا والذي ذكرت أن المخيط ضده غير المخيط وهو لا يقدح لما قلنا، فإن مثل هذا متحقق بين القيام وضده، فإن ضد القيام هو ترك القيام ولا واسطة بينهما صورة وبينهما واسطة في المعنى، فإن لضده أنواعًا من القعود والاضطجاع والركوع والسجود. (إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به) يعني أن الأمر لما كان نهيًا عن ضد ما نسب إليه يثبت أدنى ما يثبت به النهي وهو الكراهة كما في النهي لمعنى في غير المنهي عنه بطريق المجاورة كالبيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة، فكذلك في النهي الثابت بضد الأمر؛ لأن الثابت لغيرة بطريق الضرورة لا يتساوي الثابت بالأمر المقصود، ولما كان كذلك لم يجز

استواهما، إذ لا مساواة بين المثبت بطريق الضرورة وبين المثبت قصدًا واعتبر هذا بالثابت بطريق الاقتضاء والثابت بالنص. (وأما الذي اخترناه) وهو قوله: إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به (فبناء على هذا) وهو أن الثابت بغير ضرورة لا يساوي المقصود بنفسه، (ومعنى الاقتضاء هنا أنه ضروري غير مقصود) يعني أن هذا الاقتضاء على خلاف الاقتضاء المصطلح من وجه، فإن الاقتضاء المصطلح هو جعل غير المنطوق منطوقًا ليصح المنطوق، وهاهنا يصح الأمر بدون إدراج غيره. لكن ما ثبت الانتهاء ضرورة إثبات المأمور به سمي اقتضاء، وبهذا التقرير خرج الجواب عن قوله: بان كل واحد من القسمين ساكت عن غيره؛ لأنا لما أثبتناه اقتضاء لم يكن كل واحد منهما ساكتًا عن ضده. (فصار بهذه الواسطة أمرًا) أي فصار النص بواسطة عدم مشروعية الكتمان أمرًا بالإظهار، وهذا مثل قوله عليه السلام: (((لا نكاح إلا بشهود))) وهو نسخ للنطاح بغير شهود ولا نهي، فكان نص الحديث بواسطة عدم

مشروعية النكاح بغير شهود أمرًا بإحضار الشهود في النكاح. (وفائدة هذا) الأصل وهو أن الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده؛ (أن التحريم إذا لم يكن مقصدًا بالأمر لم يعتبر إلا من حيث يفوت الأمر) أي لم يجعل ضد المأمور به حرامًا إلا إذا تضمن الاستعمال بالضد تفويت المأمور به حينئذ يكون الاشتغال بضد المأمور به حرامًا. (وأما إذا لم يفوته كان مكروهًا) لا حرامًا لتقريبه إلى الحرمة؛ إذ الحكم يثبت على حسب ثبوت العلة كالأمر بالقيام كما في الركعة الثانية، وهو مأمور بالقيام، ثم هو لو قعد مع ذلك في الركعة الثانية لا يحرم ذلك عليه بل يكره لما قلنا إنه ليس بتفويت للقيام بل هو تأخير له. (ولهذا قلنا: إن المحرم لما نهي عن لبس المخيط كان من السنة بس الإزار والرداء)؛ لأن ذلك أدنى ما يقع به الكفارة من غير المخيط، (ولهذا قلنا): إن العدة لما كان معناه النهي عن التزوج) إلى آخره إيضاح لقوله: ((إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما ثبت به)) أي ولما ثبت وجوب العدة بالنهي

قصدًا لقوله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ} وبقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} كان ثبوت أمر الكف في ضده أمرًا غير مقصود، فظهر أثره في انقضاء العدتين والعدد في مدة واحدة؛ لأنه لا تضايق في موجب النهي لكونه أمرًا عدميًا وكونه للتحريم (بخلاف الصوم، فإن الكف وجب بالأمر مقصودًا فيه) وهو قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلذلك لم يتحقق أداء صومين في يوم واحد لتضايق في ركن كل صوم وهو الكف إلى وقت فإنه ثابت بالأمر نصًا، ولا يتحقق اجتماع الكفين في وقت واحد. فإن قلت: في حق وجوب العدة كما جاء نص النهي بقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} وقوله {وَلا يَخْرُجْنَ} كذلك جاء نص الأمر بقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وهذان النصان يحتمل أن يكون كل واحد منهما أصلًا والآخر تبعًا، فمن أين يرجح جانب النهي على جانب الأمر حتى جعل النهي أصلًا والأمر ضمنًا له، فلم لم يجعل على العكس؟ قلت: إنما جعل هكذا بالنظر إلى الأثر وبالنظر إلى المعقول.

أما الأثر: فإن العدة أثر من آثار النكاح فكانت ملحقة بالنكاح ملحقة بالنكاح، والمنكوحة يحرم عليها التزوج وهي منهية عن لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} وهي معطوفة على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} والمراد بها ذوات الأزواج. فلما كانت المعتدة منهية عن التزوج باعتبار أن العدة من آثار النكاح كان الكف عن التزوج أمرًا به في ضده تحقيقًا للنهي عن التزوج فلم يكن الأمر بالكف مقصودًا لهذا، فيثبت بهذا أصالة النهي في العدة، فلما كان كذلك كان ورود صيغة الإثبات بوجوب التربص بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} لتأكيد معنى النهي لا لإثبات وجوب التربص ابتداء، فلذلك انقضت العدد كلها بمدة واحدة؛ لأن حكم الكل هو حرمة التزوج؛ لأن موجب النهي التحريم والحرمات تجتمع، فإن الصيد حرام على المحرم في الحرم لحرمة الحرم وحرمة الإحرام، والخمر حرام على الصائم لصومه ولكونها خمرًا، وليمينه إذا كان حلف لا يشربها. بخلاف ركن الصوم، فإنه مذكور بعبارة الأمر بقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فلذلك لم ينقض صوم يومين في يوم واحد. وأما المعقول: فهو أن المعنى في وجوب العدة صيانة الماء عن الاشتباه وتعرف

براءة الرحم، فالصيانة الثابتة بالنهي أوجب من الصيانة الثابتة بالأمر لما عرف، فكان إحالة وجوب العدة على النهي أولى من إحالته على الأمر من هذا الوجه. فإن قلت: لو كان المعنى في وجب العدة تعرف براءة الرحم لاكتفى بحيضة واحدة لحصول معرفة براءتها بالحيضة الواحدة كما في الاستبراء. قلت: نعم كذلك، لكن الوجه فيه ما قاله في ((المبسوط)) وهو أن الحيضة الواحدة لتعرف براءة الرحم، والثانية لحرمة النكاح، والثالثة لفضيلة الحرية، فلذلك لم تتداخل أقراء العدة الواحدة إن تداخلت أقراء العدتين. كالجلدات في الحد فإنها لا تتداخل في الحد الواحد وتتداخل الحدان، فلو قلنا بالتداخل في أقراء فإنها تتداخل في الحد الواحد وتتداخل الحدان، فلو قلنا بالتداخل في أقراء عدة واحدة يفوت هذا المقصود، فظهر بما ذكرنا كله إن أثر عدم مقصودية الأمر في وجوب العدة ظهر في مسألتين. إحداهما- في جواز تداخل العدتين في وقت واحد. الثانية- في عدم اشتراط علم المرأة بانقضائها بخلاف الصوم في هذين الحكمين لما أن الأصل في وجوب العدة النهي وفي الصوم الأمر على ما ذكرنا. (ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله- إن من سجد) هذا إيضاح لقوله: ((إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين)) إلى آخره كالمتقدمين، إلا أن ذينك المتقدمين أعني قوله: ((ولهذا قلنا إنا لمحرم لما نهي)) وقوله: ((ولهذا قلنا إن

العدة)) في بيان أن ذينك أصل وثبت الأمر في ضمنهما، وهذا أعني قوله: ((ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله-في بيان أن الأمر أصل، وثبت النهي في ضمنه ولكن هما سواء في إيضاح قوله: إلا أنا أثبتنا بكل واحد من القسمين أدنى ما يثبت به)). (وإنما المقصد بالأمر فعل السجود) بقوله: {وَاسْجُدُوا} (على مكان طاهر) بدلالة قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ومباشرة العبد بالسجود على مكان نجس لا تفوت المأمور به فكانت مكروهة في نفسها ولا تكون مفسدة في الصلاة، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله- تفسد بها الصلاة؛ لأن تأدي المأمور به لما كان باعتبار المكان فيما يكون صفة للمكان الذي يؤدي المصلي الفرض عليه يجعل بمنزلة الصفة للمصلي حكمًا، فيصير هو كالحامل لنجاسة، والمصلي الحامل للنجاسة إذا أدى ركنًا يفسد صلاته فكذلك إذا سجد على مكان نجس فكان هذا كالصوم، فإن الكف عن اقتضاء الشهوة لما كان مأمورًا في جميع وقت الصوم يتحقق الوات بوجود ترك الكف في جزء من الوقت فيه.

(ولهذا قال أبو يوسف- رحمه الله- إن إحرام الصلاة لا ينقطع بترك القراءة)، وهذا أيضًا من قبيل أن الأمر بالقراءة مقصود في الصلاة، فكان النهي عن ترك الدوام فيها ضمنًا له؛ لأنه أمر بالقراءة أي بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}. (ولم ينه عن تركها قصدًا) إلى آخره. معناه أن القراءة ركن وشرط لصحة الأفعال لا شرط صحة الإحرام، ولا يلزم من ترك القراءة انقطاع الإحرام. ألا ترى أن المحدث حدثًا سماويًا ممنوع عن قراءة القرآن كما ممنوع عن الركوع والسجود، والإحرام باق، فيفسد ترك القراءة ما هو شرط صحته، فلم يتعد إلى الإحرام. ولا يلزم أن الصوم يبطل بالأكل) هذا الإشكال يرد على قول أبي يوسف، فوجه الورود هو أن الأكل في باب الصوم منهي عنه نهيًا ضمنيًا؛ لأن الأمر بالكف عن المفطرات هو المقصود من قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} على ما ذكرنا، فكان النهي عن المفطرات نهيًا ثابتًا في ضمن الأمر

بالكف كالنهي الثابت عن ترك القراءة في الأمر بالقراءة في الصلاة، وهناك لا تنقطع التحريمة بترك القراءة عنده، فيجب أن لا يفسد الصوم هنا أيضًا بمجرد مباشرة النهي عنه وهو الأكل وغيره. ثم أجاب عنه بقوله: لأن ذلك الفرض ممتد، وكان ضده مفوتًا أبدًا كالإيمان، (فإنه فرض ممتد فكان) وجود (ضده) وهو الارتداد- والعياذ بالله- (مفوتًا له) وإن قل، وقد قلنا إن النهي الثابت في ضمن الأمر المقصود إنما لم يعتبر في التحريم إذا لم يؤد إلى تفويت الثابت بالأمر المقصود. وأما إذا أدى فذلك النهي والنهي الثابت قصدًا سواء في إيجاب التحريم. (بمنزلة الحامل مستعملًا له بحكم الفرضية) أي بهذه الواسطة تجعل صفة المكان صفة للمصلي، وهذا احتراز عن وضع الركبتين واليدين على النجاسة حيث لا يفسد صلاته؛ لأن تأدى المأمور به وهو السجود يحصل بوضع الجبهة لا بوضع الركبتين واليدين، فلم تنتقل صفة النجاسة القائمة بالأرض إلى المصلى؛ لأنه هو الأصل، وإنما انتقل إلى المصلى بحكم الفرضية، وهذا المعنى معدوم في وضع الركبتين واليدين.

(لأن القراءة فرض دائم في التقدير حكمًا) لقوله عليه السلام: ((لا صلاة إلا بالقراءة)) ولهذا لا يصلح الأمي خليفة القارئ، وإن كان قد رفع رأسه من السجدة الأخيرة قبل القعدة، وأتى بفرض القراءة في محلها على المذهب المنصور، ولما كان مستدامًا حكمًا يتحقق فوات ما هو الفرض بترك القراءة في ركعة، فيخرج به من تحريمة الصلاة. (والفساد بترك القراءة في ركعة واحدة ثابت بدليل محتمل)؛ لأن من العلماء من قال: تجوز الصلاة بالقراءة في ركعة واحدة وهو الحسن البصري- رحمه الله-، فبترك القراءة في ركعة واحدة لم يكن الفساد بدليل يوجب العلم فلم يكن قويًا فلم يتعد إلى الإحرام.

وأما الفساد بترك القراءة في الركعتين فثابت (بدليل يوجب العلم لانعقاد الإجماع) عليه فصار قويًا (فتعدى إلى الإحرام). (ولهذا قال في مسافر ترك القراءة) إلى آخره، وهذا أيضًا إيضاح لقوله: ((لأنه أمر بالقراءة ولم ينه عن تركها قصدًا)) فكذلك مباشرة النهي وهي ترك القراءة لم يوجب انقطاع التحريمة لثبوت النهي ضمنًا للأمر القصدي، وقوله: ((وهو قول أبي يوسف)) جعل هذا في نوادر صلاة ((المبسوط)) قول أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- وقال: ترك القراءة في ركعتي ظهر المسافر موجب للتوقف في حكم الفساد عند أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- لتوقف حال فرضية في الوقت بغرض التغير بنية الإقامة، فإذا نوى الإقامة في الانتهاء جعل ذلك كنيته في الابتداء، وترك القراءة في الأوليين من المقيم لا يكون مفسدًا لصلاته، فإنه إذا قرأ في الأخريين تجوز صلاته، فكذلك هنا. (لأن الترك متردد محتمل للوجود) أي محتمل لوجود القراءة في الركعتين الأخريين بواسطة نية الإقامة والقراءة في الأخريين.

(فصار هذا الباب أصلًا) يعني في كل موضع من الأمر يلزم تفويت المأمور به عند مباشرة النهي الثابت في ضمن ذلك الأمر كانت تلك المباشرة حرامًا إلا كانت تلك المباشرة مكروهًا لا حرامًا. (يبتنى عليه فروع يطول تعدادها)، فإنك لو نظرت إلى جميع الأوامر التي هي موجبة يرد فيها هذا الأصل الذي ذكرته، فمن تلك الفروع الاعتكاف فإنه يبطل بالخروج وإن قل لما أن الاعتكاف عبارة عن اللبث الدائم في المسجد بنية الاعتكاف فبالخروج ينقطع الدوام، فكان الخروج حرامًا لأدائه إلى فساد الاعتكاف. ومنها أيضًا الصلاة تفسد بالانحراف عن القبلة بالبدل؛ لأن المصلي مأمور بالاستقبال إلى القبلة مادام هو في صلاته أي في غير حالة الضرورة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فكان الانحراف عنها مفوتًا له فيحرم. ومنها أن المصلى مأمور بأن يؤدي صلاته في الوقت بقوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} فكان القضاء خارج الوقت مفوتًا له فيحرم.

وأما المواضع التي لا تحرم بل تكره كمواضيع الكراهة في الصلاة وغيرها فمنها: الصلاة بقرب النجاسة مكروه لا مفسد؛ لأن المصلي مأمور بتظهير مكان صلاته بدلًا قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ولم يفت ذلك المأمور به هاهنا، ولكن قرب من الفوات، فصارت صلاته مكروهة لا فاسدة، فصار كمن أخر القيام في موضع أمر بالقيام في صلاته. وكذلك لو أدى النصاب بنية الزكاة إلى فقير واحد يخرج به عن عهده الزكاة، ولكنه يكره لما أن المأمور به وهو إيتاء الزكاة إلى الفقير لم يفت، ولكن قرب هذا الأداء الفقير إلى الغني فصار شبيهًا بمن أدى زكاته إلى الغني من وجه فكره لذلك. وكذلك هذا في طرف النهي أنه إذا كان مقصودًا كان المنهي مأمورًا بأن يترك ارتكاب المنهي عنه على القطع والبتات، فلو كان فعلًا يقربه إلى ارتكابه كان تركه سنة أو مستحبًا، يظهر ذلك في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} وقوله تعالى: {وَلا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وغيرهما، والله أعلم.

باب بيان أسباب الشرائع

باب بيان أسباب الشرائع لما فرغ من بيان الأحكام التي هي المقصودة بجميع وجوهها من بيان ثبوتها بطريق الأصالة والتبعية شرع في بيان أسبابها التي هي الوسائل، وإن كان لتقديم الوسائل عليها أيضًا وجه لتقديمها وجودًا، ولكن تقديم الأحكام أولى لكونها مقصودة. (اعلم أن الأمر والنهي على الأقسام التي ذكرناها إنما يراد بها) أي أن الأمر والنهي الواردين على الخاص والعام والمشترك والمؤول إلى آخر الأقسام إنما يراد بتلك الأوامر والنواهي والواردة على تلك الأقسام (طلب الأحكام المشروعة، وإنما الخطاب للأداء) في هذا نفي لقول الشافعي، فإن عند الشافعي عدم الانفكاك بين نفس الوجوب ووجوب الأداء بل عند وجود نفس الوجوب يثبت وجوب الأداء. وعن هذا قال بعدم تغير الاحكام على المكلف بعد دخول أول الوقت من

حيض أو سفر. (وإنما الوجوب بإيجاب الله تعالى لا أثر للأسباب) وهذا لأن هذه الأسباب أشياء جمادية، فكان صدور حقيقة الإيجاب منها مستحيلًا؛ لأنه لا محدث للحوادث سوى الله تعالى، والوجوب حادث فلا بد له من المحدث وهو الله تعالى؛ لأن صفة الأحداث على الحقيقة مستحيل أن يكون لغير الله تعالى. إلا أن الله تعالى جعل الأسباب أمارات على الوجوب تيسيرًا على العباد لكون الإيجاب غيبًا عنا، فكانا لسبب لشغل الذمة بالوجوب، والخطاب لتفريغ الذمة عن الوجوب، وهذا في الأسباب الشرعية.

وأما العلل العقلية فقد جعلها الله تعالى مؤثرة في معلولاتها قيام الحركة للتحريك، والقطع للانقطاع، والكسر للانكسار، وثبت الوجوب جبرًا لا اختيار للعبد فيه، وكان الأستاذ- رحمه الله- يقول: آنجه بأسباب أست أثر وي جبريست وأنجه بخطاب است أثر وي اختيار يست. وقوله: (بمنزلة البيع يجب به الثمن ثم يطالب بالأداء) يعني صار السبب بمنزلة البيع، والخطاب بالأداء بمنزلة المطالبة للثمن، (ودلالة هذا الأصل) وهو أن نفس الوجوب بالسبب والأداء بالخطاب. (وإنما يعرف السبب بنسبة الحكم إليه)، وإنما قيد بهذا؛ لأن بمجرد التعليق لا يثبت

السببية كالمشروط مع الشرط؛ (لأن الأصل في إضافة الشيء إلى الشيء أن يكن حادثًا به) كقوله: ناقة الله أي هي حادثة بإحداث الله تعالى إياها، وهذا لأن الإضافة إنما يذكر للتميز، فلذلك يضاف إلى أخص الأشياء به ليحصل التميز، وأخص الأشياء بالحكم إنما هو سبب؛ لأنه يثبت به. وأما الشرط فإنما جازت الإضافة إليه؛ لأنه يوجد عنده، فعلمنا أن الإضافة إلى السبب حقيقة وإلى الشرط مجاز. (وكذلك إذا لازمه فتكرر بتكرره) إي إذا لزم الشيء الشيء على وجه يتكرر هذا الشيء بتكرر ذلك الشيء دل أن ذلك الشيء سبب لوجود هذا الشيء كتكرر وجوب الصلاة بتكرر دلوك الشمس، فإن ذلك يدل على أن دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} مع أن مطلق الأمر لا يوجب التكرار وإن كان معلقًا بشرط. ألا ترى أن الرجل إذا قال لغيره: تصدق بدرهم من مالي لدلوك الشمس لا يقتضي هذا الخطاب التكرار، ورأينا أن وجوب الأداء الثابت بقوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} غير مقصور على المرة الواحدة ثبت أن تكرر الوجوب لاعتبار تجدد السبب بدلوك الشمس في كل يوم يعني ولما لم يثبت تكرر الوجوب في مثل هذه الصيغة وهو قوله لغيره: ((تصدق بدرهم من مالي

لدلوك الشمس)) بل يكتفي ذلك بالامتثال مرة في الخروج عن عهدة الأمر، ولم يكن هاهنا بالمرة الواحدة بل يكرر الوجوب بتكرر لدلوك الشمس علم أن الله تعالى هو الذي جعل دلوك الشمس سببًا لوجوب الصلاة، فلم ينشأ تكرر الوجوب من صيغة الكلام بل من جعل الله تعالى إياه سببًا، ثم وجوب الأداء يترتب على المكلف بحكم هذا الخطاب، وحرف اللام في قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} دليل على تعقلها بذلك الوثت كما يقال: تأهب للشتاء وتطهر للصلاة ولم يتعلق بها وجودًا عندها، فعرفنا أن تعلق الوجوب بها بجعل الشارع ذلك الوقت سببًا لوجوبها. قوله: (وجوب الإيمان بالله تعالى مضاف إلى إيجابه في الحقيقة) وهو قوله: {آمَنُوا بِاللَّهِ} وقوله: ((بأسمائه)) أي بتسمياته نحو الحي القادر العالم، وصفاته نحو أن يقال: له الحياة، والقدرة، والعلم، (وهذا سبب) أي حدث العالم سبب (لأنا لا نعنى أن يكون سببًا لوحدانيته)؛ لأن الوحدانية أمر ثابت قديم، (وإنما نعني به أنه سبب لوجوب الإيمان الذي هو فعل العبد)، وقوله الذي صفة الإيمان لا صفة الوجوب.

وتحقيق هذا المجموع فيما ذكره الإيمان شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- فقال: إن وجوب الإيمان بالله تعالى في الحقيقة بإيجاب الله تعالى، وسبب الإيجاب في الظاهر الآيات الدالة على حدث العالم لمن وجب عليه، وهذه الآيات غير موجبة بذاتها، وعقل من وجب عليه غير موجب عليه أيضًا، ولكن الله تعالى هو الموجب بأن أعطاه آلة يستدل بتلك الآلة على معرفة الواجب، كم يقول لغيره: هاك السراج، فإن أضاء لك به الطريق فاسلكه كان الموجب للسلوك في الطريق هو الأمر بذلك لا الطريق بنفسه ولا السراج، فالعقل بمنزلة السراج، والآيات الدالة على حدث العالم بمنزلة الطريق والتصديق من العبد والإقرار بمنزلة السلوك في الطريق فهو واجب بإيجاب الله تعالى حقيقة، وسببه الظاهر الآيات الدالة على حدث العالم، ولهذا تسمى علامات، فإن العلم للشيء لا يكون موجبًا لنفسه. وقوله: (ولا وجود لمن هو أهله على ما أجرى به سنته إلى والسبب يلازمه) يعني أنا لله تعالى خلق العالم دالًا على وجوده لكون الحدوث لازمًا للعالم بحيث يستحيل تعري العالم عنا لحدوث؛ لأن تعري الشيء عن ذاته محال وذات العالم حادث، فكيف يتصور تعرية عن الحدوث؟ يوضحه أن الإنسان الذي هو عالم بنفيه لا يخلو عن دليل الحدوث، إذ هو كان مسبوقًا

بالعدم ودلالة حدوثه في الحال من تبدل أحواله من حال إلى حال منا لصغر والكبر والجوع والعطش والألم واللذة والصحة والمرض والحركة والسكون معلومة له بالحس والعيان، فإن كانت هذه الدلالة محيطة له في ذاته وخارج ذاته فلما لم ينفك منه بسبب الإيمان لم ينفك منه موجبه أيضًا وهو دوام وجوب الإيمان، وإنما ذكر هذا؛ لأن هذا السبب مفارق لسائر الأسباب لأن سائر الأسباب قد تنقضي والمكلف باق. ألا ترى أن وقت الصلاة ينقضي وشهر رمضان ينسلخ والمال يهلك، ويتصور هذا في الحج؛ إذ البيت كان مجودًا في بدء الإسلام ولم يكن وجوب الحج ثابتًا، بخلاف سبب الإيمان، وهو حدوث العالم غير منفك عن المكلف في ذاته وفي غير ذاته؛ إذ انفكاك الحدوث عن الحادث وهو المكل بالإيمان محال إذ حدوث العالم كان موجودًا قبل المكلف ويبقى بعده موجود معه، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقال قائل: ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فذلك كان وجوب الإيمان أيضًا دائمًا، ولهذا كان وجوب الإيمان وقت

بدء الإسلام وقبله أيضًا ثابتًا لما أن أهل الفترة مخاطبون بالإيمان بدلالة قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} لما أن سبب الإيمان يعمل عمله عند وجود عقل المكل وهما كانا موجودين لأهل الفترة؛ إذ وجوبه غير موقوف إلى ورود الشرع، فوجب الإيمان على أهل الفترة وعلى ما نشأ على شاهق الجبل لوجود السبب والمحل، فيثبت حكمه وهو الوجوب. (لأن الإنسان المقصود به) أي بخلق العالم. إذ الإنسان هو المقصود من خلق العالم؛ لأنهم هم المقصودون بالتكاليف، وذلك أن الله تعالى خلق العالم وله في خلقه عاقبة حميدة وهي الابتلاء والامتحان بالتكليف مع علمه بكل ما كان وما يكون؛ لأن بدن التكليف لا يتصور العقاب إنما يجب بترك موجب الأمر والنهي والله تعالى يتعالى على أن يعذب أحدًا بدون جريمة وجدت منه، والمتحمل لهذه التكاليف قصدًا هو الإنسان، قال الله تعال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} جاء في التفسير: أن الأمانة هي الفرائض وقال

تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}، وقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ} وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} وغير ذلك من الآيات كلها دليل على شرف الإنسان، ولهذا فضل الله تعالى آدم على الملائكة عليهم السلام وجعله مسجودهم، ولا ننكر شرف الإنسان على غيره، ولذلك كان في هذا الجنس وهو أشرف الخلائق وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - والتكليف للتشريف، ولهذا من أعرض عن قبول هذا التشريف من هذا الجنس كان هو شر البرية. ومن قبله وعمل بموجبه فهو خير البرية. هكذا قال رسول الله عليه السلام حين سئل عن كرامة الإنس على الملك، وقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} وذكر قبله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ

أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} فعلم أن الإنسان هو المقصود. وقوله: (ولهذا قلنا: إن إيمان الصبي صحيح) إيضاح لقوله: ((إلا والسبب يلازمه)) بعدم قيام سببه ممن هو أهله والصبي أهل الإيمان؛ لأنه أهل للعبادات. ألا ترى أنه لو صلى التطوعات صحت هي منه. (كتعجيل الدين المؤجل) يعني إذا عجل الدين المؤجل يجوز باعتبار تحقق سببه وهو مباشرة سبب الدين من شراء الشيء وغيره، وأنه لم يلزم الأداء عليه في الحال، فكذا في إيمان الصبي العاقل فإنه يصح وإن لم يلزم عليه في الحال، فيفيد هذا التشبيه ثلاثة أشياء: تحقق السبب وعدم لزوم الأداء في الحال، ووقوع ما أتى به من الفرض وإن لم يلزم هو عليه في الحال. فإن قلت: يلزم على هذا التعليل أعني قوله: ((لأنه مشروع بنفسه وسببه

قائم في حقه دائم بقيام من هو مقصود)) لو أتى الصبي بحجة الإسلام أن يصح منه كما يصح منه الإيمان ويقع فرضًا لوجود هذه العلة في حق الحج؛ لأن الحج مشروع بنفسه وسببه قائم وهو البيت، والصبي أهل للعبادات. قلت: الفرق بينهما من أوجه: أحدها- السمع: وهو قوله عليه السلام: ((وإيما صبي حج ولو عشر حجج، ثم بلغ فعليه حجة الإسلام)) ولان في أداء الحج حرجًا عظيمًا وضررًا بينًا على البدن، والمضار مندفعة عن الصبي مرحمة له، وفي شغل ذمته بنفس الوجوب به نوع ضرر، ولا يقع هو فرضًا بدون ثبوت نفس الوجوب بخلاف الإيمان، فإنه لا حرج فيه وتحصل به سعادة الأبدية، فكان هو نفعًا محضًا في حقه فصح، ولأن وجوب الإيمان مما يدرك بالعقل ولا يتوقف وجوبه إلى وقت ورود السمع كما في حق أهل الفترة وللصبي العاقل عقل، فيصح القول بثبوت الإيمان في حقه بخلاف العبادات المشروعة، فإنها لا تجب بمجرد العقل فلم يثبت لذلك نفس وجوب العبادات، ولأن الإيمان أينما وقع وقع فرضًا فصح فيه القول عند صحة إيمان الصبي العامل إنه وقع فرضًا بخلاف الحج، فإنه يقع فرضًا ونفلًا وما يوجد من الصبي يقع نفلًا كما في سائر العبادات. والأوجه فيه أن يقال: إن الإيمان كما هو رأس العبادات وفيه معنى

الشرطية أيضًا؛ لأنه شرط صحة جميع العبادات فلا يشترط لصحة الشرط ورود وجوب الأداء بالخطاب كما يصح تقديم الوصف على وجوب الصلاة بدخول الوقت، وإن كان سبب وجوب الوصف وجوب الصلاة عليه فصح الإيمان من الصبي لذلك. وأما الحج فليس فيه شائبة الشرطية لشيء فلا يقع منه فرضًا، وكذلك المسافر في شهر رمضان لو صام يصح عن فرض الوقت لوجود سببه وإن لم يكن هو مخاطبًا بالأداء. (وليس السبب بعلة) يعني علة عقلية ووضعية، فإن هناك العلة لا

تتخلف عن المعلول في الدنيا والآخرة لاستحالة وجود الساكن بدون قيام السكون واستحالة خلو المحل عن كونه متحركًا عند قيام الحركة، وكذلك هذا في سائر العلل العقلية مع معلولاتها كالكسر مع الانكسار والقطع مع الانقطاع، وهذا لا يتخلف بزمان دون زمان ومحل دن محل بخلاف الأسباب الشرعية فإنها قد تتخلف عن إثبات أحكامها في زمان. ألا ترى أن دلك الشمس وملك النصاب وشهود الشهر لا تعمل عملها على الإنسان زمان الصبا وتعمل عملها عليه زمان البلوغ عند وجود شرطة، وإنما ذكر هذا- والله أعلم- جوابًا لشبهة ترد على قوله: ((لا على لزم أدائه)) وترد على قوله أيضًا: ((إن الزكاة تجب بإيجابه وملك المال سببه، والقصاص يجب بإيجابه والقتل سببه)) بأن يقال في الأول: لو كان حدوث العالم سببًا لوجود الإيمان للزم أداؤه على الصبي العاقل كما يلزم على البالغ، وكذلك

في الثاني بأن يقال: لو كان مالك المال سببًا لوجوب الزكاة لوجب على الصبي الذي يملك النصاب، ولو كان القتل سبب القصاص لوجب على الأب أيضًا إذا قتل ولده عملًا كما يجب على الاجنبي، فلما وجد تخلف الأحكام عن هذه الأسباب في هذه الصور علم أنها ليست بأسباب. فأجاب عنه بهذا وقال: إنها أسباب موجبة أحكامها شرعًا بجعل الله تعالى فكانت أسبابًا جعلية لا وضعية كما في العلل العقلية، ولله تعالى ولاية الإيجاد والإعدام، فلم يجعل الله هذه الأسباب موجبة أحكامها في هذه الصور بخلاف العلل الوضعية، فإنها لا تتخلف عن موجباتها بحال. (والدليل عليه) أي على كونه سببًا (فالنسبة باللام أقوى وجوه الدلالة على تعلقها بالوقت)؛ لأن اللام للاختصاص كما قيل تطهر للصلاة وتأهب للشتاء، وأقوى وجوه الاختصاص اختصاص الشيء بالشيء من حيث الوجود، وفي جعله سببًا اختصاص من حيث الوجود؛ لأن الله تعالى جعل وجود وجوب الحكم بالسبب الذي هو العلة الشرعية. (ويبطل قبل الوقت أداؤه) أي أداء المكلف على طريق إضافة المصدر إلى الفاعل، ولا يصح أن يقال أي أداء الصلاة على أداء فعل الصلاة؛ لأنه

ذكر بعد هذا بلفظ التأنيث في قوله: ((وإن تأخر لزومها)) أي لزوم الصلاة على معنى لزوم أداء الصلاة، فإن نفس الوجوب يثبت بمجرد الوقت ووجوب الأداء يتأخر إلى آخر الوقت، وبقوله: (ويصح بعد هجوم الوقت أداؤه وإن تأخر لزومها) تبين أن الوقت سبب لوجوب الصلاة لا شرطه؛ لأنه لو كان شرطًا للزوم الصلاة لما تأخر لزومها عن دخول أول الوقت؛ لأن المشروط لا يتأخر عن وجود الشرط بطريق الانفكاك بل يثبت متصلًا بالشرط، فكان فيه أيضًا إشارة إلى بيان انفكاك وجوب الأداء عن أصل الوجوب. (لأنه في الشرع يضاف إلى المال) حيث يقال: صدقة المال ويضاف إلى الغنى أيضًا، قال عليه السلام: ((لا صدقة إلا عن ظهر غنى)).

وقوله: (فيتكرر الوجوب بتكرر الحول)، فإن مضي الحول شرط لوجوب الأداء من حيث إن النماء لا يحصل إلى بمعنى الزمان. فإن قيل: الزكاة يتكرر وجوبها في مال واحد باعتبار الأحوال ويتكرر الشرط لا بتكرر الواجب. قلنا: لا كذلك؛ بل يتكرر الوجوب بتكرر النماء الذي هو وصف للمال وباعتباره يكون المال سببًا للوجوب، فإن لمضي الحول تأثيرًا في حصول النماء المطلوب من غير السائمة بالذر والنسل والمطلوب من ربح العروض التجارة بزيادة القيمة. (وسبب وجوب الصوم أيام شهر رمضان) في هذه المسألة خالف المصنف والقاضي الإمام أبو زيد الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمهم الله-. وقال شمس الأئمة-رحمه الله-: ظن بعض المتأخرين ممن صنف في هذا الباب أن سبب الوجوب أيام الشهر دون الليالي؛ لأن صلاحية الأداء مختص بالأيام، ثم قال: قال- رضي الله عنه-: غلط عندي بل السبب

للوجوب الليالي والأيام سواء، فإن الشهر اسم لجزء منا لزمان يشتمل على الأيام والليالي إلى آخره فقد ذكرناه في موضع آخر. (الوقت متى جعل سببًا كان ظرفًا صالحًا للأداء) كوقت الصلاة، ولم يرد هاهنا من ذكر الظرف ما هو المفهوم من الظرف الحقيقي؛ بل هو أن يكون فاضلًا عن قدر المظروف كوقت الصلاة؛ يفضل عن قدر أداء الصلاة بل أراد به أن الصوم يقع ويوجد في أيام رمضان لما عرف أن اليوم معيار للصوم لا ظرف له، ثم لما جعل الشهر شببًا والليل لا يصلح ظرفًا تعين أن أيام الشهر هي السبب، وكان كل يوم سببًا لصومه حتى إذا بلغ الصبي في أثناء الشهر لم يلزمه قضاء ما مضى وإنما يلزمه ما بقي. (وصح الأداء بعده من المسافر) أي بعد وجوده.

(وقد مرت أحكام هذا القسم) أي في باب تقسيم المأمور به. (رأس يمونه بولايته عليه) فتفسير الولاية هو: نفاذ القول على الغير شاء الغير أو أبى. (فيدل على أجد الوجهين)، وإنما انحصر على هذين الوجهين؛ لأن كلمة (عن) لما كانت لانتزاع الشيء عن الشيء لم يخل ذلك الشيء المنتزع عنه الشيء إما أن يكون ذلك الشيء المنتزع موجودًا أو متقررًا في ذلك الشيء المنتزع عنه الشيء أو لم يكن موجودًا، فإن لم يكن موجودًا أو متقرر فيه لعدم صلاحية ذلك المحل المنتزع عنه الشيء أن يكون محلًا له كان هو لانتزاع الحكم عن السبب، كما يقال: أد عن هذه الأغنام زكاتها، والذي نحن بصدده من ذلك القبيل، وإن كان ذلك الشيء المنتزع موجودًا فيه ومتقررًا عليه لصلاحية ذلك المحل لكونه محلًا لوجوبه كان ذلك الانتزاع للبيان عنه كوجوب الدية على القاتل هو محل الوجوب لصلاحية ذلك المحل أن يكون محلًا لوجوب الدية عليه ثم يتحمل عنه العاقلة بطريق النيابة. (وبطل الثاني لاستحالة الوجوب على العبد والكافر والفقير).

أما العبد فظاهر؛ لأنه لا يملك شيئًا فكيف يجب عليه صدقة الفطر؟ والصدقة إنما تجب على من يملك المال بوصف الغنى، قال عليه السلام: ((لا صدقة إلى عن ظهر غني))، وكذلك الكافر لا تجب عليه؛ لأنه ليس بأهل لحكم هذه الصدقة وهو الثواب، وكذلك لا يجب على الفقير؛ لأنه ليس بغني ووجوب الصدقة باعتباره لما ذكرنا، فلما لم يكن كل واحد من هؤلاء محلًا لوجوب صدقة الفطر عليه لم يحتمل انتزاع حكما لنيابة عن المنوب الذي وجب الحكم عليه أولًا ثم ناب عنه غيره في ذلك كما نابت العاقلة عنا لقاتل فتعين الوجه الأول، وهو انتزاع الحكم عن السبب وهو الرأس، وإنما عينا لفظ الرأس لوجود الإضافة إليه حيث يقال: صدقة الرأس وزكاة الرأس. وقال قائلهم (شعر): زكاة رؤوس الناس ضحوة فطرهم ... بقول رسول الله ((صاع من البر))

ورأسك أغلى قيمة فتصدقي علينا ... بفيك وهو صاع من الذر ومثل عن هذه باستعمالها لانتزاع الحكم عن السبب قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} فإن الضمير عنه راجع إلى {قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} فكان مثل قوله: ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب. التناهي: بغايت رسيدان، وحقيقته تصدر تناهيهم في السمن عنهما، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف، وكذلك هاهنا يصدر وجوب صدقة الفطر على المكلف عمن يمونه. (وإنما نسبت إلى الفطر مجازًا) أي أضيف إلى الفطر وهو شرطه مجازًا كما في حجة الإسلام. (والنسبة تحتمل الاستعارة وهو ظاهر)؛ لأن ابن الابن يسمى ابنًا وأب

الأب يسمى أبًا وكل منهما ليس بابن وأب على الحقيقة. (فأما تضاعف وجوب) صدقة الفطر بتضاعف الرؤوس حكم حقيقي لا يحتمل الاستعارة؛ لأن الاستعارة قضية اللفظ وهذا ليس بلفظ، (وكذلك الوجوب لا يكون إلا بسبب أو علة)، فلو كانت إضافة صدقة الفطر إلى الرأس مجازًا لم يكن سببًا حقيقة بل مجازًا، ويستحيل ترتيب حكم حقيقة السبب على ما ليس بحقيقة. (وكذلك وصف المؤونة يرجح الرأس في كونه سببًا)؛ لأن المؤونة عبارة عن القوت يقال: مأنة أي قاته وهو يتعلق بالرأس، وكذلك مؤنة الشيء سبب لبقاء ذلك الشيء وذلك يتصور في الرأي دون الزمان. يوضحه أن الأصل في وجوب صدقة الفطر على المكلف رأس نفسه وله ولاية على رأسه ومؤنته عليه ثم من كان في معناه بوجود هذين الوصفين فيه وهو رأس يمونه ويلي عليه يلحق هو به، فكذلك ألحق به أولاده الصغار وعبيده فإنه يمونهم ويلي عليهم، فكان رؤوسهم سببًا لوجوب صدقة الفطر عليه لرأس نفسه،

(وقد بينا معنى المؤنة منه في موضعه) أي في غير هذا الكتاب. (غير أن الأداء شرع متفرقًا منقسمًا على أمكنة وأزمنة) إلى آخره. هذا جواب شبهة ترد على قوله: ((وسبب وجوب الحج البيت، والوقت شرط الأداء)) بأن يقال: لو كان هكذا لجاز أداء الحج في أول الشهر الحج وهو شوال؛ لأنه لما وجد السبب وشرط جواز الأداء وجب أن يحكم بجواز الأداء فيه، ومع هذا لا يجوز أداء الحج في شوال. فأجاب عنه بهذا. وذكر شمس الأئمة- رحمه الله- في جوابها وقال: عندنا يجوز الأداء كما إذا شوال، ولكن هذه عبادة تشتمل على أركان بعضها تختص بوقت ومكان وبعضها لا تختص، فما كان مختصًا بوقت أو مكان لا يجوز في غير ذلك الوقت كما لا يجوز في غير ذلك المكان، وما لا يكون مختصًا بوقت فهو جائز في جميع وقت الحج، حتى إن من أحرم في رمضان وطاف وسعى لم

يكن سعيه معتدًا به من سعي الحج حتى إذا طاف للزيارة يوم النحر تلزمه إعادة السعي، ولو كان طاف وسعي في شوال كان سعيه معتدًا به حتى لا يلزمه إعادته يوم النحر؛ لأنا لسعي غير مؤقت فجاز أداؤه في أشهر الحج، وأما الوقوف فمؤقت فلم يجز أداؤه قبل وقته كما لا يجوز طواف الزيارة يوم عرفة؛ لأنه مؤقت بيوم النحر وهو نظير أركان الصلاة، فإن السجود مرتب على الركوع ولا يعتد به قبل الركوع ولا يدل ذلك على أن الوقت ليس بوقت للأداء. (ويصح الأداء دونه من الفقير) أي دون المال، فلو كان المال سببًا لما صح منا لفقير؛ لأنه حينئذ يلزم تقديم الحكم على السبب، بل المال شرط وجوب الأداء وهو نظير عدة من أيام أخر في باب الصوم في حق المسافر، فإنه شرط وجوب الأداء حتى كان الأداء جائزًا قبله فكذلك هاهنا. (فلا يصلح المال سببًا لها) أي للعبادة البدنية؛ لأن الحكم نتيجة السبب، فلا تصلح العبادة البدنية حكمًا للمال.

(لأن العشر ينسب إلى الأرض) أي يضاف إليها، يقال: عشر الأراضي، والخارج وصف لها؛ لأن النماء يحصل بالخارج فالأرض النامية أشبهت المال النامي بالأسامة، فباعتبار الأرض يكون العشر مؤنة. لأن أقدار المؤنة سبب البقاء كأقدار من عليه من عليه النفقة لمن له نفقة، فالعشر أيضًا سبب بقاء الأراضي في أيدي المسلمين لما أن مصارف العشر الفقراء أو ينصر الأقوياء بالضعفاء كما قال عليه السلام: ((إنكم تنصرون بضعفائكم)).

فنفقة النصرة للمسلمين بسبب صرف العشر إلى الفقراء وهو سبب بقاء الأراضي في أيدي المسلمين، ولكن الأرض أصل للخارج؛ فبالنظر إلى الأصل يكون في العشر معنى المؤنة، بالنظر إلى الوصف الذي هو الخارج يكون عبادة؛ لأنه قليل من كثير كما في الزكاة، فلو صح التعجيل قبل وجود الوصف الذي هو الخارج كما مؤنة محضة فلم يصح تعجيله قلا وجود الوصف لذلك، كما لا يصح تعجيل الزكاة في الماشي قبل الأسامة. (وكذلك سبب الخراج) الأرض النامية، (لكن تقديرًا لا تحقيقًا) عند التمكن من الزراعة لكون الواجب من غير جنس الخارج، فإن جريب الزرع قفيزًا هامشيًا ودرهمًا أي زرع كان، وفي جريب الرطبة خمسة دراهم إلى آخره، فلم يتعلق بحقيقة الخارج لذلك، فالشرع علق وجوبه بالتمكن من الزراعة لئلا يتعطل حق المقابلة.

(فصار مؤنة باعتبار الأصل) أي صار الخراج مؤنة بالنظر إلى الأصل وهو الأرض (وعقوبة باعتبار الوصف) وهو الزراعة تقديرًا أو تحقيقًا؛ لأن اعتبار الوصف يوجب كونه عقوبة؛ لأنه اشتغال بعمارة الدنيا وإعراض عن الجهاد، فلذلك كان الخراج في الأصل على الكافر الذمي حيث لم يقبل الإسلام واشتغل بعمارة الدنيا فوضع عليهم الخراج لضرب من الذلة، والاشتغال بالزراعة يصلح سببًا للذلة كما قال عليه السلام ((إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر فقد ذللتم وظفر بكم عدوكم)) ولهذا لا يجتمعان عندنا؛ لأن الخراج لا ينفك عن وصف العقوبة، والعشر لا ينفك عن وصف العبادة فلم يجتمعا، ولأن سببيهما بطريق الأصالة واحد وهو الأرض فلا يجتمع وظيفتان بسبب واحد، ولا يقال: إن وجود الخارج لا ينفك عنا لزراعة ومع ذلك يجب العشر؛ لأنا نقول: اعتبر في حق وجوب العشر اكتساب المال فقط كاكتساب مال يجب فيه الزكاة؛ لأن عمارة الدنيا والاشتغال بها في حق الكفار أصل وفي حق المسلمين عارض، فلا يعتبر العارض في جعل العشر عقوبة به.

أو نقول: الزراعة غير معتبرة في حق وجوب العشر. ألا ترى أنه إذا خرج من الأرض سيء بدون الزراعة يجب فيه العشر إذا كان في أرض العشر، ولا يجب فيه الخراج إذا كان ذلك في أرض الخراج، وذكر في باب المعادن من زكاة ((المبسوط)) ولا شيء في العسل إذا كان في أرض الخراج، وإن كان في أرض العشر ففيه العشر والمعنى فيه أن النحل يأكل من أنوار الشجر وثمارها، وفي الثمار إذا كانت في الأرض العشرية العشر- بخلاف أرض الخراج- فإنه ليس في أثمار الأشجار النابتة في أرض الخراج شيء. فعلم بهذا أن الزراعة في حق وجوب العشر غير معتبرة، بل اعتبر فيه ثمار الأرض بالخرج بأي نوع كان وتعينت الزراعة في حق وجوب الخراج تحقيقًا أو تقديرًا وفي الزراعة الذل على ما جاء في الحديث، فلذلك كان اختصاص الزراعة بالخراج أولى. (لأنها تنسب إليها)، فيقال: طهارة الصلاة (وتقوم بها) أي تقوم الطهارة بالصلاة أي يوجد وجود الطهارة بسبب وجود الصلاة (وهي شرطها، فتعلق بها) أي وجوب ذلك الشرط تعلق بالصلاة، فكذلك وجب بوجوبها؛ لأن ما كان شرطًا لشيء يتعلق به صحته، ووجوبه يوجب الأصل بمنزلة استقبال القبلة، فإن وجوبه بوجوب الصلاة، وكذلك الشهود في باب

النكاح ثبوتها بثبوت النكاح. (ألا ترى أنه إزالة وتبديل فلا يصلح سببًا له)، ولهذا يجوز التوضؤ بدون الحدث فيصير ذلك الوضوء معتبرًا فإن ((الوضوء على الوضوء نور على نور)) ولو كان الحدث سببًا لما وقع معتبرًا قبله؛ لأنه لا اعتبار للمسبب قبل السبب أصلًا. فإن قلت: يلزم على قود كلامك أن لا يجوز تقديم الوضوء على وقت الصلاة؛ لأن الصلاة إنما تجب بعد دخول الوقت، وقد قلت: أن سبب وجوب الطهارة الصلاة فلا يجوز تقديم المسبب على السبب، إذ لو قدم هو عليه لم يقع معتبرًا أصلًا على ما ذكرت. قلت: قد ذكر في الكتاب أن سبب وجوب الطهارة الصلاة وهو كذلك؛ لأن الطهارة قبل دخول الوقت لا تجب كما أن الصلاة لا تجب قبله.

وأما نفس وجود الطهارة فغير موقوفة إلى وجوب الصلاة كستر العورة واستقبال القبلة لما أن الشرط يراعى وجوده لا وجوده قصدًا، فلما توضأ قبل الوقت ودام وضوؤه إلى أن دخل الوقت فقد وجد الشرط وقت وجوب الصلاة، فتصح هي به كما إذا ستر العورة قبل دخول الوقت ودام ستره إلى وقت وجوب الصلاة تجوز به الصلاة كذا هاهنا. فإن قلت: كيف يكون وجوب الصلاة سببًا لوجوب الطهارة والطهارة شرط الصلاة، فكونها شرطًا يقتضي التقديم وكونها حكمًا له يقتضي التأخر فكيف يستقيم اجتماع وصفي التقدم والتأخر للطهارة بالنسبة إلى شيء واحد وهو الصلاة؟ قلت: نعم إن النسبة إلى شيء واحد وهو الصلاة إلا أن تلك النسبة إليها لجهتين مختلفتين، فإن للطهارة كم الصلاة من حيث الوجوب ثم الطهارة شرط للصلاة من حيث الجواز، وتمام هذا مذكور في ((النهاية)). (وسبب المعاملات تعلق بقاء المقدور بتعاطيها) يعني تعلق بقاء العالم

المقدر إلى يوم القيامة بمباشرة هذه المعاملات وتناولها؛ لأن بقاء العالم إنما يكون ببقاء الجنس، وبقاء النفس ببقاء الجنس بالتناسل، فشرع سبب ثبوت نفي التناسل ليبقى هذا الجنس وهو النكاح قصدًا وملك اليمين تبعًا وبقاء النفس إلى أجلها إنما يقوم به المصالح للجنسية وذلك بالمال، فشرعت الأسباب لاكتساب الأموال لتختص بأحكامها من فاز بأسبابها، قطعًا للمنازعة وهي الحكمة البالغة. * * *

كتاب السنة

باب بيان أقسام السنة (وإنما هذا الباب) أي باب السنة (لبيان وجوه الاتصال) من التواتر وغيره (وما يتصل بها) أي بوجوه الاتصال من قسم الانقطاع وبيان محل الخبر وغيرهما (فيما يفارق الكتاب وتختص السنن به)، وذلك أن الثابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختلف طرقه، بعضه بالتواتر وذلك قليل، وبعضه بالشهرة، وبعضه بخبر الواحد، وفي الكتاب لا يتأتى هذه المعاني، بل هو

ثابت بطريق واحد موجب للعلم وهو التواتر، فلثبوت هذه المفارقة بين السنة والكتاب أورد هذا الباب. [باب المتواتر] (وما أشبه ذلك) مثل مقادير الديات، (وهذا القسم) أي قسم الخبر المتواتر (يوجب علم اليقين بمنزلة العيان علمًا ضروريًا) وكان شيخي- رحمه الله-

يقول: ولهذا ثبت العلم بموجب التواتر على القطع والبتات لغير المستدل ما يثبت ذلك للمستدل، فلو كان ثبوت العلم به موقوفًا على الاستدلال لما ثبت به العلم لغير المستدل. (وهذا رجل سفيه). السفيه هو الذي يشتغل بما ليس له عاقبة حميدة ويلحقه ضرر ذلك، كذا ذكره الإمام أبو منصور- رحمه الله- (لم يعرف نفسه ولا دينه ولا دنياه). أما نفسه: فلكونه مخلوقًا من ماء مهين ثبت بالخبر ولم يكن الخبر موجبًا للعلم. ((لم يعرف نفسه)) أي لم يعرف أصل نفسه.

فإن قلت: لو قال قائل: لا نسلم أن عرفان نفسه أنه مخلوق من ماء مهين بالخبر بل بالقياس على غيره أو على ولده أو المولود منه، فإنه لما عاين ولده أنه ولد من امرأته بعد المباشرة بها أضاف وجود ولده إلى وجود مائها؛ لأنه أقرب الأسباب إليه وجودًا، فبعد ذلك قاس وجود نفسه عليه. ألا ترى أن الكافر الذي ينكر قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} يعتقد هذا كما يعتقد المؤمن به، فلو كان ثبوته بالخبر بهذا لاختص به المؤمن. قلت: لا كذلك، فإن مآل ذلك القياس الذي ذكرته راجع إلى الخبر، وهذا لأن أسباب العلم منحصرة على الثلاثة: الحواس الخمس، والخبر الصادق، والعقل، فليس لأحد من الخلق وجود غيره أو وجود ولده أنه خلق

من ماء مهين بمغاير له؛ لأنه لم يعانيه ولا يحكم العقل بأن يخلق الشخص الحيواني المنطيق البليغ العاقل الدراك لأنواع العلم الموصوف بمحاسن الحكم من ذلك الماء الجمادي الذي لا محاسن بينه وبينه، فلما خرج دليل البيان من البين بقي الخبر الصادق بالعين، ولأن القياس لا يثبت العلم القطعي بل يوجب غلبة الظن الذي يجب به العلم، ومن يعرف نفسه أنه خلق من ماء مهين يعرفه على القطع والبتات، وأما ما ذكرته من معرفة المنكر نفسه بأنه خلق من الماء فأصله راجع إلى الخبر أيضًا، فإن أبانا آدم عليه السلام كان نبينا وأخبر هو بأن أولاده مخلوقون منا لماء وحيًا، وكذلك ما بعده من الشرائع نطق به، ونزل القرآن على وفق ذلك فيه كما قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}، ولكن الكافر لعباده أنكر نزول القرآن، وإنكاره لا يبطل حقية الحق والصواب، بل يزيد هو على نفسه شدة العقاب. ويجوز أن يقال معنى قوله: ((لم يعرف نفسه)) أي لم يعرف أنه كان في الابتداء صغير ثم نشأ وكبر، ومعرفة إنما تكون بالخبر. وكذلك أيضًا من أنكر الخبر لا يعرف دينه وهو ظاهر؛ لأن الدين حقيقة الخبر والسماع خصوصًا في أحكام الدين وهي الشرائع، ولا يعرف دنياه

أيضًا؛ لأن البلدان النائية من الدنيا لا يعلمها إلى من عاينها أو أخبر بها، فعلى قود كلام منكر الخبر لا يعرف وجودها من لم يعاينها. (لا تكاد تقع أمورهم إلا مختلفة)، وهذا لأن الله تعالى خلق الخلق أطوارًا على طبائع مختلفة وهمم متباينة يبعثهم ذلك على الاختلاف والتائن أبدًا، والاتفاق بعد ذلك مع الأسباب الموجبة للاختلاف لا يكون إلا بجامع جمعهم على ذلك، وفيه حكمة بالغة، وهي: بقاء أحكام الشرع بعد وفات المسلمين على ما كان عليه في حياتهم، فإن النبوة ختمت برسول الله عليه السلام، وقد كان مبعوثًا إلى الناس كافة وقد أمرنا بالرجوع إليه والتيقن بما يخبر به. قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وهذا الخطاب يتناول الموجودين في عصره والذين يؤمنون به إلى قيام الساعة، ومعلوم أن الطريق في الرجوع إليه ليس إلا الرجوع إلى ما نقل عنه بالتواتر، فبهذا تبين أن ذلك كالمسموع منه في حياته، وقد قامت الدلالة على أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا بالحق خصوصًا فيما يرجع إلى بيان الدين، فيثبت بالسماع منه علم اليقين.

التخالج: در دل خليدن الوهم، دل تحيري شدن. ((وضعًا وتحقيقًا)) أي المتواتر يوجب علم اليقين من حيث الأصل ومن حيث الدليل. (والطمأنينة على ما فسره المخالف) وهو ما ذكر قبله: ومعنى الطمأنينة عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك أو يعتريه وهم. فإن قلت: يفسد تفسير الطمأنينة بقوله: ((عندهم ما يحتمل أن يتخالجه شك)) ويفسده أيضًا في الجواب بقوله: ((على ما فسره المخالف)) يقتضي أن يكون لها معنى آخر وما ذاك.

قلت: نعم كذلك لها معنى آخر سوى ما فسروه، وهو: أن يوجب علم اليقين بحيث لا يتخالجه شك ولا يعتريه وهم، كما قال الله تعالى خبرًا عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ولا شك أن اطمئنان قلبه مما لا يتخالجه شك ولا يعتريه وهم. فعلم بهذا أن الطمأنينة تطلق على علم اليقين الذي لا يتخالجك الشك.

(وأما أخبار زرادشت اللعين فتخييل)، قيل: هو كان في عهد كيقباذ أمير بلخ وهو أراد أن يتزوج أخت زرادشت وهي كانت في غاية الجمال، وزرادشت مان في الابتداء قاضيًا وادعى النبوة والأمير بايعه لطلب مقصوده، والمجوس اتفقوا على نقل

معجزاته عندهم، وقد كانوا أكثر عددًا من المسلمين، فنقلوا على وفق ما يدعونه. (أدخل قوائم الفرس في بطن الفرس) فبقى الرس معلقًا في الهواء، وكذا روي أنه وضع طست فيه نار على صدره فلم يضره، (فإنما رووا أنه فعل ذلك في خاصة الملك وحاشيته). الحاشية: صغار الناس. الوضع: من المواضع، فالمواضعة في الأمر هي: أن توافق مع آخر فيه على شيء، وحقيقتها هي: أن تضع ما في قلبك من الرأي عنده، ويضع هو أيضًا ما في قلبه من الرأي عندك فيتفقا عليه. (وعلى أنه ألقي على واحد من أصحاب عيسى عليه السلام شبهه كما قص الله تعالى)، فإنه جاء في الخبر أن عيسى عليه السلام قال لمن كان معه:

من يرد منكم أن يلقي الله تعالى شبهي عليه فيقتل وله الجنة، فقال رجال أنا، فألقى الله شبه عيسى عليه فقتل هو، ورفع عيس عليه السلام إلى السماء. فإن قيل: هذا القول في نهاية منا لفساد؛ لأنه فيه قولًا بإبطال المعارف أصلًا وبتكذيب العيان، وإذا جوزتهم هذا فما يؤمنكم منه مثله فيما ينقل بالتواتر عن رسول الله عليه السلام أن السامعين إنما سمعوا ذلك من رجل كان عندهم أنه محمد، ولم يكن هو إنما ألقى الله شبهه على غيره، ومع هذا القول لا يتحقق الإيمان بالرسل عليهم السلام لمن يعاينهم لجواز أن يكون شبهة الرسل ملقى على غيرهم كيف والإيمان بالمسيح عليه السلام كان واجبًا عليهم في ذلك الوقت فمن ألقي عليه شبهة المسيح فقد كان الإيمان به واجبًا وفي هذا قول بأن الله تعالى أوجب على عباده الكفر بالحجة وهي المعجزة، فأي قول أقبح من هذا! قلنا: ليس الأمر كما قلتم؛ فإن إلقاء شبهة المسيح عليه السلام على غيره غير مستبعد في القدرة ولا في الحكمة، بل فيه حكمة بالغة وهي دفع شر الأعداء عن المسيح، وقد كانوا عزموا على قتله، والذين قصده بالقتل فقد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون به، فألقى شبهه على غيره على سبيل الاستدراج لهم ليزدادوا طغيانًا، ومثل ذلك لا يتوهم في حقل قم هم يأتون الرسل ليؤمنوا

بهم، فظهر أن الفاسد قول من يقول: بأن هذا يؤدي إلى إبطال المعارف. وأما أنه غير مستبعد في القدرة فغير مشكل، فإن إلقاء الشبه دن إيجاد الأصل لا محالة، وقد إبليس عليه اللعنة في صورة شيخ من أهل نجد ومرة في صورة سراقة بن مالك فكلم المشركين فيما كانوا هموا به في باب رسول الله عليه السلام، وفيه نزل قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. ورأت عائشة- رضي الله عنها- دحية الكبلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما

أخبرته بذلك قال ((كان معي جبريل عليه السلام)) كذا في ((أصول الفقه)) للإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. وعن هذا المعنى قيد في الكتاب قوله: (وذلك جائز استدراجًا ومكرًا على قوم متعنتين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون)، فبطلت هذه الوجوه التي ذكرها مخال من التخييلات وكون أصله في

عدد محصور وعلى تلبيس؛ لأن المتواتر الذي قلنا بأنه يوجب العلم ليس مما يكن تخييلًا، ولا مما يكون بخاصة الملك وحواشيه، ولا يكون مرجعه إلى الآحاد أيضًا، فكان حجة قطعية، والله أعلم. * * *

باب خبر الواحد

باب خبر الواحد (وهو الفصل الثالث من القسم الأول). المراد من القسم الأول الاتصال، ومن الفصل الثالث اتصال فيه شبهة صورة ومعنى. أما الصورة: فلأنه لم يتصل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعًا. وأما المعنى: فلأنه لم تتقله الأمة جمعيًا بالقبول بخلاف المشهور؛ لأن فيه ضرب شبهة صورة من حيث إنه كان في الأصل من الآحاد وليس فيه شبهة معنى؛ لأن الأمة تلقته بالقبول بخلاف المعاملات، فإنه إذا اشترى من صبي عاقل أو عبد يجوز معتمدًا على قولهما بأننا مأذونان.

(فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين) أي أن يثبت وجوب العمل حال كونه غير موجب للعلم.

({وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} وكل واحد إنما يخاطب بما في وسعه) إلى آخره، ولا يدخل عليه الفاسق فإنه داخل في عموم الأمر بالبيان، ثم لا يقبل بيانه في الدين؛ لأنه مخصوص من هذا النص بنص آخر، وهو ما فيه أمر بالتوقف في خبر الفاسق بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا}، وهذا في كتاب الله تعالى أكثر من أن يحصى، منه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}.

(وقد ذكر محمد- رحمه الله تعالى- في هذا) أي في عمل الصحابة ومحاجتهم غير حديث أي غير حديث واحد بل ذكر فيه أحاديث كثيرة

(فإذا اجتمع الآحاد حتى تواترت حدث حقية الخبر ولزوم الصدق باجتماعهم)، وهذا جواب ما قال في الباب الأول: ((إن المتواتر صار جميعًا بالآحاد وخبر كل واحد محتمل)) فمن أين يتأتى اليقين؟ وتفسير الجواب هو أن لا ينكر في المحسوس والمعقول والمشروع أن يثبت لاجتماع الأفراد ما لا يثبت للأفراد عند عدم الاجتماع. ألا رى أن الحبل إذا اجتمع من الطاقات يثبت له من القوة ما لا يثبت من تلك القوة لطاقة أو لطاقتين، وألا ترى أن كل كلمة من القرآن على الانفراد ليست بمعجزة، فإذا اجتمعت صارت معجزة، والحجج العقلية صارت حجة باجتماع المقدمات وكل مقدمة ليست بحجة، فعلم بهذا أن اجتماع الأفراد يثبت حكمًا ما لا يثبته الأفراد بدون الاجتماع، والعقل أيضًا يقتضي ذلك؛ لأن التركب حدث بعد

أن لم يكن، فيجب أن يثبت له حكم بحياله لم يكن ذلك الحكم قبله، وكذلك في المشروع فإن القاضي لا يقضي بشهادة الفرد، فإذا صار الشاهد اثنين يقضي بهما. (إذ العقد فضل على العلم والمعرفة، وليس من ضروراته) أي عقد القلب ليس من ضرورات العلم. ألا ترى أن أهل الكتاب كانوا يعرفون حقية النبي عليه السلام بالنبوة ولا يعتقدونها، والمقلد يعتقد شيئًا بالتقليد لغيره ولا يعلمه؛ إذ العلم هو: تبين المعلوم على ما هو به ويحتمل أن يكون اعتقاد المقلد شيئًا كان على خلاف ما هو به، فعلم بهذا أن العقد مع العلم ينفك أحدهما عن الآخر وجودًا وعدمًا ولم يكن وجود كل واحد منهما من ضرورات الآخر.

باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة

باب تقسيم الراوي الذي جعل خبره حجة (والجواب أن الخبر يقين بأصله) إلى آخره، وتفسير ذلك أن خبر الرسول عليه السلام يقين في أصله لما أن خبر الواحد إنما صار حجة لكونه خبر الرسول، فكان يقينًا بأصله، إذ لو ارتفعت الشبهة الثابتة من النقل لكان يقينًا، إذ الخبر المسموع من ي رسول الله عليه السلام صدق يقين لا شبهة فيه،

والقياس محتمل للصواب والخطأ في نفسه لما أن القياس الصحيح عبارة عن الاجتهاد الصحيح، فإنه يوجب غلبة الظن ولا يوجب علم اليقين. فإن قيل: الوصف المؤثر لو ثبت مناطًا للحكم لكان يقينًا. قلنا: لا نسلم؛ لأن الوقوف على كون الوصف مناطًا للحكم بطريق اليقين لا يتحقق إلا بالنص أو بالإجماع، فحينئذ لم يبق هو قياسًا، بل يكون هو نصًا أو إجماعًا ولا لام فيه، غنما الكلام في القياس الصحيح بدونا لنص والإجماع، وهو ليس بيقين في أصله؛ لأن كل وصف مجتهد فيه هو محتمل للغلط، وهو معنى قوله: (وهو محتمل بأصله) وما كان محتملًا بأصله لا يكون معارضًا لما لم يكن محتملًا للغلط في أصله، فلذلك كان خبر الواحد مقدمًا على القياس. فإن قلت: قولك أن الوقوف على كون الوصف مناطًا للحكم بطريق اليقين لا يتحقق إلا بالنص أو بالإجماع فحينئذ لم يبق هو قياسًا، بل يكون هو نصًا أو إجماعًا كذلك في خبر الواحد لو ارتفعت الشبهة الثابتة بالنقل بأن كان خبر الواحد وقت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبيل ذلك الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر الرسول عليه السلام بصحته لم يبق هو أيضًا خر الواحد، بل كان هو نصًا ثابتًا حجيته قطعًا ولا كلام فيه. إنما الكلام في خبر الواحد.

قلت: نعم كذلك إلا أن بينهما فرقًا من حيث عدم التغير لحقيقته، فإن خبر الواحد عند ارتفاع الشبهة الثابتة بالنقل بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرت يبقى خبرًا ونصًا كما كان عند وجود الشبهة بالنقل إلا أن عند السماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتفعت الشبهة الثابتة بالنقل بالموجب فلم يتغير عن حقيقة كونه خبرًا أو نصًا. وأما القياس عند وجود النص بأن هذا الوصف هو المناط لحكم لم يبق قياسًا أصلًا فتغير عن حقيقته من حيث الاسم ومن حيث الحكم. فعلم بهذا صحة ما ذكره في الكتاب بقوله: (فكان الاحتمال) أي احتمال الخطأ (في الرأي أصلًا، وفي الحديث عارضًا)، فوقوع احتمال الخطأ في أصله ليس كوقوع احتمال الخطأ في العارض وهذا ظاهر، (ولأن الوصف في النص) أي العلة المؤثرة في النص (كالخبر) يعني أن الخبر إبانة عما ليس بحاضر للسامع، والوصف بمنزلته في إبانة أن الحكم متعلق به ونظر المجتهد فيه كأنه يسمع أخبار هذا الوصف إلا أن الوصف مع هذا ساكت عن حقيقة البيان، (والخبر بيان بنفسه) حقيقي (فكان الخبر أقوى من الوصف في الإبانة والسماع) الخبر الحقيقي، فكان أقوى من نظر المجتهد وهذا معنى ما ذكر في الكتاب.

وقوله: (لأنه إذا انسد صار الحديث ناسخًا للكتاب والحديث المشهور ومعارضًا للإجماع)؛ لأن الكتاب يقتضي

وجوب العمل بالقياس بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}. وكذلك الحديث المشهور يقتضي وجوب العمل بالقياس وهو حديث معاذ- رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أجاب هو بما أجاب: ((الحمد لله الذي وفق رسول الله)) وغيره من الأحاديث التي ذكرها في الكتاب، وكذلك الإجماع منعقد على وجوب العمل بالقياس عند انعدام دليل فوقه.

أو نقول: الحديث الذي رواه أبو هريرة- رضي الله عنه- في المصراة لو عملنا به يلزم نسخ الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فإنه يقتضي المماثلة في باب العدوان في قوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سيئة

مِثْلُهَا}، وكذلك السنة والإجماع، والعمل بحديث المصراة يسد باب القياس أصلًا وهو مفتوح بهذه الدلائل الثلاث. (فعمل بحديثه ابن مسعود رضي الله عنه)؛ لأنه وافق القياس عنده، فإن القياس عنده يوجب مهر المثل اعتبارًا بما إذا وقعت بالطلاق بعد الدخول ولم يكن سمي لها مهرًا، لما أن الموت بمنزلة الدخول بدليل وجوب العدة، وبدليل أن النكاح عقد العمر، والعمر بالموت ينتهي، والشيء بانتهائه يتقرر، فصار كأنه وجد ما هو المقصود من النكاح وهو الدخول، فيجب مهر المثل. (ورده علي- رضي الله عنه-) لمخالفته القياس عنده، وهو أن لا يجب مهر المثل قياسًا على ما إذا وقعت الفرقة بالطلاق قبل الدخول فألحق به.

(((ما نصنع بقول أعرابي بوال على عقبيه))) نقل عن الإمام العلامة الكردري- رحمه الله- أن من عادة العرب الجلوس مختبئًا، فإذا بال يقع بوله على عقبيه، والاختباء في الجلوس هو أن يجمع ظهره وساقيه بثوب أو غيره، وهذا لبيان قلة احتياط الأعراب حيث لم يستنزهوا من البول، وهذا طعن من علي- رضي الله عنه- فيه.

(إنه أراد بالكتاب والسنة القياس)؛ لأن حجية القياس تثبت بهما والقياس يرد ما روته لما أن أثرًا من آثار النكاح باق فيجب لها النفقة كما إذا كان الطلاق رجعيًا، والله أعلم. * * *

باب بيان شرائط الراوي التي هي من صفات الراوي

باب بيان شرائط الراوي التي هي من صفات الراوي ومعنى الكلام لا يوجد إلا بالعقل والتمييز). ألا ترى من الطيور ما يسمع منها حروف منظومة يسمى ذلك ألحانًا لا كلامًا، ولا يقع البيان بمجرد الصوت والحروف بلا معنى حتى إذا تكلم

بكملات مهملة لا يسمى كلامًا كما إذا قال: أجني دزي مكان قوله: جاءني زيد لا يكون ذلك كلامًا، فعرفنا بهذا أن الكلام في الشاهد عبارة عن حروف منظومة عن عقل وتمييز يدل على معنى مفهوم، والله أعلم بالصواب. * * *

باب تفسير هذه الشروط

باب تفسير هذه الشروط (أما العقل فنور يضيء) إلى آخره، فالعقل بمنزلة السراج للعين الباصرة، فكان العقل سراجًا لعين القلب فيبصر القلب الطريق عنده، كما أن العين الباصرة تبصر عند السراج، فإذا أبصر الإنسان شيئًا وينبئ بصره يتضح له طريق الاستدلال عند العقل، كما إذا رأى العالم وهو لا يعلم قدمه ولا حدوثه فيبصر القلب عند العقل، والاستدلال حدوث جميع العالم بطريق الاستدلال أن يتأمل القلب فيجد العالم قسمين: عينا عرضًا، ولا يخلو العين عن العرض، والعرض حادث، فيستدل بحدوث العرض على حدث العين، فيحكم بكون جميع العالم حادثًا، وهو معنى قوله: ((نور يضيء به طريق)). (يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس، فيبتدئ المطلوب) أي يظهر للقلب. (فيدركه القلب بتأمله بتوفيق الله تعالى).

....................................................................

[العدالة] وقوله: (واعتدال العقل) وذلك إنما يكون بالبلوغ. قيل: إنما صار البلوغ دليل اعتدال العقل؛ لأنه صار بحال يربي مثله وهو الولد، فلا بد أن يصير عقل المربي معتدلًا.

(لكن هذا الأصل لا يفارقه هوى يضله) يعني أن اتباع هوى النفس معارض للعدالة الظاهرة. قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. (فاعتبر في ذلك ما لا يؤدي إلى الحرج والمشقة وتضييع حدود الشرع) وهذا هو الكامل في الاستقامة؛ لأنه لو توقف الاستقامة على ما هو النهاية التي يحترز بها عما لا ينبغي في الشرع من الكبائر والصغائر كلها على

وجه لا يوجد منه صغيرة ما بوجه من الوجوه أن يوجد من ألف واحد فيتعطل التبليغ الذي هو واجب على كل مسلم، ولذلك قلنا: إذا اجتنب من الكبائر ولم يصر على الصغيرة كان كامل العدالة. (لما لم يكن خبر المستور حجة، فخبر المجهول أولى) لأن المستور من لم يرد عليه رد من السلف، والمجهول من قدر رده بعض السلف.

وقوله: (على الشرط الذي قلنا) وهو أن لا يكونا لعمل به سدًا لباب الرأي والقياس؛ لأن كون القياس حجة تثبت بالكتاب والسنة، فلو كان الخبر مخالفًا للقياس من كل وجه كان الخبر ناسخًا للكتاب والسنة لكونه حجة تثبت بالكتاب على ما ذكرنا. (وأما الإيمان الإسلام) إلى آخره، وكان شيخي- رحمه الله- كثيرًا ما

يقول في التفاوت بينهما مع أن أصلهما واحد: الإيمان: تصديق الإسلام، والإسلام: تحقيق الإيمان. (ألا ترى أنا لنبي- صلى الله عليه وسلم- استوصف فيما يروى عنه عن ذكر الجمل دون التفسير، وكان ذلك دأبه) حتى قال للأعرابي الذي

شهد برؤية الهلال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال: نعم فقال: الله أكبر يكفي المسلمين أحدهم)) أي يقبل شهادته. (والمطلق من هذا) أي من الاستيصاف. (فأما من استوصف فجهل فليس بمؤمن) لأن لم يقل نعم، والسنة في الاستيصاف على وجه الاستفهام، فيقال: إن الله تعالى واحد، قديم، عالم، فادر أهو كذلك؟ وأن محمدًا رسول الله جميع ما أنزل الله عليه حق أهو كذلك؟ فيقول: نعم.

(وكذلك) الحكم (في الصغيرة) إذا بلغت، وإنما يستوصفها على وجه الاستفهام حتى يسهل عليه الجواب، هذا إذا لم يكن أقرت بالإسلام بعد ما عقلت. فأما إذا وصفت الإسلام بعد ما عقلت لا يحكم بكفرها- وإن قالت بعد البلوغ: أن أعرف الإسلام وأقدر على الوصف ولا أصف، قيل: ينبغي أن تبين من زوجها؛ لأنها امتنعت عما في ركن الإسلام وهو الإقرار باللسان من غير عذر فتكون مرتدة كما إذا بلغت عاقلة ولم تصف الإسلام. وأما إذا قالت: أنا أعقل الإسلام لكن لا أقدر على الوصف- اختلف المشايخ فيه؛ منهم من قال: بأنها تبين لأنها لو تركت الوصف مع العلم بذلك تبين، فكذلك إذا كانت جاهلة؛ لأن الجهل في دار الإسلام لا يكون عذرًا. ومنهم من قال: تعذر في ذلك، فإن السكران إذا تلفظ بالكفر لا يحكم بردته استحسانًا، وإن كان عجزه معصية فلأن تعذر هاهنا في العجز عن الوصف كان أولى. كذا في ((الجامع الكبير)) لقاضي خان- رحمه الله. (وإذا ثبتت هذه الجملة) أي جملة ما ذكرنا من شرائط الراوي من الضبط والعقل والعدالة والإسلام (كان الاعمى من أهل الرواية)؛ لأن

العمى لا يؤثر في الخبر؛ لأنه لا يقدح في العدالة. ألا ترى أنه قد كان في الرسل من ابتلى بذلك كشعيب ويعقوب- عليهما السلام- وكان في الصحابة من ابتلى به كابن أم مكتوم وعتبان بن مالك، وفيهم من كف بصره كابن عباس وابن عمر- رضي الله عنهم- وغيرهما، وكذلك (المحدود في القذف من أهل الرواية) أي بعد التوبة بخلاف الشهادة،

فإن رد شهادته من تمام حده ثبت ذلك بالنص ورواية الخبر ليست في معنى الشهادة. ألا ترى أنه لا شهادة للنساء في الحدود أصلًا وروايتهن في الحدود كرواية الرجال، وفي رواية الحين عن أبي حنيفة- رضي الله عنهما- لا يكون المحدود في القذف مقبول الرواية؛ لأنه محكوم عليه بكذبه بالنص، قال الله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والله أعلم بالصواب. * * *

................................................................

باب بيان قسم الانقطاع وقوله: (إن كلامنا في إرسال من لو أسند عن غيره) ضمن الإسناد معنى الرواية فعدى تعديتها بكلمة (عن). (وعزم عليه) أي اعتمد عليه. (فردوا أقوى الأمرين). المراد بالأقوى المرسل، وبالأمرين المرسل

والمسند. (إذا أثنى على من أسند إليه خبرًا ولم يعرفه بما يقع لنا العلم به صحت روايته)، وهو أن يقول: حدثني الثقة ولم يعرف مراده من هذا من هو؟ (وأما إرسال من دون هؤلاء) إلى آخره. قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة فقد كان أبو الحسن الكرخي- رحمه الله- لا يفرق بين مراسيل أهل الأعصار، وكان يقول: من تقبل روايته مسندًا تقبل روايته مرسلًا بالمعنى الذي ذكرنا. وكان عيسى بن أبان- رحمه الله تعالى- يقول: من اشتهر في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته مرسلًا ومسندًا، وإنما يعني به محمد بن الحسن- رحمه الله-

وأمثاله من المشهورين بالعلم، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقًا وإنما اشتهر بالرواية عنه فإن مسنده يكون حجة، ومرسله يكون موقوفًا إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم عنه. وأصح الأقاويل في هذا ما قاله أبو بكر الرازي- رحمه الله-: إن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم يعرف منه الراية مطلقًا عمن ليس بعدل ثقة، ومرسل من كان بعدهم لا يكن حجة إلا من اشتهر بأنه لا يروي إلى عن من هو عدل ثقة وهو معنى قوله: (إلا أن يروي الثقات مرسله كما رووا مسنده) بالإضافة فيهما يعني لو نقل الثقات مراسليه ما ينقلون مسانيده لعدالته حينئذ يكون مراسيله أيضًا حجة كمسانيده؛ لأن نقل الثقات منه تعديل منهم إياه فتقبل.

(حتى إن العام من الكتاب لا يخص بخبر الواحد عندنا) يعني أن الع {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فإنه عام لم يثبت خصوصه فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد وهو ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بدم)) حتى لا يقتل الملتجئ إلى الحرم عندنا.

(ولا يترك الظاهر من الكتاب بخبر الواحد وإن كان خبر الواحد نصًا كما قال في الكتاب في حديث فاطمة بنت قيس مع قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ} ومثل قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ظاهرة يقتضي جواز الطواف بغير طهارة وهو ليس بنص في هذا؛ لأن هذه الآية سيقت لبيان فرض الطواف لا للجواز بغير الطهارة أو بالطهارة، ومع ذلك لم يترك هذا الظاهر بالنص في الحديث، وهو قوله عليه السلام: ((الطواف صلاة)) فإن سوق هذا الحديث لبيان اشتراط الطهارة في الطواف كما في الصلاة، وكذلك حديث التسمية في الوضوء مع قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} على هذا التقدير الذي ذكرنا. وقوله: (ولا ينسخ بخبر الواحد) كخبر وجوب الترتيب في آخر

الوقت، لو لم يسقط الترتيب يلزم منه نسخ الكتاب؛ إذ الكتاب يقتضي جواز الوقتية في وقتها. وقوله: (وقد قال النبي عليه السلام: ((تكثر الأحاديث من بعدي- إلى قوله:- وما خالفه فردوه))). فإن قيل: كيف يصح الاحتجاج بهذا الحديث وهو بعينه مخالف لقوله تعالى: {آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}؟ قلنا: الجواب عن هذا على وجهين: أحدهما- إن هذه الآية في فعل النبي عليه السلام في قسمة الغنائم أي ما أعطاكم الرسول من الغنائم فاقبلوه، وكلامنا في الأقوال لا في الأفعال، فلا تصح المخالفة بين الحديث والكتاب. والثاني- إن كلامنا فيما لام يثبت أنه مما آتانا الرسل به قطعًا حتى إذا ثبت ذلك قطعًا لم يعمل بهذا الحديث كما في حق المتواتر وكما في حق السامع من

في رسول الله عليه السلام. (والأول فتح باب الجهل والإلحاد) أي من رد أخبار الآحاد فتح باب الجهل؛ لأن العمل باستصحاب الحال عمل بما يؤول إلى الجهل وفتح باب الإلحاد؛ لأن الإلحاد ترك العمل بالحجة والعمل بفير الحجة. (والثاني- فتح باب البدعة) يعني أن العمل بأخبار الآحاد مطلقًا من غير العرض على الأصول يؤدي إلى العمل بالآحاد على وجه يوجب مخالفة الكتاب وإلى تأويل الأصول بهواهم، فتأويل الكتاب بهواهم بدعة، وفيه أيضًا جعل المتبوع تبعًا متبوعًا، وهو أيضًا بدعة- عصمنا الله عن ذلك-

فالأول: مثل حديث القهقهة وحديث الترتيب لم يعمل بهما الشافعي- رحمه الله- وحديث أكل الناسي في الصوم لم يعمل به مالك- رحمه الله- بل عمل باستصحاب الحال. وأما لثاني: فمثل قوله عليه السلام: ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، وقوله عليه السلام في الدعاء: ((أسألك بمقعد العز من عرشك)) وقوله عليه

السلام: ((إن الجبار ليضع قدمه في النار وهو يضحك إلى أوليائه حتى يبدو نواجذه))، والمشبهة يتعلقون بمثل هذه الأحاديث في إثبات التشبيه من غير عرض هذه الأحاديث على الآية المحكمة التي توجب نفي التشبيه فلا

تقبل الآحاد فيها لكونها مخالفة للآيات المحكمة، والدلائل العقلية على أن لهذه الأحاديث تأويلات على وجه لا يلزم منها التشبيه. (ومثال هذا) أي مثال ما خالف الكتاب من الأحاديث حديث (مس الذكر). قيل: سأل النبي عليه السلام عن الذين نزلت الآية في حقهم فقال: ((ما هذه الطهرة التي خصصتم بها؟)) فقالوا: كنا نتبع الحجارة الماء ولو كان مس الذكر حدثًا كان بمنزلة البول فا يليق من الحكيم أن يمدحهم بالبول، وإن كان هو إزالة عن نفسه النجاسة الحقيقية؛ لأنه إثبات للنجاسة الحكمية فمن كان مثبتًا للنجاسة لم يكن مستحقًا للمدح بذلك الفعل.

(وكذلك مما خالف الكتاب من السنن أيضًا حديث القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أمر بفعل مجمل في حق العدد، ثم فسر ذلك بنوعين: برجلين، أو رجل وامرأتين. كان ذلك بياتًا أن ما هو المراد من الأمر هذا. كقولهم: كل طعام كذا، فإن لم يكن فطعام كذا يكون هذا بيانًا لما هو المجمل من المأكول وحصر للإباحة في هذين الطعامين. كما في قوله: أذنت لك أن تعامل فلانا، فإن لم يكن هو ففلانا، فاقتضى الكتاب حصر الحجة على هذين النوعين، فكان حديث القضاء بالشاهد واليمين مخالفًا له فيرد.

(ولا مزيد على الأدنى) أي لا يكون من الأدنى أدنى يعني لا يكون شيء أدنى من هذا كما في قوله: أقل الحيض كذا وأقل مدة السفر كذا لا يكون غيره أدنى منه، إذ لو كان غيره أدنى منه لم يكن هذا أقل. (ويمين الخصم) أي يمين المدعي (في الجملة مشروعة) كما في التحالف. (ومثله خبر المصراة) وهو قوله عليه السلام: ((لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحيلها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر)) كذا في ((المصابيح)) يقال: صر الشاة وغرها إذا لم يحتلبها أيامًا ليمتلي ضرعها من اللبن.

(ومثل حديث سعد بن أبي وقاص في بيع التمر بالرطب) أن النبي عليه السلام قال: ((أو بنقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذن)) قال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: لا يقبل هذا الحديث؛ لأنه مخالف للسنة المشهورة وكان ناسخًا لها، وهي (قوله عليه السلام ((التمر بالتمر مثل بمثل))) ففيه اشتراط المماثلة بالكيل مطلقًا، فالتقييد باشتراط المماثلة في أعدل الأحوال وهو الجفوف يكون نسخًا للمشهور، وهذا لأن التمر اسم للتمرة الخارجة من

النخل من حين تنعقد صورته، فإعراض الأحوال عليها بمنزلة إعراض الأحوال على الإنسان، فكان التمر اسم جنس كالإنسان، فإنه يطلق على الصغير والكبير من الإنسان، فكذا اسم التمر يتناول الرطب وغيره، والنبي عليه السلام شرط المماثلة كيلًا بكيل مطلقًا. علم بهذا أن المماثلة إنما تعتبر حالة الكيل ولا تعتبر مماثلة تحصل في عاقبته وهي الجفاف؛ لأن ذلك يتعلق بصفة وهي الجودة ووهي غير معتبرة في المقدار، وهو معنى قوله: (فصار نسخًا للمشهور بزيادة مماثلة ليس من المقدار) يعني أن كيلًا من رطب لا يماثل كيلًا من تمر بعاقبته، بل كيل من تمر زائد على كيل من رطب فيكون ربًا. إلا أنهما قالا: اسم التمر لا يتناول الرطب في العادة في مسألة اليمين لا يأكل تمرًا فأكل رطبًا، أو حلف لا يأكل من هذا الرطب فأكل بعد ما صار تمرًا لا يحنث. قلنا: الحقيقة قد ترك في باب الأيمان على ما عرف، وكذلك اليمين تتقيد بوصف في العين إذا كان ذلك داعيًا إلى اليمين، وهذا لا يدل (على أن التمر لا يتناول الرطب).

(ألا ترى أنه كيف اشتهر في الخلف) يعني أن المتأخرين إذا نقلوا اشتهر، فلو كان ثابتًا في الصدر الأول لوجب عليهم النقل ولو نقلوا لاشتهر، وحيث لم يشتهر بل شذ دل أنه من الراوي سهو أو مأول أو منسوخ. فإن قيل: إنكم فبلتم خبر الوتر وخبر المضمضة والاستنشاق أي في أنهما فرضان في الجنابة وأنهما خبر واحد فيما علم به البلوى؛ لأنه يستوي فيه الخاص والعام فعلى قود كلامكم هذا وجب أن لا يقبل، فقد وقعتم في الذي أبيتم! قلنا: فعل المضمضة والاستنشاق خبر مشهور فقبلنا لشهرته، والوجوب

شيء آخر قد يخفى على البعض دون البعض، وهذا لأن خبر المضمضة والاستنشاق بيان لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وهو أمر بغسل جميع البدن إلا ما تعذر على المكلف غسله، وقد أشكل أن داخل الفم والأنف من ظاهر البدن أو من باطنه؟ فبين النبي عليه السلام بقوله: ((فرضان في الجنابة)) إنهما من ظاهر البدن، فكان ملحقًا بالكتاب بطريق البيان لما ذكر فيه، وكذلك الوتر خبره مشهور وثبوت الوجوب لدليل آخر عرف في موضعه.

(وذلك مثل حديث ((الطلاق بالرجال))) وهو مؤول بأن إيقاع الطلاق مخصوص بالرجال. (فهذا انقطاع باطن معنوي) يعني لم يثبت الاتصال برسول الله - صلى الله عليه وسلم - معنى من الوجه التي ذكرنا من أن يكون الحديث مخالفًا للكتاب أو السنة

المعروفة إلى آخره وإن كان متصلًا صورة، وأعرض اشافعي عن هذا القسم (وتمسك بظاهر الانقطاع) فقال: المراسيل لا تقبل؛ لأنه غير متصل صورة وإن كان متصلًا معنى (كما هو دأبه) في التمسك بالظاهر والإعراض عن المعنى، وأصحابنا تمسكوا بالمعنى الذي هو المقصود. (وأما القسم الآخر) وهو النوع الثاني من الانقطاع المعنوي وهو الانقطاع لنقصان وقصور في الناقل.

(على ما قلنا من المجهول) أراد به ما ذكره في باب تقسيم الراوي بقوله: ((وأما المجهول فإنما يعني به المجهول في رواية الحديث بأن لم يعرف إلا بحديث أو بحديثين)) إلى آخره، فإن ذلك منقسم إلى خمسة أقسام على ما هو المذكور هناك. (لرجحان كذبه على صدقه). يعني أن الخبر يحتمل الصدق والكذب، فبالعدالة يترج الصدق، وبالفسق يترجح الكذب، فلا يقبل خبره في رواية الحديث احتياطًا، ولا يعني بقوله: ((لرجحان كذبه على صدقه)) أن الأصل خبره أصلًا بل يقبل خبره إذا وقع صدقه في قلب السامع لما أن الفاسق عندنا أهل لأداء الشهادة مع القصور، لكن لا يقبل خبره مطلقًا. (لأن ذلك أمر خاص لا يستقيم تلقيه من جهة العدول) يعني به الأخبار

عن الطهارة والنجاسة والحل والحرمة، وهو أمر خاص وقف عليه من اطلع عليه، وذلك لم يتعلق بالعدل والفاسق، بل يتعلق وقف عليه فلا يستقيم تلقيه من جهة العدول فيقبل فيه خبر الفاسق ولكن الضرورة لما لم تكن لازمه؛ (لأن العمل بالأصل) ممكن لم تمس الضرورة بقوله: (فلم يجعل فسقه هدرًا) بل اعتبرنا فسقه حتى لم يقبل قوله مطلقًا، وأوجبنا فيه تحكم الرأي، فحكم السامع رأيه، فإن وقع في قلبه صدق خبره كان عليه العمل، وإن وقع كذبه فلا يعمل، وهذا في الحقيقة عمل بالدليلين: دليل قبول خبره لما ذكرنا، ودليل رده لفسقه، فوجب تحكم الرأي في خبره عملا بالدليلين. فأما هاهنا أي في باب رواية الحديث. (بخلاف خبر الفاسق في الهدايا والوكالات) أي يقبل خبره بدون تحكيم الرأي، (وفيه وجه آخر نذكره في محل الخبر)، وهو قوله: والثاني أن هذا الخبر غير ملزم إلى آخره.

(فقد ذكر محمد- رحمه الله- في كتاب الاستحسان بعد ما ذكر العدل والفاسق والكافر وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان) وترتيب ما ذكره في كتاب الاستحسان قال: فإن كان الذي أخبره بنجاسة الماء رجلًا من أهل الذمة لم يقبل قوله؛ لأنه متهم بالفسق قال: إذا وقع في قلبه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وهذا لأن الفاسق أهل لأداء الشهادة ولهذا نفذ القضاء بشهادته، فيتأكد ذلك بأكبر رأيه، وليس الكافر أهل الشهادة في حق المسلمين. يوضحه أن الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم، ولا ولاية له على المسلم. فأما الفاسق فمسلم ملتزم وهو من أهل الولاية على المسلم. قال: وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان. من أصحابنا من يقول: مراده بهذا العطف أن الصبي كالبالغ إذا كان مرضيًا، وهذا لأنه كان في الصحابة من سمع في صغر ولو روى كان مقبولًا. كما سقط اعتبار الحرية والذكورة سقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات، والأصح أن مراده العطف على الذمي، فإن

خبر الصبي في هذا كخبر الذمي؛ لأنهما لا يلزمان شيئًا، ولكن يلزمان الغير ابتداء فإنهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الإلزام، فكان خبرهما في معنى خبر الكافر. كذا في ((مبسوط)) الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله-. (وإنما هي مجوزة) أي تصرفه جائز الثبوت إذا انضم إليه رأي الولي فحينئذ يلزم. (بخلاف العبد لما قلنا) أي في آخر باب تفسير الشروط، وهو قوله: والمرأة والعبد من أهل الرواية إلى آخره؛ لما أن العبد بالغ عاقل مخاطب، فلا يكون غيره مقصود الخبر بل يلزمه أولًا ثم يتعدى إلى غيره كما في شهادته بهلال رمضان. فإن قيل: ليس للعبد ولاية الإلزام فكيف يلزم حكمًا على غيره بخبره؟ قلنا: هو ملحق بالأحرار في باب الدين.

وقوله: (ألا ترى) متصل بقوله: ((والصحيح أنهما مثل الكافر لا تقوم الحجة بخبرهما)) إلى آخره. ألا ترى (أن الصحابة- رضي الله عنهم- تحملوا في صغرهم ونقلوا في كبرهم) أي ولم ينقلوا في صغرهم، فلو كانت رواية الصغار مقبولة له لنقلوا في صغرهم كما نقلوا في كبرهم. فإن قلت: يشكل على هذا حديث أهل قباء فإن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أتاهم وأخبرهم بتحويل القبلة إلى الكعبة وهم كانوا في الصلاة فاستداروا كهيئتهم وكان ابن عمر- رضي الله عنه- يومئذ صغيرًا على ما روي أنه عرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر أو يوم أحد- على حسب ما اختلف الرواة فيه- وهو ابن أربع عشرة سنة فرده، وتحويل القبلة كان قبل بدر بشهرين، فقد اعتمدوا خبره فيما لا يجوز العمل به إلا بالعلم وهو الصلاة إلى

القبلة، ولم ينكر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: عن هذا قال بعضهم: إن رواية الصبي في باب الدين مقبولة، وإن لم يكن هو مقبول الشهادة لانعدام الأهلية للولاية بمنزلة رواية العبد، ولكن الأصح ما ذكره أن رواية الصبي غير مقبولة. وأما حديث أهل قباء فإن الذي أتاهم وأخبرهم كان أنس بن مالك- رضي الله عنه- وقد روي أنه كان عبد الله ابن عمر- رضي الله عنهما- فإما يحمل على أنهما جاءا أو جاء أحدهما بعد الآخر وأخبرا بذلك، فإنما تحولوا معتمدين على رواية البالغ وهو أنس بن مالك أو أن ابن عمر- رضي الله عنهما- كان بالغًا يومئذ، وإنما رده رسول الله في القتال لضعف بنيته يومئذ لا لأنه كان صغيرًا، فإن ابن أربعة عشر يجوز أن يكون بالغًا. كذا في ((أصول الفقه)) لشمس الأئمة- رحمه الله-. (وفي الفاسق) أي وفي خبر الفاسق أي بنجاسة الماء (جعل الاحتياط أصلًا) حيث قال: يريق الماء احتياطًا، فإن تيمم ولم يرق الماء جازت صلاته

أي يقبل خبره في ثبوت صفة النجاسة في الماء حتى لا يجوز التوضؤ به ما لا يجوز بالماء النجس وهو احتياط حيث وجب الاحتراز عنا لنجاسة، (وفي خبر الكافر يتوضأ به) ولا يعتبر هذا الاحتياط، وهو الاحتراز عن استعمال النجس عيني حتى أنه لو توضأ به (ولم يتيمم) وصلى جاز، (ولكن الأفضل) في خبره بنجاسة الماء (هو أن يريق الماء ويتيمم). وحاصل الرق بين خبر الفاسق والكافر هو أن التحري أصل في خبر الفاسق ولم يعتبر خبر الكافر أصلًا في باب الدين. ألا ترى أن محمدًا- رحمه الله- قال في خبر الفاسق: يحكم السامع رأيه فلم يجعل خبره حجة ولا هدرًا مطلقًا بل جعل التحري أصلًا حتى إذا وقع في قلبه أنه صادق عمل بخبره وإلا فلا،

ولا كذلك في خبر الكافر فإنه وغن وقع في قلبه أنه صادق لا يعمل بخبره فجعل خبره هدرًا والاحتياط في خبر الفاسق أصلًا. أعلم أن المصنف- رحمه الله- ذكر لفظ الأحوط في حق إراقة الماء في خبر الفاسق، وذكر لفظ الأفضل في حق إراقة الماء في خبر الكافر نفسها على ما قلته في أن العمل بالإراقة في حق الكافر بجواز الوضوء بذلك الماء الذي أخبر الكافر بأنه نجس، فلم تكن الإراقة فيه إلا فضل الأمرين. وأما في خبر الفاسق لم يجز الوضوء بذلك الماء الذي أخبر أنه نجس عملًا بأصل إيمانه، ولكن مع ذلك كانت الإراقة فيه أوجب لئلا يهدر فسقه، بل يريق الماء ثم يتيمم ويصلي؛ لكي تجوز صلاته على وجه التيقن من غير ريبة تدخل في قلبه في حق عدم الجواز، وفي لفظ الكتاب هذا نوع اشتباه حيث قيل: ((وأما في خبر الكافر إذا وقع في قلب السامع صدقه بنجاسة الماء يتوضأ به ولم يتيمم)) كان من حقه أن يقال: وإن وقع في قلب السامع صدقه على وجه الوصل؛ لأن وجوب التوضؤ بذلك الماء الذي أخبر الكافر بأنه نجس غير موقوف إلى وقت وقوع الصدق في قلب السامع بنجاسة الماس؛ بل لما كان التوضؤ واجبًا عند وقوع الصدق في قلبه بأنه نجس بخبره كان التوضؤ به أوجب على السامع عند عدم وقوع الصدق في قلبه بأنه نجس بخبره، لكن أقام

((إذا)) التي فيها معنى الشرط مقام إن الشرطية في إفادة معنى الوصل. وقوله: (وفي رواية الحديث يجب أن يكون كذلك في حكم الاحتياط خاصة) أي رواية الصبي والمعتوه الحديث يجب أن تكون مثل رواية الكافر الحديث إي في حق عدم القبول أي لا تقبل رواية هؤلاء الثلاثة الحديث، وهذا لأنه لما لم تقبل رواية الفاسق الحديث مع إيمانه وكمال عقله لأن لا تقبل رواية هؤلاء الثلاثة الحديث أولى، وإنما قال بلفظ: ((يجب أن يكون كذلك)) إشارة إلى ما ذكرنا أن بعض العلماء قبلوا رواية الصبيان الحديث على ما ذكرنا في حديث أهل قباء. وإنما ذكر قوله: ((في حكم الاحتياط خاصة)) لدفع شناعة صورة التسوية بين المسلم والكافر في حق عدم قبول قولهما، فصار كأنه قال: هذه التسوية بينهما ليست إلا في حق العمل بالاحتياط خاصة إلا أن تكون المماثلة بينهما عامة، حتى أن بعض العلماء قبلوا رواية الصبيان الحديث في حال صباهم ولم يقبل أحد رواية الفاسق الحديث فكيف في حق الكافر حيث لا يقبل خبره أصلًا فيما يرجع إلى الديانات من نجاسة الماء وطهارته فأولى أن لا يقبل خبره في رواية الحديث، وأما الصبي فالاحتياط أن لا تقبل روايتهما

الحديث، وفي ((التتمة)) محالًا إلى ((عصب النوازل)) المعتوه: من كان قليل الفهم، مختلط الكلام، فاسد التدبير إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجانين. (إذا كان عامة حاله التيقظ) يعني لا ترد الرواية بتهمة الغفلة، وإنما ترد إذا كان عامة أحواله الغفلة. (وأنا المتساهل فإنما نعني به المجازف الذي لا يبالي من السهو والخطأ) أي لا يبالي بما يقع له من السهو والغلط، ولا يشتغل فيه بالتدارك بعد أن علم به. وقيل: المتساهل هو الذي يتساهل أمر الدين ولا يحتاط في موضع الاحتياط.

(التزوير): تزيين الكذب، من زورت الشيء حسنته. (الخطابية): طائفة من الروافض نسبوا إلى أبي الخطاب محمد بن أبي وهب الأجدع. قال صاحب ((المقالات)) وهم كانوا يدينون بشهادة الزور لموافقيهم. وقيل: إنما ترد شهادة الخطابي؛ لأنه يشهد للمدعي إذا حلف عنده فيتمكن شبهة الكذب. (وكذلك من قال: الإلهام حجة يجب أن لا تجوز شهادته أيضًا) لتوهم أن يكن اعتمد ذلك في أداء الشهادة بناء على اعتقاده، والإلهام: ما حرك

القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير الاستدلال بدليل ولا نظر في حجة. (وليس كذلك الشهادة في حقوق الناس) أي تقبل شهادة صاحب الأهواء غير الخطابية؛ لأن الشهادة من باب المظالم والخصومات، ولا يتعصب صاحب الهوى بهذا الطريق مع من هو محق في اعتقاده حتى يشهد عليه كاذبًا. فأما في أخبار الدين يتوهم هذا التعصب لإفساد طريق الحق على من هو محق حتى يجيبه إلى ما يدعو إليه من الباطل، فلهذا لا تعتمد روايته، ولا نجعله حجة في باب الدين، والله أعلم بالصواب. * * *

باب بيان محل الخبر

باب بيان محل الخبر (وهو الذي جعل الخبر فيه حجة) أي خبر الواحد. (فمثل عامة شرائع العبادات). هذا من قبيل إضافة العام إلى الخاص كعلم الطب وعلم النحو؛ فإن الشرائع أعم من العبادات (وما شاكلها) من القرب مما ليس بعبادة مقصودة كالوضوء والأضحية وغير ذلك من الشرائع التي ليست العبادة فيها بمقصودة كالعشر وصدقة الفطر والكفارات. (فإن أبا يوسف- رحمه الله- قال فيما روي عنه: يجوز إثبات العقوبات

بالآحاد) ولذلك قبل في حد اللواطة خبر الواحد، وهو قوله عليه السلام" ((اقتلوا الفاعل والمفعول)). (أن خبر الواحد يفيد من العلم ما يصلح العمل به) أي أن خبر الواحد يفيد علم غالب الظن وهو ما يصلح العمل به (في إقامة الحدود كما في البينات في مجالس الحكم)، ولو كان مجرد الاحتمال مانعًا للعمل فيما يندرئ بالشبهات لما جاز العمل فيها بالبينة، (وكذلك يجوز إقامة الحدود بدلالة النص) وهي قاصرة من حيث إنها لا تثبت بالنظم، فمن دلالات النصوص التي تثبت بالاجتهاد ما قلنا في وجوب الكفارة بالأكل والشرب استدلالًا بالإجماع، ودلالة النص فيه أن الوجوب متعلق بالفطر الكامل، والأكل والشرب في ذلك مثل الوقاع، وهذا غير مسلم عند الخصم، فكان هو ثابتًا مع ضرب من الاحتمال، فكذلك هاهنا يجوز أن تثبت العقوبة بخبر الواحد.

(فأما البينة فإنها صارت حجة بالنص الذي لا شبهة فيه) يعني وجوب الحد بالبينة مع الاحتمال إنما يثبت بالنص، بخلاف القياس فيقتصر على مورد النص، وخبر الواحد ليس في معنى الشهادة من كل وجه لما أنا لشهادة تتوقف على ما لا يتوقف عليه خبر الواحد من العدد والذكورة والحرية والبصر وكنه غير محدود في القذف، فإذا وجدت هذه الشرائط في الشهادة كانت هي أكمل من غيرها، وليس شيء منها شرط في خبر الواحد فلم يكن هو في معناها فلا يلحق بها بدلالة النص. (لم يوجب الحد في اللواطة بالقياس) أي بالقياس على الزنا بجامع أن في كل منهما قضاء الشهوة بسفح الماء في محل مشتهى محرم من كل وجه، (ولا بالخبر الغريب) وهو قوله عليه السلام: ((اقتلوا الفاعل والمفعول)) وقوله: (عند الإمكان) احترازًا عما لا يطلع عليه الرجال وهو الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في مواضع لا يطلع عليها الرجال، فإن العدد والذكورة فيه ليس بشرط بل تقبل فيه شهادة امرأة واحدة، (وقيام الأهلية بالولاية) يعني به العقل والبلوغ والحرية (مع سائر شرائط الأخبار) وهي: الإسلام، والضبط، والعدالة. (وتوكيدًا لها) معطوف على محل.

قوله: ((لما فيها من محض الإلزام)) أي إلزامًا وتوكيدًا، وقوله: ((لما فيها من محض الإلزام)) احتراز عن النوع الأول وهو حقوق الله تعالى من العبادات، فإن الأخبار بحقوق الله تعالى من العبادات إلزامًا أيضًا ولكن ليس هو بخالق للإلزام؛ لأن الإلزام الخاص هو أن يلزم غيره من غير لزوم عليه، وليس الأخبار في العبادات كذلك؛ لأن المخبر بأخباره في الواجبات من العبادات كما يلزم غيره موجب الخبر فيحب هو عليه أيضًا فلم يكن إلزامًا خالصًا، وإنما الإلزام الخالص في الشهادات حيث يوجب على المدعى عليه موجب خبره من غير أن يلزم هو عليه، وحاصله أن في الأخبار بحقوق الله تعالى من العبادات التزامًا وإلزامًا، وأن في الشهادات إلزامًا خاليًا عن الالتزام، فكان خالصًا في الإلزام لا محالة، فلذلك سماه محض الإلزام لخلوه عن شائبة الالتزام. فكذلك قوله: (لما يخاف من وجوه التزوير والتلبيس صيانة للحقوق المعصومة) للفرق بين هذا وبين النوع الأول. إلى هذا الذي ذكرت أشار الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- فقال: ولان الخصومات إنما تقع باعتبار الهمم المختلفة للناس، والمصير إلى التزوير والاشتغال بالحيل والأباطيل فيها ظاهر، فجعلها الشرع حجة بشرط زيادة العدد وتعيم لفظ الشهادة تقليلًا لمعنى الحيل والتزوير فيها بحسب وسع القضاة، وليس هذا نظير القسم الأول، فإن السامع هناك حاجته إلى الدليل ليعمل به لا إلى رفع دليل مانع، وخبر الواحد باعتبار

حسن الظن بالراوي دليل صالح لذلك، فأما في المنازعات فالحاجة إلى رفع ما معه من الدليل وهو الإنكار الذي هو معارض لدعوى المدعي، فاشتراط الزيادة في الخبر هنا لهذا المعنى. (والشهادة بهلال الفطر من هذا القسم)؛ لأنه يتعلق به حق العباد وهو الفطر، فيلزمهم ذلك وكان من حقوق العباد مما فيه إلزام، فصار كسائر حقوق الناس مما فيه إلزام. وقوله: (وما أشبه) ذلك كالرسالة في الودائع والعواري (وقبل فيها خبر الصبي والكافر) أي إذا وقع في قلب السامع صدقهما. (أحدهما: عموم الضرورة الداعية إلى سقوط شرط العدالة) أي إن في تبليغ مثل هذا الخبر ضرورة عامة تشمل الخاص والعام والمسلم والكافر، ومثل هذه الضرورة داع إلى سقوط شرط العدالة وسقوط اتفاق الملة؛ لأن كل الناس محتاجون إلى البياعات والأشربة والتوكيل، والمكل قلما يجد عدلًا

ليبعث إلى غيره بالتوكيل، وربما لا يتمكن الوكيل من الرجوع إلى قول الموكل مشافهة لبعد المسافة، وكذا هذا أيضًا في جميع المعاملات من بعث الهدايا والإذن في التجارة وغيرها، فلو توقف جواز هذا الأخبار على ما يشترط في الشهادة لوقع الناس في حرج عظيم، فتتعطل المصالح المتعلقة بالمعاملات، ثم الناس كلهم عملوا من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا بمثل هذه الأخبار في الأسواق وغيرها من غير توقف على شرائط الشهادة، فكان ذلك إجماعًا منهم على سقوط شرائط الشهادة في هذه الأخبار. (بخلاف أمور الدين مثل طهارة الماء ونجاسته) وحل الطعام وحرمته فإنه من النوع الأول، فيشترط فيه العدالة، (ولهذا الأصل لم تقبل شهادة الواحد بالرضاع) أي وللأصل الذي ذكرنا في بيان القسم الثالث فما فيه إلزام محض من حقوق العباد يشترط فيه شرائط الشهادة قلنا: إن شهادة الواحد بالرضاع لا تقبل وإن كان عدلًا، يعني لو تزوج رجل امرأة فشهد واحد على أنهما ارتضعا من امرأة واحدة، والنكاح بينهما كان باطلًا، أو اشترى أنة فشهد واحد على أن المشترى وهذه الأمة ارتضعا من امرأة واحدة أو شهد على حرمة أمة من الأصل الذي كان اشتراها رجل ففي هذه الصور الثلاث لا تقبل شهادة رجل واحد وإن كان عدًا لما أن الموضع موضع المنازعة؛ لأن الإقدام

على النكاح تصريح منه بان النكاح وقع صحيحًا، والشاهد يقول: بان النكاح وقع باطلًا فتنازعا وفي موضع المنازعة لا يعتبر قول الواحد لكونه من جملة القسم الذي هو إلزام محض في حقوق العباد. فإن قيل: في هذا حرمة أيضًا فكان ينبغي أن يكون حكمه مثل حكم حل الطعام وحرمته. قلنا: لا بل بينهما فرق؛ لأن حرمة الفرج هنا تنبئ على زوال الملك، فكان زوال الملك أصلًا ومتضمنًا لحرمة الفرج والحرمة بناء عليه، والاعتبار للمتضمن لا للمتضمن. فإن قلت: هذا الجوا في ثبوت الرضاع في النكاح وفي ثبوت الحرمة في ملك اليمين في الجارية مسلم، أما في ثبوت الرضاع في الجارية التي اشتراها فغير مسلم؛ لأن ثبوت الرضاع هناك لا يقتضي زوال ملك اليمين هو من قبيل حل الطعام وحرمته. قلت: إن لم يقض هو زوال ملك اليمين اقتضى زوال ملك المتعة وهو أيضًا مما يقصد في الجارية المشترى، وكان هو بسبب القصد بمنزلة زوال ملك المتعة الذي يثبت مقصودًا وهو النكاح، فلا يثبت بشهادة الواحد بخلاف حرمة الطعام. فإن ذلك لم يبن على زوال ملك اليمين ولا على زوال ملك المتعة، فإن حرمة الطعام تثبت مع بقاء ملك اليمين كما في العصير المملوك إذا تخمر

يبقى مملوكًا للمالك فيحرم على المالك شربه كما يحرم على غيره، وكذلك حل الطعام لا يبتنى على ثبوت الملك؛ لأنه يجوز أن يثبت الحل ولا يثبت الملك كما إذا أبيح له الطعام من غير تملك ولا كذلك حل المرأة وحرمتها وحل الجارية وحرمتها. وذكر في استحسان ((المبسوط)) الفرق بينهما من وجهين، فقال: إذا كان الرجل يشتري الجارية فيخبره عدل أنها حرة الأبوين أو أنها أخته من الرضاعة، فإن تنزه عن وطئها أفضل وإن لم يفعل وسعه ذلك، وفرق بين هذا وبين ما تقدم من الطعام والشراب فأثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا؛ لأن حل الطعام والشراب يثبت بالإذن بدون الملك حتى لو قال لغيره: كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو اشربه وسعه أن يفعل ذلك، فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل له الملك وحل الوطء لا يثبت بدون الملك حتى لو قال: طأ جاريتي هذه قد أذنت لك فيه، أو قالت له حرة في نفسها، لا يحل له الوطء، فكذلك الحرمة تثبت لما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد، وتقرير هذا الفرق من وجهين: أحدهما: أن الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه؛ لأنه لا يثبت بدون ملك المحل، وتثبت الحرمة مع قيام الملك، فكان هذا خبر بأمر ديني، وقول الواحد ملزم فيه. فأما في الوطء فالحل والحرمة تثبت حكماُ للملك وزواله لا يثبت مقصودًا بنفسه، وقول الواحد في إبطال الملك ليس بحجة، فكذلك في الحل الذي ينبني عليه.

والثاني: أن في الوطء معنى الإلزام على الغير؛ لأن المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها، وخبر الواحد لا يكون حجة في إبطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص. فأما حل الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل بثبوت الحرمة، وإنما ذلك أمر ديني، وخبر الواحد في مثله حجة. (وعلى ذلك بنى محمد- رحمه الله- مسائل) أي على ما قلنا من المنازعة والمسألة، فقوله: (إن فلانًا كان غصب مني هذا العبد فأخذته منه) موضع المنازعة، فلذلك لا يقبل السامع خبره؛ لأن الأخذ سبب الضمان كما أن صريح لفظ الغصب يثبت الضمان، وأما التوبة والرد فليس من أسباب الضمان، وكان الموضع موضع المسألة فيقبل خبر الواحد. وبيان هذا أيضًا في استحسان ((المبسوط)) فقال: ولو أن رجلًا علم أن جارية لرجل يدعيها ثم رآها في يد آخر يبيعها ويزعم أنها قد كانت في يد فلان وذلك الرجل يدعي أنها له، وكانت الجارية مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت لي وإنما أمرته بذلك لأمر خفته وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة مسلم فلا بأس بشرائها منه؛ لأنه أخبر بخبر مستقيم محتمل، ولو كان ما

أخبره معلومًا للسامع كان له أن يشتريها منه، فكذلك إذا أخبره بذلك ولا منازع له فيه، وإن كان في أكبر رأيه كاذب لم ينبغ له أن يشتريها؛ لأنه ثبت عنده أنها مملوكة للأول فإن إقرار ذي اليد بأن الأول كان يدعي أنها كانت مملوكته حين كانت في يده فيثبت الملك له وكذلك سماع هذا الرجل منه أنها له. دليل في حق إثبات الملك له، والذي أخبره المخبر بخلاف ذلك لم يثبت عنده حين كان في أكبر رأيه أنه كاذب في ذلك ولم لم يقل هذا ولكنه قال: ظلمني وغصبني فأخذتها منه، لم ينبغ له أن يتعرض لها بشراء ولا قبول هبته وإن كان المخبر ثقة دليل في حق إثبات الملك له، والذي أخبره المخبر بخلاف ذلك لم يثبت عنده حين كان في أكبر رأيه أنه كاذب في ذلك ولو لم يقل هذا ولكنه قال: ظلمني وغصبني فأخذتها منه لم ينبغ له أن يتعرض لها بشراء ولا قبول هبته وإن كان المخبر ثقة أو غير ثقة، والفرق من وجهين: أحدهما: أنه أخبر هاهنا بخبر مستنكر، فإن الظلم والغصب مما يمنع كل أحد عنه عقله ودينه، فلم يثبت بخبره غصب ذلك الرجل بقى قوله: أخذتها منه وهذا أخذ بطريق العدوان. ألا ترى أن القاضي لو عاين ذلك منه أمره برده عليه حتى يثبت ما يدعينه، وإذا سقط اعتبار يده بقي دعواه الملك فيما ليس في يده لا يطلق الشراء منه، وفي الأول أخبر بخبر مستقيم كما قررنا، فإن عقله ودينه لا يمنعانه من

التلجئة عند الخوف. والثاني: أن خبر الواحد عند المسالمة حجة وعند المنازعة لا يكون حجة؛ لأنه يحتاج فيه الإلزام، وذلك لا يثبت بخبر الواحد، وفي الفصل الثاني أخبر عن حال منازعة بينهما في غصب الأول منه واسترداد هذا منه فلا يكون خبره حجة، وفي الأول أخبر عن حال المسالمة ومواضعة كانت بينهما، فيعتمد خبره إذا كان ثقة إلى آخره. وقوله: (ولهذا قبلنا خبر الفاسق) يتصل بقوله: (وقبلنا في موضع المسالمة) وكذلك قوله: (ولهذا قبلنا خبر المخبر في الرضاع الطارئ) متصل به أيضًا؛ لأنه إنما يقبل خبر الواحد في الرضاع الطارئ لكونه من موضع المسالمة لما أنهما اتفقا على صحة النكاح، والمخبر لا ينازعه بل يخبر بفساد النكاح، وهو طالب دليلًا يعمل به في فساد النكاح، وخبر الواحد يصلح دليلًا لذلك، فجاز أن يقبله ويتزوج أختها، فكان خبر المخبر مجوزًا لا ملزمًا.

(والشهادة بهلال رمضان من هذا القسم) أي لا يشترط فيه نصاب الشهادة والحرية ولفظ الشهادة يعني إذا كان في السماء علة. (ووجوب الشرائع على المسلم الذي لم يهاجر). قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- والأصح عندي أنه يعتبر خبر الفاسق فيه في إيجاب. (والشهادة بهلال رمضان من هذا القسم) أي لا يشترك فيه نصاب الشهادة والحرية، ولفظ الشهادة يعني إذا كان في السماء علة. (ووجوب الشرائع على المسلم الذي لم يهاجر). قال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله- والأصح عندي انه يعتبر خبر الفاسق فيه في إيجاب القضاء عند علمائنا جميعًا؛ لأن هذا المخبر نائب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مأمور من جهته بالتبليغ كما قال عليه السلام: ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب)) فهو بمنزلة رسول الله إلى عبده، ثم هو غير متكلف في

هذا الخبر، ولكنه مسقط عن نفسه ما لزمه من الأمر بالمعروف، فلهذا يعتبر خبره والوكيل: هو الذي يبلغ بلفظ الوكالة، والرسول: هو الذي يبلغ بلفظ الرسالة، وتقييد الوكالة والرسالة للاحتراز عن الفضولي ممن إليه الإبلاغ كالموكل والمولى والأب وغيرهم من الأمير والقاضي. (والمثنى كذلك عند بعضهم) أي لا يقبل خبر الاثنين إلا إذا كانا عدلين، (ولفظ الكتاب في المثنى محتمل) أي لفظ كتاب: ((المبسوط)) في اشتراط عدالة الاثنين محتمل؛ لأن يشترك أولًا يشترك، وفي ((أصول الفقه)) لشمس الأئمة- رحمه الله- ولفظ الكتاب مشتبه، فإنه قال: حتى يخبره رجلان أو رجل عدل، فقيل معناه: رجلان عدل أو رجل عدل؛ لأن صيغة

هذا النعت للمفرد والجماعة واحد. ألا ترى أنه يقال شاهد عدل وفي ((التقويم)): فإن قيل: فما الفائدة في زيادة العدل مع قيام الفسق؟ قلنا: كما قلما في الشهادة مع قيام العدالة الواحد والاثنين، وقد نص محمد بن الحسن- رحمه الله- في كتاب الاستحسان في ماء أخبره رجل بنجاسته والآخر بطهارته وأحدهما فاسق والآخر عدل على أن خبر العدل أولى، وإن كانا فاسقين توقف، وإن كان أحد الفريقين رجلين فخبرهما أولى، فرجع بالزيادة كما رجح بالعدالة، وكذلك إذا اختلف المزكون في جرح الشاهد وتعديله ومن جانب رجلان ومن جانب رجل، فقول الرجلين أولى. (يلزمه فيه العهدة من لزوم عقد) يعني يلزم العقد على الوكيل بعد العزل، ويلزم عليه الكف عنا لتصرف، (أو فساد عمل) يعني يفسد ما عقد العبد بعد الحجر، ويلزم عليه الكف عن التصرف أيضًا، ويلز على البكر النكاح إذا سكتت، فكان إلزامًا من هذا الوجه، ويلزم على المسلم الذي لم

يهاجر بخبر الواحد الشرائع، فكان إلزامًا من هذا الوجه، ومن حيث إن الموكل ونحوه يتصرف في حقه بالفسخ منا لمعاملات كما يتصرف في حقه بالتوكيل والإذن، يعني أن ولاية الفسخ الثابتة له بعد الإخبار بالعزل، لعقد يعقد بعد العزل غير مضافة إلى الإخبار بالعزل، بل يتصرف في حق نفسه، كولاية الإطلاق الذي أسلم في ابتداء الوكالة فإنه لا يكون الوكيل ملزمًا فكذا العزل، أما في حق المسلم الذي أسلم في دار الحرب أن المحبر بالشرائع إذا كان مسلمًا كان مأمورًا بتبليغها، ويسقط بإخباره ما لزم عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يكن متكلفًا، بل كان مأمورًا من جانب الشرع بخلاف الفضولي في المعاملات على ما ذكره شمس الأئمة- رحمه الله- فلم يشترك على هذا العدالة في المخبر. (لأن الذي يفسخ يتصرف في حقه) أي لأن الموكل الذي يفسخ الوكالة ليتصرف في حق نفيه بالإطلاق أي بالإجازة. (لكونها بين المنزلتين) أي بين منزلة الإلزام المحض وبين المعاملات التي لا إلزام فيها لشبهه بكل منهما

على ما ذكرنا، (والتزكية من القسم الرابع) حتى لا تحتاج إلى العدالة ولفظ الشهادة، والله أعلم بالصواب. * * *

باب بيان القسم الرابع من أقسام السنة وهو الخبر

باب بيان القسم الرابع من أقسام السنة وهو الخبر السامع والمبلغ هما جميعًا وصفًا الراوي، والطرفان باعتبار ابتداء والتلقن عن المروي عنه، والانتهاء باعتبار الرواية للغير. هكذا وجدت بخط شيخي- رحمه الله-. (وأما الطرف الذي هو الطرف السامع) - وفي نسخه هو طرف التبليغ وصحح الأول-

(ألا ترى أنهما ساء في أداء الشهادة) يعني لا فرق بين أن يقرأ من عليه الحق ذكر إقراره عليك وبين أن يقرأ عليه ثم يستفهمه: هل تقر بجميع ما قرأته عليه؟ فيقول: نعم، وبكل واحد من الطريقين يجوز أداء الشهادة، وباب الشهادة أضيق من باب الخبر.

(وذلك بعد أن يثبتا بالحجة) أي بعد أن يثبت الكتاب والرسالة بالبينة أن هذا كتاب فلان المتحدث الكاتب كما يثبت كتاب القاضي إلى القاضي بالحجة وهي البينة، وكذلك في الرسول إذا ثبت بالبينة أنه هذا رسول فلان المحدث المرسل أرسله بلسانه هذا الحديث إليك ما يثبت رسالة الرسل عليهم السلام إلى الحق بالمعجزات الظاهرة الباهرة. (فالإجازة): أن يقول: أخبرني فلان ابن فلان عن فلان ما في هذا

الكتاب فأجزت لك أن تروي عني إذا فهمت ما فيه. (والمناولة): أن يقول: أخبرني فلان بن فلان ما في هذا الكتاب فناولتك هذا الكتاب أي أعطيتك لتروي عني إذا فهمته، وليس في الإجازة المجردة إعطاء الكتاب وفهم ما في الكتاب فيهما شرط وعدم السماع شامل لهما. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: وشرط الصحة في الإجازة والمناولة أن يكون ما في الكتاب معلومًا للمجاز له مفهومًا له، وأن يكون المخبر من أهل الضبط والإتقان قد علم جميع ما في الكتاب، وإذا قال حينئذ: أجزت لك أن تروي عني جميع ما في الكتاب كان صحيحًا؛ لأن الشهادة تصح بهذه الصفة، فإن الشاهد إذا وقف على جميع ما في الصك وإن كان ذلك معلومًا لمن عليه الحق فقال: أجزت لك أن تشهد علي بجميع ما في هذا الكتاب كان صحيحًا فكذلك رواية الخبر. وأما إذا قال المحدث: أجزت لك أن تروي عني مسموعاتي، فإن ذلك غير صحيح بالاتفاق بمنزلة لو قال لرجل: اشهد علي بكل صك تجد فيه إقراري وقد أجزت لك، فإن ذلك باطل، وبعض المتأخرين جوزوا ذلك على سبيل الرخصة لضرورة المستعجلين، ولكن في هذا الرخصة سد باب الجهل

في الدين وفتح باب الكسل، فلا وجه للمصير إليه. وقوله: (ويجوز أن يقول: حدثني). قال شمس الأئمة- رحمه الله- في هذا الموضع: وليس ينبغي أن يقول حدثني، فإن ذلك مختص بالإسماع ولم يوجد. وقوله: (والرسائل) أي رسالة المحدث إلى المحدث. (وكذلك المناولة مع الإجازة مثل الإجازة المفردة)، وقد ذكرنا صورة كل واحد من المناولة والإجازة أي في استحباب قوله: أجاز لي فلان، وجواز

قوله: ((أخبرني فلان)) لا يتفاوت الحكم بين ما إذا انضمت المناولة مع الإجازة وبين ما إذا حصلت الإجازة مفردة. يعني لو كان قال المحدث لتلميذه: أخبرني فلان ابن فلان عن فلان ما في هذا الكتاب فأجزت لك أن تروي عني كان المستحب للتلميذ أن يقول: أجاز لي فلان، ويجوز أن يقول: أخبرني فلان، وكذلك هذا الحكم فيما إذا ضم إلى هذه الإجازة لفظ المناولة بأن يقول: أخبرني فلان ابن فلان ما في هذا الكتاب فناولتك هذا الكتاب لتروي عني وأجزت لك أن ترويه عني. وقوله: (فيحتمل أن لا يجوز في هذا الباب) متصل بقوله: وإنما جوز ذلك أبو يوسف- رحمه الله- أي يحتمل أن لا تجوز الإجازة إذا لم يعلم ما في الكتاب في باب الحديث عند أبي يوسف كما لا تجوز عندهما، وإنما جوز أبو يوسف الشهادة للشاهد على كتاب القاضي إلى القاضي مع عدم العلم له بما في الكتاب، وكذلك جوز شهادة الشاهد على كتاب الرسالة الذي أرسله الحبيب إلى الحبيب من غير علم ما في الكتاب لما فيه من الأسرار، وأما في كتاب الحديث فلا. واختار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- هذا القول فقال: والأصح عندي أن هذه الإجازة لا تصح في قولهم جميعًا؛ إلا أن أبا يوسف- رحمه الله- استحسن هناك لأجل الضرورة، فالكتب تشتمل على أسرار لا يريد الكاتب

والمكتوب إليه أن يقف عليها غيرهما، وذلك لا توجد في كتب الأخبار وقوله: (وأن يكون قول أبي يوسف- رحمها لله- مثله) معطوف على قوله: قول أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله- أي والأحوط أن يكون قول أبي يوسف مثل قولهما في باب الحديث بأن لا تجوز الإجازة بدون علم المجاز له ما في الكتاب. (لأن السنة أصل في الدين) فلا وجه للحكم بصحة تحمل الأمانة فيه قبل أن يصير معلومًا مفهومًا له. ألا ترى أنه لو قرأ عليه المحدث فلم يسمع ولم يفهم لم يجز له أن يروي، والإجازة إذا لم تكن ما في الكتاب معلومًا له دون ذلك كيف يجوز الرواية لهذا القدر، وإسماع الصبيان الذين لا يميزون ولا يفهمون نوع تبرك استحسنه الناس، فأما أن يثبت بمثله نقل الدين فلا. (وفتح لباب التقصير والبدعة) وإنما سمي إجازة من لا علن له بما في الكتاب الذي أخبر له أن يروي عن الغير بدعة؛ لأنه لم يكن ذلك في السلف.

(ثم صارت الكتابة سنة في الكتاب والحديث)، وهو النوع الثاني الذي دون التام وهو أن يكون الحفظ بواسطة الكتابة. هذا

وهذا باب الكتابة والخط هما شيء واحد في حق الضبط وصيانة العلم. العقد: العصمة عن النسيان، (وهو الأصل الذي انقلب عزيمة) أي الخط المذكور أصل بالنسبة إلى الخط الذي هو غير مذكور، ولذلك قام مقام الخط في أنه عزيمة، وإنما قيد بقوله: وهو الأصل الذي انقلب عزيمة احترازًا عن الأصل الأول وهو الحفظ بالقلب من وقت التحمل إلى وقت التبليغ. (وما يكون إمامًا لا يفيد تذكره) أي تذكر الحادثة. (وإنما كان دوام الحفظ للنبي عليه السلام مع قوله تعالى:

{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أي مع وجود الاستثناء في حقه عليه السلام أيضًا يعني كان قد يقع النسيان له أيضًا مع دوام حفظه عليه السلام، وكان وقع لرسول الله عليه السلام تردد في قراءة سورة المؤمنين في صلاة الفجر حتى قال لأبي: ((هلا ذكرتني)) فثبت أن النسيان مما لا يستطاع منه إلا بحرج بين والحرج مدفوع، وبعد النسيان النظر في الكتاب طريق للتذكير والعود إلى ما كان عليه من الحفز، وإذا عاد إلى ما كان كما كان فالرواية تكون عن ضبط تام (وأما كان الخط إمامًا لا يذكره شيئًا) أي إذا كان الخط مما يعتمد عليه ويقتد به بسبب علم من رأى أنه خطه أو خط رجل معروف ولكن لا يذكر الحادثة ولا يعلم أنه في أي وقت كتبه وفي أي

معنى كتبه أنه لم يعمل به أي بالخط الإمام دون الصك؛ لأن التزوير فيه غالب، (ولهذا قلت رواياته)، وكان هذا خصلة حميدة وإمارة لإتقانه. (فصارت الكتاب للحفظ) أي مع الحفظ عزيمة. وقوله: (لرجل ثقة مؤثق بيده) يعني در كتابخانه وي بود.

(إلا أن يكون في يد الشاهد) أي حينئذ يحل العمل به، وكان الجواب فيه حينئذ كالجواب في ديوان القاضي، (وكذلك قول محمد) أي قول محمد كقول أبي يوسف- رحمهما الله- في الكل (إلا في الصكوك) فإنه يخالفه فيه يجوز محمد العمل به في الصكوك أيضًا، وأبو يوسف لا يجوزه. وقال شمس الأئمة- رحمه الله- ومحمد أثبت الرخصة في الصك أيضًا وإن لم يكن بيده إذا علم أن المكتوب خطه على وجه لا يبقى فيه شبهة له؛ لأن الباقي بعد ذلك توهم التغيير، وله أثر بين يوقف عليه، فإذا لم يظهر ذلك فيه جاز اعتماده. (فيجوز أن يقول: وجدت بخط أبي أو بخط فلان لا يزيد عليه) أي لا يقول: حدثني أو أخبرني به أبي أو فلان (إما أن يكون منفردًا) بان يكون حديثًا واحدًا، (وإما يكون مضمونًا إلى جماعة) ككتاب ((المصابيح)) مثلًا

أو أخبار الأصح وقيل: المراد به أن نكتب الأحاديث الكثيرة. (وبالنسبة تامة) بان يكتب الكاتب نسبة بان يكتب فلان ابن فلان ابن فلان، والله أعلم بالصواب. باب شرط نقل المتون المراد من المتن: نفس الحديث، يقال: نضر وجهه حسن، ونضره الله وهو يتعدى ولا يتعدى وعليه الحديث ((نضر الله عبدًا سمع مقالتي فوعاها))

وعن الأزدي ليس هذا من الحسن في الوجه وإنما هو في الجاه والقدر، وعن الأصمعي- بالتشديد- أي نعمه. كذا في ((المغرب)) وذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- تمامه بقوله: فأما من لم يجوز ذلك استدل بقوله عليه السلام: ((نضر الله امرأ سمع

مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) فرغب في مراعاة اللفظ ونبه على المعنى وهو تفاوت الناس في الفهم والفقه، واعتبار هذا المعنى يوجب الحجر عامًا عن تبديل اللفظ بلفظ آخر. (لا بأس بذلك في الجملة) أي في المحكم وما يشبهه. (وفي تفصيل الرخصة جواب عما قال) أي في تفصيل رخصة نقل الحديث بالمعنى بلفظ يختاره الناقل جواب عما قال من قوله: أن النبي عليه السلام

مخصوص بجوامع الكلم، فإن عامة العلماء إنما جوزوا نقل الحديث بلفظ آخر يختاره الناقل في المحكم وما يشاكله لا في جوامع الكلم ولا في المجمل والمشترك، فلم يرد على الذين جوزوا النقل بالمعنى ما احتج به الذين لم يجوزوا. وقوله: (ما يكون محكمًا) وهو الذي له معنى واحد وهو معلوم بظاهر المتن. كذا ذكره شمس الأئمة- رحمه الله-. (أما الأول) وهو المحكم فنظيره قوله عليه السلام: ((المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة)) فلو نقل ناقل لأوان كل صلاة كان جائزًا.

ألا ترى أن النبي عليه السلام قال: ((انههم عن أربع: عن بيع ما لم يقض))، إلى آخره، ثم روى الرواة بقولهم ((نهى النبي عليه السلام عن بيع ما لم يقبض)) فلما أفاد كل منهما ما أفاده الآخر لم يمتنعوا عن نقله بالمعنى. (وإنما ثبت ذلك بركة دعوة النبي عليه السلام)، وهي ما ذكره في ((المصابيح)) بقوله لي: ((يا أبئ إلى أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي)).

(غير أن ذلك رخصة إسقاط) أي سقط تعين اللغة الواحدة في القراءة، فصار في حق عدم التعين نظير كفارة اليمين، فإن العزيمة في الأول كانت أن يقرأ القرآن بلغة قريش لا بلغات أخر من القبائل، ثم بدعوة رسول الله عليه السلام سقطت هذه العزيمة أصلًا ولم تبق عزيمة، بل صارت القراءات على الأحرف السبعة عزيمة كما في ركعتي المسافر؛ حيث لم تبق الأربع عزيمة بل سقط منها الركعتان أصلًا، وكما سقطت حرمة الخمر حالة الاضطرار أصلًا. (وهذه رخصة تيسير) أي نقل الحديث بلفظ يختاره الناقل رخصة ترفيه وتخفيف حتى كانت رعاية لفظ النبي عليه السلام أفضل من نقله بمعناه، وإن كان الحديث من قبيل الظاهر، وكانت هذه الرخصة كأكل مال الغير في حالة المخمصة، فإن العمل بالعزيمة هناك وهو أن يموت جوعًا أولى من العمل بالرخصة، وإن كان العمل بها جائزًا، فكذلك هاهنا كان رعاية لفظ النبي عليه السلام أولى من سائر الألفاظ. (وأما القسم الثاني) وهو ظاهر يحتمل غير ما ظهر من معناه، فنظير ذلك قوله عليه السلام: ((لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل))؛ فإنه يحتمل

أن يكون معناه: لا صيام لمن لم ينوفي النهار أن يكون صومه من الليل، وحملناه على هذا وكان هو على خلاف ما اقتضاه ظاهر اللفظ؛ لئلا يقع التعارض بين هذا وبين حديث آخر قال النبي عليه السلام في آخره: ((ومن لم يأكل فليصم)) لأن ظاهر لفظ ذلك الحديث يقتضي أن لا يصح الصوم بدون النية من الليل، والحديث الثاني يقتضي جواز الصوم وإن وجدت النية في النهار، فتعارضا فحملنا الحديث الأول على ما ذكرنا دفعًا للتعارض بينهما، ولعلة تزيده عمومًا، أو على العكس. نظيره ما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: ((أربع يخفيهن الإمام- وفي بعض الروايات: خمس يخفيهن الإمام-)) فكان قوله: خمس

يخفيهن الإمام أعم من قوله: أربع، وكذلك قوله عليه السلام: ((الماء من الماء)) لو زاد فيه راو في روايته مكان هذا: الماء من الماء إذا خرج عن شهوة. كان هذا أخص من الأول، والأول أعم من هذا، وكان فيهما نظير للصورتين. (وأما القسم الثالث) وهو المشكل والمشترك وذلك مثل قول النبي عليه السلام في زكاة السائمة: ((إنما حقنا الجذعة والثني)) فلفظ الجذعة مشترك في أنواع البهائم، وهو في الإبل ما كان في السنة الخامسة، ومن البقر والشاة في السنة الثانية وفي تفسير الفقهاء هو في الغنم ما أتى عليه أكثر السنة، وفي الخيل هو ما كان منها في السنة الرابعة، فلما كان معناه مشتركًا حمل هذا الحديث على زكاة الإبل لا على زكاة الغنم في ظاهر الرواية حتى لم يجز

أداء الجذع في زكاة الغنم وهو قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- وهما حملاه على زكاة الغنم فجوزا زكاة بأداء الجذع. (وأما الرابع) وهو المجمل والمتشابة، فالمجمل نحو ما رووا: ((أن القطع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان إلا في ثمن المجن)) وثمن المجن مجمل، وروي عن النبي عليه السلام: ((لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم)) وهذا محكم فكان هذا أولى. والمتشابه: نحو ما روي عن النبي عليه السلام: ((إن الجبار يضع قدمه في النار)) وروي: ((إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صورته)) لو حمل هذان الحديثان على ظاهرهما من وصف الله تعالى به كانا مخالفين للآية المحكمة في نفي التشبيه وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} علم بهذا أنهما معدولان عن ظاهرهما ومأولان بتأويل يوافق الآية المحكمة، وتأويلهما

مذكور في ((التبصرة)) وغيرها، فقال في ((التبصرة)) قيل: المراد من الجبار الكافر العاتي المتمرد كما في قوله تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} وقوله: ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، خارج عن سبب مروي فيه وهو أنه عليه السلام رأى رجلًا يضرب آخر على وجهه فنهاه عن الضرب على الوجه وقال: ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، أي على صورة المضروب، فكانت الهاء راجعة إلى المضروب لا إلى الله تعالى، وفيه تأويل آخر، فلا يمكن نقل مثل هذه الأحاديث بمعناها. ((الخرج بالضمان)) الخراج: ما يخرج من غلة الأرض والغلام ومنه ((الخراج بالضمان)) أي الغلة بسبب أنه ضمنته، (ومن مشايخنا من لم يفصل بين الجوامع وغيرها) أي جوز النقل بالمعنى إذا كان ظاهرًا كما في غير الجوامع (لكن هذا أحوط الوجهين)، وقوله: هذا ((إشارة إلى قوله: فإنه

لا يؤمن فيه غلط))؛ أي القول بعدم الجواز هو أحفظ الوجهين، والله أعلم بالصواب.

باب ما يلحقه النكير من قبل الرواة النكير: اسم للإنكار. (ولأن النسيان محتمل من المروي عنه)، فإن الراوي لا يتشكك في

سماعه عنه، وتحل الرواية للراوي بمجرد السماع من غير افتقار إلى التحميل على الرواية بأن يقول: ارو عني، ولا الراوي إلى ذكر التحميل عند الأداء، (بخلاف الشهادة) على الشهادة، فإن ذلك لا تثبت (إلا بتحميل الأصول)، وكذلك عند أداء الشهادة، فإن الشاهد محتاج إلى ذكر الإشهاد، ولا يكتفي بقوله: أشهد عن فلان بل يقول: أشهدني فلان على شهادته وأمرني بالأداء، فإذا شهد على شهادته، ولما كان كذلك لم يثبت ذلك مع إنكار الأصول لأن النيابة لا تثبت عند إنكار المنوب عنه فافترقا. (فلم يذكره عمر- رضي الله عنه- فلم يقبل خبره مع عدالته) حيث لم يجوز التيمم للجنب. (أن خبر الواحد يرد بتكذيب العادة) كما في حديث مس الذكر. (وهما) أي نسيان الحاكي ونسيان المروي عنه (سواء).

(لأن الظاهر أنه تركه) أي ترك عمله الذي كان عمله على خلاف هذا الحديث. (مما هو خلاف بيقين) بأن لا يكون الحديث مشتركًا، أو عام يحتمل الخصوص، بل يحتمل وجًا واحدًا لا غير بأن يروي مثلًا قوله عليه السلام: ((ألا من ضحك منكم قهقهة فليعد الوضوء والصلاة))، ثم هو قهقهة في الصلاة ولم يعد الوضوء- كما هو مذهب الشافعي- فإن ذلك يكون جرحًا فيه؛ لأن هذا الحديث لا يحتمل غير ذلك المعنى وهو قد خال معنى ذلك الحديث بالفعل، (فإن ذلك جرح فيه) أي في الحديث؛ (لأن ذلك إن كان حقًا)

أي إن ذلك العمل الذي عمل بخلاف موجب الحديث إن كان حقًا كان ذلك دلالة نسخ الحديث، فيكون الاحتجاج بذلك الحديث باطلًا، وغن كان خلافة باطلًا فقد سقطت سبب تلك المخالفة صحة رواية الحديث؛ لأنه يكون ذلك فاسقًا، ورواية الفاسق غير مقبولة. ثم إنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن- رضي الله عنهما- وهو غائب وهو عمل بخلاف ما روت، وهو قوله عليه السلام ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)). فإن قيل: كيف يكون هذا عملًا بخلاف ما روت، وما روت التزوج،

فإن قيل: كيف يكون هذا عملًا بخلاف ما روت، وما روت التزوج، والعمل منهما التزويج، والتزويج غير التزوج؟ قلنا: إنما كان هذا عملًا منها بخلاف ما روت لعدم القائل بالفصل، فإن من أبطل نكاحها أبطل إنكاحها، ومن جوز نكاحها جوز إنكاحها، فيكون اعتقاد جواز الإنكاح منها بخلاف ما روت. أو نقول: لما انكحت قد اعتقدت جواز نكاحها بغير إذن وليها؛ لأن من لا يملك النكاح لا يملك الإنكاح بالطريق الأولى.

(والامتناع عن العمل به مثل العمل بخلافه) يعني يخرج بكل واحد منهما عن أن يكون حجة؛ لأن كل واحد منهما حرام، فحينئذ لا يخلو عن أحد الأمرين: إما أن يكون الحديث منسوخًا أو يكون الراوي فاسقًا كما ذكرنا- يبطل الاحتجاج بذلك الحديث، ثم صورة المخالفة ما ذكر من تزوج عائشة- رضي الله عنها- بعد ما روت من بطلان نكاح امرأة نكحت بغير إذن وليها فإن ذلك مخالفة للحديث وليس امتناع قصدًا، صورة الامتناع ما روي من حديث ابن عمر- رضي الله عنهما- في رفع اليدين ثم تركه. والله أعلم. * * *

باب الطعن يلحق الحديث

باب الطعن يلحق الحديث (إما أن يقع الطعن مبهمًا) بان قال: هذا الحديث غير مقبول، أو قال: هو مطعون، ولم يفسر سبب الطعن، أو قال: إن الراوي فاسق، أو مطعون ولم يفسر. (وأما القسم الأول) وهو طعن الصحابة- رضي الله عنهم- فيما لا يحتمل الخفاء. (علم أن القسمة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-) أي خير بين أصحابه حين أفتحها.

فقال: طبق الراكع كفيه أي جعلهما بين فخذيه، (لكنه رأى رخصة) أي رخصة تخفيف؛ لأنه كانت يلحقهم المشقة في التطبيق مع طول الركوع، لأنهم كانوا يخافون السقوط على الأرض فأمروا بالأخذ بالركب تيسيرًا عليهم لا تعيينًا عليهم، فلأجل هذا التأويل لم يترك العمل بظاهر الحديث الذي فيه أمر بالأخذ بالركب الدس: الإخفاء.

فقد (طعن) بعض المتعنتين (في أبي حنيفة- رضي الله عنه-) أنه دس ابنه ليأخذ كتب أستاذه حماد- رضي الله عنه- وكان يروي من ذلك، وهذا في أصله ليس بصحيح، ولئن صح فإنه- رحمه الله- أعلى حالًا وأجل منصبًا من أن ينسب إلى أنه دس ابنه ليأخذ الكتب على وجه التمويل والاستتار، بل إن

كان للاستيناف ومقابلة حفظه بكتب أستاذه بإجازة من له ولاية الإجازة فيزداد معنى الإتقان له، فإنه كان لا يستجيز الرواية إلا عن حفظ. (التدليس): كتمان عيب السلعة عن المشتري، (وذلك أن تقول: حدثني فلان عن فلان من غير أن يتصل الحديث بقوله: حدثنا) أي لا يقول: قال حدثنا فلان قال حدثنا فلان. يعني بإعادة قال حدثنا لا بإعادة عن. (لأن هذا يوهم شبهة الإرسال) أي يحتمل أن يكون ترك راويًا آخر بينهما لإفادة علو الإسناد؛ لأنه يجوز أن يقل لمن لم يكن وقت النبي

عليه السلام: عن النبي عليه السلام أنه قال: كذا، وهذا لأنه لو قال: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله عليه السلام كان هو صادقًا، وإن حدثه فلان بواسطة عشرة رواة، وأما إذا قال: حدثنا فلان قال حدثنا فلان إلى أن قال: حدثنا رسول الله عليه السلام كذا- لم يبق فيه شبهة الإرسال؛ لأن ذلك يستعمل في المشافهة. (مثل قول سفيان الثوري حدثني أبو سعيد) أراد به الحسن البصري. (مثل الكلبي وأمثاله) كالحسن البصري ومسروق، ...........

وعلقمة، (وقد يحسن في منزل القدوة ما يقبح في منزل العزلة) كالمزاح بالجد وأكل الأطعمة الشهية، وتكثير الاختلاط بالناس وتقبيل امرأته وهي صائمة أو حائض أو هو صائم. (وينعكس ذلك مرة) بان يحسن في منزل العزلة ويقبح في منزل القدوة، وذلك عكس ما ذكرناه، وإن تجانب امرأته في الليل والنهار ترك الاختلاط بالناس.

ألا ترى إلى معاملة موسى عليه السلام مع العبد الصالح كيف حسن عنده ما قبح عند موسى عليه السلام، وموسى عليه السلام كان من أهل القدوة، والعبد الصالح من أهل العزلة، فقال له موسى حين قتل نفسًا منكرًا لقتله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} فحسن قتل النفس عنده، وقبح عند موسى عليه السلام، ولذلك يجب على المفتي أن يأمر الناس في بعض المواضع بأخ الرخص كما في ماء الحمام وغيره تيسيرًا عليهم، ولا يرضاه الزهاد من المجاهدين. (ومثال ذلك) أي ومثال ما لا يعد ذنبًا في الشريعة؛ (الركض): در ائيدن ستور باي زدن من حد نصر. (وطعن بعضهم بالمزاح). المزح: الدعاء به من حد منع، والاسم المزاح- بالضم-، وأما المزاح- بالكسر- فمصدر مازحة. كذا في ((الصحاح)) فكان هاهنا بالكسر بدلالة قوله: (بركض الدابة) (وهو أمر ورد به الشرع)،

وهو ما روي عن النبي عليه السلام حيث قال لمن سأله الناقة: ((لأحملنك على ولد الناقة، فقال السائل: كيف يطيق لي ولد الناقة! فقال النبي عليه السلام: كل ناقة ولد الناقة)) فقال السائل: كيف يطيق لي ولد الناقة، ومثله أيضًا حديث العجوز وهو معروف. (وهذا أثبت متنًا من حديث أبي سعيد) الخدري- رضي الله عنه- أي

حديث عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري- رضي الله عنه- أثبت متنًا؛ لأن فيه الأمر بأداء نصف صاع من بر. وأما متن حديث أبي سعيد الخدري ((كنا نؤدي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا منا لحنطة)) فليس فيه ما يدل على الوجوب لاحتمال أن يكون ذلك

زيادة على الواجب، ونحن لا ننكر ذلك. (وقد ذكرنا بعضه فيما تقدم) وهو نحو عمل الراوي بخلافه بعد ما بلغه الحديث، ونحو الإنكار والامتناع عن العمل. (ومن طلبها في مظانها) وهي كتب الجرح والتعديل. (التعارض): هو أن يتعرض لحكم الدليل الأول بالإبطال لا لنفس الدليل والتناقض: هو أن يتعرض للدليل الأول بالإبطال على وجه لا

يبقى هو حجة أصلًا، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. * * *

باب المعارضة

باب المعارضة (وإذا ثبت أن التعارض ليس بأصل) لما أنه من أمارات العجز- تعالى الله عن ذلك- (كان الأصل في هذا الباب طلب شيء يدفع المعارضة) ليكون العمل بالأصل، وذلك أن يطلب التاريخ، فإن علم اندفعت المعارضة أو يوفق بينهما كما فعلنا في قوله عليه السلام: ((القلس حدث)) مع قول الراوي:

((أنه عليه السلام قاء فلم يتوضأ)) غير ذلك. (وإذا جاء العجز وجب إثبات حكم التعارض) وهو تقرير الأصول، (وهذا الفصل) أراد به باب المعارضة. وحكم المعارضة (بين سنتين نوعان: المصير إلى القياس وأقوال الصحابة على الترتيب في الحجج إن أمكن) يعني إن ترتيب الحجج أن يبدأ

بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال الصحابة ثم بالقياس، وهذا مستقيم على ما اختاره أبو سعيد البردعي- رحمه الله- فإن عنده تقليد الصحابي واجب مطلقًا فيما يدرك بالقياس أو لا يدرك، وعلى قول الشيخ أبي الحسن الكرخي- رحمه الله- تقليد الصحابي فيما يدرك بالقياس ليس بواجب بل يعمل المجتهد التابعي برأيه على ما سيأتيم بيانه إن شاء الله تعالى فيكون على قود كلامه المصير إلى القياس أو أقوال الصحابة.

ثم نظير قوله: ((وحم المعارضة بين آيتين المصير إلى السنة)) قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وهذا في حق الصلاة بإجماع أهل التفسير عليه وبدليل سياق الآية وسابقها، وهو مقتض لوجوب القراءة على المقتدي كما في سائر الأركان من الركوع والسجود، حيث لا تسقط سائر الأركان من المقتدي بإتيان الإمام لها فكذا في القراءة، وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} يقتضي أن لا تجوز منه القراءة؛ لأن القراءة تخل بالاستماع وهذا الخطاب للمقتدين. على هذا أكثر أهل التفسير، فلما تعارضت الآيتان بهذا الطريق رجعنا إلى السنة، وهي ما قال النبي عليه السلام: ((من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة))، وقال في الحديث المعروف: ((وإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا))، ومنع المقتدي عن القراءة

خلف الإمام مروي عن ثمانين نفرًا من كبار الصحابة- رضي الله عنهم- فأخذنا بالسنة. وكذلك وقع التعارض بين قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وهذا نص عام يتناول السراق كلها من المستأمن وغيره، وبين قوله تعالى في المستأمن: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} فإنه يقتضي أن لا تقطع يد السارق المستأمن؛ لأن الإبلاغ سالمًا إلى مأمنه وجب بالنص، وقطع يده ينفي الإبلاغ سالمًا إلى مأمنه كما كان، فلما وقع التعارض بينهما بهذا الطريق رجعنا إلى ما روى سعيد بن جبير عن علي- رضي الله عنهما- بالإبلاغ إلى

مأمنه كما كان. ذكره في ((الكشاف)) وأخذنا به، وعلى هذا كان نص الإبلاغ إلى مأمنه مخصصًا لعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما نظير المصير إلى القياس بعد التعارض بين سنتين فكثير، فمنه حد التيمم في اليدين. قال الأوزاعي والأعمش: إلى الرسغين.

وقال علماؤنا، والشافعي: إلى المرفقين، وبكل واحد منهما وردت السنة، فلما تعارضت السنتان رجعنا إلى القياس، وقلنا: إن التيمم بدل عن الوضوء، ثم الوضوء في اليدين إلى الموفقين، فكذا في التيمم. ومنه ما قال علماؤنا- رحمهم الله- إن المني نجس. وقال الشافعي: إنه طاهر لحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- قال:

((المني كالمخاط فامطه عنك ولو بإذخرة)). ولنا قوله عليه السلام لعمار بن ياسر رضي الله عنه: ((إنما يغسل الثوب من خمسة- فمنها المني)) فلما تعارضتا رجعنا إلى القياس، فقلنا: إنه خارج من البدن الاغتسال بخروجه، فكان نجسًا كدم الحيض. كذا في ((المبسوط)) ومنه ما قال علماؤنا في صلاة الكسوف: غنها ركعتان كل ركعة

بركوع وسجدتين. وقال الشافعي- رحمه الله-: كل ركعة بركوعين وسجودين، وعلى وفق كل واحد من القولين ورد الحديث، فلما تعارض الحديثان فيه رجعنا إلى القياس، وذلك فيما قلناه؛ لأن كل ركعة في سائر الصلوات بركوع وسجدتين، فكذا في صلاة الكسوف. (لأن القياس لا يصلح ناسخًا)؛ لأن النسخ عبارة عن بيان انتهاء حسن

المشروع، وهو لا يعرق بالقياس، وهذا ظاهر لما أن القياس لا يصلح ناسخًا للكتاب والسنة؛ لأن الضعيف لا يصلح ناسخًا للقوي، وكذلك لا يصلح أن يكونا لقياس ناسخًا لقياس آخر؛ لأن شبهة الحقية في كل واحد من الاجتهادين ثابتة، فلم يكن أحدهما أولى من الآخر قطعًا بخلاف النصين؛ لأن العمل بالسابق منهما باطل فوجب العمل بالمتأخر ضرورة، وهذا لأن وضع الشرع القياس إنما كان لأجل العمل، فكل مجتهد في حق العمل مصيب، فكان كل واحد من الاجتهادين أعني السابق والمتأخر صوابًا في حق العمل على ما هو عليه وضع القياس، فلما كان كل واحد من الاجتهادين في حق احتمال الصواب سواء وجب الخيير بينهما لكن بشهادة القلب ليترجح أحدهما على الآخر بشهادة القلب على ما قال عليه السلام: ((المؤمن ينظر

بنور الله تعالى)) وقال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: فأما إذا وقع التعارض بين القياسين فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر بدليل شرعي وذلك قوة في أحدهما لا يوجد مثله في الآخر يجب العمل بالراجح، ويكون ذلك بمنزلة معرفة التاريخ في النصوص، وإن لم يوجد ذلك فإن المجتهد يعمل بأيهما شاء لا باعتبار أن كل واحد منهما حق أو صواب، فالحق أحدهما والآخر خطأ على ما هو المذهب عندنا في المجتهد أنه يصيب تارة ويخطئ أخرى، ولكنه معذور في العمل به في الظاهر ما لم يتبين له الخطأ بدليل أقوى من ذلك. وإنما قلنا: إن القياس لا يصلح ناسخًا لقياس آخر لما أن شرط المعارضة لا يوجد في تعارض القياسين، فلم يكن بينهما تعارض في الحقيقة لما أن

شرط التعارض أن يكون كل واحد من المتعارضين موجبًا على وجه يجوز أن يكون ناسخًا للآخر إذا عرف التاريخ بينهما كما قلنا في التعارض بين الآيتين، ولا يقع التعارض بين القياسين؛ لأن أحدهما لا يجوز أن يكون ناسخًا للآخر؛ لأن النسخ لا يكون إلا فيما هو موجب للعلم، والقياس لا يوجب ذلك، ولا يكون ذلك إلا عن تاريخ وذلك لا يتحقق في القياسين؛ لأنه هو الوصف المؤثر، والتأثير يثار من النص، ولا يمكن أن يكون أحدهما أولًا والآخر آخرًا. (ولا ثوب معه غيرهما عمل بالتحري لضرورة وقوع العمل بلا دليل وهو الحال)، أي إن لم يعمل بالتحري يلزم العمل باستصحاب الحال، وهو ليس بدليل. (عمل بشهادة قلبه من غير مجرد اختيار) أي لا يختار جهة من الجهات من غير تحري؛ بل يتحرى ويختار ما يقع عليه تحريه. هكذا ذكره الإمام بدر الدين الكردري- رحمه الله-.

(وإذا عمل بذلك لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه يوجب نقض الأول) يعني إذا عمل بأحد القياسين صار ذلك العمل لازمًا لم يجز نقض ذلك العمل إلا بدليل فوقه، وهو أن يظهر نص بخلافه فحينئذ يتبين به أن العمل كان باطلًا؛ لأن صحة الاجتهاد عند عدم النص، وكذلك إذا عمل بأحد القياسين بشهادة القلب لا يجوز له العمل بالقياس الآخر؛ لأنه بشهادة القلب ترجح جهة الصواب فيه، فيلزم من ذلك ترجيح جهة الخطأ في القياس الآخر بخلاف التخيير في كفارة اليمين، فإنه إذا اختار الإطعام في حنث يمين يجوز له أن يختار الكسوة في حنث يمين أخرى؛ لأن كل واحد منهما يقيني ولا كذلك القياس؛ لأن الصواب في أحدهما. هذا هو الكلام في العمل بأحد القياسين فيما مضى. فأما العمل بالقياس الآخر في المستقبل فعلى ما ذكر في الكتاب. (ولم ينقض التحري باليقين في القبلة) بهذا يثبت الفرق بين هذا وهو مسألة القبلة وبين ما إذا عمل بأحد القياسين، فإنه إذا وجد دليلًا هناك فوقه من كتاب أو سنة يخالفه ينتقض ما علمه بالقياس، وفي مسألة القبلة لا ينتقض، فقال: والفرق بينهما أن ما حصل له من اليقين في مسألة القبلة لم يكن موجودًا وقت تحريه، وإنما حدث له اليقين بعد ما أمضى ما أمضى بتحريه

واجتهاده، فصار ذلك بمنزلة عمل عمله باجتهاده وقت حياة النبي عليه السلام، ثم نزل نص بخلافه لا يكون دليل بطلان عمله؛ لأن ذلك النص لم يكن موجودًا وقت اجتهاده وإنما حدث بعده. وأما الاجتهاد في زماننا فإنه إذا وجد نص بخلافه ينتقض ما عمله بالاجتهاد؛ لأن النص المقتضي لبطلانه كان موجودًا وقت اجتهاده فيبطل ما عمله باجتهاده؛ لأن شرط الاجتهاد وهو عدم النص لم يكن موجودًا وقت عمله بالاجتهاد، والتقصير إنما وقع منه حيث لم يطلب النص حق الطلب، فكان هذا بمنزلة من تحري في ثوبين له أحدهما نجس والآخر طاهر وهو لا يجد ثوبًا فإنه يصير إلى التحري بتحقق الضرورة، وإذا صلى بأحدهما بتحريه ثم علم أن النجس كان هو يعيد ما صلى. وذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- هنا بطريف السؤال والجواب فقال: فإن قيل: أليس أنه لو تحرى عند اشتباه القبلة وصلى صلاة إلى جهة ثم وقع تحريه على جهة أخرى يجوز له أن يصلي في المستقبل إلى الجهة الثانية ولم يجعل ذلك دليلًا على أن جهة القبلة ما أدى إليه اجتهاده في الابتداء؟ قلنا: لأن هناك الحكم بجواز الصلاة إلى تلك الجهة لا يتضمن الحكم بكونها جهة الكعبة لا محالة. ألا ترى أنه وإن تبين له الخطأ بيقين بأن استدبر الكعبة جازت صلاته، وفي الثوب من ضرورة الحكم بجواز الصلاة في ثوب الحكم بطهارة ذلك

الثوب، حتى إذا تبين أنه كان نجسًا تلزمه إعادة الصلاة، والعمل بالقياس من هذا القبيل، فإن صحة العمل بأحد القياسين يتضمن الحكم بكونه حجة للعمل به ظاهرًا، ولهذا لو تبين نص بخلافه بطل حكم العمل به، فلهذا كان العمل بأحد القياسين مانعًا له من العمل بالقياس والآخر بعده ما لم يتبين دليل أقوى منه. والحاصل أن فيما ليس فيه احتمال الانتقال من محل إلى محل إذا تعين المحل لعمله لا يبقى له خيار بعد ذلك كالنجاسة في الثوب فإنها لا تحتمل الانتقال من ثوب إلى ثوب، فإذا تعين لصلاته في أحد الثوبين صفة الطهارة فيه والنجاسة في الآخر لا يبقى له رأي في الصلاة في الثوب الآخر ما لم تثبت طهارته بدليل موجب للعلم، وفي باب القبلة فرض التوجه يحتمل الانتقال من جهة إلى جهة أخرى على ما ذكره في الكتاب إلى آخره. (بمنزلة نص نزل بخلاف الاجتهاد). وقوله: ((بخلاف)) متصل بما يليه وهو قوله: ((نص نزل)) يعني لو اجتهد مجتهد في حياة النبي عليه السلام وعمل به ثم نزل نص بخلاف اجتهاده بعد ما عمل باجتهاده لم ينتقض ما عمل باجتهاده؛ لأن النص لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، فكان شرط صحة الاجتهاد موجودًا، وكذلك لو حدث انعقاد الإجماع على خلاف ما لو اجتهد بعد ما أمضى حكم الاجتهاد لا يظهر بطلان حكم الاجتهاد كما ذكرنا.

(وانتقل من عين الكعبة إلى جهتها) يعني إذا بعد من مكة ومن جهة الكعبة إلى سائر الجهات إذا كان راكبًا فإنه يصلي حيثما توجهت راحلته، فبعد ما صلى إلى جهة بالتحري إذا تحول رأيه ينتقل فرض التوجه إلى تلك الجهة أيضًا؛ لأن الشرط أن يكون مبتلى في التوجه عند القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق هذا إذا صلى إلى الجهة التي وقع عليه تحريه، وكذلك حكم العمل بالقياس في المجتهدات، فإن القضاء الذي نفذ بالقياس في مجل لا يحتمل الانتقال على محل آخر فيلزم ذلك. فأما في الحادثة التي لم يتصل بها القضاء فمحتمل للانتقال. (وكذلك في سائر المجتهدات في المشروعات القابلة للانتقال) يعني كما أنه يعمل بتبدل الرأي في القبلة حالة التحري في المستقبل يعمل في سائر المجتهدات القابلة للانتقال بالرأي في المستقبل أيضًا إذا استقر رأيه على أن الصواب هو الثاني؛ لأن تبدل الرأي بمنزلة النسخ، يعني يعمل به في المستقبل ولا يظهر بطلان ما مضى كما في النسخ الحقيقي. (على تحري طهارته حقيقة أو تقديرًا) يعني إذا كان أحد الثوبين طاهرًا

حقيقة أو تقديرًا بأن كان ربع الثوب طاهرًا والآخر نجسًا ولا يدري فإنه يتحرى، ويحتمل أن يكون معنى قوله: ((صلى في ثوبه على تحري طهارته حقيقة أو تقديرًا)) يعني إذا وقع تحريه على ثوب بأنه طاهر فصلى فيه يحتمل أن يكون ذلك الثوب طاهرًا حقيقة أو تقديرًا أي بحكم الشرع، فإنه لما وقع تحريه عليه بأنه طاهر حكم الشرع هناك أيضًا بطهارته حتى قال بجواز الصلاة التي صلى في ذلك الثوب وإن كان هو نجسًا في الحقيقة فكان طاهرًا تقديرًا. فإذا تحول رأيه بعد ذلك أن الثوب الآخر طاهر لم يعتبر هذا الرأي وقلنا: لا يجوز ما صلى في الثاني حتى يتيقن بطهارته؛ لأن الشرع لما حكم بكون الثوب الأول طاهرًا وكون الثاني نجسًا وهو وصف لا يقبل الانتقال من ثوب إلى ثوب- فلا يعتبر تبدل رأيه بعد ذلك بأن الثاني طاهر والأول نجس إلا عند التيقن بأن الأول نجس فيبطل ما مضى كنص ظهر بعد العمل بالقياس بعد وفاة النبي عليه السلام. (ومثال القسم الثاني من القسم الرابع: سؤر الحمار والبغل) أراد من

القسم الرابع حكم المعارضة؛ لأنه وقع في القسم الرابع عند التعداد في قوله: هو معرفة التعارض لغة وشرطه وركنه حكمه شريعة، ثم جعل حكم المعارضة على قسمين- وإن لم يتلفظ به- الأول غير حال العجز بالعمل بالدليل أي المصير إلى الحجة بعده إن أمكن. والثاني: حال العجز بالعمل بالدليل وهو تقرير الأصول عند العجز وهذا الذي ذكره هو حال العجز بالعمل بالدليل، فكان قسمًا ثانيًا من القسم الرابع، ففي حال العجز يجب تقرير الأصول أي إبقاء ما كان على ما كان من الطرفين، أعني طرف أعضاء المحدث وطرف طهارة الماء، وهذا لأن الماء عرف طاهرًا في الأصل فلا يصير نجسًا بالتعارض، وأعضاء المحدث عرفت موصوفة بالحدث فلا يزول عنه الحدث باستعمال هذا الماء بالتعارض. فوجه تعارض الأدلة في سؤر الحمار هو: أن الحمار يشبه الهرة من وجه ويشبه الكلب من وجه على ما ذكر في ((النهاية)) وغيرها، فشبهه بالأول يوجب طهارة سؤره، وشبهه بالثاني يوجب نجاسته، فتعارضا فوجب تقرير الأصول، ولا يمكن المصير إلى القياس لتعارض الأصلين، وباقي التقرير مذكور في غير هذا الكتاب.

وقوله: (وهو منصوص عليه في غير موضع) أي نص محمد ن الحسن- رحمه الله- في كثير من المواضع من ((المبسوط)) عل أن سؤر الحمار

طاهر، حتى قال في النوادر: لو غمس الثوب في سؤر الحمار تجوز الصلاة به. (فسمي مشكلًا) أي داخلًا في إشكاله؛ لأن سؤر الحمار دخل في أشكال الماء المطلق ودخل في أشكال الماء المقيد، فمن حيث إنه يجب استعماله في الوضوء به لا يكتفي بالتيمم وحده عند وجوده وحده أشبه الماء المطلق، ومن حيث إنه لا يزول به الحدث أشبه مار الورد، فوجب ضم التيمم إليه ليحصل ما هو المطهر بيقين، (لا أنه يعني به الجهل) أي ليس المراد بأن سؤر الحمار والبغل مجهول حكمه، بل حكمه وهو الطهارة معلوم، وكذلك حكم أعضاء المحدث على الحدث، وهو أيضًا معلوم لكن دخل هو في أشكال المطلق. وفي أشكال الماء المقيد كما ذكرنا، أو معنى قوله: ((لا أنه يعني به الجهل)) يعني بقولنا: ((إن سؤر الحمار مشكل)) أي داخل في أشكاله لا أن حكم سؤر الحمار غير معلوم بل هو معلوم وهو وجوب التوضؤ بسؤر الحمار مع ضم التيمم إليه، وإنما ذكر هذا لئلا يظن أن أدلة الشرع تؤدي إلى الجهل، فلا تؤدي

الأدلة إليه لكن قد يؤدي إلى أن يدخل الشيء في أشكاله، وحكم المشكل هو: التأمل فيه بعد الطلب، فيدرك المطلوب بالتأمل فيثبت به فضل العالم المتأمل على الجاهل الكسلان بتوفيق الملك الديان. (كذا الجواب في الخنثى المشكل) فإنه إذا لم يوجد فيه ما يترجح به جهة الذكورة أو الأنوثة يجب تقرير الأصل عن تعارض الدليلين، فقلنا: الزائد على نصيب البنت لم يكن ثابتًا، فلا يثبت عند التعارض. (وكذلك جوابهم في المفقود) حيث قالوا: إنه كان حيًا فتبقى حياته فلا يرثه أحد، ولا يرث هو غيره أيضًا إذا مات أحد من أقاربه؛ لأن ماله لم

يكن ثابتًا له فلا يثبت له بالشك، وهو معنى قول المشايخ: المفقود حي في مال نفسه ميت في مال غيره يعني لا يرثه أحد ولا يرث هو أحدًا. (ومثال ما قلنا في الفرق بين ما يحتمل المعارضة وبيم ما لا يحتملها أيضًا الطلاق والعتاق في محل مبهم). بيانه أنه إذا قال لامرأتين به: إحداكما طالق، أو قال لأمتيه: إحداكما حرة. إن له الخيار في البيان، وهو نظير قياسين إذا تعارضا؛ (لأن وراء الإبهام محلًا يحتمل التصرف) أي لأن غير الموقع من الطلاق والعتاق بطريق الإبهام محل يحتمل التصرف فيصح تصرفه، ولأن تعيين المحل كان مملوكًا له شرعًا كابتداء الإيقاع، ولكنه بمباشرة الإيقاع أسقط ما كان له من الخيار في التعيين، يعني كان له في ولايته تصرفان: إيقاع أصل الطلاق وتعيين المحل، فلما طلق إحداهما مبهمًا خرج أحد التصرفين من يده وبقي الآخر في يده كما كان، وهو تعيين المحل بناء على الملك، فصح القول بالاختيار بتعيين المحل؛ لأن الملك عبارة عن المطلق الحاجز فيبقى ذلك الخيار ثابتًا له شرعًا، فكان نظير تعارض القياسين من حيث إن له الخيار في كل واحد منهما بالبيان، كما أن له الخيار في كل واحد من القياسين بالعمل.

(وإذا طلق عينًا ثم نسي لم يجز الخيار بالجهل)، فكان هو نظير النصين إذا تعارضا؛ لأن العمل بأحدهما باطل بيقين كما في هذه الصورة، فلا يكون له اختيار أحدهما؛ لأنه قد خرج الأمران من يده؛ لأن الإبهام جاء من نسيانه، فلو بالاختيار إنما قلنا باعتبار جهله، وجهله لا يصلح دليلًا شرعيًا كما نقول في النصين. وكذلك في إعتاق أحد المملوكين بعينه ثم نسي لا يثبت له خيار البيان؛ لأن الواقع من الطلاق والعتاق لا يحتمل الانتقال من محل إلى محل آخر، وإنما ثبت المعارضة بين المحلين في حقة لجهلة بالمحل الذي عينه عند الإيقاع، وجهله لا يثبت له الخيار شرعًا، فكان كجهله بالناسخ من المنسوخ، فلا يثبت له الخيار هناك فكذا هنا، وكذلك لا يصار هاهنا إلى تقرير الأصل وهو أنها كانت حلالًا فتبقى حلالًا أي لا يقال هكذا لوقوع الحرمة بيقين وبطلان الأصل وهو العمل باستصحاب الحال، ولا مدخل للتحري في باب الفروج أيضًا لانعدام مسام الحاجة وتغلظ حرمته. (وذلك خمسة أوجه) فوجه الانحصار على هذه الخمسة هو أن اختلاف

الحجتين وتغايرهما لا يخلو إما أن كان الاختلاف في ذاتيهما أو لم يكن في ذاتيهما، فإن لم يكن في ذاتيهما، فلا يخلو إما كان لمعنى يعقبهما وهو الحكم، أو لمعنى قائم بهما على الخصوص وهو الحال، أو لمعنى قائم بهما لا على الخصوص وهو الزمان، فإن الزمان ظرف كل الأشياء المحدثة، ثم اختلاف الزمان لا يخلو من أحد الوجهين، وهما: الصريح والدلالة، فلما لم يفت الانحصار عن هذه الخمسة تعينت هذه الخمسة له. (مثل المحكم لا يعارضه المجمل) مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإنه محكم في نفي المماثلة فلا يعارضه قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لأنه يحتمل معاني منها ما توجب التشبيه ومنها ما لا توجب، فلا يثبت التعارض بينهما في الحقيقة، لأن ركن المعارضة تساوي الحجتين، وهذا أيضًا نظير تعارض المتشابه مع المحكم. فأما نظير تعارض المجمل مع الظاهر فهو أن يستدل مستدل في حل البيع

في مسألة بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فيعارضه معارض في عدم الجواز بقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فيجيب المعلل بأنه مجمل والمجمل لا يعارض الظاهر، (وأمثاله كثيرة لا تحصى). ومن تلك الامثال ما إذا كان أحد النصين محتملًا للخصوص فإنه ينتفي معنى التعارض بتخصيصه بالنص الآخر. وبيانه من الكتاب في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله تعالى في المستأمن: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} فإن التعارض يقع بين النصين ظاهرًا، ولكن قوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عام يحتمل الخصوص فجعلنا قوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} دليل تخصيص المستأمن من ذلك. ومن السنة قوله عليه السلام: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها)) ونهيه عن الصلاة في ثلاث ساعات، فالتعارض بين النصين ثبت ظاهرًا، ولكن قوله عليه السلام: ((فليصلها إذا ذكرها))

بعرض التخصيص فيجعل النص الآخر دليل التخصيص حتى بنتفي به التعارض. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. (وأما الحكم إي دفع المعارضة بالحكم فإن الحكم الثابت بالنصين إذا اختلف عند التحقيق بطل التعارض)؛ لأن المعارضة في الحقيقة بإثبات ما نفاه الآخر أو بنفي ما أثبته الآخر مع الشرائط المذكورة، فإذا كان حكم كل واحد منهما غير الآخر لم يتحقق نفي الإثبات ولا إثبات النفي، كما إذا قال: جاءني زيد، ثم قال: لم يجئ عمرو لا يكون معارضًا البتة، ولو قال: في الدار إنسان في هذا الزمان، ثم قال: ليس في الدار حيوان في هذا الزمان لم يجعلوا هذا مناقضة وإن كان يلزم فيه نفي ما أثبته وإثبات ما نفاه ضمنًا لا قصدًا، ففي الذي لا يكون إثبات ما نفاه أو نفي ما أثبته لا صمنًا ولا قصدًا أولى أن لا يكون معارضة. إذا ثبت هذا قلنا في (قوله تعال: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}). فالغموس داخل في هذه الآية؛ لأنه مما كسبته القلوب فتكون المؤاخذه في الغموس ثابتة. وقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ

وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}. (فالغموس داخل في اللغو)؛ لأن كل واحد منهما خال عن فائدة اليمين؛ لأن فائدة اليمين هي التقوى باليمين على فعل في المستقبل أو على ترك فعل في المستقبل، وهو إخبار عن الأمر في الماضي فلا يكون يمينًا، فعلم بسياق هذه الآية وهي قوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أن المراد بنفي المؤاخذة نفي المؤاخذة في دار الابتلاء، والمراد بإثبات المؤاخذة في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} المؤاخذة في دار الجزاء؛ لأنها ذكرت مطلقة غير مقيدة بكذا وكذا، فالمؤاخذة المطلقة تكون في دار الجزاء، فإن الجزاء بوفاق العمل. فأما في الدنيا فقد يبتلى المطيع ليكون تمحيصًا لذنوبه وينعم على العاصي استدراجًا فبهذا الطريق يبين أن الحكم الثابت في أحد النصين غير الحكم الثابت في الآخر، وإذا انتفت المدافعة بين الحكمين ظهر المخلص عن التعارض.

(فلا يصح أن يحمل البعض على البعض)، وهذا نفي قول الشافعي فإنه حمل البعض على البعض، وبيان ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} محمول على الغموس، فإن الغموس مما كسبته القلوب، ثم الله تعالى فسر ذلك في سورة المائدة بقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} الآية، والعقد عقد القلب لا العقد الذي هو ذد الحل، والعقد يحتملهما، يقال: عقد الحبل وهذا لا يشكل، ويحتمل عقد القلب. يقال: عقدت قلبي على كذا واعتقدت ذلك، ولي مع فلان عقيدة، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} مفسر بعقد القلب فصار بيانًا لما هو مجمل وهو قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} فحمل الشافعي ذلك على عقد القلب. والمؤاخذة في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} محتملة، والمؤاخذة المذكورة في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} مفسرة بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية. فتبين بتلك الآية أن المؤاخذة المذكرة في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} المؤاخذة بالكفارة، لكننا نقول: ذلك الذي قاله الخصم من حمل المحتمل على المفسر إنما يكون عند وجود المعارضة ينهما، والمعارضة غير ثابتة بينهما لما ذكرنا من حمل كل واحدة منهما على دار على حدة من دار الابتلاء ودار الجزاء، وقوله: ((لأن المؤاخذة المثبتة مطلقة)) متصل بقوله:

((سقط التعارض)). (وأمثاله كثيرة)، ومن تلك الأمثال حمل الشافعي النص المطلق على النص المقيد كما في حمل كفارة اليمين والظهار على كفارة القتل في اشتراك إيمان الرقبة. {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف يدل على انهاء حرمة القربان إلى انقطاع دم الحيض. يقال: طهرت المرأة إذا انقطع دم الحيض عنها، فلا يجوز أن تنتهي حرمة القربان إلى الاغتسال؛ لأنه انتهى قبل الاغتسال بانقطاع الدم، فمن المحال أن لا تنتهي حال وجود الانتهاء، وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد يدل على انتهاء حرمة القربان إلى الاغتسال، فيرى أنه لا تنتهي حرمة القربان حال انتهاء حرمته بانتهاء الحيض بتمام العشرة وهو محال. فلذلك حمل قراءة التشديد على ما دون العشرة لتنتهي حرمة القربان

بالاغتسال، وقراءة التخفيف تحمل على العشرة لتنتهي هي بانقطاع دم الحيض، فانعدم التعارض. (ولا يستقيم التراخي إلى الاغتسال لما فيه من بطلان التقدير) وهو أن أكثر الحيض عشرة لا غير، فلو جعلنا حكم امتداد الحيض إلى وقت الاغتسال حينئذ تلزم الزيادة على التقدير الشرعي وهي لا تجوز وإن قلت، ولأنا لو قلنا بحرمة القربان إلى وقت الاغتسال بعد تمام العشرة إنما تكون هي بسبب أن الحيض باق بعد؛ لأن حرمة القربان إنما كانت لوجود الحيض وهو لا يكون بعد تمام العشرة فلا يصح وقف حل الوطء بعد تماما لعشرة إلى وجود الاغتسال كذلك. (لأن ذلك هو المفتقر إلى الاغتسال)؛ لأنه يحتمل البلوغ إلى العشرة فلا يكون هذا الانقطاع محكمًا بل مترددًا فكان مفتقرًا إلى مؤيد وهو

الاغتسال. (فصح ذلك) الحمل وهو حمل الخفض على حالة الاستتار وحمل النصب على حالة عدم الاستتار. وقوله: (لأن الجلد أقيم مقام بشرة القدم) جواب سؤال مقدر بان يقال: كيف يكون هذا عملًا بالآية، والآية تقتضي المسح على الرجل، وأنت توجبه على الخف؟ فقال في جوابه: هذا يعني أن هذا صح بطريق المجاز، يعني ذكر مسح الرجل وإرادة مسح الخف لكون الخف قائمًا مقام بشرة القدم جائز، فصار مسح الخف بمنزلة مسح الرجل وإن لم يكن مسح الرجل جائزًا؛ إلا أنه يصح إطلاق مسح الخف على مسح الرجل بطريق المجاز. وأما في الحقيقة فلا؛ لأنه لا جواز للمسح على الرجل حتى يكون هذا خلفه/ (فصار مسحه بمنزلة غسل القدم)، وفي بعض النسخ: بمنزلة مسح القدم، وهذا ظاهر؛ لأن الجلد لما أقيم مقام بشرة القدم صار المسح على الخف كالمسح على القدم لوجود مجوز المجاز وهو ذكر الرجل وإرادة الخف في قوله

تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالخفض؛ لأن الخف ملتبس بالرجل فصح ذكر الرجل وإرادة الخف. وأم قوله: ((بمنزلة غسل القدم)) فمعناه أن الجلد لما قام مقام بشرة القدم كان المسح مصادفًا لبشرة القدم تقديرًا لمنزلة الغسل يصادف بشرة القدم تحقيقًا. (المباهلة): الملاعنة من البهلة وهي: اللعنة، ويروى ((من شاء لاعنته)) وذلك أنهم كانوا إذا اختلفوا في شيء اجتمعوا، وقالوا: بهلة الله على الظالم منا فجعل عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- التأخر دليل النسخ فعرفنا أنه كان معروفًا فيما بينهم أن المتأخر من النصين ناسخ للمتقدم. (وكان ذلك ردًا على قول من قال بأبعد الأجلين)، فكان علي- رضي الله

عنه- يقول " تعتد بأبعد الأجلين " (1) إما بوضع الحمل أو بأربعة أشهر وعشر؛ لأن قوله تعالى {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (2). يوجب عليها العدة بوضع الحمل، وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (3) يوجب عليها العدة بأربعة أشهر وعشر فجمع بينهما احتياطا، وجوابه ما ذكره ابن مسعود - رضي الله عنه - أعني أن العمل بهذا الطريق إنما يكون عند العجز عن علم التاريخ. وأما إذا عليم أن قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ}. آخرهما تاريخا فيعمل به لا بغيره. (لأنا نعلم أنهما وجدا في زمانين)؛ لأن نزولهما في زمان واحد محال للتناقض، ثم يقول كان المحرم آخر لكونه متيقنا في النسخ وكون المبيح محتملا في النسخ؛ لأنه لو تقدم كان مقررا للإباحة ولو تأخر كان ناسخاً،

والمحرم ناسخ تقدم أو تأخر، فكان الأخذ بالمحكم أولي، ولان المحرم إذا تقدم يتكرر النسخ ولو تاخر لا يتكرر، فكان الأخذ بعدم تكرار النسخ أولي؛ إذ الأصل هو البقاء علي حاله، ولان في القول بتأخر المحرم أخذا بالإحتياط، وفي جعل المبيحناسخا مع احتمال كون المحرم آخرترك الإحتياط؛ لأنه تلزمه العقوبة بارتكاب المحرم فكان القول بتأخر المحرم أولي (1). وقوله: (ولسنا نقول بهذا في أصل الوضع) أي لا نقول بأن الإباحة أصل في أصل وضع الشرع (2) بأن يقال لا حرمة في الأشياء كلها في الأصل

في أصل وضع الشرع؛ (لأن البشر من وقت آدم عليه السلام غلي وقتنا هذا لم يتركوا سدي) أي مهملا عن التكليف في وقت من الأوقات. قالي تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} وفي التكليف حظر وتحريم لأشياء واباحة لأشياء فلو قلنا بأن الإباحة أصل في الأشياء في أصل وضع الشرع يلزم ارتفاع التكليف، فكان هذا القول مناقضا لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} وهو لا يصح، وفي " الكشاف "في تفسير هذه الآية: فإن قلت: كم من أمة في الفترة بين عيسي ومحمد عليهما السلام ولم يخل فيها نذير؟

قلت: إذا كانت إثارة النذارة باقية لم تخل من نذير إلي أن تندرس وحين اندرست (1) آثار نذارة عيسي عليه السلام بعث الله تعالى محمدا عليه السلام (2). وذكر في " التيسير " قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} (3)، ثم إن أهل الإباحة من المتصوفة (4) الجهلة حملوا الكلام في قوله تعالى: {لَكُمْ} علي الإطلاق والإباحة مطلقا، وقالوا لا حظر ولا حرج ولا نهي ولا أمر، وإذا تحققت المعرفة وتأكدت المحبة سقطت الخدمة وزالت الحرمة، فالحبيب لا يكلف حبيبه ما يتعبه، ولا يمنعه ما يريده ويطلبه، وهذا منهم كفر صراح وخروج من الإيمان بإفصاح، وقد نهي الله تعالى، وأمر، وأباح، وحظر، ووعد، وأوعد، وبشر، وهدد، والنصوص ظاهرة والدلائل متظاهرة، فمن حمل هذه الآية الإباحة المطلقة فقد انسلخ من الدين بالكلية. والمحمل الصحيح ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما-: خلق لمنافعكم

ومصالحكم، وشرحه أن جميع ما في الدنيا لدفع حوائجكم وقوام معايشكم، فلا بقاء عادة للبشر إلا بالطعام والشراب ودفع الحر والبرد بالأكنان والأثواب، وقد هييء ذلك كله فيها لكم، وفيها أيضا زوائد عن الضروريات من تناول الطيبات، والتجمل بأنواع الزينات، والتقلب في وجوه اللذات، والاسترواح بأنواع الراحات، فالسماء سقفكم، والشمس سراجكم، والقمر نوركم، والنجوم هداكم، إلي ان قال: وما الحيوانات الضارة المؤذية والأعيان النجسة الخبيثة ففيها تذكير عقوبات الجحيم ومعرفة النعم في أضدادها، وهو نفع عظيم. وأعظم ذلك كله نفع الاستدلال بها علي وحدانية الله تعالى قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}، فالبناء دليل علي الباني .... إلي آخره. قلت: أما الذي قال هاهنا هذا بناء علي قول من جعل الإباحة أصلا فليس هذا الذي يجعل الإباحة أصلا من أهل تلك الإباحة من المتصوفة الجهلة الذين

ذكرهم في" التيسير " فإنهم كفرة حيث كفروا بقولهم: لا حظر ولا حجر ولا نهي أصلا علي ما ذكر في " التيسير "، يعنون بذلك لا قبل بعثة النبي عليه السلام ولا بعد بعثته علي ما اقتضي ذلك دليلهم. وأما الذي ذكر هنا فهو طريقة بعض مشايخنا فإنهم قالوا: الإباحة أصل إلي أن يرد التحريم، فإذا ورد التحريم يحرم. وقد ذكر الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله - في " أصول الفقه " فقال: وبيان ذلك - أي بيان النص الموجب للحظر يكون متأخرا عن الموجب للإباحة- وهو أن الموجب للإباحة يبقي ما كان علي ما كان علي طريقة بعض مشايخنا لكون الإباحة أصلا في الأشياء، كما أشار إليه محمد - رحمه الله - في كتاب الإكراه (1)، والذي أشار إليه في كتاب الإكراه وهو ما ذكره في باب تعدي العامل منه ولو تهد بقتل حتي شرب الخمر فلم يفعل حتي قتل خفت أن يكون آثما، وذكر هنا لفظا يستدل به علي أنه كان من مذهبه أن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن الحرمة بالنهي عنها شرعا، فإنه قال: لأن شرب الخمر وأكل الميتة لم يحرم إلا بالنهي. ثم قال في" أصول الفقه": وعلي أقوي الطريقتين باعتبار أن ما قبل مبعث

رسول الله عليه السلام كانت الإباحة ظاهرة في هذه الأشياء، فإن الناس لم يتركوا سدي في شيء من الأوقات. ولكن في زمان الفترة الإباحة كانت ظاهرة في الناس. وذلك باق إلي ان يثبت الدليل الموجب للحرمة في شريعتنا، فبهذا يتبين أن الموجب للحظر متأخر. وحاصل هذا أن ما يفهم من الكتابين أعني " أصول الفقه " للإمام شمس الأئمة و " أصول الفقه " للإمام فخر الإسلام - رحمهما الله - هو أن العلماء قالوا جميعا: بأن الإباحة أصل في الأشياء، حتي قالوا عند جهالة التاريخ بورود النصين أحدهما محرم والآخر مبيح بان المحرم متأخرا كيلا يلزم تكرار النسخ علي ما ذكرنا، وإنما يصح التعليل أن لو كانت الإباحة أصلا في الأشياء كلها، لكن إختلفوا في التخريج. بعضهم قالوا: معني ذلك هو ان الله تعلي خلق الأشياء كلها في أصلها مباحة للعباد، ثم بعث الأنبياء عليهم السلام واوحي إليهم بتحريم بعضها وإبقاء بعضها علي الإباحة الأصلية كما كانت. واما اختيار الشيخين - رحمهما الله - فليس مراد العلماء من قولهم " أن الإباحة أصل في الأشياء كلها "، أن تكون ذلك بالشرع، بل مرادهم من

ذلك زمان الفترة، يعني أن في زمان الفترة كان الناس يستعملون الأشياء علي طريق الإباحة، لأنهلم يكن للناس آمر وناه ينفذ قوله علي الناس، فكانت الأشياء كلها كأنها مباحة بسبب استعمال الناس علي الإباحة. لا لأن الشارع رفع الحظر والنهي عن الأشياء كلها، ثم لما بعث نبيا صلي الله عليه وسلم وأوحي إليه بإباحة بعض الأشياء. قلنا: قرر تلك الأشياء علي الإباحة الأصلية التي كان أهل الفترة يستعملونها مباحة، ولما أوحي إليه بتحريم بعضها قلنا نسخ إباحة تلك الأشياء التي كان أهل الفترة يستعملونها مباحة، فكون المبيح مقررا وكون المحرم ناسخا للإباحة الأصلية إنما كان بهذا الطريق لا أن التكليف بالحظر والتحريم في أصله كان مرتفعا عن الناس في وقت من الأوقات , والله أعلم. (و "حرم لحوم الحمر الأهلية") (1). (وروي أنه عليه السلام أباحها") أي جعلنا فيها أيضا المحرم ناسخاً.

فإن قيل: إذا كان المحرم ناسخا كيف يصح قولهم في سؤر الحمار: أن الدلائل تعارضت (1)؟ قلنا: قولهم ذلك صحيح، لأن كونه ناسخا بهذا الطريق ثبت بالاجتهاد فأخذنا في حرمة اللحم بالاحتياط، وأما فيما وراء ذلك فبقي التعارض؛ لأن الاحتياط في ذلك القول بالتعارض كي يضم إلي سؤر الحمار التيمم حتي يخرج عن وجوب الطهارة باليقين. أو نقول: دل الدليل علي طهارة سؤر الحمار اعتبارا بعرقه، فإنه صح أن النبي عليه السلام ركب الحمار معروريا (2) والحر حر الحجاز والثقل ثقل

النبوة، فكان هذا دليلا علي طهارة عرقه، إذ لا يجوز للمسلم الاقتراب من النجاسة فما ظنك برسول الله عليه السلام، وحرمة لحمه تدل علي نجاستة سؤره كما في الكلب وغيره، فتعارضت الأدلة، فلذلك وجب تقرير الأصول علي ما مر. (واختلف مشايخنا فيما إذا تعارض نصان أحدهما مثبت والآخر ناف مبق علي الأمر الأول)، فالمراد من المثبت هو الخبر الذي يثبت الأمر الطاريء ومن النافي هو الخبر الذي ينفي الأمر الطاريء ويبقي الحال علي الأمر الأول كما كان علي ما أشار إليه في الكتاب، حتي أن رواية من روي " أعتقت بريرة

وزوجها عبد" ناف وإن كان لفظه لفظ الإثبات، وكذلك من روي " أنه عليه السلام حين تزوج ميمونة كان محرما " ناف علي ما ذكرنا. فقال الكرخي: " المثبت أولي" لأنه أقرب إلي الصدق من النافي؛ لان المثبت يعتمد الحقيقة والنافي يبني الأمر على الظاهر.

وقال عيسى بن أبان - رحمه الله -: " يتعارضان " يعني لا يرجح المثبت علي النافي لكونه مثبتا، ولا النافي علي المثبت لكونه نافيا، بل تقع المعارضة بينهما، فيطلب الترجيح من وجه آخر، لان كلامنا في نفي يحيط العلم به، فكان هو مثل الإثبات من هذا الوجه فيتعارضان. وقد اختلف عمل أصحابنا- رحمهم الله - في هذا الباب فحاصل ما ذكر هنا من اختلاف عمل أصحابنا بالمثبت والنافي خمس مسائل، فذكر كل واحدة منها عقيب الأخري، فبدأ بالإثبات وختم بالإثبات. الأولي - مسألة ان زوجها حر أو عبد، أخذو فيها بالمثبت (1). والثانية - مسألة الإحرام، أخذوا فيها بالنافي (2). والثالثة - مسألة التباين، أخذو فيها بالمثبت (3).

والرابعة- مسألة الطهارة والنجاسة، أخذوا فيها بالنافي (1). والخامسة- مسألة الجرح والتعديل، أخذو فيها بالمثبت (2). (سرف): بوزن كتف جبل بطريق المدينة، وهو علي رأس ميل من مكة، بها قبر ميمونة - رضي الله عنها _ زوج النبي عليه السلام وكانت قد ماتت بمكة

فحملها ابن عباس - رضي الله عنهما - إلي سرف. (رد بنته زينب- رضي الله عنها- إلي زوجها أبي العاص (1) بنكاح جديد) أصل المسألة أن أحد الزوجين إذا خرج إلي دار الإسلام مهاجرا وبقي الآخر في دار الحرب تقع الفرقة بينهما، وعند الشافعي لا تقع الفرقةبينهما بتبائن الدار، وقال: روي أن زينب هاجرت إلي المدينة ثم تبعها زوجها أبو العاص بعد سنتين فردها عليه بالنكاح الأول وقلنا: الصحيح من

الرواية أنه ردها عليه بنكاح جديد، وما روي أنه ردها عليه بالنكاح الأول أي لحرمة النكاح الأول. ألا تري انه ردها إليه بعد سنتين، والعدة تنقضي في مثل هذه المدة عادة، (ولم يعملوا بالمثبت وهو النجاسة). وفي رجل ادعت امرأته أنها سمعته يقول المسيح ابن الله إلي أن قال ولم يقل غير ذلك)، والفرق بين قول الشهود: لم نسمع غير ذلك، وبين قولهم، لم يقل غير ذلك أنه لا تنافي بين قولهم: لم نسمع، وبين قول الزوج: قلت: قالت النصاري {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} لأنه صح أن يقال: قال

فلان قولا: ولكني لم أسمع، ولا يصح أن يقال،: قال ولم يقل، فيكون قولهم "ولم يقل ذلك "نفيا لمقالة الزوج، وهو مما يحيط العلم به فيقبل. (وكذلك في الطلاق إذا ادعي الزوج الاستثناء فقد قبلت الشهادة) يعني أن الزوج إذا ادعي الاستثناء في الطلاق وشهد الشهود علي إنه لم يستثني قبلت الشهادة، وهذه شهادة علي النفي، ولكنها دليل علي موجب للعلم به، وهو أن يكون من باب الكلام فهو مسموع من المتكلم لمن كان بالقرب منه، وما لم يسمع منه يكون دندنة لا كلاما، فإذا قبلت الشهادة علي النفي إذا كان عن دليل كما تقبل علي الإثبات قلنا: في الخبر أيضا يقع التعارض بين النفي والإثبات، والدندنة: ان تسمع من الرجل نغمة ولا تفهم ما يقول.

(وقلما يوقف من حال البشر علي أمر فوقه في التزكية) أي فوق عدم الوقوف للمزكي الذي يقول انه عدل، والقلة هنا مستعارة عن العدم أي أن من زكي غيره وعدله إنما زكاه بسبب أنه لم يقف في حقه علي ما يوجب جرحه فكان مآل تزكيته إلي الجهل. وقال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله-: من يزكي الشاهد إنما يزكيه لعد العلم بسبب الجرح منه، إذ لا طريق لاحد إلي الوقوف علي جميع أحوال غيره حتي يكون إخباره عن تزكيته عن دليل موجب للعلم به، والذي جرحه فخبره مثبت للجرح العارض لوقوفه علي دليل موجب له، فلذلك جعل خبره

أولى وقوله: (لانه فسر القصة فسار أولي) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم، فأقام بمكة ثلاثا، فاته حويط بن عبد العزي، في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا: قد انقضي أجلكم فاخرج عنا. قال عليه السلام: " وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم فصنعنا طعاما فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا غلي طعامكم فاخرج عنا، فخرج نبي الله عليه السلام، وخرجت ميمونة - رضي الله عنها - حتي عرس بها بسرف" كذا في شرح الآثار.

(ولكنهم لا يسلمون هذا إلا في الأفراد) يعني انهم يساعدوننا فيما قلنا إذا كان عبدا واحدا وفي مقابلته حرا واحدا حيث لا يرجحون رواية الحر الواحد علي رواية العبد الواحد كما هو قلنا. فأما في العدد فيخالفونا حيث يرجحون رواية الرجلين علي رواية المرأتين، وكذلك يرجحون خبر الحرين علي خبر العبدين. قال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - هذا النوع من الترجيح قول محمد - رحمه الله -خاصة أبي ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - والصحيح ما قالا، فإن كثرة العدد لا تكون دليل قوة الحجة. قال الله تعالى {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، ثم السلف من الصحابة وغيرهم لم يرجحوا

بكثرة العدد في باب العمل بأخبار الآحاد، فالقول به يكون قولا بخلاف إجماعهم، ولما اتفقنا ان خبر الواحد موجب للعمل كخبر المثني فيتحقق التعارض بين الخبرين بناء علي هذا الإجماع، ولا يؤخذ حكم رواية الأخبار من حكم الشهادات. ألا تري أن في رواية الأخبار يقع التعارض بين خبر المرأة وخبر الرجل، وخبر المحدود في القذف بعد التوبة وبين خبر غير المحدود، وبين خبر المثني وخبر الأربعة ما لا يثبت بشهادة الاثنين وهو الزني (1). وفي " فتاوي قاضي خان " فإن كان المزكي إثنين فعدلهم أحدهما وجرحهم الأخر. قال أبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله- الجرح الأول؛ لأنه اعتمد علي دليل غير ظاهر الحال، فكان الجرح أولي كما لو عدله اثنان وجرحه اثنان كان الجرح أولي في قولهم. وقال محمد - رحمه الله-: إذا عدلهم واحد وجرحهم آخر فاقاضي يتوقف ولا يقضي بشهادتهم، ولا يرد بل ينتظر إن جرحهم آخر يثبت الجرح، وإن لم يجرحهم آخر بل عدلهم آخر تثبت العدالة (2).

(وهذه الحجج بجملتها) إشارة إلي أقسام الكتاب من الخاص والعام إلي آخرها، وأقسام السنة من المتواتر والمشهور والاحاد وغيرها، والله اعلم.

باب البيان

باب البيان ذكر في الكتاب في الباب الذي يلي هذا الباب حد البيان: ما يظهر به ابتداء وجوده، أي ابتداء وجود الكلام. (وقد يستعمل هذا) أي لفظ البيان (مجازا وغير مجاوز) أي متعديا وغير متعد، فمعني غير المتعدي فيما إذا كان البيان مصدر الثلاثي من بان

يبين: ظهر وأما إذا كان هو مصدر بين من باب التفعيل كالكلام والسلام والصلاة فيجيء فيه غير متعد أيضا. قال في "الصحاح ": والتبين أيضا الوضوح، وفي المثل: قد تبين الصبح لذي عينين اي قد وضح وظهر. (والمراد به في هذا الباب عندنا) أي عند أصحاب أصول الفقه. هكذا كان بخط شيخي- رحمه الله- " غن من البيان لسحرا" أي كما ان بالسحر تستمال القلوب فكذا بالبيان الفصيح واللسان البليغ تستمال القلوب، أو كما أن للسحر إراءة الباطل في لباس الحق فكذا في البيان البليغ إراءة المعني الذي هو غير متين، فكان فيهما إراءة لغير الدليل دليلا. (وقوله: فهي خمسة أقسام) اتفق الشيخان في كون البيان خمسة

واتفقا أيضاً في التسمية بهذه الأسامي، إلا أن الغمام فخر الإسلام - رحمه الله- لما جعل الاستثناء والتعليق كليهما من قبيل بيان التغيير انتقص مسمي بيان التبديل فجعل النسخ مسمي بيان بيان التبديل فتم البيان خمسة. والإمام شمس الأئمه - رحمه الله - جعل بيان التغيير الاستثناء، وبيان التبديل التعليق، فازداد اسما البيان، واخرج النسخ من كونه بيانا لانعدام حد البيان فيه فقال: حد البيان غير حد النسخ؛ لأن البيان: إظهار حكم الحادثة عند وجوده ابتداء، والنسخ رفع للحكم بعد الثبوت، فلم يكن بيانا. (لأن اسم الجمع كان عاما يحتمل الخصوص) كما في قوله {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} أي جبريل ومثله {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} أي كان قوله {وَلا طَائِرٍ} حقيقة في حق الطائر الحقيقي إلا انه يحتمل أن يراد به غير الطائر الحقيقي بطريق المجاز؛ لانه يقال لمن يخف في مشيه ويسرع في أمره كأنه طائر، ويقال: فلان يطير بهمته، فكان

قوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قطعا لذلك المجازالذي يراد بالطيران السرع، وكذلك تأكيد القلوب بكونها في الصدور في قوله تعالى {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. أيضا بيان تقرير. وقوله: (أنت طالق)، (وقال عنيت به الطلاق من النكاح)، وهو يحتمل الطلاق عن القيد الحسي، فإذا قال من النكاح قرر موجب الكلام. (وقال عنيت به العتق عن الرق) فغن التحرير يحتمل من غير الرق وهو التخلية عن غيره، ولأن الحر يستعمل في معني الكريم. يقال رجل حر أي رجل كريم فلما قال: من الرق كان مقررا لكون مراده من الحرية الحرية عن الرق. (ولما قلنا أنه مقرر) أي لا مغير، وإنما يشترط الوصل في بيان التغيير، ولأن هذا البيان لو لم يلحقه لكان الذي قرره هذا المراد، فلذلك كان لحوق هذا البيان في أي وقت كان جائزا؛ لأن وجوده وعدمه بمنزله في تحقيق المراد،

فيجوز لحوق هذا البيان في أي وقت كان (فبيان المجمل والمشترك): أما بيان المجمل فيحتمل التراخي لما فيه من تقرير المقصود من الخطاب وهو الابتلاء، فان الابتلاءيوجد في المجمل مرتين، أحدهما: الابتلاء باعتقاد الحقية فيما هو المراد به مع انتظار البيان للعمل به، وبعد البيان الابتلاء بالعمل به، فلذلك حسن بيان تأخير المجمل، وكذلك بيان المشترك يحتمل التراخي أيضا لما قلنا، إلا أن التفاوت بينهما هو أن إدراك بغالب الرأي في المشترك قائم وفي المجمل لا، وهذا التفاوت لا يمنع التراخي في البيان؛ لأن حكم كل واحد منهما في الحال التوقف مع حقية المراد، والمشترك يحتمل البيان من صاحب الشرع أيضا، فحينئذ يصير مفسرا. (وهذا مذهب واضح لأصحابنا) - رحمهم الله- أي للفقهاء، فإن في هذا خلاف بعض المتكلمين، فان علي قول بعض المتكلمين عدم جواز تأخير بيان المجمل والمشترك عن أصل الكلام، لأن العمل بدون البيان غير ممكن،

والمقصود بالخطاب فهمه والعمل به، وإذا كان ذلك لا يحصل بدون البيان، فلو جوزنا مع ذلك تأخير البيان أدي ذلك إلي تكليف ما ليس في الوسع

وجواب هذا ما ذكرنا من أن خطاب الشارع مفيد فائدته قبل البيان وهي ابتلاء علي ما ذكرنا وهو مذكور في الكتاب. (وقد قال علماؤنا فيمن أوصي بهذا الخاتم لفلان وبفصه لفلان غيره) إلى آخره.

فإن قلت: إيراد الخاتم نظير للعام ليس بمستقيم؛ لأن العام هو: اللفظ الذي ينتظم جمعا من المسميات التي هي متحدة الحدود كالمؤمنين والمسلمين والرجال والنساء، والخاتم ليس له أفراد. ولو قيل إن الحلقة والفص له أفراد لا يستقيم ذلك أيضا لوجهين: أحدهما: أن أفراد العام يجب أن يكون أقله ثلاثة، وهذا اثنان لا ثلاثة. والثاني: أن أفراد العام يجب أن تكون متحدة الحدود كما ذكرنا، والحلقة في الخاتم ليست علي حد الفص وكذلك الفص ليس علي حد الحلقة لتغايرهما في ذاتيهما صورة ومعني فكيف يكونان أفرادا للعام؟ قلت أن هذا الذي ذكره هو نظير للعام من حيث الشمول كما في العام، فإن لفظ الخاتم يتناول الحلقة والفص جميعا كلفظ الشيء ولفظ الإنسان، فإن كلا منهما عام وأفرادهما في التحقيق مخالف بعضها لبعض في الحد والحقيقة. ألا تري أن حد الجوهر غير حد العرض، وكذلك حد حيوان علي خلاف حد الجماد، واسم الشيء يتناولهما بطريق العموم، وكذلك حد الرجل علي خلاف حد المرأة والصبي، واسم الإنسان يتناولهم بطريق العموم.

فعلم بهذا أن المعنى الأصلي في العام هو معني الشمول والتناول لا اتحاد أفراد من حيث الحد والحقيقة. أو نقول: أورد الخاتم نظيرا للعام لا أن يكون عين العام لمشاركته في معني الشمول كالعام. ألا تري أن مشايخنا - رحمهم الله - أوردوا الواحد بعد العشرة نظير صفات الله تعالى مع ذاته من حيث إن كلا منهما لا هو ولا غيره مع أن ذات الله تعالى وصفاته متعالية عن النظير إذ ليس كمثله شيء، ولأن الواحد إن لم يكن عين العشرة ولا غيرها لكن هو جزء منها فليست صفة الله تعالى بجزء من ذاته فلا يكون نظيرا لصفاته، ولكن لما وجدوه نظيرا فيما قصدوا إليه جعلوه نظيرا لها لزيادة تفهيم المتعلمين، فكذا هنا لما وجدوا الخاتم متناولا للحلقة والفص كالعام فإنه متناول لأفراد جعلوه نطيرا له. وقال الشافعي - رحمه الله-: يجوز متصلا ومتراخيا، وهذا الخلاف بناء علي دليل الخصوص بيان تغيير أم لا؟ وهذا الخلاف أيضا مبني علي أن العام قبل الخصوص هل يوجب الحكم قطعا أم لا؟ (ولو احتمل الخصوص متراخيا لما أوجب الحكم قطعا) إذ بالخصوص يتبين أن المخصوص لم يدخل تحت العام من الابتداء، فيلزم أن يلزمنا اعتقاد

أنه موجبٌ قطعاً في جميع أفراده وغير موجب في الجميع وهذا تناقض، فلا يجوز القول بالتراخي. وقال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله-:إن الخصم يوافقنا في القول بالعموم، وقد أوضحنا ذلك بالدليل، ثم من ضرورة القول بالعموم لزوم اعتقاد العموم فيه، والقول بجواز تأخير دليل الخصوص يؤدي إلي أن يقال يلزمنا اعتقاد الشيء علي خلاف ما هو عليه، وهذا في غاية الفساد. (بل ما كان بيانا محضا صح القول فيه بالتراخي)، وهو بيان المجمل والمشترك، وما كان بيان التغيير لا يصح فيه التراخي، وما كان بيان التقرير صح القول فيه بالتراخي. هذه الوجوه كلها بالإجماع، فإختلفنا في دليل الخصوص وجعلناه من قبيل بيان التغيير فإشترطنا الوصل، والشافعي جعله من قبيل بيان التقرير؛ لأن بعد التخصيص بقاء موجب العام كما كان قبل التخصيص عنده فلم يتغير حكم العام بالتخصيص من القطع غلي الاحتمال فصح القول بالتراخي.

وليس هذا باختلاف في حكم البيان، أي اختلافنا مع الشافعي في جواز تأخير تخصيص العام وعدم جوازه ليس بسبب اختلاف بيننا وبينه في حكم البيان، بل الاجماع منعقد بيننا وبينه في أن البيان الحقيقي وهو بيان المجمل والمشترك يجوز فيه التراخي. وأما تخصيص العام فهو عندنا من قبيل بيان التغيير، فلذلك لا يجوز تأخيره، وعنده من قبيل بيان التقرير فيجوز. (وما ليس ببيان خالص لكنه تغيير أو تبديل لم يحتمل القول بالتراخي) أراد بالتغيير الاستثناء، وبالتبديل الشرط، وهذه التسمية هنا وقعت علي موافقة تسمية الإمام شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله-. وأما عند المصنف -رحمه الله - فالشرط والاستثناء كلاهما من قبيل بيان التغيير دون التبديل، فإن بيان التبديل عنده النسخ والتراخي فيه لازم، فلم يصح قوله:" لم يحتمل القول بالتراخي" في حق النسخ. (ألا تري أنه يبقي علي أصله في الايجاب) يعني أن العام بأصله يحتمل

التخصيص، فورود الخصوص يقرر ما احتمله العام قبل التخصيص فبقي العام بعد التخصيص علي ما كان قبل التخصيص، فكان هذا علامة كون البيان للتقرير فلم يكن هذا في الحقيقة باختلاف في البيان المحض؛ لأن في البيان المحض وهو بيان المجمل والمشترك جواز البيان بالتراخي. (وهذا عندنا يقيد المطلق وزيادة علي النص فكان نسخا)، والنسخ لا يجوز إلا متراخيا. بيان ان قوله {بَقَرَةً} في قوله {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة ً} نكرة مطلقة في موضع الإثبات، وعندنا أن النكرة المفردة في موضع الإثبات خاص فلا يحتمل القول بالتخصيص لكن يحتمل بالتقييد؛ لأن الفرد يحتمل الصفة وهي تقييد له، فلذلك قيد بما ذكر الله تعالى في قوله {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} وهذا زيادة علي مطلق البقرة والتقييد نسخ عندنا، وعند الشافعي المطلق عام وهو يبني الأمر في هذا علي مذهبه وهو أن المطلق عام عنده، فلا يلزمنا ما أورده هنا

والدليل على أن ذلك كان بطريق النسخ ما ذكره ابن عباس - رضي الله عنهما- بقوله: لو أنهم عمدوا إلي أي بقرة كانت فذبحوها لاجزأت عنهم، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم فدل أن الأمر الأول قد كان تخفيف، وأنه قد إنتسخ ذلك بأمر فيه تشديد عليهم. فعلم بهذا أن الزيادة علي المطلق كانت بمنزلة النسخ. (إلا أن نوح عليه السلام قال) إلي آخره جواب لإشكال مقدر وهو أن يقال: لو لم يكن الأهل متناولا للإبن لما قال نوح عليه السلام {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}؟

قلنا: إنما قال ذلك بناء علي العلم البشري وحسن ظنه به أنه لما رأي الطوفان عسي أن يكون نادما علي فعله ويؤمن بالله عند ذلك. (ولكنهم كانوا متعنتين فزاد في البيان إعراضا عن تعنتهم) يعني أن القوم كانوا متعنتينيجادلون بالباطل بعد ما تبين لهم، فحين عارضوا بعيسي عليه السلام والملائكة علم رسول الله عليه السلامتعنتهم في ذلك، وأنهم يعلمون أن الكلام غير متناول لمن عارضوا به، وقد كانوا أهل اللسان، فأعرض عن جوابهم امتثالا لقوله تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} ثم بين الله تعالى تعنتهم فيما عارضوا به بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} ومثل هذا يكون ابتلاء كلام، وإن لم يكن محتاجا إليه في حق من لا يتعنت، كما في قوله {فَإِنَّ اللَّهَ يَاتِي

بِالشَّمْسِ} وكلامنا فيما يكون محتاجا إليه في البيان، فتوقف به علي ما هو المراد. (أما في هذه الآية - وهي قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} فظلمهم كان علة إهلاكهم، ولوط وأهله سوي امرأتهليسوا بظالمين، فلم يكن قوله: {إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} متناولا لهم، فكان ذلك استثناء لهم من حيث المعني، فصار كأنه قال: إن مهلكوا أهل هذه القرية إلا لوطا وأهله سوي امرأته، وهو معني قوله: (وذلك استثناء واضح) أي معني. وقوله: (غير أن إبراهيم) جواب سؤال يرد علي قوله؛ " لان البيان كان متصلا به" بأن يقال لو كان البيان متصلا به لما اعترض عليه إبراهيم عليه السلام بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا}، وصرح بذلك السؤال والجواب الإمام شمس

الأئمة - رحمه الله- فقال: فإن قيل: فما معني سؤال إبراهيم عليه السلامالرسل بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا}؟ قلنا: فيها معنيان: أحدهما: ان العذاب النازل قد يخص الظالمينكما كان في قصة أصحاب السبت، وقد يصيب الكل فيكون عذابا في حق الظالمين ابتلاء في المطيعينكما قال تعالى {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فأراد الخليل عليه السلام أن يبين له أن عذاب أهل تلك القرية من أي الطريقين. والثاني: أنه علم يقينا أن لوط عليه السلام ليس من المهلكين معهم، ولكنه خصه في سؤاله ليزداد طمأنينة وليكون فيه زيادة تخصيص للوط، وهو نظير قوله تعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} وقد كان عالما متيقنا بإحياء الموتي، ولكن سأله لينضم العيان إلي ما كان له من علم اليقين، فيزداد

به طمأنينة قلبه. وقوله: (ذلك) إشارة إلي قوله " أراد الإكرام للوط عليه السلام". (وهذا عندنا من قبيل بيان المجمل) ـ، وذلك لان النبي عليه السلام قسم سهم ذوي القربيواعطي بني هاشم وبني عبد المطلب، فقال جبير بن مطعم وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - يا رسول الله لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك الذي وضعك الله فيهم، فما بالنا حرمتنا وأعطيت بني عبد المطلب ونحن وهم في النسبة إليك سواء؟ فقال عليه السلام: " إنهم لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام وهم بني هاشم كشيء واحد. وشبك بين أصابعه"

وهذا من رسول الله عليه السلام بيان ان المراد بالقربي (قربي النصر لا قرب النسب) ولا قربي يحتملهما، فكان الحديث بيانا للمجمل لا تخصيصا، وبيان المجمل يجوز فيه التراخي. وذكر أصل هذا الحديث في الباب الأول من سير "المبسوط "فقال: إن أصل النسب وهو عبد مناف كان له أربعة بنين: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس، ورسول الله عليه السلام كان من أولاد هاشم بن عبد مناف، وكان بنو هاشم أولاد جده وجبير بن مطعم كان من بني نوفل، وعثمان بن عفان - رضي الله عنه- كان من بني عبد شمس، وولد جد الإنسان أقرب إليه من ولد أخي جده، وهذا معني قولهما:"لا ننكر فضل بني هاشم". فأما بنو نوفل وبنو عبد شمس كانو مع بني عبد المطلب في القرابة أسوة. وقيل: بنو نوفل وبنو عبد شمس فكانو أقرب إليه من بني عبد المطلب؛ لأن نوفل وعبد شمس كانا أخويهاشم لأب وأم، والمطلب كان أخا هاشم لأبيه لا لأمه، ووالاخ لأب وأم أقرب إلي المرء من أخ لأب، ثم أعطي رسول الله عليه السلام بني عبد المطلب ولم يعط بني نوفل وبني عبد شمس، فأشكل ذلك عليهما، فلهذا سألاه، فأزال رسول الله عليه السلام إشكالهما ببيان علة

الاستحقاق أنها النصرة لا القرابة، ولم يرد به نصرة القتال، فقد كانت هي موجودة في عثمان وجبير بن مطعم - رضي الله عنهما- وإنما أراد نصرة الإجتماع للنبي عليه السلام للمؤانسة في حال ما هجره الناس إلي آخره. (وإجماله أن القربي يتناول غير النسب) من القرب بالنصرة ومن القرب بالموافقة ومن القرب بإعطاء المال (ويتناول وجوبها من النسب مختلفة) وهي القرابة القريبة والقرابة البعيدة والقرابة المتوسطة.

باب بيان التغيير

باب بيان التغيير فقولنا:"بيان التغيير" معناه: بيان هو تغيير كما يقال: علم الفقه وعلم الطب، وهو ما تغير من موجب الكلام الذي ذكر، أو لأنما ذكر في آخره من الشرط والاستثناء. (وعلي هذا إجماع الفقهاء) خلافا لإبن عباس - رضي الله عنهما -في الاستثناء، فإنه جوز الاستثناء متراخيا.

وحكاية أبي حنيفة - رضي الله عنه- مع أبي جعفر الدوانيقي معروفة، وهي أنه كان خليفة فاستقبله أبو حنيفة - رضي الله عنه- يوما وأخذه أبو جعفر بتكنيته وقال: أنت الذي خالفت جدي! فقال أبو حنيفه - رحمة الله عليه -: أتناظرني أم تقاتلني؟ فقال أناظرك، فقال له أبو حنيفه - رحمة الله عليه -لو صح الاستثناء متراخيا بارك الله في بيعتك، يعني لو استثنوا بعد البيعة كيف تبقي بيعتك صحيحة! فسكت فأرسله.

(فصار الشرط مغيرا له من هذا الوجه)؛ لأن موجب صدر الكلام التنجيز فغير الشرط هذا الموجب. (فاما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان)؛ لأن النسخ: رفع للحكم الأول وإثبات للحكم الثاني فلا يكون بيانا، إلا أن هذا القول وقع مخالفا لما ذكر من قبل هذا بأن النسخ هو بيان التبديل فقال: في باب النسخ وهو في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلقالذي كان معلوما عند الله تعالى. قلنا: تأويل هذا هو كون النسخ بيانا في حق صاحب الشرع؛ لأن حد البيان موجود في حقه وهو من ابتداء وجود الكلام، فكان في النسخ في حق الله تعالى إظهار ابتداء وجود الكلام المطلق في أن شرعية الحكم الثابت به إلي هذا الوقت؛ لانه عند الشرع المنسوخ كان الله تعالى عالما ببقاء شرعيته

إلى وقت مقدر، فلما نسخه كان ذلك بيانا لما كان علمه قبل ورود النسخ. وأما قوله ها هنا: "فاما التغيير بعد الوجود فنسخ وليس ببيان" أي في حق العباد؛ لأن العباد كانوا لا يعلمون قبل ورود الناسخ انتهاء شرعية المنسوخ، فلا يكون النسخ بيانا لما يظهر من ابتداء وجود الكلام، بل يكون رفعا لشرعية المنسوخ بعد وجودها فلا يكون بيانا. (ولما كان التعليق بالشرط لابتداء وقوعه غير موجب) يعني أن المعلق بالشرط يظهر كونه عند وقوع الشرط وهو في الحال غير موجب بل ينقلب موجبا عند وجود الشرط. (ألا تري أن التعلق بالشرط والاستثناء لو صح كل واحد منهما متراخيا كان ناسخا)؛ لأن قوله: أنت طالق إذا تعري عن الشرط يقع الطلاق بالإتفاق، فلو صح الشرط بعد ذلك لكان رفعا للحكم الثابت

كالنسخ، فإن النص الموجب لحكم لما أثبت الحكم الثابت بالنص المعارض بعد زمان كان نسخا لذلك الحكم، وكذلك قوله: ألف درهم إذا لم يقترن الاستثناء ثبت موجبه، فلو صح متراخيا كان رفعا للحكم الثابت بالألف كما قلنا في التعليق بالشرط. (ولكنه إذا اتصل منع بعض التكلم لا إنه رفع بعد الوجود، فكان بيانا) من حيث إن المراد بالألف بعضه لا كله فسمي بيان التغيير؛ لأنه وجد فيه معني كل واحد منهما. (ومنزله الإستثناء مثل منزلة التعليق بالشرط) أي في كونهما جميعا بيان التغيير، فكانا من بيان التغيير دون التبديل، هذا علي خلاف ما اختاره الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - فإن بيان التغيير عنده الاستثناء لا غير. وأما بيان التبدييل عنده فالتعليق بالشرط وعند المصنف بيان التبديل هو النسخ، فالاستثناء والتعليق عند المصنف من بيان التغيير.

(في كيفية عمل كل واحد منهما، فقال: الاستثناء يمنع التكلم بحكمه) أي مع حكمه، يعني أن الاستثناء يمنع الموجب مع موجبه وهو الحكم عند الشافعي يمنع الموجب. واما الموجب وهو المستثني منه بمجموعه فثابت ولكن امتنع بعض حكمه بمعارضة الاستثناء. (وقال الشافعي- رحمه الله - إن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة)؛

لأن صدر الكلام وقع موجبا متناولا لقدر المستثني، إلا إن حكمه لا يثبت بالاستثناء كما هو الأصل في وقوع المعارضة بين الدليلين، وكذلك التعليق بالشرط عنده يمنع حكم العلة عند الثبوت لاأنه يمنع انعقاد العلة بل وقع عله إلا أن الحكم لا يثبت بالتعليق. (بمنزلة دليل الخصوص) يعني أن دليل الخصوص يعارض النص العام بصيغته في مقدار المخصوص؛ لانه نص مستبد كالنص العام فكان عمله في المعارضة لهذا. (وقد دل علي هذا الأصل مسائلهم) أي مسائل أصحابنا والشافعي - رحمهم الله- وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} إلي آخرهفمعناه في تخريج الشافعي إلا الذين تابوا (فاقبلوا شهادتهم وأولئك هم الصالحون غير فاسقين)؛ لأن الاستثناء عنده بطريق المعارضة، فصدر الكلام يوجب رد الشهادة أبدا والاستثناء يعارضه في حالة واحدة وهي حالة التوبة، ورد الشهادة مما يحتمل

التوقيت فإنه مؤقت بحالة الفسق، وبعد زوال الفسقبالتوبة كان الحكم بخلافه، وعنده رد الشهادة حكم الفسق، لأن رد الشهادة بالقذف كرد الشهادة بفسق آخرفينتهي بالتوبة. فأما الجلد فحد يتعلق في حق العبد عنده علي سبيل التغليب ولهذا يورث ويجري فيه العفو فلا تظهر فيه التوبة. (لأن الاستثناء عارضة في المكيل خاصة) فبقي ما وراء المكيل تحت العام وهو المجازفة والمفاضلة. (وخصوص دليل المعارضة لا يتعدي مثل دليل الخصوم في العام) يعني أن دليل المعارضة خاص وهو قوله"إلا سواء بسواء" وقع معارضا لصدر الكلام في حالة المساواة فلا يتعدي؛ إذ لو تعدي لصار عاما، وهو خاص كما أن دليل الخصوص لا يتعدي عن المخصوص نصا إلا بطريق التعليل، ولكن الفرق بينهما أن دليل المعارضة لا يتعدي إلي غير ما عارضه إلا بنفسه ولا بطريق التعليل، لأن التعليل فرع النص، فلو عللنا النص المعارض للتعدية يلزم أن يكون التعليل معارضا للنص الذي عارضه النص المعارض كالنص المعارض وهو لا يصح كما ذكرنا في عدم تعليل الناسخ.

فأما دليل التخصيص وإن كان فيه شبهة المعارضة باعتبار شبهه الناسخ وهو للبيان في نفسه لوجود حد البيان فيه وهو: أن يظهر به ابتداء وجود الكلام، فكان قابلا للتعليل. وحاصله أن دليل المعارضة وهو قوله "إلا سواء بسواء" لا يتعدي حتي لا يجوز بيع الحفنة بالحفنتين عند الخصم مثل دليل الخصوص في العام، فإن دليل الخصوص فيه نص خاص قطعي لا يتعدي إلي ما وراء المخصوص إلا بالتعليل، ولهذا لم يثبت الحكم فيما وراءه قطعا بل بغالب الرأي بالقياس. وكذلك تخريجه في (قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}) أنه بطريق المعارضة، معناه أن صدر الكلام وهو قوله {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يتناول جميع الأحوال، فحال العفو من المرأة صار معارضا فلا يتعدي إلي حال لا يصح العفو منهاإذا كانت صغيرة أو مجنونة. قال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - وقال أي الشافعي في قوله: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء": إن المراد: لكن إن جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر، حتي أثبت بالحديث حكمين: حكم الحرمة لمطلق الطعام بالطعام فأثبته في القليل والكثير، وحكم الحل بوجود المساواة كما هو موجب في الاستثناء، فيختص بالكثير الذي يقبل المساواة، وهو نظير

قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} في أن الثابت به حكمان: حكم تنصف به المفروض بالطلاق، فيكون عاما فيمن يصح منه العفو ومن لا يصح نحو الصغيرة والمجنونة، وحكم سقوط الكل بالعفو كما هو موجب الاستثناء، فيختص بالكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} أي وإن يتفضل الزوج فيعطي الكل صلة لها وإحسانا إليها، أي الواجب شرعا هو النصف إلا ان تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل وإنما كان الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح؛ لأن الطلاق بيده فكان إبقاء العقد بيده. وقوله: (يسقط من الألف قدر قيمته) وعندنا لا يسقط من الألف شيء؛ لأن هذا ليس باستثناء حقيقة، فلو كان تكلمنا بالباقي لكان نفيا لغيره لا إثباتا له، فمعني نفي الغير من غير إثبات له قاصدا بالفارسية جز خداي خداي نيست (3)

وهذا تكلم بالباقي لا غير، وأما لو كان بطريق المعارضة فكان معناه: خداي نيست مكريك خدايست، وهذا كما ترى نفي للألوهية عن غيره وإثبات إياها له، فكان هذا أولى باعتبار أن هذا كلمة التوحيد. (فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ) كما في البيع بشرط الخيار والطلاق الرجعي، فإن وضع الطلاق لرفع النكاح وذلك لا يوجد في الطلاق الرجعي قبل انقضاء العدة. (فقوله تعالى: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا)) فإن دليل المعارضة في الحكم إنما يتحقق في الإيجاب دون الخبر؛ لأن ذلك يوهم الكذب باعتبار صدر الكلام، ومع بقاء أصل الكلام للحكم لا يتصور امتناع الحكم فيه بمانع، فلو كان الطريق ماقاله الخصم لاختص الاستثناء بالإيجاب

كدليل الخصوص، والدليل على صحة ماقاله علماؤنا -رحمهم الله- هذه الآية أيضًا، فإن معناه: لبث فيهم تسعمائة وخمسين عامًا؛ لأن الألف اسم لعدد معلوم ليس احتمال مادونه بوحه، فلو لم يحعل أصل الكلام هكذا لم يمكن تصحيح ذكر الألف بوحه؛ لأن اسم الألف لا ينطلق على تسعمائة وخمسين أصلًا. وإذا قال الرجل: لفلان علي ألف درهم إلا مائة فإنه يجعل كأنه قال: له علي تسعمائة، فإن مع بقاء صدر الكلام على حاله وهو الألف لا يمكن إيجاب تسعمائة عليه ابتداء؛ لأن القدر الذي يجب هو حكم صدر الكلام، وإذا لم يكن في صدر الكلام احتمال هذا المقدار لا يمكن إيجابه حقيقة، فعرفنا به أنه يصير صدر الكلام عبارة عما وراء المستثنى وهو تسعمائة، وكان لهذا العدد عبارتان: الأقصر: وهو تسعمائة، والأطوال: وهو الألف إلا مائة، وهذا معنى قول أهل اللغة: إن الاستثناء استخراج بعض الكلام على أن يجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى. وقوله: (فبقاء التكلم بحكمة في الخبر لا يقبل الامتناع بمانع) جواب

عن قوله: «فامتناع الحكم مع قيام التكلم سائغ» وسقوط الحكم بطريق المعارضة في الإيجاب يكون لا في الإخبار؛ لأن الإيجاب إثباب شيء، فإذا عارضه شيء آخر لم يثبت. فأما الإخبار فلفظ دال على أمر كان أو يكون وهو لا يصلح بدونك ذلك؛ لأنه لو لم يكن كائنًا يلزم منه الكذب فلا يمكن امتناع المخبر به بالمعارضة؛ لأنه كائن قبل ثبوت المعارضة فيستحيل امتناعه، ولما بقي جميع ماتكلم بحكمه في صدر الكلام لم يقبل الامتناع بمانع فبطل القول بالمعارضة فصح ماذكرنا. (وإثبات ونفي بإشارته) يعني لو كان صدرالكلام نفيًا كان الإثبات في المستثنى بطريق الإشارة كما في كلمة التوحيد، ولو كان صدر الكلام إثباتًا كان النفي في المستثنى بطريق الإشارة كما في قوله: لفلان علي ألف درهم إلا مائة وإنما لم يعكس؛ لأن الإثبات أو النفي في المستثنى غير مذكور قصدا، لكن لما كان حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه بحسب وضع صيغة الكلام فيه لزم ذلك ضرورة الاستثناء لغة. (أن ما يمنع الحكم بطريق المعارضة يستوي فيه البعض والكل) ولم يستو هاهنا؛ لأن استثناء الكل من الكل لايجوز، ولو كان بطريق المعارضة لجاز.

(والاستثناء قط لا يستقل بنفسه) فإن قيل: هذا على أصلكم. وأما على أصل الشافعي فأنه لما كان الاستثناء على وجه المعارضة كان مستقلًا بنفسه على ما ذكر قبله بقوله: «إلا مائة فإنها ليست علي» قلنا: هذا أيضا لا يستقل بنفسه بدون الأول. ألا ترى أنه لو قال: إلا مائة فإنها ليست علي بدون سابقة المستثنى منه لا يكون مفيدًا، فلذلك صح قولنا على الإطلاق والاستثناء قط لا يستقل بنفسه. (وذلك لا يصلح) أي وذلك البعض الذي هو ما وراء المستثنى لا يصلح حكمًا لكل التكلم بصدوره، ثم أوضح هذا القول بقوله:

(ألا ترى أن الألف اسم علم له لايقع على غيره) يعني أن كل التكلم بصدره اسم الألف في قوله: لفلان علي ألف إلا مائة فلا يصلح ما دون الألف الذي بقي بعد الاستثناء وهو تسعمائة حكمًا للألف، فلو كان إخراج المائة من الألف بطريق المعارضة لبقي اسم الألف صالحا حقيقة لإطلاقه على ما وراء المستثنى وهو تسعمائة كما في دليل الخصوص، فإنه لما ثبت حكمه بطريق المعارضة للعام بقي اسم العام صالحًا حقيقة لإطلاقه على ما وراء المخصوص من العام، فإن اسم المشركين في قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بقي صالحًا لإطلاقه حقيقة على ما وراء الدمي والمستأمن من المشركين لثبوته بطريق المعارضة. والمعنى في ذلك وهو أنا إنما اشترطنا صلاحية إطلاق اسم كل صدر الكلام على ما وراء المستثنى الذي وجب على المقر في قوله: لفلان علي ألف إلا مائة؛ لأن القدر الذي يجب هو حكم صدر الكلام، وإذا لم يكن في صدر الكلام احتمال هذا المقدار لا يمكن إيجابه حقيقة، فعرفنا به أنه يصير صدر الكلام عبارة عما وراء المستثنى وهو تسعمائة.

(وإذا كان الوجود غاية للأول أو العدم غاية لم يكن بد إثبات الغاية لتناهي الأول)، ثم انعدام الحكم بعد الغاية لعدم الدليل المثبت لا لمانع بعد وجود المثبت فكذلك انعدام الحكم في المستثنى لعدم الدليل الموجب لا لمعارض مانع. (ولذلك اختير في التوحيد لا إله إلا الله ليكون الإثبات إشارة والنفي قصدًا) إلى آخره، وهذا لأن الإيمان عند المحققين من المتكلمين هو التصديق بالقلب فقط، والبيان باللسان شرط إجراء الأحكام في الدنيا، وعند

الفقهاء: الإقرار باللسان وإن كان ركنًا لكنه زائد؛ لأنه إذا لم يتمكن من البيان ولم يصادف وقتًا يقدر فيه على البيان وصدق بالقلب فهو مؤمن بلإجماع إذا لم يكن ذلك الوقت وقت البأس فكان التصديق كل الإيمان أو أصلًا فيه، (فاختير في البيان الإشارة)؛ لأن الإشارة غير مقصودة والإقرار أيضًا غير مقصود، فاختير ماليس بمقصود لما ليس بمقصود. فإن قيل: إن النفي باللسان أيضًا غير مقصود؛ لأن التصديق هو الأصل، والتصديق هو نفي الألوهية عن غير الله وإثبات الألوهية لله تعالى وهو الأصل في القلب، فكيف يصح قوله في الكتاب: «ليكون النفي قصدًا والإثبات إشارة» مع أن النفي على ماقررنا باللسان أيضًا غير مقصود؟ قلنا: الأمر كذلك إلا أنه يقصد النفي في الكلام بالبيان لدفع خصومة الخصم؛ لأن من الناس من يثبت الألوهية لغير الله فمست الحاجة إلى النفي قصدًا دفعًا لقول الخصم.

فأما إثبات الألوهية لله تعالى فلا نزاع، فيه قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)، فاختير في الإثبات الإشارة فلذلك ابتدأ في كلمة التوحيد بنفي الأغيار عن شركة الألوهية ليقع النفي مقصودًا، فلما انتفت الألوهية عن غير الله قصدًا ثبتت الألوهية لله تعالى لغة وإشارة؛ لأنه لا بد للعالم الحادث من محدث أحدثه، ومن خالق خلقه وهو الله تعالى. وإلى هذا أشار الإمام المحقق شمس الأئمة-رحمه الله- في تقريره فقال: وأما قول أهل اللغة: الاستثناء من النفي إثبات فإطلاق ذلك باعتبار نوع من المجاز، فإنهم كما قالوا هذا فقد قالوا إنه استخراج وإنه عبارة عما وراء المستثنى ولا بد من الجمع لبن الكلمتين ولا طرق للجمع سوى مابينا، وهو أنه باعتبار حقيقته في أصل الوضع عبارة عن عما وراء المستثنى، وهو نفي من الإثبات وإثبات من النفي باعتبار إشارته على معنى أن حكم الإثبات يتوقف به كما يتوقف بالغاية، فلإذا لم يبق بعده ظهر النفي لانعدام علة الإثبات فسمي نفيًا مجازًا. ثم قال: فإن قيل هذا فاسدًا؛ لأن قول القائل: لا عالم إلا زيد يفهم منه الإخبار بأن زيدًا عالم، وكذلك كلمة الشهادة تكون إقرارًا بالتوحيد حقيقة، كيف

يستقيم حمل ذلك على نوع من المجاز؟ قلنا: قول القائل لا عالم نفي لوصف العلم، وقوله: إلا زيد توقيت للوصف به ومقتضى التوقيت انعدام ذلك الوصف بعد الوقت، فمقتضى كلامه هنا نفي صفة العلم لغير زيد، ثم ثبت به العلم لزيد بإشارة كلامه لا بنص كلامه كما أن نفي النهار يتوقت إلى طلوع الفجر، فبوجوده يثبت ما هو ضده وهو صفة النهار ونفي السكون مؤقت بالحركة، فبعد انعدام الحركة يثبت السكون. يقرره أن الآدمي لا يخلو من أحد الوصفين، إما العلم وإما نفي العلم عنه، فلما توقت النفي فى صفة كلامه بزيد ثبت صفة العلم فيه لانعدام ضده، وفي كلمة الشهادة كذلك نقول: فإن كلامه نفي الألوهية عن غير الله ثم يثبت التوحيد بطريق الإشارة إليه. (وتفسيره ما ذكرنا) وهو قوله: إن الاستثناء استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا. وقوله: (مجازًا) بدل من قوله: «مبتدأ» يعني أن إطلاق اسم الاستثناء على المنقطع بطريق المجاز.

قال الله تعالى: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ) وقبله قال: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أي كل ما عبدتموه أنتم وعبده آباؤكم الأقدمون وهم الذين ماتوا في سالف الدهر، والأقدم تفضيل القديم وهم الأجداد وآباء الأجداد، فإني أعاديهم أي أجتنب عبادتهم وتعظيمهم إلا رب العالمين فأني أعبده وأعظمه لا أعبد غيره. وقال الضحاك (إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ): أي إني بريء من الآلهة التي

تعبدون كلها إلا رب العالمين فإني لا أتبرأ منه. وقيل: هو استثناء منقطع بمعنى لكن. وقيل: بل هو استثناء متصل، وقد كان في آبائهم من يعبد الله ويعبدون الأصنام على الشركة فتبرأ من كل مايعبدونه، واستثنى رب العالمين مما يعبدونه فصح الاستثناء. كذا في «التيسير». (وكذلك (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَاثِيمًا (25) إِلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا)). قال في «الكشاف»: أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغوًا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك، فهو من وادي قولهم: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب أو لا يسمعون فيها إلا قولًا يسلمون فيه من العيب والنقيصة على الاستثناء

المنقطع، أو لأن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلام هي دار السلامة وأهلها عن الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وقوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) استثناء منقطع، هذا جواب عما تمسك به الشافعي- رحمه الله- في أن الاستثناء يمنع الحكم بطريق المعارضة. قلنا: كلامنا معك في الاستثناء الحقيقي وهو المتصل من الاستثناء لا المنقطع منه وهذا منقطع؛ لأن التائبين غير داخلين في صدر الكلام، فلا يرد علينا نقضًا، ونحن نسلم أن صورة المعارضة ثابتة في الاستثناء المنقطع؛ لأن ذلك ليس من جنس الأول حتى يستقيم فيه التكلم بالباقي بعد الثنيا، فتعذر حمل اللفظ على حقيقة الاستثناء ولئن كان محمولًا على حقيقة الاستثناء فهو استثناء بعض الأحوال، أي فأولئك هم الفاسقون في جميع الأحوال إلا

أن يتوبوا، فيكون هذا الاستثناء توقيت الحال ما قبل التوبة، فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمت أنت. (وكذلك قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) إذا حمل صدر الكلام على الأحوال يكون حقيقة، فكأنه قال: فالنصف ثابت في جميع الأحوال إلا حال عفو المرأة التي هي صالحة للعفو وهي العاقلة البالغة فحينئذ النصف أيضًا غير ثابت فصح التكلم فيه بالباقي بعد الثنيا بالنظر إلى عموم الأحوال. (وكذلك قوله: "إلا سواء بسواء" استثناء حال بأن المساواة حال، والأصل أن يثبت المستثنى منه على وفق المستثنى إذا لم يكن المستثنى منه على وفق المستثنى في النفي، وعلى هذا مسائل إن كان في الدار إلا زيد كان المستثنى منه بني آدم إن كان في الدار إلا حمار المستثنى منه الحيوان على ما يجيء تمامه، فكذلك ها هنا المستثنى لما كان حالًا كان المستثنى منه أحوالًا؛ لأن استثناء الحال من العين لا يتصور، فكأنه قال: لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال من المساواة والمجازفة والمفاضلة إلا حالة المساواة، ولا نتحقق هذه الأحوال إلا في الكثير لما أن المساواة إنما تثبيت بالمسوي الشرعي

بالاتفاق، وهو الكيل المذكور في حديث آخر بقوله: "إلا كيلا بكيل"، فالمجازفة والمفاضلة مبنيتان على الكيل الشرعي، وهذا لأن مطلق الفصل ليس بمجرد الإجماع؛ لأن أجزاء الحنطة لابد أن تتفاوت بعضها مع بعض آخر وذلك غير معتبر، بل المعتبر ما كان زائدًا على الكيل، فالزائد على الكيل يقتضي وجود الكيل لا محالة، وتلك الأحوال التي ذكرنا لا تتحقق إلا فيما يدخل تحت الكيل. فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه لا يصح إلا بالإدراج وهو إدراج الأحوال، فالإدراج خلاف الأصل كما أن كون الاستثناء منقطعًا خلاف الأصل أيضًا، فكيف رجحتم جانب الإدراج على كون الاستثناء منقطعًا؟ قلنا: لا كذلك؛ لأن الإدراج أحد نوعي الكلام عند اقتضاء الدليل. ألا ترى أن أحدًا لم يقل فيما إذا كان المستثنى منقطعًا مع أنا أجمعنا مع الخصم على أن هذا الاستثناء الذي ذكر في الحديث متصل لا منقطع، وكفى به حجة لنا في أنه متصل، ولا يصح اتصاله إلا بما ذكرنا، فكان الإدراج ثابتًا ضرورة.

فعلم بهذا الحديث لم يتناول القليل الذي لا يدخل تحت الكيل أصلًا، فبطل استدلال الشافعي به على حرمة بيع القليل من الطعام. وقوله: (وذلك لا يصلح إلا في المقدر) وهو المقدر بالكيل بالاتفاق. (ونفيه لا يؤثر في الألف) حتى أنه لو قال: لكن لا ثوب له علي بالتصريح بهذا إنه لا يسقط به عنه شيئًا من الألف، فكذلك اللفظ الذي يدل عليه، لما أن المستثنى لم يتناوله صدر الكلام لا صورة ولا معنى. (وأما إذا استثنى المقدر من خلاف جنسه) بأن قال: لفلان على ألف درهم إلا كر حنطة، (فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف -رحمهما الله- هو صحيح، وقال محمد -رحمه الله- ليس بصحيح)، وهذا الخلاف أيضًا في كل مقدر مكيل أو موزون حتى قال في "المبسوط" ولو قال: له علي ألف درهم إلا دينارًا فالاستثناء جائز، ويطرح من الألف قيمة الدينار، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمهما الله- استحسانًا، وفي القياس لا يصح هذا الاستثناء، وهو قول محمد -رحمه الله- وكذلك لو قال: إلا فلسًا أو إلا كر حنطة أو استثنى شيئًا مما يكال أو يوزن أو يعد عددًا فهو على هذا الخلاف.

فأما إذا قال: إلا شاه أو ثوبًا أو عرضًا من العروض فالاستثناء باطل عندنا. (لأن المقدرات جنس واحد في المعنى) أي في حكم الثبوت في الذمة على معنى أن كل واحد من المكيل والموزون يثبت في الذمة ثبوتًا صحيحًا حيث يثبت بمقابلة ما هو مال وبمقابلة ما ليس بمال بخلاف الثوب والحيوان، فإنهما لا يثبتان في الذمة إلا بمقابلة ما ليس بمال كما قي النكاح والدية، وهكذا تثبت المقدرات في الذمة ثمنًا وتثبت حالًا ومؤجلًا، ويجوز الاستقراض فيها فكانت في حكم الثبوت في الذمة كجنس واحد معنى، والاستثناء: استخراج وتكلم بالباقي بعد الثنيا بطريق المعنى، فصح استثناء كل واحد من المكيل والموزون من الآخر لهذا. وقوله: (لأنهما تصلح ثمنًا) بأن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة وتصف ذلك على ما ذكرنا في "النهاية" فإن الحنطة في تلك الصورة تتعين ثمنًا حتى صح استبدالها بآخر.

(وقد قلنا: إن الاستثناء تكلم بالباقي معنى لا صورة) أي أنه تكلم بالألف صورة وهذا لا شبهة فيه، وإنما جعل تكلمًا بالباقي من حيث المعنى، فكان قوله: "لفلان علي ألف درهم إلا مائة" من حيث المعنى لفلان علي تسعمائة، فكانت تسمية الدراهم وهي الألف في قدر المائة تسمية صورة بلا معنى، فكذلك ها هنا إذا صح الاستخراج من طريق المعنى وهو القدر بقي المعنى وهو الشيء المقدر في قدر المستثنى وهو كذا من الحنطة. (تسمية الدراهم بلا معنى) كما قلنا في قولنا: ألف إلا مائة؛ لأن المقدر ها هنا في صدر الكلام مثل ألف درهم، وقوله في الاستثناء: إلا كر حنطة مثل قوله: إلا مائة فلا فرق بينهما في المعنى من حيث وجوبهما في الذمة. وأما الثوب فلا يكون مثل المكيل والموزون في الصورة ولا في المعنى وهو الثبوت في الذمة؛ فإنه لا يثبت في الذمة إلا مبيعًا أي في باب السلم، والألف إنما يثبت في الذمة ثمنًا فلا يمكن جعل كلامه استخراجًا باعتبار الصورة ولا باعتبار المعنى، فلذلك جعلناه استثناء منقطعًا. (وعلى هذا الأصل) وهو أن الوصل يشترط في بيان التغيير:

(إلا أنه تغيير للحقيقة) فإن مقتضى قوله: على ألف درهم، الإخبار بوجوب الألف في ذمته، وقوله: "وديعة" فيه بيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال، فإذا كان موصولًا كان بيانًا صحيحًا، وإذا كان مفصولًا كان نسخًا، فيكون بمنزلة الجوع عما أقر به. (لأن حقيقة هذه العبارات للتسليم وقد تحتمل العقد) كقوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ) أي ما عقدتم؛ لأنه سبب الإيتاء بطريق ذكر المسبب وإرادة السبب.

(وإذا قال: لفلان علي ألف من ثمن جارية باعينها) إلى آخره. قال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- لو قال: لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية باعينها إلا أني لم أقبضها فإن على قول أبي يوسف ومحمد -رحمهما الله- يصدق إذا كان موصولًا، وإذا كان مفصولًا يسأل المقر له عن الجهة، فإن قال: الألف لي عليه بجهة أخرى سوى البيع فالقول قوله والمال لازم على المقر. وإن قال بجهة البيع ولكنه قبضها فحينئذ القول قول المقر لم يقبضها؛ لأن هذا بيان تغيير، فإنه يتأخر به عن حق المقر له في المطالبة بالألف إلى أن يحضر الجارية ليسلمها بمنزله شرط الخيار أو الأجل في العقد يكون مغيرًا لمقتضى مطلق العقد ولا يكون ناسخًا لأصله فيصح هذا البيان منه موصولًا، وإذا كان مفصولًا فإن صدقة في الجهة فقد ثبتت الجهة بتصادقهما عليهما، ثم ليس في إقراره بالشراء ووجوب المال عليه بالعقد إقرار بالقبض، فكان المقر له

مدعيًا عليه ابتداء تسليم المبيع وهو منكر ليس براجع عما ذا كذبه في الجهة ثم ثبت الجهة التي ادعاها وقد صح تصديقه له في وجوب المال عليه، وبيانه الذي قال إنه من ثمن جارية لم يقبضان بيان تغيير فلا يصح مفصولًا. وأبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول: هذا رجوع عما أقر به؛ لأنه أقر بأول كلامه أن المال واجب له دينًا في ذمته، وثمن جارية لا يوقف على أثرها لا يكون واجبًا عليه إلا بعد القبض، فإن المبيعة قبل التسليم إذا صارت بحيث لا يوقف على عينها بحال بطل العقد، ولا يكون ثمنًا واجبًا يعني إذا هلكت قبل القبض أو كانت مجهولة. وقوله: "من ثمن جارية باعينها ولكني لم أقبضها" إشارة إلى هذا، فإن الجارية التي هي غير معينة لا يوقف على أثرها، وما من جارية يحضرها البائع إلا وللمشتري أن يقول: المبيعة غيرها، وقد أقر بأن الألف في ذمته واجب مقرر، وذلك صريح منه بأن الجارية مقبوضة، ثم قوله: "لكني لم أقبضها" يكون رجوعًا منه، فعرفنا أن آخر كلامه عما أقر به من وجوب المال ديناً

في ذمته، والرجوع لا يصح موصولًا ولا مفصولًا. (والثابت بالدلالة مثله إذا ثبت بالصريح) يعني الحكم الثابت بالدلالة مثل الحكم الثابت بالصريح عند عدم الصريح، ولو كان قال: قبضت المبيع لكني لم أقبض كان رجوعًا فكذا ها هنا، ولا يقال بأنه بقوله: لكني لم أقبضها، والدلالة إنما تعمل عمل الصريح إذا لم يكن الصريح مخالفًا لها. فأما إذا كان مخالفًا لها فلا عبرة لها بمقابلة الصريح؛ لأنا نقول: إن ذلك فيما إذا تعارضا. فأما إذا ثبت موجب الدلالة أولًا فلا، وهاهنا ثبت موجب الدلالة أولًا وهو قبض المبيع على ما ذكرنا، ثم قوله: "لم أقبضها" إنما وجد بعد ثبوت موجب الدلالة فلا يكون ذلك معارضًا بل يكون رجوعًا. وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي حنيفة -رضي الله عنه- يوضحه أنه أقر بالمال وادعى لنفسه أجلًا لا إلى غاية معلومة وهي إحضار المتاع، فإن تسليم الثمن لا يجب إلا بإحضار المعقود عليه ولا طريق للبائع إلى ذلك، لأن البائع ما من جارية يحضرها إلا وللمشتري أن يقول: الجارية المبيعة غير هذه، ولو ادعى أجل شهر أو نحو ذلك لم يصدق وصل أم فصل، فإذا ادعى أجلًا مؤيدًا أولى أن لا يصدق في ذلك.

(وعلى هذا الأصل إيداع الصبي -أي الصبي المحجور- الذي يعقل). وأما الصبي الذي لا يعقل فيجب أن يضمن بالاتفاق. هكذا ذكره المصنف -رحمه الله- في "الجامع الصغير". وذكر في أحكام الصغار بعد ذكر هذه الرواية؛ لأن التسليط غير معتبر وفعله معتبر. وذكر الإمام الإسبيجاني -رحمه الله- في "المبسوط" أن الاختلاف في الصبي الذي يعقل. أما الذي لا يعقل فلاضمان عليه بالإجماع. (قال: أبو يوسف -رحمه الله- هو من باب الاستثناء؛ لأن إثبات اليد نوعان: للاستحفاظ ولغيره)، فإذا قال: "أحفظ هذا" يكون هذا القول استثناء لغير الاستحفاظ عن إثبات اليد، إلا أن الاستحفاظ لم يتعد أثره إلى الصبي لعدم الولاية عليه فيصير المعدوم يعني غير الاستحفاظ خرج من إثبات اليد، والنوع الآخر من إثبات اليد بطريق الوديعة لم يثبت لما ذكرنا من عدم الولاية، فجعل كأن اليد لم يكن أصلًا، فصار كأن الصبي استهلك مال

الغير ابتداء فيضمن. وحاصلة أن التسليط والاستحفاظ كل واحد منهما لم يثبت من المودع في حق الصبي. أما التسليط فإنه تصرف من رب المال في حق نفسه مقصور عليه غير متناول للصبي، فانعدم التسليط لانعدام علته. وأما الاستحفاظ فانعدم أيضا لانعدام ولايته على الصبي، ويعد انعدام النوعين صار كأنه لم يوجد تمك ينه من المال أصلا، فبعد ذلك إذا استهلكه كان ضامنا كما لو كان المال في يد صاحبه على حاله فجاء الصبي واستهلكه، وهذا الخلاف فيما إذا كانت الوديعة غير العبد والأمة فإن كانت إياهما فقبلهما الصبي كان ضامنا بالاتفاق. وقوله: (فإذا نص على الإيداع كان مستثنى) أي كان التسليط مستثنى، (والاستثناء من المتكلم تصرف على نفسه فلا يبطل بعدم الولاية على الصبي) أي فلا يبطل استثناؤه (بلا لا يثبت إلا الاستحفاظ)، لأنه استثني غيره (وقال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-ليس هذا من باب الاستثناء؛

لأن التسليط فعل يوجد من المسلط) يعني أن قوله: "احفظ هذا" قول والتسليط فعل، وشرط صحة الاستثناء أن يكون صدر الكلام مجانسا للمستثنى، والمستثنى هاهنا غير الاستحفاظ والإستثماء قوله: "احفظ" فلا يصح. أو نقول: صدر الكلام فعل مطلق والمطلق فرد، والاستثناء يقتضي كون صدر الكلام متناولا للفردين فصاعدا، فلا يكون استثناء بهذين المعنين، لأن قوله "احفظ" كلام ليس مم جنس الفعل ليشتغل بتصحيحه بطريق الاستثناء، ولكنه معارض بمنزلة جليل الخصوص، أو بمنزلة ماقاله الخصم في الاستثناء، وإنما يكون معارضا إذا صح منه هذا القول شرعا، ولا خلاف أن قوله: "احفظ" غير صحيح في حكم الإستحفاظ شرعا فيبقى التسليط مطلقا، فالإستهلاك بعد تسليط من له الحق مطلقا لا يكون موجبا للضمان على الصبي ولا على البالغ. وذكر في "المبسوط" في تعليل قولهما فقال: لأنه صبي وقد سلطه رب الوديعة على ماله حين دفعه إليه، وفي تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام: أحدهما: أنه تسليط باعتبار العادة؛ لأن عادة الصبيان إتلاف المال لقلة

نظرهم في عواقب الأمور، فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالإذن له في الإتلاف، وبقوله: "احفظ" لا يخرج من أن يكون آذنا؛ لأنه إنما خاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدي الحمار وقال: لا تأكل، بخلاف العبد والأمة لأنه ليس من عادة الصبيان القتل؛ لأنهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون إيداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم. والأصح أن نقول: معنى التسليط تحويل يده في المال إليه، فإن المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه، فإذا حول يده إلى غيره صار ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا، إلا أن بقوله "احفظ" قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا على الحفظ دون غيره، وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبي؛ لأنه التزم بالعقد والصبي ليس من أهله، فيبقى التسليط على الإستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا بخلاف العبد والأمة، فإن اعتبار المالك باعتبار يده ماكان متمكنا من قتل الآدمي، فتحويل اليد إليه لايكون تسليطا على قتله. وقوله (والمستثنى من خلاف جنسه) يشير إلى الوجه الأول، فلما لم يصح استثناء بقى قوله: "احفظ هذا" معارضا للفعل الذي هو تسليط، فلا بد من تصحيحه ليصير معارضا ولم يصح، لأن استحفاظ الصبي لا يصح

فبطل المعارض، وهو قوله: "احفظ هذا" فبقى التسليط والتمكين من الصبي على المال، وذلك لايوجب الضمان على البالغ فعلى الصبي أولى. فكان (هذا مثل قول الشافعي في الاستثناء) الحقيقي، فإنه يقول هناك بالمعارضة، ونحن قلنا في هذه المسألة مثل ذلك؛ لأن الاستثناء لا يمكن، فاضطررنا إلى القول بالمعارضة، ولم تصح المعارضة أيضا على ما ذكرنا حتى لو قال ذلك للبالغ كان معارضة صحيحة، فصار مثل قول الشافعي في الاستثناء، فإن عمل الاستثناء عنده بطريق المعارضة. (وعلى هذا الأصل قال أصحابنا) أي على أصل أن بيان التغيير معتبر بشرط الوصل (في رجل قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه؛ إن البيع يقع على النصف بالألف) إلى آخره. قال في "المبسوط" إن العبد إذا كان لواحد فقال تلرجل: بعت منك إلا نصفه بألف درهم كان بائعا للنصف بألف درهم، لأن إلا للاستثناء. والكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى، فكأنه قال:

بعت منك نصفه بألف درهم. فأما قوله على أن لي نصفه، فليس باستثناء، بل هو عامل على سبيل المعارضة للأول، فكان الإيجاب الأول متناولا لجميعه، وبالمعارضة تتبين أنه جعا الإيجاب في نصفه للمخاطب وفي نصفه لنفسه وذلك صحيح منه إذا كان مفيدا. ألا ترى أن رب المال يشتري مال المضاربة من المضارب فيكون صحيحا وإن كان ذلك مملوكا له يكون مفيدا ليكون اليد لرب المال، فهاهنا أيضا ضم نفسه إلى المخاطب في شراء العبد مفيد في حق التقسيم، فلهذا كان نابعا نصفه من المخاطب بخمسمائة؛ لأن على قوله الإقرار يصير مملوكا للوكيل، وهذا لأن من أصله أن صحة الإقرار باعتبار قيام الوكيل مقام الموكل، وهذا حكم الوكالة فلا يصح استثناؤه كما لو وكل بالبيع على أن لا يقبض الوكيل

الثمن أو لا يسلم المبيع كان الاستثناء باطلا، كذا في "المبسوط". (فيصير ثابتا بالوكالة) أي الإقرار على الموكل يصير ثابتا بالوكالة (حكما لا مقصودا) فلا يصح استثناؤه، وهذا لأن المقصودية شرط لصحة الاستثناء، حتى أن الشيء إذا ثبت تبعا في العقد لا مقصودا لا يصح استثناؤه لهذا المعنى كأطراف الحيوان؛ فإنها تدخل عند ذكر الحيوان تبعا في البيع وغيره فلا يصح استثناؤه، وهذا هو المعنى فيما ذكره في "الهداية" الأصل أن مايجوز إيراد العقد عليه بانفراده يجوز استثناؤه من العقد. وكذلك لا يصح إبطاله بالمعارضة؛ لأنه لما ثبت جواز إقرار الوكيل على الموكل بطريق الحكم لصحة الوكالة، فما دامت الوكالة قائمة كان حكمها وهو جواز إقراره على موكله قائما أيضا، فلا يبطل حكم الوكالة إلا ببطلان الوكالة، وجعل في "المبسوط" مذهب محمد -رحمه الله- ظاهر الرواية فقال: فأما في ظاهر الرواية فالاستثناء صحيح؛ لأن صحة إقرار الوكيل باعتبار ترك حقيقة اللفظ إلى نوع من المجاز، فهو بهذا الاستثناء يبين أن مراده حقيقة الخصومة لا الجواب الذي هو مجاز بمنزلة بيع أحد الشريكين نصف العبد شائعا من النصيبين أنه لا ينصرف إلى نصيبه خاصة عند التنصيص عليه

بخلاف ما إذا أطلق. والثاني: أن صحة إنكاره وإقراره عند الإطلاق لعموم المجاز؛ لأن ذلك كله جواب، فإذا استثنى الإقرار كان هذا استثناء لبعض مايتناوله مطلق الكلام، أو هو بيان مغير لمقتضى مطلق الكلام فيكون صحيحا. كمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان فدخلها ماشيا أو راكبا لم يحنث لما قلنا، وعلى هذا الطريق إنما يصح استثناؤه الإقرار موصولا لا مفصولا عن الوكالة، وعلى الطريق الأول يصح استثناؤه موصولا ومفصولا. قالوا: وكذلك لو استثنى الإنكار على - صح ذلك عند محمد - رحمه الله، خلافا لأبي يوسف، وهذا لأن إنكار الوكيل قد يضر الموكل بأن كان المدعي وديعة أو بضاعة فأنكر الوكيل لم يسمع منه دعوى الرد والهلاك بعد صحة الإنكار ويسمع ذلك منه قبل الإنكار، فإن كان إنكاره قد يضر الموكل صح استثناؤه الإنكار كما يصح استثناؤه الإقرار. وقوله: (وللخصم أن لا يقبل هذا الوكيل)، لأنه لو صح إقراره ربما أقر الوكيل بحق المدعي فيصل المدعي إلى حقه عند ظهور حقه بإقرار الوكيل فيفيد الخصومة بمثل هذا الوكيل، وإلا لا فائدة من خصومته؛ (لأن الخصومة تناولت الإقرار عملا بمجازها) وهو الجواب وهو عام.

وحاصله أن التوكيل بالخصومة توكيل بجواب الخصم، والجواب تارة يكون بلا وتارة يكون بنعم، فالأمر بالتوكيل بالخصومة يتناولهما، فصح استثناء جواز الإقرار عند محمد -رحمه الله-. لأن الجواب يتناول الأمرين والاستثناء تكلم بالباقي فصح، فعلى هذا لا يصح منفصلا. (وانقلب المجاز هاهنا بدلالة الديانة حقيقة) يعني أن الخصومة مهجورة شرعا لقوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا) والمهجور شرعا كالمهجور عادة، فصارت إرادة المجاز وهو جواب الخصم بمنزلة الحقيقة، ولأن استثناء جواز الإقرار عمل بحقيقة اللغة؛ لأن الإقرار مسالمة والخصومة ضدها، فكان قوله: على أن لا يقر عليه أو غير جائز الاقرار، تقريرا لموجب كلامه لا استثناءه؛ لأن موجب كلامه وهو التوكيل بالخصومة أن لا يجوز إقراره على موكله لغة لتبقى الخصومة على حقيقتها، فعلى هذا التقرير يصبح قوله: " غير جائز الاقرار" لا وعلى أن يقر عليه موصولا ومفصولا كما هو حكم بيان التقرير. واختلف في استثناء الانكار؛ والأصح أنه على هذا الاختلاف على

الطريق الأول لمحمد -رحمه الله- بيانه بأن الموكلَ يقول: وكلتك بالخصومة على أن لا ينكرَ الخصم أو غيرُ جائز الإنكار، فعلى الطريق الأول صح الاستثناءُ؛ لأنه صار عبارةً عن جواب الخصم، والجوابُ عامُ في الإنكار والإقرار، فصح استثناء الإنكار كما يصح استثناء الإقرار، والله أعلم.

باب بيان الضرورة

باب بيان الضرورة أي البيان يقع لأجل الضرورة، والضرورةُ أنواعُ (نوع منه ما يثبت ضرورة الدفع) أي ضرورة دفع الغرور، (ومنه ما يثبت ضرورة الكلام) أي يكون بيانًا بدلالة الكلام. (إن بيان نصيب المضارب والسكوت عن نصيب ربِّ المال صحيحُ) أي قياسًا واستحسانًا (للاستغناء عن البيان)؛ لأن ربَّ المال لا يستحقُ الربحَ باعتبار الشرط بل باعتبار أنه فرعُ مال مملوكٍ له، فكان مالكًا لفرعه، (صحيح استحسانًا على إنه بيانُ بالشركةً) يعني أن مقتضى المضاربة

الشركة بينهما في الربح، فببيان نصيب أحدهما يصيرُ نصيب الآخَر معلومًا، ويجعل ذلك كالمنطوق به، فكأنه قال: ولك ما بقي. (عند أمر يُعاينهُ) عن النكير وفي نسخة (عن التغيير)، وهو معنى الأول (يدل على الحقية) باعتباره حاله، فإن البيانَ واجب عند الحاجة إلى

البيان، فلو كان الحكمُ بخلافه لبين ذلك لا محالةَ، ولو بينه لظهرَ (وما أشبهه) مثلما سكتوا عن بيان الحيض بعد العشرة، والأوفق هاهنا أن يقال: أراد بقوله: (وما أشبهه) منافع الجارية المستحقة والأكسابُ الحاصلة منها، ثم استهلكت الأكسابُ، فإنهم لما سكتوا عنها دل أنها غيرُ مضمونةٍ على المغرور. (والنكول جعل بيانًا لحالة في الناكل وهو امتناعه عن أداء ما لزمه) إلى آخره. أى النكولُ جُعل بيانًا لوجوب المال على الناكل بدلالة في الناكل؛ لأنه لما امتنع عن مباشرة ما لزمه وهو اليمين مع قدرته على اليمين كان ذلك دليلًا على أنه إنما امتنع عن اليمين احترازًا عن اليمين المهلكة، وذلك إنما يكون إذا كان هو في إنكاره كاذبًا وكان المالُ عليه واجبًا. (وهو لزوم الإقرار لو كان منه)، وهذا لأنه نفي نسبَ ولدٍ ليس منه

واجبٌ، ودعوةُ نسبِ ولد هو منه ليتأكد به على وجه لا ينتفي واجبٌ أيضًا، فالسكوت عن البيان بعد تحققُ الوجوب دليلُ النفي، فيُجعل ذلك كالتصريح بالنفي، وعن هذا خرج الجوابُ عن إشكَالٍ يقال فيه: إنه لما ادعى أكبرهم كان ينبغي أن يثبتَ نسب الباقين منه؛ لأنه لما ثبت نسب الأكبر كانت الجاريةُ أم ولدٍ له، ونسبً ولدِ أم ?الولد يثبت بالسكوت. قلنا: أن يثبتَ نسبُ ولدِ أم? الولد بالسكوت عند عدم دليل النفي وهاهنا وُجد دليلُ النفي وهو سكوته عن البيان عند وجوب البيان عليه، وهذا لأنه لو لم يُجعل ذلك السكوتُ دليلَ النفى يلزم فيه أمرٌ لا يليق بحال المسلم. أو نقول: إن أمومية َ الولد هاهنا إنما تثبت بالاستناد، وما ثبت بالاستناد كان ثابتًا من وجه دون وجه، فيثبت عند البيان من حيث إنه ثابت، ولا يثبت عند عدم البيان من حيث إنه غير ثابت، ولا يقال: إن النسبَ مما يحتاطُ في إثباته؛ لأنا نقول: إنما يثبت النسبُ بالاحتياط إذا لم يوجد فيه دليلُ النفي. (فيجعل إذنًا دفعًا للغرور عن الناس)، فإن في هذا الغرر أضرارًا بهم، والضررُ مدفوعٌ، ولهذا لم يصح الحَجر الخاص بعد الإذن العام المنتشر؛ لأن

الناسَ لا يتمكنون من استطلاع رأي الولي في كل معاملة يعاملونه مع العبد. (وكذلك سكوتُ الشفيع جُعل إذنًا ردًا لهذا المعنى) أي سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع يجعل بمنزلة إسقاط الشفعة لضرورة دفع الغرور عن المشتري فإنه يحتاج إلى التصرف في المشترى، فإذا لم يُجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطًا للشفعة فإما أن يمتنعَ المشتري من التصرف أو ينقض الشفيعُ عليه تصرفه، فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة، وإن كان السكوتُ في أصله غيرَ موضوع للبيان بل هو ضده.

(فلأن حذف المعطوف عليه في العدد متعارفٌ) أي حذفُ تفسير المعطوف عليه وتمييزه متعارفٌ وهو درهمٌ في قوله: لفلان علي مائةٌ ودرهمٌ أي "أي مائةُ درهمٍ ودرهمٍ". (يقول: بعت منك هذا بمائة وعشرة دراهمَ، وبمائة ودرهمِ على السواء) أي بعطفُ العدد على العدد وعطف العدد على المعدود على السواء، وقوله: (وليس كذلك حكم ما هو غير مقدَّر؛ لأنه لايثبتُ دينًا في الذمة) هو احترازاٌ عن الثوب والشاةِ. أما الثوبُ فلا يثبتُ في الذمة دينًا إلا مبيعًا مسلمًا فيه، والشاةُ لاتثبت دينًا في الذمة أصلًا يُعنى به ثبوتًا لازمًا، فلم يصح قوله: "وثوبٌ" أن يكون

تفسيرًا للمائة؛ لأن قوله: (على مائة) عبارة عما يثبت في الذمة مطلقًا ثبوتًا صحيحًا فلهذا كان البيان إليه. كذا في "المبسوط". (فلأن المعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء واحد) أي من حيث الصورة والمعنى. أما من حيث الصورة فاتحادهما في الإعراب. وأما من حيث المعنى فاتحادهما في الحكم (كالمضاف مع المضاف إليه) أي أنهما كشيء واحد، (والمضاف إليه للتعريف) أي المضاف إليه وهو آخر الكلام صالح لتعريف المضاف الذي هو أول الكلام، وجب أن يكون المعطوف لتأكد الشبه بينهما. ولما صلح المعطوف معرفًا للمعطوف عليه بهذا الطريق صح حذف مميز المعطوف عليه، ومعرفه وهو درهم في قوله: "الفلان على مائة ودرهم" أي مائة درهم ودرهم، وهو معنى قوله: (صح الحذف في المضاف إليه) أي

المعطوف عليه بدلالة قوله: "بدلالة العطف" ولكن هذا العطف إنما يصح في المعطوف عليه إذا كان المعطوف عليه مما يجوز أن يثبت في الذمة عند مباشرة السبب كالمكيل والموزون. وأما فيما لا يثبت في الذمة فلا يصح المعطوف معرفًا للمعطوف عليه، وهذا لأن المعاملات إنما تكثر في المقدرات التي يجب ثبوتها في الذمة وكثرة الاستعمال موجبة للتخفيف، وحذف المميز إنما كان للتخفيف، فلذلك اختص الحذف بما يثبت في الذمة. (لأن العشرين مع الآحاد معدود مجهول فصح التعريف بالدرهم) أي لأنه عطف العدد المبهم على ما هو واحد مذكور على وجه الإبهام، وقوله: "درهمًا" مذكور على وجه التفسير والتمييز، فيكون تفسيرًا لهما، والاختلاف في قوله: له على مائة ودرهمًا كالاختلاف في قوله: ودرهم. قوله: (وكل جملة تحتمل القسمة فإنها تحتمل الاتحاد) هذا ما تتمة قول أبي يوسف -رحمه الله- أي كل إقرار يشتمل على مال وذلك المال جنس

واحد بحيث لا يحتاج في قسمته بين الشركاء إلى القسمة مرتين أو أكثر بل مرة واحدة، ففي مثل ذلك المال في الإقرار جعل المعطوف بينانًا للمعطوف عليه كما في الدرهم والثوب وإلا فلا. وقيل: معناه كما أن القسمة تتحقق في الدرهم تتحقق في الثوب فإن كل واحد منهما يصلح للقسمة، فيكون قوله: مائة وثوب بمنزلة قوله: مائة ودرهم. وأما العبد الواحد فإنه لا يحتمل القسمة بالاتفاق، والخلاف في قسمة العبيد، وقسمة العبيد أيضًا لا تجوز بطريق الخبر، وقولهما في العبيد: "إنه يحتمل القسمة" مؤول إذا كان رأيهما ذلك فيقسم القاضي بناء عليه. كذا ذكره الصدر الشهيد في "الجامع الغير". وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي يوسف فقال: وجه رواية أبي يوسف أن الثياب والغنم تقسم قسمة واحدة أي يعطى لكل واحد من الشركاء جزءًا منها في القسمة الواحدة بخلاف العبيد فإنها لا تقسم قسمة واحدة، بل تحدد القسمة في كل واحد من العبيد بين الشركاء ولا يعطي لكل واحد من الشركاء عبد واحد وإن كان عدد العبيد على عدد رؤوس الشركاء، وأنصباؤهم متساوية لما كان العبيد باعتبار فحش التفاوت بينهم ألحقوا بالأجناس المختلفة، ولما كان كذلك كان ما يقسم قسمة واحدة يتحقق في

أعدادها المجانسة فيمكن أن يجعل المفسر منه تفسيرًا للمبهم، وحصل من هذا الثوب الواحد لما كان يحتمل القسمة صار بمنزلة درهم من حيث إنه يحتمل القسمة الواحدة، والمعطوف مع المعطوف عليه بمنزلة شيء واحد من حيث عنه لا يستفاد بالمعطوف حكم بدون المعطوف عليه لكون المعطوف جملة ناقصة، والله أعلم. ***

باب بيان التبديل

باب بيان التبديل (حتى صارت تشبه الإبطال من حيث كان وجودًا يخلف الزوال)؛ لأن الناسخ يخلف المنسوخ والمنسوخ يزول، والإبطال مثله؛ لأنه بوجود المبطل يزول الباطل. (لمدة الحكم المطلق الذي كان معلومًا عند الله تعالى) على ما اقتضته الحكمة البالغة. ونظيره الطبيب إذا أمر المريض بأكل شيء، ثم بعد أيام أمره بأكل شيء

آخر، ونهاه عما أمره قبله على حسب ما اقتضاه علمه، يعد ذلك حكمة وأمرًا معقولًا لا تناقضًا ولا بداء. فكذلك النسخ في أحكام المحكوم؛ لأن حكم الله تعالى ثابت أولا وأبدًا لا يتغير هو؛ بل المتغير هو المحكوم فبعد ذلك تغير المحكوم لا يدل على تغير الحكم كتغير المعلوم لا يدل على تغير العلم. (لكنه لا يتصور هذا القول من مسلم مع صحة عقد الإسلام) فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع؛ فكيف يتحقق هذا القول منه مع اعتقاده لهذه الشريعة مع أنه لا يمكنه الخروج عما ثبت في

القرآن من جواز النسخ نحو قول الله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ)، وقوله: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ). ونسخ ببيت المقدس بالكعبة في باب القبلة، ونسخ حد الزنا بالإيذاء والحبس بالجلد. (تمسكوا بالسبت) أي تمسكوا بعبادتكم المخصوصة أي بشريعة موسى عليه السلام، فالسبت مصدر، سبت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد.

ومعنى قوله تعالى: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) إذ يتجاوزون حد الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه، وكانت أعمال الدنيا حرامًا عليهم يوم السبت، بل كانوا يشتغلون في ذلك اليوم على الخصوص بعبادة الله تعالى، وهو كان شريعة موسى عليه السلام. (بلغهم بما هو طريق العلم) وهو التواتر. (للإيجاب لا للبقاء) وذلك لا يكون إلا بذكر التأبيد صريحًا، حتى أنه

لو كان البقاء لا يجوز النسخ كما لا يجوز في حال الإيجاب بالإجماع (بل البقاء باستصحاب الحال). فإن قيل: لو كان البقاء باستصحاب الحال فينبغي أن يجوز النسخ بخبر الواحد؟ لأن خبر الواحد أقوى من استصحاب الحال؟ قلنا: الكلام في جواز النسخ حال حياة النبي عليه السلام ولا يتصور وقت حياته الخبر الواحد؛ لأنه يمكن أن يسأل منه ويسمع من فيه فصار قطيعًا حينئذ فيجوز النسخ به. وأما بعد وفاته فلا يجوز النسخ بخبر الواحد؛ لأنه انسد باب النسخ بوفاته، فكان بقاء النص على ما كان بدليل موجب للبقاء لا باستصحاب الحال (على احتمال العدم بدليله)؛ أي بدليل العدم وهو المزبل؛ (لأن الأمر لم يتناول البقاء لغة)؛ لأنه لطلب الفعل فقط وموجبه الائتمار لا غير. ألا ترى أن الأمر بالشيء لا يقتضي التكرار فلم يكن الأمر متناولًا للبقاء لا بصيغته ولا بحكمه فلذلك لم يكن الناسخ متعرضًا لحكم المنسوخ إلا من حيث الظاهر لما أم دليل النسخ إنما يرد بعد ما يقرر حكم الدليل الأول، وهو معنى قوله: (فلم يكن دليل النسخ متعرضًا لحكم الدليل الأول بوجه إلا ظاهرًا) أي لا يتحقق في النسخ توهم التعرض للأمر ولا لحكمه كالإماتة بعد

الإحياء، فإنه بيان المدة من غير أن يكون فيه تعرض لأصل الإحياء ولا لما يبتني عليه من مدة البقاء إلا ظاهرًا لا حقيقة؛ لأن في اعتبار ما هو ظاهر لنا تبديل صفة الحياة بصفة الوفاة، وهذا لأن إحياء الشريعة بالأمر به كإحياء الشخص، وذلك لا يوجب بقاءه، وإنما يوجب وجوده. ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء الله تعالى إياه أو بانعدام سبب الفناء، فكما أن الأمانة بعد الإحياء لا يكون فيه شيء من معنى القبح ولا يكون هو دليل البداء فكذلك النسخ في حكم الشرع (بل كان بيانًا للمدة التي هي غيب عنا وهو الحكمة البالغة)؛ لأن ورود الأوامر والنواهي لمنفعة المخاطبين؛ إذ الله تعالى يتعالى عن أن تلحقه منفعة أو مضرة، فجاز أن تكون المنفعة لهم في مدة حكم مخصوص، وجاز أن تكون المنفعة لهم في مدة أخرى في ضد ذلك الحكم لتبدل مصالح العباد، وفي هذا حكمة بالغة لإبداء وظهور غلط. ألا ترى أن الطبيب إذا أمر مريضًا بشرب دواء معين وأكل غذاء معين، ثم نهاه عن ذلك بعد زمان لا يكون ذلك بداء منه؛ بل يختلف ذلك بسبب اختلاف أحوال المريض ومزاجه وتبدل مصلحته في ذلك. وقوله: (بإبقاء هو غير الإيجاد) هذا توسع في العبارة بسبب اختلاف أثرهما لما أن صفة الله تعالى ليست عين صفة أخرى ولا غيرها كالصفات مع

ذاته. كذا ذكر في "التبصير" فقال: لا يقال لكل صفة منها إنها الذات ولا يقال غير الذات وكذلك كل صفة مع ما وراءها كالعلم لا يقال له إنه غير القدرة ولا إنه عينها، ولكن يجوز إثبات التغاير بين الإيجاد والإبقاء باعتبار تغاير أثرهما حقيقة، فيجوز أن يسمى الفعل الواحد باسمين مختلفين، أو أكثر بسبب اختلاف أثره كالرمي الموجود من رجل إذا وجدت منه القتل والكسر والجرح يسمى ذلك الرمي الواحد رميًا وقتلًا وكسرًا وجرحًا باعتبار وجود هذه الآثار منه وهو واحد، فكذا هنا يجوز أن يقال: الإيجاد والإبقاء متغايران وإن لم

يكونا متغايرين حقيقة باعتبار تغاير أثرهما، وأثرهما وهو الوجود والبقاء متغايران، ولهذا جاز أن يقال: وجد ولم يبق، ولا يجوز أن يقال: وجد ولم يوجد. (هذا حكم بقاء المشروع في حياة النبي عليه الصلاة والسلام) أي بقاء الحكم المشروع إنما يكون باستصحاب الحال، وهو إنما يكون على احتمال العدم، (صار البقاء من بعد ثابتًا بدليل يوجبه) أي يوجب البقاء، وذلك الدليل قوله تعالى: (لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ)، وقوله عليه السلام: "الحلال ما جرى على لساني إلى يوم القيامة، والحرام ما جرى على لساني إلى يوم القيامة". وقد حققنا تمام هذا في "كشف العوار لأهل البوار". (لأنه ثبت عندنا تحريف كتابهم فلم يبق حجة) ألا ترى أنه لا يجوز أن

يقول: آمنا بالتوراة التي في أيديهم، لأن في ذلك لزوم الإيمان بتحريفهم وهو لا يصلح، بل يجب علينا أن نقول: آمنا بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام. وأما من تمسك من اليهود على عدم جواز النسخ لما بلغهم في نقلهم عن موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض، أي تمسكوا بحرمة الأعمال الدنيوية في يوم السبت فهو حجة عليهم؛ لأن العمل في السبت كان مباحًا قبل زمن موسى عليه السلام، فإنهم يوافقونا على أن حرمة العمل في السبت من شريعة موسى عليه السلام، وإنما يكون من شريعته إذا كان ثبوته بنزول الوحي عليه. فأما إذا كان ذلك قبل شريعته على هذا الوجه أيضًا فلا فائدة في تخصيصه أنه شريعته، فإذا جاز ثبوت الحرمة بعد ما كان مباحًا جاز ثبوت الحل في شريعة نبي آخر قامت الدلالة على صحة نبوته، وليس النسخ إلا تحريم المباح أو إباحة المحرم، والله أعلم.

باب محل النسخ

باب محل النسخ (أما الأول فبيانه أن الصانع بأسمائه) إلى آخره إشارة إلى عكس قوله: "أحدهما: أن يكون في نفسه محتملا للوجود والعدم" يعني إذا لم يكن هو محتملا في نفسه للوجود والعدم؛ بل هو واجب الوجود لذاته كذات الله تعالى وصفاته لا يكون هو محلا للنسخ، وقوله: "بأسمائه وصفاته" أراد بالأسماء نحو قوله: الله الرحمن الرحيم الحي القادر العالم، وبالصفات الرحمة والحياة والقدرة والعلم، وهذا على اصطلاح أهل الفقه والكلام. وأما على اصطلاح أهل النحو فالصفات هي ما يمكن أن يوصف به نحو الحي والعالم والقار حيث يقال: الله الحي والعالم والقادر. وأما الحياة والعلم والقدرة فأسماء المعاني لا الصفات.

وكذلك قوله: (وأما الذي ينافي النسخ من الأحكام) إشارة إلى عكس قوله: "والثاني أن لا يكون ملحقا به ما ينافي المدة والوقت" يعني أن المشروع الذي لم يلحق به ما ينافي المدة والوقت لما كان محلا للنسخ كان عكسه الذي هو مشروع لحق به ما ينافي المدة والوقت غير محل للنسخ. (وقوله تعالى: ((وجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) من قبيل التأبيد الصريح في الاستعمال، وبه صرح الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله- كما في قوله تعالى: (وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ). (والقسم الثاني) وهو التأبيد الذي ثبت دلالة.

(والثالث- واضح) وهو التوقيت، ولم يورد لذلك نظيرا؛ لأنه لم يرد نظيره في المسموعات. وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- فبيان ذلك في قول القائل: أذنت لك في أن تفعل كذا إلى مائة سنة، فإن النهي قبل مضي تلك المدة يكون من باب البداء، ويتبين به أن الإذن الأول كان غلطا منه لجهله بعاقبة الأمر، والنسخ الذي يكون مؤديا؟ إلى هذا لا يجوز القول به في أحكام الشرع ولم يرد شرع بهذه الصفة. وقوله تعالى: (وجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) فإن قيل: جعل هذا من قبيل التأبيد صريحا وليس هذا كذلك، بل هذا هو توقيت إلى يوم القيامة. قلنا: قد يذكر التأبيد ويراد به التأبيد في الدنيا كما في قوله تعالى: (فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) ولَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا)

(فصار الذي لا يحتمل النسخ أربعة أقسام): الأول: الإيمان بالصانع وصفاته بأنه واحد قديم، ثم هذه الثلاثة. (فينعدم الحكم لانعدام سببه) أي ينعدم بقاء الحكم لانعدام المبقي (لا بالناسخ بعينه)؛ لأنا لو قلنا إن إنعدام المنسوخ بالناسخ بعينه لكان فيه تصور بقاء المنسوخ بعد ورود الناسخ وليس كذلك؛ لأن فيه جميعا بين الضدين كما في الحركة مع السكون، فإن ثبوت الحركة زمان زوال السكون لا قبله ولا بعده؛ لأنه يلزم حينئذ اجتماع الضدين أو خلو المحل عنهما، فكذلك هاهنا لم يكن انعدام المنسوخ بالناسخ، بل العدم لانعدام سببه كالحياة تنعدم بانعدام سببها لا بالموت، وكذلك خروج شهر ودخول شهر آخر، فإن الأول ينتهي به لا أن الناسخ نسخ الأول. (فصار الذبح بعينه حسنا بالأمر وقبيحا بالنسخ)، وهذا لأن الأمر يذبح الولد وقت نسخ ذبح الولد كان باقيا بدليل أن الله تعالى سمى ذبح الشاة

فداء، ولو لم يكن الأمر بذبح الولد باقيا لما سماه فداء، وكان هذا في الحقيقة كالفدية في حق الشيخ الفاني، فإن أمر الصوم متناول له، فلذلك وجب عليه الفداء بدلا عن موجب الأمر الذي هو متقرر في حقه، فلما كان هكذا كان الأمر بذبح الولد ونسخه في وقت واحد وهو لا يجوز، وإلى هذا التقرير أشار الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- بقوله: فإن قيل: أليس أن الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده فكان الأمر دليلا على حسن ذبحه ثم انتسخ ذلك فكان منهيا عن ذبحه مع قيام الأمر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه، ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به يثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه، وقد قلتم باجتماعهما في وقت واحد. قلنا: لا كذلك فإنا لا نقول بأنه انتسخ الحكم الذي كان ثابتا بالأمر، وكيف يقال به وقد سماه الله محققا رؤياه بقوله: () وبعد النسخ لا يكون هو محققا ما أمر به إلى آخره. (والنسخ هو انتهاء الحكم ولم يكن) أي ولم يكن انتهاء الحكم (إلا أن المحل الذي أضيف إليه لم يحله الحكم) أي أن المحل وهو إسماعيل عليه السلام أضيف إلى الذبح لم يحله الحكم وهو الذبح، أي ل ينفعل في إسماعيل عليه السلام صورة الذبح لا للنسخ بل لوجود الفداء، ولذلك سمى

تلك الشاة فداء. فصار كمن يرمي سهما إلى غيرها فيفديه آخر بنفسه بأن يتقدم عليه حتى ينفذ فيه بعد أن يكون خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده، وإذا كان فداء من هذا الوجه كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالأمر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه، لأن ذلك يتبنى على النهي الذي هو ضد الأمر فلا يتصور اجتماعهما في وقت واحد. هكذا قرره شمس الأئمة -رحمه الله-. أو نقول: إن الحكم وهو الذبح كان مضافا إلى الولد ثم انتقل إلى الفداء لا باعتبار النسخ بل باعتبار قيام الفداء مقام الولد، فمثل هذا لا يسمى نسخا كالطهارة بالماء تنتقل إلى التراب، والصوم ينتقل إلى الفدية وهذا يدل على التقرير لا على النسخ، والدليل على هذا تسميته فداء. (فكان ذلك ابتلاء استقر حكم الأمر عند المخاطب) إلى آخره جواب سؤال، ذكر ذلك السؤال والجواب الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- بقوله:

فإن قيل: فأيش الحكمة في إضافة الإيجاب إلى الولد إذا لم يجب به ذبح الولد؟ قلنا: فيه تحقيق معنى الابتلاء في حق الخليل حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده، وفي حق الولد بالصبر والمجاهدة على معرة الذبح في حال المكاشفة، وفيه إظهار معنى الكرامة، وإليه أشار الله تعالى في قوله: (فَلَمَّا أَسْلَمَا) ثم استقر حكم الوجوب في الشاة بطريق الفداء للولد كما قال الله تعالى: (وفَدَيْنَاهُ) والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للأصل، فبه يتبين انعدام النسخ هنا لانعدام ركنه، فإنه بيان مدة بقاء الواجب، وحين وجبت الشاة فداء كان الواجب قائما والولد حرام الذبح، فعرفنا أنه لا وجه للقول بأنه كان نسخا وهو معنى قوله: فثبت أن النسخ لم يكن لعدم ركنه وهو انتهاء

الحكم، يعني بعد ورود الناسخ لا يبقى الحكم السابق أصلا، وهاهنا قد تقرر الحكم السابق وهو ذبح الولد إلا أن الله تعالى أكرمه بالفداء، وذكر الفداء يدل على ما ذكرنا من بقاء الحكم الأول فلا يكون نسخا، والله أعلم.0

باب بيان الشرط

باب بيان الشرط (وهو التمكن من عقد القلب) أي من اعنقاده، وإنما كان مقدار ما تمكن من عقد القلب شرطا؛ لأن النسخ قبله يكون بداء؛ لأنه لا يتحقق به الابتلاء. (فأما التمكن من الفعل فليس بشرط عندنا). (وقالت المعتزلة: إنه شرط) بناء على أن المقصود من الأمر فعل المأمور

به عندهم؛ لأن كل ما أمر الله تعالى به فقد أراده، فيكون الفعل هو الأصل فيه عندهم فيشترط التمكن منه. (لأن العمل بالبدن هو المقصود بكل نهي وبكل أمر نصا)؛ لأن قوله: صل معناه: افعل فعل الصلاة، فالمصدر مذكور لغة فكان ثابتا نصا. ولا يقال بأنهم ينكرون المعراج فكيف يصح احتجاجنا عليهم بحديث المعراج، لأنا نقول: ينكرون الصعود إلى السماء ولا ينكرون ثبوت المعراج الذي هو الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى لما أن ذلك ثابت بالكتاب، وإنكار ذلك مفر صريح -عصمنا الله عنه-

(ولأن النسخ صحيح بالإجماع) إلى آخره يعني أجمعنا واتفقنا على أن وجود جزء من الفعلا أو وجود مدة يتمكن المكلف من الإتيان بجزء من الفعل كاف لجواز النسخ، فيجب أن يكون عند وجود عقد القلب كذلك لما أن عقد القلب مع الفعل بمنزلة فعل ذي جزئين؛ لأنه لا وجود للكل بدون الجزء، فكذلك لا اعتبار للفعل بدون عقد القلب، فلما كفى وجود جزء من الفعل لصحة النسخ وجب أن يكفي وجود عقد القلب أيضا لذلك، فكان كل دليل ذكرتموه في وجود جزء من الفعل لجواز النسخ فهو دليلنا في وجود عقد القلب لجواز النسخ. (ولأن الفعلا لا يصير قربة إلا بعزيمة القلب) لقوله تعالى: (ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، ولقوله عليه السلام: "الأعمال

بالنيات"، وعزيمة القلب قد تصير قربة بلا فعل كوجود التصديق في حق من لا يتمكن من الإقرار باللسان، فإن ذلك منه إيمان صحيح بالإجماع، (والفعل في احتمال السقوط فوق العزيمة) أي الفعل أسرع سقوطا من المكلف بالنسبة إلى العزيمة التي هي عبارة عن عقد القلب. ألا ترى أن الإقرار باللسان قد يحتمل السقوط بعذر، فأما التصديق بالقلب فلا يحتمل السقوط بحال، ولأن ترك العزيمة وهو تبديل الاعتقاد كفر، وترك العمل فسق. ألا ترى أن العمل بالبدن قد يسقط بالمرض والإغماء وغير ذلك. وأما القول وهو الاعتقاد فلا يسقط، فكانت العزيمة أثبتت قدما وأقوى ثبوتا؛ لأنها مطلوبة بكل حال، والآخر وهو العمل تردد بين السقوط وغيره، ولأن العزيمة تصلح أصلا للعمل لا على العكس؛ إذ لا اعتبار للعمل بدون العزيمة، وللعزيمة اعتبار بدون العمل في موضع الضرورة بالاتفاق، فكان اعتبار العزيمة في التمكن أولى من التمكن من الفعل، ويجعل الآخر من الزوائد. يوضحه أن الواحد منا قد يأمر عبده ومقصوده من ذلك أن يظهر عند الناس حسن طاعته وانقياده له، ثم ينهاه عن ذلك بعد حصول هذا المقصود قبل أن يتمكن من مباشرة الفعلا، ولا يجعل ذلك دليل البداء منه وإن كان هو

ممن يجوز عليه البداء، فلأن لا يجعل النسخ قبل التمكن من الفعل بعد عزم القلب واعتقاد الحقية موهما للبداء في حق من لا يجوز عليه البداء أولى. (ألا ترى أن عين الحسن لا يثبت بالتمكن من الفعل) هذا جواب عن قولهم: إن الأمر يقتضي حسن المأمور به، والمأمور به هو المقصود. قلنا: عين الحسن لا يثبت بالتمكن من الفعل بدون الفعل، ويلزم من هذا أن لا يجوز النسخ ما لم يوجد الفعل وإن وجد التمكن من الفعل. فعلم بهذا أن عين الحسن يحصل أيضًا قبل الفعل بعد التمكن بالإجماع، فدل ذلك على أن المقصود منه عقد القلب على حسنه وقبحه لا فعله. (وقول القائل: افعلوا على سبيل الطاعة أمر) وقيد بالطاعة احترازًا عن صيغة الأمر التي هي للتوبيخ والتقريع كما في قوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شيءتُمْ). وقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ) أمر بعقد القلب أي سواء وجد

عمل الجوارح أو لم يوجد، لما أن اعتبار عمل الجوارح إنما يكون عند وجود عقد القلب وإلا فلا اعتبار له، وهذا لأن الطاعة لا تكون بدون عقد القلب على حقية الأمر، وهذا جواب عن قولهم: "الفعل هو المقصود من كل أمر". (والآخر يتردد بين أمرين) أي بين أن يكون مقصودا وبين أن لا يكون مقصودًا يريد به الفعل. وقيل: "بين الأمرين" أي بين اللزوم والسقوط، والله أعلم.

باب تقسيم الناسخ

باب تقسيم الناسخ (الحجج أربعة) ذكر بالتاء على تأويل البراهين أو الدلائل. (أما القياس فلا يصح ناسخا لما نبين) يحتمل أن يكون حوالة التبيين على غير هذا الكتاب كما ذكر مثل هذا في موضع، منها: ما ذكره في باب الأداء والقضاء مسألة الأضحية بقوله: وإزالة التمول عن

الباقي عند أبي يوسف- على ما نبين في مسألة التضحية معناه أي في "المبسوط- فكذلك هاهنا، ويحتمل أن يكون ذلك هو ما ذكره في دليل أن الإجماع لا يصلح ناسخا، فإن فيه نوع إشارة إلى هذا، والله أعلم. وأما الدليل على أن القياس لا يصلح ناسخا للكتاب والسنة هو أن الصحابة -رضي الله عنه- كانوا مجمعين على ترك الرأي بالكتاب والسنة هو أن الصحابة -رضي الله عنه- في حديث الجنين: "كدنا أن نقضي فيه برأينا وفيه سنة عن رسول الله عليه السلام" وقال رضي الله عنه: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على ظاهر الخف دون باطنه"ولأن القياس كيف ما كان

لا يوجب العلم، فكيف ينسخ بهم اهو موجب للعلم قطعا؛ وقد علم أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم وكونه حسنا إلى ذلك الوقت ولا مجال للرأي في معرفة انتهاء وقت الحسن. (واحتج بقوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) فوجه التمسك به أن الله تعالى شرط المثلية أو الخيرية في النسخ أي أن يكون الناسخ مثلا للمنسوخ أو خيرًا منه، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وهو معجز، والسنة كلام مخلوق وهو غير معجز فلذلك قال: لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة.

وكذلك (قوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)) تنصيص على أنه عليه السلام كان متبعا لكل ما أوحي إليه ولم يكن مبدلًا لشيء منه، والنسخ تبديل.

وقوله: (والوصية الأولى كانت معهودة، فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث ثم نسخت بالسنة لوجب ترتيبه على المعهودة) أي لوجب ترتيب الميراث على الوصية المعهودة بقوله: من بعد الوصية معرفا بحرف العهد، ولم يقل ذلك بل قاله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) مطلقا، وهي تتناول كل ما ينطق عليه اسم الوصية بطريق البدل علة ما هو المعروف في المطلق، فكانت آية المواريث مطلقة بعد المقيد، فإطلاق المقيد نسخ للمقيد كتقييد المطلق، فإنه نسخ للمطلق على ما يجيء إن شاء الله تعالى. فعلم بهذا أن هذه الآية بإطلاقها التي هي قوله: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) حيث قال: فلو كانت تلك الوصية باقية مع الميراث ثم نسخت بالسنة: "إلى آخره؛ لأن أول تلك السنة دال على أن السنة متأخرة عن قوله تعالى (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية، وهو قوله عليه السلام: "إن الله

تعالى أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" أي أعطى كل ذي حق حقه في قوله تعالى: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية، فكانت متأخرة عنه لا محالة (وقصره على حدود لازمة)، كالثمن والربع والنصف. (أي بهذا الفرض) أي بهذا القدر المذكور في قوله تعالى: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) (نسخ الحكم الأول)، وهو حكم قوله تعالى: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) فحينئذ كان الحديث مقررًا لموجب قوله تعالى: (يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وهذا لأن الفاء في قوله عليه السلام: "فلا

وصية لوارث" دخلت على الحكم وهو حكم بيان الميراث بأن لا وصية لوارث، فكان مقررًا لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ). (إلانا أنا قد روينا عن عمر) رضي الله عنه- بضم الراء على بناء المفعول- (أن الرجم كان مما يتلى) في القرآن على ما قال: لولا أن الناس يقولون إن عمر زاد في كتاب الله لكتبت على حاشية المصحف: "الشيخ والشية إذا زنيا فارجموهما البتة" فعلى هذا كان هذا نسخ الكتاب بالكتاب لا نسخ الكتاب بالسنة، (ولأن قوله تعالى: (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) مجمل فسرته السنة). وإليه أشار النبي عليه السلام بقوله: "خذوا عني خذواعني قد جعل الله لهن سبيلا".

وحاصله إن حديث الرجم لا يصلح ناسخًا؛ لأن ذلك إما كتاب على ما قاله عمر- رضي الله عنه- أو غير كتاب، فإن كان كتابًا كان ذلك نسخ الكتاب بالكتاب لا نسخ الكتاب بالسنة على ما ذكرنا، وإن لم يكن كتابًا كان هو تفسيرًا لمجمل الكتاب، والتفسير لا يسمى نسخًا كما روي عن النبي عليه السلام: "أنه مسخ على ناصيته" فهو تفسير لمجمل قوله تعالى: (وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) في حق المقدار لا نسخ، ولا خلاف لأحد في أن بيان المجمل في كتاب الله تعالى بالسنة يجوز. (وإن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ الآية)، فإن (هذا حكم نسخ بالسنة) يعني أن قوله تعالى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا) حكم منصوص في القرآن فقد انتسخ وناسخه لا يتلى، فعرفنا أن نسخه ثبت بالسنة.

(ما غرم فيها زوجها) أي من الصداق وغيره، (وفي ذلك أقوال مختلفة). قال بعضهم: إن هذا الحكم نسخ بآية القتال. كذا ذكره في: "التيسير". وقال بعضهم: نسخ حكم الكتاب بترك الناس العمل به، فإن قوله: (وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا) وقوله: (واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ولْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا) الحكم متروك من غير أن يكون في تركه كتاب أو سنة، ولكن الناس لما أجمعوا على تركه ترك، وهذا أمثاله في حكم عرف ثبوته على الخصوص لمعنى ثم انعدم المعنى. فأمل ما لا يعقل معناه فيجب العمل بالكتاب ولا يترك بترك الناس. وقال بعضهم: إنه صار منسوخًا بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ) كذا في "شرح التأويلات". وقال بعضهم: المراد منه الإعانة لمن أصيب بفوت ما أدى من المهر

لامرأته التي أرتدت إلى دار الحرب، والإعانة هذه أمر مندوب إليه غير منسوخ على ما ذكر في الكتاب، وكذلك اختلف في تفسير قوله: ((فَعَاقَبْتُمْ)) فلما اختلف في تأويله بمثل هذه الاختلافات لم يصح الاحتجاج به على حكم معين، فلما رأى الإمام المحقق شمس الأئمة -رحمه الله- فساد مثل هذه التمسكات ف جواز نسخ الكتاب بالنسة، ورأى ديل جوازه على ما نذكر. قال: فبهذا تبين أنه لا يؤخذ نسخ حكم ثابت بالكتاب هو ثابت بالسنة ابتداء، وإنما يؤخذ من ذلك الزيادة بالسنة على الحكم الثابت بالكتاب نحو ما ذهب إليه الشافعي- رحمه الله- في ضم التغريب إلى الجلد في حد البكر، فإنه أثبته بقوله: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"، ومثل هذه الزيادة عندنا نسخ، وعنده بيان التخصيص ولا يكون نسخًا. ثم قال: الحجة لإثبات جواز نسخ الكتاب بالسنة قوله تعالى: (وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ) فإن المراد به بيان حكم غير متلو في الكتاب مكان حكم آخر هو متلوعلى وجه تتبين به مدة بقاء الحكم الأول

وثبوت الحكم الثاني، والنسخ ليس إلا هذا والدليل على أن المراد هذا لا ما توهمه الخصم من بيان الحكم المنزل في الكتاب أنه قال: (مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ) ولو كان المراد الكتابب لقال: ما نزل إليك، كما قال (بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) والمنزل إلى الناس الحكم الذي أمروا باعتقاده والعمل به، وذلك يكون تارة بوحي متلووتارة بوحي غير متلو، وهوما يكون مسموعًا من رسول الله عليه السلام مما يقال إنه سنة، فقد ثبت بالنص أنه كان لا يقول ذلك بوحي: قال الله تعالى: (ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى)

(والدليل المعقول أن النسخ لبيان مدة الحكم، وجائز للرسول بيان حكم الكتاب) أي بيان حكم الكتاب في مدة مشروعيته، فعلى هذا التقرير يكون هو عليه السلام مبينًا للوقت فيما هو منزل من الكتاب فحينئذ لم يبق فيه خلاف لأحد؛ لأن له تبيين ما نزل إليه من الكتاب بالاتفاق لقوله تعالى: (وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ). فإن قيل: ففي هذا اختلاط البيان بالنسخ، وبالاتفاق بين البيان والنسخ فرق. قلنا: لا كذلك، فإن كل واحد منهما في الحقيقة بيان إلا أن البيان المحض يجوز أن يكون مقترنًا بأصل الكلام كدليل الخصوص في العموم فإنه لا يكون إلا مقارنًا، وبيان المجمل فإنه يجوز أن يكون مقارنًا، فأما النسخ فبيان لا يكون إلا متأخرًا، وبهذه العلامة يظهر الفرق بينهما، فأما أن يكون النسخ غير البيان فلا. كذا ذذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. قوله: (وأما السنة فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه) إلى

آخره، فإن كلا منهما في إيجاب الحكم سواء. فإن قلت: هذا مناقض لقوله قبل هذا بخطوط "وترك رسول الله عليه السلام آية في قراءته فلما أخبر به فقال: "ألم يكن فيكم أبي؟ " فقال: بلى يا رسول الله لكني ظننت أنها نسخت. فقال صلى الله عليه وسلم: "لو نسخت لأخبرتكم" فإنما ظن النسخ من غير كتاب يتلى حيث استدل بهذا الحديث على جواز نسخ الكتاب بالسنة، وفي ذلك الحديث ظن نسخ نظم الكتاب بالسنة، فعلى وفاق ذلك يلزم أن يجوز نسخ نظم الكتاب بالسنة وإلا يتناقض. وكذلك هذا القول مناقض لما ذكره شمس الأئمة- رحمه الله- بقوله: والدليل عليه أنه لا خلاف بيننا وبين الخصم في جواز التلاوة دون الحكم، ونسخ تلاوة الكتاب إنما يكون بغير الكتاب إلى آخره وغير الكتاب قد يكون السنة وقد يكون ذلك رفع حفظه عن القلوب. قلت: قيل معنى قوله: "فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه" أي على وجه تقوم السنة مقام نظم الكتاب، وبهذا التأويل ينفي التناقض. أو نقول: إن الذي ذكرته من الحديث هو من حيث اقتضاء الدليل أي إن الدليل لا يفصل بين أن تكون السنة ناسخة لنظم الكتاب؛ لأن كلا

منهما وحي يوحى إليه فيصلح أن يكون كل منهما مبينًا لانتهاء وقت مشروعية الآخر، وأن الذي ذكر هنا بقوله: وأما السنة فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه" هو من حيث الوجود أي إنما وجد نسخ السنة للكتاب وجد في نسخ حكم الكتاب لا في نظمه كما في رواية عائشة رضي الله عنها: "ما قبض رسول الله حتى أباح الله تعالى له من النساء ما شاء" فكان هذا منها حكاية سنة نسخت قوله تعالى: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ) من حيث الحكم لا من حيث النظم. وكذلك فيما ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- بأن هذا من حيث الزيادة على النص. وذلك مثل حديث مشهور رفاعة في اشتراط الدخول للزوج الثاني في التحليل، وهذا حديث مشهور زيد على مطلق قوله تعالى: (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).

وكذلك زيدت فرضية السجود مرتين على مطلق قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) ونحوهما. (كان المنسوخ مثل الناسخ لا محالة)؛ لأن كلا منهما في إيجاب الحكم على السواء، فكانا متماثلين، (ولو وقع الطعن بمثله لما صح ذلك) جواب لقوله: "لأنه لو نسخ القرآن به" أي بالحديث لكان مدرجة إلى الطعن. قلنا: مثل ذلك موجود أيضًا في نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالسنة، ومع ذلك لم نقل نحن جميعًا بكون ذلك مدرجة إلى الطعن فكذلك هاهنا، وهذا لأنا قد بينا حكمة جواز النسخ بقولنا: إن ورود الأوامر والنواهي لمنفعة المخاطبين، فجاز أن تختلف منافع المخاطبين باختلاف الأوقات كما يختلف أمر الطبييب ونهيه في حق المريض بسبب اختلاف حاله. ولما لم يكن نسخ الكتاب بالكتاب ونسخ السنة بالسنة مؤديًا إلى التناقض وتطرق الطاعنين إلى الطعن في رسول الله عليه السلام لم يكن القول بجواز نسخ الكتاب بالسنة مؤديا إليه بل هو مؤد إلى تعظيم رسول الله عليه السلام وإلى قرب منزلته من حيث إن الله تعالى فوض بيان الحكم الذي هو وحي في الأصل إليه ليبينه بعبارته، وجعل لعبارته من الدرجة ما تثبت به مدة الحكم

الذي هو ثابت بوحي متلو حتى يتبين به انتساخه. (وأما الحديث فدليل على أن الكتاب يجوز أن ينسخ السنة)؛ لأن السنة لما لم تقبل عند مخالفتها الكتاب ولم يعمل بالسنة عندها كان الكتاب ناسخًا لها كما لا يعمل بالمنسوخ عند ورود الناسخ، فكان هو دليلًا على جواز نسخ السنة بالكتاب، وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: فقد قيل هذا الحديث لا يكاد يصح؛ لأن هذا الحديث بعينه مخالف لكتاب الله تعالى، فإن في الكتاب فرضية اتباعه مطلقا بمعنى قوله تعالى: (ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) وفي هذا الحديث فرضية اتباعه مقيدًا بأن لا يكون مخالفًا لما يتلى في الكتاب ظاهرًا، ولئن ثبت فالمراد به أخبار الآحاد لا المسموع ممنه بعينه أو الثابت عنه بالنقل المتواتر، وفي اللفظ ما دل عليه وهو قوله: "إذا روي لكم عني حديث" ولم يقل إذا سمعتم، وبه نقول: "إن بخبر الواحد لا يثبت نسخ الكتاب؛ لأنه لا يثبت كونه مسموعًا من رسول الله عليه السلام قطعًا ولهذا لا يثبت به علم اليقين على أن المراد من قوله: "وما خالف فردوه" عند التعارض إذا جهل التاريخ بينهما حتى لا توقف على الناسخ والمنسوخ منهما فإنه يعمل بما في كتاب الله تعالى، ولا يجوز ترك ماهو ثابت في كتاب الله تعالى نصا عند التعارض ونحن هكذا نقول، وإنما الكلام فيما إذا عرف التاريخ بينهما.

(أولم يكن في الصحة بحيث ينسخ به الكتاب) بأن يكون خبر الواحد، فإن الكتاب إنما ينسخ بالنسة المتواترة ويزاد عليه بالسنة المشهورة وهو نسخ عندها ولا يجوز شيء منهما بخبر الواحد. فإن قلت: في هذا سؤال كلي وهو أن وقت جواز النسخ وقت حياة النبي عليه السلام؛ لأنه لا نسخ بعده فبوفاته انسد باب النسخ، وتقسيم السنن بالآحاد والمشهور والمتواتر بحسب النقلة، وذلك إنما يكون بعد وفاته؛ لأن من يشك في خبه بسبب أنه خبر الواحد فيمكن أن يحضر الحضرة النبوية ويسأل النبي عليه السلام عن الخبر فيعلم عند ذلك صحة ما سمعه منه قطعًا وبتاتًا فكان كل الخبر قطعيًا، ولا يرد هذا التقسيم فبعد ذلك كيف يستقيم الترديد بقولنا: إذا كان الخبر متواترًا يصح النسخ به وإذا كان واحدًا لا يصح؟ فكان هذا في التعاقب نظير الإجماع من حيث إن وقت جواز النسخ لا يرد تقسيم الخبر، وإن وقت جواز التقسيم انسد باب النسخ، وقد ذكر أن النسخ بالإجماع لا يصح؛ لأنه لا يتصور النسخ للتعاقب على ما ذكرنا، فكذا هنا فما وجه صورة نسخ الكتاب بالسنة وصورة عكسه حينئذ؟ قلت: التنافي إنما يكون من حيث الصورة لا من حيث المعنى؛ لأن معنى قولنا: "يصح نسخ الكتاب بالخبر المتواتر والمشهور: أي يظهر النسخ الذي كان ثابتًا وقت حياة النبي عليه السلام ل أن يثبت النسخ به ابتداء بعد وفاة النبي عليه السلام إذ لا نسخ بعده.

وأما قولك: تقسيم الخبر بخبر الواحد والمشهور والمتواتر: إنما يستقيم بعد وفاة النبي عليه السلام لا وقت حياته فهو غير مسلم، فإن أخباره كانت منقسمة على هذه الأقسام الثلاثة وقت حياته أيضا لكن لكون ذلك الوقت وقت جواز النسخ يثبت النسخ بخبر الواحد. إلى هذا كله أشار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- حيث قال: ثم إنما يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة أو المشهورة على وجه لو جهل التاريخ بينهما يثبت حكم التعارض. فأما خبر الواحد فلا يجوز النسخ به بعد رسول الله عليه السلام؛ لأن التعارض به لا يثبت بينه وبين الكتاب، فإنه لا يعلم بأنه كلام رسول الله عليه السلام لتمكن الشبهة في طريق النقل، ولهذا لا يوجب العلم فلا تتبين به مدة بقاء الحكم الثابت بما يوجب علم اليقين. فأما في حياة رسول الله عليه السلام فقد كان يجوز أن يثبت نسخ الكتاب بخبر الواحد. ألا ترى أن أهل قباء تحولوا في خلال الصلاة من جهة بيت المقدس إلى جهة الكعبة بخبر الواحد ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله عليه السلام، وهذا لأن في حال حياته كان احتمال النسخ فأما بعده فلا احتمال للنسخ ابتداء ولابد من أن يكون مما يثبت به النسخ مستندا إلى حال حياته بطريق لا شبهة فيه وهو النقل المتواتر، وما يكون في حيز المتواتر. قلت: وبقوله: ولابد من أن يكون ما يثبت به النسخ مستندًا إلى حال

حياة النبي عليه السلام بطريق لا شبهة فيه وهو النقل المتواتر "يعلم أن الذي يقال: إنما يجوز نسخ الكتاب بالخبر المتواتر" معناه يظهر النسخ الثابت وقت حياة النبي عليه السلام فلم يبقى التنافي حينئذ بخلاف في الإجماع، فإن في القول بجواز النسخ بالإجماع ثبوت التنافي لا محالة من حيث الإجماع، فإن في اقول بجواز النسخ بالإجماع ثبوت التنافي لا محالة من حيث إن وقت جواز النسخ بالإجماع ثبوت التنافي لا محالة من حيث إن وقت جواز النسخ لا اعتبار للإجماع، ووقت اعتبار الإجماع لم يبق جواز النسخ، فلذلك قلنا: لا يتصور النسخ بالإجماع لثبوت التنافي بينهما. والتوقيت قائمًا في كل حكم؛ لأن الوحي كان ينزل حالًا فحالًا. (فإن المراد بالخيرية فيما يرجع إلى العباد دون النظم بمعناه، فكذلك المماثلة) فيستقيم حينئذ إطلاق القول بأن الحكم الثاني مثل الأول أو خير منه على معنى زيادة الثواب والدرجة فيه، أو كونه أيسر على العباد أو أجمع لمصالحهم عاجلًا وآجلًا. إلا أن الوحي المتلو نظمه معجز، والذي هو غير متلو نظمه غير معجز لأنه عبارة مخلوق وهو وإن كان أفصح العرب فكلامه ليس بمعجز. ألا ترى ما تحدى الناس إلى الإتيان بمثل كلامه كما تحداهم إلى الإتيان بمثل سورة من القرآن، ولكن حكم النسخ لا يختص بالمعجز. ألا ترى أن النسخ يثبت بما دون الآية ولآية واحدة، واتفق العلماء على صفة الإعجاز في سورة وإن تكلموا فيما دون السورة، فعرفنا أن حكم النسخ لا يختص بالمعجز.

وقوله: (على أنا قد بينا) إشارة إلى قوله: "وأما السنة فإنما ينسخ بها حكم الكتاب دون نظمه إلى آخره" فإنهما في حق الحكم متماثلان (على هذه الجملة) أي على وفاق هذه الجملة، فإن كل واحد من الحكمين ثابت بطريق الوحي وشارعه علام الغيوب، وإن كانت العبارة في أحدهما لرسول الله عليه السلام فكانا متماثلين من حيث الحكم. (الحنتم): شبوي سبز، (النقير): المنقور من الخشب، (المزفت): المطلى بالزفت وهو القار.

...................................... ****

باب تفصيل المنسوخ

باب تفصيل المنسوخ (ونسخ وصف في الحكم) كنسخ وصف فرضية صوم عاشوراء دون أصل شرعيته، وكذلك الزيادة على النص أنه نسخ وصف المقدر بما كان بل الزيادة على ما ذكر في الكتاب. (فمثل صحف إبراهيم عليه السلام) وكذلك صحف غيره ممن تقدم نبينا من الرسل عليهم السلام، فقد علمنا بما يوجب العلم قطعًا أنها قد كانت نازلة من السماء تقرأ ويعمل بها قال الله تعالى: (إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى) وقال تعالى: (وإنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ) ثم لم يبق شيء من ذلك في أيدينا تلاوة ولا عملًا به فلا طريق

لذلك سوى القول بانتساخ التلاوة والحكم فيما يحتمل ذلك، وله طريقان: إما صرف الله القلوب عنها، وإما موت من يحفظها من العلماء لا إلى خلف. وقوله: (وكان هذا جائزًا في القرآن) راجع إلى المذكور قبله وهو النسخ إما بصرفها عن القلوب أو بموت العلماء. (فأما بعد وفاته فلا). فإن قلت: كل ضروب النسخ بعد وفاة النبي عليه السلام غير جائز وقبله كان جائزا، فما وجه تخصيص هذا الضرب بقوله: وكان هذا جائزًا في حياة النبي عليه السلام؟ قلت: نعم كذلك إلا أن التصور العقلي يقتضي تصور مثل هذا النسخ؛ لأن مثل هذا النسخ لا يعتمد على وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبقائه؛ لأن لا يقتضي ناسخًا شرعيًا يقوم مقام المنسوخ حتى يشترط فيه بقاء النبي عليه السلام بخلاف سائر ضروب النسخ، فإن ذلك إنما يكون بورود الوحي الذي هو ناسخ على النبي عليه السلام، فلذلك اشترط بقاء النبي عليه السلام في ذلك؛ لأن الوحي لا ينزل إلا على النبي عليه السلام.

وأما النسيان الذي هو نتيجة رفع الله الذكر عن القلوب أو موت العلماء لا خلف فغير موقوف وجوده إلى وجود النبي عليه السلام، فلما توهم صحة النسخ عقلًا بمثل هذا الطريق بعد وفاة النبي عليه السلام خص عدم جوازه بما بعد وفاة النبي عليه السلام، فصار كأنه قال: هذا لا يتصور شرعًا وإن تصور عقلا لحكمة تدعو إليه، وهي ما ذكره في الكتاب بقوله: صيانة للدين إلى آخر الدهر، وثبت ذلك بوعد الله تعالى حفظه لما أنزله على رسوله عليه السلام بقوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ويتبين به أنه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته بطريق الاندراس وذهاب حفظه من قلوب العباد. فإن قلت: ما جوابنا لمن استدل من بعض الملحدين على جوازه بما روي أن أبابكر الصديق- رضي الله عنه- كان يقرأ: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم"، وأنس- رضي الله عنه- كان يقول: "قرأنا في القرآن: بلغوا عنا قومنا إنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا" وقال عمر رضي الله عنه: "قرأنا آية الرجم في كتاب الله ووعيناها" وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: "إن

سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة أو أطول منها" واستدل الشافعي بما هو قريب من هذا في عدد الرضعات، فإنه صحح ما يرويه عن عائشة رضي الله عنها: "وإن مما أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس رضعات معلومات، وكان ذلك مما يتلى في القرآن بعد وفاة النبي عليه السلام" قلت: يبطل تلك التمسكات كلها قوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ومعلوم أنه ليس المراد منه الحفظ لديه، فإن الله تعالى يتعالى من أن يوصف بالنسيان والغفلة، فعرفنا أن المراد الحفظ لدينا، فالغفلة والنسيان متوهم بنا، وبه ينعدم الحفظ إلا أن يحفظه الله عز وجل، ولأنه لا يخلو شيء من أوقات بقاء الخلق في الدنيا عن أن يكون فيما بينهم ما هو ثابت بطريق الوحي فيما ابتلوا به من أداء الأمانة التي حملوها. إذ العقل لا يوجب ذلك وليس به كفاية بوجه من الوجوه، وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله عليه السلام، ولو جوزنا- هذا وهو الذهاب عن القلوب أو بموت العلماء- في بعض ما أوحي إليه وجب القول بتجويز

ذلك في جميعه فيؤدي إلى القول بأن لا يبقى شيءئ مما ثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف وأي قول أقبح من هذا! وأما ما روي من تلك الأخبار التي رويتها فشاذ لا يكاد يصح شيء منها، ويحمل قول من قال في آية الرجم في كتاب الله في حكم الله كما قال: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) كذا قاله الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. (لقوله تعالى: (إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)). قيل: المراد به الحفظ بعد وفاة النبي عليه السلام؛ لأن النسخ جائز حال حياته، ولأن النسخ في الأغلب إنما يكون بإذهاب شيء وإثبات شيء آخر مكانه وإثبات النسخ بعد وفاته غير متصور، فلم يكن ذهاب شيء منه أيضًا لكونه محفوظًا عن التغيير إلى آخر الدهر. حكي أن نصرانيًا كان يكتب مصاحفنا ويبيع، فبلغ إلى قوله تعالى: (ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا) فكتب: (ومن يبتغ الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)؛ فخرج صبي من المكتب ونادى بأعلى صوته، فقال: ما القرآن هكذا بل القرآن: (ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا) الآية.

(وأما القسم الثاني) - وهو نسخ الحكم دون التلاوة، (الثالث) - وهو نسخ التلاوة دون الحكم. وقوله: (ومن الناس)، وإنما يستعمل مثل هذه الصيغة فيمن لا يعتبر قوله. (أن الإيذاء باللسان وإمساك الزواني في البيوت نسخ حكمه وبقيت تلاوته)، وهو قوله تعالى: (واللاَّتِي يَاتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ) (وكذلك الاعتداد بالحول) وهو قوله تعالى: (والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ). (ومثله كثير)،

كقوله تعالى: (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) فإن حكم هذا قد انتسخ بقوله: (فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) وبقيت التلاوة وحكم التخيير بين الصوم والفدية قد انتسخ ببقوله: (فَلْيَصُمْهُ)، وبقيت التلاوة وهي قوله تعالى: (وأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ) وكذلك قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ) وقوله تعالى: (فَاعْفُوا واصْفَحُوا) نسخ حكمهما بآية السيف وهي قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ) (وما هو قائم بمعنى صيغته) وهو الإعجاز.

(ولا تهمة في روايته وجب الحمل على أنه نسخ نظمه وبقي حكمه) يعني انتسخت تلاوته في حياة رسول الله عليه السلام بصرف الله القلوب عن حفظها إلا قلب ابن مسعود- رضي الله عنه- لما ذكرنا أن مثل ذلك وقت حياة النبي عليه السلام جائز، فبقيت تلاوته في حفظه ليكون الحكم باقيا بنقله، فإن خبر الواحد موجب للعمل به، وقراءته لا تكون دون روايته وانتهى الآخر وهو الحكم. (وجب الحمل على أنه نسخ نظمه وبقي حكمه) أي لا يحمل على أنه كان هو زاد ذلك النظم من تلقاء نفسه ثم لما لم يبق ذلك النظم لم يبق الحكم الثابت؛ لما أن هذا قول وحش لا يفوه به من له ضعف الإسلام؛ لأن من صنع مثل هذا على الاعتقاد كان كافرًا فكيف من هو من أجلاء الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- والمتشرفين بتشريف قوله عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" خصوصًا في حقه إذ هو المتلقى منه عامة أحكام الشرع وذلك بعيد جدًا، فلذلك حمل على أنه نسخ

نظمه وبقي حكمه، ثم ذلك النسخ لا يحمل على أنه كان بعد وفاة النبي عليه السلام كما مر. (وهو ما ذكرنا) وهو جواز الصلاة. (وذلك صحيح في أجناس الوحي) على ما يجيء قريبًا من هذا في باب تقسيم السنة وهو القسم الثالث من الوحي فإنه وحي يتبدى لقلب النبي عليه السلام بلا شبهة كما قال الله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) وهو وحي بلا نظم، وكذلك الوحي الذي هو غير متلو وحي بلا نظم الكتاب، وكذلك الإلهام وحي في حق النبي عليه السلام يثبت به الحكم ولا نظم له قال الله تعالى: (ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْيًا أَوْ مِن ورَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) وكذلك السنن كلها ثابتة بالوحي لما عرف، وليس لها نظم القرآن الذي يتلى. (فمثل الزيادة)

(على النص فإنها نسخ عندنا) اي هي بيان صورة نسخ معنى سواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم. أما في السبب فمثل اشتراط الإسامة في زكاة المواشي عندنا خلافًا لمالك وكذلك قال أصحابنا: إذا وجد المحدث من الماء ما لا يكفيه لوضوئه

أو الجنب ما لا يكفيه لاغتساله فإنه يتيم ولا يستعمل ذلك الماء لأن الواجب استعمال الماء الذي هو طهور، وهذا بمنزلة بعض العلة في حكم الطهارة، فلا يكون موجبًا الوضوء به، فلذلك كان وجود لا يمنع التيمم. وأما في الحكم فأكثر من أن تحصى كزيادة التتابع في صوم كفارة اليمين والظهار. (وليس الشرط أن تكون الزيادة تخصيصًا) أي ليس بلازم أن يوجد التخصيص في كل ما زيد على النص؛ لأنه وجد التخصيص في فصل الرقبة على زعم الخصم لما أن الرقبة عامة على أصله تتناول الكافرة والمؤمنة فخصت بالمؤمنة. وأما في فصل الجلد فلم يوجد التخصيص؛ لأن زيادة النفي على الجلد ليست بتخصيص؛ لأن الجلد لم يتناوله حتى يخص. (لأن التقييد والإطلاق ضدان لا يجتمعان)؛ لأن الإطلاق غير

متعرض للوصف والتقييد متعرض له، ولأن الإطلاق عبارة عن العدم والتقييد عبارة عن الوجود على ما ذكر في الكتاب، فكانا على طرفي تقيض. (فأما التخصيص فتصرف في النظم أن بعض الجملة غير مراد بالنظم مما يتناوله النظم، والتقييد لا يتناوله الإطلاق) أي جمعًا للأوصاف كلها يقرره أن التخصيص للإخراج والتقييد للإثبات وأي مشابهة تكون بين الإخراج من الحكم وبين إثبات الحكم. وحاصله أن في النص إذا ثبت صفة التقييد بقاء صفة الإطلاق غير متصور، فأما العام إذا خص منه شيء يبقى الحكم ثابتًا فيما وراءه بمقتضى لفظ العموم عرفنا أن التخصيص لا يكون تعرضًا لما وراء المخصوص بشيء بل ما بقي بعد الخصوص يبقى معمولًا بعمومه حتى أن أهل الذمة ومن بمعناهم لما خصوا من قوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) كان قتل من لا أمان له من المشركين واجبا بذلك النص.

وأما النص المطلق بعد ثبوت صفة التقييد لم يبق المطلق معمولًا أصلًا بل النص المقيد كان هو المعمول، ألا ترى أن قوله تعالى: (فتحرير رقبة) لما قيد بصفة الإيمان لا تتأدى الكفارة بما يتناوله اسم الرقبة المؤمنة، فعرفنا أن التقييد في معنى النسخ لا التخصيص. (ولا يشكل أن النفي إذا ألحق بالجلد) أي ولا يشتبه على أحد. وقوله: (ولهذا) إيضاح لما ادعاه من أن الزيادة على النص نسخ. (ولأن دليل النسخ ما لو جاء مقارنًا كان ناسخًا) أي لأن دليل النسخ شاء لو جاء مقارنًا كان معارضًا، وكذلك الإطلاق مع التقييد.

وأما دليل الخصوص لوجاء مقارنًا للعام فلا يكون معارضًا بل يكون مبينًا علمنا أن دليل التخصيص ليس في معنى دليل النسخ بخلاف دليل التقييد، فإنه في معنى دليل النسخ على ما ذكرنا. (حكم الوجود) أي حكم وجود الكل، والله اعلم.

باب أفعال النبي- صلى الله عليه وسلم-

باب أفعال النبي- صلى الله عليه وسلم- (لكنه ليس من هذا الباب في شيء)؛ لأن عقد الباب لبيان حكم الاقتداء به في أفعاله الصادرة عنه عن قصد، ولهذا لم يذكر في الجملة ما يحصل في حالة النوم والإغماء؛ لأن التقييد لا يتحقق فيها فلا يكون داخلًا فيما هو حد الخطاب. (فزل بشغله عنه) أي عن الفعل المباح.

(فإنها) أي فإن المعصية (اسم لفعل حرام مقصود بعينه) أي يقصد المباشر عين ذلك الفعل الحرام مع علمه بحرمته بخلاف الزلة فإن مباشرها إنما يقع على الحرام من غير قصد إلى مباشرة الفعل الحرام بل بواسطة الفعل المباح، فإنها مأخوذة من زل الرجل في الطين إذا لم يوجد منه القصد إلى الوقوع ولا إلى الثبات بعد الوقوع ولكن وجد القصد إلى المشي في الطريق. فإن قلت: فعلى هذا التفسير كيف صح إطلاق اسم المعصية على فعل آدم عليه السلام في قوله تعالى:) وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) قلت: قال الشيخ الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- أطلق الشرع ذلك على الزلة مجازًا. وأشار إليه في: "الكشاف" إلى أن إطلاق لفظ العصيان على زلة آدم عليه السلام ليكون لطفًا بالمكلفين أي عظة ومزجرة بليغة وموعظة كافة، وكأنه قيل لهم: انظروا واعتبرواكيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله

الذي لا يجوز عليه إلا اقتراف الصغيرة غير المنفرة زلته بهذه الغلظة، فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيئات والصغائر فضلًا أن تجسروا على التورط في الكبائر. وذكر الإمام نور الدين الصابوني- رحمه الله- في "عصمة الأنبياء" إن ذكر العصيان فيه لم يكن مقصودًا بالذكر لذاته بل لإظهار الاجتباء بعد ذلك كما قال الله تعالى: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ) ليعلم أن معاملة الله تعالى مع أنبيائه بخلاف معاملته مع سائر العباد، وتلك الزلة لم تسقط من قدر آدم عليه السلام. (مما ليس بسهو ولا طبع) فالسهو مثل ما روي: "سها رسول الله عليه

.............

السلام فسجد" وروي: "صلى الظهر خمسًا" والطبع مثل التنفس وتحريك جفن العين والأكل والشرب، فإن هذا الباب لبيان أفعاله التي تكون عن قصد ويتصور خلوه عنها ولم يقترن به بيان الطاعة والزلة. (ولا يثبت الفضل) أي ولا تثبت الزيادة على وصف الإباحة من أوصاف الوجوب والندب إلا بدليل. (إلا أنه قال: علينا اتباعه). قيل: يجوزأن يكون علينا اتباعه بمعنى لنا اتباعه؛ لأنه قال: "الأمر كما قال الكرخي إلا أنه علينا اتباعه" ولم يجوز الكرخي المتابعة لما ذكر من المعنى، فكان الاستثناء من قوله موجبًا لجواز الاتباع الذي هو ضد قوله: لا لوجوب الاتباع.

(فإذا خالفه في الوصف لم يكن مقتديًا)، فإنه عليه السلام إذا كان هوفعل فعلًا نفلًا ونحن نفعله فرضًا يكون ذلك منازعة لا موافقة، واعتبر هذا بفعل السحرة مع ما وراء من الكليم ظاهرًا فإنه كان منازعة منهم في الابتداء؛ لأن فعلهم لم يكن بصفة فعله، فعرفنا أن الوصف إذا كان مشكلًا لا تتحقق الموافقة في الفعل لا محالة، ولا وجه للمخالفة فيجب الوقف يه حتى يقوم الدليل، وهذا الكلام عند التأمل باطل؛ لأن هذا القاتل إن كان يمنع الأمة من أن يفعلوا مثل فعله بهذا الطريق ويلومهم على ذلك فقد أثبت صفة الحظر في الاتباع، وإن كان لا يمنعهم عن ذلك ولا يلومهم عليه فقد أثبت صفة الإباحة، فعرفنا أن القول بالتوقف لا يتحقق في هذا الفصل. (وأما الآخرون فقد احتجوا بالنص الموجب لطاعة الرسول عليه السلام)، والجواب لنا عن هذا أن يقول صح في الحديث: "إن النبي عليه السلام خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم فقال عليه السلام: "ما

لكم خلعتم نعالكم؟ " الحديث، فلو كان مطل فعله موجبا للمتابعة لم يكم لقوله: ما لكم خلعتم نعالكم؟ معنى. (قال الله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) والمحتج بهذه الآية على وجوب الاتباع في أفعال النبي عليه السلام يقول: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي عن سمته وطريقته. ونحن نقول: المراد من الأمر هذا ما هو المفهوم من مطلق لفظ الأمر عند الإطلاق الذي هو ضد النهي لا السمت والطريقة، (والنصوص كثيرة) كقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقوله:) أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقوله: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وأجوبتها مذكورة في الكتب المطولة. (كمن وكل رجلًا بماله) بأن يقال: وكلتك بمالي.

(ووجه القول الآخر) - بكسر الخاء- وهو قول الجصاص- رحمه الله- الذي اختاره المصنف- رحمه الله- فالنص الذي احتج به الفريق الثاني في حق لزوم الاتباع بقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، كان هو أظهر دليل للجصاص في حق جواز الاتباع لا في حق اللزوم. ألا ترى أنه قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ) ولم يقل عليكم، فهو دليل للجصاص على أن الاتباع في مطلق أفعاله جائز لا واجب. والدليل الواضح في هذا للجصاص- رحمه الله- قوله تعالى (قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِ) وفي هذا بيان أن ثبوت الحل في حقه مطلق دليل ثبوته في حق الأمة. ألا ترى أنه نص على تخصيصه فيما كان هو مخصوصًا به بقوله:) خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) وهو النكاح بغير مهر فلو لم يكن مطلق فعله دليلًا للأمة في الإقدام على مثله لم يكن لقوله: (خَالِصَةً لَّكَ) فائدة، فعلم بهذا أن الخصوصية لا تكون ثابتة بدون هذه الكلمة، فلذلك لا يحمل مطلق فعله على الخصوصية.

(هذا الذي ذكرنا تقسيم السنن في حقنا)؛ لأن ذلك تقسيم في أنواع الاتباع، فإنه عليه السلام إن فعل فعلًا على وجه الفرضية وجب علينا فعله على وجه الفرضية اتباعًا له، وكذلك في الواجب والمندوب والمباح، وأما إذا فعله مطلقًا ولم يعرف وصفه فعليه ففيه هذا الاختلاف في حق الاتباع. وأصح الأقوال فيه أن نقول: هو جائز الاتباع لا مزجور عنه ولا موقوف فيه بالدليل الذي ذكرنا، فلما كان ذلك في حق الاتباع كان ذلك تقسيمًا للسنن في حقنا. وأما تقسيم السنن في حقه عليه السلام ففي هذا الباب، والله أعلم.

باب تقسيم السنة في حق النبي عليه السلام

باب تقسيم السنة في حق النبي عليه السلام فإن قلت: ما وجه ذكر صيغة الجمع في حق تقسيم السنن في حقنا وذكر صيغة الفرد في تقسيم السنة في حق النبي عليه السلام؟ قلت: ذك كل منهما كما يقتضيه محله، وذلك لأن سنة النبي عليه السلام تبلغنا بأنواع مختلفة؛ بالفعل والقول والسكوت على ما ذكرناه في "الوافي" فذكرها بلفظ الجمع نظرًا إلى أصلها وإن كان الجمع بالألف واللام بمنزلة صيغة الفرد المحلى بالألف واللام، لكن قد يراعى معنى الجمع

فيه أيضًا على ما ذكرنا في خلع "النهاية". وأما السنة في حق النبي عليه السلام فأصلها واحد وهي الوحي؛ لأن مال كل واحد من التقسيم في حه راجع إلى الوحي وهو حقه راجع إلى الوحي وهو واحد، فذكره بلفظ الفرد لذلك. (ولولا جهل بعض الناس والطعن بالباطل في هذا الباب لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه) يجب في هذا بيان جهل بعض الناس وطعنهم بالباطل، وبيان أولوية الكف لولا طعنهم بالباطل. أما الجهل والطعن فإن الباطنية- لعنهم الله- يزعمون أن الله تعالى أنزل

القرآن على رسوله بخيال غير موصوف باللسان، ثم إن رسول الله عليه السلام أداه بلسانه العربي المبين. قلنا: هذا فاسد وطعن على رسول الله عليه السلام وعلى القرآن بالباطل؛ لأن الله تعالى قال في آية أخرى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أخبر

أنه إنما أنزله عربيًا، فيبطل به قول الباطنية، ولأنه لوكان الأمر على ما يقوله الباطنية إنه لم ينزله بهذا اللسان لكان لا يصير جوابا لقولهم: (إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) وقال أيضا: (ولَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ) فذكر هذا جوابًا لقولهم وحجة عليهم دل أنه إنما أنزله عربيًا كا ذكر في "شرح التأويلات" في سورة الشعراء في قوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ). وأما أولوية الكف عن تقسيم الوحي بهذا الطريق على تقدير عدم الطعن فهو أنه ذكر أن القسم الثاني من الوحي ما ثبت عنده ووضع له بإشارة الملك من غير بيان بالكلام، وإن القسم الثالث منه ما تبدى لقلبه بلا شبهة، وفي الوحي الباطن هو ما ينال باجتهاد الرأي بالتأمل فيه، ففي هذه الجمل لا شك أنه يتراءى أي لقلب من هو ضعيف الإيمان أو لمن يقصر في التأمل نوع وهن في نبوة النبي عليه السلام بأن يقول: كيف يكون نبيًا إذا لم يكن وحي صريح من الله تعالى بلسان الملك؟ خصوصًا ما إذا كان هو يدرك بعض

الأحكام بسبب الرأي والتأمل في المنصوصات، فحينئذ كان هو بمنزلة بعض المجتهدين منا، من هذا الوجه كان يجب على المصنف- رحمه الله- أن لا يذكر أقسام الوحي بهذا الطريق لئلا يورث مثل هذه الأوهام الباطلة، فاعتذر عن هذا بقوله: "ولولا جهل بعض الناس لكان الأولى منا الكف عن تقسيمه" فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان موصوفًا بكمال علو المنزلة عند الله غاية لا يحيطها إلا الله تعالى. (والثالث ما تبدى لقلبه بلا شبهة). جعل الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- هذا النوع من قبيل الوحي الباطن. وقيل: (الإلهام): علم بشيء يقع في القلب يدعو صاحبه إلى العمل به من غير استلال بآية ولا نظر ف حجة (فهذا) أي المذكور وهو الأقسام الثلاثة. وكذلك قوله: (وهذا من خواص النبي عليه السلام) أي النبي

مخصوص بهذه الأنواع على معنى أنه يكون حجة بالغة في حقه وحق كافة الناس جميعًا حتى وجب عليه التبليغ فيما ثبت له العلم بهذه الأنواع الثلاثة بخلاف ما يكون للأولياء من الإلهام فإنه لا يكون حجة في حق غيره.

(بعد انقضاء مدة الانتظار) فإن مدة الانتظار تفوت عند خوف فوت الغرض كفوت الكفء الخاطب في النكاح إذا انتظر إلى رأي الولي الأقرب. (وهو- صلى الله عليه وسلم- أحق الناس بهذا الوصف) أي بوصف أمر

الاعتبار، وكذلك هو أحق بنداء المدح في قوله:) فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ) كأنه هذا خرج تعليلًا للاعتبار بكونه ذا بصر، والنبي عليه السلام أدق بصيرة وأوفر فضلًا، فكان هو أدخل في هذا الوصف. (وذلك) أي الفهم (عبارة عن الرأي من غير نص)؛ لأن ما كان بطريق النص والوحي فداود وسليمان عليهما السلام فيه سواء، وحيث خص سليمان عليه السلام بالفهم عرفنا أن المراد بطريق الرأي. وذكر في "الإحقاق" روي أن صاحب الغنم التي نفشت وصاحب الزرع اختصما- وعن ابن مسعود رضي الله عنه وشريح كان كرمًا- فحكم داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم. فقال سليمان عليه السلام: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصبب منها حتى إذا

عاد الكرم كما كان دفع كل واحد منهما مال إلى صاحبه؛ ولذلك صح الاستدلال بقضية داود عليه السلام فإن القضية التي قضاها داود عليه السلام كان بالرأي؛ لأنه لو كان بالوحي لم يسع لسليمان عليه السلام خلاف ما قضي بالوحي ومدح على ذلك علم أنه كان بالرأي. قوله: (وهذا قياس ظاهر)؛ لأن في هذا اعتبار أحد المثلين بالآخر وليس القياس إلا هذا، وهذا لأن القبلة مبدأ شهوة الفرج والمضمضة مبدأ شهوة البطن، والصوم وهو: كف النفس عن قضاء الشهوتين، فلما لم يؤثر قضاء مبدأ شهوة البطن في فساد الصوم، كذلك لا يؤثر فيه قضاء مبدأ شهوة الفرج. ("أرأيت لو وضعه في حرام أما كان يأثم؟ ") ففيه إثبات حكم أحد الضدين مخالفًا لحكم الضد الآخر وهو مقتضى الرأي الصواب؛ لأن أحد الضدين مخالف للآخر، فحكم كل واحد منهما أيضًا كان مخالفًا للآخر لما أن في الوضع في الحرام ارتكاب المنهي فكان آثمًا، وفي الوضع في أهله امتثالًا للمأمور به فكان مأجورا، ولا اعتبار لنفس قضاء الشهوة في نفي

الثواب، فرب قضاء شهوة هو فرض على مباشره فإن أكل شيء بقدر ما يبقى به مهجته فرض عليه إذا لم يتعلق به حق غيره، وفيه قضاء الشهوة بالأكل ولا يرتاب أحد في تحصيل ثواب من يقيم الفرض. ("ثم مججته") أي رميته يقال: مج الرجل الشراب من فيه إذا رمى به ("أكنت شاربه؟ ") يعني لا. وقوله: (حتى وضح له ما خفي على غيره من المتشابه) دليل على أن النبي عليه السلام كان يعلم المتشابه.

(ألا ترى أنه شاورهم في أسارى بدر فأخذ برأي أبي بكر) - رضي الله عنه- وقصة ذلك أن رسول الله عليه السلام أوتي بسبعين أسيرًا فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستثار أبا بكر- رضي الله عنه- فيهم، فقال: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي به أصحابك. وقال عمر- رضي الله عنه- كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وأن الله أغناك عن الفداء. مكن عليًا من عقيل وحمزة من العباس ومكن لي من فلان لنسيب لي فلنضرب أعناقهم. فقال عليه السلام: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبابكر مثل إبراهيم" قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ

رَحِيمٌ) ومثلك يا عمر مثل نوح قال: (لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا). ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم إلا بفداء أو ضرب عنق" وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية. كذا في "الكشاف". وقوله: (في بذل شطر ثمار المدينة)، وقصته إن الكفار أرادوا أن يرموا المسلمين بقوس واحد وذلك يوم الأحزاب، فأراد رسول الله عليه السلام من غير وحي أن يبذل لهم شيئًا من ثمار المدينة ليرجع الكفار، فشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- رضي الله عنهما- فقالا: إن كان ما قلته وحيًا فسمعًا وطاعة، وإن كان رأيًا فلا نعطيهم إلا السيف، فإنا لم نعطهم في الجاهلية شيئًا منها إلا بشراء أو بقرى أفنعطيهم الدنية؟ وقد أعزنا الله بالإسلام ونحن الغالبون، فلما رأى ذلك منهم فرح بذلك، وترك ما

رأى (وأخذ برأيهما). والدليل الواضخ على أنه كان يعمل بالرأي فيما لم يوح إليه قوه تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) وقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) وهذا مما عوتب عليه، وما روي أنه عليه السلام لما دخل بيته ووضع السلاح حين فرغ من حرب الأحزاب أتاه جبريل عليه السلام وقال: وضعت السلاح ولم يضعه الملائكة، وأمره بأن يذهب إلى بني قريظة.

وروي: "أنه عليه السلام أمر أبا بكر- رضي الله عنه- بتبليغ سورة براءة إلى المشركين في العام الذي أمره فيه أن يحج بالناس، فأتاه جبريل عليه السلام وقال: لا يبلغها إلا رجل منك- أي من بني هاشم-فبعث علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- في إثره ليكون هو المبلغ للسورة إليهم" وهذا مما لم يعاتب عليه في الذي لم يقر عليه. فأما قوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى) فقد قيل هذا فيما يتلو من القرآن بدليل أول السورة: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) أي والقرآن إذا نزل. وقيل: المراد بالهوى هوى النفس الأمارة، وأحد لا يجوز على رسول الله عليه السلام اتباع هوى النفس والقول به، ولكن طريق الاستنباط والرأي غير هوى النفس، وهذا أيضًا تأويل قوله تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي) وقوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) يوضح جميع ما قلنا.

وقوله: (إلا أنا اخترنا تقديم انتظار الوحي) هذا استثناء من القول الثاني. ومدة الانتظار على مايرجو نزوله، أي ومدة الانتظار في ذلك إلى أن ينقطع طعمه عن نزول الوحي في حكم الحادثة التي نزلت عليه بأن كان يخاف الفوت فحينئذ يعمل فيه بالرأى وتبينه للناس، فإذا أقر على ذلك كان حجة قاطعة بمنزلة الثابت بالوحي.

باب شرائع من قبلنا

باب شرائع من قبلنا فالتفاوت بين القول الأول وبين الثالث إن في القول الأول شريعة من قبلنا تلزمنا على أنها شريعة من قبلنا، وفي القول الثالث تلزمنا على أنها شريعتنا، والتفاوت بين القول الثالث والرابع أن في القول الثالث أنها تلزمنا على أنها شريعتنا سواء قص الله تعالى أو لم يقص، وفي الرابع شرط اللزوم علينا أن يقص الله تعالى من غير إنكار، أو يقص الرسول عليه السلام من غير إنكار.

(الهدى: اسم يقع على الإيمان والشرائع) جميعًا; لأن الشرائع سبل الهدى وسبيل الله لا يكون إلا بالهدى. قال الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) ولأن القرآن سمى هدى أي هاديًا كقوله تعالى: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) وهو يهدى إلى ماهو من موجبات العقل وإلى ماهو لا يعرف الا سمعًا، فعلم أن الكل هدى. (ألا ترى أنها كانت تحتمل الخصوص في المكان في رسولين) أي

الاختصاص في المكان يقتضى أن يكون الرسولان في مكانين; لأن الاختصاص في المكان لكل واحد منهما إنما يكون في مكانين، فكذلك في الزمان أيضًا، ونظير رسولين بعثًا في زمان واحد من غير تبعية بينهما موسى وشعيب عليهما السلام، ونظيرهما بأن يكون أحدهما تبعًا للآخر موسى وهارون عليهما السلام، فإن النبي عليه السلام كان أصلًا في الشرائع وليس لأحد أن يقول: إن الانبياء كانوا قبله فكيف يكون هو أصلًا في شرائع النبيين قبله؟ لأنا نقول: لا يلزم من كونهم مقدمين كونهم أصلًا كالسنة قبل الظهر، فكان الأنبياء كلهم بمنزلة المؤسسين لقاعدته فكان هو أصلا في الشرائع. (وكان وارثا لما مضى من محاسن الشريعة). قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ) والإرث يثبت ملكًا للوارث وهو بعينه كان ملكًا للمورث، فهذا يدل على أن شريعة من قبلنا تصير شريعة لرسولنا عليه السلام عملًا بقضية الإرث، فعلى هذا كان الرسول المتقدم بمنزلة واحد من أمة محمد عليه

السلام، وإلى هذا أشار عليه السلام بقوله: "لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا اتباعي". (ومكارم الأخلاق) قال النبي عليه السلام: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقيل: مكارم الأخلاق في ثلاثة: إعطاء من يحرمه، ووصل من يقطعه، والعفو عمن اعتدى عليه وحكي أن سلطان سمرقند كان واليًا من جانب سلطان غزنة فجنى في عمله فأرسل سلطان غزنة إليه رسولًا ليأتي به إليه، فعلمه سلطان سمرقند فشاور في ذلك أهل مجلسه، فقال شيخ من أهل مجلسه: أنا أذهب إليه لأجلك، وهو يعفو عنك، فذهب إليه وقال هذا الشعر:

من كان يرجو عفو من هو فوقه عن ذنبه فليعف عمن دونه فعفا عنه، وقيل: آنكه سيمت نداد زر بخشش وآنكه يايت بريد سر بخشش وآنكه زهرت دهد بدو ده قند وآنكه از تو برند بدوبيوند تا شوي ازكتاب وصل وفراق دفتري از مكارم الأخلاق (التهوك): التحير.

وقوله: (من الأقوال) أي من الأقوال الثلاثة التي مر ذكرها في أول هذا الباب. بهذا الشرط أي بشرط القصة من غير إنكار. (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) وإنما أخبر الله تعالى ذلك عن صالح عليه السلام، ومعلوم أن محمدًا- رحمه الله- ما استدل به إلا بعد اعتقاده بقاء ذلك الحكم شريعة لنبينا عليه السلام. واستدل أبو يوسف- رحمه الله- على جريان القصاص بين الذكر والأنثى بقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وبه كان يستدل الكرخي- رحمه الله- على جريان القصاص بين الحر والعبد والمسلم والذمي.

والشافعي في هذا لا يخالفنا حيث استدل برجم النبي عليه السلام اليهودين بحكم التوراة كما نص عليه بقوله عليه السلام: "أنا أحق من أحيا سنة أماتوها" على وجوب الرجم على أهل الكتاب وعلى أن ذلك صار شريعة لنبينا، ونحن لا ننكر ذلك أيضا ولكنا ندعي انتساخ ذلك بطريق زيادة شرط الإحصان لإيجاب الرجم في شريعتنا، ولمثل هذه الزيادة حكم النسخ عندنا. وبين المتكلمين اختلاف في أن النبي عليه السلام قبل نزول الوحي عليه هل كان متعبدًا بشريعة من قبله؟ فمنهم من أبي ذلك ومنهم من توقف ومنهم من قال: كان متعبدًا. (وما يقع به ختم باب السنة).

باب متابعة أصحاب النبي عليه السلام وإنما جعل متابعتهم ختم باب السنة لاحتمال أنهم سمعوا من رسول الله عليه السلام، ولما كان متابعة أصحاب النبى عليه السلام بطريق الاحتمال في السماع منه وقع مؤخرا من الذي كان السماع منه قطعيا. (البردعي) -بالدال المهملة- هكذا كان مسموعا من شيخي -رحمه الله- ومقيدا بقيده، وهذا الإمام -رحمه الله-كان عظيم القدر والمنزلة في الفقه والورع حيث أنه بلغ في بغداد في سفر الحجاز ورأى فيه نفاة القياس منهم

داود الأصفهاني وعلل هو في مسألة بيع أم الولد وادعى جوازه، وقال: تيقنا بجواز بيعها، فيبقى ما كان على ما كان. وعارضه أبو سعيد البرادعي وقال: تيقنا بعدم جواز بيعها أي فيما إذا كان الولد في بطنها وشككنا في جواز بيعها، فيبقى ما كان على ما كان، فحينئذ عزم على الإقامة في بغداد فقال: ليس الحج علي بفريضة، وإظهار الحق بنشر العلم على فريضة، ونام في ليلة ذلك اليوم، ورأى في المنام قارئا يقرأ قوله تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) واستيقظ من نومه، فسمع مناديا ينادي أيها الناس أجركم الله

فقد مات داود الأصفهاني. (ومنهم من فصل في التقليد) أي ومن المشايخ وأمثالهم مثل ابن مسعود وابن عباس ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهم- (في هذا الباب) أي في باب تقليد الصحابي.

(وأفسدوا شراء ما باع بأقل مما باع) قبل نقد الثمن والقياس يجوزه كذا في "التقويم".

(لا وجه له غير هذا إلا التكذيب) أي تكذيب الصحابي. (وذلك باطل) أي القول بالتكذيب باطل؛ لأن الله تعالى أثنى عليهم بقوله: (والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ) وقال النبي عليه السلام "اتقوا الله من أصحابي" أي من القول بما يوجب نقضهم. (واحتمال الخطأ قي اجتهادهم كائن لا محالة)؛ لأنهم ما كانوا معصومين من الخطأ. (وكانوا لا يدعون الناس إلى أقوالهم) فلو كان قول الواحد منهم مقدما على الرأي لدعا الناس إلى قوله كما كان رسول الله عليه السلام يدعو الناس إلى العمل بقوله، وكما كانت الصحابة يدعون الناس إلى العمل بالكتاب والسنة وإلى العمل بإجماعهم فيما أجمعوا عليه إذ الدعاء إلى الحجة واجب.

(وإذا كان كذلك) أي إذا كان احتمال الخطأ ثابتا لم يجز تقليد مثله (وجب الاقتداء بهم في العمل بالرأي مثل ما عملوا)، فإنهم كانوا يعملون بالرأي عند عدم وجدان النص، ولا يقلد بعضهم لبعض فلو قلدناهم لكنا مخالفين لهم ولا يكون حينئذ عملنا في الرأي مثل عملهم. (ومن ادعى الخصوص) أي ومن قال بوجوب تقليد الخلفاء الراشدين وأمثالهم لا غيرهم استدل بقول النبي عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". (وبما روي في هذا الباب من اختصاصهم مما دل على ما قلنا) أي الحديث الذي روي في باب التقليد من تقليد الخلفاء الراشدين على

الخصوص دليل على أن الخلفاء الراشدين ومن يماثلهم في العلم والورع يقلدون على الخصوص لا غيرهم. أما تقليد الخلفاء على الخصوص بمثل هذه الأخاديث فظاهر وأما تقليد من يماثلهم فلمشاركتهم في العلم والورع لما أن وجوب اتباع الخلفاء لا لذاتهم بل لعلمهم وورعهم في الدين ومن يشاركهم في ذينك الوصفين كان واجب الاتباع أيضا؛ إذ الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم، فكان وجوب اتباع الخلفاء بعبارة النص، ووجوب اتباع من يماثلهم بدلالة النص مع أن النص ورد في غير الخلفاء أيضا دالا على وجوب الاتباع كقوله عليه السلام في حق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "رضيت لأمتي ما رضيه ابن أم عبد" وكقوله عليه السلام في حق معاذ رضي الله عنه: "أفقهكم معاذ" وكقوله في حق عائشة رضي الله عنها: "خذوا ثلثي دينكم من هذه

الحميراء" وقوله: (وقد كانوا يسكنون عن الإسناد) جواب شبهة ترد على قوله: أحدهما احتمال السماع والتوقيف بأن يقال لو كان السماع من رسول الله عليه السلام ثابتا لهم لأسندوا الحديث إليه. وقالوا: قال النبي عليه السلام كذا، فأجاب عنه بهذا. (ولاحتمال فضل إصابتهم في نفس الرأي) لبركة صحبة الرسول عليه السلام وتقدمهم على من بعدهم في الخيرية من حيث الزمان على ما قال عليه

السلام: "خير القرون الذين أنا فيهم ثم الذين يلونهم" الحديث وقال عليه السلام: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". ودل على هذا المعنى قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ) الآية، فلما ثبت لهم الفضيلة من حيث الذات ومن حيث الزمان كانوا يوفقون لإصابة الرأي ما لا يوفق غيرهم لمثله، فكان رأيهم أبعد عن احتمال الخطأ من رأي من بعدهم. (لتكون السنة بجميع وجوهها) وهي المتواتر والمشهور والآحاد والمرسل والمسند والقولي والفعلي وشبهها وهي: أقوال الصحابة.

(فقد ضيع الشافعي عامة وجوه السنن) حيث لم يجعل المراسيل حجة وقدم القياس على خبر الواحد، ولم يقلد قول الصحابة مع احتمال السنة فيه (مدرجة) أي طريقا. (قام الشرع بخصاله) أي بما يقتضيه ويتصف به من أصوله وفروعه. (وهذا الاختلاف) أي الاختلاف في جواز التقليد وعدمه (في كل ما ثبت عنهم من غير خلاف بينهم ومن غير أن يثبت أنه بلغ غير قائله فسكت مسلما له) أي صورة مسألة الخلاف في جواز التقليد بقول الصحابة وعدم جواز التقليد به فيما إذا ورد قول من صحابي فيما يدرك بالقياس ولم

ينقل من غيره في حكم ذلك القول تسليم ولا رد إذا لو كان وروده فيما لا يدرك بالقياس كان قول الواحد منهم حجه بلا خلاف بين أصحابنا المتقدمين والمتأخرين حتى أخذنا بقول علي -رضي الله عنه- في تقدير المهر بعشرة دراهم وأخذنا بقول أنس -رضي الله عنه- في تقدير أقل الحيض بثلاثه أيام وبقول عائشة -رضي الله عنها- في أن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين ولو نقل من غيره تسليم لذلك القول كان ذلك إجماعًا منهم فلا يجوز الخلاف فيه لمن بعدهم، ولو نقل من غيره رد كان ذلك إختلافًا بينهم في حكم ذلك القول بالرأي (وذلك يوجب الترجيح فلو تعذر الترجيح وجب العمل بأيهما شاء)، ولا يجوز لغير الصحابي أن يقول قولًا ثالثًا

يخالف قولهما لأن الحق لا يعدوهم فكان الصحابيان مجمعين على رد الثالث من القول إذ الإختلاف على القولين إجماع منهم على بطلان القول الثالث. (ثم لا يجوز العمل بالثاني الا بدليل على ما مر في باب المعارضة) وهو قوله: وإذا عمل بذلك أي بأحد القياسين لم يجز نقضه إلا بدليل فوقه يوجب نقض الأول حتى لم يجز نقض حكم أمضى بالإجتهاد بمثله -إلى أن قال- وأما الذي لا يحتمل الإنتقال فرجل صلى في ثوب على تحري طهارته حقيقيه أو تقديرًا قم تحول رأيه فصلى في ثوب آخر على تحري أن هذا طاهر وأن الأول نجس لم يجز ما صلى في الثاني إلا أن يتيقن بطهارته. (وإن كان ممن ظهر فتواه في زمن الصحابة) من التابعين كالحسن

وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي. (ووجه القول الأول أن شريحًا خالف عليًا -رضي الله عنه-)

وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- وقد صح أن عليا ً - رضي الله عنه- تحاكم إلى شريح وقضى عليه بخلاف رأيه في شهادة الوالد لوالده ثم قلده القضاء في خلافته. (وابن عباس -رضي الله عنهما- رجع إلى قول مسروق -رحمه الله- في النذر بذبح الولد) فأوجب عليه شاةٌ بعد ما كان يوجب عليه مائةٌ من الإبل. الأبظر -بالباء الموحدة والظاء المعجمة- هو الذي في شفته بظارة وهي: هنة ناتئة في وسط الشفة العليا ولا تكون لكل أحد وجعله عبدًا حيث قال: أيها العبد الأبظر لأنه وقع عليه سباء في الجاهلية والله أعلم.

باب الاجماع

باب الاجماع (في ركنه) أي في الشيء الذي يقوم به الاجماع (وشرطه) وهو الذي يتوقف عليه وجود الإجماع (وحكمه) أي أثره الثابت به (وسببه) أي الشيء الذي يفضي إلى هذا الإجماع لأن سبب الشيء ما يكون مفضيًا إليه (عزيمة) أي الأمر الأصلي الذي لم يكن ذلك باعتبار الأعذار. (أما العزيمة فالتكلم منهم) أي من العلماء الذين ينعقد الإجماع بهم وهم المجتهدون (وشروعهم في العمل فيما كان من بابه) أي من باب ذلك العمل كالمزارعة والمضاربة والشركة إذا شرع أهل الاجتهاد في عمل من

تلك الأعمال كان هو دليلًا على مشروعية ذلك العمل عنده فكان ذلك بمنزلة التكلم منه بأنه مشروع. (في نوعي الإجماع) أي القولي والفعلي بأن يكون التكلم من الكل. (وأما الرخصة) إلى آخره سمي هذا رخصة لأنا قلنا: ثبوت

الإجماع هاهنا بالضرورة وهو أنه لو لم يثبت الإجماع بهذا يلزم تفسيق بعض الصحابة وهو منتف فكان أمرًا ضروريًا دعا إلى الإجماع وهو عذر فكان رخصة. (لأن عمر -رضي الله عنه- شاور الصحابة في مال فضل عنه) يعني أن عمر -رضي الله عنه- لما شاور الصحابة في مال فضل عنده للمسلمين فأشاروا عليه بتأخير القسمة والإمساك الى وقت الحاجة (وعلي) -رضي الله عنه- في القوم (ساكت فقال له: ما تقول يا أبا الحسن؟) فقال: لم تجعل يقينك شكًا وعلمك جهلا ً!! أرى أن تقسم ذلك بين المسلمين وروى فيه حديثًا فهو لم يجعل سكوته دليل الموافقة لهم حتى سأله واستجاز علي -رضي الله عنه- السكوت مع كون الحق عنده في خلافهم. (وشاورهم في إملاص المرأة) أي في إسقاط المرأة ولدها وهو أن امرأة

جنت جناية فأمر عمر -رضي الله عنه- بإحضارها فخافت المرأة وأملصت فشاور عمر -رضي الله عنه- أصحابه في أنه هل يجب أي على عمر لأجل هذا الولد شيء أم لا. قالوا: إنما أنت مؤدب وما أردت إلا الخير فلا شيء عليك. (وعلي) في القوم (ساكت) فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ (فقال): أن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطأوا إن قاربوك أي طلبوا قربتك بهذا الجواب فقد غشوك (أرى عليك الغرة) فقال: أنت صدقتني فقد إستجاز على السكوت مع إضمار الخلاف ولم يجعل عمر -رضي الله عنه- سكوته دليل الموافقة حتى استنطقه.

(كما قيل لابن عباس -رضي الله عنهما- ما منعك أن تخبر عمر -رضي الله عنه- بقولك في العول)؟ (فقال: درته) وحاصلة أن إبن عباس ينكر العول في الفرائض أصلًا فالفريضة العائلة هي أن يكون أصحاب الفرائض أكثر من سهام المال بأن يكون هناك ثلثان ونصف كالزوج مع الأختين لأب وأم أو نصفان وثلث كالزوج مع الأخت الواحدة لأب أم والأم فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن الذي

أحصى رمل عالج عددًا لم يجعل في مال نصفين وثلثًا فإذا ذهب هذا بالنصف وذا بالنصف فأين موضع الثلث؟ مع أن ابن عباس لما يقل بالعول كان الظاهر من مذهبه أنه يدخل الضرر على من هو أسوأ حالًا كما إذا ماتت امرأة وتركت زوجًا وأما وإبنه وإبنه إبن فعلى قول عامة الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للزوج الربع ثلاث من إثنى عشر وللأم السدس سهمان وللبنت النصف سته ولبنت الإبن السدس سهمان تكملة للثلثين فتعول بسهم فتكون القسمة من ثلاثة عشر وفي الظاهر من مذهب إبن عباس -رضي الله عنهما- أنه يدخل الضرر على بنت الإبن خاصة فتأخذ البنت فريضتها سته والزوج فريضته ثلاثة والأم فريضتها سهمين والباقي هو واحدٌ لإبنة الإبن: لأنها أسوأ حالًا من البنت. ألا ترى أن بنات الإبن قد يحرمن بالبنات بأن كانت للميت ابنتان. (كان فسقا) لأنه ارتكب فعلًا حرامًا وهو السكوت عن الحق. (أو بعد الاشتهار) يعني يجعل السكوت تسليمًا بعد العرض أو بعد الاشتهار.

و (ذلك) كله (ينافي الشبهة) أي السكوت بعد مضي مدة التأمل ينافي شبهة إختيار جهة أخرى سوى جهة التسليم. (لأن الذين أفتوا بإمساك المال كان حسنًا وكذلك عدم الغرم في الإملاص). أما في إمساك المال فلأنهم إنما أمسكوا ليصرفوه إلى حادثة يقع بينهم. وأما في الإملاص فلأنهم لم يتيقنوا بأن هذا كان حيًا أو ميتًا فلذلك لم يوجبوا في مقابلته المال وهذا حسن إلا أن ما اختاره على -رضي الله عنه- كان أحسن. أما في إمساك المال فإن وقوع الحادثة متوهم والمستحق لذلك المال موجود في الحال فكانت القسمة أحسن. وأما وجوب المال في الإملاص (للصيانة عن القيل والقال) بأن لا يتمكن أحد من أن يقول: إن الخليفة قتل نفسًا أو وجب عليه مال وهو لم يؤده وفي مثل هذا الموضع لا يجب إظهار الخلاف ولكن إذا سئل يجب بيان الأحسن فلهذا سكت علي -رضي الله عنه- في الابتداء وحين سألة بين الوجه الأحسن عنده.

(فأما حديث الدرة فغير صحيح) لأن عمر -رضي الله عنه- كان يقدم ابن عباس -رضي الله عنهما- وكان يدعوه في الشورى مع الكبار من الصحابة -رضي الله عنهم- لما عرف من فطنته وحسن ذهنه وبصيرته وقد أشار عليه بأشياء فقبل منه واستحسنه وكان يقول له غص ياغواص شنشنة أعرفها من أخزم يعني أنه مثل العباس في رأيه ودهائه. (وكان عمر -رضي الله عنه- ألين للحق وأشد انقيادًا له من غيره). ألا ترى إلى ما روى عنه أنه خطب يومًا فقال في الخطبة: " ألا لا تغالوا صدقاتكم فقامت إمرأة من أخريات الصفوف وقالت: ألم تسمع قول الله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَاخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) فبكى عمر -رضي الله عنه- وقال: كل الناس أفقه من عمر حتى النساء في البيوت ".

وكان هو أسرع قبولا للحق من غيره , حتى كان يشاورهم ويقول لهم:"لا خير فيكم إذا لم تقولوا لنا, ولا خير فينا إذا لم نسمه منكم. رحم الله إمرءًا أهدى إلى أخيه عيوبه" فمع طلب بيان الحق بهذه الصفة لا يتوهم أن يهابه أحد فلا يظهر عنده حكم الشرع مهابة له, (وإن صح فتأويله إبلاء العذر فى الامتناع عن المناظرة معه) بإعتبار ما عرف من فضل رأى عمر- رضى الله عنه- وفقه, فمنعه ذلك من الإستقصاء فى المحاجة معه لا أنه سكت عن نفس الرد كما يكون من حال الشبان مع ذوى الأسنان من المجتهدين فى كل عصر فإنهم يهابون الكبار , فلا يستقصون فى المحاجة معهم حسب ما يفعلون مع الأقران , (بعد ثباته على مذهبه) أى بعد ثبات ابن عباس- رضى الله عنهما- على مذهب نفسه من عدم جواز العول لما لاح له من الدليل يعنى أظهر للصحابة عذره فى ترك الاستقصاء فى ذلك لما رأى من فضل رأى عمر- رضى الله عنه- على رأى نفسه. (وعلى هذا الأصل) أى على النوع الثانى من ركن الإجماع وهو الرخصة بأن السكوت قام مقام التكلم, فإن الصحابة إذا إختلفوا فى حادثة على أقوال كان السكوت منهم من القول الخارج عن أقوالهم بمنزلة التكلم منهم بأنه

باطل , فكان هذا السكوت على عكس السكوت فى الأول فى الحقيقة, فإن السكوت هناك كان بمنزلة التكلم بأنه حق , والسكوت هنا بمنزلة التكلم بأنه باطل, ولكن الجمع بينهما من حيث إن السكوت كليهما بمنرلة التكلم. (وكل عصر مثل ذلك أيضا) يعنى إذا اختلف أهل العصر الثانى فى حادثه على أقوال كان ذلك إجماعا منهم على أن القول الخارج من أقوالهم باطل كما فى اختلاف الصحابه- رضى الله عنهم- فى حادثة على أقوال (ومن الناس من قال: هذا سكوت أيضا) يعنى يكون هذا الاختلاف منهم سكوتًا عن وصف القول الخارج عن أقوالهم بأنه حق أو باطل , فحينئذ كان هو مسوغًا للاختلاف بأن يقول مجتهدًا آخر قولًا خارجًا عن أقوالهم, لأن مثل هذا الاختلاف لما كان ساكتًا عن وصف القول الخارج عن أقوالهم بأنه حق أو باطل لم يكن معينًا بأن القول الخارج عن أقوالهم باطل بل ساكتًا عنه فيسوغ الاجتهاد. (إن الإجماع من المسلمين حجةً لا يعدوه الحق والصواب بيقين) لقوله عليه السلام:"لا تجتمع أمتى على الضلالة" وفى كون الصواب خارجا

عن أقاويلهم يلزم الإجتماع على الضلال. (ولا يجوز أن يظن بهم الجهل) والعلم لغيرهم فى ذلك القول؛ لأنهم مكرمون بلسان النبى عليه السلام وغيرهم لم يبلغوا تلك المنزلة التى هى لهم. قال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم؛ وإصابة الحق من أجل الكرامات , فلا يجوز أن يحرموا عنها ويكرم بها غيرهم. (فعلى هذا عند بعض مشايخنا) أي من بعد الصحابة إذا إختلفوا على أقاويل كان ذلك إجماعًا منهم على أن القول الخارج عن أقوالهم باطل, فلا يجوز لأحد بعدهم أن يختار قولًا خارجًا عن أقوالهم. (وقد قيل: إن هذا بخلاف الأول) أي اختلاف من بعد الصحابة- رضي الله

عنهم- ليس كاختلاف الصحابة في أن القول الخارج عن أقوالهم باطل، حتى إن أهل العصر الثاني من عصر الصحابة إذا اختلفوا على أقوال جاز لأهل العصر الثالث أن يختاروا قولًا خارجًا عن أقوالهم إنما ذلك للصحابة -رضي الله عنهم- خاصة كرامة لهم، وليس لمن بعد الصحابة مثل كرامتهم. قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- هاهنا: ولكن المعنى الذي أشرنا إليه يوجب المساواة. أراد به قوله: إنهم إذا اختلفوا على أقاويل فنحن نعلم أن الحق لا يعدو أقاويلهم، فكان هذا بمنزلة التصيص منهم على أن الحق في هذه الأقاويل، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وفذا الذي ذكره لا يفرق بين أقوال الصحابة وبين أقوال غيرهم. وقوله: (فهو إجماع لما قلنا) إشارة إلى قوله: "فإذا لم يجعل سكوته تسليما كان فسقًا"

باب الأهلية

باب الأهلية (أهلية الإجماع إنما تثبت بأهلية الكرامة). في هذا رد لزعم بعض الناس أن الإجماع الموجب للعلم لا يكون إلا باتفاق فرق الأمة أهل الحق وأهل الضلال جميعا؛ لأن الحجة إجماع الأمة، ومطلق اسم الأمة يتناول الكل. المذهب عندنا: أن الحجة اتفاق كل عالم مجتهد ممن حول الإجماع إنما يثبت باعتبار وصف لا يثبت إلا بهذه المعاني، وذلك صفة الوساطة.

قال الله تعالى (جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) وهو عبارة عن الخيار العدول المرضين، وصفة الشهادة بقوله: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (الماجن): الذي لا يبالي ما صنع وما قيل له، والفعل من باب طلب. وقيل المفتي الماجن: الذي يعلم الناس الحيل (العصبية): الشدة أي يشتد في دفع ما يوهن مذهبه من غير أن يتأمل في أن دفعه حق أم باطل. (ليس من الأمة على الإطلاق)؛ لأن المطلق ينصرف إلى الكامل، والأمة نوعان: أمة إجابة ودعوة لا غير، وهم أمة دعوة فلا يكونون داخلين تحت هذا اللفظ. (أمهات الشرائع) مثل: الصلاة والزكاة والصوم.

(وما يجري مجراه) وحد الضمير مع تقدم الاثنين؛ لأن الرأي والاستنباط شيء واحد، فصار بمنزلة تقدم الواحد، ثم نظير الذي يجري مجراه هو الذي لا يدخل في أصله الرأي والاستنباط كالمقادير، ولكن قد يدخل في بعضها القول بالرأي مثل تقدير البلوغ بالسنين. وقيل المراد من قوله: "وما يجري مجراه" الاستدلال بالدخان على النار، فكل استنباط استدلال ولا ينعكس. (عترة) الرجل: نسله ورهطه الأدنون. (فهم المخصوصون بالعرق الطيب) لكونهم مخصوصين بقرابة

الرسول، وقال عليه السلام: "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعزتي إن تمسكتم بهما لم تضلوا بعدي" إلا أن المعاني التي ذكرناها لإثبات حكم الإجماع بها من صفة الوساطة والشهادة والأمر بالمعروف لا تختص بقوم دون قوم ولا بزمان دون زمان.

باب شروط الإجماع

باب شروط الإجماع (انقراض العصر) أي انقراض أهل العصر. وذكر في "ميزان الأصول" هو موت جميع من هو أهل الاجتهاد في وقت وقوع الحادثة والإجماع عليه، (لصحة الإجماع حجة)، أي لكون الإجماع حجة.

قال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: وأما عندنا انقراض العصر ليس بشرط؛ لأن الإجماع لما انعقد باعتبار اجتماع المعاني التي قلنا كان الثابت به كالثابت بالنص، وكما أن الثابت بالنص لا يختص بوقت دون وقت فكذلك الثابت بالإجماع، ول شرطنا انقراض العصر لم يثبت الإجماع أبدًا، لأن بعض التابعين في عصر الصحابة كان يزاحمهم في الفتوى فيتوهم أن يبدو له رأي بعد أن لم يبق أحد من الصحابة، وهكذا في القرن الثاني والثالث، فيؤدي ذلك إلى سد باب الإجماع وهذا باطل. (من بعد) أي من بعد ما اجتمعوا على حكم (لا يصح رجوع البعض عندنا)

وأما في الابتداء فخلاف الواحد كان مانعا من الإجماع فصار حكم الابتداء مخالفًا لحكم الانتهاء حيث صح للواحد مخالفة الجماعة في الابتداء ولا يصح له الرجوع بعد ما ثبت الإجماع بالجميع؛ لأن كون الإجماع حجة ثبت شرعًا كرامة لموافقة أهل الإجماع من غير أن يعقل به دليل الإصابة، وإذا كان الواحد مخالفًا لم يثبت الموافقة، فكانت مخالفته مانعة عن ثبوت الإجماع. والدليل على هذا مخالفة علي -رضي الله عنه- سائر الصحابة -رضي الله عنهم- في بيع أمهات الأولاد، فإن عنده جواز بيعهن، وعند باقي الصحابة

لا، فكان خلافه مانعًا لإجماعهم. وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: والأصح عندي ما أشار إليه أبو بكر الرازي- رحمه الله- أن الواحد إذا خالف الجماعة فإن سوغوا ذلك الاجتهاد لا يثبت حكم الإجماع بدون قوله بمنزلة خلاف ابن عباس -رضي الله عنهما- في زوج وأبوين؛ أن للأم اثنان، وللأب واحد، وعندنا للأم واحد، والاثنان للأب- وإن لم يسوغوا له الاجتهاد وأنكروا عليه قوله فإنه يثبت حكم الإجماع بدون قوله بمنزلة قول ابن عباس في حل التفاصيل في أموال الربا فإن الصحابة لم يسوغوا له هذا الاجتهاد حتى روى أنه رجع إلى قولهم فكان

الإجماع ثابتًا بدون وقاه. ولهذا قال محمد -رحمه الله-: لو قضى القاضي بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه مخالف للإجماع. (وكلهم ممن هو أمة مطلقة)، وهو أمة هداية ومتابعة، وهم المسلمون الذين لم يكن فيهم الأهواء والبدع. (وهو أن لا يكون مجتهدًا في السلف) أي مختلفًا فيه. (وفيه شبهة) أي في ثبوت هذا الإجماع حجة شبهة، (فينفذ قضاء القاضي فيه ولا ينقض لشبهة) الاختلاف في الصدر الأول، ولا يثبت

الإجماع مع وجود الاختلاف في الصدر الأول. قال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: الأوجه عندي أن هذا إجماع عند أصحابنا جميعا للدليل الذي دل على أن إجماع كل عصر معتبر نظير هذا ما إذا تزوج امرأة عشرة أيام فقضى القاضي بجوازه جاز؛ لأن عند زفر إذا تزوج امرأة إلى شهر يصح ويبطل ذكر الوقت فلو قضى بجواز النكاح ينفذ، ولو قضى القاضي برد نكاح امرأة بعيب عمى أو جنون أو نحو ذلك ينفذ قضاؤه؛ لأن عمر -رضي الله عنه- يقول برد المرأة بالعيوب الخمسة. (ولم يقل به أحد) أي بوقوع الطلاق الرجعي (عند نية الثلاث)

أما عندنا فلأنها بواين فلا يقع بها الرجعي. وأما عند الشافعي فالكنايات إذا كانت رواجع كانت بمنزلة قوله: أنت طالق فيقع به الطلاق عند نية الثلاث به فكذلك هاهنا. (وكصلاة أهل قباء بعد نزول النص قبل بلوغهم) أي بعد ما نزل النص على الرسول عليه السلام ولم يبلغ إليهم فهم صلوا إلى بيت المقدس فإذا بلغ إليهم وهم في الصلاة استداروا إلى الكعبة ولم ينسب إلى الضلال فكذا هذا. (ومن شرط الإجماع اجتماع من هو داخل في أهلية الإجماع) إلى أخره، وقد ذكر هذه المسألة قبل هذا الباب، وأعاد هاهنا لعلة وهي أنه

لما علل بأن حجية الإجماع منحصرة بالأحياء باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة والوساطة مخصوصة بهم فيشترط اجتماع جميع الأحياء كما ذكرنا، فكانت إعادة هذه المسألة لتتميم هذه العلة، والله أعلم.

باب حكم الإجماع (حكمه في الأصل) إنما قيد بقوله: "في الأصل" لأن الأصل في الإجماع أن يكون موجبًا للعلم قطعًا، وما لم يكن موجبًا للعلم قطعًا كان بسبب العارض كما إذا ثبت الإجماع بسكوت البعض وكثبوت إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- على بطلان الحكم فيما وراء اختلافهم كما أن الأصل في خبر الرسول أن يكون موجبا للعلم، وما لم يكن موجبا يكون بواسطة الشبهة وهي شبهة عدم السماع من الرسول عليه السلام فكذلك هاهنا، وقوله: (حكمًا شرعيًا) فالأولى أن يمون انتصابه على الحال لاتصافه بصفة على ما مر في شرح الخطبة في قوله: "دينا رضيًا" (ومن أهل الهوى من لم يجعل الإجماع حجة) وهو أبو بكر الأصم و

هو ساعدنا في انعقاد الإجماع وخالفنا في حكمه. (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) باز كذاريم أو رابا أنكه دوستي داشت يا با أنجه اختيار كرد. ومن إفادات شيخي- رحمه الله وأثابه الجنة- الأصل في الجمل الشرطية أن لا يتعدد الحكم بتعدد الشرط كما لو قال رجل لامرأته: إن دخلت هذه الدار وهذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ثلاثًا، فدخلت واحدة منها لم يقع شيء من الطلاق حتى تدخل تلك الأدوار الثلاث. لما أن الحكم لا يتوزع على أجزاء الشرط، ثم في قوله: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) وقع الأمر على خلاف ذلك؛ حيث ثبت الحكم بتمامه عند وجود أحد هذين الشرطين. وهما: مشتاقة الرسول أي مخالفته، وإتباع سبيل المؤمنين؛ لما أن

مشاقة الرسول عليه السلام بانفرادها أو إتباع غير سبيل المؤمنين بمجرده مثبت هذا الحكم المرتب على الجميع، وهو إصلاؤه جهنم. ثم قال -رضي الله عنه- وإنما صار هكذا هنا لأن كل واحد من هذين الشرطين متضمن للأخر، فكان عند وجود أحداهما كأنهما وجدا معًا؛ لما أن مشاقة الرسول متضمن إتباع غير سبيل المؤمنين وإتباع غير سبيل المؤمنين متضمن مشاقة الرسول، فصارا كأنهما وجدا معًا. (لأن الخيرية توجب الحقية)؛ لأن مطلق الخير هو ما كان خيرًا في التقادير كلها، وذلك لا يكون إلا بأن يكون حقًا عند الله تعالى، فإن المجتهد إذا أخطأ كان هو خيرًا في حق العمل لا في الحقيقة، فكان ذلك خيرًا من وده دون وجه. (في الإيمان والشرائع جميعا)؛ لأن الضلالة ضد الهدى، والهدى اسم يقع على الإيمان والشرائع، وعكسه، وعكسه الضلالة اسم لما ينفي الإيمان والشرائع.

(رجل رقيق) أي رقيق القلب فلا يطيق على القيام في مكانه إن رأى مكانك خاليا عنك. فقال النبي عليه السلام: ("أبي الله ذلك -أي أمري- لعمر والمسلمون") فوجه التمسك بهذا الحديث على أن الإجماع يوجب الحكم قطعًا هو أن النبي عليه السلام جعل إباء المسلمين إباء الله تعالى، فإباء الله تعالى يوجب أن لا يكون عمر إمام المسلمين حال حياة النبي عليه السلام قطعًا، فكذلك إباء المسلمين. وكذلك في حديث الخميرة.

فإن قيل: هذه الأحاديث التي ذكرتم من أخبار الأحاد فكيف تحجون بها على إثبات حكم الإجماع بأنه قطعي وموجب خبر الواحد ليس بقطعي؟ قلنا: نعم ذلك في حق كل فرد من الأخبار بحياله. أما عند الاجتماع على مضمون واحد فلا، فإن كل واحد من هذه الأخبار دال على أن حكم الإجماع ثابت قطعًا، فيثبت القطع باعتبار المضمون وإن لم يكن باعتبار كل واحد منها بانفراده كنقل أخبار المعجزات، فإن كل واحد منها بانفراده خبر الواحد وهو بانفراده لا يوجب الحكم قطعا، ولكن مضمون كل تلك الأخبار واحد وهو خلاف العادة من النبي عليه السلام مع صدور دعوى النبوة منه، فحصل لنا العلم قطعًا بأن المعجزة ظهرت على يده لتواتر الأخبار في حق هذا المضمون فكذلك هاهنا. (وذلك جائز) هذا جواب عن حرف أهل الهوى بقولهم: لأن كل واحد منهم اعتمد ما لا يوجب العلم؛ يعني يجوز أن يجتمع دليل لا يوجب العلم مع دليل أخر لا يوجب العلم فيحدث من اجتماعهما معنى يوجب

العلم لم يثبت ذلك قبل الاجتماع. (ولا ينكر في المحسوس والمشروع). أما في المحسوس: فمثل حمل الخشبة العظيمة فإنه لم يقدر واحد على حملها، يقدر على حملها خمسة رجال إذا اجتمعوا عليه، وكذلك إذا اجتمعت طاقات الحبل كان له قوة واستحكام لا يثبت ذلك قبل الاجتماع. فعلم بهذا أن للاجتماع تأثيرًا في إيراث حكم ليس ذلك للأفراد وإن كان كل واحد من تلك الأفراد لا يثبت ذلك الحكم أصلًا بانفراده. وأما في المشروع فمثل قول القاضي: شهادة الاثنين دون الواحد، ومثل وجوب الزكاة عند اجتماع أفراد الأموال وعدم وجوبها عند عدم الاجتماع، ومثل اجتماع أجزاء النجاسة في ثوب المصلي إلى غاية قدرها الشرع في المنع عن جواز الصلاة وعدم المنع عنه قبل الاجتماع إلى تلك الغاية.

(فإجماع الصحابة) -رضي الله عنهم- (مثل الآية) أي هو حجة قطعية حتى يكفر جاحده ولم يذكر العترة ولا أهل المدينة في إجماع الصحابة- رضي الله عنهم- لأن ذكر الصحابة ذكر لهم؛ لأن أسم الصحابة شمل للعترة وأهل المدينة. (والنسخ في ذلك جائز بمثله) أي النسخ بهذا الإجماع الذي بمنزلة الصحيح من الأحاد الذي هو مثله بأن أجمعوا في القرن الثاني على حكم ثم أجمع أهل القرن الثالث في ذلك الحكم على خلافه ينتسخ الحكم

الذي ثبت بإجماع القرن الثاني. أما لا يمكن النسخ بهذا الإجماع الإجماع الذي هو بمنزلة الكتاب، وهو إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- لأنه دونه، ويُشترط في جواز النسخ المماثلة في القوة.

باب بيان سببه

باب بيان سببه أي سببُ الإجماع (الداعي والناقل)،فالداعي: هو السببُ للانعقاد، والناقلُ: هو السببُ للإظهار (فيصلح أن يكون من أخبار الآحاد والقياس)، وفائدتهُ تخصصيهما في السببية دون الكتاب والمتواتر من السنة وإن كانا يصلحان للسببية أيضًا لانعقاد الإجماع. لما أن ثمرة الإجماع وهى إثباتُ العلم والعمل بالإجماع إنما تظهر في حقهماَ لا في الكتاب والمتواتر من السنة؛ لأن كلًا منهما موجبٌ للعلم بدون انضمام الإجماع إليه.

(لصار الإجماعُ لغوا)؛ لأنه حينئذ يضاف الحكمُ إلى ذلك الشيء الذي يوجب علم اليقين لا إلى الإجماع، فكان ذلك الإجماعُ بمنزلة الإجماع وقت حياة النبي عليه السلام، فإنه لا اعتبار لذلك الإجماع لكونه ضائعًا، إذ الاعتبار لقول النبي عليه السلام لا للإجماع. روى الإمام المحقق مولانا حميد الدين عن الإمام العلامة مولانا شمس الدين الكردي -رحمهما الله- فإنه قال: الإجماعُ جائزٌ بدون أن يكون ذلك مبنيًا على خبر الواحد أو القياس؛ لأن ذلك ثبت كرامةً للأمة، وإدامةً للحجة، وصيانةً للدين المستقيم، فيجوز أن يخلق اللهِ تعالى في قلوب الأمة كلِّهم شيئًا يجتمعون عليه، كما قال عليه السلام: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". قوله: (وأما السبب الناقل إلينا) فهو إسنادٌ مجازى؛ لأنه أراد به الإجماعَ الثابتَ الذي كان هو داعيًا إلى النقل فيكون هو بمنزلة الناقل حكمًا؛ لأن الشيء يضافُ إلى الشيء بأدنى ملابسةٍ ووصلةٍ بينهما، والداعي إلى

النقل في الحقيقة ظهورُ الحكم الشرعي في الخلف كما كان في السلف غيرَ أن النقلً أنما يتحقق به وينفعل فيه فأضيف إليه، فكان فيه إضافةُ الشيء إلى المحل، فكان نقلُ إجماع السلف إلينا بمنزلة نقل السنة فكما كان في نقل السنة نقلٌ بطريقة التواتر والآحاد فكذلك في نقل إجماعُ السلف، فكما أن السنةَ في أصلها موجبةٌ للعلم والعمل ثم عند شبهة عدم الاتصال في النقل كانت موجبةً للعلم دون العمل، فكذلك في نقل إجماع الصحابة -رضي اللهَ عنهم- فإن إجماع َ الصحابة في أصله موجبٌ للعلم والعمل، وعند شبهة عدم اتصال النقل إذا اتصل إلينا بالأفراد كان موجبًا للعمل دون العلم. (عَبيدة) -بفتح العين وكسر الباء- (السلَماني) -بفتح اللام- (وعلى تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت)، وعند الشافعي يجوز نكاحُ الأخت إذا كانت العدةَ عن طلاقٍ بائنٍ أو ثلاثٍ.

وأما في عدة الطلاق الرجعي فلا يجوز الاتفاق فكان المراد من العدة هنا العدةَ عن طلاقٍ بائنٍ لتظهر فائدةُ الخلاف. (وكما روي في تأكيد المهر بالخلوة) وعند الشافعي لا يتأكد المهر بالخلوة. (ومن الفقهاء من أبى النقلَ بالآحاد في هذا الباب) أي أبى نقلَ إجماع السلف بالآحاد، فقال: لأن الإجماعَ يوجبُ العلم قطعًا، وخبرُ الواحد لا يوجب ذلك، وهذا خطأٌ بينٌ، فإن قول رسول الله عليه السلام موجبٌ للعلم أيضًا، ثم يجوز أن يثبتَ ذلك بطريقة الآحاد على أن يكون موجبًا العملَ دون العلم. كذا قاله الأمام شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله-. ومن أنكر الإجماع فقد أبطل دينه كما أن من أنكر خبرَ الرسول عليه السلام في أصله فقد أبطل دينه؛ لأن القرآنَ إنما ثبت بالإجماع. كذا قاله في

"الميزان" والله أعلم.

باب القياس

باب القياس (لأن الكلامَ لا يصحَ إلا بمعناه)؛ لأنه إذا لم يكن للفظ معنىً لا يكون كلامًا؛ لأن الكلامَ هو المفيدُ، وما لم يفدْ كان مهملًا، فصار كألحان الطير (ولا يوجد إلا عند شرطه)؛ لأن شرطَ الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء،

فلا يتصورُ وجودُ المشروط بدون الشرط، إذ لو وُجد بدونه لا يكون متوقفًا عليه فيلزم أن يكون متوقفًا عليه ولا يكون متوقفًا عليه في حالةٍ واحدةٍ وهو محالٌ، (ولا يقومُ إلا عند ركنه)؛ لأن ركنَ الشيء عينُ ذلك الشيء وثبوت الشيء بدونه محالٌ، (ولم يُشرع إلا لحكمه)؛ لأن الشيء إنما يخرج عن كونه عبثًا إذا كان له عاقبةٌ حميدةٌ، وإذا لم يكن له حكمٌ لم يكن له عاقبةٌ حميدةٌ. ["باب تفسير القياس"] (وللقياس تفسيرٌ هو المرادُ بظاهر صيغته، ومعنىً وهو المرادُ بدلالة صيغته) ككلمة أفٍ تدل على الأذى بصيغتها، وتدل على حرمةِ الضرب بمعناها الذي هو معنى الصيغة وهو الإيذاءُ. (هو اسمٌ لفعل يُعرف بظاهره) وهو إيقاعُ الخشبة على جسم حي (ولمعنى يُعقل بدلالته) وهو الإيلامُ، حتى إن من حلف لا يضربُ امرأته فخنقها أو عضَّها أو مدَّ شعرها يحنث.

وقد يسمى قياسًا؛ لأن كلَ واحد من المناظرين يقيسُ بأصله، (وقد يسمى هذا القياسُ نظرًا) قيَّد بقوله: "هذا" لأنه لا يُسمى التقديرُ اللغوي نظرًا. الَمدرك: موضع الدرك، والدركُ هو العلمُ فبالقياس يُعلم الشيء، وهو دليلٌ على الشيء كالدخان يعلم به النارُ لا أن النارَ تثبتُ به، وعن هذا قالوا: القياس هو الإبانةُ وهى الإظهارُ، والإظهارُ يقتضى كون الشيء خفيًا، والحكمُ في الفرع كان خفيا، فبالقياس يُدرك ويُعلم، وكذلك (المفصِل) على هذا، فإن القياسَ موضع الفصل بين أن يكون حجةً وهى القياسُ وبين أن يكون هوى، أو هو يفصل بين الحلال والحرام، (فجعل الأصول) وهى الكتابُ والسنةُ والإجماعُ (شهودًا).

(هو شهادتها) أي شهادة النصوص، وهي كونها صالحةً للتعليل، حتى إذا كان النصُ غيرَ مدرَكٍ بالعقل كالمقدرات لا يصلح، أو كان مخصوصًا عن النص العام كشهادة خزيمة -رضي الله عنه- لا يصلح. (ولا بد من صلاح الشهادة) وهو الوصفُ الصالحُ لمناط الحكم كما في لفظ الشهادة؛ فإن الشهادةَ مخصوصةٌ بلفظٍ خاصٍ وهو لفظُ أشهدُ لا كلُ لفظٍ يدل على العلم حتى لو قال: أعلمُ أو أتيقن لا يقبل. وكذلك كل معنى في النصوص لا يكون مؤثرًا لإثبات الحكم في الفرع؛ بل المعنى هو الوصفُ الصالح لإضافة الحكم إليه. وقوله: (وعدالته) وهي أن يظهرَ أثره في موضعٍ إما بالكتاب أو بالسنة

أو بالإجماع، وهذا كتعليلنا في إسقاط النجاسة من سؤر سواكن البيوت باعتبار ضرورةِ الطواف وكثرة الدوران فإن ذلك وصفٌ معدَّلٌ ظهرت عدالته بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتابُ: فقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ولا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ) فعُلم بهذا أن للضرورة تأثيرًا في التخفيف، وكذلك قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ ولا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم) حيث أثَّرت كثرة الطواف في سقوط الاستئذان. وأما السنة: فقوله عليه السلام: "الهرة ليست بنجسة فإنها من الطوافين عليكم والطوافات". وأما الإجماعُ: فإن العلماءَ أجمعوا على أن ما ضاق أمره اتَّسع حكمه. (واستقامته للحكم المطلوب) أي مطابقته الوصفَ لحكمه بأن لم يكن فيه فسادُ الوضع ولا المخالفة بينهما كما في الشهادة، فإن الرجلً إذا ادَّعى على آخر ألفَ درهم وشهد الشهودُ بأن له عليه ألفَ غنمٍ لم يصح لعدم الملاءمة بين الدعوى والشهادة. (ولا بد من طالب للحكم على مثال المدعى وهو القائس) إلى آخره.

بيان هذا في قولنا: الخارجُ النجسُ من السبيلين ناقضٌ للطهارة، فالطالبُ أبو حنيفة -رضي الله عنه- والشاهدُ فيه قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ). والشهادةُ: دلالةُ هذا النص على خروج النجاسة من البدن. والصلاحيةُ: أن يكون هذا التعليلُ الذي ذكره هو صالحٌ لإضافة هذا الحكم إليه. وصلاحيةُ النص هي: أن هذا النصَ غيرُ معدول به عن القياس. والعدالةُ: ظهور أثره في موضعٍ من المواضع، وقد ظهر؛ فإنه إذا خرجت النجاسةُ من سرة إنسان تنتقض طهارته بالإجماع. ومعدّل ذلك أيضًا بقوله عليه السلام لتلك المستحاضة "توضئي لكل صلاة فإنه دمُ عِرق انفجر". واستدلالُ أبى حنيفة -رحمه الله- بهذا الطريق هو الطلبُ والمطلوبُ إثباتُ انتقاض الوضوء. والحاكمُ: القلبُ، والمحكومُ عليه: البدن بالعمل أو الخصم وهو الشافعي. (والبدن بالعمل أصلًا)، لأن المقصودَ من القياس هو العملُ بالبدن؛

لأن القياسَ لا يوجب العلم قطعًا ليُجعل العقد أصلًا؛ بل جعل البدن أصلا في حق العمل، ويلزم منه عقد القلب ضرورةً لقوله تعالى: (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فكان اعتقادُ القلب بصحته لضرورة وجوب العمل على البدن، فلذلك قال: "وهو القلبُ بالعقد ضرورةً". وقوله: (ولا بد من حكمٍ هو بمعنى القاضي وهو القلب)؛ لأن القلبَ يحكم بكون هذا الوصف مؤثرًا في هذا الحكم فيحكم بثبوت هذا الحكم عند وجود هذا الوصف. فإن قيل: ذَكر قبيل هذا بقوله: "ولابد من مقضي عليه وهو القلب": فلما كان القلب مقضيًا عليه كيف يصلح أن يكون قاضيًا والقاضي لا يقضي على نفسه؟ قلنا: نعم ذلك من حيث القصد. وأما من حيث الضمن فيصح؛ لأنه حينئذ كان المقصودُ بالقضاء غيرَه فيتعدى إلى القاضي أيضًا بطريقة العموم كالقاضي يقضى بثبوت الرمضانية فإنه إذا جاء واحدٌ عدلٌ يشهدُ برؤية هلال رمضانَ في يوم كان بالسماء علةٌ فالقاضي يقضى بصحة شهادته وثبوتُ رمضانَ على العموم فيجب عليه

الصومُ أيضًا بطريقة الضمِن؛ لأن القاضيَ مثلُ العامة في حق وجوب التكليف عليه، وكذلك لو قضى بالملك للمدعي عند قيام الحجة يثبت حكمه على العموم فيثبت على نفسه أيضًا حتى لا يتمكن من دعواه لنفسه بعد حكمه للمدعي به. وقوله: (لتعدية أحكامها) أثَّر لفظُ التعدية على لفظ الإبانة وإن كان هو مجازًا احترازًا عن وهمٍ أن يثبتَ الحكمُ فيه قطعًا؛ لأن لفظ الإبانة يدل على أن الحكمَ في الفرع كان ثابتًا بالنص أيضًا لكن كان خفيًا فأظهره المجتهدُ بالقياس، فحينئذ يجب أن يثبتَ الحكمُ فيه قطعًا كما لو لحق خبرُ الواحد بمجمل الكتاب يثبت الحكم هناك قطعا. (لا دليل من قبل العقل أصلًا) فإنهم قالوا: العقلُ ليس بموجب شيئًا (والقياسُ قسمٌ منه) أي من العقل.

("حتى كثرت فيهم أولاد السبايا فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا")، فوجه التمسك أنه ذمهم على ذلك الفعل، فكان ذمُ النبي عليه

السلام إياهم بسبب ذلك الفعل دليلًا على أن ذلك الفعلَ قبيحٌ، والفعلُ القبيحُ لا يجوز أن يكون مَدركًا من مدارك أحكام الشرع؛ إذ في هذا الحديث وجوهٌ من المذامِّ من طرف السبب ومن طرف الحكم، أما من طرف السبب فإنه عليه السلام جعل فعلَ القياس من نتيجة فعلٍ من حيث أصله وفسد نسَبه، فإن الفعلَ الطيب إنما ينشًا من العِرق الطيب، وأما من طرف الحكم فهو ضلالٌ وإضلالُ، فالضلالُ بانفراده كافٍ في استجلاب وصف القبح فكيف ما لو اقترن بالإضلال؟. ثم قوله: "فقاسوا" يحتملُ أن يكون قياسهم ما نقل من أصل عبادة الأصنام أن أسلافَهم المؤمنين كانوا قد صوَّروا صور الأنبياء والصلحاء الذين تقدَّموهم ليزدادوا حرصًا في طاعة الله برؤية صورهم وتذكُّرهم ما بلَغهم من مجاهدتهم وتحملهم لمشاق الدين، إلى أن نشأ أولادُ السبايا فيهم بعد انقراض أسلافهم الصالحين، فقالوا: كانت هذه الصورة يعبدُها أسلافنا فيجب علينا عبادتها أيضًا، فحينئذ كان معنى قوله: " فقاسوا ما لم يكن بما قد كان" أي قاسوا ما لم يكن من عبادة الأصنام في أسلافهم بما قد كان من وجود نفس الصور التي صورَّها أسلافهم للتذكير وزيادة الاتّعاظ والحرص في الطاعة برؤيتهم إياها لا لعبادتهم إياها، والله أعلم.

(وأما الدليلُ فشبهةٌ في الأصل) أي القياسُ دليلٌ فيه شبهةٌ في أصله، وبهذا القيد يحترز عن خبر الواحد، فإن الشبهةَ فيه في طريقه لا في أصله. وأما القياسُ فالشبهةُ في أصله، وذلك لأن وصفَ القياس يثبت باجتهاد المجتهد، وهو يحمل الخطأَ في أصله؛ لمِا أن ذلك الوصفَ غيرُ منصوص عليه لا بالعبارة ولا بالإشارة ولا بالدلالة ولا بالاقتضاء فكان ثابتًا بالرأي ضرورةً، فلا يجوز إثباتُ الحكم وهو حقُ الله تعالى بما فيه شبهةً في أصله مع كمال قدرة صاحب الحق بخلاف خبر الواحد، فإن الشبهة فيه في طريق الاتصال برسول الله عليه السلام فلو تفحصت وتتبعت ناقلًا عن ناقلٍ إلى أن بلغَ إلى رسول الله عليه السلام، كان ذلك حجةً قاطعةً؛ لأن المسموعَ من في رسول الله عليه السلام حجةٌ قاطعةٌ، ولا كذلك القياس وقد ذكرناه في أقسام السنن. (ولا يُطاع اللهُ تعالى بالعقول والآراء)؛ لأن الطاعةَ إنما تقع عند العلم بكيفيات الفعل وكمياته، والعقلُ يقف على جُمل المحاسن والمساوي بأن شكرَ المُنْعِم حسنٌ وكفره قبيحٌ، ولا يقف على كيفيات الشكر وكمياته، يعني لا يقف بما يودَّى وبأي وصف يودَّى فلا تقعُ الطاعة بالعقل نفسه خصوصًا ما إذا كان الحكمُ في المقدرّات كإعداد الركعات ومقاديرِ الزكوات

والحدود وغير ذلك. (ومنه ما يخالف المعقول) لا يريد بهذا ما يخالف العقل في الحسن والقبح من كل وجه، فأن ذلك لا يصح أصلًا لأن ما كان حسنًا عقلًا من كل وجه لا يرد الشرعُ بخلافه، وما كان قبيحًا عقلًا من كل وجه لا يرد الشرعُ أيضًا بخلافه؛ لأن السمعَ والعقلَ حجتانِ من حجج الله تعالى فلا يتناقضان، ولهذا لم يجز النسخُ فيما حَكَمَ العقلُ بحسنه أو بقبحه من كل وجه. ألا ترى أن حسنَ شكرِ المنعم وقبحَ كفرانه مما يستحيل استنساخه، وإنما أراد به ما يخالف القياسَ الشرعي من كل وجه كبقاء الصوم مع وجود الأكل أو الشرب ناسيًا وانتقاضُ الطهارة بالقهقهة في الصلاة. (أما على الوجه الأول) وهو قوله: "فلمعنى في الدليل وهو أن المطلوبَ حقُ الله تعالى فلا يجوز إثباته بما فيه شبهةً" فهذه الأمور حقوقُ العبادُ فإنهم ينتفعون بها في دنياهم. (وأما في غير القبلة فلا يشكلُ) يعني أنه من حقوق العباد وكذلك أمرُ القبلة؛ لأن أصلَه معرفةُ أقاليم الأرض لحوائجهم التي تتعلق بها؛ لأنها تتقدم في إقليم وتتأخر في إقليم، وينتفعون بمعرفتها في سيَرهم في

تجاراتهم وغيرُ ذلك فصح إثباتها بالرأي لاضطرارهم وعجزهم بخلاف حق صاحب الشرع، فأن صاحب الشرع موصوفٌ بكمال القدرة فلا يصح إثباته بدليل فيه شبهةٌ في أصله. (وأما على الوجه الثاني) وهو قوله: "ولمعنى في المدلول وهو: أن طاعةَ الله تعالى لا تنال بالعقول والآراء" فهذه الأمورُ تُعقل بالأسباب الحسية بالنظر إلى المتلفات وأمور الحرب. وذكر الأمامُ شمس الأئمة -رحمه الله-: وأما على الثاني فلأن الأصلَ فيما هو من حقوق العباد ما يكون مستدركًا بالحواس وبه يثبت علمُ اليقين كما يثبت بالكتاب والسنة. ألا ترى أن الكعبةَ جهتها تكون محسوسةً في حق من عاينها، وبعد البعد عنها بإعمال الرأي يمكن تسييرها كالمحسوسة وكذلك أمرُ الحرب، فالمقصود ُصيانةُ النفس عما يتلفها وقهرُ الخصم وأصلُ ذلك محسوسٌ، وما هو إلا نظيرُ التوقَّي عن تناول سمّ الزُعاف لعلمه أنه متلِفٌ والتوقي عن الوقوع على السيف والسكين لعلمه أنه ناقضٌ للبينة، فعرفنا أن أصلَ ذلك محسوسٌ،

فإعمال الرأي فيه للعمل يكون في معنى العمل بدليل لا شبهةَ في أصله، ثم في هذه المواضعِ الضرورةُ تتحقق إلى إعمال الرأي، فإنه عند الإعراض عنه لا نجد طريقًا أخرَ وهو دليلُ للعمل به لأجل الضرورة جوَّزنا العملَ بالرأي فيه، وهنا الضرورة لا تدعو إلى ذلك لوجود دليل في أحكام الشرع للعمل به على وجه يُغنيه عن إعمال الرأي فيه، وهو اعتبار الأصل الذي قررنا يعنى به استصحاب الحال. (وحصل بما قلنا) أي بما قلنا من الحَجر عن القياس (المحافظةُ على النصوص بمعانيها) أي بأن يتفكر في معاني النص ويعملَ بإشاراته ودلالاته، فلو اشتغل بالقياس لجاز أن يتركَ العملَ بالإشارات والدلالات مع وجودهما بسبب اشتغاله بالقياس، وهذا لأن النصوصَ قوالبَ المعاني اللغوية، فيجب علينا التبحر فيها لنقف على مضمراتها وإشاراتها واستعاراتها وكناياتها وغيرِ ذلك، فكان هو العملَ بالنصوص بجميع معانيها لا العملَ بالقياس.

وقوله: (والجواب ما تبين) وهو قوله فيما بعده بصفحة: وبيانُ ذلك في الأصل في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا)

وقوله: ("قال: فإن لم تجد في كتاب الله تعالى") ولم يقل فإن لم يكن في كتاب الله؛ لأن الله تعالى بين كل شيء فيه حيث قال: (وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)، ثم لم يذكر في هذا الحديث التمسك بالإجماع مع أن الإجماع في كونه حجة فوق القياس، لما أن الإجماع لم يكن حجة وقت حياة النبي عليه السلام. (وقد روينا ما هو قياس بنفسه) كما في قوله عليه السلام: "فإنها من الطوافين عليكم" وكقوله عليه السلام للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يقبل منك؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق"وقوله عليه السلام لعمر -رضي الله عنه- حين سأل عن القبلة للصائم، فقال عليه السلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ قال: لا.

قال: ففيم إذن"، وكذلك (عمل الصحابة) -رضي الله عنهم- بالقياس مذكور في الكتاب بعد هذا. وكان شيخي -رحمه الله- يفيد (في قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) بقوله: قوله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ) بيان العقوبة، وقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان الجناية، وقوله: (مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ)

بيان غلظ الجناية، وقوله: (مِنْ دِيَارِهِمْ) بيان غلظ العقوبة. وقوله: (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) دلالة على تكرار هذه العقوبة). فإن قيل: لفظ الأول لا يدل على التكرار بدليل ما إذا قال: أول عبد أشتريه فهو حر؛ فاشترى عبدًا يعتق من غير توقف إلى تكرار شراء عبد آخر. قلنا: هذا طرد لا نقض؛ لأن اسم الأول وإن كان يدل على التكرار فهو لا يقتضي أن يتوقف حكمه إلى وجود الثاني. ألا ترى أن الكلمة التي هي موضوعة لتكرار الفعل وهي كلمة كلما لا تقتضي وجود الفعل الثاني في حق الحنث، فإنه إذا قال: كلما تزوجت امرأة هي طالق فتزوج امرأة تطلق وان لم يوجد تكرار التزوج، فأولى أن لا يقتضي وجود الفعل الثاني في الكلمة التي فيها دلالة على تكرار الفعل، وهذا لأنه قال: "لما قال أول عبد أشتريه فهو حر" دل ذلك على أن شراء العبد يوجد منه مره بعد أخرى، ولكن لا يتوقف حثه على وجود شراء آخر؛ لأن شراء العبد قد وجد وهو شراء العبد الواحد سابقًا على غيره، فإن الأول اسم لفرد سابق لا يشاركه غيره فقد وجد ذلك فيحنث. (ودعانا إلى التأمل) ثم الاعتبار؛ لأن الله تعالى أمرنا بالاعتبار بقوله:

(فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ)، والأمر بالشيء أمر به وبما هو من لوازمه كالأمر بالصلاة أمر بالطهارة، والاعتبار لا يكون إلا بأن يكون التأمل سابقًا على الأعتبار فكان الدعاء إلى الاعتبار دعاء إلى التأمل لا محالة سابقًا ثم إلى الاعتبار. وبيان ذلك في الأصل: أي في الأصل الذي هو موجب للقياس. (ويدل عليه) أي على إضمار فعل الأمر. (قوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء") والنهي عن الشيء كان امرًا بضده خصوصًا فيما إذا لحقه الاستثناء، والبيع وإن كان مباحًا في نفسه، يجب مراعاة شرطه إذا قصد المكلف مباشرته كالنكاح وهو مباح في نفسه لكن إذا أقدم عليه يجب عليه إحضار الشهود، وكذلك صلاة التطوع وإن كانت غير واجبة فعند القصد إلى أدائها يجب مراعاة شروطها من الطهارة وستر العورة وغيرهما، فكذلك هاهنا يجب صرف الأمر المدلول الذي هو مقتض لوجوب إلى حال البيع التي هي شرط لا إلى نفس البيع.

(والحنطة اسم علم لمكيل) يعني اسم علم لنوع من طعام له صلاحية أن يكال في قدر يدخل تحت الكيل كما يقال: الماء مرو وإن لمل تكن قطرته مروية وهي ماء لكن له صلاحية الإرواء عند الانضمام إلى قطرات أخر، وقوله: ("مثلًا بمثل" حال لما سبق) وهو: "بيعوا" الذي هو مدلول غير مذكور، (والأحوال شروط) كما إذا قال الرجل لعبده: إن كلمت فلانًا قائمًا فأنت حر، فكلمه قاعدًا لم يعتق، ولو كلمه قائمًا عتق؛ لأنه بمنزلة قوله: إن كنت قائمًا وقت التكلم معه، وكقولهم: ادخل الدار غاضًا بصرك فكان الواجب غض البصر عند الدخول، فعلم بهذا أن الأحوال شروط. (والمراد بالمثل القدر) أي القدر الشرعي وهو المقدر بالكيل (لما روي في حديث آخر: "كيلًا بكيل") أي مكان قوله: "مثلًا بمثل" لما أن المماثلة من حيث الوزن أو من حيث الحبات غير مراد حتى إذا باع كيلًا من حنطة وزنه عشرة أمنًا بنصف كيل من حنطة وزنه أيضًا عشرة أمنا لا يجوز وإن كانا متساويين من حيث الوزن، فلو كانا متساويين من حيث الكيل ومتفاضلين من حيث الوزن يجوز، وكذلك لو كانا متساويين من حيث الكيل

ومتفاضلين من حيث الحبات يجوز أيضًا (والمراد بالفضل الفضل على القدر) أي على القدر الشرعي، (والمراد بالمماثلة إنما هو القدر بالنص) أي القدر الشرعي وأقله نصف صاع، (فكذلك الفضل عليها ما لا محالة) أي الفضل الذي هو موجب للحرمة، وإنما يكون بالفضل الذي هو فضل على المماثلة الشرعية بالكيل، وأدنى المماثلة الشرعية مقدر بنصف صاع. وحاصلة أن الأحوال الثلاثة من المساواة والمفاضلة والمجازفة إنما تعتبر بحسب الكيل الشرعي وأقله نصف صاع، حتى لو باع حفنة من حنطة بحفنة منها أو بحفنتين يجوز، وكذلك فيما دونهما وفيما فوقهما إلى أن بلغت الحنطة إلى نصف صاع، وإذا بلغ كلا العوضين أو أحدهما نصف صاع والآخر اقل منه كيلًا أو أكثر منه كيلًا لا يجوز، وإن كانت تلك الزيادة لا تبلغ

الكيل، نص على هذا في "الذخيرة" و"المحيط" والمعنى ي نوع بيع الجنس بالجنس فقال: في كل منها أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نحو الحنطة وأشباهها نصف صاع وذلك مدان حتى لو باع مدين من الحنطة بثلاثة أمنًا من الحنطة فصاعدًا لا يجوز، وكذلك إذا باع منوين من الشعير بثلاثة أمنًا من الشعير فصاعدًا لا يجوز. قلت: والمن الواحد مما لا يدخل تحت الكيل ومع ذلك ذكر عدم الجواز مع

زيادته على أحد المتساويين بالكيل من الحنطة والشعير. علم بهذا أن في الزيادة على المتساويين بالكيل لا يشترط الكيل في إيراث عدم الجواز. وأما ما وقع في فوائد الإمام بدر الدين الكردي -رحمه الله- في شرح قوله: "فكذلك الفضل عليها لا محالة" بقوله: أي لا يكون الفضل حرامًا ما لم يكن مكيلًا؛ لأن السابق كيل بكيل، والمراد منه أن يكون القدر والفضل معهودًا، فوجب أن يكون من جنس السابق، فيلزم من هذا أن يكون الفضل قدرًا أي كيلًا وقع على خلاف هذه الروايات التي ذكرت في هذه الكتب. (وبالإجماع فيمن باع قفيزًا جيدًا بقفيز ردئ وزيادة فلس) أي على أن يكون الفلس بمقابلة الجودة لا يجوز، وما يكون مالًا متقومًا يجوز الاعتياض عنه شرعًا. علم بهذا أن الجودة غير متقومة عند المقابلة بجنسها (ولما علم أن ما لا ينتفع به إلا بهلاكه فمنفعته في ذاته) أي لا في صفاته؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بصفات الأموال الربوية مع قيام عينها، ولما كان الانتفاع بأستهلاك أعيانها لم يعتبر صفاتها وصارت العبرة لذواتها، فلذلك هدرت جودة صفاتها

نفهم من مخاطباتنا؛ الاشتغال بطلب المعنى غير مفيد لجواز أن تكون مخاطباتنا خالية عن معنى مؤثر وحكمة حميدة بخلاف خطاب الشرع. ألا ترى أن هناك التعليل لا يصح وإن كان التعليل منصوصًا، فإنه لو قال: أعتق عبدي هذا فإنه أسود لم يكن للمخاطب أن يعدي الحكم إلى غيره بهذا التعليل، وفي خطاب الشرع لو كان التعليل منصوصًا يثبت حكم التعدية بالاتفاق كقوله عليه: "الهرة ليست بنجسة، فإنها من الطوافين عليكم والطوافات". (وإنما التعليل لإثبات حكم الفروع). هذا جواب لقول من قال بأن النص موجب بصيغته، وبالتعليل ينتقل حكمه إلى معناه، فكان تغيير الحكم المنصوص. قلنا: ليس ذلك بتغيير لحكم المنصوص؛ بل الحكم في المنصوص بعد التعليل ثابت بالنص كما كان قبل التعليل، والتغيير لحكم المنصوص إنما يكون إذا لم يبق الحكم المفهوم من النص قبل التعليل بسبب التعليل كما في تعليل الشافعي قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) بالتمليك حيث لم يبق مفهوم الإطعام الذي هوعبارة عن جعل الغير طاعمًا بالإباحة مرادًا. وأما الذي نحن بصدده فيبقى النص موجبًا لحكمه كما قبل التعليل، وإنما التعليل لتعدية الحكم إلى محل آخر لا نص فيه، فكان هذا تعميمًا لحكم

(فكان الفضل على المماثلة فيها) أي في الأرز والدخن والجص (فضلًا خاليًا عن العوض مثل حكم النص بلا تفاوت) أي مثل حكم النص في الأشياء الستة المنصوصة من الحنطة والشعير وغيرهما. (وهو كما ذكرنا من الأمثلة) أي القياس نظير ما ذكرنا من الأمثلة في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلما كان الاعتبار هناك مأمورًا به كان الاعتبار في القياس الشرعي أيضًا مأمورًابه لمساواتهما في الاعتبار. وفي "التقويم" فإن الله تعالى كما بين إهلاك قوم بكفرهم وأمر الباقين بالاعتبار بهم لينزجروا عن الكفر فلا يهلكوا فكان اعتبارًا واجب العمل به، وكذلك إذا بين اسمًا أو صفة فعلق به حكمًا من أحكامه وجب الاعتبار به في أصل آخر ووجب إثبات الحكم فيه متى وجد الوصف فيه، فإنه لا فرق بين

حكم هو تحليل أو تحريم بوصف هو كيل وبين حكم هو هلاك تعلق بوصف هو كفر. (إثبات الأحكام بظواهرها تصديقًا)، فإن إثبات انتقاض الطهارة بالخارج من السبيلين بظاهر قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الغَائِطِ) فرض تصديقه، حتى يكفر جاحده، (وإثبات معانيها طمأنينة)، فإن إثبات انتقاض الطهارة بالخارج النجس من غير السبيلين واجب للعمل به لطمأنينة القلب به لوجود علة جامعة بينهما، (وثبت به) أي وثبت بإثبات معاني النصوص (تعميم أحكام النصوص). فإن قيل: التعليل لذلك النص كون حكم النص وهو انتقاض الطهارة منحصر في الخارج من السبيلين، وبالتعليل يثبت فيه وفي غيره الذي يشاركه في الوصف الجامع بينهما وهو الفصد والحجامة. وكذلك في مسألة الربا، فإن قبل التعليل كون حكم النص منحصرًا في الأشياء الستة وبعد التعليل ثبت فيها وفي غيرها الذي يشاركها في الوصفين الجامعين من القدر والجنس كالأرز والجص والنورة.

(جمعًا بين الأصول والفروع)، فالأصول: ثبوت انتقاض الطهارة في الخارج من السبيلين، والفروع: ثبوت انتقاض الطهارة في الفصد والحجامة، (وما للخصم إلا التمسك بالجهل)، فإنهم يتمسكون في النصوص باستصحاب الحال ومآل استصحاب الحال إلى الجهل؛ لأن المتمسك باستصحاب الحال يقول: لم يثبت الحكم الحادث هنا؛ لأنا لم نعلم ما يوجب ذلك الحكم، كما إذابيع شقص من الدار فطلب الشريك الشفعة فأنكر المشتري ملك الطالب فيما في يده الذي يطلب به الشفعة. قال الشافعي: تجب الشفعة بغير بينة لأنا لم نعلم بيع شقصه وهو جهل منه. (وفي التعيين احتمال) أي وفي تعيين وصف معين من سائر الأوصاف احتمال أن لا يكون ذلك الوصف مناط الحكم، واحتمال أن يكن هو مناط الحكم كما عينا القدر والجنس في علة الربا، ووصف الخارج النجس من بدن الإنسان في انتقاض الطهارة، ومثل ذلك جائز في الشرعيات بالإجماع. (كالنصوص المحتملة) لما ذكرنا ولما ذكره الخصم كالمشترك وغيره كقوله

تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ) (وثبت أن طاعة الله تعالى لا تتوقف على علم اليقين) أي بالإجماع، فإن العام الذي خص منه البعض غير موجب لعلم اليقين كقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وقوله تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الآية، وقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ومع ذلك يجب العمل بهذه الآية طاعة لله تعالى، وكذلك خبر الواحد موجب للعمل طاعة لله تعالى مع أنه غير موجب لعلم اليقين. وأما ما أشاروا إلى الفرق بين القياس وخبر الواحد بقولهم: "وأما الدليل فشبهة في الأصل" فإن ذلك لا يجدي لهم؛ لأن دعواهم هي أن لا يطاع الله بدليل فيه شبهة كما أن صاحب الحق وهو الله تعالى كامل القدرة، فكان قادرًا على أن يقيم الدليل الذي لا شبهة فيه ويطاع به، فينتفض قولهم هذا بخبر الواحد والآية المؤولة؛ لأن فيهما شبهة، ثم بعد ذلك لا يتفاوت أن تكون الشبهة في أصله أو وصفه، فيجب أن لا يطاع الله

تعالى بدليل فيه شبهة؛ لأن صاحب الحق كامل القدرة، فلما أجمعنا على أن الله تعالى يطاع بموجب خبر الواحد والآية المؤولة علمنا أن الله تعالى يطاع بدليل فيه شبهة؛ لأن المراد من الطاعة الابتلاء، وذلك لا يتفاوت بدليل فيه شبهة أو لا شبهة فيه، ولم يمتنع عن ذلك اتصاف الله تعالى بكمال القدرة فانتقض أصلهم. وأما ما رووا من الأحاديث التي فيها مذمة الرأي فإن مراد رسول الله عليه السلام فيها الرأي الذي ينشأ عن متابعة هوى النفس أو الرأي الذي كان المقصود منه رد المنصوص نحو ما فعله إبليس. فأما الرأي الذي يكون المقصود به إظهار الحق من الوجه الذي قلنا لا يكون مذمومًا. ألا ترى أن الله تعالى أمر به في إظهار قيمة الصيد بقوله: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة- رحمه الله.

فصل في تعليل الأصول

فصل في تعليل الأصول تفسير تعليل الأصول هو أن حكم النصوص في الأصل معلول بعلة، (واختلفوا في هذه الأصول) أي في الكتاب والسنة والإجماع، أي اختلفوا في أن الأصل في النصوص ماذا؟ كونها معلولة بعلة أو غير معلولة بها؟ (وهذا أشبه بمذهب الشافعي)؛ لأنه يكتفي بدلالة التمييز ولا يشتغل بكون هذا النص معلولًا بعينه. ولهذا قال: إن حرمة الخمر معلولة اكتفاء بكون الأصل في النصوص هو التعليل، وكذلك جعل استصحاب الحال في حق الدفع والإثبات باعتبار أن الأصل عدم ثبوت الأمر الحادث، وهاهنا أيضًا الأصل هو التعليل فتشابها باعتبار الأصل، وقولنا مثل قول الشافعي في أن الأصل في

النصوص هو التعليل، لكنا نقول: ومع ذلك (لا بد قبل ذلك من قيام الدليل) على أن النص المعين معلول ولا نكتفي بكون الأصل في النصوص التعليل، وكان هذا مثل قولنا في شريك أو جار يطلب الشفعة عند سماع بيع شريكه أو جاره بدار في يده أنها ملكة، وأنكر المشتري كون الدار التي يطلب بها الشفعة أنها ملكة أنه يجب عليه إقامة البينة، على أن الدار التي يطلب بها الشفعة ملكه في الحال، وإن كان الأصل هو أن تكون الأملاك في يدك الملاك، فنحن لا نكتفي بذللك الأصل في هذا؛ لأن الشفيع هاهنا محتاج إلى إثبات الملك ابتداءً، فاستصحاب الحال لا يصلح لذلك؛ بل هو للدفع لا للإثبات، وهذا لأن الخصم لو تمسك في هذا بالأصل بأن الأصل في النصوص التعليل. نحن نقول: وإن كان ذلك كذلك لكنا قد وجدنا في النصوص نصوصًا غير معلولة فجاز أن يكون هذا النص المعين من تلك النصوص لما أن النص مع أصالته في التعليل لم يسقط احتمال كونه غير معلول فلم يبق لذلك حجة على الخصم كما قلنا في استصحاب الحال في مسألة الشفعة حيث لم تكن الأصالة هناك حجة على المشتري. (بأن النص موجب بصيغته) في المنصوص عليه بالإجماع، (وبالتعليل

ينتقل حكمه إلى معناه)؛ لأنه لو لم ينتقل لا يمكن التعدية، والمعنى من التعدية هو أن نقول: الحكم في المنصوص عليه مضاف إلى النص المعلل بهذا الوصف، لكن لهذا الوصف لا له أثر في إثبات الحكم في المنصوص عليه، وإنما يظهر أثره في الفرع، وهذا الوصف موجود في الفرع فيثبت مثل هذا الحكم في الفرع، (وذلك بمنزلة المجاز من الحقيقة) أي إضافة الحكم إلى معنى النص بمنزلة المجاز، وإضافة الحكم إلى النص بمنزلة الحقيقة لما أن الحقيقة هي ما وضع الواضع اللفظ لمعنى، فكان ذلك المعنى موجب ذلك اللفظ وضعًا، فكذلك هاهنا إن الحكم واجب بالنص وضعًا، فلذلك كان هو بمنزلة الحقيقة. والمجاز: هو أن يراد به غير ما وضع له، فكذلك ههنا لما كان الحكم ف الأصل مضافًا إلى النص وضعًا كان إضافته إلى المعنى لم تكن وضعًا فكان إضافته إلى المعنى مجازًا، ولما كان كذلك لم يعدل إلى المجاز إلا بدليل، فكذلك هاهنا لا يعدل إلى المعنى في إضافتة الحكم إليه إلا بدليل، فجاء من هذا أن الأصل في النصوص غير التعليل لتبقى الحقيقة على حقيقتها وهي إضافة الحكم إلى النص (ألا ترى أن الأوصاف متعارضة) أي أن بعض الأوصاف تقتضي حكمًا ضد ما تقتضيه الآخر. ألا ترى أن تعليل قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة" بالطعم يقتضي الحل في بيع الجص والنورة متفاضلًا، وتعليل ذلك الحديث بالقدر والجنس

يقتضي الحرمة في بيعهما متفاضلًا، والتعليل بالكل غير ممكن؛ إذ وجود هذه الأوصاف بجميعها غير ثابت في غير المنصوص؛ لأنه لو وجد الجميع كان هو عين المنصوص لا غيره فيؤدي ذلك إلى إنسداد باب القياس، (وبكل وصف محتمل) أي يحتمل أن لا يكون ذلك الوصف الذي عينه المعلل مناط الحكم، (فكان الوقف أصلًا) أي الامتناع عن التعليل كان أصلًا. (مثل رواية الحديث)، فإن اجتماع رواة الأحاديث لما كان متعذرًا قبلنا رواية كل واحد من العدول ولم نشترط الاجتماع، فكذلك هاهنا لما تعذر العمل باجتماع أوصاف النص جعلنا كل وصف علة. فإن قلت: نفهم من خطاب الشرع ما نفهم من مخاطباتنا، ومن يقول لغيره: أعتق عبدي هذا لم يكن له أن يصير إلى التعليل في هذا الأمر، فكذلك في مخاطبات الشرع لا يجوز المصير إلى التعليل حتى يقوم الدليل، وهذه شهة ترد على قولنا أيضًا وقول الشافعي، فلابد من جواب شاف يشفي مرض جهل السائل؛ قلت: ليست مخاطبات الشرع في حق التعليل مثل ما

وصارت العبرة لذواتها (وسقط اعتبار القيمة للجودة شرطًا لا علة) يعني أن شرط تحقق المساواة بينهما سقوط اعتبار القيمة؛ إذ مع اعتبار القيمة لا تتحقق المساواة، فإنه إذا باع قفيزًا جيدًا من حنطة بقفيز رديء من حنطة حتى يساوي هو قفيزًا جيدًا منها بذلك المضموم في القيمة، فحينئذ لا تبقى المساواة بينهما كيلًا. علم بهذا أن سقوط اعتبار القيمة للجودة ليكون شرط تحقق المساواة لا أن يكون سقوط اعتبار الجودة علة تحقق المساواة؛ لأن سقوط اعتبار الجودة أمر عدمي وتحقق المساواة أمر وجودي، فيستحيل تحقق الأمر الوجودي من الأمر العدمي، فلذلك يصلح أن يكون تحقق المساواة أثر العدم بل علة تحقق المساواة القدر والجنس لا غير، وسقوط اعتبار الجودة شرط تحقق المساواة. (صارت المماثلة ثابتة بهذين الوصفين) وهما القدر والجنس. فإن قيل: وجوب التسوية حكم النص فكيف أضيف وجوب التسوية إلى القدر والجنس بل التسوية توجد بهما كما في أركان الصلاة؛ أن الصلاة توجد بالأركان المعهودة ولا يضاف وجوب الصلاة إلى أركانها بل يضاف إلى الوقت نفس وجوبها وإلى النص وجوب أدائها؟ قلنا: الشرع أثبت المساواة بقوله: "إلا سواء بسواء" والمساواة لا تثبت إلا بالقدر والجنس، فكان القدر والجنس مثبتين حكم الشرع ومحصلين له فأضيف الوجوب إليهما لكونهما آخر المدارين.

النص في حق وجوب العمل في الأصل والفرع لا تغييرًا. (لأنه ما شرع إلا للقياس مرة) أي لأن التعليل ما شرع إلا لتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع كما هو مذهب العامة، (وللحجر أخرى) عند الشافعي أي التعليل يكون لحجر المعلل عن تعدية الحكم إلى غير المنصوص عليه وللتعليل بالعلة القاصرة مرة أخرى كما هو مذهب الشافعي، (وهذا يسد باب القياس أصلًا)، والإشارة راجعة إلى قوله: "وللحجر الصحي" فإن فائدة التعليل بالعلة القاصرة للمنع عن القياس عنده، ثم لا شك أن الوصف الذي يثبت الحجر عن التعدية غير الوصف الذي يثبت به حكم التعدية فما لم يتميز أحد الوصفين من الآخر بالدليل لا يجوز تعليل النص، وكذلك لو كانت الأوصاف كلها متعدية لا يمكن التعليل بكلها لما ذكرنا، فلابد لمن يكون أحد الأوصاف هو العلة، ثم ذلك الوصف مجهول، والمجهول لا يصلح استعماله

مع الجهالة لتعدية الحكم فلابد من دليل التمييز بينه وبين سائر الأوصاف حتى يجوز التعليل به، (شاهدًا للحال) أي معلولًا بعلة؛ (لأنا قد وجدنا من النصوص ما هو غير معلول) كما في قوله عليه السلام: "تم على صومك" فإن صوم الناسي عن الصوم حتى أكل ولم يفسد صومه شرعًا مع فوات الركن حقيقة غير معلول، فلا يستقيم أن يقاس عليه صحة صلاة الناسي على صلاته حتى فوت ركنًا من أركانها لما أن نص الصوم نص غير معلول بعلة، (لكن هذا الأصل) وهو كون النص معلولًا. (على مثال استصحاب الحال) يعني أن بعض النصوص لما كان غير معلول، والأصل في النصوص هو التعليل على ما بينا- كان هذا الأصل على مثال استصحاب الحال، فيكون حجة في حق الدفع لا في حق الإثبات، كما إذا غاب الحي يجعل حيًا في الدفع حتى لا يورث ماله، واحتمال موته لا يقدح في هذا الأصل، ولو مات قريب حاضر لا يرث الغائب المفقود، ويعتبر احتمال موته؛ لأن الحاجة إلى إثبات المال له فلا يكتفي بالأصل، فكذلك هاهنا الأصل في النصوص التعليل نظرًا إلى الدليل؛ لأن النص حجة من حجج الله تعالى، وكذلك العقل حجة من حجج الله تعالى، والأصل أن يكون في حجج الله تعالى الموافقة لا المخالفة، ونعني بكون النصوص في

الأصل معلولة كونها موافقة للعقل، فكان التعليل هو الأصل فيها لهذا فلا يترك هذا الأصل لاحتمال كونها غير معلولة ولا يكون حجة في الفرع للإثبات بكونها أصلًا في التعليل؛ لأن الحجة إلى الإثبات فلابد من دليل هو حجة ملزمة. (مع قيام الاختصاص في بعض الأمور) مثل النكاح بغير مهر وحل تزوج التسع وحل صوم الوصال. (فأما هاهنا فإن النصوص نوعان: معلول وغير معلول). فإن قلت: فلم لا يصح أن يقال في أفعال النبي عليه السلام إنها أيضًا على نوعين: ما يقتدى به، وما لا يقتدى به كحل تزوج التسع وغيره مثل ما ذكر ذلك في النصوص بأنها نوعان مع أن النصوص المعلولة أكثر من نصوص غير معلولة، فكذللك في أفعال النبي عليه السلام وإن كانت أفعاله التي يتبع فيها أكثر من أفعاله التي لا يتبع فيها لما أن القلة أو الكثرة غير مانعة من القول

بالتنويع كما في النصوص على ما ذكرنا. قلت: إنما لا يصح ذلك في أفعال النبي عليه السلام؛ لأن القول بالتنويع إنما يصح إذا كانت الأصالة ثابتة في الطرفين جميعًا وصح ذلك في النصوص، فإن احتمال كون النص غير معلول ثابت في كل نص مثل احتمال كونه معلولًا فيكون هذا بمنزلة المجمل فيما يرجع إلى الاحتمال، والعمل بالمجمل لا يكون إلا بعد قيام دليل هو بيان فكذلك تعليل النصوص، وأما النبي عليه السلام فما بعث إلا ليأخذ الناس بهديه، فكان الاقتداء به هو الأصل، وإن كان قد يجوز أن يكون هو مخصوصًا ببعض الأشياء والخصوصية في حقه في ذلك الشيء بمنزلة دليل التخصيص في العموم، والعمل بالعام مستقيم حتى يقوم دليل التخصيص، فكذلك الاقتداء به في أفعاله، ولأن الدليل الموجب لعلم اليقين قد قام على جواز الاقتداء به مطلقًا، وهو قوله تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وههنا الدليل هو صلاحية الوصف الموجود في النص، وذلك إنما يعلم بالرأي، فلا ينعدم به احتمال كون النص غير معلول. والدليل الواضح في الفرق بينهما هو أن كون النص غير معلول مثل كونه معلولًا فيما يرجع إلى معنى الابتلاء، بل الابتلاء بالنص الذي هو غير معلول أظهر بالنسبة إلى النص الذي هو معلول، فلما تحققت المساواة بينهما في معنى الابتلاء صح أن يقال: النصوص على نوعين: معلولة، وغير معلولة.

وأما أفعال النبي عليه السلام فالتي خصت به مع التي لم تخص به لم يتساويا لظهور أصالة أفعال التي يقتدي هو فيها بالدليل القطعي على ما ذكرنا، فلما لم يظهر أصالة كلا الطرفين على السواء لم يصح أن يقال: أفعال النبي عليه السلام على نوعينن، بل الأصل هو كون أفعاله التي يقتدي هو فيها. وأما أفعاله التي لا يقتدي هو فيها بمنزلة دليل التخصيص في العموم على ما ذكرنا، ولأن حال النبي عليه السلام لم يختلف في كونه مقتدى به؛ لأنه لا يوجد نبي غير مقتدى به، ويمكن أن يقال يوجد نص غير معلول، فلما كان كذللك لم يحتج في أفعال النبي عليه السلام إلى إقامة الدليل في أنه فيه مقتدى به أم لا؟ واحتج في النصوص إلى الدليل بأن هذا النص معلول بعلة. (ومثال هذا الأصل) أي الأصل الذي قلنا وهو أن لا يكتفي بأن الأصل في النصوص كونها معلولة بل يحتاج إلى إقامة الدليل في كل نص على حدة بأنه معلول. (إن حكم النص في ذلك معلول) أي حكم النص الذي هو الربا في المذكور وهو الذهب والفضة معلول بالوزن. (على أن النص بعينه معلول) أي هذا النص المعين معلول بالوزن،

والنص هو قوله عليه السلام: "الذهب بالذهب يداَ بيد". (تضمن حكم التعيين) أي حكماَ هو التعيين, وهذا من قبيل إضافة العام إلى الخاص كعلم النحو. (وذلك من باب الربا) أي اشتراط التعيين من أنواع أحكام الربا أي يلزم من تفويته شبهة الربا وهي النسيئة وهي حرام. (ألا ترى أن تعيين أحد البدلين) إلى آخره. هذا لإيضاح أن التعيين من باب الربا, فإن تعيين احد البدلين (شرط جواز كل بيع) ليتعين به المبيع, وتحصيل المبيع قبل العقد وتعيينه شرط جواز كل بيع. (احترازاَ عن شبهة الفضل الذي هو ربا)؛ لأن للنقد مزية على النسيئة عرفاَ وعادة, وأيد هذا المعنى قول النبي غليه السلام: "إنما الربا في النسيئة" والتأكيد بالحصر راجع إلى استدامة الربا في وجود الوصفين أو

الوصف الواحد, فإن حرمة النسيئة ثابتة عند وجود القدر والجنس أو عند وجود أحدهما بخلاف ربا الفضل إنما هو عند وجود القدر والجنس لا غير. فأما إذا كانا نسيين فلا ربا بينهما؛ لأنهما متساويان, لكن لا يجوز ذلك لكونه ربا؛ بل الحديث: "نهى عن بيع الكالي بالكالي" لكون العقد غير مفيد شيئا فكان في معنى العبث وهو حرام, أو لأن وجود المبيع وتعينه قبل عقد البيع شرط صحة العقد (وقد وجدنا هذا الحكم) وهو اشتراط التعيين (متعدياَ عنه) أي عن اشتراط تعيين الذهب والفضة بالإجماع إلى تعيين الطعام في بيع الطعام بالطعام عند الشافعي. (بشعير بغير عينة) أي نسيئة. (لما قلنا) أي من تعيين الآخر أنه شرط احترازاَ عن شبهة الفضل الذي هو ربا. فعلم بهذه الجملة أن حكم النص متعد, لأنا لا نعني بالتعليل سوى أن هذا الحكم موجود في غير هذا النص بالتعليل, وقد يوافق لذلك حكم النص والإجماع, وذلك دليل صحة التعليل, وبهذا يخرج الجواب لقول من يقول بأن الحكم فيما ذكر من الأمثلة جاز أن يثبت بالنصوص؛ لأنا نقول: هذا لا يضرنا؛ لأن حاجتنا إلى إثبات أن هذا الحكم غير مقتصر على المنصوص

عليه وهو بيع الثمن بالثمن, وقد دللنا على عدم الاقتصار على المنصوص عليه فيتفتح علينا باب التعدي, فحينئذ كان ما ورد من النصوص موافقاَ للتعليل. (وإذا ثبت التعدي فى ذلك ثبت أنه معلول) يعني أن حكم النص وهو التعيين في نص الذهب بالذهب والفضة بالفضة لما لم يكن مخصوصاَ بهذه الأشياء التي هي أثمان على أن حكمه وهو التعيين لم ينشأ من الثمينة, فلم تكن الثمينة مانعة بدليل ثبوت هذا الحكم في غير هذا النص. فعلم بهذا أنه معلول؛ لأنه لا يتعدى بدون التعليل, والشافعي علل بالثمينة ليكون ذلك مانعاَ من إلحاق غيره به, وبما ذكرنا يظهر ضعف قوله. (فإذا ثبت فيه ثبت في مسألتنا) أي فإذا ثبت التعليل باشتراط التعيين في حديث الذهب والفضة بما عللنا بالقدر والجنس. (لأنه هو بعينه ربا) أي التعليل بالقدر والجنس يوجب المساواة, فعند فوتها يلون الربا لفوات القدر بفوت المساواة (بل ربا الفضل أثبت منه) أي ربا الفضل أقوى رباَ من ربا النسيئة؛ لأن ربا النسيئة ربًا من حيث المعنى وهو أن النقد حير من النسيئة, وهو ربا من حيث المعنى, وربا الفضل ربا حقيقة ومعنى؛ لأن مناَ من الدهن منين منه رباَ حقيقة ومعنى, فكان هو أقوى في كونه رباَ, فلما ثبت ربا النسيئة بقوله عليه السلام: "يداَ بيد" في حديث الذهب والفضة فلأن يثبت ربا الفضل فيه أولى, ويلزم من هذا أن يكون قوله

عليه السلام: "الذهب بالذهب يداَ بيد" أن يكون معلولاَ بالوزن الذي ينشأ منه المساواة؛ لأن المساواة في الوزن انتفاء حقيقة الفضل وبالنقد تنتهي شبهة الفضل, فلما وجب نفي شبهة الفضل وبالنقد وجب عليه نفي حقيقة الفضل بالوزن المستوي بالطريق الأولى. (فإن النص أوجب تحريم الخمر لعينها) وعينها لا توجد في سائر الأشربة, فكيف يتعدى حكمها إلى سائر الأشربة, (وليست حرمة سائر الأشربة ونجاستها من باب التعدي) هذا جواب لقولهم: إن حكم الخمر في حق حرمة الشرب والنجاسة قد تعدى منها إلى سائر الأشربة فيجب أن يتعدى حكمها إلى الأشربة في حق الحد أيضاَ. قلنا: إنما تثبت حرمتها ونجاستها بدلائل فيها شبهة من أخبار الآحاد , والحرمة مما تثبت بالشبهات بخلاف الحد , مع أن القياس لا يجري في الحدود, ولأن وجوب الحد في سائر الأشربة لو كان بطريق التعدي من الخمر إليها لوجب على وفاق ما وجب في الخمر ولم يجب كذلك , وإن الحد يجب في الخمر بشرب قطرة منها, وفي سائر الأشربة لا يجب ما لم يسكر. (ومثال هذا الشاهد) إلى آخره أي مثال ما ذكرنا من المسألتين. أعني مسألة الذهب بالذهب ومسألة الشاهد في صفتيه أعنى الجهل ببعض أحكام

الشرع وصفة الرق فإنه لما قبلت شهادته مع صفة الجهل ببعض أحكام الشرع بطل الطعن بالجهل, وتقييدنا بالجهل ببعض أحكام الشرع يفيد في حق الشاهد المسلم؛ لأنه لو كان جاهلاَ بجميع حدود الشرع كان جاهلاَ بأشرف حدود الشرع وهو الإيمان, فلا تقبل شهادته حينئذ على المسلم. أما لو كان الشاهد كافراَ يشهد الكافر فهو مجرى على ظاهر قوله مع صفة الجهل بحدود الشرع , فإنه إن لم يعلم بحدود الشرع كلها تسمع شهادته على الكافر. وحاصلة أن الشاهد (لما قبلت شهادته مع صفة الجهل بحدود الشرع بطل الطعن بالجهل) يعني أن الشاهد إذا كان حراَ عاقلاَ بالغاَ عدلًا قبلت شهادته وإن كان جاهلاَ بحدود الشرع , وبطل طعن الخصم بأنه جاهل بحدود الشرع لما أنه تقبل شهادته مع ذلك , فكذلك ها هنا أن نص الشافعي لتعليلنا بالوزن بتعليله بالثمينة يعني أن الجهل بحدود الشرع كما لا يصلح أن يكون مانعاَ لقبول الشهادة كذلك التعليل بالثمينة أيضاَ لا يصلح أن يكون مانعاَ من التعليل بالوزن الذي هو شهادة النصوص. وأما لو وقع طعن الخصم في الشاهد بالرق صح هذا الطعن منه ويحتاج المدعى إلى إقامة البنية على حرية الشهود, ولا يسمع منه الاستدلال بكون الأصل في الآدمي هو الحرية , فكذلك لا يسمع من الشافعي دعواه بأن نص

الخمر معلول بمخامرة العقل أي بتغطيه , فيتعدى حكمها إلى سائر الأشربة في وجوب الحد والحرمة. لما أن الأصل في النصوص التعليل ما لم يقم الدليل على انه في الحال معلول بالإجماع بعلة من العلل ولا يتمكن من ذلك لما أن حرمة الخمر ثابتة لعين الخمر ولا يوجد في سائر الأشربة , فلذلك لا يثبت حكمها في سائر الأشربة وهو معنى قوله: "فكذلك هاهنا لا يصح العمل به مع الاحتمال إلا بحجة" أي في مسألة الخمر لا يتمكن الشافعي من أن يقول: إن الأصل في النصوص التعليل , فكان نص الخمر معلولاَ عملاَ بالأصل كما لا يجوز التمسك بالأصل للمدعي إذا طعن شاهده بالرق بأن يقول هو حر؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية , وهذا هو التفسير الواضح المعول عليه.

باب شروط القياس

باب شروط القياس (أن لا يكون الأصل مخصوصاَ بحكمه بنص آخر) المراد من الأصل المقيس عليه , وهو شهادة خزيمة بن ثابت -رضي الله عنه- مثلاَ , فإن ذلك الأصل , وهو شهادة خزيمة منفرد , ومخصوص بحكمه , وهو قبول شهادته منفرداَ كرامة له بنص آخر , وهو قوله عليه السلام: "من شهد له خزيمة حسبه" إذ لو تعدى منه إلى غيره يبطل الاختصاص في حقه. وإنما ذكر قوله: آخر" بسبب مقابلة النص العام الذي يقتضي العدد من الشهود في سائر الشهادات , فصار كأنه قال: اختص قبول شهادة خزيمة به بنص آخر من النص الذي يقتضي العدد على ما ذكر بعد هذا في الكتاب بقوله: إن الله تعالى شرط العدد في عامة الشهادات أي في قوله: (وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ) وقوله تعالى: (واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ) إلى

قوله: (وأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا) وذلك تنصيص على أدنى ما يكون من الحجة لإثبات الحق إنما يكون بالعدد من الشهود , وخزيمة ممن يتناوله العموم , ثم خص رسول الله عليه السلام خزيمة بقبول شهادته وحده , وكان ذلك حكما ثبت بالنص اختصاصه به كرامة له , فلم يجز تعليله أصلاَ حتى لا يثبت ذلك الحكم في شهاد غير حزيمة ممن هو مثله أو دونه أو فوقه في الفضيلة؛ لأن التعليل يبطل خصوصيته , وقصة شهادة خزيمة -رضي الله عنه- هي ما ذكره في أوائل شهادات (المبسوط) فقال: "روي أن النبي عليه السلام اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها , ثم جحد العرابي استيفاء الثمن , وجعل يقول: وا غدراه هلم شهيداَ. فقال عليه السلام: " من يشهد لي؟ فقال خزيمة بن ثابت -رضي الله عنه- أنا أشهد لك يا رسول الله أنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة , فقال عليه السلام: كيف تشهد لي ولم تحضرنا؟ قال: يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك

فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة! فقال رسول الله عليه السلام: من شهد له خزيمة فحسبه". وقوله: (وأما الثالث) أي الشرط الثالث وهو قوله: "أن يتعدى الحكم الشرعي". إلى آخره. وقوله: (وفى هذه الجملة خلاف) , والإشارة في: (هذه) راجعة إلى الشرط الثالث لا إلى ما قبله فتأنيت الإشارة باعتباره صفتها وهى الجملة , وإنما سمي جملة؛ لأن الشرط الثالث مشتمل للأحكام الخمسة فكانت جملة. (وحل للنبي عليه السلام تسع نسوة) إلى آخره. يعني وكذلك هذا المعنى في حل تسع نسوة لرسول الله عليه السلام؛ فإنه ثبت هذا الاختصاص؛ لرسول الله عليه السلام بنص آخر وهو قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) وكان هذا بعد تزوج التسع؛ وتقييده بقوله (مِنْ بَعْدُ) يدل على حل

قبله سوى النص العام الذي يقتضى الحصر على الأربع. وكذلك المعنى في السلم؛ لأن النص العام وهو وقوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس عندك" يقتضي بعمومه عدم جواز السلم إذا المسلم فيه معدوما أيضاَ كسائر البياعات لكن بنص آخر. (وهو قوله عليه السلام: "من أسلم منكم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" يثبت خصوصية جواز السلم وإن كان معدوماَ في حال البيع بصفة الأجل, فكان الأجل شرطاَ مخصوصاَ به, فلا يجوز تعليل هذا النص بأن السلم بيع كسائر البياعات فيجوز حالًا؛ لأن فيه إبطال خصوصية هذا الوصف الثابت بالنص بالسلم وذلك لا يجوز؛ لأن مثل هذا الكلام يقتضي حصر ما ذكرنا كما يقال: من دخل داري فليدخل غاض

البصر، فهذا يقتضي عدم جواز الدخول إذا كان غير غاض البصر. وهذا لأن الأصل في جواز البيع اشتراط قيام المعقود عليه في ملك العاقد والقدرة على التسليم حتى لو باع ما لا يملكه ثم اشتراه فسلمه لا يجوز، ثم ترك هذا الأصل في السلم رخصة بالنص الذي ذكرنا لكن بطريق يقدر على التسليم عند وجوب التسليم عادةً، وذلك بأن يكون مؤجلا فلم يجز التعليل فيه حتى يجوز حالًا أيضًا كسائر البياعات، لأن ذلك الحكم خاص يثبت الخصوصية بالسلم بالنص فلا تبطل الخصوصية الثابتة بالنص بالتعديل. وقوله: (فلم يستقم إبطال الخصوص بالتعديل) أي لم يستقم إبطال خصوصية السلم بالأجل بالقياس على سائر البياعات كما أطبل الشافعي ذلك حيث جوز السلم الحال بالتعديل، فكان هذا الذي ذكره نفيًا لقول الشافعي -رحمه الله. وهذا مما يعقل كرامة، لأن معنى الكرامة بالاختصاص إنما يظهر فيما يتوهم فيه الحرج بإلزامه إياه وذلك لا يتحقق في اللفظ فقد كان أفصح العرب، ولا يلحقه الحرج في لفظ النكاح والتزويج، فكان الموجب للتخصيص ملك البضع نكاحًا بغير مهر واختصاصه بالمرآة حتى لا تحل لأحد

بعده، لأنه يحرج في لزوم المال ويتأذى يكون الغير شريكًا له في فراشه من حيث الزمان، وعليه دل قوله تعالى: (ومَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا) وإنما قلنا: إن اختصاصه ملك البضع نكاحًا بغير مهر، لأنه ذكر فعل الهبة، وذلك يقتضي مصدرًا مؤنثًا وهو هبة. وقوله: (خالصة) صفة ذلك المصدر أي إن وهبت نفسها للنبي هبة خالصة بدليل قوله: (قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ) حيث ذكر علمه بفرضه عليهم على العموم وهو عبارة عن وجود الفرض عليهم ولزومه، فكان اختصاصه في حق عدم الفرض عليه وعدم لزومه. وقد أبطلنا التعليل من حيث ثبت كرامة، لأنا لو عللنا كان متعديًا منه إلى غيره فحينئذ لم يبق الاختصاص ولم يبق الكرامة، لأن كرامته إنما كانت بسبب الاختصاص. (والتقوم عبارة عن اعتدال المعاني) وذلك لأن قيمة الشيء هي التي تقوم مقام ذلك الشيء، والذي يقوم مقام غيره إنما يكون أن لو كان معادلًا في

المعنى كقيمة الثوب تقوم مقام الثوب فيه المالية، وإن كانت لا تعادله في الصورة، فكذلك قيم جميع الأشياء، فالعين مع العرض لا يعتدلان في المعنى، لأن العين ما يستغني في وجوده عن المحل، والعرض ما يفتقر في وجوده إلى العين، وهو معنى قوله: (وبين العين والمنافع تفاوت في نفس الوجود)، لأنهما يتفاوتان في وجودهما بين السلب والإيجاب كما ذكرنا أن العين لا يفتقر إلى المحل في وجوده والعرض يفتقر، ولأن العين يبقى والعرض لا يبقى، فكان بينهما تفاوت فاحش فلا يمكن التعديل بينهما في المعاني، والقيمة عبارة عن اعتدال المعاني، وقد ثبت انتفاء الاعتدال بينهما بما ذكرنا، فكان ثبوت المالية والتقويم في المناع بالعقد حكمًا خاصًا ثبت بالنص غير قابل للتعديل. فلذلك قلنا: إن تقومها في العقد لا يتعدى منه إلى الغصب فلم تضمن المنافع بالإتلاف والغصب، وهذا لأن تقومها في باب العقد للحاجة والضرورة وهو نظير حل الميتة عند المخمصة، فإن ثبوته لما كان بطريق الضرورة لم يجز تعليله لتعدية الحكم إلى محل آخر فكذلك ها هنا. (فلا يصلح إبطال حكم الخصوص بالتعليل)، أي لما ثبت تقوم المنافع في باب العقد بطريق الخصوص لا يجوز إبطال خصوصيته بالتعليل بأن يقال لما ثبت تقوم المنافع في باب العقد يجب أن يثبت تقومها في باب العدوان، لأن ذلك أمر خاص بباب العقد فيبطل خصوصيته بالتعليل.

(ومثال الثاني: من الشروط) وهو أن لا يكون حكم الأصل معدولا به عن القياس (إن أكل الناسي معدول به عن القياس) يعني إن الحكم ببقاء الصوم عند أكل الصائم ناسيًا حكم ثبت مخالفًا للقياس (وهو فوات القربة بما يضاد ركنها)؛ وهو؛ أي القياس أن تفوت القرية بالإتيان بالشيء الذي هو يضاد القربة كالأكل يضاد الصوم، (وهو القياس الصحيح)، لأن الشيء لا يبقى مع فوات ركنه سواء كان فوات الركن ناسيًا أو عامدًا، كما إذا ترك السجدة الأصلية ناسيًا حيث تف سد صلاته. (وثبت حكم النسيان بالنص) أي ثبت بقاء صوم الآكل ناسيًا بنص قوله عليه السلام: "تم على صومك فإنما أطعمك الله وسقاك". (معدولا به عن القياس لا مخصوصًا من النص) يعني أن ظاهرة قوله عليه السلام: "الفطر مما دخل" يقتضي فساد الصوم ب الأكل والشرب ناسيًا إلا أنه لم يقصد بذلك الحديث الذي روينا فيتوهم من هذا الوجه أنه مخصوص من قوله: "الفطر مما دخل" فأمكن تعليل المخصوص ليتعدى الحكم منه إلى غيره

بعلة جامعة بينهما وهي أن كلا من الناسي والخاطئ غير قاصد للفطر بالأكل والشرب، والنص المخصوص يعلل. فرد ذلك الوهم بهذا فقال: "إن بقاء صوم من أكل ناسيًا إنما ثبت معدولًا به عن القياس"، وهو جعل الآكل غير الآكل وهو مخالف للقياس الظاهر فلما جعل الناسي غير آكل لم يتناوله قوله عليه السلام: "الفطر مما دخل" حتى يخص منه الناسي بذلك الحديث، بل كان بقاء صومه مخالفًا للقياس من كل وجه، فلا يقاس عليه الخاطئ والمكره لذلك. (فيصير التعليل حينئذ لضد ما وضع له) أي تعليل النص الذي ثبت حكمه مخالفًا للقياس لضد ما وضع له التعليل، لأن التعليل إنما يكون لإثبات القياس ببقاء صوم الخاطئ، والقياس يقتضي فساده لوجود الأكل منه حقيقة، فلذلك قلنا: لو عللنا كان التعليل حينئذ لضد ما وضع له، لأن القياس في أكل الناسي يقتضي ثبوت الفطر لوجود الأكل، فالتعليل لبقاء صومه بسبب أنه لم يقصد الأكل ليلحق به الخاطئ كان التعليل لضد ما وضع له وهو باطل، لأن من المحال أن يكون ما هو الموجب للحركة هو الموجب للسكون، لأن بقاء الصوم مع فوات الصوم ضدان، والذي هو موجب لثبوت أحدهما لا يصلح أن يكون موجبًا للآخر كالنص النافي للحكم لا يجوز أن يكون مثبتًا لذلك الحكم.

(ولم يثبت هذا الحكم في مواقعة الناسي بالتعليل) هذا جواب لقولهم: بل يجري في بقاء صوم الناسي لآكله التعليل. ألا ترى أن الصائم إذا واقع ناسيًا يبقى صومه أيضًا بالقياس على من أكل ناسيًا لما أن النص لم يرد في الواقع فرد بهذا ذلك القياس فقال: لم يثبت ذلك بالقياس بل بدلالة النص لما أن الوارد في الأكل والشرب وارد في الواقع معنى، وقد مر وجهه في بيان الدلالة، فكان هذا نظير قوله عليه السلام للمستحاضة: "توضئي لوقت كل صلاة"، ثبت بهذا الحديث عدم انتقاض الطهارة في الوقت بدم الاستحاضة وهذا حكم ثابت بخلاف القياس، ومع هذا ثبت مثل هذا الحكم في صاحب الجرح السائل ونظائره بدلالة النص لا بالقياس، لأن كل واحد منها نظير الآخر من كل وجه فورود النص في واحد منها كان ورودًا في الآخر. (ألا تري أن معنى الحديث لغة أن الناسي غير جان على الصوم ولا على الطعام) بسبب وجود الفعل منه بطريق النسيان فيما لا مذكر له للعبادة، والطعام ملكه، وهذا لبيان أن الحكم في الوقائع ثابت بدلالة النص، لأن من سمع قوله عليه السلام: "تم على صومك" الحديث يفهم أن هذا الفعل ليس بجناية، لأنه أمر بإتمام الصوم كمن لا يوجد منه هذا الفعل، وكذلك آخر الحديث يفهم أن هذا الفعل ليس بجناية، لأنه أمر غير جان، لأن النبي عليه

السلام أخبر: "أن الله تعالى هو المطعم والساقي" فصاحب الطعام إذا أطعم لا يكون الطاعم جانيًا على طعامه، وكذلك هذا المعنى في الشرب وهذا المعنى بعينه من غير تفاوت موجودً في الواقع أعني أنه ليس بجان على الصوم، لأنه صدر منه هذا الفعل بإنسياء الله تعالى ولا على المرأة، لأنها منكوحته، وفي درك هذا المعنى يستوي الفقيه وغير الفقيه، فكان ثابتًا بدلالة النص يعنى أن عبارة النص تدل بمعناها اللغوي الذي يفهمه كل من يعرف العربية على ثبوت هذا الحكم في غير المنصوص عليه وهو المعنى بدلالة النص فيكون ثابتًا بالنص لا بالتعليل، فأما الخطأ والكره والنسيان فليست بسواء، لأن النسيان لا يمكن الاحتراز عنه، وهو من قبل من له الحق خلقه من غير اختيار العبد فصار عفوا. وأما الخطأ فما يمكن الاحتراز عنه فوقوعه بضرب من تقصيره وهو ذاكر للصوم فلا يمكن التسوية بينه وبين النسيان، والكره جاء لا من قبل من له الحق، والمكره في الإقدام على ما أكره مختار وهو ذاكر للصوم. ألا ترى أن العزيمة أن لا يقدم على الإطار ويثاب في الصبر عليه، وحاصله أن سبب العذر في النسيان لما كان ممن له الحق على وجه لا صنع للعباد فيه على ما أشار إليه النبي عليه السلام في قوله: "إنما أطعمك الله وسقاك" استقام أن يجعل الركن باعتباره قائمًا حكمًا، فأما في المكره والنائم والخاطئ فسبب العذر جاء من جهة العباد.

والحق في أداء الصوم لله تعالى، فلم يكن هذا في معنى سبب كان ممن له الحق. ألا ترى أن المريض يصلي قاعدًا ثم لا تلزمه الإعادة إذا برأ، والمقيد يصلي قاعدًا ثم تلزمه الإعادة إذا رفع عند القيد، وعلى هذا قال أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله-: الذي شج في صلاته لا يبنى بعد الوضوء والذي ابتلي بقيء أو رعاف يبنى على صلاته بعد الوضوء لما أن ذلك حكم معدول به عن القياس فلم يجز التعليل فيه، وما يبتنى على صنع العباد ليس نظير ما لا صنع للعباد فيه من كل وجه فلا يتقاسمان. (وكذلك ترك التسمية على الذبيح ناسيًا جعل عفوًا بالنص معدولًا به عن القياس) فلا يقاس العامد عليه لما ذكرنا أن في ذلك جعل التعليل لضد ما وضع له، ولا يمكن أن يقال فيه بالدلالة، لأنه لا مساواة بينهما فالناسي معذور غير معرض عن ذكر اسم الله تعالى، والعامد جان معرض عن ذكر اسم الله تعالى على الذبيحة. (وأما المستحسنات) إلى آخره جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: قد قلت أن ما ثبت معدولًا به عن القياس لا يحتمل التعديل، والمستحسنات هي ما ثبتت بخلاف القياس، ومع ذلك كان البعض منها قابلًا للتعليل؟

فأجاب المصنف -رحمه الله- عن هذا وقال: فمن المستحسنات (ما ثبت بقياس خفي لا معدولًا به) عن القياس، فلذلك جاز تعليل ذلك البعض. (وأما الأصل إذا عارضه أصولً فلا يسمى معدولًا) به عن القياس يعني أن المعنى الذي يتعلق به الحكم إذا عارضه معان أخر لا يكون معدولًا به عن القياس بل هو من باب الترجيح وأورد النظير في هذا ما قال علماؤنا -رحمهم الله- في مسح الرأس: أنه مسح فلا يسن تثليثه عارض هذا المعنى معنى آخر وهو كونه ركنًا في الوضوء هذا قول قيل فيه، لكن إطلاق لفظ الأصل ولفظ الجمع في الأصول يقتضي أن يراد به كثرة المقيس عليه. والأولى فيه أن يقال: مثال ذلك ما قال الشافعي في مسح الرأس إنه ركن في الوضوء فيسن تثليثه. قلنا: إنه مسح فلا يسن تثليثه ويعارض لما ذكره الشافعي أصول كثيرة من مسح التيمم ومسح الفخ ومسح الجورب ومسح الجبيرة، وهذه الكثرة التي ذكرنا إن لم توجب كون ما ذكره الشافعي معدولًا به عن القياس لكن توجب الترجيح لما قلنا على ما ذكر في الكتاب بقوله: (ولكنه يصلح للترجيح). فإن قلت: هذا الذي ذكرته من قبيل قوة ثبات الوصف على الحكم.

قلت: لا تنافي بينهما فإن لهذا الوصف وهو كون مسح الرأس مسحًا له أثر قوة الثبات على الحكم وأثر الأصول فيستدل في كل موضع ب ما يشهد هو له. وقوله: "ولكنه ربما يصلح للترجيح"، (على مثال ما قلنا في عدد الرواة) يعني أن خبر المشهور راجح على الآحاد باعتبار أن الخبر إنما صار حجة بواسطة الاتصال برسول الله عليه السلام، وبكثرة الرواة تثبت قوة الاتصال فيترجح، فكذلك ها هنا تثبت حجية الوصف باعتبار ظهور الأثر، فمتى تثبت لوصف كثرة التأثير كان هو أقوى من وصف له قلة التأثير. (وهذا الشرط واحد تسمية) أي بالنظر إلى قوله: "والشرط الثالث" أو بالنظر إلى وصف التعدي فإنه شيء واحد، ومجموع كل من التفصيل راجع إلى وصف التعدي. والدليل على صحة التأويل الأول ما ذكره شمس الأئمة -رحمه الله- بقوله: وهو شرط واحد اسما. والدليل على صحة التأويل الثاني ما ذكر في "التقويم" في هذا الموضوع بقوله: وأما فصل تعدي الحكم إلى آخره (وجملة تفصيلًا) أي أصول

كثيرة من حيث التفضيل. والدليل على هذا التأويل ما ذكره شمس الأئمة -رحمه الله- بقوله: هو شرط واحد اسمًا ولكن يدخل تحته أصول. وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لقوله: (أن يكون الحكم المعلول شرعيًا لا لغويا) أي ولذلك قلنا: إن تعليل الشافعي في استعمال ألفاظ الطلاق في باب العناق باطل، فإنه يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت حرة ونوى به الطلاق فإنها تطلق بالإجماع فيجب على قياس ذلك أن المولى إذا قال لأمته: أنت طالق ونوى به الحرية أن يصح ذلك وتعتق. قلنا: هذا باطل، لأن التعليل شرع لإثبات حكم شرعي، وإنما هذا من باب استعارة الألفاظ بعضها لبعض وذلك من باب اللغة، ثم قلنا: إن ذلك الذي ذكره لم يصح من حيث الاستعارة أيضًا، لأن الاستعارة إنما تصح عنه المشابهة بين المستعار منه وبين المستعار له في الوصف الخاص، ولا مشابهة بين العناق والطلاق في الوصف الخاص، لأن الإعتاق عبارة عن إحداث القوة التي يحصل بها صفة المالكية.

والطلاق عبارة عن إزالة المانع من الانطلاق، ولا مشابهة بين إحداث القوة وإزالة المانع فلا تصح الاستعارة. وأما استعمال لفظ التحرير في الطلاق فليس ذلك عندنا للمشابهة معنى بل باعتبار أن ما يزيل الرقبة كان سببًا لزوال ملك المتعة فلا يكون سببًا لإزالة ملك الرقبة فلا يصلح كناية عنه. وقوله: (وكذلك جواز النكاح بألفاظ التمليك كالهبة والبيع واستعارة كلمة النسب للتحرير) كما إذا قال لعبده: هذا ابني أي كان باطلًا، لأنه معطوف على ما قبله، وفيه لفظ البطلان، وكذلك ذكر شمس الأئمة -رحمه الله- فقال: وكذلك الاشتغال بالقياس لإثبات الاستعارة في ألفاظ التمليك للنكاح يكون اشتغلًا بما لا معنى له. فإن قلت: ما وجه ذكر البطلان في هاتين المسألتين مع أن علماءنا -رحمهم الله- اتفقوا على جواز المولى إذا قال لعبده: هذا ابني، وهو ممن يولد مثله لمثله يعتق بالاتفاق؟ قلت: ذكر البطلان في هاتين المسألتين من حيث المقايسة بأن يقال: لما جاز

النكاح بلفظ النكاح والتزويج وجب أن يجوز بألفاظ التمليك بالقياس عليه، وكذلك في قياس لفظ النسب على لفظ التحرير لا من حيث ذكر السبب وإرادة المسبب بطريقه الكناية على ما صرح به الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- في "المبسوط"، وقي "أصول الفقه" فقال في باب الهبة من نكاح "المبسوط": والمعنى فيه أن هذا ملك يستباح به الوطء فينعقد بلفظ الهبة والتمليك كملك اليمين، ثم قال: وهذا كلام على سبيل الاستدلال لا على سبيل المقايسة، لأن صلاحية اللفظ كناية عن غيره ليس بحكم شرعي ليعرف بالقياس بل طريق معرفة ذلك النظر في كلام أهل اللغة، وهذا إشارة إلى مذهبهم في الاستعارة، لأنهم يستعيرون اللفظ لغيره لاتصال بينهما من حيث السببية كما قال: (إني أراني أعصر خمرا) أي عنبًا، فبالعصر يصير خمرًا، وكذلك النبات يسمى سماء، لأنه نبت بسبب المطر الذي ينزل من السحاب- فالعرب تسمى السحاب سماءً- فإذا ثبت هذا فنقول: هذه الألفاظ سبب لملك الرقبة وملك الرقبة في محل ملك المتعة موجب لملك المتعة فللاتصال بينهما سببًا يصلح هذا اللفظ كناية عن ملك المتعة. وذكر في عتق "المبسوط" وإن قال: هذا ابني ومثله يولد لمثله يعتق ويثبت نسبه منه، لأن المحل لما كان قابلًا للنسب وهو محتاج إلى النسب يثبت نسبه

منه والنسب لا يثبت مقصورًا على الحال بل إنما يثبت من وقت العلوق، فتبين أنه ملك ولده فعتق عليه، وكذلك لو كان نسبه معروفا من الغير يعتق عليه وإن لم يثبت نسبه، لأنه مكذب شرعًا فيه حتى ثبت نسبه من الغير، ولكن هذا التكذيب في حكم النسب دون العتق فهو في حكم العتق بمنزلة من لا نسب له فإن المرء مؤاخذ بزعمه، وفي زعمه أنه عتق عليه من وقت العلوق فيصدق فيه. وذكر صاحب الكتاب في باب الحقيقة والمجاز أنه يعتق ها هنا عملًا بحقيقته دون مجازه، لأن ذلك ممكن، فالنسب قد يثبت من زيد، ويشتهر من عمرو فيكون المقر مصدقًا في حق نفسه. قلت: فعلم بهذا كله أن صحة النكاح بألفاظ التمليك وثبوت التحرير بلفظ النسب لم يكونا بالقياس، ولا بالاستعارة بل صحة النكاح بألفاظ التمليك بطريق التسبيب، وصحة التحرير بلفظ النسب بطريق التصديق، وما ذكر بلفظ الاستعارة في بعض ألفاظ "المبسوط" كان هو على طريق التوسع، وفي هذا السؤال الذي سألت عنه لشبهة وقعت فيك كنت متصفًا طول الزمان بصفتك، فانكشفت الشبهة وانزاحت الريبة بهذه الأجوبة المأخوذة من ال محال المعول عليها فاغتنمها. (وكذلك التعليل بشرط التمليك في الطعام). قاس الشافعي الطعام

على الكسوة، وقال في باب الكسوة: لا تصح بدون التمليك كذا في الطعام. (فلا يكون ما يعقل بالكسوة حكمًا شرعيًا)، لأن ما يعقل بالكسوة عين الكسوة فالنص يقتضي أن تكون الكفارة عين الثوب ولم يصر عين الثوب كفارة إلا بالتمليك فيثبت التمليك ضرورة وما يعقل بالكسوة وهو الثوب لغوي لا شرعي. وذكر الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: فأما الكسوة فهو عبارة عن الملبوس دون فعل اللبس ودون منفعة الثوب وعين الملبوس لا يصير كفارة إلا بالتمليك من المسكين، فأما الإلباس فهو تمكين من الانتفاع بالملبوس. (وكذلك التعليل لإثبات اسم الزنا للواطة واسم الخمر لسائر الأشربة) أي تعليل أبى يوسف ومحمد -رحمهما الله- نص الزنا لتعدية الحكم أو

إثبات المساواة بينه وبين اللواطة يكون فاسدًا، لأن طريق معرفة الاسم النظر في موضوعات أهل اللغة لا الأقيسة الشرعية. وكذلك في سائر الأشربة سوى الخمر لا يجب الحد بشرب القليل ما لم يسكر، واشتغال الخصم بتعليل نص الخمر لتعدية الحكم أو لإثبات المساواة. ويقول إنما سمي الخمر خمرًا لمخمرتها العقل وهي موجودة في سائر الأشربة فكان قليلها حرامًا، ويجب الحد بشرب القليل عند محمد والشافعي في بعض الروايات كما في الخمر فاسد، لأن الكلام في إثبات هذا الاسم لسائر الأشربة. (والثاني: من هذه الجملة) أي من الشرط الثالث الذي هو مشتمل على الجمل (فإن حكم التعليل التعدية عندنا) فإن ثبتت التعدية يصح التعليل وإلا فيبطل لما أن شرعية الأسباب لأحكامها، فإذا لم تثبت الأحكام تبطل الأسباب كشرعية الشراء لإثبات الملك، وإذا أضيف إلى محل لا يقبله يلغو. (فيبطل التعليل بدونه) أي بدون التعدية فالتذكير لتأويل المذكور.

(حتى جوز التعليل) بالثمنية، والثمنية مقصودة على الذهب والفضة. (مثل سائر الحجج)، والحجة ما أوجب الحكم، فبعد الإيجاب لا يخلو لو كانت الحجة عامة أوجبت الحكم على العموم وإن كانت خاصة أوجب الحكم على الخصوص، فكذلك ها هنا إن كان الوصف المؤثر خاصًا يثبت الحكم على الخصوص كالثمنية في الذهب والفضة، وإن كان الوصف عامًا يثبت الحكم على العموم كالطعم والجنس أو القدر والجنس، وهو معنى قوله: (بل يعرف ذلك بمعنى في الوصف). فإن قلت: لو كان تعليل الذهب والفضة بالثمنية باطلًا بسبب أنها تعليل بالعلة القاصرة لوجب أن يكون تعليل علمائنا في الزكاة في مسألة الحلي

بالثمنية باطلا، وقد جوز ذلك المصنف -رحمه الله- حيث قال في باب الركن: وهو جائز أن يكون وصفًا لازمًا مثل الثمنية جعلناها علة للزكاة في الحلي فيكيف جاز ذلك التعليل في الحلي فكيف جاز ذلك التعليل في تعليلنا وبطل في تعليل الشافعي وفي كلا المذهبين هو تعليل بالثمنية من غير تعيير؟ قلت: لا نسلم عدم التغيير بل هذا من قبيل ما اتحد صورته واختلف معناه، فإن مراد علمائنا -رحمهم الله- من التعليل بالثمنية في مسألة الحلي تعدية الحكم من المضروب إلى غير المضروب وسواء كان غير المضروب تبرأ مكسورًا أو حليًا مصوغًا أو حلية سيف أو منطقة أو غير ذلك ففي جميعه الزكاة إذا بلغ تعليلًا بالعلة المتعدية في حق وجوب الزكاة، والشافعي لم يوجب الزكاة في حلي النساء في أحد قوليه. لأنه لم يعلل بالثمنية بل ألحقها بسائر أموال البذلة لكونها مباح الابتذال فلا

تجب فيها الزكاة لذلك، ومراد الشافعي من التعليل بالثمنية في باب الربا قصر حكم الربا على الذهب والفضة ومنع سائر الموزونات كالحديد والرصاص من الإلحاق بهما فكان تعليله بالثمنية تعليلًا بالعلة القاصرة، ولا اعتبار لاتحاد الصورة بعد تغايرهما واختلافهما في المعنى. ألا ترى أن المنافقين يقولون للنبي عليه السلام (نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وكذلك المخلصون أيضًا يقولون: (نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) وهما من حيث الصورة واحد ولكن من حيث المعنى مختلف، فالمنافقون كاذبون قال الله تعالى: (واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والمخلصون مؤمنون على التحقيق قال الله تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا). فعلم بهذا أنه لا اعتبار لنفس التعليل بالثمنية في كونها قاصرة أو متعدية بل الاعتبار لقصد المعلل أنه أراد بالتعليل كون العلة قاصرة أو متعدية بل الاعتبار لقصد المعلل أنه أراد بالتعليل كون العلة قاصرة أو متعدية فيثبت الحكم بحسب إرادته إن كان مراده القاصر وإن مراده المتعدية فصحيح. بل يعرف ذلك لمعنى في الوصف "أي إنما يعرف كون الوصف عله لكونه مؤثرًا في إثبات ذلك الحكم أو لكونه مخيلًا عند بعض أصحاب الشافعي أو لكونه مطردًا عند أصحاب الطرد على ما يأتي.

(والنص فوق التعليل فلا يصح قطعة عنه) أي فلا يصح قطع الحكم عن النص. فإن قيل: ثبوته بالتعليل لا يوجب انقطاع الحكم عن النص. ألا ترى إلى صحة قولنا: القياس جائز بالنص والسنة والدليل المعقول، فلو انقطع الحكم عن الدليل المعقول عند وجود النص لما صح قولنا بالدليل المعقول بعد ذلك. قلنا: معنى قولنا القياس جائز بالنص والسنة والدليل المعقول أي لو نظرنا إلى كل واحد منها كان هو كافيًا لإثبات جواز القياس، ولا يمكن ذلك فيما نحن فيه بل ثبوت الدليل المعقول بطريقة التبعية إذا كان مضافًا إليهما يصير المعقول مساويًا للنص، والتبع لا يساوي الأصل ولو كان مضافًا إلى المعقول انقطع الحكم عن النص وذلك لا يجوز. (لأن التعليل لا يصلح لتغيير حكم النص به فكيف لإبطاله!) يعني أن الحكم لو كان مضافًا إلى العلة في المنصوص عليه يبقى النص ضائعًا مهملًا لا موجبًا للحكم أصلًا، وهو إبطال للنص في حق إيجاب الحكم، والوصف لا يصلح أن يكون مغيرًا لحكم الأصل كما يلزم ذلك في بصحة ظهار الذمي فأولى أن لا يصلح لإبطال حكم الأصل، ولو أضيف الحكم على الوصف في المنصوص عليه يلزم ذلك.

(على أن التعليل بما لا يتعدى لا يمنع التعليل بما يتعدى) لجواز أن يكون للنص وصفان: أحدهما- لا يتعدى كالثمنية، والثاني- يتعدى كالقدر عندنا أو كان أحدهما أكثر تعديًا من الآخر كالقدر والجنس فإنه أكثر تعديًا من الطعم في المطعومات، والتعليل بالوصف الذي لا يتعدى لا يمنع التعليل بالوصف الذي يتعدى، لأنا أمرنا بالاعتبار، وبهذا الوصف أمكن الاعتبار فوجب التعليل به فيبطل دعوى فائدة اختصاص النص به، وهذا في الحاصل منع لما ادعاه الخصم من إفادة اختصاص النص به. (ومن هذه الجملة) أي ومن جملة الشرط الثالث للقياس (أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغير). المراد من عدم التغير هنا عدم التغير في حق الفرع يعني ينبغي أن يثبت حكم النص في لفرع على وفاق ثبوته في حق الأصل من غير تعير. وأما اشتراط عدم تغير حكم النص في حق النص فيما يجيء في الشرط

الرابع بعد هذا. وقوله: (إن السلم الحال- يحتمل أن يكون بتشديد اللام كالدين الحال- أن يكون المبيع موجودًا مملوكًا مقدورًا) أما اشتراط كونه موجودًا فلقوله عليه السلام: "لا تبع ما ليس عندك" وكونه مملوكًا فللإجماع، فإنهم أجمعوا على عدم جواز بيع ملك الغير بغير إذنه، وكونه مقدورا فلنهي النبي عليه السلام "عن بيع الآبق". (وتفسيره) أي وتفسير كون الرخصة بصفة الأجل (نقل الشرط الأصلي) أي نقل الشرط الأصلي) أي نقل الشرط الأصلي في البيع وهو أن يكون المبيع موجودًا مملوكًا مقدورًا إلى ما يقوم مقامه وهو الأجل، وهذا من قبيل إقامة السبب مقام السب والشيء يبقى تقديرًا ببقاء ما يقوم مقامه، فصار كأن الشرط الأصلي في البيع موجودًا في السلم بسبب أجل قام مقامه.

والخصم متى علل لإثبات جواز السلم الحال كان ذلك منه إسقاطًا للشرط الأصلي في البيع لا إلى ما يخلفه، فكان إسقاطًا للشرط الأصلي في البيع لا إلى ما يخلفه، فكان إسقاط ل لخلف بعد سقوط الأصل، فلا يجوز التعليل به لكونه مغيرًا للحكم المقيس عليه، وهو أن الشرع رخص بطريق النقل لا بطريق الإسقاط. وبالتعليل تصير الرخصة بطريق الإسقاط من كل وجه، فلا يجوز لكون التعليل تغييرا لحكم الأصل في الفرع (فاستقام خلفًا عنه) أي أمكن أن يكون الأجل خلفًا عن كون المبيع موجودًا مملوكًا مقدورًا لما أن أقامه السبب مقام المسبب شائع في الشرع كإقامة نوم المضطجع مقام الحدث، فإنه لما قام مقام ال حدث صار كأن الحدث موجودًا تقديرًا حتى انتقض الوضوء به وإن لم يوجد الحدث حقيقة، وكذا السفر أقيم مقام المشقة لهذا، (والأجل يصلح) سببًا للاكتساب الذي يحصل به المبيع، وإذا كان كذلك كان ذلك مملوكًا مقدورًا تقديرًا ل قيام الأجل مقامه فيصح عند وجوده لوجود شرط جواز البيع تقديرا على ما ذكرنا. (ومن ذلك) أي ومن التعليل الذي أوجب تغيير حكم الأصل في الفرع (في الخاطئ) وهو من ليس بقصد للفطر بل هو من اشتغل بفعل مباح له نحو المضمنة مثلًا فسبق الماء حلقه خطأ، والمكره هو أن رجلًا خوف بالسيف

على القتل أو على إتلاف العضو إن لم يأكل الطعام في نهار رمضان والمكره صائم فأكله لم يكن ذلك آكلا بطريق القصد آكلا بطريق الجبر، فالشافعي قاس الخاطئ والمكره على الناسي وعلل ذلك بما قلنا. (لم يكن صائمًا والقصد لم يوجد) أي قصد الأكل لم يوجد مع أن مرتبة الشرط وهو النية أدنى من مرتبطة الركن، فلما أثر فوات الشرط في فوات الصوم فيمن لم ينو الصوم أصلًا كان أولي أن يؤثر فوات الركن وهو الإمساك بالأكل وإن كان في حال النسيان، لكن لم يؤثر ذلك بالنص الوارد على خلاف القياس، فلا يقاس عليه غيره خصوصًا ما إذا كان بينهما فرق. وليس لعدم القصد اثر في الوجود "أي في وجود الصوم مع قيام حقيقة العدم" أي عدم الصوم يعنى الصوم إذا عدم فعدم القصد لا يؤثر في وجود الصوم كما إ ذا لم يعلم بشهر رمضان ولم يأكل في أيامه لا يكون صائمًا مع أن عدم القصد موجود. علم أن عدم القصد لا يؤثر في الوجود فينبغي أن لا يبقى الصوم في الخطأ مع فوات الركن بالطريق الأولى، لأنه إذا لم يعلم رمضان كان الشرط معدومًا، وقد أثرت ذلك في عدم الصوم فأولى أن يؤثر فوات الركن في انعدام الصوم في صورة الخطأ.

وقوله: (لكنه لم يجعل فطرًا) متعلق بقوله: "لأن بقاء الصوم مع النسيان ليس لعدم القصد"، (وعلى هذا الأصل سقط فعل الناسي) أي على الأصل الذي قلنا وهو قوله: "لكنه لم يجعل نظرًا بالنص" وهذا تتميم لمجموع قوله: ومن ذلك قولهم في الخاطئ والمكره" لإيضاح الفرق بين الناسي وبين الخاطئ والمكره لا أن يكون نظيرا آخر لتغيير حكم النص بالتعليل ابتداء، لأن النسيان أمر جبل عليه الإنسان، وعن هذا قالوا: ليس في وسع الإنسان دفع النسيان. وإذا كان كذلك كان الإنساء من الله تعالى من غير صنع للعبد فيه فلم يكن موجبًا للضمان (فلم يصح لضمان حقه) أي حق الشرع أي الأكل ناسيًا لا يصلح لضمان حق الشرع يعنى يجب أن لا يفسد الصوم بالأكل ناسيا، لأنه لو فسد به يجب القضاء، والقضاء حق الشرع فحينئذ كان حق صاحب الشرع سببًا لضمان حقه أيضًا وهو لا يجوز. (ومن غير جهة صاحب الحق من وجه)، لأن المكره كالآلة للمكره فإن هذا الفعل من المكره من وجه إلا أن المكره أكل بفمه وأسنانه ولم يصلح آلة للمكره في حق الأكل، فكان فعل المكره الأكل من هذا الوجه، فعلى كلا الوجهين أي في وجه اعتبار المكره ووجه اعتبار المكره لا يصلح أن يكون سببًا

لسقوط حق صاحب الحق، أو نقول وإنما قال من وجه، لأن كل الأفعال بتخليق الله تعالى ولكن للعبد فعل كسب فكان فعلًا له من وجه. (ومن ذلك أن حكم النص في الربا تحريم متناه) أي تنتهي حرمته بالمساواة، وذلك إنما يكون بالمسوي الشرعي وهو الكيل وهو حكم الأصل، ويتحقق ذلك عند تعليل الأصل بالقدر والجنس حتى لا تبقى الحرمة فيما لا يدخل تحت الكيل. وأما إذا علل الأصل وهو حديث الربا بالطعم في الأشياء الأربعة لا تنتهي تلك الحرمة أبدًا، لأنه ما من جزء إلا وتتحقق فيه حرمه الربا حينئذ، حتى لو باع حفنة من حنطة بحفنة منها أو بحفنتين أو أقل منها لم يجز البيع على قول الخصم. وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- إنا لا نجوز تعليل نص الربا في الأشياء الأربعة بالطعم، لأن الحكم في النصوص كلها إثبات حرمة متناهية بالتساوي وصفة الطعم توجب تعدية الحكم إلى محال تكون الحرمة فيها مطلقة غير متناهية وهي المطعومات التي لا تدخل تحت المعيار فعرفنا أن هذا ال وصف لا يوجب تعدية حكم النص بعينه إذ الحرمة المتناهية غير الحرمة المؤبدة.

ألا ترى أن الحرمة الثابتة بالرضاع والمصاهرة غير الحرمة الثابتة بالتطبيقات الثلاث. (ومن ذلك قولهم في تعيين النقود) أي ومن التعليل الذي أوجب تغيير حكم الأصل في الفرع قولهم في تعيين النقود، والمعنى من تعيين النقود هو أن المشترى لو اشترى شيئًا بدراهم معينة فحسبها وأعطى البائع مثلها ليس له أن يأبى ذلك عندنا، وعند زفر والشافعي له أن يأبى ذلك، ولو هلكت تلك الدراهم أو استحقت لم يبطل البيع عندنا وعندهما يبطل. (إنه تصرف حصل من أهله مضافًا إلى محله مفيدًا في نفسه فيصح كتعيين السلع). أما كونه أهلًا فلان الكلام ف يمن تصرف وهو عاقل بالغ والأهلية بالعقل والبلوغ. وأما كونه محلًا فلأن الدراهم والدنانير محل للتعين. ألا ترى أنها تتعين في الودائع والغصوب حتى إن الغاصب لو أراد حبس الدراهم المغصوبة فرد مثلها لم يكن له ذلك، وكذلك في الهبة تتعين حتى يكون للواهب الرجوع في عينها لا في غيرها والتعيين مفيدًا أيضًا أي للبائع

والمشتري. أما للبائع فلأنه إذا ملك الدراهم المعينة كان هو أحق بها من سائر غرماء المشتري بعد موته، ولا يملك المشتري إبطال حقه، وكذلك تفيد البائع فيما إذا كانت الدراهم المعينة أجود الدراهم. وأما منفعة المشتري فمن حيث إنه لا يطالب بشيء آخر إذا هلكت الدراهم المتعينة في يده وتكون ذمته فارغة عن الدين وصحة التصرفات تابعة للفائدة. ألا ترى أن الرجل لو اشترى عبد نفسه لا يصح مع وجود الأهلية والمحلية لكونه غير مفيد حتى لو كان مفيدًا صح أيضًا بأنه لو اشترى عبد نفسه مع عبد غيره بثمن معلوم صح ودخل عبده في البيع لحصول الفائدة، وهو انقسام الثمن عليهما، وكذلك لو اشترى رب المال مال نفسه من المضارب صح لوجود الفائدة، وهو استحقاق يده على ذلك المال الذى اشتراه. قلنا: أما دعوى الفائدة فإنها فاسدة، لأن الفائدة إنما تعتبر إذا كانت فيما هو المقصود بالعقد، وفيما هو المقصود بالعقد ملك المال الدين أكمل من العين وبالتعيين ينتقض، فإنه إن استحق المعين أو هلك بطل ملكه، وإذا ثبت دينا في الذمة لا يتصور هلاكه ولا بطلان الملك بالاستحقاق، ولأن التعيين لا يفيد جواز العقد، فإن العقد جائز بتسمية الدراهم المطلقة من غير التعيين والمقصود بالعقد الربح، وذلك يحصل بقدر الدراهم لا بعينها فإنه ليس في عين الدراهم والدنانير مقصود إنما المقصود المالية، والمالية باعتبار الرواج في الأسواق وعينها ومثلها لا يختلفان في هذا المعني، فعرفنا أن التعيين غير مفيد

فيما هو المطلوب بالعقد، وبه فارق المكيل والموزون، فالتعيين هناك مفيد لجواز العقد، لأن العقد بدون التعيين لا يجوز إلا بذكر الوصف وربما يعجز عن أعلام الوصف فيسقط ذلك عن نفسه بالتعيين. وقوله: (هذا تغيير لحكم الأصل) يعني به حكم الأصل في الشرع وهو كون الثمن دينا في الذمة حكمًا أصليًا في الشرع غير ضروري، (لأن حكم الشرع في الأعيان أن البيع يتعلق به وجوب ملكها لا وجودها) معناه أن تعيين المبيع ووجوده قبل البيع شرط صحة البيع، والحكم في البيع وجوب الملك في العين وكان العين محلًا لثبوت الملك فيها، (وحكم البيع في جانب الأثمان وجودها ووجوبها معًا). معناه أن حكم الشرع في البيع في جانب الأثمان وجود الثمن ووجوبه في الذمة، لأن الدراهم والدنايير لم تكن موجودة في الذمة قبل البيع فتوجد بعد البيع على صفة الوجوب فكان وجودها ووجوبها حكمًا للبيع والجواب غير الوجود. ألا ترى أن العين موجودة والوجوب منفك عنه، ثم يثبت وجوب التسليم فيه بعد البيع. ألا ترى أنه يقال: دين واجب وموجود في الذمة فلو كان الوجوب عين الوجود لكان معناه موجود وموجود في الذمة وهذا خلف من القول، فعلم أن

الوجوب معنى وراء الوجود لما أن الدين يصح أن يوجد فيه الذمة على وجه الاستحباب لا على وجه الوجوب، وفيه إشكال وهو أن الحكم معنى والوجوب معنى فكيف يقوم المعنى مع أن المعنى يقوم بغيره فكيف يقوم به غيره؟ قلنا: للأحكام الشرعية حكم الجوهر حتى يقال: بقى لزيد ملك ثابت متقرر، واستدلوا على بقاء الأحكام الشرعية من قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) والاستدلال من وجهين. أحدهما بالمجيء بالفعل الذى هو عبارة عن النقل، والذي يقبل النقل هو الجواهر لا الأغراض. والثاني- أن الله تعالى جعل الأعيان المؤبدة وهي الجنان بمقابلة الحسنة وهي الفعل الصالح، ف لولا أن الله تعالى لم يجعل للحسنة حكم البقاء لما جعل الأعيان لها. (بدلالة ثبوتها في الذمة ديونًا بلا ضرورة) وهذا تقرير ما سبق من القاعدة الممهدة وهو كون وجود الثمن ووجوبه فى الذمة حكمًا أصليًا في البيع غير متعلق بالعوارض على مثال العزيمة في الأحكام. ألا ترى أن من اشترى بدراهم غير عين وفي يده دراهم صح البيع وثبت في الذمة، فلو لم يكن وجود الدين في الذمة ابتداءً حكمًا أصليًا لما جاز بدون الضرورة، ولحقه

إنكار من الشرع كما في السلعة فإنه إذا باع شيئًا غير عين لا يجوز حيث لحقه التغيير من الشرع، فصار قوله: "دينًا بلا ضرورة" احترازًا عن السلم فإن الأعيان مثل الحنطة والشعير إنما تصير دينا في السلم بضرورة ورود الرخصة في حقه بالسنة. وأراد بالضرورة الرخصة (وبدلالة جواز الاستبدال لها وهي ديون) أي جواز الاستبدال لها بالثمن الذى هو الدراهم والدنانير دليل على أن كونها في الذمة حكم أصلي إذ لو يكن أصليًا بل كانت العينية فيه أصلًا ثم العدول عنه إلى الدين بطريق الضرورة لما صح الاستبدال به كما لا يصح الاستبدال بالمسلم فيه إذا العينية فيه أصل وثبوته في الذمة بطريق الضرورة فاقتصر على جواز العقد فلم تظهر الدينية فيما وراءه. وتبقى على العينية فيما وراء جواز العقد حتى لم يجز الاستبدال بها لمسلم بالمسلم فيه لما ذكرنا أن الثابت بطريق بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة، فلما ظهر جواز الاستبدال في الدراهم والدنانير. علم أن الدينية فيها أصل حيث وجوبها في الذمة على الإطلاق. (ولم تجعل في حكم الأعيان فيما وراء الرخصة) هذا تأكيد لما سبق وذلك أن المسلم فيه في حكم العين فيما وراء الرخصة. وهي جواز السلم، لأن العينية فيه أصل والدينية عارضة فظهر ذلك في الجواز لا فيما وراءه بل جعل فيما وراءه في حكم العينية فلم يجز الاستبدال به

ولم يجعل مثل هذا في الأثمان بل تثبت هي دينًا مطلقًا فجاز الاستبدال بها. (وبدلالة أنه لم يجبرها هذا النقص بقبض ما يقابله) معناه إن غير العينية نقص بالنسبة إلى العينية. ألا ترى أن بيع درهم عين بدرهم غير عين لا يجوز، وفي المسلم لما كان غير العينية في المسلم فيه ضروريًا جبر هذا النقص بقبض ما يقابله وهو قبض رأس المال في المجلس، وحيث لم يجبر هذا النقص في الثمن بقبض ما يقابله وهو المبيع، علم أن كون الثمن دينًا في الذمة هو الحكم الأصلي لا العارضي. (فإذا صح التعيين انقلب الحكم شرطًا) يعني: "دراهم ودنانير اكر بتعيين معين شود حكم شرط شود" يعني أن الحكم الأصلي في البيع في جانب الآثمان وجودها ووجوبها في الذمة بسبب البيع وهذا حكم لها يثبت بالبيع، فلو صح التعيين كما في السلع لخرج وجود الثمن من أن يكون حكمًا للبيع وصار وجوده شرطًا لصحة البيع ومحلًا لوجوب الملك فيه كما أن وجود السلعة شرطً لوجوب الملك فيه فانقلب ما هو حكم لبيع شرطًا له. فالحكم يقتضي التأخر والشرط يقتضي التقدم، والحكم أثر للبيع يظهر ذلك بعد صحته ووجوده، والشرط مصحح لجواز البيع يشترط وجوده قبله

فأي تغيير أقوى من هذا، فتبين بهذا أنه ليس من هذا التعليل تعديه حكم النص بعينة بل إثبات حكم آخر في الفرع مخالفًا لحم النص. (وقد صح ظهار الذمي عند الشافعي فصار تغييرًا للحرمة المتناهية بالكفارة في الأصل إلى إطلاقها في الفرع عن الغاية). بيان هذا أن الحرمة بإظهار حرمة تنتهي بالكفارة فكانت حرمة مؤقتة متناهية، والكافر ليس بأهل للكفارة على الإطلاق، لأنه ليس بأهل للصوم، أو لأن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة وهو ليس بأهل للعبادة، فلو صح ظهار الذمي لثبتت الحرمة في حقه مطلقة لا مؤقتة، فلذلك قلنا: أنه لو ثبت هذا الفرع وهو ظهار الذمي بهذا الطرق يلزم تغيير حكم الأصل الذى هو ظهار المسلم حيث لم يثبت الحكم في الفرع على وفاق الحكم في الأصل. (وذلك مثل ما قلنا في تعدية الحكم من الناسي في الفطر إلى الخاطئ والمكره). فإن قلت: كيف جعلت صورة تعدية الحكم من الناسي إلى الخاطئ

والمكره نظير الأصول الثلاثة المختلفة حيث جعلت هي أولا نظير مخالفة الشرط الثاني، وهو أن لا يكون معدولًا به عن القياس ثم جعلت نظير مخالفة كون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير ثم جعلت هاهنا نظير مخالفة كون المتعدي إلى فرع هو نظيره مع مخالفة كل واحد من هذه الأصول الثلاثة للآخر، فلو كان نظيرًا لأحد المخالفين لا يكون نظيرًا للآخر لوجود المخالفة بينهما. قلت: جعلت هذه نظيرًا لكل واحد م هذه الأصول الثلاثة لانتزاع كل منها إلى ما يشابهه، فإن فيها ما يشابه كل واحد منها، وقد ذكرنا مخالفة كل واحد من ذينك الأصليين الأولين، فإن القول ببقاء الصوم مع فوات ركنه كان معدولًا به عن القياس فلا تجوز التعدية في مثله، وكذلك لو عديناها إلى الخاطئ والمكره لا يكون المعتدي حكم النص بعينه من غير تغير. فإن حكم النص في الناسي وهو الأصل منسوب إلى صاحب الحق، وليس بمنسوب إلى صاحب الحق في الخاطئ والمكره، ثم لو قلنا مع ذلك بجوازه يلزم تغيير حكم النص، وهذا التعليل أيضًا متضمن لعدم كون حكم الفرع نظير لحكم الأصل فكانت نظيرة للثلاث بهذا الطريق، وليس ببعيد أن يجتمع في الشيء الواحد أوصاف مختلفة. فتثبت الأحكام بحسب تلك الأوصاف كمن شرب خمر الذمي متعمدًا

في نهار رمضان وهو صائم وكان حلف أن لا يشرب خمرًا ففيه تثبت أحكام ستة، وهو من حيث إنه شرب الخمر شيء واحد، وقد ذكرناه غير مرة في مواضع. ألا ترى أن صاحب الكتاب وغيره كيف أدار قوله: مسح في الوضوء فلا يسن فيه التثليث على أصول مختلفة، لأن التيمم تلويث بحقيقته فلا يكون رافعًا للحدث حقيقة بخلاف الطهارة بالماء. (فلما خلق من مائهما تعدى إليهما) فلذلك انتسب الولد بكماله إلى الأب وانتسب أيضًا بكماله إلى الأم، فيلزم من هذا أن يصير جزء المرأة جزء الزوج، وجزء الزوج جزء المرأة. وهو معنى ما قال (كأنهما صارا شخصًا واحدًا) في حصول ما هو المقصود من النكاح، كزوجي باب وزوجي خف وهما باب واحد وخف واحد اعتبارًا لتعلق ما هو المقصود من النكاح بهما، فعلى هذا ينبغي أن تحرم

المرأة على الزوج بصيرورتها جزء للزوج إلا أن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع. ألا ترى كيف حلت حواء لآدم عليه السلام وهي جزؤه حقيقة قال تعالى: (وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا). (ثم تعدي ذلك) أي التحريم بحرمة المصاهرة (إلى سببه) أي إلى سبب الولد (فصار عاملًا بمعنى الأصل) أي فصار الوطء عاملًا في إثبات حرمه المصاهرة بمعنى الولد لا بمعنى نفسه، أي الوطء عمل الولد لا عمل نفسه لقيامه مقام الولد كالتراب لما قام مقام الماء عمل النائب وهو التراب عمل المنوب وهو الماء، لأن الشيء إذا أقيم مقام غيره يعتبر فيه صفة الأصل لا صفة نفسه كالنوم يقوم مقام الحدث. والسفر يقوم مقام المشقة، فلذلك لم يقل إن الوطء الحلال يصلح سببًا لاستجلاب كرامة حرمة المصاهرة لا الوطء الحرام، لأن الوطء قام مقام الولد لا باعتبار أنه حلال ولا باعتبار أنه حرام بل باعتبار كونه مفضيًا إلى الولد، وعن هذا ذكر في "الزيادات" أن الوطء في الموضع المكروه لا يوجب حرمة المصاهرة لعدم إفضائه إلى الولد.

وكذلك أيضًا قال الإمام شمس الأئمة وفخر الإسلام -رحمهما الله-: إنه إذا مس امرأةً بشهوة فأنزل لا يكون هو موجبًا لحرمة المصاهرة فلما كان الاعتبار للولد، وفي الولد لا عصيان ولا عدوان، والوطء قائم مقامه كان الاعتبار للوطء نفسه من غير نظر إلى حله وحرمته في إيجاب حرمة المصاهرة. وهو معنى قوله: (فلم يجز تخصيه لمعني في نفسه وهو الحل) يعني لا يجوز أن تكون حرمة المصاهرة مختصة بالوطء الحلال. (ولا إبطال الحكم) وهو حرمة المصاهرة لمعنى في الوطء وهو الحرمة، (وصار هذا مثل قولنا في الغصب) يعني أن ثبوت ملك المغصوب للغاصب ليس بالغصب عينه حتى يقال إنه حرام لا يجوز أن تثبت به نعمة وهي الملك بل نقول: إن الملك إنما ثبت للغاصب لكونه شرطًا لوجوب الضمان عليه والشروط اتباع، فكان ثبوت الملك شرطًا لما هو مشروع، وهو الضمان فأخذ حكمه لكونه تبعًا له. وقوله: (إنه من أسباب الملك تبعًا لوجوب ضمان الغصب لا أصلًا) أي

إن الغضب من أسباب الملك على وجه التبعية فيه صفة المتبوع وهو الضمان لا صفة التابع وهو ثبوت الملك للغاصب، (فثبت بشروط الأصل) أي فثبت الملك للغاصب بسبب شروط وجوب الضمان عليه، لأن وجوب الضمان على الغاصب للمالك يقتضي فوات الملك عن المالك، لأن الضمان جابر للغائب أجمعنا واتفقنا على وجوب الضمان على الغاصب. ثم لو لم نقل بفوات الملك عن ال مالك يلزم أن نقوم بثبوت الجابر للمالك مع بقاء المجبور على ملكه، وهو لا يصح لاقتضاء ذلك اجتماع العوض والمعوض عنه في ملك رجل واحد وهو غير جائر. (فكان هذا الأصل مجمعًا عليه في الحرمات التي بنيت على الاحتياط) يعني قيام السبب مقام المسبب في الشيء الذي بني على الاحتياط أصل مجمع عليه. (فأما النسب فلم يبن على مثل هذا الاحتياط، فوجب قطع النسب عند الاشتباه) أي لم يثبت نسب الولد المخلوق من ماء الزنا للزاني إذ لو ثبت لاشتبهت الأنساب، فلا يدرى من الوالد لاحتمال أن تزني المرأة بعدد من الرجال فاشتبهت الأنساب، فالشارع قطع النسب عن الزاني لهذه الحكمة

البالغة، (ولا يلزم على هذا أن هذه الحرمة لا تتعدى إلى الأخوة والأخوات ونحوهم) يعني لا يلزم على ما ذكرنا من التعليل هو أنهما صارا كشخص واحد أن تصير أختها كأخته وأخوه كأخيها، (لأن التعليل لا يعمل في تغيير الأصول) يعني أن تعليلنا يقتضي حرمة مؤبدة ممتدة، والأصول أثبتت حرمة أخوات الزوجة وأخوة الزوج مؤقتة متناهية والتعليل أبدًا يعتبر إذا لم يكن فيه تغيير النص، فلم تكن العلة عند وود النص موجودة معنى، فكان عدم الحكم لعدم العلة لا لوجود العلة، فلم يكن هذا تخصيص العلة. وقوله: (في كفارة القتل العمد) أي عدى الشافعي وجوب الكفارة من القتل الخطأ إلى القتل العمد مع أن في القتل العمد نصًا في أنه لا كفارة فيه وهو قوله عليه السلام: (خمس من الكبائر لا كفارة فيهن -وعد منها- القتل العمد).

(وكذلك في اليمين الغموس) حيث عد الشافعي وجوب الكفارة من اليمين المنعقدة إلى الغموس مع أن النص موجود في الفرع الذي هو الغموس بأنه لا كفارة فيه، وهو أيضًا من لك الخمس التي ذكرنا. (وشرط الإيمان في مصرف الصدقات اعتبارًا بالزكاة) أي اشترط الشافعي صفة الإيمان في مصرف الصدقات الواجبة سوى الزكاة مثل صدقة الفطر أو الكفارات قلنا: لا يصح ذلك، لأن النص موجود في الفرع وهو يدل على جواز الصرف إلى الكافر، وهو قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ). (ومثل شرط التمليك في طعام الكفارات) أي عدى الشافعي اشتراط التمليك من الكسوة إلى الإطعام، مع أن في الفرع وهو الإطعام نصًا يدل على جوازه بدون التمليك. وهو قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) والإطعام فعل متعد لازمه الطعم وهو الأكل وهو لا ينبئ عن الملك فلا يكون الإطعام تمليكًا بل إيكالًا، والإيكال لا يحتاج إلى اشتراط التمليك، فكان اشتراط التمليك

شرطًا يخالف النص. (وشرط الإيمان في كفارة اليمين والظهار) أي عدى الشافعي اشتراط صفة الإيمان في الرقبة من كفارة القتل إلى كفارة اليمين والظهار مع أن فيهما نصًا مطلقًا يقتضي جواز تحرير الرقبة فيهما بدون صفة الإيمان فيها وهو قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) إلى قوله: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) في اليمين، وقوله تعالى: (والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) في الظهار بدون ذكر الإيمان. فكان اشتراط الإيمان في الرقبة فيهما شرطًا يخالف النص، فتقييد إطلاق النص تغيير له كإطلاق المقيد، فإطلاق المقيد باطل بالإجماع فكذا عكسه، لما أن المطلق مكن العمل من غير زيادة فيه، فكانت الزيادة بعد إمكان العمل به تغييرًا له لا محالة. (وأما الشرط الرابع وهو أن يبقى حكم النص على ما كان قبل التعليل) أي لا يتغير حكم النص في نفسه بسبب التعليل، والذي ذكر قبله

بقوله: ومن هذه الجملة أن يكون المتعدي حكم النص بعينه من غير تغيير كان ذلك التغيير يلحق النص في حق الفرع كما في السلم الحال، وهذا الذي ذكره في الشرط الرابع تغيير يحلق النص في نفسه وهو باطل أيضًا. وهذا لأنه لما ثبت أن التعليل لا يجوز أن يكون مغيرًا حكم الأصل في نفسه، ففي كل موضع لا يبقى الحكم في المنصوص بعد التعليل على ما كان قبله فذلك التعليل يكون باطلًا ل كونه مغيرًا لحكم الأصل. كذا قاله الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-. (وقوله: كما أبطلنا في الفروع) إشارة إلى ما ذكر بقوله: "من ذلك ما قلنا إن السلم الحال باطل". وكذلك ما بعده من الأحكام أي كما ذكرنا بطلان تعليل يوجب تغيير حكم النص في حق الفروع، فلذلك نذكر بطلان تعليل يوجب تغيير الحكم النص في حق نفسه، والمراد من النص الأصل ثم سواء كان ذلك الأصل بالنص أو بالإجماع. بيان ذلك أن التعليل لجواز السلم الحال يوجب أن يتغير

حكم الأصل في حق الفرع، لأن من شرط جواز البيع الذي هو الأصل أن يكون المبيع موجودًا مملوكًا مقدور التسليم، ثم الأجل في الفرع وهو السلم قام مقام ذلك الشرط. فالقول بجواز السلم الحال مسقط لذلك الشرط في حق الفرع، فكان ذلك تغيرًا لحكم الأصل في شرطه في حق الفرع. وأما القول باشتراط التمليك في طعام الكفارة بالتعليل فهو تغيير لحكم النص في نفسه والأصل وهو قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) وهو ظاهر على ما ذكر في الكتاب إلا لا يبقى الإطعام إطعامًا بعد التعليل بالتمليك، فكان (تغييرا في نفس النص فوجب أن يكون حكم القذف إبطال الشهادة حدًا) أي من حيث الحد، وهو يبطل شهادة القاذف من حيث الفسق حتى قبل شهادته بعد التوب، فجعل بعض الحد حدًا، لأن كل الحد الجلد ورد الشهادة، فجعل هو الجلد كل الحد بالتعليل. فقال: هو محدود في كبير فتقبل شهادته بعد التوبة كالمحدود في الزنا وشرب الخرم، والنص جعله بعض الحد، فعلى هذا كان قوله: "لأن الوقت من الأبد بضعه" تعليلًا لمعلل محذوف تقديره: وقبل شهادة القاذف بعد التوبة، والنص رد شهادته مؤبدًا، فكان تعليله تغييرًا للنص، لأن الرد

المؤقت بعض الرد المؤبد، والنص رد شهادته مؤبدًا، أو معنى قوله: "فجعل بعض الحد حدًا" إن الله تعالى جعل رد الشهادة مؤبدًا مع الجلد كل الحد، فلما قبل الشافعي شهادة القاذف بعد التوبة كان ردًا لشهادته مؤقتًا من الأبد بعضه، فكان المعلل حينئذ مذكور وهو الأوجه لصحته بدون الإدراج. (وأثبت الرد بنفس القذف بدون مدة العجز، وهو تغيير لحكم النص) يعني أن الشافعي رد شهادة القاذف بنفس القذف بمنزلة سائر الجرائم المبطلة لشهادة كالزنا وغيره. فإنه كما زنا أو شرب الخمر ترد شهادته بدون التوقف إلى شيء آخر فكذا في جريمة القذف كان تغييرًا للنص، لأن الله تعالى وقت وقف الرد إلى مدة العجز عن الإتيان بالشهود بقوله: (والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) وذلك لا يحصل بدون مدة العجز، فإثبات الرد بدون مدته تغيير لحكم النص بالتعليل.

(وزاد النفي على الجلد وهو تغيير) وهذا عكس ما قبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، فإنه جعل الجلد بعض الحد، لأن كل الحد في حق زنا البكر عنده الجلد مع النفي، فكان الجلد بعض الحد، والله تعالى جعل الجلد كل الحد بقوله: (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) فالفاء للجزاء، والجزاء اسم لما تقع به الكفاية، والخصم لم يجعل الجلد كافيًا فيه فكان تغييرا للنص.

(وذلك أن المستثنى منه إنما يثبت على وفق المستثنى فيما استثني من النفي) يعني أن المستثنى منه إذا حذف في الكلام إنما يجعل المستثنى منه من جنس المستثنى فيما استثني من النفي، وإنما خص النفي لأن حذف المستثني منه في الكلام إنما يصح في النفي لا في الإثبات. والفرق فيه هو أن موضع النفي موضع التعميم، وعن هذا قيل: النكرة في موضع النفي تعم وفي الإثبات تخص، ولما كان كذلك استقام حذف المستثني منه في موضع النفي لا في موضع الإثبات، لأن أعم العام إنما يقدر عنه الحذف، ويجب أن يكون ذلك الأعم من جنس المستثنى، وذلك صحيح في موضع النفي لا في الإثبات. ألا ترى أنك لو قلت: جاءني إلا زيد يجب عليك أن تقدر جاءني جميع بني آدم إلا زيدًا. إذ في تقدير ما دونه ترجيح أحد المتساويين على الآخر وهو باطل، لأنه يلزم ترجيحه بلا مرجح، ومجيء جميع بنى آدم إليك محال بخلاف قولك: ما جاءني إلا زيد، فإنه صحيح مستقيم، لأن تقديره: ما جاءني بنو آدم إلا زيد، ولا كلام في صحته فكذا عند الخلف، فظهر من هذا أصلًا: أحدهما- أن المستثني منه يجب أن يكون من جنس المستثنى.

والثاني- أن حذف المستثنى منه إنما يصح في موضع النفي. (وقوله عليه السلام: (لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء)). موضع النفي فكان حذف المستثني منه فيه جائزًا، والطعام ليس من جنس قوله: (إلا سواء بسواء) لأن المساواة معنى والطعام عين فلابد من إدراج أعم المعاني الذي هو من جنس المستثنى، فمن ضرورة هذا كان التقدير: لا تبيعوا الطعام بالطعام في جميع الأحوال إلا حال التساوي. وأحوال الطعام في البيع ثلاث: المجازفة، والمفاضلة، والمساواة فكان عموم الأحوال ثابتًا بالنص، وهذا العموم لا يثبت إلا في الكثير وهو الذي يدخل تحت الكيل إذ المجازفة إنما تحرم لاحتمال كون أحدهما فاضلًا على الآخر، وذلك لا يتصور إلا بعد اعتبار المساواة بينهما، وذلك إنما يكون بالمسوى.

ثم نقول: إن المسوى هو الكيل إما بالإجماع أو بحديث آخره وهو قوله عليه السلام: ((لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا كيلًا بكيل)) وكذلك المفاضلة إذ فضل أحدهما على الآخر لا يتصور إلا بعد اعتبار المساواة بينهما بالكيل الشرعي على ما بينا. وكذلك المساواة إذ التسوية بالمعيار هو المراد، لأن التسوية بينهما من حيث الحبات أو من حيث الوزن أو من حيث الجودة غير مرادة بالإجماع، ولن توجد هذه الأحوال إلا فيما تدخل تحت الكيل إلا أن التعليل منا وافق لما ذكرنا من الثابت بالنص، فكان هذا التغيير مضافًا إلى النص لا إلى التعليل، وهو معنى قوله: (فصار التغيير بالنص مصاحبًا للتعليل لا به) أي لا بالتعليل. (وإنما سقط حقه) أي حق الله تعالى (في الصورة) أي في صورة الشاة بالنص وهو قوله تعالى: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا).

(ثم أمر بإنجاز المواعيد) أي أمر الأغنياء إنجازها (وذلك لا يحتمله) أي وذلك المسمي لا يحتمل الإنجاز (بأن ينجزها) أي بأن ينجز المواعيد المختلفة (مجامعًا للتعليل) أي موافقًا له، لأن الزكاة عبادة محضة، لأنها من أركان الدين الخمسة على ما قال النبي عليه السلام "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إلا الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة" إلى آخره، والدين كله لله تعالى. وبهذا يتبين خطأ من يقول بأنه الزكاة حق الفقراء مستحقة لهم شرعًا، بل الزكاة محض حق الله تعالى -على ما قلنا- إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة -رحمة الله-. فلا تجب للعبادة بوجه، لأن المستحق للعبادة الله تعالى على الخصوص، وهذا لأن الإيمان حق الله تعالى على الخصوص ولا مدخل العبد فيه بوجه، والزكاة مخصوصة بالإيمان فكانت مخصوصة بحق الله تعالى، ولأن النصاب

لو كان جارية وحال الحول عليها جاز لمولاها أن يطأها، فلو كان للفقير فيها نوع حق عينا لما جاز لمولاها أن يطأها. (وإنما التعليل لحكم شرعي) جواب شبهة ترد على قوله: "لا بالتعليل" بأن يقال: لما لم يكن التغيير بالتعليل وجب أن لا يعلل مسألة دفع القيم في باب الزكاة فقال: التعليل لم يكن للتغيير ولكن لإظهار حكم الشرعي (وهو كون الشاة صالحة للتسليم إلى الفقير). وكذلك قيمتها أيضًا صالحة للتسليم إلى الفقير مع إبقاء صلاحية دفع الشاة إلى الفقير أيضًا، فلا يكون تغييرًا بل جميع مواضع الأقيسة كذلك، فإن الحكم يثبت في الفرع بعد القياس مع بقاء صلاحية الأصل أيضًا لإثبات ذلك الحكم كما كان، فلا يكون هذا تغيير للنص بل قياسًا وهذا شائع بالاتفاق. وهذا لأن معنى الصلاحية في الشاه للصرف إلى الفقير كونها ما لا متقوما، وهذا المعنى كما هو موجود في الشاة موجود في غيرها أيضًا فيتعدى منها على غير باعتبار صلاحية الصرف إلى الفقير، وهذا هو عين القياس فلا يكون تغييرًا للنص. وإنما التغيير فيما قاله الشافعي في إطعام الكفارة وغير ذلك، فإنه لما علل

الإطعام بالتمليك لم يبق النص بمعنى الإطعام مثبتًا للحكم، فكان الإطعام متغيرا بالتعليل بالتمليك. (وأحلت لهذه الأمة بعد أن ثبت خبثها)، فإن قيل: (الله تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب) وإذا ثبت الخبث في الصدقة فكيف يقبل الله الخبيث؟ قلنا: تمكن الخبث في الصدقة بعد تحقيق الصدقة بالوقوع في يد الفقير فكان الخبث حكمًا للصدقة، وحكم الشيء لا يمنع تحقق سببه كإرسال الطلقات الثلاث فإنه يخرج المحل عن محلية الطلاق، وكتمليك النصاب للفقير فإنه يخرج المحل عن محلية الصدقة، ومع ذلك لا يمنع تصدق النصاب للفقير فإنه يخرج المحل عن محلية الصدق، ومع ذلك لا يمنع تصدق النصاب ابتداءً لما قلنا، فكذلك ها هنا ثبوت الخبث حكم الصدق، فلا يمنع الصدقة. فإن قيل: لما كان هذا بمنزلة تمليك النصاب للفقير وجب أن تكره الصدقة للفقير كما تكره هنا.

قلنا: تكره هناك ولا تكره ها هنا، لأن هناك المتصدق كان متمكنًا من الخروج من عهدة التصدق من غير أن تلحقه الكراهية بأن يفرق النصاب على الفقراء على وجه لا يقارب الغنى التمليك، وها هنا لا يتمكن المتصدق من التصدق على وجه لا يتحقق الخبث في حكمه فلا يكره التصدق ها هنا، فلذلك افترقا وصار كثبوت حرمة المصاهرة باعتبار الجزية حتى تعدى إلى أمهات الموطوءة وبناتها، ولم يثبت في حقا لموطوءة نفسها لعدم إمكان الاحتراز عنها مع إرادة بقاء النسل بالنكاح. فقلنا بأن حرمة المصاهرة لم تثبت في حقها لضرورة التوالد والتناسل ولا ضرورة في سائرها، فيثبت بعد الوقوع لله تعالى في ابتداء اليد، فإن الفقير في ابتداء القبض نائب عن الله تعالىِ.

(فصار صلاح الصرف إلى الفقير حكمًا شرعيًا في الشاة، فعللناه بالتقويم)، لأن ذلك الحكم الشرعي كما هو موجود في الشاة موجود في قيمتها، فيجوز صرف قيمتها إلى الفقير كجواز صرف الشاة إليه، وكان هذا تعليلًا وافقًا للنص لا يتغير به حكم النص، فكان حكم النص بعد التعليل وقبله سواء. وقوله: (لكونه ثناء مطلقًا احتراز من قوله: "اللهم اغفر لي". (لكن الواجب إزالة العين النجس عن الثوب، والماء آلة) صالحة لإزالة النجاسة، وسائر المائعات الطاهرة مثل الماء في هذه الصفة، فبالتعدية إلى غيره

لا يتغير هذا الحكم (وهو كون الماء آلة صالحة للتطهير). (هذا حكم شرعي في المزيل) أي كون الماء لا ينجس في ابتداء ملاقات النجاسة حكم شرعي في المزيل وهو الماء والطهارة في محل العمل وهو الثوب حكم شرعي أيضًا. وقوله: "والطهارة" معطوف على قوله: "هذا". فإن قيل: إن كون الماء لا ينجس في أول ملاقاته للنجاسة في الثوب حالة الاستعمال حكم اختص به الماء بطريق الضرورة فكيف يتعدى منه إلى سائر المائعات؟ قلنا: الحكم إذا ثبت بطريق الضرورة لمعنى في محل ثم شاركه غيره في ذلك المعنى والضرورة تثبت الحكم فيه كثبوته في الأصل كما في حكم بقاء طهارة المستحاضة في الوقت تعدى إلى من هو في معناها كمن به سلس البول أو الجرح الذي لا يرقأ. وإن كان حكم بقاء طهارة المستحاضة في الوقت حكمًا ثبت على خلاف القياس فكذلك هنا هنا إن كون الماء لا ينجس حالة الاستعمال وطهارة المحل لضرورة احتياج صاحب الثوب إلى طهارته وصلاحية الماء للتطهير لمعنى القلع

والإزالة، فلما شاركه غير في هذين المعنيين ثبت حكم الماء فيه أيضًا كثبوته في الماء مع بقاء صلاحية الماء لذلك، إذ المشاركة في العلة توجب المشاركة في الحكم، وهذا لأن الثوب كان طاهرًا وقد جاوره النجاسة فبإزالتهما يحصل ما في الثوب من الطهارة لما أن النجاسة إذا زالت بقي الثوب طاهرا كالدرن في الثوب الأبيض. فبالغسل يزول الدرن فيظهر ما كان في الثوب من البياض، وكذلك صلاحية كون الماء مزيلًا للنجاسة لكونه مائعًا رقيقًا قابلًا للانعصار بالعصر وغيره إذا شاركه في هذا المعنى من كل وجه يثبت ذلك الحكم فيه أيضًا كثبوته في الماء. (لأن عمل الماء لا يثبت ف ي محل الحدث إلا بإثبات المزال، وذلك أمر شرعي ثبت في محل العمل غير معقول). بيانه أن اتصاف العضو بالحدث والنجاسة أمر شرعي فيه غير معقول، أي غير مدرك بالعقل معنى نجاسته، لأن هذه الأعضاء ليس بنجسه حقيقة ولا يتنجس الماء القليل بملاقاة هذا العضو إذا لم يكن له نية قربة.

وكذلك جاز أكل المحدث بيده طعامًا مائعًا، فكان ما ثبت من النجاسة في هذه الأعضاء غير مدرك بالعقل وعمل الماء لا يظهر في هذه الأعضاء إلا بإثبات المزال أي بإثبات زوال ما كان في هذه الأعضاء مما يمنع التقرب إلى الله تعالى، وهذا العمل ثبت عند استعمال الماء الذي لا يبالي بخبثه. إذ الناس لا يبالون بخبث الماء بالوضوء وبصبه في موضع النجاسات، فلم يجز إثبات هذا الحكم فيما يبالى بخبثه، وهو في نفسه أمر غير معقول المعنى بخلاف النجاسة الحقيقة إذ هي عين محسوسة، فإذا زالت عن موضعها لا تبقى فيه، وهو معقول فتعدى من الماء إلى غيره لوجود معنى الإزالة في ذلك الغير. وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- وليس في أعضاء المحدث عين يزول باستعمال الماء، فإن أعضاءه طاهرة، وإنما فيها مانعًا حكميًا من أداء الصلاة غير معقول المعني، وقد ثبت بالنص رفع ذلك المانع بالماء وهو غير معقول المعني، وقد بينا أن مثل هذا الحكم لا يمكن تعليله للتعدية إلى محل آخر. (ولا يلزم أن الوضوء صح مع هذا بغير النية). وجه الورود وهو أن وجوب طهارة هذه الأعضاء بالوضوء لما كان غير معقول لكون هذه الأعضاء

محكومة عليها بالطهارة شرعًا لما ذكرنا كان الوضوء بمنزلة التيمم في كون وجوب الطهارة به غير معقول لعدم حصول الطهارة بكل واحد منهما عقلًا، فكان وجوب الطهارة فيهما مع ذلك أمرًا تعبديًا فتجب النية في الوضوء حينئذ كوجوبها في التيمم. فأجاب عنه بقوله: (لأن التغير ثبت في محل العمل بوجه لا يعقل فبقي الماء بطبعه من الوجه الذي يعقل) أراد به أن تغير العضو من الطهارة إلى النجاسة معنى لا يعقل إلا أن الماء عامل بطبعه وهو معقول فلا يفتقر إلى النية، لأن ما كان طبعًا لشيء لا يتغير بالنية. والتطهير والإزالة طبع للماء فيعمل عمله حيث ما وجد استعماله فيه فلا يفتقر إلى النية كالنار للإحراق والسكين للقطع بخلاف التراب، لأن طبعه التلويث لا الإزالة فاحتيج إلى النية ليعمل عمل الماء لا لأن النية غيرت طبعه حقيقة لكن الشرع لما أقامه مقام الماء عند إرادة الصلاة عمل عمل الماء في إثبات الطهارة وإرادة الصلاة به هي النية، فلهذا تشترط النية في التيمم دون الوضوء، والله أعلم.

باب الركن

باب الركن لما فرغ من بيان الشروط التي هي مقتضية للتقدم شرع في بيان ما هو العمدة في الباب وهو الركن، لما أن ركن الشيء ما يتقوم به ذلك الشيء، فالوصف الذي هو المؤثر في الحكم جعل علمًا على الحكم في النص، وإنما سمي عليما، لأن الحكم في المنصوص عليه مضاف إلى النص فسمي علمًا لما أن القياس هو الإبانة، فلم يكن مثبتًا حقيقة كما هو الأصل في الأعلام، فإن الحكم لا يضاف إلى العلامة. وقوله: (مما اشتمل عليه النص) يعني: "آن جيزي كه علم كردانيده شد بر حكم نص بايد كه وي ازآن جيزي بود كه نص ويرا فراز كرفته بود يا از روي لفظ يا از روي معني" والاشتمال تارة يكون من حيث اللفظ، وتارة يكون من حيث المعنى.

والذي يكون من حيث اللفظ يجوز أن يكون وصفًا لازمًا مثل الثمنية أو عارضًا مثل الانفجار أو حكمًا مثل ما استدل النبي عليه السلام بجواز قضاء دين للأب على جواز قضاء الحج عن الأب إلى آخره. وقوله: (والطعم جعله الشافعي علةً للربا) لما أن الطعم لازم أي للحنطة والشعير، لأنهما لا يوجدان إلا ومعهما الطعم، (وعللنا بالكيل وهو غير لازم) أي توجد الحنطة والشعير فيما دون الكيل أيضًا. وليس معناه أن غيرهما مكيل أيضًا، لأن الطعم جعل لازمًا في تعليل الشافعي مع أن ذلك موجود في غير الحنطة والشعير، لأن معنى عدم اللزوم إنما يكون أن لو كان هو موجودًا وليس له هذه الصفة، لا أن تكون موجودة هي فيه وفي غيره، وذلك إنما يكون في قولنا فيما دون الكيل، أعني عللنا قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة" بالكيل والجنسِ. والكيل غير لازم للحنطة لوجود الحنطة غير مكيلة فيما دون نصف صاع كانت الحنطة موجودة ولا كيل لها فكان الكيل غير لازم لها.

(يتعلق عتقه بمطلق موت المولى) أي: فلا يجوز بيعه كأم الولد وقيد بقوله: بمطلق موت المولى: "احترازًا عن المدير المقيد، (ويجوز أن يكون فردًا) نحو تعليل ربا النسيئة بوصف واحد وهو الجنس أو القدر، (وعددًا) نحو علة حرمة التفاضل فإنه القدر مع الجنسِ. (ويجوز في غيره إذا كان ثابتًا به) أي إذا كان النص مقتضيًا له من حيث المعنى. (وهو معلول بإعدام العاقد) أي بفقرة واحتياجه (وليس في النص) ذلك، لأن المذكور هو السلم، وإعدام العاقد صفة العاقد لا صفة النص لكن السلم يقتضي عاقدًا لا محالة والإعدام صفته، فكان الإعدام من مقتضيات النص، وكذلك بيع الآبق معلول بالعجز عن التسليم وليس في النص ذلك، إلا أن البيع يقتضي بائعًا ضرورة والعجز صفته فكان ثابتًا هو أيضًا بمقتضى النص من حيث المعنى.

وكذلك الشافعي علل قوله عليه السلام: "لا تنكح الأمة على الحرة" (بإرفاق جزء منه) يعني: أن عدم جواز نكاح الأمة على الحرة بعلة أنه سعي في إرقاق جزئه فلا يثبت إلا عند الضرورة، ولا ضرورة، لأن تحته حرة فعدي هذا الحكم منه إلى من كان قادرًا على نكاح الحرة، فلا يجوز نكاح الأمة له أيضًا لوجود العلة وهي إرقاق جزئه بلا ضرورة، وليس هذا في النص الذي ذكرنا، ولكن ذلك النص يقتضي ناكحًا لا محالة والإرقاق صفته فكان ثابتًا ب اقتضاء النص معنى. (واتفقوا أن كل أوصاف النص بجملتها لا يجوز أن يكون علة) يعني: اشتراط وجود جميع أوصاف النص في الفرع في التعليل لا يجوز، لأنه حينئذ كان الفرع عين المنصوص عليه، ولا يكون فرعًا، لأن جميع أوصاف المنصوص عليه لا يوجد إلا في المنصوص عليه، ولا يجوز أيضًا أن

يكون وصف من أوصاف النص علة الحكم من غير تفرقة بينهما، لأنه حينئذ يسقط الابتلاء والاعتبار، فإن الاعتبار مأمور به، وذلك إنما يكون لتمييز وصف منج من وصف مهلك لتشبث المعتبر بالمنجي ويحترز عن المهلك، وذلك لا يحصل بدون الاعتبار والتأمل، فلو قلنا بجواز عدم التفرقة بين الأوصاف في التعليل لاستوى فيه العالم والجاهل. فكان ذلك مثل التعليل بالوجود في الأشياء المتضادة، بل التعليل إنما يصح بوصف صالح للتعليل من بين سائر الأوصاف. ثم اختلفوا في تلك الصلاحية للتعليل. (فقال أهل الطرد: إنه يصير حجة بمجرد الاطراد) يعني: أينما طرد ذلك الوصف من طرده وأداره على الأحكام وجد ذلك الحكم الذي وقع النزاع فيه عند ذلك الوصف الذي طرده بالإجماع من غير أن يذكر اثر ذلك الوصف في استدعاء ذلك الحكم، كما قال الشافعي -رحمه الله- في أن النكاح لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال بقوله: "لأنه ليس بمال" فوجد هذا

الوصف مطردا في الحدود والقصاص. وهكذا طرد أيضًا وصف عدم البعضية في أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات في تعليل عدم عتق الأخ، فوجده مطردا بالإجماع، فقال: لا يعتق الأخ، لأنه ليس بينهما بعضية من غير ذكر أثر الوصف. وكذلك تعليل بعضهم: هذه عبادة لها تحليل وتحريم، فكان من أركانها ما له عدد سبع كالحج، وطرد عدد السبع فيما ادعى من الحكم فوجده مطردا في الحج بالإجماع، فجعل الفاتحة من أركان الصلاة، لكونها سبع آيات كما أن سبع أشواط الطوائف من أركان الحج على ما يجيء بيانه في أقسام الطرد إن شاء الله. (والسلف) الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون وأصحابنا المتقدمون أعني أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا -رحمهم الله- (والخلف) من بعدهم والمتأخرون من بعدهم، (واتفقوا في صلاحه) بخلاف العدالة فإنهم اختلفوا في تفسيرها.

(وإنما نعني بالأثر ما جعل له أثر في الشرع) أي: في جنس ذلك الحكم الذي وقع النزاع فيه كتعليلنا بالصغر في ولاية المناكح بقولنا: إنها تزوج كرها، لأنها صغيرة، فإن للصغر أثرًا في إسقاط الولاية عن الصغير في حق المال بالاتفاق، فوجب أن يكون له أثر أيضًا في إسقاط الولاية عن نفسه في النكاح، والجامع بينهما هو معنى العجز عن إصلاح أمر نفسه فيقوم أقرب الناس إليه بالعقل الكامل مقامه في إصلاح أمره، وهذا لأن معنى العجز مستلزم للضرورة، وللضرورة تأثير في إسقاط ما كان له في الأصل للتخفيف عرف ذلك بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَاذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) إلى قوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ ولا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) حيث جعل كثرة الطواف سببًا لسقوط الاستئذان للتخفيف، لما أن كثرة الطواف مستلزمة للحرج والضرورة. وكذلك في السنة وهي قوله عليه السلام: "الهرة ليست بنجسة، لأنها من

الطوافين عليكم والطوافات". حيث جعل كثرة الطواف سبباُ لسقوط النجاسة للتخفيف لكون كثرة الطواف مستلزمة للضرورة. (عدالته بكونه مخيلًا) أي: موقعًا خيال الصحة في القلب (ثم العرض على الأصول)، وهذا تفريع على قول ذلك البعض، إذ لا حاجة عندنا إلى العرض على الأصول. والمعني من العرض على الأصول هو أن يعرض وصفه الذي جعله عله على صور يوجد ذلك الوصف فيها، كوصف الطعم الذي جعله الشافعي علة الربا يعرضه على المطعومات فيجد وصفه مثبتًا لذلك الحكم الذي ادعاه بالاتفاق، فيجعل ذلك علة الحكم المتنازع فيه إذا لم يجد ذلك الوصف منقوضًا ولا مجروحًا في تلك الصور كما في الشاهد. (وإنما يعرض على أصلين فصاعدًا) نظير ذلك ما جعل الشافعي في وصف الطعم علة الربا في قوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل" وعرض ذلك الوصف على السمسم والأرز فوجده فيهما مؤثرًا في إثبات حكم الربا بالاتفاق فجعل الطعم علة الربا في المطعومات، لأن الأصليين لم يرداه.

(وإنما النقض جرح والمعارضة دفع) يعني أن النقض يجرح الوصف فخرجه عن كونه حجة كجرح الشاهد بالرق، والمعارضة دفع لا تمنع الوصف عن كونه علة لكن تدفع الحكم الذي أثبته الوصف بعلة أخرى، وعندنا عدالته بكونه مؤثرًا أي جعل لهذا الوصف أثر في الشرع في جنس ذلك الحكم الذي وقع النزاع فيه على ما ذكرنا، وعرف ذلك الأثر إما بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع.

(لأن ما لا يحس إنما يعرف بأثره) كما عرفنا الله تعالى، لكونه غير محسوس بآثار صنعه، والوصف الذي هو المؤثر لا يحس أيضًا فيعرف ذلك بأثره بالبيان. (والوصف على وجه مجمع عليه) كطهارة سؤر الهرة بعلة الطوف، والطوف من أسباب الضرورة وهي موجبة للتخفيف بوجه مجمع عليه في جنس هذا الحكم وهو سقوط الخطر بالضرورة كما أشار عليه قوله تعالى: (فمن فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (وأما الخيال فأمر) لا يعول عليه، لأن للخصم أن يقول: وقع في قلبي خيال فساد (وصفك فلا ينفك عن المعارضة) وما لا ينفك عن

المعارضة لا يصلح حجة شرعية كالوصف الذي لا ينفك عن المناقضة لا يصلح حجة، لما عرف أن حجج الله تعالى لا تتعارض في أنفسها ولا تتناقض، ولأن الظن لا يغني من الحق شيئًا، والحجة ما كان أمرًا ثابتًا في حق الكل، والظن يختص بمن ابتلي به. ألا ترى أن التحري في باب القبلة لا يتعدى ممن أبتلي به ولا يصير قبلة في حق غيره. وقوله: (فنقل عنه إلى شهادة القلب) "أي الوصف في كونه معدلًا نقل عن الأثر إلى شهادة القلب. بخلاف الشاهد" يعني أن التزكية فيه لازمة لاحتمال اعتراض الفسق عليه بعد كونه عدلًا. فأما الوصف الذي هو علة بعدما علم صفة الصلاحية فيه يصير عدالته معلومة، إذ ليس فيه توهم الخيانة، فلهذا كان العرض على الأصول هنا احتياطًا.

وقوله: (كالأثر المحسوس الدال على غير المحسوس) كأثر المشي على الأرض فإنه يدل على الماشي، وإن كان الماشي غائبًا غير محسوس، وكذا البناء يدل على أن بانيًا بناه، وكان الباني حيًا قادرًا على البناء وعالمًا به. يحكم بعقله على هذا بالقطع والبتات، وغن لم يكن رأي الباني فيكون في تيقنه أن باني هذا البناء كان موصوفًا بهذه الأوصاف كأنه راه. وقوله: (فرقهم) جواب عما فرق أهل المقالة الأولي بقولهم: "بخلاف الشاهد لأنه يتوهم" إلى آخره. حيث جعلوا التزكية شرطًا لازمًا ولم يجعلوا العرض على الأصول في الوصف لازمًا بل جعلوا العرض للاحتياط للفرق الذي قالوا. قلنا: هذا الفرق ليس بصحيح، لأن الوصف مع كونه ملائمًا يجوز أن يكون غير علة. ألا ترى أن قولنا: إن الشيء لا يبقى مع فوات ركنه وصف ملائم موافق لتعليل السلف، ومع ذلك أنه غير علة في مسألة الصوم إذا أكل الصائم ناسيًا حيث بقي الصوم مع فوات ركنه حقيقة، لأن الشرع لم يجعل ذلك الوصف علة فوات الصوم، لما أن علل الشرع علل جعلية، وجاز له أن يجعل

الوصف علة في موضع ولا يجعله علة في موضع آخر لمعنى فيه. إذ للشارع ولاية الإيجاد والإعدام، فلابد من ظهور أثر ذلك الوصف في جنس ذلك الحكم، فعند ظهور أثره تعرف عدالة ذلك الوصف، وذلك إنما يكون عند العرض على الأصول وعلى الأحكام التي هي من جنس حكم ذلك الوصف، (فكان الاحتمال في أصله) أي فكان احتمال الرد في اصل الوصف أولى من الاحتمال في المعترض، وهو اعتراض الفسق في الشاهد. بيان هذا أنهم قالوا: إن الشاهد يحتمل أن يعترض عليه فسق يبطل شهادته إلا أن هذا احتمال في المعترض على الشهادة، فإن أصل الشهادة يثبت بالأهلية وهي العقل والبلوغ والحرية ومع المعترض يبقى أهلًا لأصل الشهادة. فأما الوصف في التعليل مع الرد لم يبق علةً أصلًا، فإنه مع كونه ملائمًا لا يجوز أن يكون علة مع الرد أصلا، والشاهد مع الرد يبقى أهلًا لما عرف، فكان الاحتمال في وصف التعليل أقوى، فلما لم تقبل شهادة المستور مع هذا الاحتمال وجب ألا يكون وصف التعليل حجة مع احتمال الرد في أصله بالطريق الأولى.

وقوله: (ألا ترى أن الوصف لا يبقى علة مع الرد مع قيام الملاءمة) بخلاف الشهادة، فإنه إذا رد القاضي شهادة الشاهد في حادثة ل معنى لا يوجب ذلك رد شهادته في حادثة أخرى. (والجواب عن كلامه) أراد به قوله: "إن الأثر معنى لا يعقل". وقوله: (إن الأثر معقول) أي معلوم (من كل محسوس لغة) أي باللفظ الدال على المعنى حتى إن من أخبر آخر أن رجلًا مشى ههنا من غير أن رأي الماشي يفهم السامع من ذلك أنه رأى أثر مشيه واستدل به على مشيه، وقوله: (وعيانا) أي في حق الرائي أثر مشيه، وقوله: (لغة) أي في حق السامع. (ومن كل مشروع معقول دلالة) كقول من يقول: هي مطلقة ثلاثًا فلابد أن يستدل السامع منه على إيقاعه بالتطليق الثلاث، وكونها مطلقة اثر ذلك، أو أراد به ما له اثر في جنس ذلك الحكم كأثر الصغر في حق سلب الولاية عن الصغير في النكاح بطريق الدلالة على سلب الولاية في حق المال. وقوله: (على ما بينا) إشارة إلى قوله: وإنما نعني بالأثر ما جعل أثر له

في الشرع. وقوله: (تعليلًا بمعنى مؤثر) فوجه التأثير هو أن الصوم كف النفس عن شهوة البطن وعن شهوة الفرج، فالمضمضة مبدأ شهوة البطن، والقبلة مبدأ شهوة الفرج، فلما لم يضر الصوم مع وجود مبدأ شهوة البطن لم يضره أيضًا وجود مبدأ شهوة الفرج قياسًا للمبدأ بالمبدأ بل بالطريق الأولى لما أن منع شهوة البطن في الصوم قصدي بدليل شرعيته في وقته وهو النهار عادة فلما لم يمنع ذلك مع أنه مبدأ المقصود فلان لا يمنع وجود مبدأ غير المقصود أولى.

(واختلف أصحاب النبي عليه السلام في الجد) يعني: أن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- اختلفوا في الجد مع الأخوة. فقال أبو بكر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعامة الصحابة -رضي الله عنهم: إن الجد يحجب الأخوة، وهو قول أبي حنيفة -رحمة الله عليه-. وقال علي وزيد بن ثابت -رضي الله عنهما-: إنه لا يحجبهم، وهو

قولهما فعامة الصحابة مثلوا الجد بالوادي الذي ينشعب منه الأنهار يعني أن الجد ينشعب منه الأب والأخوان، والأب ينشعب منه الأخوان، ثم الأب يحجب الأخوين، فالجد الذي هو أصل الكل أولى. وقال علي -رضي الله عنه-: إنما مثل الجد مثل شجرة أنبتت غصنا ثم نفرع من الغصن فرعان، فيكون القرب بين الفرعين أشد من القرب بين الفرع والأصل، لأن الغصب بين الأصل والفرعين واسطة ولا واسطة بين الفرعين. فيكون هذا الكلام مقتضى رجحان الأخ على الجد إلا أن بين الفرع والأصل جزئية وبعضية وليس بين الفرعين -أعني الأخوين- جزئية. وهذا يقتضي رجحان الجد على الأخ فاستويا، ثم وجه الرجحان لقول أبي حنيفة -رحمه الله-: إن الأب حاجب لكلا الفريقين بالإجماع، فمشابهة الجد بالأخ أكثر من مشابهة الأخ به في حق حرمة الحليلة وحق حرمة وضع الزكاة وعدم قبول الشهادة له وكثرة المشابهة إن لم تصلح علة تصلح مرجحًا، وابن عباس -رضي الله عنهما- علل في ذلك بقوله: "ألا يتقي الله

زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبًا" فهو استدلال بمؤثر من حيث اعتبار أحد الطرفين بالطرف الآخر في القرب. وقوله: "أليس يكون خمرًا" هو مقول عمر -رضي الله عنه- فكان متعلقًا بقوله: وقال عمر حين -قال أي عبادة بن الصامت-: ما أرى النار تحل.

وقوله: "ما أري" على بناء المفعول، وقوله: "النار" بالنصب على أنه مفعول ثان للإرادة. فإن قلت: كيف صح قوله: "تحل" وماء العنب لا يكون موصوفًا بالحرمة قبل أن يصير خمرًا؟ قلت: يحتمل أن يسمى منعه عن أن يكون خمرًا إحلالًا أو جعل المشارف للحرمة كالحرمة. (لأنه أعتقه برضاه)، لأنه باشر علة العتق باختياره، فكان راضيًا لعتقه، وفي هذا لا يتفاوت علمه وعدم علمه، لأن المباشر لعلة الحكم أنزل عالمًا لوجود الحكم، فمباشرته بعد ذلك كان رضا منه بذلك الحكم الذي هو العتق ههنا، ف صار كما لو أذن له نصًا أن يعتقه. (لأنه سلطه)، لأنه لما يبق الاستحفاظ بقي تسليطًا على الاستهلاك،

وهذا لأنه حين مكن الصبي من المال فقد سلطة على إتلافه حسا، والتسليط يخرج فعل المسلط من أن يكون جناية في حق المسلط. ثم بقوله: "احفظ" جعل التسليط مقصورًا على الحفظ بطريق العقد وهذا في حق البالغ صحيح. وأما في حق الصبي فلا يصح أصلًا، وفي حق العبد المحجور لا يصح في حالة الرق، وذلك في "الأسرار" الاختلاف في صبي يعقل الحفظ لا في صبي لا يعقله. ألا ترى أنه بنى على هذا أن الصبي لو بلغ صار مودعا ولو كان الخطاب مع من لا يعقل لكان يغلو ولا يصح بالبلوغ، وإنما يجوز بالبلوغ وبالإجازة إذا خاطبه بعد العقد.

(لأنه أمر رجمت عليه والنكاح أمر حمدت عليه)، وهذا الاستدلال في الفرق بوصف مؤثر أي ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة، فيجوز أن يكون سبب الكرامة ما يحمد عليه، ولا يجوز أن يكون سببها ما يعاقب المرء عليه وهو الزنا الموجب للرجم. (غير مؤثر في إبطال التخفيف)، فإن مسح الخف ركن ومع هذا ثبت التخفيف، وكذلك المسح في التيمم. (في ولاية النكاح بالصغر والبلوغ) أي: عللنا بأن المؤثر في ثبوت الولاية للولي صغر المولى عليه، وعللنا بأن المؤثر في انعدام الولاية للولي بلوغ المولى عليه، فكان قوله: (فصح التعليل بالعجز والقدرة للوجود والعدم) على هذا التقدير لفًا ونشرًا أي وجود الولاية للولي على المولى عليه بسبب عجز المولى عليه عن القيام على أمر نفسه بنفسه، وذلك إنما يكون بالصغر، وانعدام الولاية للولي على المولى عليه بسبب قدرة المولى عليه على النظر لنفسه، وذلك إنما يكون بالبلوغ.

وقوله: (كالنفقة) أي: وجوب النفقة للصغير على الأب بسبب عجز الصغير على قدرة الاكتساب وذلك بصغر الصغير، وعدم وجوب النفقة على الأب بسبب قدرة الصغير على الاكتساب بنفسه وذلك إنما يكون بالبلوغ، فكذلك ثبوت الولاية للولي وعدمها في النكاح بسبب عجز الصغير والصغيرة عن قيام أمرهما وبسبب قدرتهما على أمرهما، وذلك إنما يكون بالصغر والبلوغ، فكان المؤثر في ذلك الصغر والبلوغ دون الثيابة والبكارة وكذلك في سائر المواضع إنما يظهر الأثر للصغر والبلوغ في الولاية لا للثيابة والبكارة، أعني الولاية في المال. (إلا في إصابة المأمور) أي: في لزوم إصابة المأمور به.

وقوله: (فإن قيل: التعليل بالأثر) إلى آخره. هذا الإشكال يرد على ما ذكر من صور العلل المؤثر من غير ذكر المقيس عليه قبل. قوله: وعلى هذا الأصل جرينا والله أعلم.

باب بيان المقالة الثانية

باب بيان المقالة الثانية المراد من المقالة الثانية الأولى، سماها ثانية باعتبار الشرح والتقرير: وهذا لأنه ذكر قول أهل الطرد في التقسيم أولًا وذكر قول أئمة الفقه من السلف والخلف ثانيًا، ثم ذكر بيان قول أئمة الفقه متصلًا بالتقسيم، فوقعت المقالة الأولي وهو قول أهل الطرد ثانية في حق البيان فسماها ثانية لذلك. (قسم في بيان الحجة) أي: في بيان حجية الطرد، أي حجية الطرد بماذا تكون؟ بمجرد الوجود عند الوجود أو كان العدم مع العدم شرطًا لصحة الطرد، أو كان الدوران عل وجه يكون النص قائمًا في الحالين، ولا حكم له؟

قوله: (فقال بعضهم: هو الوجود عند الوجود) أي: يوجد الحكم المتنازع فيه عند وجود هذا الوصف، يعني كلما وجد هذا الوصف وجد هذا الحكم وهذا حجة عندهم، (وزاد بعضهم العدم عند العدم) يعني: كلما عدم هذا الوصف هذا الحكم، ولكن هذا قول بألا يكون للحكم الشرعي إلا علة واحدة وهو باطل، لأنهم اتفقوا على أن الحكم الشرعي جاز أن يعلل بعلل شتى فما يفضي إلى انتفاء هذا فهو باطل. (وزاد بعضهم) على هذا الذي ذكر (قيام النص في الحالين) والحكم غير مضاف إلى النص، وهذا باطل أيضًا، لأن شرط صحة التعليل أن يبقى

الحكم في الأصل بعد التعليل على ما كان قبله، فإذا كان بعد التعليل لا يضاف الحكم إلى النص كان ذلك مفسدًا للقياس، فكيف يجعل شرطًا لصحة التعليل؟ ولأن ركن القياس أن يكون الوصف مما اشتمل عليه النص، وإذا كان النص قائمًا ولا حكم له لم يكن الوصف مما اشتمل عليه النص فلم يكن ركن القياس موجودًا، والشيء لا يوجد مع فوات ركنه فكان فاسدًا، والفاسد لا ينتج إلا لفاسد، ونظيره ما قالوا في آية الوضوء في قوله تعالى: () يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ). فإن فيها ذكر القيام إلى الصلاة، فجعل القيام إلى الصلاة موجبًا للوضوء، والموجب للوضوء الحدث وهو دائر معه وجودًا وعدمًا، والنص موجود في حالي الوجود والعدم، ولا يضاف الحكم إليه، فإنه إذا قام إلى الصلاة وهو غير محدث لا تجب الطهارة مع قيام النص، وإذا كان محدثًا تجب الطهارة وإن لم يقم إلى الصلاة.

وقولهِ: (بأن دلائل صحة القياس) أي: من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول على ما ذكره. (إلا بمعنى معقول يوجب تمييزًا) وهو قوله: (أشهد). (فكذلك) أي: نعم كذلك. (ومجرد الاطراد لا يميز، وكذلك العدم عند العدم، لأنه يزاحمه الشرط) أي: إن الحكمة كما يدور مع العلة وجودا وعدما فكذلك يدور مع الشرط أيضًا وجودًا وعدمًا. ألا ترى أن مالية المبيع شرط صحة البيع، وهي دائرة مع صحة البيع وجودًا وعدمًا، أي أينما وجدت المالية وجدت صحة البيع عند مباشرة البيع وأينما انعدمت انعدمت صحة البيع، وكذلك صحة الصلاة مع اشتراط

الطهارة أصلًا وخلفًا دائرة وجودًا وعدمًا، وكذلك في الشرط الصريح. وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: فإن من قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر فاعتق مع هذا الكلام يدور مع الدخول وجودًا وعدمًا، واحدا لا يقول إن دخول الدار علة العتق بل هو شرط العتق، ثم هب كان الأصل هو دوران الحكم مع العلة ولكن مع هذا احتمال الدوران مع الشرط قائم، وبالاحتمال لا تثبت العلة. (لأنه يقال له: وما يدريك أنه لم يبق له أصل مناقض أو معارض؟) فلابد له من أن يقول: لأني ما علمت له أصلًا مناقضًا أو معارضًا، فكان ماله الجهل مع أنه لا يمكن له استقراء جميع الأصول، لأن المعاني المستنبطة من الكتاب غير متناهية فكان استقراء جميع الأصول محالًا، (فلا يصح شرط عدمه) أي لا يصلح أن يجعل العدم شرطًا عند العدم لصحة العلة. (لأنه يحل له القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب) أي: عند قلة

الغضب، (ولا يحل القضاء عند شغله بغير الغضب) بأن يكون حاقبًا أو جائعًا محوجًا، أو عطشان أو مهقمًا، (إلا أن هذا الشرط) وهو قيام النص ولا حكم له. (وذلك غير مسلم) أي دعواهم في هذين النصين ب أنه لا حكم لهما. (لأنه يفارقه بحاله) أي: لأن البدل يفارق الأصل بحالة وهي التلويث واشتراط عدم الماء. فإن ما حال الماء التطهير وعدم اشتراط عدم الماء (لا بسببه)، فإن سبب الوضوء وجوب الصلاة مع شرط الحدث، وشرط الحدث إن لم يذكر في الأصل ذكر في ذكر الخلف وهو قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ

لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فكان مذكورًا في الأصل أيضًا، لأن الخلف لا يفارق الأصل في حق السبب. (وهذا النظم والله أعلم). أي: وإنما ورد نظم القرآن على هذا الطريق، وهو أن يذكر الحدث في التيمم وفي أعظم الطهرين، ولم يذكر في الوضوء، (لأن الوضوء مطهر فدل على قيام النجاسة)، لأن المطهر ما يثبت الطهارة ف يقتضي ثبوت النجاسة ليصح إثبات الطهارة، لأن إثبات الثابت محال (بخلاف التيمم)، لأن التراب غير مطهر ذاتا، بل هو ملوث فلم يقتض ثبوت النجاسة فاحتاج السامع إلى أن يذكر الحدث صريحًا حتى يعلم أن ذلك شرط وجوب الطهارة كما في الوضوء. (والوضوء متعلق بالصلاة) أي: متعلق بالصلاة من حيث السببية، فإن سبب وجوب الوضوء وجوب الصلاة، والحدث غير موجب بل شرط

للوجوب. (وأما الغسل فلا يسن لكل صلاة فلم يشرع إلا مقرونًا بالحدث) ضرورة عدم تنوعه، ولا يقال بأن الغسل سنة للجمعة فيثبت التنوع، لأنا نقول: المدعى أنه لا يسن لكل صلاة فلم يتجه نقضًا، أو نقول: كونه سنة لصلاة الجمعة غير مسلم، لأن الغسل عندي لليوم لا للصلاة، ولئن سلمنا أنه للصلاة فالأصل في يوم الجمعة الظهر فلا يسن له. ويجوز أن يكون مسنونًا لمعنى آخر غير الصلاة وهو أنه يوم اجتماع الناس فيحضر البدويون والقرويون فتوجد منهم الرائحة الكريهة فيسن الغسل دفعًا للأذى عمن يجاوره، أو الخطاب المذكور في قوله تعالى: (وإن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) لجميع المسلمين ووجوب الجمعة مختص بالبعض فثبوت الحكم على العموم أولي. (فلان الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود أو كثرة أداء الشهادة)، فإن نظرت على الأصول هو أن هذا الوصف موجود في هذا الأصل وموجود

في هذا الأصل الآخر وكذا وكذا يوجب كثرة الشهود، والنظر إلى نفس الوصف وهو واحد يوجد في أصول كثيرة يوجب كثرة أداء الشهادة. مثاله قولهم: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه، وهذا الوصف وهو الركنية موجود في غسل الوجه اليدين وفي غسل الرجلين فكل واحد من هذه الغسلات يصلح أصلًا بنفسه فكان فيه كثرة الشهودِ، إلا أن هذا الوصف لما كان واحدًا وهو الركنية يوجد في مواضع كثيرة كان فيه تكثير أداء الشهادة. (بل بأهلية الشاهد) وهي أن يكون الشاهد حرًا عاقلًا بالغًا، (وعدالته) وهي أن يكون محترزًا عن محظور دينه (واختصاص أدائه) وهو أن يقول: أشهد. لا أن يقول: أعلم أو أتيقن، (ولأن الوجود قد يكون اتفاقًا) أي ولأن وجود الحكم عند وجود وصف من الأوصاف قد يكون بسبب اتفاق

الحال لا أن يكون لذلك الوصف اثر في إثبات ذلك الحكم. ألا ترى أن للحنطة أوصافًا سوى الكيل والطعم، فإنها شيءِ، حب، جسيم أمر اللون، مشقوق البطن، ويجري الربا في بيع الحنطة بالحنطة على اختلاف الأصليين وفيها هذه الأوصاف. ولا شك أن هذه الأوصاف مما لا تأثير لها في جريان الربا، بل جريان الربا في بيع الحنطة بالحنطة عند وجود هذه الأوصاف لم يكن لوجود بعض هذه الأوصاف أو لوجود كلها بل وجود هذه الأوصاف كان بسبب اتفاق الحال، ولم يضف الحكم غليها حتى لا تصلح التعدية منها إلى موضع آخر إذا وجد شيء من هذه الأوصاف في ذلك الموضع، ونظير هذا أيضًا في علم الكلام ما قاله أهل الإسلام: إن الله تعالى لا يجوز أن يكون جوهرًا خلافًا لما يقوله النصارى. فإنهم قالوا: الجوهر في الشاهد قائم بالذات، فكان كونه قائمًا بالذات بمنزلة الجوهرية. ويعرف ذلك بالطرد والعكس يعني في الشهد كل جوهر قائم بالذات، وكل قائم بالذات فهو جوهر، فإذا ثبت كون الباري تعالى قائمًا بالذات ثبت كونه جوهرًا. قلنا: الجوهر في الشاهد كما يدور مع القائم بالذات وجودًا وعدمًا ويطرد وينعكس، كذلك يطرد وينعكس مع وصف آخر ويدور معه وجودًا وعدمًا،

وهو أنه أصل للمتركبات ولا يجوز أن يكون لشيء واحد ماهيتان فلابد أن يكون أحدهما اتفاقيا والآخر لا، وكونه قائما بالذات في الشاهد من أوصاف الوجود وكونه أصلًا للمتركبات هو المؤثر في استحقاق اسم الجوهر لما عرف من اشتقاق اللفظ واستعمال أهل الكلام. (والعدم قد يقع، لأنه شرط) أي: عدم الحكم قد يكون، لأن ذلك الوصف شرط، يعنى أن عدم الحكم عند عدم الوصف لا يقتضي أن يكون ذلك علة، لأن الشيء ينعدم بعدم شرطه كما ينعدم بعم علته، فإن البيع كما ينعدم عند عدم ركنه وهو قوله: بعت واشتريت، كذلك ينعدم عند عدم مالية المبيع. (ألا ترى أن وجود الشيء ليس بعلة لبقائه) حتى يقال وجد ولم يبق، فإن وجود الشيء لو كان علة لبقائه لما تصور الفناء كما لا يتصور البقاء على العدل حال الوجود، فلما لم يكن علة لبقائه في نفسه لم يصلح عالة للوجود في غيره بالطريق الأولي. (وكذلك وجود الحكم، ولا علة لا يصلح دليلًا) أي: على فساد العلة لاحتمال أن يثبت الحكم بعلة أخرى.

ألا ترى أن البيع علة لثبوت الملك، ووجود الملك عند عدم البيع بأن يوجد الملك بالإرث أو بقبول الهبة لا يدل على كون البيع غير علة، لاحتمال ثبوت الحكم الشرعي بعلل شتى أي على طريق التناوب والبدلية بخلاف الحكم العقلي، فإنه لا يجوز أن يكون معلولًا بعلل شتى. (ووجود العلة ولا حكم بنفسه لا يصلح مناقضًا، لاحتمال أن ينعدم الحكم بفوت وصف من العلة)، فكان انعدم الحكم لانعدام علته لا بوجود علته مع عدم الحكم، (فلا يكون مناقضة) وإن كان يتراءى ذلك كقولنا: مسح في الوضوء فلا يسن تثليثهِ، ولا يلزم عليه الاستنجاء وهو يتراءى مناقضًا، لأنه مسح ويسن تثليثه. قلنا: إنه ليس بمسح بل هو إزالة النجاسةِ. ألا ترى أنه إذا أحد ولم يتلطخ به بدنه لم يكن الاستنجاء سنه على ما يجيء في باب بيان وجوه دفع المناقضة، وأشار إليه في "التقويم" إلى أن عدم الحكم مع وجود الوصف لا يدل على الفسادِ، لأن العلة قد توجد صحيحة دون الحكم لمانع أو نقصان شيء ليس هو من ركن العلة نحو البيع بشرط الخيار للبائع.

فالبيع موجود ولا حكم له للمانع، وكذلك النصاب موجود ولا حكم له قبل الحول، والحول ليس من ركن العلة ولا مانع له، لكن النصاب بصفة البقاء حولًا صار علة، فبدون صفة البقاء لا يعمل مع وجود ما هو ركن العلة بتمامه حتى صح تعجيل الأداء قبل الحول ولا ذكره. (وقد دل عليه التعليل تخصيصا) أي: لا يكون ذكر الوصف بأنه عله لهذا الحكم تخصيصًا لتلك العلة بهذا الحكم، أي لا يكون تخصيصا بل يجوز أن يكون لهذا الحكم علة أخرى يثبت هذا الحكم بتلك العلة عند عدم هذا الوصف، لأن الحكم يجوز أن يثبت بعلل شتى على طريق البدلية كالملك يثبت بالشراء وبالإرث وبقبول الهبة، فكان انتصاب قوله: (تخصيصا) على أنه خبر يكون، لأن قوله: (ولا ذكره) معطوف على قوله: (فلان يكون مناقضة). وقيل: المراد من التخصيص هذا هو تخصيص العلة المؤثرة المعروف خلافه بين عامة العلماء وبين القاضي الإمام أبي زيد -رحمهم الله- فإن ذلك

جائز عنده خلافًا لعامة العلماءِ، يعني لو ذكر الخصم الوصف مستدلًا بدليل على أن الوصف هو العلة لكن لم يثبت الحكم هنا به المانع لا يكون هذا عند عامة في باب فساد تخصيص العلة إن شاء الله تعالى، لكن الأوجه ما ذكرناه أولًا لسوق الكلام إليه، لأن الكلم في إبطال الاستدلال بالدوران على أنه علة وذلك إنما يحصل بما قلناه. فالحاصل أنه نفى بهذه الأوجه الثلاثة صحة عليه الدوران وجودًا وعدمًا. أحدها: أن وجود الحكم وليس فيه العلة المعينة التي وقع النزاع فيها لا يدل ذلك على فساد تلك العلة، لما ذكرنا من احتمال ثبوت الحكم بعلل شتى على طريق البدلية. والثاني: عكسه وهو أن توجد العلة ولا حكم لها، فإنه لا يدل على فساد العلة لما ذكرنا من احتمال فوات وصف له بتوقف تلك العلة إلى وجوده في إثبات الحكم.

والثالث: تعليل الحكم بعلة لا يدل على التخصيص بتلك العلة، فإن من قال: ثبت لزيد ملك العقار لأنه اشتراه لا يوجد ذلك التخصيص ولا ينفي عليه الهبة والإرث في إثبات ذلك الحكم. (إلا أن هذا) أي: الطرد وجودًا وعدمًا، وهذا استثناء من قوله: (فلأن الاطراد لا يثبت به إلا كثرة الشهود) من حيث المعنى فكان هذا فاسدًا ِإلا أن هذه إلى آخره. وقوله: (فلا يصلح حجة للإثبات) -إلى أن قال- (إلا أن يقع الاختلاف في حكم بسبب معين) أي التعليل بالنفي والعدم لا يصح حجة لإثبات شيء ما كان الاختلاف في السبب كما في إسلام المروي في المروي، فأنا اختلفنا مع الشافعي -رحمه الله- في سبب حرمة النسيئة فعنده الطم أو الثمنية، وعندنا القدر أو الجنسِ، فلذلك اختلفنا أيضًا معه في حكم هذه المسألة بناء على الاختلاف في السبب.

وأما إذا اتفقنا في سبب حكم بأنه لا سبب لذلك الحكم غير ذلك السبب المعين، فحينئذ يجوز التعليل بالعدم لانتفاء ذلك الحكم، لأنه لما كان السبب واحدًا كان عدم ذلك السبب دليلًا على عدم هذا الحكم بالضرورة. (وهذا مثل ما علل محمد -رحمه الله- في ولد المغصوب) الذي ولد في يد الغاصب أنه غير مضمون، لأنه لم يغصب الولد، فإنه اتفقوا على أن ضمان الغصب لا ي ثبت إلا بالغصب، فعدم الغصب يدل على عدم الضمان ثم مع ذلك اختلفوا في حكم الضمان ههنا بعد اتفاقهم على أن سبب له سوى الغصب باعتبار اختلافهم في تفسير الغصب. فعند الشافعي هو إن إثبات اليد المبطلة فيه قصدي وإزالة اليد المحقة فيه ضمني، وعندنا على العكس، وعند هذا وقع الاختلاف ف ي ولد المغصوبة فعندنا لا يضمن، لأنه لم يوجد فيه إزالة اليد المحقة، لأنه لم يكن في يد المالك حتى يزيله وعنده يضمن لثبوت اليد المبطلة فيه، لأن هذا الولد ملك مالك الأم وهو في يد غير مالكه بدون رضاه، فكان حد الغصب فيه موجودًا فيضمن.

(لأن ذلك لا يوجد بغيره) أي الخمس لا يوجد وجوبه بدون الإيجاف (بل هو من جنس ما يثبت معها) أي من الشبهات. ألا ترى أن تفريق الصفقة في البيع يفسد البيع بأن يقول: بعت منك هذين العبدين بكذا فقبل أحدهما لا يجوز، ولو قبل نكاح إحدى امرأتين في مثل هذه الصورة صح، وكذا إذا جمع بين امرأتين أحدهما لا يحل له نكاحها صح نكاح التي حل له نكاحها. وكذلك يثبت النكاح بالهزل والإكراه، والمال لا، (فكان النكاح فوق الأموال في هذا بدرجة) وهي ثبوت النكاح مع الشبهات وعدم ثبوت البياعات معها، ثم لما ثبت المال بشهادة رجل وامرأتين مع أنه لا يثبت مع هذه الشبهات كان النكاح أولي ان يثبت بشهادة رجل وامرأتين، إذ هو مما يثبت بالشبهات. (وكذلك في أخواتها) أي وكذلك الحكم في أخوات مسألة النكاح، وهي: عتق الأخ بالملك، ولحوق المبتوتة طلاق، وعدم جواز إسلام المروي في المروي، وقلنا: إن الأخ يعتق بالملك وإن لم يكن بينهما بعضية، لأن في الأخوة معنى آخر أوجب عتقه وهو القرابة المحرمة للنكاح، وهذا المعنى يوجب العتق، لأنها لما صينت عن أدنى الذلين وجب أن تصان عن أعلاهما وهو ملك الرقبة بالطريق الأولى.

وكذلك قلنا: إن الطلاق يلحق المبتوتة أي المعتدة من طلاق بائن، لأنه بقي فيها أثر من آثار النكاح وهو العدة، فإنها محبوسة عن التزوج بزوج آخر للعدة، كما هي محبوسة عنه حال قيام النكاح فيقع عليها الطلاق كما لو كانت منكوحة، وكذلك نقول في إسلام المروي في المروي: يجوز أن يكون فيه معنى يوجب حرمته وهو اتحاد الجنسية، والجنسية بانفرادها تحرم النسيئة. (عرف وجوبه) أي: ثبوته (على ذلك دلت مسائلهم) أي: مسائلنا ومسائل الشافعي -رحمه الله-. (وهي أصل) أي: البراءة أصل (بل صار قول المدعي معارضًا) بقول المنكر على السواء، فلما كانا متعارضين على السواء لم يكن قول كل واحد منهما حجة على الآخر، ولكن كان حجة في حق نفسه، فجوزنا الصلح

وجعلنا بدل الصلح في حق المدعي اعتياضًا عن حقه، وفي حق المنكر كان لافتداء اليمين وقطع الخصومة، فلو لم يجز الصلح لكان قول المنكر حجة على المدعي، ولا يقال: لو جاز الصلح يجعل قول المدعي حجة على خصمه الذي هو المنكر؛ لأنا نقول: إن بدل الصلح من جانب المنكر كان لافتداء اليمين وقطع الخصومة لا لثبوت الحق عليه، (والشافعي جعله موجبًا) أي: جعل براءة الذمة موجبًا، والتذكير لتأويل الأصل، لأنه هو المذكور قريبًا منه. (وقلنا في الشقص إذا بيع) وإنما وضع المسألة في بعض الشقص دون الجوار، ليتحقق خلاف الشافعي، لأنه لا يقول بالشفعة في الجوار (ملك الطالب) أي: ملك الشفيع. (فإن القول قول المولي) وهو ثبوت الدخول حتى لا يعتق العبد، ومعلوم أن قول العبد مستند إلى دليل من حيث الظاهر، وهو أن الأصل عدم

الدخول، ولكن لما كان قوله في الحال محتملًا وقوله المولى كذلك لم يثبت استحقاقه على المولى بما هو محتمل. كذا قاله الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-. وقوله: (ذكرنا) إشارة إلى قوله: وعندنا هذا لا يكون حجة للإيجاب. (حتى تعذر نسخه) كما يتعذر النسخ حال إثبات النص، فعلم بهذا أن في البقاء إثباتًا أيضًا. (إن الدليل الموجب للحكم لا يوجب بقاءه كالإيجاد لا يوجب البقاء حتى صح الإفناء).

بيان هذا أن الدليل الموجب للحكم لو كان يوجب بقاءه لما احتمل الزوال، كالحكم في حال ثبوته لا يحتمل السقوط؛ لما فيه من الإستحالة وهو وجود المتنافيين كالإيجاد لما كان يوجب الوجود لم يحتمل الفناء حال وجوده، وحيث صح الإفناء في الزمان الثاني علم أن الإيجاد لايوجب البقاء. ولهذا لايجوز النسخ في حال ثبوت الحكم؛ لأن النسخ رفع وإبطال ورفع الشيء في حال ثبوته محال، وجاز النسخ في حال البقاء وقت حياة النبي عليه السلام؛ لما أن الأمر في حال حياة النبي عليه السلام، فإن البقاء بدليله وهو تقرير النبي عليه السلام على ذلك على ماقال عليه السلام: "الحلال ماجرى على لساني إلى يوم القيامة، والحرام ماجرى على لساني إلى يوم القيامة". ولأن كون النبي عليه السلام خاتم النبيين ثبت بدليل قطعي، والنسخ إنما يثبت بالوحي، ولا وحي بعده فلا يثبت النسخ أيضا بالدليل القطعي، فكان البقاء ثابتا بالدليل سوى الدليل الموجب للحكم. وأما الجواب عن فصل الطهارة وأخواتها: إن حكم الطهارة وأخواتها مؤبد، ولهذا لا يصح توقيته. فإنه إذا اشترى على أن يثبت الملك له سنة أو سنتين لا يجوز، وكذلك في النكاح، إلا أنه يحتمل السقوط بطريق المعاارضة على سبيل المناقضة؛ إذ المعارضة على نوعين:

معارضة خالصة: وهي المعارضة في الحكم مع بقاء الدليل على إثبات الحكم على خلاف مايقتضيه الدليل المعارض، فيحتاج المعلل إلى الترجيح. وأما المعارضة على سبيل المناقضة: فهي مايعارض في الأول في الحكم على وجه ينقض الدليل الأول كما هو حكم المناقضة الخالصة، والذي نحن فيه من قبيل ذلك، فإن حكم البيع وهو الملك يسقط على سبيل المناقضة كأن البيع انتقض لا أن الدليل وهو البيع باق مع وجود مايسقطه. وقوله: (هذا لأن ذلك) أي: لأن البقاء (بمنزلة أعراض تحدث) يعني أن الحكم فيما يحتمل البقاء بعد الوجود بمنزلة أعراض تحدث؛ إذ العرض لا يبقى وقتين، فكان البقاء في الزمان الثاني لا يكون للبقاء في الزمان الثالث، وهو يقرر ما قلنا: إن الموجب لحكم لا يوجب بقاءه، وإنما قال: "بمنزلة أعراض" ولم يقل: " لأن ذلك أعراض تحدث "؛ لما أن الأعراض حقيقة إنما تطلق في الإصطلاح على المعاني التي تقوم في الأعيان كالسواد، والبياض، والحركة، والسكون. وأما البقاء في العين الباقي فمعنى راجع إلى ذات العين، إلا أن ذلك معنى أيضا يقوم بالعين الباقي فكان بمنزلة العرض الذي هو غير راجع إلى ذات العين بل مغاير له من كل وجه. (فلا يصح أن يكون وجود شيء علة لوجود غيره) وهو البقاء الذي

هو العرض. (ألا ترى عدم الملك لا يمنع الملك) ولوكان الموجب للعدم موجبا للعدم أيضا في ثاني الحال لما صح تملكه في ثاني الحال، وكذلك في عكسه (إن وجود الملك لا يمنع الزوال)، ولو كان الموجب للوجود موجبا للبقاء في الزمان الثاني لمنع الموجب للزوال عن إزالته. (إنما صح لما ذكرنا) وهو ان الدليل الموجب لحكم لا يوجب بقاءه؛ وهذا لأن النسخ إنما صح في حال البقاء لا في حال الثبوت؛ لأن النسخ رفع والرفع إنما يرد على الثابت لا على حال الثبوت. (لم تحتمل النسخ لبقائها) أي لبقاء دلائل الشرع (بدليل موجب) أي موجب للبقاء؛ لأن إزالة البقاء إنما تكون بالنسخ، وشرط صحة النسخ بقاء النبي عليه السلام، وثبت ختم النبوة بنبينا عليه السلام بالدليل القطعي، وهو

قوله تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) فثبت أن بقاء دلائل الشرع كان بدليل قطعي موجب للبقاء، فلم يكن ذلك علينا حجة؛ لأن كلامنا في موجود لم يقم فيه دليل يوجب بقاءه كما في براءة الذمة عن الدين، وبقاء ثبوت الملك للشفيع الذي يطلب الشفعة بملك مافي يده. (وكذلك الأمر المطلق في حياة النبي عليه السلام) أي الأمر المطلق في حياة النبي عليه السلام في بقائه نظير حياة المفقود من هذا الوجه، إلا أن الفرق بينهما أن المفقود لم يجعل حيا في مال قريبه الذي مات؛ لأن الدليل لم يوجد

في حق حياته في الحال بخلاف النص وقت حياة النبي عليه السلام للحكم قطعا. وإن احتمل النسخ مالم يعلم الناسخ؛ لأن الإبتلاء أصل في الأحكام الشرعية، والتكليف كان ثابتا بالنص، ومالم يعلم انتساخه بالدليل القطعي لم يرتفع التكليف عن المكلف بخلاف مال القريب المفقود؛ فإنه لم يكن ملكا له فلا يكون له أيضا ملكا باحتمال بقاء حياته، فكانا على طرفي نقيض. وكذلك الأمر المطلق- إلى قوله: (يحتمل التوقيت) فإنه لو ورد الأمر من الشارع بقوله: فإن شرعية هذا الأمر إلى سنة أو سنتين بتبين مدة شرعية لكان جائزا. ألا ترى أنه جاء التوقيت مجملا كما في قوله تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أي: القتل والسبي. وكذلك قوله تعالى (وَاللَّاتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ) إلى قوله (أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) أي: مخرجا بالرجم أو بالجلد، بخلاف البيع والشراء؛ لأنه لا يجوز التوقيت فيه لا مجملاً ولا مفسرًا.

(وكذلك حكم الطهارة وحكم الحدث لا يحتمل التوقيت)، فكان نظير الملك بالشراء، فإنه لا يجوز في الشراء أن يقول: اشتريت هذا العبد إلى سنة أو إلى سنتين، وكذلك في الطهارة لايجوز أن يقول: جعلت طهارتي هذه إلى وقت الظهر أو نحوه. (إنه صحيح) أي إن شراءه صحيح (على اختلاف الأصلين). أما على أصلنا (فلأن قول كل واحد منهما لا يعدو قائلة فلو لم يجز البيع لعدا قائله) وهو البائع؛ لأن قول كل واحد منهما حجة في حق نفسه، فإقرار المشتري بأنه حر لايظهر في حق البائع ولا يقال: إنه لو جاز لعدا قائله، وصار قول البائع: إنه عبد حجة على المشتري؛ حيث نفذ البيع ووجب على المشتري الثمن؛ لأنا نقول ليس كذلك، لأنه إنما يكون كذلك أن لو بقى العبد ملكا للمشتري بل إنه حر، فعلم أن قول البائع لم يظهر في حقه. وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: الشاهد بعتق العبد على مولاه إذا اشتراه صح الشراء ولزمة الثمن؛ لأن ما أخبر به الشاهد لكونه محتملا لم

يصر حجة على مولى العبد حتى جاز له الاعتياض عنه بالبيع من غيره، فيجوز له الإعتياض عنه بالبيع من الشاهد، وإن كان زعم الشاهد معتبرا في حق الشاهد، حتى إنه يعتق كما اشتراه لا من جهة المشتري؛ حتى لا يكون ولاؤه له. وقوله: (فصار حجه على خصمه) وهو المشتري حيث يثبت رقبته في حق المشتري ثم يعتق. وقوله: (لأن من الغايات ما تدخل) أي في حكم المغيا، نحو قوله

تعالى: (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) فإن المسجد الأقصى دخل تحت الإسراء، وكذلك قوله تعالى: (وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، وقول من قال: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، والكلام مسوق لحفظ القرآن كله فكان داخلا. (ومنها ما لا تدخل) نحو قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وقوله تعالى: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) (لأن الشك أمر حادث فلا يثبت بغير علة) يعني أن كل حادث يفتقر إلى السبب، والشك حادث فلا يثبت بغير سبب، وما قاله زفر لا يصلح سببا للشك، لأن مايدخل من الغايات في المغيا دخل بدليل، ومالا يدخل لا يدخل بدليل، فلا يصلح هذا متعارضا في غسل المرافق؛ لأن في غسل المرافق التعارض غير موجود؛ لأن شرط التعارض إتحاد المحل كما في سؤر الحمار فوقع التعارض هناك ولم يكن الترجيح فوقع التعارض من هناك ولم يكن الترجيح فوقع الشك ولا كذلك ههنا، (ولأنه يقال له: أتعلم أن هذا من أي القسمين؟)

وقال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-: قلنا له: هل تعلم أن هذا المتنازع فيه من أحد النوعين بدليل، فإن قال: أعلم ذلك، قلنا: فإذن عليك ألا تشك فيه بل تلحقه بما هو من نوعه بدليل، وإن قال: لا أعلم ذلك. قلنا له: قد اعترفت بالجهل، فإن كان هذا مما يمكن الوقوف عليه بالطلب فإنما جهلته عن تقصير منك في طلبه، وذلك لا يكون حجة أصلا، وإن كان مما لا يمكن الوقوف عليه بعد الطلب كنت معذورا في الوقوف فيه، ولكن هذا العذر لا يصير حجة لك على غيرك ممن يزعم أنه قد ظهر عند دليل إلحاقه بأحد النوعين، فعرفنا أن حاصل كلامه احتجاج بلا دليل. (وهذا ليس بتعليل لا ظاهرا) أي طردا (ولا باطنا) أي مؤثرا (ولا رجوعا إلى أصل) أي ليس له مقيس عليه، وقيل: لا ظاهرًا أي لا قياساً

جليًا ولا باطنًا أي لا قياسا خفيا، وهو المسمى بالإستحسان، فالقياس متنوع إلى هذين النوعين، فما كان خارجا عنها لا يكون قياسا. وقوله: (ولا رجوعا إلى الأصل)؛ لأنه قال: كما إذا مسه وهو يبول فجعل نفس مس الذكر مقيسا، وجعل مس الذكر مع وصف آخر مقيسا عليه وهو الأصل، وبذلك الوصف يقع الفرق بين الأصل والفرع فلم يبق إلا قياس مس الذكر بمس الذكر، فصار كأنه قال: مس الذكر فينقض طهارته كما إذا مس الذكر وهذا باطل. (وكذلك) هذا التقرير في قولهم (لا يجوز التكفير بتحرير المكاتب كما إذا أدى بعض بدل الكتابة)؛ لأن بهذا الوصف وهو أداء بعض البدل وقع الفرق بين المتنازع وبينه، فلم يبق إلا قوله: لا يجوز التكفير بتحرير المكاتب؛ لأنه مكاتب وهو معنى قول المصنف -رحمه الله- (فلا يبقى إلا

الدعوى). وأما الاحتجاج بوصف (مختلف فيه فمثل قولهم فيمن ملك أخاه) أنه لا يعتق؛ (لأنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق كابن العم). قلنا: هذا وصف مختلف فيه فلا يصح الاحتجاج به على الخصم، فإن التكفير بتحرير الأب يصح ومع ذلك يعتق عندنا، وفي الأخ ماقال من صحة التكفير بتحريره لا نقول كذلك فإن عنده صحة التحرير بعدما ملكه، فإن عنده الأخ لا يعتق بالملك؛ فلذلك يصح تكفيره بالإعتاق باختياره.

وعندنا لا يصح اعتاقه بهذا الوصف، فإنه يعتق قبل أن يعتقه كما ملكه جبرا بدون اختيار المشتري، وكون الوصف مختلفا فيه وهو أنه جعل صحة التكفير بإعتاقه وصف عدم العتق بالملك، فكان فيه إشارة إلى أن عدم صحة التكفير بالإعتاق علة إثبات العتق بالملك، وعندنا في العتق بالملك لا يحتاج إلى هذا الوصف، فكان وصف العتق بالملك مختلفا فيه. وكذلك في المسألة الثانية جعل صحة التكفير بالإعتاق علة فساد الكتابة، فكان فيه إشارة إلى أن الكتابة إنما تصح إذا لم يصح التكفير بإعتاقه، وعندنا لا يشترط لصحة عقد الكتابة عدم صحة التكفير بالإعتاق، بل يصح عقد الكتابة مع أن التكفير صحيح بإعتاقه ... (فكان شرطا لجواز الصلاة كالثلاث) أي ثلاث آيات عندهما شرط جواز الصلاة، فيجب أن يكون سبع آيات وهي الفاتحة شرط جواز الصلاة

أيضًا؛ لما أن بين الثلاث والسبع مناسبة وتعلقا في مشروع من العبادات وهو صوم المتعة، فإن المتمتع أو القارن إذا لم يجد الهدي صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. (ولأن الثلاث أحد عددي مدة المسح) إلى آخره. بهذا التعليل يحتج الشافعي على أبي يوسف ومحمد -رحمهم الله- ويقول: الثلاث أحد عددي مدة المسح، فلا تصح به الصلاة كالواحدة. يعني أجمعنا واتفقنا معا أن الآية الواحدة لا تجوز بها الصلاة، فيجب ألا تجوز الصلاة بثلاث آيات أيضا؛ لما أن بين عدد الثلاث والواحدة مناسبة وتعلقا في مشروع من العبادات وهو مدة المسح، فإن مدة مسح المسافر ثلاثة أيام ومدة مسح المقيم يوم واحد، فكان حكم الثلاث كحكم الواحدة، فلما لم تجز بالواحدة وجب ألا تجوز بالثلاث، (ولأن الثلاث أو الآية) إلى آخره. يحتج بهذا التعليل الشافعي

على أبي حنيفة -رضي الله عنه- على معنى أن كلا من ثلاث آيات أو آية واحدة ودون الآية ناقص عن السبع في العدد، فكان بينهما مناسبة من حيث النقصان عن عدد السبع، فكان بينهما مناسبة من حيث النقصان عن عدد السبع، فلما لم تجز بما دون الآية بالإتفاق وجب ألا تجوز أيضا بثلاث آيات أو آية واحدة. (ولأن هذه عبادة) والإشارة إلى الصلاة، يعني ينبغي أن يكون لها سبع آيات وهي الفاتحة من أركان الصلاة، كما أن سبعة أشواط من الطواف من أركان الحج.

(لأن لا دليل بمنزلة لا رجل في الدار، وهذا لا يحتمل) يعني أن قوله: لا رجل في الدار يدل على نفي الرجل في الدار، وكذلك في نظائره أن قوله: "لادليل" يدل على انتفاء الدليل على ما هو موضوع النفي، فيستحيل أن يدل قوله: "لا دليل" على وجود الدليل؛ إذ لو دل ذلك عليه لدل قوله: لا رجل في الدار على وجود الرجل فيها إذ لا فرق بينهما، وفي ذلك إبطال الحقائق وإبطال الوضع. فإن قلت: ليس المراد من قلهم: "أن لادليل" حجة للنافي أن يدل قولهم: لا دليل على وجود، بل المراد منه أن النافي لا يحتاج إلى إقامة الدليل على ما أدعاه من النفي، فيثبت النفي بدون إقامة الدليل عليه فلما ثبت ما ادعاه بدون إقامة الدليل عليه كان هو بمنزلة الدليل. وهذا لأن الدليل إنما يحتاج إليه لإثبات المدعي فلما ثبت مدعاه بهذا القدر سماه دليلا، ثم إنما لا يحتاج النافي إلى إقامة الدليل لكونه متمسكا بالأصل وهو عدم الدليل الموجب أو المانع ووجوب التمسك بالأصل إلى أن يظهر الدليل المغير طريق في الشرع.

ولهذا جعل الشارع البينة في جانب المدعي لا في جانب المنكر؛ لأنه متمسك بالأصل وهو أنه لا حق للغير في ذمته ولا في يده، وذلك حجة له على خصمه في الكف عن التعرض له ما لم يقم الدليل، وهذا مؤيد بالنص في أقوى المناظرة وهو إثبات التوحيد خيث علمنا الله تعالى الإحتجاج فيه بلا دليل علي نفي الشرك بقوله: (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) قلت: لا يصح هذا التأويل منهم أيضا؛ لأن النفي من النافي دعوى شيء وهو أمر وجودي فلا بد له من دليل وجودي عليه. والدليل عليه قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ

نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فقد علم الله تعالى رسوله مطالبة النافي بإقامة البرهان وهو اسم للدليل الوجودي، وذلك تنصيص على أن قولهم: "لا دليل" لا يكون حجه. وأما ما قالوا من مسألة المدعي والمنكر فهو دليلنا، فإن الشارع لم يجعل مجرد إنكار المدعي عليه حجه له على المدعي بوجه ما، حتى إنه بعدما حضر مرة وجحد وطلب المدعي من القاضي إحضاره مرة أخرى أحضره القاضي، وإذا طلب المدعي أن يكفله بنفسه أو بالعين الذي فيه الدعوى أجبره القاضي على ذلك، وإذا طلب يمينه حلفه على ذلك، فلو كان " لا دليل " حجة للنافي على خصمه أو بمنزلة الحجة له لم يبق للمدعي عليه سبيل بعد إنكاره. فأما جعل الشرعه القول في المنكر، فذلك باعتبار دليل من حيث الظاهر وهو أن المدعي به عين في يده واليد دليل الملك ظاهرا، أو دين في ذمته وذمته بريئة ظاهرا، ومع هذا قوله: لا يكون حجمه على خصمه وإن حلف حتى لا يصير المدعي مقضيا عليه بشيء فإنه لو أتى ببينة بعد تحليف المدعي عليه جاز للقاضي أن يقضي له، ولكنه لا يعترض له ما لم يأت بحجة يثبت بها الحق عليه. وأما ما ذكروا من النص فإن الله تعالى عالم بالأشياء كلها لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا يخفي عليه خافية فإخباره أنه لا برهان لمن يدعي الشرك حصل

لنا علم اليقين بأنه لا دليل على الشرك بوجه، فكان هو بمنزلة قوله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الآية. ثم نقول لهذا القائل: قولك: " لا دليل " شيء نقوله عن علم أو لا عن علم؟ فإن زعمت أنك تقوله عن علم فالعلم الذي يحدث للمرء لا يكون إلا بدليل، وإن زعمت أنك تقوله لا عن علم فقد نهيت عن ذلك، قال الله تعالى: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) وقال: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطوا بِعِلْمِهِ) الآية، فما يكون مذموما منهيا عنه نصا كيف يصلح أن يكون حجة على الغير؟ إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-. (ولا يلزم ما ذكر محمد -رحمه الله-) إلى آخره لما قال محمد: لا خمس في العنبر. قيل له: لم قال: لأنه بمنزلة السمك؟ قيل له: وما بال السمك لم يجب فيه الخمس؟ قال لأنه بمنزلة الماء، وهو إشارة إلى مؤثر، فإن الأصل في

خمس الغنائم، وإنما يجب فيما يصاب مما كان أصله في يد العدو ووقع في يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فيكون في معنى الغنيمة. والمستخرج من البحار لم يكن في يد العدو قط؛ لأن قهر الماء يمنع قهر آخر على ذلك الموضع، ثم القياس ألا يجب الخمس في شيء، وإنما يجب الخمس في بعض الأموال بالأثر، فبين أن ما لم يرد فيه الأثر يؤخذ بالقياس، فكان هذا احتجاجا بالقياس، إلى هذا أشار الإمام شمس الأئمة -رحمه الله-. فعلم بهذا أن ما ذكره محمد -رحمه الله- احتجاج بالقياس لا احتجاج بلا دليل. فإن قلت: لو نظرنا إلى ما ذكرته كان احتجاجا بالدليل، ولو نظرنا إلى قوله: "ولم يرد فيه آثر " كان احتجاجا بلا دليل، فلم رجحت جانب ما يدل على الدليل على جانب ما يدل على غير الدليل؟

وقوله: (ولهذا صح هذا النوع من صاحب الشرع)، فالمراد بصاحب الشرع الله تعالى لا النبي عليه السلام، قلت: ترجيحا لجانب الموجود على المعدوم؛ لأن القياس موجود في الحال، والأثر الذي يوجب الخمس غير موجود في الحال، فلا يجوز ترك الدليل الشرعي الذي يوجب الععمل في الحال لأجل دليل معدوم يحتمل أن يوجد في ثاني الحال. بدليل قوله تعالى (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) وكذلك قوله: (إذ لا يجري عليه السهو ولا يوصف بالعجز) دليل على ما قلت، لأن النبي عليه السلام يجري عليه السهو. وأولى الدليل فيه قوله: (فأما البشر) ألى آخره، فإنه دليل قاطع على ماقلت؛ لأن النبي عليه السلام بشر، ومن ادعى أنه يعرف كل شيء نسب إلى السفه أو العته، وكيف يتمكن أحد من هذه الدعوى مع قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا). وإذا علمنا يقينا أن المحتج بلا دليل لم يبلغه جميع أنواع العلم عرفنا أن

استدلاله بما لم يبلغه على الخصم باطل، ولهذا صح هذا النوع من الاحتجاج فيما نص الله تعالى عليه؛ لأن الله تعالى عالم بالأشياء كلها قال الله تعالى: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) الآية.

باب حكم العلة

باب حكم العلة لما ذكر ركن القياس وما يتعلق به شرع في بيان حكم القياس؛ لأن حكم الشيء أثر ذلك الشيء، والأثر أبدا يعقب المؤثر، (وقد ذكرنا أن التعدية حكم لازم عندنا) أي في بيان النوع الثالث من شروط القياس والتعليل للأقسام الثلاثة الأول، وهي: إثبات الموجب أو وصفه، وإثبات الشرط أو وصفه، وإثبات الحكم أو وصفه.

فإن قلت: هذا الذى ذكره يؤدي إلى سد باب القياس؛ لأن القياس شرعا إنما يجري فى هذه الأشياء الثلاثة، ولما لم يجز فى هذه الأشياء لم يبق موضع شرعي يجري فيه القياس، فحينئذ كان هذا قولا بأنه لا يجري القياس شرعا فى شيء من المواضع مع أن الأقيسة جرت في هذه المواضع. أما فى إثبات الموجب بالقياس فهو فيمن شرع في صلاة التطوع أو في صوم التطوع يلزمه الإتمام، ولو أفسد يجب عليه قضاؤه عندنا خلافا للشافعى. وقد قال فيه مشايخنا بالقياس، وقالوا: أن الشارع باشر فيه فعل قربة مقصودة فيجب عليه إتمامه ويلزمه القضاء بالإفساد كمن أحرم لحج التطوع. وأما في إثبات الشرط بالقياس فقد قال مشايخنا في وجوب الوضوء في الفصد أو الحجامة: إنه خارج نجس وصل إلى موضع يلحقه حكم التطهير فكان كالخارج من السبيلين.

وأما في إثبات الحكم بالقياس فقد قال مشايخنا- رحمهم الله- في جواز دفع القيم فى الزكاة: إنه ملك الفقير ملا متقوما بنية الزكاة فيجوز. كما لو أدى بعيرا عن خمس من الإبل، فعلم بهذا أن الأقيسة تجرى فى هذه المواضع. قلت: هذا الذي أوردته من النظائر هى نظائر القسم الرابع ولا كلام فى صحته، وإنما الكلام فى القياس فى هذه المواضع ما إذا قال فيه بالرأي من نفسه من غير أن يكون له أصل يقيس عليه ما وقع فيه النزاع بعلة جامعة بينهما. وأما إذا كان لما وقع فيه النزاع معنى معلوم يجمعهما فيقيس المعلل عليه بشرائطه المذكورة كان قياسا صحيحا جائزا سواء كان ذلك في إثبات الموجب أو وصفه، أو في إثبات الشرط أو وصفه، أو في إثبات الحكم أو وصفه لوجود ما يصح فيه القياس على ما يجيء فى آخر هذا الباب بقوله: ((وإنما أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له فى الشريعة أصل)) إلى آخره. (إنما يجب الكلام فيه) أي في إثبات الموجب (بإشارة النص أو دلالته أواقتضائه).

فإن قلت: لو ثبت الموجب بهذه الأشياء كان الحكم الموجب فيه قطعيا لما أن الحكم الثابت بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه قطعي على ما مر في باب وجوه الوقوف على أحكام النظم، والكلام هنا في القياس لا في الإشارة والدلالة والاقتضاء، وقد ذكرت نظير جريان القياس في الموجب بدون أن يثبت بإشارة النص وأختيها فكيف حصر ثبوت الموجب بهذه الأشياء الثلاثة مع ثبوته بالقياس؟ قلت: الحكم الثابت بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه هنا غير الحكم الثابت بتلك الأشياء الثلاثة في باب وجوه الوقوف على أحكام النظم، فإن الأحكام ثبتت هناك بمحض إشارة النص أو دلالته أو اقتضائه من كل وجه من غير شائبة غموض فيه، بل ثبتت بتلك الأشياء صريحا. وأما ههنا فيثبت الموجب أو الشرط أو الحكم بنوع إشارة النص أو نوع دلالته أو نوع اقتضائه لا مطلقا. ألا ترى أنه كيف أثبت موجب حرمة النسيئة بدلالة النص التي فيها غموض وخفاء لا يدركه بعض الفقهاء مع أن الحكم الثابت بدلالة النص هو ما يدركه الفقيه وغير الفقيه لوضوحه وإنارته. وأما ما ذكرته من نظير إثبات الموجب بالقياس فأصله مستند إلى النص

وهو قوله تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)، ولأن الحكم الذي ثبت هنا بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه ذلك النص هو النص الذي كان ثبوته غير قطعي بدلالة ما أورده من النظائر، بخلاف الأحكام الثابتة بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه في باب وجوه الوقوف. ألا ترى أن الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- ذكر عبارة النص هنا أيضا مع تلك الثلاثة فقال: وإنما طريق إثبات الرجوع إلى النص أو دلالته أو إشارته أو مقتضاه- إلى أن قال -: وإنما أثبت أبو حنيفة -رحمه الله - ذلك أي أن الوتر بمنزلة الفريضة بالنص المروي فيه وهو قوله عليه السلام: ((إن الله تعالى زادكم صلاة ألا وهي الوتر)). ثم قال: فكذلك طريق إثبات كون الجنس علة الرجوع إلى النص ودلالته. وهو أنه قد ثبت بالنص حرمة الفضل الخالي عن العوض إذا كان مشروطا بالعقد، وباشتراط الأجل يتوهم فضل مال خال عن المقابلة باعتبار صفة الحلول فى أحد الجانبين، ولم يسقط اعتباره بالنص؛ لكونه حاصلا بصنع العباد بخلاف صفة الجودة فإنها يسقط اعتبارها بالحديث وهذا ليس

في معناه فلا يلحق به، وبما أورده شمس الأئمة- رحمه الله- من هذا الكلام هنا يعلم ما ذكرته من المعنيين: وهو أن الدلالة التي ذكرت هنا ليست كدلالة النص التي مر ذكرها في الوضوح. والثاني: إن المراد من النص النص الذي هو غير قطعي في إيجاب الحكم. وقوله: (بما ذكرنا) إشارة إلى قوله: ((بإشارة النص أو دلالته أو اقتضائه)) ثم ذكر في (مسألة الجنس) بالدلالة (محرما بما ذكرنا من العلة) أي إذا كان القدر والجنس موجودين تثبت حرمة حقيقة الفضل، فكذلك في مسألتنا ينبغي أن تثبت بدلالته حرمة شبهة الفضل وهو فضل النقد على النسيئة. فإن قيل: الفضل من حيث النقدية فضل من حيث الوصف فيجعل عفوًا

كالفضل من حيث الجودة. قلنا: بلى لكن حصل فضل النقدية بصنعنا فيمكن الاحتراز عنه. أما الفضل من حيث الجودة فضل حصل بصنع الله تعالى من غير واسطة فعل العباد فلا يمكن الاحتراز عنه فيجعل عفوا؛ لأنا لو اعتبرنا صفة الجودة لا يمكن المساواة في الكيل. (وقد وجدنا في النسيئة) أي في عقد النسيئة بالنقد (شبهة الفضل وهو الحلول المضاف إلى صنع العباد) وهو النقد، وقد وجدنا شبهة العلة، وذلك لأن علة الربا القدر مع الجنس وبالقدر مع الجنس تثبت المماثلة صورة ومعنى. وهو المراد بقوله عليه السلام: ((مثلا بمثل)) فبوجود أحد هذين الوصفين تثبت المماثلة، إلا إن المدلول في عقد النسيئة بالنقد غير ثابت؛ لأن المماثلة لم توجد على الكمال وهو المراد بالنص، فكان عند وجود أحدهما وجود شبهة العلة فتثبت حرمة شبهة الفضل ضرورة. ولا يقال بأن حقيقة الفضل لا تحرم عند وجود أحد الوصفين فلا تحرم الشبهة بدلالة النص؛ لأننا نقول هذا الذي ذكرته نوع دلالة على الحل وما ذكرناه نوع دلالة على الحرمة فرجحنا جانب الحرمة بالنص، ولأن فيما ذكرنا رعاية المناسبة بين العلة وحكمها؛ إذ إثبات أحد جزئي الحكم الذى هو مناسب لأحد جزئي العلة من المناسبة. بيان ذلك بتمامه مذكور في

((الوافي)) (فأثبتناه بدلالة النص)؛ لأن النص يدل على ثبوت الحكم عند وجود العلة، وقد وجدت العلة على ما ذكرنا من التفسير فكان ثابتا بدلالة النص.

(وأما صفة السبب) أي صفة الموجب (فمثل صفة السوم في الأنعام أيشترط للزكاة أم لا؟) فعند مالك لا يشترط، وعندنا يشترط، وهو يتمسك بظاهر إطلاق قوله عليه السلام: ((في خمس من الإبل شاة (). ونحن نتمسك بما روى عن ابن عباس -رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام قال: ((ليس في الحوامل والعوامل صدقة)). (ومثل صفة الحل في الوطء لإثبات حرمة المصاهرة) عندنا ليس بشرط وعند الشافعي شرط فإنه يتمسك بقوله عليه السلام: ((الحرام لا يحرم

الحلال)). ونحن نتمسك بقوله تعالى: (وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) فالنكاح للوطء حقيقة، فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن، فالتقييد يكون الوطء حلالا زيادة فلا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس. (في صفة القتل الموجب للكفارة)، فعندنا صفة القتل الموجب للكفارة الخطأ لا غير، وعند الشافعي القتل مطلقا سواء كان عمدا أو خطأ، وهو يتمسك ههنا بدلالة النص ويقول: لما أجمعنا بوجوب الكفارة في القتل الخطأ مع قصوره في الجناية كان وجوب الكفارة في القتل العمد أولى لكماله في الجناية، ونحن نتمسك بقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، وبقوله عليه السلام: ((خمس من الكبائر لا كفارة فيهن -وذكر منها- القتل العمد)). وكذلك مثل هذا التمسك من الجانبين في صفة اليمين الموجبة للكفارة، وهو يتمسك في وجوب الكفارة في الغموس بدلالة النص، ونحن نتمسك

في عدم وجوبها بهذا الحديث (ومثل صوم الاعتكاف) ففي الاعتكاف الواجب عند علمائنا الثلاثة -رحمهم الله- يشترط الصوم لصحة الاعتكاف، وعند الشافعي لا يشترط. هو يتمسك بما روى عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: (ليس على المعتكف صوم) ونحن نتمسك بما روى عن ابن عباس وعائشة -رضي الله عنهم - أنهما قالا: ((لا اعتكاف الا بصوم)) وأما إذا كان الاعتكاف تطوعا ففي رواية الحسن عن أبي حنيفة -رحمهما الله -: لا يكون الا بالصوم ولا يكون أقل من يوم لإطلاق الحديث، فكان الصوم للاعتكاف كالطهارة للصلاة.

وفي ظاهر الرواية يجوز النفل من الاعتكاف من غير صوم؛ لأن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى تجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول وفي الواجب لا يجوز. هذا كله من ((المبسوط)) وكذلك فى غيرها كل واحد من الطرفين يتمسك في مثل هذه الصور في تقرير مذهبه إما بالنص أو بإشارته أو بدلالته أو باقتضائه. (ومثل الشهود في النكاح) فعند مالك لا يشترط وعند عامة العلماء يشترط. (ومثل شرط النكاح لصحة الطلاق) فعند الشافعي شرط حتى إذا خالعها ثم طلقها فى العدة لا يقع عنده، وعندنا يقع، وكذلك النكاح ليس بشرط لصحة تعليق الطلاق بالنكاح عندنا، وعند الشافعي شرط صحة التعليق بالشرط النكاح.

(فمثل اختلافهم في الركعة الواحدة) أى البتيراء؛ فإنها ليست بصلاة مشروعة عندنا، وعند الشافعي مشروعة. (وفي صوم بعض اليوم) أي الصوم النفل ببعض اليوم مشروع أم لا؟ فعند الشافعي مشروع حتى صحت نيته بعد الزوال عنده.

(وفي حرم المدينة) فعند الشافعي للمدينة حرم، وعندنا لا حرم لها حتى حل صيدها، وقطع أشجارها عندنا وعنده لا يحل، (فمثل الاختلاف في صفة الوتر) أنه سنة أو واجب؟ (وفي صفة الأضحية) أنها سنة أو واجبة؟ (وفي صفة حكم الرهن بعد اتفاقهم أنه وثيقة لجانب الاستيفاء)، فعندنا هو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين، وعند الشافعي هو أمانة ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه. (وكاختلافهم في كيفية وجوب المهر) فعندنا في عقد النكاح بغير تسمية

المهر يجب مهر المثل بنفس العقد. وعند الشافعي في أحد قوليه لا يجب المهر بنفس العقد، وإنما يجب المهر بالفرض بالتراضي أو بقضاء القاضي، وحتى إذا مات أحدهما قبل الدخول فلا مهر لها عنده، ومشايخهم يختلفون ف يما إذا دخل بها فأكثرهم على أنه يجب المهم بالدخول، ومنهم من يقول: لا يجب بالدخول أيضًا. والمسألتان الأخيرتان وهما مسألة الرهن والمهر في "المبسوط". (ولا يلزم اختلاف الناس بالرأي في صوم يوم النحر). قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: قلنا: لأنا وجدنا أصلًا متفقا عليه في كون الصوم مشروعًا فيه وهو سائر الأيام فأمكن تعدية الحكم بتعليله على الفرع، ثم يبقى وراء ذلك الكلام في أن النهي الذي جاء لمعني في صفة هذا اليوم، وهو أنه يوم عيد عمله يكون في إفساد المشروع مع بقائه في الأصل

مشروعًا، أو في رفع المشروع وانتساخه، وهذا لا نثبته بالرأي وإنما نثبته بدليل النص وهو الرجوع إلى موجب النهي أنه الانتهاء على وجه يبقى للمنتهي اختيار فيه كما قررنا. (ألا ترى أنهم اختلفوا في التقابض في بيع الطعام بالطعام) إنما أطلق الطعام ليكون متناولًا للطعامين من جنس واحد أو من جنسين مختلفين، فالخلاف فيهما واحد. ذكر هذه المسألة في "المبسوط" في الباب الأول من كتاب البيوع بعد ستة وثلاثين ورقا فقال: وإذا اشترى طعامًا بطعام مثله وترك الذي اشترى ولم يقبضه حتى افترقا فلا باس به عندنا. وعند الشافعي- رحمه الله- يبطل العقد، والتقابض في المجلس في بيع الطعام بالطعام ليس بشرط سواءً كان من جنسه أو من خلاف جنسه عندنا، وعند الشافعي شرط، فقال: إن العقد جمع بين البدلين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه عينا يحرم التفاضل بينهما فيشترط فيه القبض في المجلس كبيع الذهب بالفضة. وقلنا: إن القبض حكم العقد فلا يشترط اقترانه بالعقد كالملك، فإن

الملك يجوز أن يتأخر عن حالة العقد بخيار الشرط أو نحوه. (كما في سائر السلع)، فلما كان للذي ذكر من الدعوى أصل مقيس عليه، وله علة جامعة بينه وبين المقيس جاز القياس فكان هو حينئذ نظير القسم الرابع، فالمنصف- رحمه الله- ذكر نظير القسم الرابع في مسألة التقابض في بيع الطعام بالطعام. والإمام شمس الأئمة- رحمه الله- ذكره في الاختلاف في مسح الرأس ف قال: وأما بيان القسم الرابع، فنحو الاختلاف في المسح بالرأس أنه هل يسن تثليثه؟ فإنه يوجد في الطهارة ما هو مسح ولا يكون التكرار فيه مسنونًا فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع المختلف فيه، ويوجد في أعضاء الطهارة ما يكون التكرار فيه مسنونًا بالاتفاق فيمكن تعليل ذلك المتفق عليه لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين. ثم الكلام يقع بعد ذلك في الترجيح، وكذلك إذا وقع الاختلاف في اشتراط تعيين النية في الصوم، فإن هناك أصلًا متفقًا عليه يتأدى به الصوم بمطلق النية وهو النفل الذي هو عين مشروع في وقته فيمكن تعليل ذلك

لتعدية الحكم به إلى الفرع، وهناك أصل في الصوم الذي هو فرض لا يتأدى إلا بتعيين النية وهو صوم القضاء فيمكن تعليل ذلك لتعدية الحكم به إلى الفرع فيكون القياس في موضعه من الجانبين، ثم الكلام في الترجيح بعد ذلك. (فاقتصرنا على الإشارة إلى الجمل) أي إلى هذه الجملة التي ذكرنا. (وأما النوع الرابع) وهو النوع الرابع الذي ذكر في أول هذا الباب بقوله: والرابع هو تعدية حكم معلوم بسببه وشرطه بأوصاف معلومة. (فعلى وجهين في حق الحكم)، وإنما انحصر على هذين الوجهين، لأن الحكم إذا تعلق بالمعنى فلا يخلو إما أن يكون المعني جليًا أو خفيًا، فإن كان جليًا سميناه قياسًا، وإن كان خفيا سميناه استحسانا، وهذا.

باب بيان القياس والاستحسان

باب بيان القياس والاستحسان (وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسيين)، وإنما قال ذلك ردًا لتشنيع من

...............

لا وقوف له على ما أراد بهذا اللفظ علماؤنا- رحمهم الله-، فقال إذا كان العمل بالاستحسان هو الأولى دون القياس كان القياس باطلًا في حق العمل بمقابلته، فبعد ذلك كيف يصح قولكم: القياس حجة؟ ورد هذا التشنيع بهذا فقال: "إن الاستحسان أحد القياسيين" لكن أحدهما أقوى من الآخر بقوة أثره، فالعمل بالأقوى لا يدل على أن الآخر ليس بحجة أصلًا. ألا ترى أن النصين إذا تعارضا وأحدهما أقوى لمعني فيه لكونه محكمًا أو مفسرًا فالعمل به أقوى، وهو لا يدل على أن الظاهر أو النص لا يكون حجة، ف كان عملنا في هذين القياسيين بمنزلته، فبطل تشنيع هذا المشنع، وتمام هذا يذكر ف ي آخر الباب. (لكنه سمي استحسانًا إشارة إلى أنه الوجه الأولى في العمل به، وأن العمل بالآخر جائز كما جاز العمل بالطرد وإن كان الأثر أولى منه)، وهذا الذي ذكرنا إنما يتحقق فيما إذا عارض الاستحسان قياسًا في مسألة واحدة كان العمل بالاستحسان أولى، كما يقال: التوضؤ بسؤر الهرة جائز، والترك أولى، والعلم بالعلل الطردية جائزة، وإن كان العمل بالعلل المؤثرة أولى. وهذا الذي ذكره هاهنا خلاف ما اختاره الإمام شمس الأئمة السرخسي

- رحمه الله- في الظاهر فقال: وظن بعض المتأخرين من أصحابنا أن العمل بالاستحسان أولى مع جواز العمل بالقياس في موضع الاستحسان، وشبه ذلك بالطرد مع المؤثر، قال: العمل بالمؤثر أولى وإن كان العمل بالطرد جائز، ثم قال: قال- رضي الله عنه-: وهذا وهم عندي، فإن اللفظ المذكور في الكتب في أكثر المسائل: إلا أنا ركنا هذا القياس والمتروك لا يجوز العمل به، وتارة يقول: إلا أني أستقبح ذلك، وما يجوز العمل به من الدليل شرعًا فاستقباحه يكون كفرًا. فعرفنا أن الصحيح ترك القياس أصلًا في الموضع الذي نأخذ بالاستحسان، وبه يتبين أن العمل بالاستحسان لا يكون مع قيام المعارضة، ولكن باعتبار سقوط الأضعف بالأقوى أصلًا. وقد قال في كتاب السرقة: إذا دخل جماعة البيت وجمعوا المتاع فحملوه على ظهر أحدهم فأخرجه وخرجوا معه في القياس القطع على الحمال خاصة، وفي الاستحسان يقطعون جميعًا. وقال في الحدود: إذا اختلف شهود الزنا في الزاويتين في بيت واحد في القياس لا يحد المشهود عليه، وفي الاستحسان يقام الحد، ومعلوم أن الحد يسقط بالشبهة. وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد- رحمهما الله- تصحح ردة الصبي

استحسانًا، ومعلوم أن عند قيام دليل المعارضة ترجيح الموجب للإسلام، وإن كن هو أضعف كالمولود بين كافر ومسلمة، وكيف يستحسن الحكم بالردة مع بقاء دليل موجب للإسلام، فعرفنا أن القياس متروك أصلًا في الموضع الذي يعمل فيه بالاستحسان، وإنما سميناهما تعارض الدليلين باعتبار أصل الوضع في كل واحد من النوعين، لا أن بينهما معارضة في موضع واحد، وعن هذا قال بعضهم بالتوفيق بينهما. وأول ما ذكره فخر الإسلام- رحمه الله- فقال: لا تتعارض بين القياس والاستحسان في الحقيقة، لأن القياس أضعف والاستحسان أقوى، والأضعف لا يعارض الأقوى، فصار الأضعف بمنزلة المعدوم. ويجوز أن يكون المصنف- رحمه الله- أراد بما ذكر: "أن العمل بالقياس جائز" أي عند سلامته عن معارضة الاستحسان، وعنى بالجائز الواجب، لأن القياس إذا انفرد عن معارضة الاستحسان كان العمل بالقياس واجبًا، وعنى بقوله: إلا أنه مقدم على القياس عند وجودهما، وكذلك هذا في الطرد مع الأثر، إذا لم يعرض الأثر الطرد يجوز العمل بالطرد عند العجز كما يجوز باستصحاب الحال عند الضرورة.

والدليل على أن المراد هذا ما ذكره بعد هذا بأسطر بقوله: فسقط حكم القياس بمعارضة الاستحسان. بقولة: ف صار هذا باطنًا ينعدم ذلك الظاهر. أي دليل القياس في مقابلته فسقط حكم الظاهر لعدمه، فلما كان دليل القياس منعدمًا وساقطًا في مقابلة دليل الاستحسان لم يكن معارضًا للاستحسان في الحقيقة، فكان العمل بالقياس متروكًا أصلًا، لا أن يكون جائزًا عند وجود دليل الاستحسان. وقوله: (وهو الاستصناع) والقياس يأبى جواز الاستصناع، لأن المستصنع فيه مبيع وهو معدوم وبيع المعدوم لا يجوز، ولو كان موجودًا غير مملوك للعاقد لم يجز بيعه، فإذا كان معدومًا أولى، ولكنا تركنا القياس لتعمل الناس فيه إلى آخر. كذا ذكره في "المبسوط". وصورته هي ما ذكر في "الوافي" رجل جاء إلى إنسان فقال له: اخرز لي خفًا من جلدك صفته كذا، وقدره كذا بكذا درهمًا، وسلم إليه الدراهم أولم يسلم فإنه يجوز للتعامل فيه.

(وسمينا الذي قوى أثره استحسانًا)، لأنه هو الأولى بالعمل به، (وقدمنا الثاني) أي الاستحسان. (الجلاء) - بالفتح والمد- الأمر الجلي يقول منه: جلا لي الخبر أي وضح، وقول زهيرة: فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو شهود أو جلاء ويريد الإقرار. كذا في الصحاح. وقوله: (والصفوة)، لأنه خالص عن شوب المحنة.

(لعدمه) أي لعدم حكم القياس، لأن المغلوب في مقابلة الغالب معدوم. (وفي الاستحسان هو طاهر) أي سؤر سباع الطير (طاهر بدليل جواز الانتفاع به شرعًا) كالكلب للاصطياد والحراسة، ولو كان حرامًا الانتفاع بعينه لحرم الانتفاع بعينة بقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس). (فأثبتنا حكمًا بين حكمين) أحد الحكمين كونه نجسًا لا بطرقي المجاورة والآخر كونه طاهرًا، فالحكم بين الحكمين (النجاسة (المجاورة، فتثبت صفة النجاسة في رطوبته) أي في رطوبة سؤر سباع البهائم.

(والعظم طاهر بذاته خال عن مجاورة النجس)، لأن منقارهم عظم جاف ثم تأيد هذا بالعة المنصوص عليها في الهرة، فإن معني البلوي يتحقق في سؤر سباع الطير، لأنها تنقض من الهواء، ولا يمكن صون الأواني

عنها خصوصًا في الصحاري. (مثاله) أي مثال القياس الذي عمل به علماؤنا- رحمهم الله- وإنما ذكر جواز السجدة بالركوع قياسًا وعدم الجواز استحسانًا، لأن القياس الجلي يسمي قياسًا، وهو موجودًا هاهنا وهو جلي، لأنه قال: لما جاز السجود جاز

الركوع، لأن كلًا منهما يعد تواضعًا بالانحناء وهذا ظاهر، لأنه إذا وجد المسمى جاء الاسم، وفي الاستحسان نوع خفاء، لأنه يحتاج فيه إلى أن يقال: إنه مأمور بالسجود دون الركوع، وكلل واحد منهما مخالف للآخر، فلا ينوب أحدهما عن الآخر كسجدة الصلاة، فلذلك سمي استحسانا. (أنه غير مشروع مستقلًا بنفسه)، لأن ذلك يجب عند وجود فعل العباد مع تلاوة أو سماع. (وبخلاف سجود الصلاة)، لأنه قربة مقصودة. (مع الفساد الظاهر)، وهو التمسك بالمجاز (أحق من الأثر الظاهر) أي من القوة الظاهرة للاستحسان (مع الفساد الباطن)، وهو جعل ما ليس بمقصود بمنزلة المقصود. (وهذا قسم عز وجوده) أي ترجيح القياس على الاستحسان مما يقل وجوده، ومن ذلك القليل أيضًا ما ذكره الإمام الزاهد نجم الدين النسفي- رحمه الله- في مجمع العلوم: لو قال رجل لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق، فقالت: ولدت وكذبها الزوج، فالقياس أن لا تصدق، وفي

الاستحسان تصدق وبالقياس نأخذ. وفي "الجامع": أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فقضى القاضي بجلد مائة، فجلد ولم يكمل الجلد، فشهد شاهدان أنه محصن، ففي القياس يرجم وهو قولهما، وفي الاستحسان لا يرجم وبالقياس نأخذ. وذكر في كتاب الرهن والنكاح: إن الرهن بمهر المثل لا يكون رهنًا بالمتعة عند أبي يوسف-رحمه الله- قياسًا وعند محمد- رحمه الله- وهو الاستحسان يكون رهنا، وبالقياس نأخذ إلى آخره. وذكر في رهن "الهداية": فإن أقام الرجلان كل واحد منهما البنية على رجل أنه رهنه عبده في يده وقبضه فهو باطل. هذا جواب القياس. وأما جواب الاستحسان فإنه يكون رهنًا لهما، فيجعل كأنهما ارتهناه معًا إذا جهل التاريخ بينهما، ثم قال: وهو وإن كان قياسًا، لكن محمدًا -رحمه الله-

أخذ به لقوته؛ (لأنه ينكر تسليم المبيع بما يدعيه المشترى ثمنًا)؛ لأن المشتري يدعي على البائع عند إحضار أقل الثمنين تسليم السلعة، والبائع ينكر. (وهذا حكم تعدي إلى الوارثين) أي إلى وارث البائع ووارث المشترى إذا اختلفا في الثمن قبل قبض المبيع يتحالفان كما إذا اختلف المورثان، (وإلى الإجارة) بأن اختلف المؤجر مع المستأجر في قدر الأجرة قبل استيفاء المعقود عليه وهو المنفعة فإنهما يتحالفان. (وما أشبه ذلك) وهو كل عقد اختلف في بدلة والمعقود عليه غير مسلم والتسليم فيه لا يجب إلا بعد تسليم البدل، كما في النكاح يعني إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر قبل الدخول، وكما إذا هلكت السلعة واختلفت بدلا بأن قبل العبد المبيع قبل القبض. (وإنما أنكر على أصحابنا بعض الناس). قال الإمام شمس الأئمة -رحمة الله-: وقد طعن بعض الفقهاء في

تصنيف له على عبارة علمائنا في الكتب: إلا أنا تركنا القياس واستحسنا. وقال القائلون بالاستحسان يتركون العمل بالقياس الذي هو حجة شرعية، ويزعمون أنهم يستحسنون ذلك، وكيف يستحسن ترك الحجة والعمل بما ليس بحجة لاتباع هوى أوشهوة نفس؟! فإن كانوا يريدون ترك القياس الذي هو حجة فالحجة الشرعية حق وماذا بعد الحق إلا الضلال! وإن كانوا يريدون القياس الباطل شرعًا فالباطل مما لا يشتغل بذكره. فنقول: الاستحسان لغة: وجود الشيء حسنا أو طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمور به، كما قال الله تعالى: (فَبِشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ). وهو في لسان الفقهاء نوعان: العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولًا إلى آرائنا، نحو المتعة المذكورة في قوله تعالى (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) أوجب ذلك بحسب اليسار والعسر، وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أن المراد ما يعرف استحسانه بغالب الرأي،

وكذلك قوله تعالى: (وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وهو استحسان لا يخالفه أحد من الفقهاء. والنوع الآخر: هو الدليل الي يكون معارضًا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام النظر والتأمل، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادثة يظهر أن الدليل الذي عارضه فوقه في القوة، وأن العمل به هو الواجب فسموا ذلك استحسانا للتمييز بين هذا النوع من الدليل وبين الظاهر الذي يسبق إليه الوهم قبل التأمل. (والاستحسان أفصحهما وأقواهما). أما أفصحهما: فإن الاستحسان مزيد ثلاثي غير مضعف، وفي التضعيف نوع بشاعة من تكرير الحرف في الكلمة الواحدة، ولذلك أدغموه عند إمكان الإدغام لإزالة البشاعة، وهاهنا لا إمكان لتحلل الألف بين الحرفين المتجانسين، فبقيت الكلمة على بشاعته فكانت الكلمة التي لا تضعف فيها منها أفصح.

وأما أقواهما: فلأن الاستحسان عبارة عن وجود الشيء حسنا، فإذا كان حسنا يجب اتباع الحسن. وأما قوله: "أحب" ينبئ عن المحبة والإيثار، وذلك لا يوجب كون ذلك حسنًا؛ لاحتمال أن يكون ما أحبه وآثره قبيحًا. ألا ترى أن الله تعالى قال في مذمة الكفار: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ). وحاصلة أن الاستحسان يدل على الحسن، والاستحباب يدل على المحبة، ولا شك أن الحسن يدل على زيادة فضيلة في الشيء الذي له حسن من المحبة التي تدل محبوب؛ إذ حسن ذلك الشيء نشأ من ذات ذلك الشيء، والمحبة نشأت من الغير، وما ينشأ من الذي ينشأ من الغير؛ لأن الأول يدل على أمر قار، والثاني يدل على أمر طارئ.

باب معرفة أحوال المجتهدين ومنازلهم في الاجتهاد

باب معرفة أحوال المجتهدين ومنازلهم في الاجتهاد ذكر في الكتاب مناسبة الباب فأغنانا عن ذكرها، فالاجتهاد: بذل المجهود لنيل المقصود.

(بمعانيه) أي من حيث اللغة (ووجوهه) التي قلنا، وهي: الخاص والعام إلى آخر الثمانين. (وعلم السنة بطرقها) وهي طرق الاتصال بنا من رسول الله عليه السلام من الآحاد والشهرة والتواتر. (واختلف أهل المقالة الصحيحة) وهي المقالة التي قالها أصحابنا.

يعني أنهم اتفقوا على أن المجتهد يخطئ ويصيب، فبعد ذلك اختلفوا في أنه

يخطئ ويصيب ابتداء وانتهاء، أم يصيب في ابتداء اجتهاده ويخطئ انتهاءً؟ (لما كلفوا إصابة الحق) بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ)، لأنه لا يجوز أن يقال كلفوا غير إصابة الحق؛ لأن الله تعالى منزه عن تكليف الخطأ، فثبت أنهم مكلفون إصابة الحق، ولايصح ذلك إلا بتعدد الحقوق. (حتى تأدى الفرض) أي فرض التوجه. (كما صح ذلك عند اختلاف الرسل) أي في زمان واحد، كما في لوط مع إبراهيم عليهما السلام، وعلى اختلاف الزمان كما في الخمر كانت حلالًا ثم صارت حرامًا في الزمان الثاني.

(لأن دليل التعدد لم يوجب التفاوت) وهو قوله: "إن المجتهدين لما كلفوا" إلى آخره. (وبطلت الدعوة) أي دعوة المجتهد الناس إلي قوله، والدعوة واجبة قال الله تعالى: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ولا تَكْتُمُونَهُ)، وقال تعالى: (ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ) والإنذار هو الدعوة إلى العلم والعمل. (وإذا اختص سليمان عليه السلام بالفهم وهو إصابة الحق بالنظر كان الآخر خطأ)؛ لأن ما قضى به داود عليه السلام كان بالرأي؛ إذ لو كان بالوحي

لما حل لسليمان عليه السلام الاعتراض في ذلك. فعلم أن كل واحد منهما اجتهد، والله تعالى خص سليمان عليه السلام بفهم القضية ومن عليه، وكمال المنة في إصابته الحق الحقيقي، ويلزم من ذلك أن يكون الآخر خطأ؛ إذ لو كان من داود عليه السلام ترك الأفضل لما وسع لسليمان عليه السلام التعرض؛ لأن الاقتيات على رأي من هو أكبر لا يستحسن فضلًا على الأب النبي. (وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-) في حديث المفوضة إلى آخره. ذكر في "المبسوط" في مسألة عقد النكاح بغير تسمية: وحجتنا في ذلك: "ما روي أن سائلا سأل ابن مسعود -رضي الله عنه- عن هذا فجعل يردده شهرًا، ثم قال: أقول فيه بنفسي، فإن يك صوابا فمن الله ورسوله، وإن يك خطأ فمن ابن أم عبد- وفي رواية: فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه

بريئان -أرى لها مهر مثل نسائها. لا وكس ولا شطط، فقام رجل يقال له معقل بن يسار أو معقل بن سنان، وأبو الجراح. فقالا: نشهد أن رسول الله عليه السلام قضى في امرأة منا يقال لها بروع بمثل قضيتك هذه، فسر ابن مسعود بذلك سرورًا لم يسر قط مثله بعد إسلامه لما وافق قضاؤه قضاء رسول الله عليه السلام". فوجه التمسك بهذا الحديث ظاهر وهو أنه أثبت تصور الخطأ في الاجتهاد، فعلى قول أولئك لا يتصور الخطأ فيه.

(أما السبب فلأنا قلنا: إن القياس تعدية) أي إبانه مثل الحكم المنصوص في الفرع، فلا يصلح أن يكون القياس مغيرا لحكم النص؛ لأن القياس خلف عن النص فيثبت على وفاق الأصل، والحكم الحق في الأصل غير متعدد بالإجماع. ألا ترى أن النصين إذا تعارضا في الحظر والإباحة أو الإيجاب والنفي لا يثبت النفي والإثبات والحظر والإباحة، بل الحكم أن يجب التوقف فيه إلى أن يثبت رجحان أحدهما إن أمكن أو يعرف التاريخ، وإن لم يثبت شيء من ذلك يتهاترا، وهذا حكم مجمع عليه، فإذا تعذر تعدد الحقوق في الأصول بطل القول بتعدد الحقوق في الفروع. والحكم يؤخذ من الأصل، فلما استحال احتمال الحظر والإباحة في الأصل استحال أن يثبت المتنافيان في الفرع، وهذا واضح بحمد الله تعالى وهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال!

(وأما الاستدلال بنفس الحكم) فهو ما ذكر في المتن وهو ظاهر. وأما الجواب عن قولهم: "كما صح ذلك عند اختلاف الرسل عليهم السلام في زمان واحد" فقلنا: إن الشيء الواحد جاز أن يكون حرامًا لشخص حلالًا لشخص آخر. كأم المرأة حرام على الختن حلال لغيره، وكذلك سائر المحرمات من الأم والبنت وغيرهما، وكذا المال لمالكه حلال، ولغيره حرام، فكذلك يجوز أن تثبت الحرمة في حق أمة، والحل في حق أمة أخرى. وأما فيما نحن فيه فالأمة كلهم كشخص واحد فيستحيل أن يكون الفعل الواحد حرامًا عليهم حلالًا لهم أيضًا في ذلك الزمان؛ لأن الاستحالة إنما تثبت عند اتحاد الجهة والزمان والمحل فتعذر القول بتعدد الحقوق فيما نحن فيه. ألا ترى أنه لا يجوز أن يرد الوحي بأن يحرم نكاح المجوسية لمسلم

ويحل له أيضًا، فإذا كان ذلك مستحيلًا بالوحي يستحيل أن يكون ثابتًا بالقياس؛ إذ هو مستنبط من النصوص وفرع له، ولا يجوز مخالفة الفرع الأصل، وأي مخالفة أقوى من هذا؟! وقوله: (وصحة التكليف تحصل بما قلنا) جواب عن قولهم: وجب القول بتعدده تحقيقا لشرط التكليف؛ إذ لو لم يكن كذلك يلزم تكليف ما ليس في الوسع". (إذا فرق القاضي بينهما نفذ الحكم وقد أخطأ السنة)؛ لأن السنة أن يفرق القاضي بينهما بعد الرابعة أو الخامسة من كل واحد منهما، وإنما نفذ حكمه باعتبار إقامة الأكثر مقام الكل، وهذا دليل شرعي في الجملة، وقضاء القاضي يجب صيانته عن البطلان، وإخطاؤه السنة دليل على أن المجتهد

يخطيء في اجتهاده. (فمن علم منهم حال إمامه وهو مخالفه فسدت صلاته) ولو كان كل واحد منهم مصيبًا في اجتهاده لما فسدت صلاته كما لم تفسد صلاة من صلوا بجماعة في جوف الكعبة وإن كان المقتدي يخالف إمامه في التوجه إلى الجهة. (وأما قوله: إن المخطئ للقبلة لا يعيد صلاته) أي هذا دليل على أن

المجتهد لا يخطئ. قلنا: ليس هذا دليلا على أن المجتهد لا يخطئ؛ لما أن المتحرى للقبلة لا يكلف إصابة حقيقة الكعبة؛ لأن إصابة حقيقة الكعبة لا يمكن إلا بالمشاهدة عيانًا أو بالإخبار جهتها أو يعلم ذلك بالنجوم، وقد انعدمت هذه المعاني في حق من اشتبهت عليه القبلة، ثم لم يبق دليل سوى التحرى، فكان المتحري قبلة له. ومن صلى متوجها إلى قبلته التي أمر بأن يوجه وجهه إليهما لا يعيد صلاته بعدما صلى كمن صلى متوجهًا إلى الكعبة عيانًا؛ وهذا لأن الأمر باستقبال الكعبة ابتلاء من الله تعالى في حق العباد؛ لأن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ذا جهة وفعل المكلف يقع إلى جهة لا محالة، والكعبة غير مقصودة بعينها. ألا ترى أن عينها كانت ولم تكن قبلة. أعني حين كان التوجه إلى بيت المقدس، وعند اشتباه القبلة يصير غيرها قبلة على رجاء إصابتها عند الضرورة.

ألا ترى أن غير جهتها يقينا يصير قبلة؛ كما في الحق الخائف عن العدو وفي حق المتنفل على الدابة، وإذا كان كذلك كان من يرجو إصابتها وقت التحري أن يكون جهة تحرية قبلة له أولى؛ لأن المقصود رضا الله تعالى وهو حاصل أينما توجه عند التحرى، وإلى هذا أشار قوله تعالى (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ). (في حق نفس العمل مصيب) أي في حق نفس التحري مصيب وهو بمنزلة الطلب في ابتداء الاجتهاد، والمجتهد في طلب الحق باجتهاده مصيب، وهو معنى قوله: (فثبت أن مسألة القبلة ومسألتنا سواء، حتى إذا أخطأ) أي أخطأ يقينا بأن استدبر الكعبة من إطلاق الخطأ في الحديث، وهو قوله عليه السلام لعمرو بن العاص: "وإن أخطأت فلك .........................

حسنة". وكذلك في قول ابن مسعود -رضي الله عنه- حيث ذكر الخطأ مطلقًا من غير تقييد بالانتهاء، فكان شاملا للمقادير أجمع. (واحتج أصحابنا رحمهم الله) أي على قولهم بأن المجتهد إذا أخطأ فإنه مصيب في ابتداء اجتهاده، ولكنه مخطئ انتهاء فيما طلبه بحديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه-، فوجه التمسك به على مدعاهم هذا هو أن النبي عليه السلام قال له: "وإن أخطأت فلك حسنة" والمخطئ ابتداءً وانتهاء غير مستحق للحسنة، واستحقاق الحسنة باعتبار أنه مصيب في الطلب.

وقال في "التقويم": والأجرة لا يجب إلا بالعمل على سبيل الائتمار بأمر الآمر، فثبت أن المخطئ للحق عند الله مؤتمر بعمله بأمر الله، والائتمار بالأمر يكون صوابًا لا محالة. (وبقوله تعالى: (وكُلًا آتَيْنَا حُكْمًا وعِلْمًا) أخبر أنهما جميعًا أوتيا من الله حكمًا وعلمًا، والخطأ المحض لا يكون حكم الله تعالى، فثبت أن تأويله أنه حكم الله تعالى من حيث إنه صواب في حق العمل لولا الوحي بخلافه. (وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- للمسروق والأسود-)

وذكر في (التقويم) علقمة مكان الأسود، وذكر في (المبسوط) جندبا مكان الأسود -فقال: وإذا أدرك الرجل مع الإمام في ركعة من المغرب فلما سلم الإمام قام يقضي. قال: يصلي ركعة ويقعد، وهذا استحسان، وفي القياس: يصلي ركعتين ثم يقعد، لأنه يقضي ما فاته فيقضي كما فاته، وتأيد هذا القياس بالسنة وهي قوله عليه السلام (وما فاتكم فاقضوا) ووجه الاستحسان أن هذه الركعة ثانية هذا المسبوق، والقعدة بعد الركعة الثانية في صلاة المغرب سنة، وهذا لأن الثانية هي التالية للأولى والتالية للأولى في حقه هذه الركعة. وروي: أن جندبا ومسروقا ابتليا بهذا، فصلى جندب ركعتين ثم قعد، ومسروق ركعة، ثم قعد، ثم صلى ركعة أخرى فسألا ذلك ابن مسعود

-رضي الله عنه- فقال: كلاكما أصاب ولو كنت أنا لصنعت كما صنع مسروق. وتأويل قوله: كلاكما أصاب أي طريق الاجتهاد. فأما الحق فواحد غير متعدد، ثم ما يصلي المسبوق مع الإمام آخر صلاته حكما عند أبي حنيفة وأبي يوسف -رحمه الله- في حكم القراءة والقنوت هو اخر صلاته وفي حكم القعدة هو أول صلاته إلى آخره ذكره في المبسوط في باب الحدث. (وأما قصة بدر؛ فقد عمل رسول الله عليه السلام بإشارة أبي بكر رضي الله عنه فكيف يكون خطأ) من النبي عليه السلام في اجتهاده ولم يكن الاجتهاد من النبي عليه السلام، ومن عمل باجتهاد غيره لا يقال للعامل به أنه أخطأ في اجتهاده. وقال في "التقويم": إن رسول الله عليه السلام عمل برأي أبي بكر

رضي الله عنه ولا بد أن يقع عمل رسول الله عليه السلام صوابا إذا أقر عليه، والله تعالى قد قرره عليه فقال تعالى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا) وتأويل العتاب والله أعلم (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) ولكن لك كرامة خصصت بها رخصة (لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ) سبق بهذه الخصوصية لمسكم العذاب بحكم العزيمة على ما قاله عمر -رضي الله عنه-. والوجه الآخر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى) قبل الإثخان وقد أثخنت يوم بدر، فكان لك الأسرى كما كان لسائر الأنبياء، ولكن كان الحكم في الأسرى المن أو القتل دون المفاداة، فلولا الكتاب السابق في اباحة الفداء لك لمسكم العذاب. (والمراد بالآية حكم العزيمة) وهو القتل. (لقولهم بوجوب الأصلح)؛ لأن الأصلح أن يكون اجتهاد كل مجتهد

صوابا (وأن يلحق الولي بالنبي) هذا أثر قولهم أيضا بوجوب الأصلح في حق العصمة، فالولي كل مسلم صالح، فإنهم يلحقونه بالنبي في حق الإفضال والإنعام عليه. (والمتخار من العبارات عندنا أن يقال: إن المجتهد يخطئ ويصيب على تحقيق المراد به) معنى هذا أنا لا نقتصر على قولنا (يخطئ ويصيب) لاحتمال تأويل أنه يخطئ الأحق كما هو قول بعض المعتزلة، فقلنا يخطئ حقيقة كما هو الحق عند الله تعالى ليكون هذا خلافا للمعتزلة ظاهرا وباطنا، لأن قولنا (يخطئ ويصيب) مخالفة لهم ظاهرة. وقولنا (على تحقيق المراد به) مخالفة باطنا، وهذا أولى؛ لأن مخالفة المبتدع على كلا الوجهين واجب.

(ويتصل بهذا الأصل مسألة تخصيص العلل)؛ لأن في جواز تخصيص العلل تصويب جميع المحتهدين كما هو مذهب المعتزلة على ما ذكر بعد هذا في الباب المتصل بهذا بقوله: لأن ذلك يؤدي الي تصويب كل مجتهد، ولما كان أصل كل من هذين البابين راجعا إلى أصل واحد فاسد للمعتزلة وهو القول بوجوب الأصلح كانت مسألة تخصيص العلة متصلة بهذا الأصل الذي قالته المعتزلة أن كل مجتهد مصيب لكونهما شعبتي أصل واحد، والله أعلم.

باب فساد تخصيص المعلل اعلم أن المعنى من تخصيص العلة هو أن المعلل إذا جعل الوصف المعين علة للحكم المعلوم، ثم وجد ذلك الوصف بعينه ولم يوجب ذلك الحكم المعلوم. قال المعلل: خص ذلك الحكم من هذه العلة لمانع، فكانت العلة مخصوصا منها هذا الحكم.

وقال بعض العلماء: هذه المسألة فرع لمسألة الاستطاعة. قالت المعتزلة: الاستطاعة الحقيقية سابقة على الفعل، فقد وجد ما هو علة الفعل ولا فعل لمانع ذكروه فجاز أن توجد العلة ولا حكم لمانع.

وقال أهل السنة والجماعة: الاستطاعة مقارنة للفعل، ويستحيل تقدمها على الفعل فلا يجوز أن تكون العلة موجودة ولا حكم لها كما في الاستطاعة مع الفعل. وقال الإمام أبو منصور- رحمه الله-: القول بجواز تخصيص العلة نسبة العبث إلى فعل الله تعالى، لأنه أي فائدة في وجود العلة إذا لم يكن لها حكم؟! والعلة ما شرعت إلا للحكم وبدونه لم تكن لشرعيتها عاقبة حميدة، وإذا خلال الفعل عن العاقبة الحميدة كان سفهًا- تعالى الله عن ذلك-. والدليل أيضًا على فساد تخصيص العلة هو أن دليل الخصوص يشبه

الاستثناء ويشبه الناسخ كما مر تقريره، وهذا لا يتصور في العلل، لأن الاستثناء تصرف في اللفظ دون المعنى لما أن معنى قوله: لفلان على ألف درهم إلا مائة، ومعنى قوله: لفلان على تسعمائة سواء، والعلة ليست بصيغة فلا يجوز القول فيها يشبه الاستثناء، والنسخ على العلل لا يجوز، لأن العلة لا تجوز أن تكون ناسخةً أو منسوخًا فلا يمكن القول فيه بشبه الناسخ، والتخصيص لا يخلو عن هذين الشبهين ففسد القول بالتخصيص. فإن قلت: يجوز أن يشبه دليل التخصيص بكل واحد من الاستثناء والناسخ، ثم يثبت له حكم ليس لهما كما في جاز تعليل دليل التخصيص وإن لم يجز تعليلهما على ما مر في باب بيان التخصيص. قلت: إنما جاز هناك ذلك الحكم ل دليل التخصص من اجتماع الوصفين وهما وصف الاستبدال ووصف التبيين، وهذا لا يتصور في تخصيص العلة، لأن العلة أم معنوي فلم تكن لها صيغة موضوعة حتى يعمل فيها بشبهة الاستثناء، والناسخ خلاف دليل التخصيص فإنه لفظ مستبد بنفسه وليس فيه ما يمنع التعليل فكان قابلًا للتعليل. وقوله: (فيأمن منه) أي من حكم الجرح.

(وخيار الشرط) أي خيار الشرط للبائع). (أما الدليل على صحة ما ادعينا من إبطال خصوص العلل) فالكتاب والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ففيه مطالبة الكفار ببيان العلة فيما ادعوا فيه الحرمة على وجه لا مدفع لهم فصاروا محجوجين به، وذلك الوجه أنهم إذا بينوا أحد هذه المعاني- وهو معنى الذكورة أو معنى الأنوثة أو معنى يجمعهما- أن الحرمة لأجله انتقض علتهم بإقرارهم بالحل في الموضع الآخر مع وجود ذلك المعني فيه، ولو كان التخصيص في علل الأحكام الشرعية جائزًا ما كانوا محجوجين، فإن أحدًا لا يعجز من أن يقول: امتنع ثبوت حكم الحرمة في ذلك الموضع لمانع. وقد كانوا عقلا يعتقدون الحل في الموضع الآخر لشبهة أو معنى تصور عنهم، وفي قوله: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) إشارة إلى أن المصير إلى تخصيص

العلل الشرعية ليس من العلم في شيء فيكون جهلًا. وأما المعقول: فلأن العلل الشرعية حكمها التعدية كما قررنا وبدون التعدية لا تكون صحيحة أصلًا، لأنها خالية عن موجبها، وإذا جاز قيام المانع في بعض المواضع الذي يتعدى الحكم إليه بهذه العلة جاز قيامه في جميع المواضع فيؤدي إلى القول بأنها علة صحيحة من غير أن يتعدى الحكم بها إلى شيء من الفروع، وقد أثبتنا فساد هذه القول بالدليل- أي فساد القول بالعلة القاصرة- ثم إن كان تعدية الحكم بها إلى فرع دليل صحتها فانعدام تعدية الحكم بها إلى فرع آخر توجد فيه تكل العلة دليل فسادها، ومع مساواة دليل الصحة والفساد لا تثبت الحجة الشرعية موجبة للعمل "كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-. (لأن ذلك يؤدي إلى تصويب كل مجتهد) إذ هذه المسألة فرع تلك، فمن قال بتصويب كل مجتهد احتاج إلى القول بتخصيص العلة، لأن العلة إذا وجدت ولا حكم لها تكون منقوضة فيكون المعلل مخطئًا ضرورة، وهو خلاف ما اعتقدوا، لأنهم يرون الأصلح واجبًا وخطأ المعلل ليس بأصلح فلا

يكون المعلل مخطئًا على ذلك التقدير، فدعاهم ذلك إلى القول بجواز التخصيص، لأن عندهم عدم جواز أن تكون علة المعلل منقوضة ضرورة كون المجتهد مصيبًا، لأنه الأصلح في حق المجتهد. وعندنا لما جاز خطأ المجتهد جاز انتقاض العلة لجواز الخطأ على المجتهد فهو معني قوله: (يؤدي إلى تصويب كل مجتهد) وعندهم كما لا يجوز الفساد في الكتاب والسنة لا يجوز الفساد في العلل أيضًا، صار تخصيص العلة نظير تخصيص الكتاب والسنة عندهم، وعندنا لما جاز فسادًا العلة لم تكن العلة نظير الكتاب والسنة. (وبزيادته أو نقصانه تتبدل العلة فتجيب نسبة العدم إلى عدم العلة)، فإن عدم العلة ينقصان وصف لا يشكل، لأن المجموعة لما صار علة لم تكن علة بانتفاء وصف منه، لن الشيء ينتفي بانتفاء جزئه كانتفاء حرمة الفضل عند انتفاء جزئي علة الربا من القدر والجنس.

وكذلك نقول: إن الموجب للزكاة شرعًا هو النصاب النامي، وهو الحولي عرفناه بقوله عليه السلام: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" والمراد نفي الوجوب، فإذا كانت العلة بهذا الوصف علة موجبة شرعًا عرفنا

أن عند انعدام هذا الوصف ينعدم الحكم لانعدام العلة الموجبة، ولا يلزمنا جواز الأداء، لأن العلة الموجبة غير العلة المجوزة للأداء كما في رؤية الله تعالى فإنها جائزة عقلًا واجبةً شرعًا. وأما عدم العلة بزيادة الوصف فمثل الأكل ناسيًا، ف إن الأكل ونحوه علة الفطر، لأنه ضد، وقد زاد على هذا في الكل ناسيًا لم يبق هو علة الفطر، لأن وقوعه غير جناية مضاف إلي صاحب الحق فانعدمت العلة فكان الأكل لم يوجد، فلهذا قلنا ببقاء الصوم، لا لأن العلة موجودة والحكم منعدم. وكذلك البيع بشرط الخيار، فإن الموجب للملك شرعًا البيع المطلق، ومع شرط الخيار لا يكون مطلقًا، بل بهذه الزيادة يصير البيع في حق الحكم كالمعلق بالشرط، وقد بينا أن المعلق بالشرط غير المطلق فكان البيع ف ي حق الحكم معدومًا، فظهر أن العلة تنعدم بزيادة وصف أو نقصان وصف.

(فالذي جعل عندهم دليل الخصوص جعلناه دليل العدم) يعيني أن النص الذي يخالف تلك العلة عندهم دليل خصوص تلك العلة، وعندنا ذلك النص دليل عدم العلة، لأن شرطة صحة العلة ألا تكون العلة معارضة للنص، فإذا وجد النص على خلاف العلة فات شرط العلة فانتفت العلة ضرورة، وكذلك في نظائرها من الإجماع والضرورة. (وإنما يلزم الخصوص على العلل الطردية) كما في تعليل الشافعي: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه واليدين والرجلين. فخصت تلك العلة في مسح الخف فإنه ركن أيضًا ومع ذلك لم يسن التثليث فيه، (لأنها قائمة بصيغتها) يعيني أنها صارت عللا لصورة الأوصاف لا لمعانيها، فإذا وجد صورة الوصف ولا حكم وجب القول بالتخصيص لا محالة كما وجدت صيغة العموم من الكتاب والسنة ولا حكم في البعض. وقوله: (فلزم على هذا أنه لم يحرم الأخوات) أي فيشكل على هذا

التعليل عدم حرمة الأخوات أي بطريق التعاقب لا بطريق الجمع. ألا ترى أن عثمان ذا النورين- رضي الله عنه- تزوج بنتي رسول الله عليه السلام على طريق التعاقب فسمي به ذا النورين، أنه مخصوص بالنص، وهو قوله تعالى: (وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ) وقولة تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ) وهي لم تجعل علة عند معارضة النص. (وفي هذا معارضة)، لأن في النص الموجب لحرمة المصاهرة ذكر الأمهات والبنات أي بطريق العبارة، والآباء والأبناء خاصة أي طريق الدلالة، فامتداد الحرمة على الأخوات والعمات والخالات يكون تغييرا وإثباتًا لحرمة أخرى، لأن المقصود غي الممتد، وإنما يعلل المنصوص على وجه لا يلزم منه تغيير المنصوص، فكان انعدام الحكم في هذه المواضع لانعدام العلة لا لمانع مع قيام العلة. وكذلك إن ألزم أن الموطوءة لا تحرم على الواطئ بواسطة الولد والقرب بينهما أمس فالتخريج هكذا، نقول: إنه إنما أتعدم الحكم هناك لانعدام العلة باعتبار مورد النص، وهو قوله تعالى: (وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ).

وقوله تعالى: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شيءتُمْ). الطوية: الضمير والاعتقاد، والله أعلم.

باب وجوه دفع العلل

باب وجوه دفع العلل لما فرغ من بيان نفس القياس وشرطه وركنه وحكمه شرع في بيان دفعه، إذ بالعجز عن الدفع يتم القياس كما في صورة دعوى المدعى إذا عجز المدعى عليه عن دفع دعواه حينئذ تم دعوى المدعي. اعلم أن الاعتراض بفساد الوضع على العلل المؤثر باطل، لأن التأثير لا يثبت إلا بدليل مجمع عليه فبعد ذلك دعواه أن الوصف يأبى هذا الحكم لا يتصور ذلك، لأن الكتاب أو السنة أو الإجماع لا يوضع في الفاسد. (وأما عدم العلة وقيام الحكم ف لا باس به لاحتمال علة أخرى)، لأن ثبوته بعلة لا ينافي كونه ثابتًا بعلة أخرى.

ألا ترى أن الحكم يجوز أن يثبت بشهادة الشاهدين ويجوز أن يثبت بشهادة أربعة، حتى إذا رجع اثنان قبل القضاء يبقى القضاء واجبًا بشهادة الباقين، وهذا لأن العلة لم توضع لإبطال علة أخرى بل لإيجاب الحكم بها ومع كونه واجبًا بها يجوز الوجود بغيرها، ف إذا عدمت هذه يجوز أن يوجد غيرها فيثبت به الحكم. (وأما الفرق فإنما فسد لوجوه ثلاث) وأولي الوجوه في هذا ما ذكره الإمام المحقق شمس الأئمة- رحمه الله- بقوله: أحدها- أن شرط صحة

القياس تعدية الحكم إلى الفروع بتعليل الأصل ببعض أوصافه لا بجميع أوصافه، وقد بينا فساد ذلك، لأنه متى كان التعليل بجميع أوصاف الأصل لا يكون ذلك مقايسة. يعني حينئذ يكون هو عين الأصل، لأن جميع أوصاف الأصل لا يوجد إلا في الأصل، ولما كان كذلك كان ذكر الفرق بين الأصل والفرع بذكر وصف آخر لا يوجد ذلك ف ي الفرع راجعًا إلى بيان صحة المقايسة لا اعتراضًا على العلة، لأن اندفاع الفرع عن كونه عين الأصل إنما يحصل به فحينئذ تصح المقايسة. (فلان لا يصلح دليلًا عن مقابلة الحجة أولى). بيان هذا أنه إذا لم يثبت حجةً على كون الوصف علة لا يصلح قول الخصم: "لا علة دليلًا" فلأن لا يصلح قوله: (لا علة دليلا) إذا قامت الحجة على كون الوصف علة أولى.

باب الممانعة

باب الممانعة (وهي أساس النظر) أي الممانعة أساس النظر، لأن المجيب مدع والسائل مدعى عليه فسبيله الإنكار، والأصل في الإنكار الممانعة فلا ينبغي له أن يجاوز إلى غيره إلا عند الضرورة، ولأن عوار المعلل في تعليله إنما يتبين بالممانعة، وبها يظهر المدعي من المنكر والملزم من الدافع، فيلزم أن تكون

حجة أحدهما غير حجة الآخر وذلك إنما يكون بالتمسك بالممانعة، فلذلك كانت هي أساس النظر. (مثل قول الشافعي في النكاح: إنه ليس بمال) إلى آخره، وهذا النوع لا يصلح حجة، لإيجاب الحكم عندنا على ما بينا، فترك الممانعة فيه يكون قبولًا من الخصم لما لا يكون حجة أصلًا وذلك دليل الجهل، فكانت الممانعة في نفس الحجة دليل المفاقهة. (مثل قولنا) أي مثل قول أبي حنيفة ومحمد- رضى الله عنهما- (في إيداع الصبي إنه مسلط على الاستهلاك) فيقول: المانع وهو أبو يوسف رحمه الله سلمنا أن كونه مسلطًا مسقط للضمان، ولكن لا نسلم أن إيداع الصبي تسليط.

(وأما الممانعة في الشروط) فنقول: لم قلت: إن شرط القياس موجود فيما قست؟ (وإنما يعتبر الإنكار معنى لا صورةً مثل قولنا في المودع يدعي الرد إن القول قوله وهو مدع صورةِ) ولكنه منكر للضمان معني، ولهذا كان القول

قوله مع اليمين. والبكر إذا قالت: بلغني النكاح فرددت، وقال الزوج: بل سكت فالقول قولها عندنا، وهي في الصورة تدعي الرد ولكنها تنكر ثبوت ملك النكاح عليها في المعنى ف كانت منكرة لا مدعية. وإذا ثبت هذا فنقول: هذه الوجوه من الممانعة تكون إنكارا من السائل فلا حاجة إلى إثبات إنكاره بالحجة واشتغاله بذلك كان اشتغالا بما لا يفيد. وقوله: إن الحكم في الأصل ما تعلق بهذا الوصف فقط، بل به وبقرينة أخرى يكون إنكارًا صحيحًا من حيث المعني وإن كان دعوى من حيث الصورة، لأن الحكم المتعلق ب علة ذات وصفين لا يثبت بوجود أحد الوصفين وذلك نحو ما يعلل به الشافعي في اليمين المعقود على أمر في المستقبل، لأنها يمين بالله مقصودة فيتعدى الحكم بهذا الوصف إلى الغموس. فإنا نقول: الحكم في الأصل ثبت بهذا الوصف مع قرينة وهي توهم البر فيها فيكون هذا منعا ل ما ادعاه الخصم، والخصم هو المحتاج إلى إثبات دعواه بالحجة. فأما قول السائل: ليس المعني في الأصل ما قلت، وإنما المعنى فيه كذا هو إنكار صورة لكنه دعوى من حيث المعنى وهي دعوى غير مفيدة في موضع

النزاع، لأنه لا يمكنه أن يقول في موضع النزاع لتقرير ذلك المعني سوى أن هذا المعنى معدوم في موضع النزاع، وعدم العلة المعينة لا يوجب عدم الحكم، والله أعلم.

باب المعارضة

باب المعارضة المعارضة: إبداء علة مبتدأة بدون التعرض لدليل المجيب، والمناقضة: إيراد الوصف الذي جعله المجيب علة مع تخلف الحكم ثم القلب ها هنا متضمن إحدى خاصيتي المعارضة وهي إبداء علة مبتدأة، وإحدى خاصيتي المناقضة وهي إبطال دليل المعلل، فسمي لذلك (معارضة فيها مناقضة) ثم جعل المعارضة أصلًا حيث لم يقل فيها معارضة؛ لما أن إبداء العلة بمقابلة دليل المعلل سابق، ومقصود السائل من قلبه ذلك، فإيراد النقض بتخلف الحكم يثبت في ضمن ذلك، فجعل ما هو السابق والمقصود أصلًا،

والباقي مذكور في "الوافي". (لكن العكس ليس من هذا الباب)؛ لأنه من باب الترجيح؛ لأن العكس يصحح العلة حيث يقال في كل صورة يوجد هذا الوصف يوجد هذا الحكم، وفي كل صورة لا يوجد هذا الوصف لا يوجد هذا الحكم، وذلك مثل قولنا: ما يلتزم بالنذر يلتزم بالشروع كالحج، وعكسه الوضوء، وهذا يصلح لترجيح العلل. وأما القلب فمناقض للعلة فكانا على طرفي نقيض؛ فلذلك قال: إن

العكس ليس من هذا الباب" (فسد الأصل وبطل القياس)؛ لأن العلة موجبة والمعلول موجبها الذي هو حكمها، فكانا كالفرع مع الأصل فلا يجوز أن تكون العلة حكمًا ولا الحكم علة، فلما احتمل الانقلاب دل على بطلان التعليل. (مثاله قولهم) أي قول الشافعي وأصحابه، (ومثل قولهم) أي قول مالك وأصحابه. (وذلك الشيء دليل عليه أيضًا) كطلوع الشمس مع النهار، فإن شرط هذا الاستدلال أن (يثبت أنهما نظيران) متساويان فيدل كل واحد منهما على وجود صاحبه هذا على ذاك في حال، وذاك على حال (بمنزلة التوأم) فإنه حرية الأصل لإحداهما أيهما كان بثبوتها للآخر، ويثبت الرق أيهما كان بثبوته للآخر.

وقوله: (إذا صح) بالشروع، وبهذا يحترز عن مسألة النذر بصوم يوم النحر (فقالوا: الحج) إنما يلتزم بالنذر، لأنه يلتزم بالشروع، أي لا يصح قلبهم علينا بهذا القول؛ لأنا نستدل بأحد الحكمين على الآخر بعد ثبوت المساواة بينهما من حيث إن المقصود بكل واحد منهما تحصيل عبادة زائدة هي محض حق الله تعالى على وجه يكون المضي فيها لازمًا والرجوع عنها بعد الأداء حرامًا، وإبطالها بعد الصحة جناية، ثم لما لزمت مراعاة النذر مع انفصال العبادة عن النذر كان أن يلزم مراعاة القربة الذي حصل بالشروع بالثبات عليه أولى. بخلاف ما علل به الشافعي فإنه لا مساواة بين الجلد والرجم. أما من حيث الذات فالرجم عقوبة غليظة تأتي على النفس والجلد لا، وأما من حيث الشرط فالرجم يستدعي من الشرائط ما لا يستدعيه الجلد كالثيوبة. وكذلك لا يصح قلبهم في الولاية، (فقولهم إنما يولي على البكر في مالها؛ لأنه يولي عليها في نفسها)؛ لأن جواز الاستدلال بكل واحد منهما

على الآخر يدل على قوة المشابهة والمساواة بينهما، وهي المقصودة بالاستدلال وها هنا قد ثبت المساواة بين التصرفين من حيث إن ثبوت الولاية في كل واحد منهما باعتبار حاجة المولى عليه وعجزه عن التصرف بنفسه، وذلك إنما يكون بالصغر لا بالثيوبة والبكارة (بل الثيوبة والبكارة والنفس والمال فيه سواء). وقوله: "على من" صلة شرعت، وإنما ذكر بكلمة على؛ لأن هذا حق على الولي حتى لو امتنع عن تنفيذ ما ولي يأثم، والضمير في قوله: "فيه سواء" راجع إلى قضاء الحاجة. فإن قيل قوله: "والنفس والمال والثيب والبكر فيه سواء" لا نسلم مساواة النفس والمال في قضاء الحاجة بل حاجة الصغير والصغيرة إلى أن يقوم الولي مقامه في حفظ المال والتصرف فيه للتثمير أشد؛ لأن حاجتهما فيه ناجزة فكانت الولاية للولي بالتصرف في ماله كي لا تأكله النفقة، والحاجة في حق النفس متأخرة إلى ما بعد البلوغ؛ لأن الشهوة إنما تكون بعد البلوغ، والأصل في النكاح قضاء الشهوة، فلم يلزم من ثبوت الولاية للولي في المال

ثبوتها في النفس؛ لتفاوتهما في الحاجة. قلنا: الحاجة قد تقع في النفس في الحال على تقدير فوات الكفء، وفي المال قد لا تقع الحاجة بأن كان كثيرًا، والصغر مؤقت فكانت الحاجة إلى حفظ المال أقرب إلى الزوال، فلما احتملت الاستدلال بثبوت الولاية للولي بسبب الصغر في أحدهما بالإجماع على ثبوتها للولي في الآخر. (وتسقط لخوف فوت الركعة عنده) ولا يسقط ركن الركوع والسجود بحال (بخلاف الأفعال) يعني لأنها تصلح للأصالة، وعن هذا قالوا: إنه لو

قدر على القراءة ولم يقدر على الأفعال لا تلزمه الصلاة، ولو قدر على الأفعال ولم يقدر على القراءة تلزمه. (وأما النوع الثاني) وإنما قدم الأول هذا على القلب؛ لأن القلب الحقيقي

هو الأول؛ لأنه قلب من غير تغيير وزيادة على تعليل المعلل، فكان أولى بالتقديم، بخلاف هذا القلب على ما ذكر في الكتاب. (فإن هذا القلب لا يتم إلا بوصف زائد) لم يتعرض له المعلل (فكان دونه) إلا أن ذلك الزائد لما كان تفسيرًا لتعديه صار كالمذكور في تعليله فجعل قلبًا لا معارضة ابتداء لما استعمل في مقابلة القلب ألحق به، فإن أهل النظر يقولون: القلب. والعكس، ولأن المقصود من الكلام معناه؛ لأن ما لا معني له من الألفاظ لا يسمى كلامًا على ما ذكرنا. وما ذكر من الاستواء ثابت صورة بين الأصل وهو الوضوء وبين الفرع وهو الصلاة، ولكنه في المعنى ليس باستواء بين الفرع والأصل بل هو اختلاف وذلك؛ لأن استواء عمل النذر والشروع للسقوط في الأصل وهو الوضوء إذ لا أثر للنذر والشروع في الوجوب فيه، فإنه لو نذر أن يتوضأ لا يصح نذره بالإجماع، فكذلك شروعه فيه غير موجب له، والاستواء في

الفرع وهو الصلاة في اللزوم فإن النذر ملزم بالإجماع فوجب أن يكون الشروع فيها كذلك، وهذا مبطل للقياس؛ لأن القياس وهو تعديه أحكام النصوص إلى ما لا نص فيه على ما أشار إليه في الكتاب فيستحيل أن يتعدى الحكم الثابت في الوضوء وهو عدم اللزوم إلى الفرع وهو الصلاة في حق اللزوم، ومن أراد التعدي فيه بهذا الطريق كان هو نظير من أثبت الحرمة في الفرع قياسًا على الحل وهو باطل، وهو معنى ما قاله في الكتاب، (سقوط من وجه وثبوت من وجه) أي سقوط في الوضوء، وثبوت في الصلاة. ومثل هذا التقرير في قولهم في الكافر يبتاع العبد المسلم لما كان كذلك وجب أن يستوي ابتداؤه وقراره كالمسلم؛ لأن الخصم يريد بقوله: وجب أن يستويا في الكافر أنه لما لم يقرر على الملك لا يجوز ابتداء الملك، وفي المسلم على خلاف هذا فإنه لما جاز ابتداؤه جاز تقريره، فلما اختلفا بطل القياس. (فخمسة أنواع في الفرع)، وإنما جعل هذه الخمسة في الفرع؛ لأن الأحكام فروع للنصوص والعلل، والمعارضة ها هنا في الأحكام فتكون

معارضة في الفرع. (وينسد الطريق) أي طريق ثبوت الحكم (إلا بترجيح)، فوجه الترجيح نقول: إن قولنا: مسح له أثر في التخفيف بخلاف الركن في حق التكرار فإنه قد يكون ركنًا وليس فيه التكرار كمسح الخف، وقد يكون ركنًا وفيه تكرار كغسل الوجه، فعلم أن الركنية غير دائرة بالتكرار للتعارض في أحكامها. وأما المسح فأينما دار دار معه التخفيف، فعلم أن لوصف المسح زيادة تأثير في إثبات التخفيف من الركن في قولهم في إثبات التكرار، والدوران من أسباب الترجيح. (فلا يسن تثليثه) بعد إكماله كالغسل وهذا أحد وجهي القلب، فبهذا يعلم أن جهة المعارضة فيه راجحة. (وأما الثالث- فما فيه نفي) وكلمة "ما" فيه موصولة أي الذي فيه نفي لما أثبته الأول. بدليل ما ذكره الإمام شمس الأئمة-رحمه الله- في هذا الموضع بقوله:

ومعارضة فيها نفي ما لم يثبته المعلل، أو إثبات ما لم ينفه المعلل، وهو فيما يعلل به في غير الأب والجد هل تثبت لهم ولاية التزويج على الصغيرة؟ فنقول: إنها صغيرة فتثبت عليها ولاية التزويج كالتي لها أب، وهم يعارضون ويقولون: هذه صغيرة فلا تثبت عليها ولاية التزويج للأخ كالتي لها أب، فتكون هذه معارضة بتغيير فيه إخلال بموضع النزاع؛ لأن موضع النزاع ثبوت ولاية التزويج على اليتيمة لا تعيين الولي المزوج لها، وهو في معارضته علل لنفي الولاية لشخص بعينه. ولكنه يقول: إن موضع النزاع إثبات الولاية للأقارب سوى الأب والجد على الصغيرة وأقربهم الأخ، فنحن بهذه المعارضة ننفي ولاية الأخ عنها، ثم ولاية من وراء الأخ منتف عنها بالأخ، فمن هذا الوجه يظهر معنى الصحة في هذه المعارضة وإن لم يكن قويًا.

(في التي نعي إليها زوجها) أي في المرأة التي أخبرت بموت زوجها. (فهذه المعارضة في الظاهر فاسدة لاختلاف الحكم)؛ لأن المعارض ها هنا يقول: الولد للثاني بعدما قال المعلل: الولد للأول. فهذه معارضة فاسدة، والمعارضة الصحيحة فيه أن يقول المعارض: الولد ليس للأول بعدما قال المعلل: الولد للأول، لكن ما ذكره المعارض هنا يؤول إلى الصحة لما أن المعارض لما أثبت للثاني كان هو نافيًا عن الأول فتتحقق المعارضة، فلذلك ذكر المعارض فساد فراش الثاني؛ لأن الفراش مع فساده لما كان مثبتًا للنسب وقع التعارض في استحقاق النسب بين الأول والثاني فحينئذ احتجا إلى الترجيح. (إلا أن النسب لما لم يصح إثباته من زيد بعد ثبوته من عمرو صحت المعارضة) يعني أن الفراش الفاسد مع فساده مثبت للنسب، ولما كان كل واحد

من الفراشين مثبتًا للنسب، والإجماع ثابت على أن النسب إذا ثبت من واحد لا يثبت من غيره صحت معارضة الفاسد الصحيح من هذا الوجه، وعلى هذا التقرير كان معنى قوله: (لما لم يصح إثباته من زيد) "أي من فراش صحيح". فإن قيل: يشكل على قوله: إلا أن النسب لما لم يصح إثباته من زيد بعد ثبوته من عمرو" ما إذا كانت الجارية بين اثنين وأتت بولد فادعياه معًا ثبت نسبه منهما عندنا. خلافًا للشافعي فقد ثبت نسب الابن من الأبوين، فعلم بهذا أن ثبوت النسب من رجل لا يمنع ثبوته من آخر. قلنا: إنما ثبت ذلك في الصورة المعية؛ لعدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر لمصادفة دعواهما معًا ملكها، فلما استويا في سبب الاستحقاق وهو الدعوى مع الملك استويا في ثبوت النسب لهما أيضًا. وأما في مسألتنا فكان سببًا ثبوت النسب على التعاقب فيصح قولهما: لما لم يصح إثباته من زيد بعد ثبوته من عمرو" على أن النسب بين الأبوين في مسألة الجارية بين اثنين، إنما ثبت بقضية عمر- رضي الله عنه- بمحضر من الصحابة- رضي الله عنهم- على خلاف القياس فلا يرد نقضًا. وقوله: "من عمرو" أي من فراش فاسد.

(فاحتاج الخصم) أي المعلل وهو أبو حنيفة -رضي الله عنه- (ثم عارضه الخصم) أي السائل وهو أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله (بأن الثاني شاهد) أي حاضر. (وأما المعارضات في الأصل) أي في علة الأصل (معارضة بمعنى لا يتعدى) إلى آخره. يعني أن المعارضات في علة الأصل فاسدة كلها؛ لما بينا أن ذكر علة أخرى في الأصل لا ينفي تعليل ما ذكره المعلل لجواز أن يكون في الأصل وصفان يتعدى الحكم بأحد الوصفين إلى الفروع دون الآخر، ثم إن كان الوصف الذي يذكره المعارض لا يتعدى إلى فرع فهو فاسد لما بينا أن حكم التعليل التعدية، فما لا يفيد حكمه أصلًا يكون فاسدًا من التعليل، فإن كان يتعدى إلى فرع فلا اتصال له بموضع النزاع إلا من حيث إنه تنعدم تلك العلة في هذا الموضع. وقد بينا أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم، فعرفنا أنه لا اتصال لتلك العلة بموضع النزاع في النفي ولا في الإثبات.

كذا ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه الله. وقوله: (لعدم حكمه) وهو التعدية (ولفساده) أي في المعارضة لجواز وجود كل واحد منهما بعلة على حدة ولا تزاحم في العلل. (والثاني: أن يتعدى إلى فصل مجمع عليه) أي مجمع عليه على اختلاف التخريج، كما في فصل الأرز والسمسم مثلا أجمعنا نحن والشافعي _رحمه الله- على جريان الربا فيه، لكن عندنا باعتبار القدر والجنس، وعنده باعتبار الطعم، وهذا أيضًا باطل فإن الحنفي إذا علل بالكيل والجنس فيعارضه الخصم بالطعم، وهذا معنى يتعدى إلى فصل مجمع عليه وهو الأرز والسمسم ونحوهما، والخصم لا يناقشه في ذلك بقي للخصم أن الطعم غير موجود في الجص فكانت المعارضة فاسدة. (والثالث: أن يتعدى إلى فصل مختلف فيه) أي إلى فرع مختلف فيه، وهذا لا يشكل فساده؛ لأن يتعدى من الأصل إلى الفرع لمعنى يجمعهما، وعند اختلاف وصفهما لا يكون ما تعلق به كل واحد من المجيب والسائل

حجة على الآخر. بيانه أنا نقول في تعليل بيع التفاحة بالتفاحتين نقدًا: بأنه يجوز؛ لانعدام علة الربا وهي القدر مع الجنس فإنه لا قدر فيه. وقال الشافعي: لا يجوز؛ لوجود علة الربا وهي الطعم مع انعدام المسوى، (ومن أهل النظر من جعل هذه المعارضة حسنة) أي هذه الأخيرة؛ لأنه ثبت باتفاق الخصمين أن علة الحكم أحدهما، فإذا ثبت صحة ما ادعاه أحدهما علة انتفى الآخر بالإجماع، فكانت هذه المعارضة ممانعة من هذا الوجه فيلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر فتتحقق المعارضة. والجواب عن هذا أن فساد أحدهما ليس لصحة الآخر لاحتمال كونهما صحيحين؛ لأن التعليل بعلل شتى جائز، ففساد أحدهما لم ينشأ من التعليل بالوصفين المختلفين، وإنما لفساد أحدهما لم ينشأ من التعليل بالوصفين المختلفين، وإنما نشأ لفساد فيه من حيث إنه لا يصلح علة، فلم يثبت فساده لصحة الآخر لاحتمال صحتهما على ما قلنا. ألا ترى أن إثبات الصحة لأحدهما ليس لفساد الآخر لاحتمال كونهما فاسدين، فكذلك ها هنا لاحتمال كونهما صحيحين، فلابد من إقامة الدليل على سبيل التفصيل على فساد هذا الوصف.

(وكل كلام صحيح في الأصل) أي في المقيس عليه يعني أن الناس يقولون في رد قول المعلل (بطريق المفارقة) بين الأصل والفرع (فاذكره أنت على سبيل الممانعة) وإن كان الذكر بطريق المفارقة جائزًا أيضًا، ولكن القول بطريق الممانعة أفت لقوة تعليل المعلل واكسر لعضده، وإنما كان المنع أولى ليزيد المعلل في علته وصفًا لا يمكن للسائل منعه فيظهر به فقه المسألة. ولأن السائل لو كان على سبيل المنع كان هو على حد الإنكار الذي هو حقه بخلاف ذكر الفرق، فإن فيه غصب منصب المعلل إلى آخر ما ذكرناه في

فساد الفرق في باب وجوه دفع العلل. (فإن ادعى في الأصل حكمًا غير ما قلنا) بأن ادعى في البيع البطلان، وفي إعتاق الوارث التوقف لم يسلم ذلك. (قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ) أصل المسألة أن موجب القتل العمد عند الشافعي أحد شيئين: القصاص أو الدية من غير تعيين. وعندنا موجبه القصاص عينًا، ولكن للأولياء أن يصالحوه على الدية. وثمرة قول الشافعي إنما تظهر في حق العدول للولي إلى مال القاتل من غير مرضاته، وعندنا ليس له ذلك بدون مرضاته.

(وأنت جعلته مزاحمًا له) أي جعلت المال مزاحمًا للنقود، وليس كذلك، فإن شرعية المال في الأصل وهو الخطأ بطريق الخلافة عما هو الأصل وهو القتل لفوات الأصل؛ لأنه لا يمكن في الخطأ إيجاب مثل المتلف من جنسه فوجب المال خلفًا عنه وهنا أي في صورة العمد المثل من جنسه ممكن فكان هو واجبًا عينًا، (وإنما يتبين ذلك) أي صحة الأثر، والله أعلم.

باب بيان وجوه دفع المناقضة

باب بيان وجوه دفع المناقضة (وهو) أي معنى الوصف. (ألا ترى أنه إذا أحدث ولم يتلطخ به بدنه لم يكن) المسح أي

(الاستنجاء) بالحجر (سنة). والدليل عليه إن الاستطابة بالماء بعد إزالة عين النجاسة بالحجر فيه أفضل، ومعلوم أن في العضو الممسوح كالرأس والخف على الرجل لا يكون الغسل بعد المسح أفضل، بل إقامة الغسل مقام المسح فيه مكروه. (كان ظاهرًا لا خارجًا)؛ لأن الخارج هو ما يفارق مكانه، لأن الجلد إذا تقشر عن موضع ظهر ما تحته فلا يكون خارجًا، كمن يكون في البيت إذا رفع البنيان الذي كان هو مستترًا به يكون ظاهرًا لا خارجًا، وإنما يسمى خارجًا من البيت إذا فارق مكانه من الباطن إلى الظاهر. (وأما الدفع بمعنى الوصف وذلك نوعان:)

(أحدهما- ثابت بنفس الصيغة) كمعنى الخروج من لفظ الخروج، ومعنى المسح من لفظ المسح. (والثاني- بمعناه الثابت باللفظ دلالة) يعني أن اللفظ يدل على ما ذكرنا من التأثير وهو أن المسح مؤثر في التخفيف، وظهر أثره في الشرع كالتيمم والمسح على الخف والجوارب والجبائر. ألا ترى أنه يكره الغسل في مسح الرأس، والتكرار يقرب إلى الغسل فلا يسن، فكان اللفظ دالا على ما ذكرنا من الأثر فكان هذا المعنى ثابت به لغة وهو معنى قوله: بمعناه الثابت به دلالة، وما ذكرنا يتأتى في جميع المعاني المستنبطة من النصوص، وقد ذكرنا هذا في قول النبي عليه السلام: "الحنطة بالحنطة" إلى آخره، وكذلك هذا في الخارج الجنس من غير السبيلين الدفع

أولا بما قال في الكتاب، (ولا يلزم إذا لم يسل)، لأنه ليس بخارج. والدفع بالمعنى الثاني أن الخارج النجس له أثر في زوال الطهارة وإثبات التطهير، وما لم يسل ليس له أثر في زوال الطهارة، لأنه في معدنه. (كالبيع يضاف إليه) أي المدبر. وقوله: (لكنه امتنع حكمه لمانع كالبيع) هذا اللفظ بظاهره خرج على وفاق قول من يقول بجواز تخصيص العلة. وأما على قول العامة ففي غصب المدبر يجعل أن السبب لم يوجد أصلًا فلا يتصور نقضًا.

(ولا يلزم مال الباغي وما يجري مجراه) وهو إتلاف المكره بالقتل مال غيره أو مال قطاع الطرق، وكذلك دم شاهر السيف، فوجه اللزوم هو أن إتلاف مال الغير لإحياء المهجة موجود ومع ذلك انتفت عصمة المتلف حتى لا يجب الضمان على العادل إذا أتلف مال الباغي. وكذلك لا يجب ضمان المال على من أتلف مال غيره بسبب الإكراه بالقتل. والجواب عنهما: أن عصمة مال الباغي بطلت لمعنى آخر، وهو بغيه وتعديه قبل أن يتلفه العدل فلم يكن بطلان عصمة ماله بسبب الاستحلال لإحياء المهجة حتى ينتقض. وكذلك عدم وجوب الضمان في صورة الإكراه على المكره، لأن المكره هناك صار بمنزلة الآلة للمكره كالسيف والخنجر لانتقال فعله إليه، ولا يجب الضمان على الآلة فكان ما قلناه من العلة (مطردًا لا منقوصًا؛ لأن غرضنا التسوية بين هذا) أي بين الخارج النجس من غير السبيلين (وذلك حدث)

أي ودم الاستحاضة حدث، فإذا لزم أي دام واستمر. (لأن غرضنا أن أصل الذكر الإخفاء) يعني أن الغرض التسوية بين التأمين وبين سائر الأذكار في أن الأصل هو الإخفاء وذلك ثابت إلا أن جهر الإمام بالتكبيرات لا لأنها ذكر بل لإعلام من خلفه بالانتقال من ركن إلى ركن والجهر بالآذان والإقامة لذلك، ولهذا لا يجهر المقتدي بالتكبيرات ولا يجهر المنفرد بالتكبيرات ولا بالآذان والإقامة فيندفع النقض ببيان الغرض المطلوب بالتعليل وهو التسوية بين هذا الذكر وبين سائر أذكار الصلاة. (ومن صلى وحده أذن لنفسه) ولا يجهر بل إنما يؤذن على مقدار أن يسمع آذانه بنفسه. ***

باب الترجيح (الكلام في هذا الباب أربعة أضرب) , فوجه الإنحصار فيها هو الأمر الضروري, وذلك لأن الشروع في الكلام لا يصح بدون معرفة معناه, وتمام معرفة معناه إنما يستقيم أن لو ضبط جميع وجوهه. وعند تعارض الوجهين من وجوه الترجيح لزم معرفة المخلص منه, لأن الأصل عدم التعارض, ووجوه الترجيح في نفسها لا يخلو من وجهين:

صحيح وفاسد: فلذلك أتم وجوهها ببيان الفاسد منها وجه تقديم الصحيح منه على الفاسد ظاهر أن الصحيح موجود من كل وجه بخلاف الفاسد فإنه موجود من وجه دون وجه. وقوله: (عبارة عن أحد المثلين) توسع في العبارة؛ إذ حقيقة الترجيح إثبات الرجحان وفيما نحن فيه هو إظهار فضل أحد المثلين على الآخر. والدليل على ما قلته ما ذكره الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- بهذه العبارة, فقال الترجيح لغة: إظهار فضل في أحد جانبى المعادلة وصفا لا أصلًا أراد بقوله: ((وصفا)) تبعا لا يقوم بنفسه بل يقوم بغيره كالوصف الحقيقى للمخلقو ,فإنه عرض لا يقوم بنفسه بل يقوم بالعين كالرجحان في الميزان. فإن المرجح فيه لا يدخل تحت الوزن منفردًا أي لا يكون له وزن بطريق

الأصالة حتى إن العشرة يوزن بمقابلة العشرة مع الأحبة, ولا توضع للعشرة مع الحبة حجر على حدة بل حجر العشرة مع الحبة ,وتعارض العشرة بالعشرة مع الحبة لوجود المساواة بينهما في أصل الوزن أولًا ,ثم يثبت الرجحان للعشرة مع الحبة على العشرة المنفردة ,والرجحان أبدًا يقع بما لا عبرة له عند عدم المزيد عليه ,والجبة وإن كانت عينا تقوم بنفسها لكن لما لم يوضع لها مع العشرة حجر على حدة في الوزن كانت تبعا للعشرة كالوصف الحقيقى تبع للعين بإعتبار أنه عرض لا يقوم بنفسه بل يقوم بالعين. (وقوله: كالدانق ونحوه في العشرة) قال الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- نحو الحبة في العشرة. وهذا قريب منه, فإن الدائق قيراطان, ذكره في ((المغرب)) وذكر في

((الصحاح)) الدانق: سدس الدرهم, والدرهم: أربعة عشر قراطًا. قال النبى عليه السلام للوزان: ((زن وارجح تمامه ,فإنا معشر الأنبياء هكذا نزن)). (ولم يجعله هبة) فوجه التمسك به على ما ادعاه هو أن النبي عليه

السلام لم يعتبر الزيادة التى يقع بها الرجحان حتى أجاز الإرجاح في الوزن في قضاء الدين أو غيره, إذ لو اعتبر تلك الزيادة لكان تلك الزيادة هبة, ولما أجاز الإرجاح بها حينئذ لكون تلك الهبة هبة مشاعًا, وهبة المشاع لا تجوز فيما يقبل القسمة وهذا منه, أو لكونه إدخال الصفقة في الصفقة أي صفقة الهبة في صفقة قضاء الدين أوفى صفقة تسليم ثمن للبائع, وإدخال الصفقة في الصفقة منهي عنه. (وإنما يقع) الترجيح (بوصف مؤكد لمعنى الركن) وذللك في أن يتعارض شهادة المستور مع شهادة العدل بأن أقام أحد المدعيين مستورين والآخر عدلين , فإنه يترجح الذي شهد له العدلان بظهور ما يؤكد معنى الصدق في شهادة شهوده, وكذلك في النسب أو النكاح لو ترجح حجة أحد الخصمين باتصال القضاء بها, لان ذلك مما يؤكد ركن الحجة, فإن بقضاء القاضى تمام معنى الحجة في الشهادة وتعين جانب الصدق (ولذلك لم يقع الترجيح بشاهد ثالث على الشاهدين: لانه لا يزيد الحجة قوة) , لأن

القوة ما قام به القوة, وقيام شاهد ثالث بشاهدين لا يتصور, فلا تتصور زيادة القوة, والشاهد الثالث من جنس ما يقوم به الحجة فلا يجوز به الترجيح. فإن قلت: الوصف الأول مسلم وهو أن الشاهد الثالث لا يتصور قيامه بشاهدين, وأما الوصف الثاني وهو أن الشاهد الثالث من جنس ما يقوم به الحجة فممنوع, لأن قبول شهادة الشاهد موقوف إلى وجود شاهد آخر بالنص ,فكان الواحد مما لا يقوم به الحجة. قلت: لا نسلم, بل شهادة إمرأة واحدة تقبل في الولادة والبكارة والعيوب بالنساء في موضع لا يطلع عليه الرجال وهو ظاهر, وذكر ((الإيضاح)): كما تقبل شهادة إمرأة واحدة في الولادة تقبل شهادة رجل واحد أيضًا عليها, وهذا كله شهادة بدلالة إشتراط لفظ الشهادة واختصاص مجلس القضاء والحرية والإسلام. (وإنما يترجح النص بقوه فيه) على ما مر ذكره وهو: أن المحكم راجح

على المفسر, والمفسر راجح على النص والظاهر. (وكذلك قلنا نحن الشفعيين في الشقص الشائع) قيد بالشيوع ليكون متقفًا عليه. (المبيع بسهمين متفاوتين) بأن كانت الدار بين ثلاثة لأحدهم نصفها, وللآخر ثلثها, وللآخر سدسها, فباع صاحب السدس نصيبه إنهما سواء في استحقاق الشفعة. (لأنه لم يرجح الكثير) , لأنه لو رجح صاحب الكثير لما جاز مزاحمة صاحب القليل إياه في استحقاق الشفعة, ولما أعطى له شيئًا من الشفعة لم أن المرجوح بمقابلة الراجح بمنزلة المعدوم, والمعدوم لا نصيب له من شيء.

(فكان هذا منه غلطًا بأن جعل حكم العلة متولدًا من العلة) كالثمر والولد ,وهما متولدان من الشجر والأم. وأما حكم الملك فلا يتصور تولده مع العلة ,لأن التولد يقتضى تأخر الولد عن الأم بأزمته, والحكم مع العلة يقترنان في الوجود كالضرب مع الألم والقطع مع الانقطاع. فكذلك بطل جعل حكم العلة متولدًا من العلة ,وكذلك جعل الحكم منقسمًا على أجزاء العلة غلط أيضا, لأنه لم يثبت جميع أجزاء العلة لا يثبت الحكم أصلًا فجعل الحكم منقسمًا على أجزاء العلة قول بأن كل جزء من العلة علة لجزء من الحكم, وهذا باطل. (في ابني عم أحدهما أخ لأم)

صورته أن يكون أخوان لأب وأم أو لأب لكل واحد منهما ابن ,فمات أحدهما وترك إمرأة وهى أم ابنه, فتزوج أخوه امرأته فولد له ابن, ثم مات هذا الأخ, ثم مات ابن الأخ المتوفى الأول وترك ابني عم أحدهما أخوه لأم. (خلافًا لابن مسعود-رضى الله عنه) فإن ابن مسعود قال: يترجح ابن العم الذي هو أخ لأم: لأن لكل قرابة فيتقوى إحدى الجهتين بالجهة الأخرى بمنزلة أخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب ,وإخذنا بقوله أكثر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين -لأن لعصوبة المستحقة بكونه ابن عم مخالف للمستحق للأخوة, ولهذا يكون استحقاق ابن العم العصوبة بعد استحقاق الأخ بدرجات. والترجيح بقرابة الأم في استحقاق العصوبة إنما يكون عند اتحاد جهة

العصوبة والاستواء في المنزلة كما في حق الأخرين ,فحينءذ يقع الترجيح بقرابة الأم: لأنه لا يستحق بها لعصوبة إبتداءًا ,فيجوز أن يتقوى بها علة لعصوبة في جانب الأخ لأب وأم: إذ الترجيح يكون بعد المعارضة والمساواة. أما قرابة الأخوة فليست من جنس قرابة ابن العم حتى يتقوى بها لعصوبة الثابتة لابن العم الذي هو أخ لأم, بل يكون هذا النسب بمنزلة الزوجية, فيعتبر حال اجتماعهما في شخص واحد بحال إنفراد كل واحد من السيلين في شخص آخر: وقوله: (والمنزل واحد) وهو الأخوة. (وليس كذلك فضل عدالة بعض الشهود على عدالة بعض) أي ليس مثل الرجحان الذي قلنا في الخبر بقوة الاتصال (مثاله) أي مثال الترجيح

بقوة الأثر: (لأنه يرق ماءه على غنية وذلك حرام على كل حر) , لأن الإرقاق إهلاك من وجه, لأن الرق أثر الكفر والكفر موت فكان الإرقاق إهلاكًا معنى. ألا ترى أن الإمام في الأسارى يتخير بين القتل والإرقاق. (فأما أن يزداد أثر الرق ويتسع حله فلا) ففسر ازدياد أثر الرق في التضييق في الحل إلى النصف: لان للرق أثرًا في التنصيف في النعمة والمحنة لا في التضعيف على ما يجئ بيانه إن شاء الله تعالى. وأما أن يزداد أثر الرق في الاتساع في الحل فلا وعنده يلزم ذلك, لأن

العبد قادر عنده على تزويج الأمة والحرة على ما ذكر في الكتاب, والحر ليس بقادر عليه, فيزداد أثر الرق في الاتساع في الحل على قود كلامه, لأنه يحل للعبد الحر والأمة, ولا يحل للحر إلا الحرة, فكان للحر نصف ما للعبد, فكان هذا نقض الأصول وعكس المعقول. (حل لرسول الله عليه والسلام التسع أو إلى ما لا يتناهى)., قالت عائشة رضى الله عنها ((ما قبض رسول الله عليه السلام حتى أباح له من النساء ما شاء)). وقوله: (لأن الإرقاق دون التضييع وذلك حائز بالعزل بإذن الحرة فالإرفاق أولى). فإن قلت: لا نسلم قضية هذه النكتة, لأنه كم من شيء يجوز للإنسان أن يمتنع عن تحصيل أصله. أم لو باشر في تحصيل أصله لا يجوز له أن يمتنع عن تحصيل وصه المرغوب, كصلاة التطوع فإن له أن بمتنع عن تحصيل صلاة التطوع في الأصل. أما لو باشر في تحصيل صلاة التطوع كان عليه أن يحصل جميع شرائطها ورعاية أوصافها التى تلزم الكراهة عند فوتها, وكذلك النكاح كان للرجل أن

يمتنع عن تحصيله ولو باشر تحصيله يجب عليه إحضار الشهود, وكذلك بيع الربا وسائر البياعات كان له أن يمتنع عن تحصيل أصله ولو باشر في تحصيل أصله يجب عليه تحصيل شرائط جوازه, فكذلك ها هنا جاز له أن يمتنع عن تحصيل أصل الولد بالتضييع بالعزل وغيره. أما لو باشر في تحصيله لا يجوز له أن يمتنع عن تحصيل وصفة المرغوب وهو الحرية كما في النظائر: حيث لم يلزم من جواز الإمتناع عن الأصل جواز الإمتناع عن تحصيل وصف الكمال ,فكيف يثبت تحقيق الأولى؟ قلت: نعم كذلك, إلا أن الذي نحن بصدده ليس هو نظير ما ذكرته من المسائل, فإن ما ذكرته من المسائل ليس لها وجود شرعًا بدون تلك الشرائط التى ذكرتها, فكان في التزام أصلها شرائطها التى لا يوجد أصلها إلا بها ,فيجب عليه تحصيل تلك الشرائط لالتزامها معنى بحكم عقد الإسلام. وأما الذي نحن بصدده فللأحرار وجود وللأرقاء وجود حسًا وشرعًا, فلم يلزم مباشرة الأصل من تحصيل الوصف, ولا شك أن وجود الأصل وهو المتبوع أولى من وجود وصفه الذي هو التبع, فلما جاز له الامتناع عن تحصيل الأصل بالتضييع بالعزل جاز له الإمتناع عن تحصيل وصفه الذي هو التبع بالطريق الأولى: لأن مرتبة التبع أدنى من مرتبة الأصل, والأولوية إنما تنشأ من دنو مرتبة التبع فينا للأصل وجود بدون ذلك التبع شرعًا, والذي

نحن فيه منه. (فإن نكاح الامة جائز لمن يملك سرية يستغني بها عنه) أي يستغني بتلك السرية عن إرقاق الولد: لأنها إذا ولدت عن مولاها يثبت النسب، ويكون الولد حرًا ,وكذلك من كان له أم ولد كان له أن يتزوج أمه مع غنيته عن إرقاق مائه , فعلم بهذا ,فعلم بهذا أن وصفة هذا ضعيف في حاله. (لأن الرق من الموانع أي في الجملة) ألا ترى أن نكاح الأمة على نكاح الحرة ممنوع فكانت رقية الأمة مانعة لمن تحته حرة عن تزوجها. (وكذلك الكفر) أي من الموانع ,حتى لا يجوز للمسلمة أن تتزوج

الكتابي وإن كان عكسه جائزًا. (وأثرهما مختلف) أي أثر الرق وأثر دين الكتابى مختلف, فإن أثر الرق التنصيف, وأثر دين الكتابى الخبث في الاعتقاد لا التنصيف. وأما الجواب عن قوله: ((فإذا اجتمعا الحق بالكفر)) , فقلنا: لا نسلم أن

كفر الكتابية يتغلظ برقها في حكم النكاح, بل الأمة الكتابية كالمسلمة في الحل بملك اليمين, فإنه لو كان يتغلط عند الاجتماع لم تحل بملك اليمين كالمجوسية لما قلنا من سقوط حرمة الإرقاق لما قلنا إنه يحل له العزل فالإرقاق أولى, لأن في العزل تضييع الأصل والوصف, وفي الارقاق تضييع الوصف, فلما جاز العزل وجب أن يجوز الإرقاق بالطريق الأولى. فعلم بهذا أن نكاح الامة ليس بضروري, ولأن الرقيق في النصف الباقى مساو للحر, فكما أن نكاح الحرة يكون أصلًا مشروعًا لا بطريق الضرورة, فكذلك نكاح الأمة في النصف الباقى لها ونعتبره بالعبد بل أولى, لأن معنى عدم الضرورة في حق الأمة أظهر منه في حق العبد, فإنها تستمتع بمولاها بملك اليمين, والعبد لا طريق له سوى النكاح, ثم لم يجعل بقاء ما بقى في حق العبد بعد التنصيف بالرق ثابتًا بطريق الضرورة, ففي حق الأمة أولى. (لكنه في حكم الاستحباب مثل نكاح الحرة الكتابية) يعني يستحب نكاح الحرة, ولا يستحب نكاح الأمة لا أن جواز نكاح الأمة ضروري, بل هو مطلق على ما قلنا كما قلنا في نكاح الحرة المسلمة مع نكاح الحرة الكتابية, يعني أن نكاح المسلمة مستحب, ونكاح الكتابية غير مستحب لكنه مطلق لا ضروري.

فكذلك ها هنا (سوى بينهما) أي سوى بين الردة وإسلام أحد الزوجين في وقوع الفرقة يعنى بتعجيل الفرقة قبل الدخول في الفصلين وبعد الدخول عند انقضاء العدة في الفصلين, وعندنا إذا أسلم أحد الزوجين لا تقع الفرقة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول, بل يعرض الإسلام على الآخر, فإن أسلم فهما على نكاحها, وإن أبى فرق القاضى بينهما وفى ردة أحدهما تتعجل الفرقة قبل الدخول وبعده لما بينهما من المنافاة فيفوت الغرض الأصلى من النكاح وهو الإزدواج بطريقة الموافقة. (كما في الإيلاء واللعان والجب والعنة) فإن فيها فوات

أغراض النكاح, وفي اللعان يفوت أغراض النكاح, لأنه نزل عليهما أحد المكروهين إما الغضب أو اللعن, وفي موضع ينزل اللعن أو الغضب إرتفعت البركة لا محالة فيفرق القاضى بينهما إن امتنع الزوج عن التفرق. وكذلك في الإيلاء يفوت الغرض من النكاح وهو الإزدواج بينهما, لأنه آذاها بمنع الوطء عنها لفظًا, فإذا مضى على موجب تلفظه يقع الطلاق جزاء لظلمه عليها, وكذلك في الجب والعنة يفوت الغرض الأصلى من شرعية النكاح وهو التوالد والتناسل وقضاء الشهوة بطريق الحل بالنكاح, ثم لو استديم النكاح مع ذلك ربما تميل المرأة إلى غير الزوج فتقع في الزنا فتفسد الفراش, فيفرق القاضى بينهما دفعًا للضرر عنها, وحصل من هذا كله أن سبب الفرقة في هذا كله هو دفع ضرر الظلم عنها: لان ما هو المقصود بالنكاح وهو الاستمتاع فائت شرعًا, فيجعل تفريق القاضى بعد عرض الإسلام على الذي يأبى منهما سببًا لذلك وهو قوى الأثر, ويظهر ذلك بالرجوع إلى الأصول ,فغن التفريق باللعان وبسبب الجب والعنة والإيلاء كان ثابتًا بإعتبار هذا المعنى. (وأما الردة) فهي غير موضوعة للفرقة بدليل صحتها ,حيث لا نكاح للمرتد, وبه فارق الطلاق وإذا لم تكن موضوعة للفرقة عرفنا أن حصول

الفرقة بها لكونها منافية للنكاح حكماص, وذلك وصف مؤثر, ومع وجود المنافي لا يبقى النكاح, كالمحرمية بالرضاع والمصاهرة سواء داخل بها أو لم بدخل بها, ولأن حال الاتفاق دون حال الاختلاف فلم تصح التعدية إليه في تضاد حكمين. بيانه أن ارتداد أحدهما اختلاف في الدين وخلاف بينهما, وارتدادهما اتفاق على الكفر ,فلم تصح التعدية من الوفاق إلى الخلاف, لأن الخلاف ليس نظير الوفاق بل هو ضده, فكان فيه تعدية من أحد الضدين إلى الضد الآخر وهو لا يجوز مع أن حكمهما مختلف ,فإن الاتفاق على الكفر لا يمنع إبتداء النكاح ولا بقاءه, الاختلاف يمنع ابتداء النكاح. فعلم بهذا أن الاتفاق على الكفر دون الاختلاف فيه في منع النكاح فلا تضح التعدية منه إلى ما فوقه.

((وهذا أكثر من أن يحصى). ومن ذلك الأكثر ما علل الشافعى في عدد الطلاق أنه معتبر بحال الزوج, لأنه هو المالك للطلاق, وعدد الملك معتبر بحال المالك. وقلنا نحن: الطلاق تصرف يملك بالنكاح فيتقدر بقدر ملك النكاح ,وذلك يختلف باختلاف حال المرأة في الرق والحرية, لأن الملك إنما يثبت في المحل باعتبار صفة الحل, والحل الذي بتبنى عليه النكاح في حق الأمة على نصف منه في حق الحرة فبقدر ذلك يثبت الملك, ثم بقدر الملك يتمكن المالك من الإبطال, كما أن بقدر ملك اليمين التمكن من إبطاله بالعتق حتى إذا كان له عبد واحد يملك إعتافًا واحدًا ,فأن كان له عبدان يملك إعتاقين. وكذلك يظهر أثرها بالرجوع إلى الأصول حيث يختلف باختلاف حالها كما في القسم والعدة.

(وكان من قضية الركن إكماله بالإطلالة في الركوع والسجود) لا تكراره بخلاف السجدة الثانية, لأن الكلام في التكرار بطريق السنة إكمالًا للفرض, والسجدة الثانية فرض على حدة ليست بمكملة الأولى. وبقوله: (وفي كل ما لا يعقل تطهيرًا) احترز عن مسح الإستنجاء. (وذلك وصف خاص في الباب) أي قوله: ((صوم فرض)) وصف خاص في باب العبادة. وقولنا: عين يعم العبادات وغيرها من الودائع والغصوب, يعني أن

الوديعة إذا ردت إلى صاحب الوديعة يخرج المودع عن العهدة بأى جهة ردت لتعين حقه, وكذلك المغضوب والمبيع بيعاص وفاسدًا إذا ردا يخرج من عليه ردهما عن العهدة باى جهة ردا سواء علم صاحب الحق به أو لم يعلم. وقوله: (وعقد الإيمان) - روي بكسر الهمزة والياء التحتانية بنقطتين- يعنى إذا أقر بالإيمان بالله تعالى بأي وجه وجد الإقرار منه طوعًا أو كرهًا في حال السكر أو في حال الصحور يحكم بأنه مؤمن بالله تعالى: لتعين فرضية الإيمان عليه, فبالإطلاق يتأجى هذا الفرض وإن لم تعين الفرضية, لأن تعين الفرض عليه يغنى عن التعيين كما قلنا في صوم رمضان -وروي بفتح الهمزة- على أنه جمع بين يمين بمعنى الحلف, يعني إذا حلف بالله أنه لا يدخل هذه الدار مثلا ً ثم دخل ناسيًا أو مخطئا أو مكرهًا, فإنه يحنث لتعينه في يمينه. وقوله: (ونحوها) كالسيف المحلى بالذهب أو بالفضة إذا بيع بجنس الحلية ,وقد أدى بعض ثمن السيف في المجلس ثم افتراقًا يتعين المؤدى للحلية سواء أطلق أو عين أو قال من ثمنهما لتعين بدل الحلية بالقبض, وعلى هذا مسائل الصرف كثيرة. (إنها لا تضمن مراعاة لشرط ضمان العدوان) يعني أن شرط ضمان العدوان المماثلة.

قال الله تعالى: (قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) , وقال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)) فلا تضمن المنافع لفوت شرطه وهو المماثلة: لأن العرض لا يماثل العين وهو الذهب والفضة وهذا ظاهر. (أن ما يتضمن بالعقد يتضمن بالإتلاف) أي أن المنافع مما تضمن بعقد الإجازة يجب أن تكون مضمونة بالإتلاف كما في الأعيان, وإن كان فيه فضل أي في الضمان فضل وهو العينية بالدراهم أو الدنانير على المضمون وهو المنافع, فإنها عرض, ولكن ذلك الفضل إنما يجب على المتعدي وهو الغاضب.

(أو إهدار على المظلوم) أي أنه ولم نوجب الضمان على الظالم مع تلك الزيادة يلزم إهدار أصل حث المغضوب منه, (ولأنه إهدار وصف) وهو إهدار العينية على الظالم (أو إهدار أصل) وهو إهدار أصل حق المغضوب منه (فكان الأول أولى) أي الإهدار الأول من النكتتين أولى من الثاني في النكتتين, فكان قوله: ((فكان الأول)) راجعًا إلى الاول من كل واحدة من النكتتين. والدليل على ما ذكرته ما ذكره الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- مفسرًا جيث قال: ثم هوى أي الشافعى- يزعم أن علته أقوى في ثبات الحكم المشهورد به عليه من وجهين: أحدهما: أنه إذا لم يكن بد من الإضارا بأحدهما فمراعة جانب المظلوم وإلحاق الخسران بالظالم بإيجاب الزيادة عليه أولى من إهدار حق المظلوم. والثاني: أن في إيجاب الضمان إهدار حق الظالم فيما هو وصف محض, وإذا قلنا لا يجب الضمان كان فيه إهدار حق المتلف عليه في أصل المالية, ولا شك أن الوصف دون الأصل.

(ووضع الضمان على المعصوم) أي إسقاط الضمان عنه (مثل العادل يتلف مال الباغي) وماله معصوم بدليل وجوب الحفظ على الإمام (والفضل على المتعدي غير مشروع): لأن الظالم لا يظلم ولنتصف منه مع قيام حقه في ملكه, فمراعاة الوصف في الوجوب كمراعاة الأصل. ألا ترى أن في القصاص الذي يبنى على المساواة التفاوت في الوصف, كالصحيحة مع الشلاء تمنع جريان القصاص, ولا ينظر إلى ترجيح جانب المظلوم وإلى ترجيح جانب الأصل على الوصف, يعني لو كان يد القاطع صحيحة ويد المقطوع شلاء فبقطع اليد الشلاء لا تقطع يد القاطع الصحيحة قصاصًا, لأن الأكمل لا يستوفى بالأنقص, ولم يقل فيه بالقطع مع أن فيه إهدار وصف في حق الظالم. فعلم بهذا أن إهدار الفضل على المتعدى غير مشروع سواء كان ذلك في الأصل أو في الوصف, فعرفنا أن قوة القبات فيما قلنا. وقوله: (بدون واسطة فعل العبد) احتزاز عن عقد الإجازة, فإن الجور فيه وهو إهدار الوصف بواسطة فعل العبد.

(وذلك سائغ حسن) أي عدم إيجاب الضمان فيما لا يضمن بسبب عجزنا عن درك المماثلة جائز حسن كما في سجدة التلاوة إذا لم يسجد في الصلاة، وكالصلاة إذا فاتت في أيام التشريق في حق التكبير، وكذلك في حقوق العباد ما إذا أتلف مال الغير من ذوات القيم كما في الحيوانات فإن حق المتلف عليه في الصورة ساقط لعجزنا عن إثبات المماثلة في الصورة. (والتأخير أهون من الإبطال) أي تأخير حق المغصوب منه إلى دار الجزاء أيسر من إبطال وصف مال الغاصب وهو العينية في الدراهم والدنانير، (وهذا كذلك في عامة الأحكام) أي تأخير حق المظلوم إلى دار الجزاء بسبب العجز عن إثبات المماثلة لحقه جائز ثبت ذلك. كذلك في عامة الأحكام كما في الشتم الذي لا يوجب حد القذف، وكالضربة الواحدة التي هي غير موجبة للأرش والقصاص والغيبة والبهتان. ثم قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- وعلى هذا قلنا: إن ملك النكاح لا يضمن بالإتلاف في الشهادة على الطلاق قبل الدخول، وملك القصاص

لا يضمن بالإتلاف في الشهادة على العفو يعني أنه مؤخر إلى دار الجزاء. (وأما ضمان العقد فباب خاص) جواب عن قوله: ((ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف)) (فكان ما قلناه أولى)؛ لأنه عام منسحب على أصول كثيرة وهو من أسباب الترجيح. (وأما الرابع- فهو) ترجيح بعدم الحكم عند عدم الوصف.

(لأن ما قلنا ينعكس في بني الأعمام)؛ لأن قرابة بني الأعمام لما لم تكن محرمة للنكاح انعدم حكم العتق فيهم بالملك: (لأن وضع الزكاة في الكافر) أي في الكافر الأجنبي لا يحل. (أنه مبيع عين) أي أن كل واحد من الطعام مبيع عين، فكان بمعنى ما ذكره شمس الأئمة -رحمه الله- لأنه عين بعين، وينعدم هذا الحكم وهو عدم اشتراط التقابض عند انعدام هذا الوصف وهو العينية، فإن في باب الصرف اشتراط القبض من الجانبين؛ لأنه دين بدين، وفي السلم اشتراط القبض في رأس المال؛ لأن المسلم فيه (دين لو قوبل كل واحد منهما بجنسه حرم ربا الفضل) كالذهب بالذهب والفضة بالفضة.

(ولا ينعكس تعليله). ألا ترى أنه يشترط قبض رأس المال في المجلس في السلم وإن جمع العقد هناك بدلين لا يحرم التفاضل إذا قوبل كل واحد منهما بجنسه، فإنه لو جعل رأس مال السلم الثوب يشترط قبضه في المجلس أيضا، وإن كان لا يحرم التفاضل عند المقابلة بجنسه. وأما القسم الثالث: وهو بيان المخلص عند تعارض وجوه الترجيح (إن كل موجود مما يحتمل الحدوث)، وبقوله: ((مما يحتمل الحدوث)) يحترز عن ذات الله تعالى، فإن اسم الموجود ينطلق عليه وهو متعال عن احتمال الحدوث.

(لأن هذا راجح في ذات القرابة)؛ لأن قرابة الأخوة مقدمة على قرابة العمومة. (والعم راجح بخالة) وهي قلة الواسطة في الذكر؛ لأنك تقول: هناك هو ابن ابن أخيه لأب وأم، وهاهنا تقول: هو عمه. (لاستوائهما في الذات) أي في ذات قرابة الأخوة، (وكذلك العمة مع الخال لأب وأم) يعني أنهما إذا اجتمعا فللعمة الثلثان باعتبار أن المرجح في حقها معنى في ذات القرابة وهو الإدلاء بالأب، وفي الأخرى معنى في حالها

وهو اتصالها من الجانبين بأم الميت. (لأن الصنعة قائمة بذاتها من كل وجه) أي موجودة من كل وجه، ولا يراد بالقيام هاهنا ما يراد بقولهم: العين قائم بذاته، بل يراد ما يراد بقولهم العرض قائم بالعين أي موجود فيه، وبيان وجود الصنعة من كل وجه هو أن الثوب بعد الخياطة تغير هيئته واسمه المقصود منه، فتبدل الهيئة والاسم دليل على المغايرة صورة، وتبدل المقصود دليل على المغايرة معنى، وإذا ثبتت المغايرة صورة ومعنى إلى الثاني كان الثاني موجودا من كل وجه؛ إذ وجود الشيء الحادث إنما كان بصورته ومعناه. فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام الأول؛ لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شيئين، وإذا انعدام الأول بفعله صار ضامنا عليه وقد ملكه بالضمان.

(وهي من ذلك الوجه تضاف على صنعة الغاصب) أي والعين من حيث الحدوث تضاف إلى صنعة الغاضب لتسمية العين باسم مصنوع كالقميص. والقباء دون الثوب، وهو المعنى متيلإه له: والصنعة قائمة من كل وجه والعين هالكة من كل وجه، فكان الترجيح للموجود على المعدوم. وذكر في ((المبسوط)) فإن قيل: صاحب الثوب صاحب أصل، والغاصب صاحب وصف وهو جان، فكان مراعاة جانب الأصل أولى، فلماذا ينقطع حق صاحب الأصل؟ قلنا: لأن هذا الوصف قائم من كل وجه، والأصل قائم من وجه مستهلك من وجه؛ لأن الأصل كان ملكا للمغصوب منه مقصودا، والآن صار تبعا لملك غيره والتبع غير الأصل، ولهذا صار بحيث يستحق بالشفعة بعد أن كان منقولا لا يستحق بالشفعة، وانعدم منه سائر وجوه الانتفاع سوى هذا.

وإنما يترجح الأصل إذا كان قائما من كل وجه كما في مسألة الساحة، فإنها قائمة من كل وجه، صالحة لما كانت صالحة له قبل البناء تستحق بالشفعة كما كانت من قبل، فلهذا رجحنا هناك اعتبار حق صاحب الساحة. وقوله: (ونحوها) كما إذا غصب الحنطة فطحنها أو غصب الحديد فاتخذه سيفا أو صفرا فاتخذه آنية. (ضم الربح على أصله) وإن بعد من الحول؛ لأن المرجح هنا معنى في الذات وهو كونه نماء ثمن الإبل ليسقط بمقابلته اعتبار الحال في المال الآخر وهو القرب من الحول، وفي الأول وهو المال المستفاد لما استوى الجانبان فيما يرجع على الذات صرنا على الترجيح باعتبار الحال.

وأما الرابع: أي الرابع من التقسيم الأول المذكور في أول باب الترجيح وهو قوله: (والرابع في الفاسد من وجوه الترجيح) (ترجيح القياس بقياس آخر)؛ لأن كل واحد منهما حجة شرعية لثبوت الحكم بها، فلا يكون إحداهما مرجحة للأخرى بمنزلة زيادة العدد في الشهود، وقد ذكرنا أن ما يصلح علة لا يصلح مرجحا، نظير هذا ما لو علل المعلل من طرف الشافعي في أن صائم رمضان لو أكل أو شرب متعمدا لا تجب الكفارة. فقال: هذا أكل حرام عليه ناقص الأثر فلا يلحق بالوقاع في الغلظة كما لو وجدا في غير الملك، فإن الأكل هناك غير ملحق بالوقاع في إيجاب الحد فكذلك الأكل هاهنا لا يلحق بالوقاع في إيجاب الكفارة، ولأن كل واحد منهما مفسد للصوم، فلا يلحق هو بالوقاع كما في الحج، فإن الأكل هناك غير ملحق بالوقاع في إفساد الحج فكذلك هاهنا لا يلحق بالوقاع في إيجاب الكفارة. ثم قال: قياسي الأول يرجح بقياسي الثاني، هذا وأمثاله لا يصح لما قلنا عن القياس علة بنفسه فلا يصلح أن يكون مرجحاً.

فإن قلت: على هذا يجب عليك أن تفرق بين ثلاثة أشياء وهي: ترجيح القياس بقياس آخر، والترجيح بغلبة الأشباه، والترجيح بكثرة الأصول، فإن هذه كلها يتراءى أنها عبارة عن معنى واحد فبين أنها هكذا أو هي أشياء متغايرة المعاني متلازقة المباني. قلت: بلى هي أشياء متغايرة المعاني متلازقة المباني. أما ترجيح القياس بقياس آخر فهو كما أريتكه من ترجيح الشافعي قياسه الأول بالثاني، فلكل واحد من القياسين وصف على حدة وأصل على حدة مع اتحاد الحكم وهو عدم إلحاق الأكل بالوقاع. (وأما غلبة الأشباه) فهي أن يكون لوصفه أصل واحد، ولكن لذلك الأصل أوصاف جمة تشترك بين المقيس والمقيس عليه، كما قال الشافعي في: أن الأخ لا يعتق بالملك؛ لأن قرابة الأخ قرابة غير الولاد فلا يعتق بالملك كابن العم إذا ملك، وابن العم وهو المقيس عليه واحد لكن له أوصاف جمة يشترك الأخ فيها مع ابن العم على ما ذكر في الكتاب من جواز (وضع الزكاة وحل الحليلة وقبول الشهادة ووجوب القصاص من الطرفين). وأما الترجيح بكثرة الأصول فهو: أن يؤخذ الترجيح من قوة الوصف بأن

يظهر أثر ذلك الوصف لزيادة قوته في مواضع جمة كظهور أثر المسح في إثبات التخفيف في مواضع مختلفة، وكما قال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- في الأب: إنه لا يملك تزويج ابنته الصغيرة بأقل من صداق مثلها. قالا: لأن ولاية الأب عليها مقيدة بشرط النظر، ثم معنى الضرر في هذا

العقد ظاهر فلا يملكه الأب كما لا يملك بيع مالها بالغبن الفاحش، وظهر أثر هذا الوصف أيضا في تزويج أمتها، فإن الأب لا يملك تزويج أمة الصغيرة بأقل من مهر مثلها، وظهر أيضا في حق الاعتراض، فإن ابنته لو زوجت نفسها بمثل هذا المهر فللأولياء الاعتراض. وفي غلبة الأشباه لما كان كل شبه وصفا على حدة ولكل واحد حكم على حدة كحل الحليلة، ووضع الزكاة، وقبول الشهادة، وجريان القصاص، كان كل واحد منها بمنزلة قياس على حدة؛ فلذلك شبه ذلك بترجيح القياس بقياس آخر، فيصير هو كترجيح القياس بقياس آخر، ولم يقل هو ترجيح القياس بقياس آخر؛ لأن المقيس عليه متحد فلا يكون هو ترجيح قياس بقياس آخر حقيقة. وحاصلة أنه إذا اتحد الحكم والوصف مع اختلاف الأصول كان الترجيح به ترجيحا بكثرة الأصول وهو صحيح؛ لأن ذلك يدل على قوة ثبات الوصف في استدعاء ذلك الحكم الذي ادعاه المعلل، ولو اختلف الوصف والأصل مع

اتحاد الحكم كان الترجيح به ترجيحا بقياس آخر وهو فاسد؛ لما ذكرنا، ولو اختلف الحكم والوصف مع اتحاد الأصل كان الترجيح به ترجيحا بغلبة الأشباه فكان فاسدا أيضا؛ لأن ذلك بمنزلة ترجيح القياس بقياس آخر، فكان ترجيح القياس بقياس آخر كترجيح الخبر بالخبر والكتاب بالكتاب. والترجيح بكثرة الأصول كان بمنزلة ترجيح الخبر بسبب الشهرة وهو صحيح، فاغتنم فروق هذه الأصول، فإن مثل هذا لا يحصل إلا بإتعاب النفس بترك التواني وإحياء الليالي. وقوله: (وما يجري مجراه) أراد به ترجيح أحد القياسين بالخبر فإنه فاسد؛ لأن القياس متروك بالخبر ولا يكون حجة في مقابلته، والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا، وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد؛ لأن الخبر لا يكون حجة في معارضة النص. (يقضي على العام) أي يترجح عليه، ولأن معنى الخصوص والعموم يتبنى على الصيغة وذلك يكون في النصوص.

اتحاد الحكم كان الترجيح به ترجيحا بقياس آخر وهو فاسد؛ لما ذكرنا، ولو اختلف الحكم والوصف مع اتحاد الأصل كان الترجيح به ترجيحا بغلبة الأشباه فكان فاسدا أيضا؛ لأن ذلك بمنزلة ترجيح القياس بقياس آخر، فكان ترجيح القياس بقياس آخر كترجيح الخبر بالخبر والكتاب بالكتاب. والترجيح بكثرة الأصول كان بمنزلة ترجيح الخبر بسبب الشهرة وهو صحيح، فاغتنم فروق هذه الأصول، فإن مثل هذا لا يحصل إلا بإتعاب النفس بترك التواني وإحياء الليالي. وقوله: (وما يجري مجراه) أراد به ترجيح أحد القياسين بالخبر فإنه فاسد؛ لأن القياس متروك بالخبر ولا يكون حجة في مقابلته، والمصير إلى الترجيح بعد وقوع التعارض باعتبار المماثلة كما بينا، وكذلك ترجيح أحد الخبرين بنص الكتاب فاسد؛ لأن الخبر لا يكون حجة في معارضة النص. (يقضي على العام) أي يترجح عليه، ولأن معنى الخصوص والعموم يبتني على الصيغة إنما يكون في النصوص.

جعل نظمه حجة) وهو الكتاب، والله أعلم. * * *

باب وجوه دفع العلل الطردية

باب وجوه دفع العلل الطردية (وهو القسم الثاني من هذا الباب) أي باب وجوه دفع العلل الطردية من باب قسم وجوه دفع العلل الذي ذكر قبل هذا بسبع أوراق بقوله: العلل قسمان: طردية، ومؤثرة. فذكر هناك وجوه دفع العلل المؤثرة، وذكر هاهنا وجوه دفع العلل الطردية، فلما قدم هناك دفع العلل المؤثرة لزم تأخير وجوه دفع العلل الطردية، فسماه قسما ثانيا وإن كان هو في التقسيم وقع أولا. (فهو أحق بالتقديم)؛ لأنه يرفع الخلاف، فالمصير إلى المنازعة عند تعذر المصير إلى الموافقة.

وأما عند إمكان الموافقة فلا معنى للمصير إلى المنازعة (فإن غير العبارة) أي من التثليث إلى التكرار، وإنما غير إليه؛ لأن التثليث لا يقتضي اتحاد المحل على اذكر في الكتاب، والتكرار يقتضي اتحاد المحل فيحصل مقصود الخصم بهذا التغيير، لكن لا نسلم ثبوت سنة التكرار في الأصل بطريق الأصالة. وهو معنى قوله: ((لم نسلم ذلك في الأصل)) أي لم نسلم سنية التكرار في غسل الوجه بطريق الأصالة، بل صير إليه لضرورة ضيق المحل (وتكميله بإطالته في محله إن أمكن) أي وتكميل الركن إنما يكون بإطالة الركن إذا أمكن إطالته، وإمكان إطالة الركن إنما يكون إذا لم يستغرق الفرض جميع المحل كما في مسح الرأس، فإن فرضه يحصل بمسح ربع الرأس عندنا وبما ينطلق عليه اسم المسح عند الخصم، فأمكن تكميل ذلك الفرض باستيعاب جميع الرأس بالمسح لبقاء كل جانب من جوانب الرأس لإقامة المفروض من المسح، فكان استيعاب جميعه تكميلا له كما في إطالة القيام والركوع

والسجود في الصلاة، فإن فرض القيام يحصل بمجرد ما ينطلق عليه اسم القيام فإطالته بعد ذلك كان تكميلا له، وكذلك في الركوع والسجود، ثم يرد على هذا أن القيام والركوع والسجود بعد الإطالة يجب ألا يقع المطول بعد وجود مجرد القيام والركوع والسجود فرضا كما هو كذلك في مسح الرأس عند الاستيعاب حيث يقع هناك ما وراء الربع سنة. والفرق بينهما ما ذكر في الكتاب بعد هذا بقوله: ((والجواب أن هذا خلاف الكتاب) أعني أن في مسح الرأس الباء في الكتاب دخلت في محل المسح فاقتضت تبعيض المسح، ولا كذلك في القيام وغيره فبقى على ما اقتضاه مطلق الكتاب من فرضية جميعه، ثم عدم إمكان تكميل الركن بالإطالة إنما يكون في محل إذا استغرق الفرض جميع المحل كما في غسل الوجه حيث لم يمكن العمل هناك بما هو الأصل في تكميل الركن وهو الإطالة؛ فلذلك صرنا في تكميله إلى التكرار للضرورة. فعلم بهذا أن التكرار في غسل الوجه في حق التكميل لم يكن بطريق الأصالة، ولا ضرورة في حق مسح الرأس؛ لعدم استغراق الفرض جميع المحل فيعمل فيه بما هو الأصل في التكميل وهو الإطالة.

فعلم بهذا أن معنى قوله: (وهو أن لا أثر للركنية في التكرار أصلا) أي بطريق الأصالة (ولا أثر لها في التكميل لا محالة) أي لا اختصاص للركنية في التكميل لا محالة؛ لأن التكميل كما هو مسنون في الركن كذلك هو مسنون في الذي ثبت رخصة كمسح الخف، فإن مسح الخف ليس بركن في الوضوء. هكذا صرح به في ((التقويم)). وهذا لأن الركن ما يقوم به الشيء وينعدم بانعدامه، ومسح الخف شيء يجوز الوضوء بدونه؛ لأنه لو غسل قدمه لا يحتاج إلى مسح الخف. أما غسل القدم فهو ركن في الوضوء؛ لأنه لا يجوز الوضوء بدونه إما بذاته أو بخلفه وهو المسح، وكذلك هو مسنون في الذي ثبت سنة كالمضمضة، لكن تكميلها إنما كان بالتكرار لاستيعاب سنة المضمضة جميع المحل.

وكذلك هو مسنون في الذي ثبت أصالة كغسل الرجل، فكان تكميله أيضا بالتكرار لاستيعاب الأصل جميع محل الغسل. فعلم بهذا أن الركن وغيره سواء في استحقاق التكميل، ولم يكن للركنية اختصاص بالتكميل. (بالمحظور) وهو الغسل أي غسل الرأس وهو محظور. (فقد أدى القول بموجب العلة إلى الممانعة) أراد بالممانعة ما ذكر من قوله: ((لا نسلم ذلك في الأصل)) أي كان جوابنا في التعليل الأول للخصم بطريق القول بموجب العلة وفي التعليل الثاني له كان جوابنا له بطريق المنع. (وذلك غير مسلم على مذهبهم)؛ لأن مسح الرأس في مذهب الشافعي وأصحابه إذا وجد على وجه الاستيعاب لجميع الرأس كان كله فرضا ولا توجد السنة، فلا بد بعد وجود الفرض أن توجد السنة وذلك إنما يكون بالتكرار، وعندنا لما أدى الفرض بما مسح بعض الرأس كان استيعاب جميع الرأس بالمسح بعد ذلك سنة، فلا يحتاج بعد ذلك في إقامة السنة إلى التكرار بخلاف غسل الوجه، فإن الفرض لما استغرق محله في المرة الواحدة لم يمكن جعل بعضه سنة فاحتيج إلى إقامة السنة إلى التكرار ضرورة.

وقوله: (وإذا كان كذلك لم يلزمه شيء من هذه الوجوه) أي وإذا كان فرض مسح الرأس يستوعب جميع الرأس إذا مسح كله عند الخصم لم يلزمه ما ذكرنا من أن المسح إذا وجد بكل الرأس كان قدر ربع الرأس فرضا وما بقي وهو ثلاثة أرباع الرأس كان بمنزلة التثليث بالمسح وهو أكثر، لأنه لما وقع مسح كل الرأس عند الفرض عنده لا يكون هذا القول الذي ذكرنا عليه حجة. وقوله: (والجواب أن هذا خلاف الكتاب) أي جعل مسح جميع الرأس فرضا خلاف الكتاب، لأن الباء دخلت في محل المسح في الكتاب فاقتضت مسح بعض المحل لا استيعابه على ما ذكر في حروف المعاني. فإن قلت: فمن أين وقع الفرق عندنا بين مسح جميع الرأس وبين إطالة القراءة حيث يقع في مسح الرأس ما وراء قدر الربع سنة وفي القراءة جميع ما أطال منها يقع فرضا؟ قلت: الفرق هو الذي ذكرت قبل هذا وهو أن الباء دخلت في محل المسح في الكتاب فاقتضت تبعيضه، ولا قيد في حق القراءة فدخل كل ما قرأ

تحت قوله تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فوقع جميعه فرضا. (لكنه لا يمنع وجود ما يعينه) يعني سلمنا أن كونه صوم فرض يوجب التعيين ولكنه ليس بمانع شيئا يعين الصوم، وهاهنا وجد ما يعينه وهو انفراده في الشرعية وعدم المزاحمة، (فيكون إطلاقه تعيينا)، لأن هذا متوحد في الزمان فكان كالمتوحد في المكان فيصاب بمطلق نية الصوم، لأنه لا صوم شرعا سوى صوم رمضان. (ولأنه لا يصح عندنا إلا بتعيين النية) أي يشترط التعيين عندنا أيضا كما قلتم، ولكن يحصل ذلك بالإطلاق. (وعندنا لا يجب القضاء بالإفساد) يعني لا يجب القضاء بالإفساد مجردا ولا بالفساد مجردا، لوجود وجوب القضاء في كلا الوجهين، بل بمعنى آخر سواهما وهو أن فوات المضمون يوجب ضمان المثل لا باعتبار أنه إفساد

ولا باعتبار أنه فاسد بل باعتبار كونه مضمونا عليه بالشروع وهو يوجب ضمان المثل عند الفوات. ألا ترى أن المتيمم لو شرع في صلاة التطوع ثم رأى الماء فسدت صلاته وعليه القضاء. فعلم بهذا أن القضاء غير مختص بالإفساد. قلنا: (القرية عندنا بهذا الوصف) وهو الشروع والإفساد (لا تضمن، وإنما تضمن بوصف أنه يلتزم بالنذر) أي إنما تضمن هذه القربة وهي صلاة التطوع وصوم التطوع باعتبار أنه مما يلتزم بالنذر، فلذلك يجب بالشروع بخلاف الوضوء فإنه ليس مما يلتزم بالنذر، فلا يجب بالشروع، فكان هذا نظير الحج من حيث إنه لما كان يلتزم بالنذر التزم بالشروع بالإجماع فكذا نقول نحن في الصلاة والصوم. وحاصله أن في الصلاة والصوم جهة أن كلا منهما لا يضمن بالشروع

وهي كونه مما لا يمضي في فاسده فمن هذا الوجه لا يكون ملزما كالوضوء، وفيه أيضا جهة كونه مما يلتزم بالنذر فمن هذه الجهة يجب بالشروع كالحج، وعدم اللزوم باعتبار الوصف الذي قاله الخصم لا يمنع اللزوم باعتبار الوصف الذي قلنا، ولا بد من إضافة الحكم إلى الوصف الذي هو ركن تعليله فإن لم يجب باعتبار وصف فهو لا يدل على أنه لا يجب باعتبار وصف آخر. (العبد مال فلا يتقدر بدله كالدابة) يعني أن رجلا إذا قتل عبدا خطأ يجب عند أبي يوسف والشافعي-رحمهما الله- قيمته بالغة ما بلغت كما في الدابة وغيرها، (وعندنا لا يتقدر بدله بهذا الوصف) أي بوصف المالية، لكن في العبد معنى آخر سوى المالية وهو الآدمية فيتقدر بدله عندنا باعتبار وصف الآدمية لا باعتبار وصف المالية. (وهذا كلام حسن) أي القول باعتبار الجهتين بأن يقال: بجهة يتقدر بدله وبجهة لا يتقدر بدله. (إن الموجود قد يكون ببعض صفاته حسنا وببعض صفاته رديئا)، وهذا يكثر أمثلته في المحسوسات والمعقولات والمشروعات، فإن السم رديء

من وجه وهذا لا يشكل حسن وجه وهو أنه يقهر به العدو، وكذلك فعل الإنسان يقبح من وجه ويحسن من وجه كفعل العبد المشترك بين اثنين إذا كان مأمورا به من أحدهما منهيا عنه عن الآخر، فإذا وجد يتصف بما ذكرنا من الصفتين. وكذلك الإنسان إذا وصف إنسانا بعيب فيه ويظهره لغيره ليحترز ذلك الغير عنه ولا يقع في بلية، كرجل أراد أن يزوج ابنته من ذلك الرجل وهو لا يقف على ما فيه من أخلاقه السيئة فيخبره غيره بما فيه من أخلاقه السيئة، كي لا تقع ابنته في بلية يكون هذا الإخبار عنه غيبة من وجه فيقبح وحسنا وجه لهذا المعنى إذا لم يكن في غرضه الغيبة بل هي في غرضه إصلاح حال الغير، وله نظائر كثيرة. (ومن ذلك قولهم: أسلم مزروعا في مزروع) - إلى قوله: (وذلك لا يمنع وجود الفساد بدليله) وهو أن الجنس بانفراده يحرم النساء فيفسد عندنا لهذا الوصف لا لكونه مزروعا في مزروع كما إذا قرن بهذا السلم شرطا مفسدا يفسد بالاتفاق لا لكونه مزروعا في مزروع بل بقران شرط مفسد فكذلك هاهنا. وكذلك يجوز أن يفسد العقد بترك قبض رأس المال في المجلس مع أنه أسلم مزروعاً في مزروع، فإذا جاز أن يفسد هذا العقد مع وجود هذا الوصف

باعتبار معنى آخر بالاتفاق، فلماذا لا يجوز أن يفسد باعتبار الجنسية؟ فيضطر عند ذلك إلى الشروع في فقه المسألة بان الجنسية لا تصلح علة لفساد هذا العقد بها إن أمكنه ذلك. وكذا نقول في (المختلعة) إن الطلاق إنما يلحقها عندنا باعتبار (أنها معتدة عن نكاح صحيح)، وبقوله: "نكاح صحيح" يحترز عن الطلاق في العدة عن نكاح فاسد فإنه لا يقع فيه الطلاق وإن كانت معتدة. وكذا (قولهم: تحرير في تكفير) بموجب إيمان المحرر لكن (إطلاق صاحب الشرع) وهو قوله تعالى: (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يسقط وصف الإيمان وجوبا يعني لا يجب بصفة الإيمان لكن يستحب ويستحسن. (كالدين يسقط) يعني أن الموجب لوجوب الدين في الذمة لا يمنع إسقاط الدين بوجه آخر هو أن يسقط صاحب الدين بالإبراء فإنه يسقط وإن

كان الموجب لثبوت الدين موجودا وهو البيع والإجارة والإقراض وغير ذلك، فكذلك هاهنا وإن كان سبب الوجوب ثابتا لكن صاحب الدين أسقط حقه. (إنها أخذ مال الغير بلا تدين) أي بلا اعتقاد أنه حلال له، بخلاف الحربي إذا أخذ مال المسلم أو الباغي بتأويل أو العادل إذا أخذ مال الباغي حيث لا يجب الضمان، لأنه أخذ تدينا على اعتقاد أنه حلال له (فيوجب الضمان) كالغضب. (فكذلك استيفاء الحد) يعني يسقط الضمان استيفاء الحد كالإبراء، ويرجع الخلاف إلى أن الحد هل يسقط الضمان عن السارق أم لا؟

الفصل الثاني وهو الممانعة

الفصل الثاني وهو الممانعة (لأن كفار الفطر متعلقة بالفطر) أي بالفطر الذي يقع جناية متكاملة.

(فلا بد من القول بالذات)، لأن المجازفة في الوصف في الأموال الربوية عقر بالإجماع، لأن الجودة والرداءة فيها سواء، وهذا في المال مانع للوصف الذي جعله علة أيضا، فإنه جعل بيع المطعوم بالمطعوم مجازفة علة للبطلان. فنقول: لا نسلم بأن بيع التفاحة بالتفاحة مجازفة، لأن المجازفة نوعان: في الذات، وفي الوصف، والذي في الوصف لا يضر والذي في الذات لا يوجد، لأنه مجازفة على المعيار، والتفاحة لا تدخل تحت المعيار فلا تتحقق المجازفة فيها لما أن المجازفة إنما تعتبر في الأموال الربوية إذا توهم فيها المفاضلة، والمفاضلة إنما تكون بعد المساواة وتحقق المساواة إنما يكون بالمعيار الشرعي. وأما إذا لم يتوهم فيه المفاضلة فلا: وحقيقة المذهب أن الجواز عندنا في هذه الأموال أصل والحرمة بواسطة المفاضلة على الكيل، وعنده الحرمة أصل والمساواة مخلص، ففي كل صورة لا تثبت المساواة إنما يحرم لعدم المخلص بصورته أي بأجزائه وحباته (وإن تفاوتا في الذات) أي في الأجزاء أو الحبات. فعلم أن المجازفة بالصورة لا يضر، والمجازفة في المعيار هي العلة المحرمة،

في الصبرة ولم توجد هي هاهنا فلا يحرم. (لم نسلم له المجازفة مطلقة) أي لا نسلم أن مطلق المجازفة علة للحرمة، لأن المجازفة فيما دون الكيل لا يمنع الحل. وقوله: (مع أن الكيل الذي يظهر به الجواز). يؤيد ما ذكرت أن عنده الحرمة أصل يعني أن عنده العلة الطعم بشرط الجنس مع أن الكيل يظهر به الجواز. وقوله: (لا يعدم إلا الفضل على المعيار) تتمة ما سبق، وحاصله أن على قوله: إنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة، فكان باطلا يلزم أن يكون بيع الطعام بالطعام حراما وإن كيل لوجود المحرم وهو الطعم والجنس وأما الكيل فلا ينافيهما، لأنه لا ينافي إلا الفضل على المعيار فحسب، فعلى هذا التقدير كانت نكتته حجة عليه. وهذا الحكم الذي ذكره مأخوذ من الأصل وهو الصبرة بالصبرة، فاعتبر المجازفة في الفرع بالمجازفة في الأصل، والذي ذكرنا من توهم الفضل على الكيل إنما يوجد هو في الأصل لا في الفرع فلا يكون في الفرع نظير الأصل، لأنه

لا يوجد في الفرع البته فلا يصح القياس. (إنها ثيب ترجى مشورتها) وإنما يقيدون بالمشورة للحديث المرفوع وهو قوله عليه السلام: "الثيب تشاور" ويقولون: إنها ثيب ترجى مشورتها إلى وقت معلوم فلا يزوجها وليها بدون رضاها كالنائمة والمغمى عليها. (وأما المستحدث فلا يوجد في الأصل)، لأنه موجود في الحال.

لا حاجة إلى هذا التفصيل يعني يشترط رأيها بلا تفصيل. قلنا حينئذ بموجب العلة، لأنا شرطنا رأيها أيضا لكنا أقمنا رأي الولي مقام رأيها. (انتقض بالمجنونة) أي انتقض قول الخصم بالمجنونة، لأن حدوث رأيها غير مأيوس منه ومع هذا جاز تزويجها للولي، فعلم أن كل واحد منهما ليس بعلة للمنع عن الإنكاح. (وأما المعدوم قبل الوجود فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا) يعني أن الولاية كانت ثابتة له عليها قبل الثيوبة فلا يصلح عدم رأيها شرطا مانعا لثبوت ولايته، إذ الولاية كانت ثابتة مع تحقق عدم رأيها ولم تكن مانعا ولم يحدث بعده شيء يصلح مانعا أو لا يصلح المعدوم دليلا معارضا قاطعا لولاية الأب، لأن المعدوم لا يصلح معارضا لما يوجد في الحال فكيف يصلح معارضا رافعا لما كان ثابتا معنى؟ قوله: (فلا يحتمل أن يكون شرطا مانعا) أي مانعا من إثبات الولاية ابتداء بأن بلغت الولاية إلى الجد بعد الأب والصغيرة ثيب. (أو دليلا قاطعا) للولاية بعدما كانت ثابتة في حق الأب، لأن الحكم لا يسبق العلة.

فإن قلت: ما جوابنا عما تعلق به الشافعي بأن النبي عليه السلام قال: "الثيب تشاور". حيث علق هذا الحكم باسم مشتق من معنى وهو الثيوبة فيكون ذلك المعنى هو المعتبر في إثبات الحكم كما في الزاني والسارق في إيجاب الحد. قلت: قال علماؤنا- رحمهم الله-: المراد به المبالغة، لأنه علق بما لا يتحقق إلا بعد البلوغ وهو المشاورة، وكونها أحق بنفسها إنما يتحقق في البالغة دون الصغيرة، ولئن ثبت أن الصغيرة مراده فالمراد المشورة على سبيل الندب دون الحتم كما أمر باستثمار أمهات البنات فقال: "واستأمروا النساء في أبصاع بناتهن" وكان ذلك بطريق الندب فهذا مثله. كذا في "المبسوط". (وهذا الذي قلنا أمثلة ما يدخل في الفرع) يعني أن الذي قلنا من قوله: عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل كحد الزنا "مما يصح منعه في الفرع لا في الأصل، فإن الحكم في الأصل كما ذكره الخصم فإن حد الزنا متعلق بالجماع لا غير.

وأما في الفروع وهو كفارة الفطر فنحن نقول: لا نسلم أن كفارة الفطر متعلق بالجماع، بل بالفطر العمد الذي هو كامل في جنايته وكذلك في غيره، فإن حرمة بيع مطعوم بمطعوم مجازفة مسلم في الأصل وهو: بيع الصبرة بالصبرة. ممنوع في الفرع: وهو بيع التفاحة بالتفاحة، كذلك قوله: "ترجى مشورتها" مسلم في البالغة ممنوع في الصغيرة. (وأما في القسم الآخر) الذي يذكر بعد هذا فإن المنع (في الأصل). فنقول: (لا نسلم أن الاستنجاء طهارة مسح، وهما في طرفي نقيض) أي الغسل والمسح، فإن في أحدهما إكماله بالتكرار، وفي الآخر إكماله بنفي التكرار. (يحقق عرضه) وهو التنقية (وفي الثاني يفسده) وهو أن التكرار يفسد المسح.

(وهذا المعنى معدوم في هذا) أي استغراق الفرض محل نفسه معدوم في المسح، ثم النكتة الأولى لبيان أن الحكم هو المشروع في التكميل والثانية لإثبات سبب التكميل مشروعا في الأصل وهو الإطالة لا التكرار، (س) أي من قوله: لضرورة أن الفرض استغرق محله. (لم نجده في الأصل) وهو القضاء، لأن التعيين بعد التعيين غير معتبر، (لم نجده في الفرع) وهو صوم رمضان، فإن التعيين هنا حاصل بتعيين الشرع، إذ المشروع في هذا الزمان صوم الفرض خاصة فغيره ليس بمشروع، فلا نجد حينئذ بدا من الرجوع إلى حرف المسألة، وهو أن نية التعيين هل

يسقط اشتراطه بكون المشروع متعينًا في ذلك الزمان أم لا يسقط اعتباره؟ (فيقال) له: (في الأصل) أي في الثيب البالغة (عدم الرأي غير مانع) كما في الثيب البالغة المجنونة. (ومثل قوله: ما يثبت مهرًا دينًا يثبت سلما كالمقدر) أراد به أن السلم في الحيوان جائز عنده غير جائز عندنا. فقال: الحيوان يثبت دينًا مهرًا فيثبت دينا في السلم, كالمقدر لما ثبت دينا مهرًا ثبت دينًا سلما. أراد بالمقدر الكيلات والموزونات سوى الذهب والفضة, فإنا نقول: ما معنى قولكم: ((يثبت دينا ً في الذمة)) أتريدون أنه يثبت معلومًا بوصفه أم بقيمته؟ فإن قال بوصفه منعنا ذلك في الأصل وهو المهر, فقد قامت الدلالة لنا

على أنه لا يشترط فيما يثبت في الذمة مهرًا أن يكون معلوم الوصف حتى لو قال: شاة أو عبد أو بقر يجوز. (وإن قالوا): تعني به معلوم المالية و (القيمة). منعنا ذلك في الفرع فإن الحيوان بعد ذكر الأوصاف يتفاوت في المالية تفاوتًا فاحشًا, وإنما قال في الفرع, لأن الأصل وهو المهر معلوم بالقيمة عندنا, ولهذا إذا أتى الزوج بما سمى من الحيوان تجبر المرأة على القبول وإذا أتى بقيمته تجبر أيضًا. فعلم أنه معلوم بالقيمة, فاما في الفرع وهو السلم فغير معلوم بالقيمة فإن القيمة غير معتبرة في المسلم فيه, ولهذا يجب عنده تسليم الحيوان في السلم ولا يجوز تسليم القيمة. علم بهذا أنه غير معلوم بالقيمة فصح المنع. (وإن قال: لا حاجة لي إلى هذا. قلنا: بل إليه حاجة) , لأنه لابد من التسوية بين الأصل والفرع ليصح القياس, وهما متفاوتان: لأن أحدهما وهو المهر يحتمل جهالة الوصف لما ذكرنا من صحة المهر في نوع من الحيوان. والثاني وهو السلم لا يحتمل جهالة الوصف فلابد من البيان ليصح القياس, لأن من شرط صحة القياس أن يكون الفرع نظير الأصل.

(ومثله قولهم في بيع الطعام بالطعام) أي في اشتراط التقابض في المجلس قي بيع الطعام بالطعام إن العقد جمع بدلين يجري فيهما ربا الفضل (فيشترط التقابض كالأثمان). فإنا نقول: أيش المراد من قولكم: ((فيشترط فيه التقابض)) هل هو التقابض لإزالة صفة الدينية أو لإثبات زيادة معنى الصيانة عن الربا وأحدهما يخالف الآخر؟ فلا بد من بيان هذا. فإن قالوا: لمعنى الصيانة منعنا هذا الحكم في الأثمان فاشتراط التقابض هناك عندنا لإزالة صفة الدينياة, فإن النقود لا تتعين في العقود ما لم تقبض والدين بالدين حرام شرعًا. وإن قالوا: لإزالة صفة الدينية لا يتمكنون من إثبات هذا الحكم في الفرع, فالطعام يتعين في العقد بالتعيين من غير قبض, فلا يجد بدا من الرجوع إلى حرف المسألة وهو بيان أن اشتراط القبض في الصرف ليس لإزالة صفة الدينية بل للصيانة عن معنى الربا أي على قول الشافعي بمنزلة المساواة في القدر.

(قيل له: ماذا لا يجزئ وإنما سبق ذكر العتيق والأب وذلك لا يجزئ عندنا, فإن قال: وجب أن لا يجزئ عتقه قلنا به) , وبالفارسية: يعني كدامست كه روانيست, بدرستي ذكر عتيق وأب است كفارت روانيست وبس أكر بكويد كه أزاد شدن وى ز كفارت نيابت مي دارد بأن مي كويم جون بسبب عتق روانيست بسبب إعتاق رواست. وقوله: (فإن قال: وجب أن لا يجزئ عتقه). قلنا: لا يجوز عتقه عن الكفارة, لأن العتق ليس بفعل للمكفر بل هو أثر فعله في المحل, والواجب عليه فعل إختياري وهو التحرير, والتحرر ليس في وسعه, فيستحيل أن يكون هو فعله الغختياري فكيف يجوز عن الكفارة؟ (فإن قال: إعتاقه لم يوجد في الأصل) وهو الإرث لم يوجد منه صنع في الإرث, بل يعتق عليه من غير صنع منه, (ولم يقل به في الفرع)

يعني أن الشافعي لم يقل بأن الابن يعتق الأب بالشراء, بل يقول: يسعى في تخليص أبيه عن الرق لا بطريق الإعتاق, لأن الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالته, فيستحيل أن يكون إثبات الملك إزالة له, لكن لما ملك عتق من غير غعتاقه كما في الإرث. إن عنيتم أنه لا تتأدى الكفارة بالعتق, فنحن نقول في الفرع: لا تتأدى الكفارة بالعتق, إذ الكفارة تتأدى بفعل منسوب إلى المكفر, والعتق وصف في المحل ثابت شرعًا. وإن عنيتم الإعتاق فهذا غير موجود في الأصل, لأنه لا صنع للوارث في الإرث حتى يصير به معتقا, وعند هذا لا بد من الرجوع إلى حرف المسألة وهو: أن شراء القريب هل هو إعتاق بطريق أنه متمم علة العتق أو ليس

بإعتاق وإنما يحصل العتق به حكما للملك؟ لا (لأن ذلك ليس بمال) بل للشبهة البدلية والحدود تسقط بالشبهات. (وفساد الوضع) في المعلل بمنزلة فساد أداء الشهادة (وهو فرق النقض) فإن النقض إذا صح يبطل الاطراد بعد ثبوت صحة العلة ظاهرًا, وإذا كان فاسدًا في الأصل لا يشتغل بالاطراد كما أن أداء الشهادة إذا فسد لا يشتغل بالتعديل فكان فساد الوضع أقوى في دفع العلل من المناقضة, لأنه يمكن تدارك النقض في الجملة بأن يبين إن هذا يتراءى نقضًا وليس بنقض في الحقيقة, كما يتراءى أن الاستنجاء نقض فيما تقدم من التعليل في مسح الرأس. فأما إذا فسد التعليل في الوضع لا يمكن تداركه فإندفع علة الخصم أصلًا (مثل التعليل لإيجاد الفرقة بإسلام أحد الزوجين) فإنه فاسد في الوضع كما ذكر في الكتاب. (وكذلك القول ببقاء النكاح مع ارتداد أحدهما) فاسد: لما عرف أن

المرتد ليس من أهل النكاح, فكان القول ببقاء النكاح مع الردة فاسدًا في أصل الوضع. (الصرورة): بالصاد المهملة: هو الذي لم يحج حجة الإسلام. وقال الشافعي: الصرورة إذا حج بنية النفل يقع عن الفرض, لأن فرض هذه العبادة يتأدى بمطلق النية فيتأدى بنية النفل أيضًا كالزكاة. (قلنا: هذا فاسد وضعًا): لأنه بهذا الطريق رد المفسر إلى المجمل (وحمل المقيد على المطلق) , والأمر على العكس, فإن العلماء اختلفوا في حمل المطلق على المقيد, ولم يقل احد بحمل المقيد على المطلق, فالأول يحتمل الجواز في الجملة. وأما الثاني فلا يحتمل الجواز أصلًا, وهذا لأن المطلق ساكت غير متعرض

للصفات لا بالنفي ولا بالإثبات, فاحتمل أن تثبت فيه صفة زائدة بدليل فيراد به المقيد. وأما عكسه فلا يجوز أصلا ً وهو أن يقال: إن المراد من المقيد هو المطلق, لأن فيه إلغاء صفة زائدة منصوصة فيلزم منه نسخ المنطوق بالمسكوت والموجود بالمعدوم, فكان فيه مخالفة وضع الشرع وهو حمل المقيد على المطلق. وأما الجواب عن فصل الزكاة: فإن قدر الزكاة جزء من ذلك النصاب المعين فيخرج عن عهده الزكاة بالتصدق بجميع النصاب يتعين حق الفقير فيه لتعين ذلك النصاب لأداء الزكاة منه حتى لو حلك النصاب قبل التمكن من الأداء تسقط عنه الزكاة بالإجماع. وأما في مسألة الحج, فالواجب في الذمة وفي الذمة سعة, فيجوز أن ينوى عن النفل فيما أدى من الحج ويقع عنه نفلا وإن كان هو في حق الصرورة لعدم التعين عليه فافترقا. (ومثله التعليل بالطعم لتحريم الربا اعتبارًا بالنكاح) والجامع عزتهما فإن الطعم له عزة وخطر فيشترط لورود الملك عليه شرط زائد وهو المساواة اعتبارًا بالنكاح, لأن النكاح عزة وخطرًا لورود الملك على البضع فاشترط فيه شرط زائد وهو إحضار الشهود وغيره, وهذا فاسد في الوضع, لما قلنا إن القوام يتعلق بالطعم بخلاف النكاح فإن الحرمة في البضع أصل, لأن الحرية

تنافي الاستيلاء إذ في الاستيلاء نوع رق مناف للحرية ويتوقف على ما لا يتوقف عليه غيره اعتبارًا للأصل. (لأن الطعم يقع به القوام) فكان السبيل في مثله التوسعة لا التضييق, لأن البيع في الأصل ما شرع إلا للحاجة, ولهذا اختص بالمال الذي هو بذلة لحوائج الناس, فصفة الطعم تكون عبارة عن أعظم أسباب الحاجة إلى ذلك المال, لأن ما يتعلق به البقاء يحتاج إليه كل واحد, وذلك إنما يصلح علة لصحة العقد وتوسعة الأمر فيه لا للحرمة, لأن تأثير الحاجة في الإباحة كما في إباحة الميتة عند شدة الحاجة والضرورة. وقوله: (فصلح للتحريم إلا بعارض) وهو النكاح عند وجود شرطه. (ومثله قولهم في الجنون: أنه لما نافى الأداء نافى القضاء) يعني أن من جن في وقت صلاة كامل أو في يوم واحد في الصوم أنه لا يلزمه القضاء: لأن الخطاب ساقط عنه أصلًا, ووجوب القضاء يبتنى على وجوب الأداء بمنزلة ما لو جن أكثر من يوم وليلة في الصلاة أو استوعب الجنون الشهر في الصوم, ونحن نقول: هذا فاسد وضعا, لأن الحادث بالجنون عجز عن فهم

الخطاب والائتمار بالأمر ولا أثر للجنون في إخراجه من أن يكون أهلا للعبادة, لأن ذلك يبتنى على كونه أهلا لثوابها والأهلية لثواب العبادة بكونه مؤمنًا والجنون لا يبطل إيمانه, ولهذا يرث المجنون قريبه المسلم, فكان سبب الوجوب متحققًا في حصه كما في النائم والمغمى عليه, والخطاب بالأداء ساقط عنه لعجزه عن فهم الخطاب. وذلك لا ينفي صحة الأداء فرضا بمنزلة من لم يبلغه الخطاب فإنه بتأدى منه العبادة بصفة الفرضية كمن أسلم في دار الحرب ولم يبلغه فرضية الخطاب لا يكون مخاطبا بها, ومع ذلك إذا أداها كان فرضًا له. ألا ترى انه لو جن بعد الشروع في الصوم بقى صائمًا, فكان التعليل بسقوط فعل الاداء عنه لعجزه عن فهم الخطاب على نفي سبب الوجوب في حقة أصلًا فاسدًا وضعًا مخالفًا للنص, وهو قوله عليه السلام: " ((من نام عن

صلاة ...)) الحديث, ومخالفا للإجماع وهو في النائم والمغمى عليه والمسلم في دار الحرب وكونه أهلا لبقاء الصوم مع الجنون. (ولا كلام في الحدود الفاصلة) أي لا نزاع فيها فإن الحد الفاصل من العسر واليسر والحرج والتخفيف ثابت بالنص والإجماع, أو معناه ليس كلامنا للتفرقة بين ما يصلح للحرج وبين ما لا يصلح, بل كلامنا في أن ما ليس فيه الحرج وهو القليل على الكثير بان يقال لما لم يجب قي صورة الكثير لم يجب في صورة القليل. ألا ترى أنا أسقطنا بعذر الحيض قضاء الصلوات: لأنها تبتلى بالحيض في كل شهر عادة, والصلاة تلزمها في اليوم والليلة خمس مرات, فلو أوجبنا القضاء تضاعف الواجب في زمان الطهر وهو حرج عظيم, ولا يسقط بالحيض قضاء الصوم, لان فرضية الصوم في السنة في شهر واحد وأكثر الحيض في ذلك الشهر عشرة أيام, فإيجاب قضاء عشرة أيام في أحد عشر شهرا لا يكون فيه كثير حرج, ولا يؤدي إلى تضاعف الواجب في وقته.

(والبياعات تخالف التبرعات) , هذا وجوب عن قياس الشافعي فإنه يقول: النقود تتعين في عقود المعاوضات, لأنها تتعين في التبرعات كالهبة والصدقة فتتعين في المعاوضات بمنزلة الحنطة وسائر السلع. قلنا: هذا التعليل فاسد وضعا, فإن التبرعات مشروعة في الأصل للإيثار بالعين لا لايجاب شيء منها في الذمة, والمعاوضات لإيجاب البدل منها في الذمة إبتداء. ألا ترى أن البيع في العرف إنما يكون بثمن يجب في الذمة ابتداء فكان اعتبار ما هو مشروع للإلزام في الذمة ابتداء بما هو مشروع في الأعيان لنقل الملك واليد من شخص إلى شخص في حكم التعيين فاسدًا في الوضع, وقوله: (هذه للإيثار) أي التبرعات لإيثار المتبرع به وهو عين على المتبرع عليه, فاقتضى ذلك تعين المتبرع به لا محالة. (وهذه لالتزام الديون) أي البياعات شرعت في أصلها لالتزام الديون في الذمة.

ألا ترى أن الأثمان تجب في الذمة في البياعات بدون الضرورة فإن كانت الدراهم في يده حاضرة وقد اشترى السلعة مطلقا يجب ثمن السلعة في ذمته بالاتفاق, ولا يتعين تلك الدراهم التي في يده الثمن. علم بهذا أن البياعات أصلها في التزام الديون في الذمة. (فبطلت وجوه المقاييس في ذلك جملة) أي القياس على الغضب والوديعة والتبرعات والوكالة باطل لوجوه المقاييس وهى القياس الظاهر, والقياس الظاهر والقياس الخفي الذي هو الإستحسان والقياس بالعلل الطردية والاخالة والعلل المؤثرة, لأنه لما كان فاسدًا في الوضع لا يتأتى فيه لا القياس ولا الاستحسان ولا غيرهما, لأن الكل يفتقر إلى صلاح الوصف وهو لا يكون صالحًا مع فساد الوضع فبطل جميع وجوه القياس. وقوله: (وفي قدر الوظيفة) أما عندنا, فلأن الاستيعاب في التيمم ليس بشرط في رواية الحسن عن أبى حنيفة -رحمهما الله ... وأما عند الشافعي فلأن

التيمم إلى الرسغ. (وفي نفس الفعل) , فإن الوضوء غسل, والتيمم مسح. (انتقض ذلك بغسل الثوب والبدن) فإن ذلك الغسل طهارة أيضًا ولم تشترط فيه النية. (بأن الماء في هذا الباب عامل بطبعه) أي عامل للطهارة قال الله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) والطهور هو: الطاهر بنفسه والمطهر لغيره وهو يعمل في التطهير عند الإستعمال من غير النية كالنار تعمل الإحراق من غير النية.

(لأن مخرج النجاسة غير موضوف بالحدث) هذا لبيان ألا يقال: القياس غسل المخرج فغسل الأعضاء الأربعة كان بخلاف القياس. فقال: القياس غسل كل البدن بعدما ثبت الحدث في البدن على ما نبين (فوجب غسل كله) كالجنابة والحيض النفاس (فلم يكن التعدي عن موضع الحدث إلا قياسًا). والأصل في هذا أن الإنسان إذا اتصف بصفة وقامت تلك الصفة ببعض البدن كان جميع البدن متصفًا بتلك الصفة, كما يقال: فلان عالم سميع بصير وإن كان هو يسمع بأذنه ويعلم بقلبه ويبصر بعينه, وجعلت تلك المجال بمنزلة الآلة والحدث من هذا القبيل, فإذا خرج من موضع اتصف جميع البدن به يقال: إنه محدث. فعلم بهذا أن تعدي الحدث من محل الحدث إلى جميع البدن لم يكن إلا بطريق القياس على كونه سيعًا وبصيرا وعالمًا على ما ذكرنا, كما أنه يقال هناك: فلان عالم وإن قيام العلم بقلبه, فكذلك يقال: فلان محدث وإن كان قيام الحدث على الحقيقة بمحل مخصوص, إلا أن الاختصار على الأعضاء الأربعة مع المقتضي بوجوب غسل جميع البدن بخلاف القياس.

(وإنما نعني) وفي هذا نسخ بالنون وهو الظاهر، وبياء الغائب مع البناء على المفعول، وإنما يعبر عن التغيير على بناء المفعول، وإنما تغير على صيغة الفعل الماضي من التغير. (بالنص الذي لا يعقل وصف محل الحدث من الطهارة إلى الخبث) أي الحدث أي هذه الأعضاء كانت طاهرة فاتصافها بكونها نجسة من غير قيام النجاسة بها حقيقة معنى لا يدرك بالعقل. (والنية للفعل القائم بالماء لا للوصف القائم بالمحل) أي أن اشتراط النية ليصير الماء مطهرًا ويصير غسل هذه الأعضاء قربة؛ لأن الشرط عند الخصم نية رفع الحدث، ورفع الحدث يحصل بفعل الماء وهو يظهر بطبعه فلا حاجة إلى النية. (ومسح الرأس ملحق بالغسل) هذا جواب عن قول من يقول: ينبغي أن تشترط النية في مسح الرأس؛ لأنه لا يعقل الرأس مطهرًا فصار كمسح التيمم في استدعائه النية.

فأجاب عنه بقوله: إنه ملحق بالغسل لإقامته بالماء كما في الغسل، وبهذا خرج الجواب عن شبهة ترد على هذا القول وهي: أن التيمم قائم مقام الوضوء ينبغي على هذا أن لا تشترط النية في التيمم كما لا تشترط في حق الوضوء الذي كان التيمم نائبًا عنه. قلنا: لتيمم وإن كان نائبًا عن الوضوء لكن هويقام بالتراب لا بالماء، والتراب في أصله غير موضوع للتطهير، بل للتلويث، فمع نية التطهير كان قائمًا مقامه لا عند عرائه عن النية. (ولا يجوز أن تشترط) أي النية (لتصير قربة) أي لا يجوز أن يكون الاختلاف لهذا؛ لأن النية ليصير التيمم قربة شرط بالإجماع ولا نزاع في هذا، ولكن النزاع أن الصلاة هل تفتر إلى كون الوضوء قربة؟ (فكانت حجة في موضع الضرورة) كما في البكارة والعيوب في الموضع الذي لا يطلع عليه الرجال.

(وما يبتذل في العادة) كالماليات (إلا أن فيها ضرب شبهة) باعتبار نقصان عقل النساء لتوهم الضلال والنسيان بكثرة غفلتهن؛ ولهذا ضمت إحدى المرأتين إلى الأخرى لتكونا كرجل واحد في الشهادة أو فيها شبهة الدلية. (فكان فوق ما يسقط بالشبهات) يعني أن النكاح مندو مسنون فيحتاط في إثباته، ولهذا يثبت مع الهزل والكره من غير الرضا فكان فوق ما يسقط بالشبهات وهو الحد. ألا ترى أن الشاهد إذا رجع بعد القضاء قبل الإمضاء لا يحد ويسقط الحد وفي النكاح لا يبطل النكاح، وكذلك النكاح لا يفسد بالشروط بل يبطل الشروط، وذلك كله دليل على أن النكاح أسرع ثبوتًا من المال، فلما ثبت المال بشهادة النساء مع الرجال فلأن يثبت بها النكاح أولى، وفي بعض النسخ: "فكان فوق ما لا يسقط بالشبهات" أراد به الأموال، فإن حقوق العباد في الأموال لا تسقط بالشبهات.

باب وجوه الانتقال

باب وجوه الانتقال (الأول الانتقال من علة إلى علة أخرى لإثبات الأولى) كان شيخي- رحمه الله- يقول: نظير هذا من القرآن قوله تعالى: (ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إنَّمَا يَامُرُكُم بِالسُّوءِ والْفَحْشَاءِ وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) حيث علل النهي عن اتباع خطوات الشيطان بأنه لكم عدو مبين وأثبت حكمة النهي به، ثم علل عداوته للمخاطبين بقوله: (إنَّمَا يَامُرُكُم بِالسُّوءِ والْفَحْشَاءِ) وكان يقول بالفارسية: همجنان كه در مستنبطات علت هست وعلت علت هست در منصوصات نيز علت هست وعلت علت هست. بعد أز آن آيت را هم مي خواند

كه قوله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) حيث علل استواء السر والجهر عنده في أنه معلوم له بقوله: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ثم علل علمه بذات الصدور بقوله: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) يعني: سرًا را مي داند وجهرا را مي راند. بعدأزآن آنرا تعليل كرد بر اين كه او نداند آن خداي كه انرا أفريده است، وشرط أفريدن دانستن است. وهذه الآية أيضا رد على المعتزلة في قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة لهم وهم لا يعلمون كيفية أفعالهم وكميتها في الحسن والقبح، وقدر ما يقطع من الزمان في تحصيل ذلك الفعل، فكيف يكونون خالقين لأفعالهم وشرط الخلق غير موجود؟

وذكر في الكتاب نظير ما ذكره في (الصبي المودع إذا استهلك الوديعة لم يضمن) إلى آخره. وذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- فقال: وكذلك إذا علل بقياس فقال خصمه: القياس عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بقول الصحابي، فيقولخصمه: قول الواحد من الصحابي عندي ليس بحجة، فاشتغل بإثبات كونه حجة بخبر الواحد، فيقول خصمه: خبر الواحد عندي ليس بحجة، فيحتج بالكتاب على أن خبر الواحد حجة، فإنه يكون طريقًا مستقيمًا ويكون هذا كله سعيًا في إثبات ما رام إثباته في الابتداء. (وكذلك إذا ادعى حكما بوصف)، وهذا نظير الوجه الثاني. (كالإجازة والبيع) فجواز الصرف إلى الكفارة بعد الإجازة ظاهر فإنه على ملك المؤاجر بعد عقد الإجارة، وأما بعد البيع فالمراد منه أن البيع لا

يخرج العبد المبيع عن محلية الكفارة، فإن المتبايعين إذا تقايلًا فللبائع أن يكفر عن كفارته أو باع بشرط الخيار للبائع. (فإن قال: عندي لا يمنع هذا العقد) أي لو قال الخصم: عندي عقد الكتابة لا يخرج الرقبة من الصلاحية للكفارة ولكن نقصان الرق الذي حصل من عقد الكتابة هو يخرج الرقبة من ذلك فنقول: بهذه العلة يجب ألا يتمكن نقصان في الرق؛ لأن ما يمكن نقصانا في الرق لا يكون فيه احتمال الفسخ كالتدبير، فهذا إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى أيضا وهو نهاية في الحذافة. وكذلك إن تعذر إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى فأراد إثباته بعلة أخرى وهذا هو الوجه الثالث وهذا صحيح أيضًا؛ لأنه ما ضمن بتعليله إثبات جميع الأحكام بالعلة الأولى، وإنما ضمن إثبات الحكم الذي زعم أن خصمه ينازعه فيه فإذا أظهر الخصم الموافقة فيه واحتاج إلى إثبات حكم آخر يكون له أن يثبت ذلك بعلة أخرى ولا يكون هذا انقطاعًا منه.

وحاصله أنه إذا لم يتعذر إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى كما في الوجه الثاني أو تعذر إثبات الحكم الثاني بالعلة الأولى وانتقل إلى العلة الأخرى كما في الوجه الثالث فإنه لا يكون انقطاعًا. فكان قوله: (وإذا علل بوصف آخر) نظير الوجه الثالث يعني وإذا علل بوصف آخر لحكم آخر أي للحكم الثاني الذي أثبت ذلك الحكم في الوجه الثاني بالوصف الأول علل ذلك الحكم الثاني بالوصف الآخر غير الوصف الأول حين تعذر إثبات الحكم الثاني بالوصف الأول. نحو أن يقول: يجب ألا يتمكن نقصان في الرق بعقد الكتابة؛ لأنا أجمعنا أن بعقد الكتابة عدم ثبوت العتق فلا يثبت من ضرورة ذلك نقصان في الرق؛ لأن الرق وصف غير متجز، فلو قلنا بنقصان الرق يلزم تجزيه وهو ليس بثابت بالإجماع، فأثبت عدم تمكن النقصان في الرق بوصف آخر حين تعذر إثباته بالوصف الأول وهو قوله: إن الكتابة عقد محتمل الفسخ بالإقالة إلى آخره. إلى هذا أشار الإمام المحقق شمس الأئمة رحمه الله.

وقال الإمام مولانا حميد الدين- رحمه الله نظير القسم الثالث من الانتقال بقولهم: ركن في الوضوء فيسن تثليثه كل واحد من الوصف والحكم فانتقل فقال: فرض في الوضوء فيسن تكراره فانتقل من العلة الأولى وهي الركن إلى العلة الثانية وهي الفرض، وانتقل من الحكم الأول وهو يسن تتليثه إلى حكم آخر وهو يسن تكراره. ولكن في هذا ضرب غفلة؛ حيث لم يعلل على وجه لا يحتاج إلى الانتقال، لكن النظير الذي ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- الأمتن والأقوى يعرف ذلك بالتأمل. ثم ذكر الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- هنا وجوه الانتقال وهي أربعة: أحدها: السكوت وهو اظهرها كما كان للعين عند إظهار الخليل صلوات الله عليه.

والثاني: جحد ما يعلم ضرورة بطريق المشاهدة. والثالث: المنع بعد التسليم. والرابع: الانتقال إلى علة أخرى بإثبات الحكم الأول، والله أعلم.

باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط

باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط ذكر في الكتاب مناسبة إلحاق هذا الباب بما قبله بقوله: (فألحقناها بهذا الباب ليكون وسيلة إليه بعد إحكام طرق التعليل)، ولكن هذه المناسبة التي ذكرها تقتضي أن يقدم هذا الباب على باب القياس؛ لان الوسيلة مقدمة على المقصود، وقد ذكرنا جوابه وما يلحق به في الوافي.

ثم اعلم: أن المراد من حق الله تعالى هو ما كانت منفعته عامة، ومن حق العباد ما كانت منفعته خاصة. هكذا نقل عن الأستاذ الكبير مولانا شمس الدين الكردي رحمه الله. وقوله: (وعقوبات) سميت العقوبة عقوبة؛ لأنها تعقب الجنايات.

(وهي ثلاثة أنواع): أي العبادات ثلاثة أنواع. (فانقلب) أي الإقرار انقلب (ركنا في أحكام الدنيا والآخرة). أما في أحكام الدنيا فظاهر وهو إنما نحكم بكونه مؤمنًا عند الناس ويعامل به معاملة المؤمنين في الدنيا إذا أقر بإيمانه. وأما في أحكام الآخرة فقد ذكر في هذا الكتاب في باب بيان صفة الحسن للمأمور به: فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنًا أي عند الله تعالى أيضًا وهو مذهب الفقهاء، ومن لم يصادف وقتًا يتمكن فيه من البيان وكان مختارًا في التصديق كان مؤمنًا أي بالإجماع أن يحقق ذلك،

وإنما كان هكذا لأن المصدق بالقلب عن اختيار يقر بلسانه لا محالة، فإذا لم يقر لم يكن مؤمنًا عند الفقهاء على ما ذكرنا هناك. (وهو أصل في أحكام الدنيا أيضًا) أي الإقرار بالإيمان أصل الأحكام في الدنيا مع كونه دليلًا على الإيمان، ثم استدل على ركنيته بقوله: (حتى إذا أكره الكافر على الإيمان فآمن صح إيمانه) مع علمنا ظاهرًا بأنه لا تصديق في

قلبه؛ لأن من آمن لقيام السيف على قفاه. كان هو دليلًا على عدم التصديق في قلبه، ومع ذلك حكم بإيمانه؛ لوجود أحد الركنين وهو الإقرار؛ لأن "الإسلام يعلو ولا يعلى" فلذلك جعلناه أصلًا في هذا، وكذلك هذه التفرقة بين الإيمان والردة في حق السكران فإن إيمانه يصح وردته لا تصح؛ لما قلنا بأن "الإسلام يعلو ولا يعلى"، ولأن فيه سعيًا في جعله مؤمنًا تكثيرًا لسواد المسلمين، فإنه يمنع بعد ذلك عن الكفر قهرًا وجبرًا، فربما يحمله ذلك على الإيمان بطريق الإخلاص، وفي الردة بقي على الأصل لهذين المعنيين لما أن الأداء في الردة دليل محض ليس بركن بدليل وجود الردة بدون أداء لفظ

الردة، ولأن في جعلنا مسلمًا بمجرد إقراره طوعًا أو كرهًا حكمة أيضًا وهي رد طعن الكفار؛ لئلا يقولوا إنهم يقبلون من شاؤوا ولا يقبلون من شاؤوا، ومن كان لهم فيه نفع يقبلون وإلا لا يقبلون. (وهي عماد الدين) ما خلت عنها الشريعة المسلمين، وهي تشمل الخدمة بظاهر الإنسان بالأفعال الدالة على التواضع والانقياد مع النظافة من جميع ما يتصل به وباطنه من النية والإخلاص والخضوع، فلذلك كانت هي اقوى من سائر العبادات. (والأولى صارت بواسطة القبلة التي هي جماد، وهذه صارت قربة بواسطة الفقير الذي له ضرب استحقاق في المصرف)، ولما كانت واسطة الصلاة جمادًا كانت تلك الواسطة كأنها ليست بواسطة أصلًا؛ لأن وجود الشيء الذي لا اختيار له غير معتبر في كونه واسطة. ألا ترى أن من حل قيد عبد فأبق لا يضمن الحال، ولو حل فم زق دهن

فسال يضمن؛ لأن إباق العبد لما كان باختياره طع فعل الحال لوجود الواسطة المعتبرة بين حل الحال وبين هلاك العبد بالإباق، ولم يعتبر سيلات الدهن واسطة؛ لعدم اختياره فبقي التلف مضافًا إلى من حل فم الزق، فلما كانت الواسطة في الصلاة أقل كانت هي أقرب إلى الإيمان من غيرها. (ثم الصوم قربة يتعلق بنعمة البدن) يعني أن الصوم يجب على العبد بطريق الرياضة للنفس؛ ليكون أصلح لعبادة الخالق كرياضة المركب ليصلح لركوب السلطان فكان (ملحقًا بالصلاة)؛ لأن العدو إذا قهر يصير منقادًا فيعبد الله تعالى على قطع العلائق وهي الشهوات المركبة فيه، فكان دون الصلاة؛ لأن كف النفس الشهوية عن مقتضياتها وهي شهوة البطن والفرج موجود في الصلاة وزيادة، وفي الصوم لا يوجد إلا هذا فكان دون الصلاة وملحقاتها. (وهي دون الواسطتين الأوليين) أي النفس أدون وأحقر من الكعبة والفقير فإنهما معظمان، فكانت العبادة التي كانت واسطتها أدون من تينك الواسطتين أدون من تينك العبادتين؛ لما أحن حسن هذه العبادات بسبب هذه الوسائط، فلذلك أثر انحطاط رتبة الواسطة وعظمتها في انحطاط هذه العبادات وعظمتها. أو لأن الواسطة في الصلاة والزكاة غير العابد وهي خارجة عنه، والنفس

ليست بخارجة عن العابد، بل هي نفس العابد والشيء لا يكون واسطة لنفسه، فعلى هذا ينبغي أن يكون الصوم أفضل من الصلاة والزكاة، لكنه لما كان للرياضة على ما قلنا كان وسيلة لتكون النفس منقادة لسائر العبادات فكان بمنزلة التبع للصلاة والزكاة، وكل واحدة منهما أصل بنفسها؛ فلذلك كانت الصلاة والزكاة أقوى من الصوم (حتى صارت من جنس الجهاد) أي حتى صارت قربة الصوم من جنس الجهاد؛ لأن الصوم قهر النفس وهي عدو الله فكان قهره من جنس الجهاد. يؤيده قوله عليه السلام: "الجهاد جهادات، أحدهما أفضل من الآخر، وهو أن تجاهد نفسك وهواك". وقوله: "حتى صارت من جنس الجهاد" متصل بقوله: "لا يصير قربة إلا بواسطة النفس"؛ لأن كونه قربة لما كان بواسطة النفس وهي أمارة بالسوء كان قهرها جهادًا. (فكانت دون الصوم) أي عبادة الحج دون عبادة الصوم؛ لأن الصوم معقول حسنه؛ لأنه قهر عدو الله وهو مما يدرك العقل حسنه. أما أفعال الحج فمما لا يدرك بالعقل حسنها، فكان ذلك دون الصوم من

هذا الوجه. (كأنها وسيلة إليه) أي إلى الصوم؛ لأ الصوم هو: الامتناع عن الشهوات، والحج لا يحصل غالبًا إلا بهجر الأوطان للنفس ولا يجد الحاج أيضا ما يقضي به شهواته فيضعفه وينكسر به شهوته فكان حينئذ أقدر على قهر النفس الذي هو صوم، فلذلك كان الحج بمنزلة الوسيلة إليه. (والعمرة سنة واجبة) أي مؤكدة. بدليل ما ذكره شمس الأئمة- رحمه الله- بقوله: فالعمرة سنة قوية (تابعة للحج) كسنن الصلاة؛ لأن العمرة بعض أفعال الحج لا كلها فلم تكن مثل الحج بل تكون تبعًا. (ثم الجهاد شرع لإعلاء الدين فرض في الأصل) هذا يقتضي كونه من فروض الأعيان؛ لأن إعلاء الدين فرض على كل مسلم، وإنما قلنا إنه شرع

لإعلاء الدين؛ لأن الجهاد في الحقيقة تعذيب عباد الله وتخريب بلاد الله وهو ليس بحسن في نفسه، وإنما حسنت شرعيته لكونه متضمنًا لإعلاء كلمة الله فلذلك كان من الفروض. (لكن الواسطة هاهنا هي المقصودة) يعني أن كفر الكافر هو المقصود بالإعدام؛ لأن فرضية الجهاد لكفر الكافر فإذا حصل هذا المقصود وهو الإعدام يسقط عمن لم يجاهد، (فلذلك صار من فروض الكفاية). ألا ترى أن الجهاد عند النفير العام صار من فروض الأعيان باعتبار الأصل. (والاعتكاف شرع لإدامة الصلاة على مقدار الإمكان) يعني أن العزيمة

أن يشغل العبد مره بالعبادة وهي الصلاة؛ لأنها أشرف العبادات، وإنما قلنا إن العزيمة ذلك لتواتر النعم عليه كل ساعة وهي شرعت شكرًا للنعمة، إلا أن الله تعالى تفضل على عباده بإسقاطها في غير أوقاتها، وفي شرعية الاعتكاف أخذ بالعزيمة وهو إدامة الصلاة إما حقيقة بالاشتغال بالصلاة أو حكمًا؛ لأن المنتظر لللاه في الصلاة، وهومعنى قوله: "شرع لإدامة الصلاة على مقدار الإمكان" أي على قدرالوسع، فلذلك صح النذر به وإن لم يكن حسنه فرضًا عليه؛ لأن النذر بالاعتكاف نذر بالصلاة معنى؛ لأن التابع يعطى له حكم الأصل، (ولذلك اختص بالمساجد) وهذا يقرر ما ذكر من إدامة الصلاة؛ لأن المساجد هي المعدة لإقامة الصلاة. (التي فيها معنى المؤنة صدقة الفطر)، وإنما لنا: أن فيها معنى المؤنة؛ لأنها تجب على الإنسان بسبب الغير، فاسم صدقة الفطر ينبئ عن كونها عبادة كصدقة التطوع فإنها عبادة بلا شبهة، وكذلك اشتراط النصاب مقدرًا بنصاب الزكاة يدل على كونها عبادة، وكذلك مصرفها أيضا وهو الفقير يدل على كونها عبادة، فلذلك جعل معنى العبادة فيها أصلًا، إلا أن فيها معنى المؤنة لما ذكرنا، فلذلك تجب على الصبي والمجنون الغنيين في مالها كالنفقة تجب

في مالهما، وكذلك تجب عليهما نفقة ذي رحم محرم منها. (والمؤنة التي فيها معنى القربة هي العشر)، وإنما جعل المؤنة أصلًا؛ لأن سببه الأرض النامية والأرض هي الأصل في السبب فكانت المؤنة أصلا في العشر وقربة باعتبار الخارج من الأرض فتعلقه بالخارج كتعلق الزكاة بالنامي فلهذا يشبه الزكاة فلذلك كانت القربة فيه تبعًا. (والخراج مؤنة فيها معنى العقوبة؛ لأن سببه الاشتغال بالزراعة) وهي عمارة الدنيا والإعراض عن الجهاد وهو عادة الكفار، ولذلك استحق به الذل على ما قال عليه السلام حين رأى آلات الحراثة في دار قوم: "ما دخل هذا في دار قوم إلا وقد ذل أهلها". وقال عليه السلام: "إذا تبايعتم العين واتبعتم أذناب البقر فقد ذللتم وظفر بكم العدو". فكان وجوب الخراج باعتبار الوصف عقوبة (لحفظ الأرض وإنزالها) يعني أن الخراج وجب ليحمي الإمام الأرض والإنزال وهما سواء

في هذا المعنى. (فلذلك لا يبتدأ) وضع الخراج (على المسلم) لما فيه من معنى الذل والعقوبة، (ويجوز بقاؤه على المسلم) بأن أسلم الكافر أو اشترى أرض الخراج مسلم؛ لأن المؤنة فيه أصل والعقوبة باعتبار الوصف وهو الإعراض عن الجهاد بسبب الاشتغال بالزراعة. والمسلم ليس من أهل العقوبة ابتداء ولكن من أهلها بقاء كما في الحدود، فلذلك لم يجب الخراج على المسلم ابتداءً ولم يبطل بقاء، (فلكونه مترددًا بينهما لم يبتدأ) على المسلم (بالشك ولم يبطل أيضا بالشك) بقاء لما ذكرنا أن الإسلام لا ينافي صفة العقوبة بقاء بخلاف العشر إذا اشترى الكافر أرضًا عشرية لا يبقى عليه؛ لأن الكفر ينافي القربة ابتداء وبقاء من كل وجه أي لا يجامعه القربة بوجه من الوجوه، وهو الجواب عن قول محمد- رحمه الله. (وقال أبو يوسف: يجب تضعيفه)؛ لأن في العشر معنى القربة فلم

يمكن إبقاؤه على الكافر فأحتجنا إلى التغيير، فالتضعيف أولى؛ لأن الشرع ورد به والتغيير ثبت بالضرورة وهو في التضعيف أقل من جعله خراجًا؛ لأن في الخراج تغيير الأصل والوصف، وفي التضعيف تغيير الوصف دون الأصل، فلذلك كان التضعيف أولى من الخراج، ولكنا نقول: إن تضعيف العشر على الكافر ثبت بخلاف القياس بإجماع الصحابة- رضون الله عليهم- وهو أن عمر- رضي الله عنه- وضع على نصارى بني تغلب وهم كانوا ذوي شوكة، وقيل: إنهم كانوا أربعين ألفا وكانوا قريبا من الروم، فقالوا: نحن نستنكف الجزية وفيها الدنية فتعطي ضعف ما يعطي المسلمون، فصالحهم عمر- رضي الله عنه- على ذلك لمصلحة رآها وسائر الكفار لا يساويهم؛ لأن الجزية تؤخذ من سائر الكفار دونهم بالإجماع، فلذلك لم يجز القول بتضعيف العشر على الكافر من غير بني تغلب إذا اشترى أرضًا عشرية، وهذا جواب عن قول أبي يوسف- رحمه الله.

(وعن محمد- رحمه الله- روايتان في صرف العشر الباقي) أي الباقي على الكافر بعد شرائه الأرض العشرية، وإنما قال: "الباقي" لأنه لا يبتدأ به على الكافر فيكون عليه بقاء لا ابتداءً وهو قول محمد- رحمه الله- وقوله: "روايتان" أي في مصرف هذا العشر إحداهما يصرف إلى المقاتلة كالخراج لاعتبار معنى المؤنة الخالصة، وفي الأخرى يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأنه لما بقي باعتبار معنى المؤنة يبقى على ما كان مصروفًا إلى من كان مصروفًا إليه قبل هذا كالخراج في حق المسلم. (فلا يصار إليه مع إمكان الأصل) أي إلى تضعيف العشر وهو خلف عن الخراج مع إمكان الأصل وهو الخراج؛ إذ المصير إلى الخلف عند العجز عن الأصل وهو موجود في نصارى بني تغلب غير موجود في غيرهم فلذلك انقلب خراجًا. (وأما الحق القائم بنفسه فخمس الغنائم) ومعنى القيام بنفسه فيه هو

أنه لم يوضع له سبب مقصود في وجوبه، والغنائم وان أصيبت بسبب الجهاد لكن الجهاد غير مشروع قصدًا لإصابة الغنائم، بل شرعيته مقصودًا لإعلاء كلمة الله تعالى وتثبت الغنيمة في ضمن إعلاء كلمة الله تعالى، فكانت هي خالصة لله تعالى بلا سبب في الحقيقة، وإليه وقعت الاشارة في قوله تعالى: (قل الأنفال لله)، فلذلك كانت هي حقًا قائمًا بنفسه بخلاف الصلاة والزكاة وغيرهما من المشروعات، فان لها أسبابًا موضوعة قصدًا. ثم الانفال كلها وإن كانت خالصة لله تعالى أعطى الله تعالى أربعة الأخماس للغانمين منة منه وفضلًا، واستبقى الخمس لنفسه بين من ذكر في القرآن فتولى السلطان اخذه وقسمته. (فلم يكن حقا لزمنا أداؤه له) أي فلم يكن الخمس.

والدليل على أنه لا يجب على العبد أداؤه طاعة (جواز صرفه إلى الغانمين الذين استحقوا أربعة الأخماس) عند حاجتهم، ويجوز وضع خمس المعدن في الواجد مع أنه استحق أربعة الأخماس (بخلاف الزكوات والصدقات فإنها لا ترد إلى ملاكها بعد الأخد منهم) وإن كانوا محتاجين. ) لأنه على ما قلنا من التحقيق لم يصر من الأوساخ) يعني أن الخمس لما لم يجب على العبد أداؤه طاعة لم يصر من الأوساخ. ألا ترى أن الزكاة لما وجبت على العبد صارت من الأوساخ، ونعني بالأوساخ سرايةَ الذنوب إليها كسرايتها إلى الماء الذي استعمل في البدن على وجه القربة لم يحل شربه، فكذلك مال الزكاة لم يحل لبني هاشم لهذا المعنى لفضيلتهم، أما الخمس لما لم يكن بهذه المثابة لم يكن وسخًا فحل لبني هاشم. (فكانت أولى بالكرامة). يعني أن سبب استحقاق الخمس عندنا النصرة لا القرابة، وعبادة كالمطيع يستحق الكرامة بوعد الله تعالى فكان استحقاق الخمس بالنصرة أولى من استحقاقه بالقرابة، والمراد بالنصرة هنا

اجتماعهم مع رسول الله عليه السلام حين هجره الناس ودخولهم معه في الشعب، وإلى هذا أشار النبي عليه السلام بقوله: "لن تزالوا معي وشبك بين أصابعه". ولذلك يصرف إلى نسائهم ورجالهم لوجود هذه النصرة منهم جميعًا. (ولأنها) أي ولأن النصرةَ (تخالف جنس القرابة فلم تصلح وصفًا لها) كما قلنا في باب الترجيح: إذا ماتت المرأة وتركت ابني عم أحدهما زوجها لا يترجح الزوج بالزوجية على الآخر في التعصيب؛ لأن الزوجية تخالف قرابة العمومة فلا تصلح وصفًا مرجحًا بخلاف ابن الأخ لأب وأم فإنه أحق بالتعصيب من ابن الأخ لأب؛ فإن الإخوة لأم من جنس الإخوة لأب من حيث الأخوة وإن لم توجب العصوبة، فلذلك صلحت مرجحة للأخوة في التعصيب، ولأن الزوجية علة الإرث بانفرادها فلا تصلح مرجحةً لما قلنا: إن ما يصلح علةً لا يصلح مرجحًا. (في أن الغنيمة تملك عند تمام الجهاد حكمًا)، وهذا بناء على ما ذكرنا أن الغنيمة كلها لله تعالى بناء على أن الجهاد حق الله تعالى خالصًا، وهي

أصيبت بالجهاد فكانت له، فتملك عند تمام الجهاد، والجهاد إنما يتم حكمًا بالإحراز بدار الإسلام؛ لأنه حينئذ يتم قهر الأعداء؛ لأن المسلمين ماداموا في دارر الحرب يحتمل غلبة الكفار إياهم فلم يتم الجهاد حكمًا، فلو كانت الغنيمة كسائر حقوقنا لتم بأخذنا؛ لأنه استيلاء على ماهو المباح كالصيد وغيره، وحيث لم تصر لنا بالأخذ قصدًا علم أنها ليست لنا كسائر الحقوق. (ويبتنى عليه مسائل لا تحصى) فمنها: أن المدد إذا لحق الغزاة في دار الحرب شاركوهم لما أن الغزاة لم يملكوها. ومنها: أن قسمة الإمام الغنيمة في دار الحرب لا تجوز. ومنها: أن من مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة، ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار السلام فنصيبه لورثته. (وأما العقوبات الكاملة فمثل الحدود) فإنها شرعت زواجر عن

ارتكاب أسبابها المحظورة حقًا لله تعالى خالصًا نحو جد الشرب والزنا والسرقة. (وأما القاصرة فنسميها أجزية) مثل حرمان الميراث بالقتل. وتسميتها أجزية؛ لأنها تثبت جزاء لفعله إلا أن الجزاء في وضعه لا يدل على كونه عقوبة؛ لأنه أعم من العقوبة، فالعقوبة ام لما يعقب الجناية من الجزاء فكان سببها الجناية فقط، والجزاء يتناولها وغيرها فلأجل قصوره سميناه أجزية، (ولذلك لا يثبت في حق الصبي) والمجنون عندنا أصلا؛ لأنها عقوبة. وأهلية العقوبة لا تسبق الخطاب (بخلاف الخاطئ) إذا كان عاقلًا بالغًا حيث يثبت في حقه الحرمان؛ لأنه مخاطب في نفسه ولكنه بسبب الخطأ عذر

مع نوع تقصير في التحرز؛ لأنه لم يثبت ولم يتأن فناسب أن يلزمة الجزاء القاصر بسبب الجناية القاصرة، فالجزاء باعتبار ترك التاني، والقصور باعتبار عدم قصده فلم يجب القصاص؛ لأن ذلك جزاء كال فيقضي جناية كاملة، (والصبي لا يوصف بالتقصير الكامل والناقص) فلا يثبت في حقه ما يكون عقوبة قاصرة أو كاملة. (لأنه جزاء المباشرة) أي لأن حرمان الميراث إنما يثبت بطريق الجزاء لمباشرة القتل، والموجود من حافر البئر وأمثاله تسيب لا مباشرة. (والحقوق الدائرة) أي الدائرة بين العبادة والعقوبة وهي الكفارات؛ لأنها ما وجبت إلا جزاء على أسباب توجد من العباد، فسميت كفارة باعتبار أنها ستارة للذنب فمن هذا الوجه عقوبة، فإن العقوبة هي التي تعقب الذنب جزاء على ارتكاب المحظور.

(فيها معنى العبادة في الأداء)؛ لأن الصوم والإعتاق والإطعام عبادات. ولم تجب مبتدأة حيث لم تجب على الإنسان من غير سابقة اليمين مع الحنث في كفارة اليمين وكذلك في غيرها. (وجهة العبادة فيها غالبة)؛ لأن كون سببها مترددًا بين كونه محظورًا ومباحًا وهو اليمين مع الحنث إذ القتل أوجب كون حكمه مترددًا بين كونه عبادة وعقوبة، فلما استوى كل واحد من السبب والحكم في التردد أوجب أداء موجبها بالعبادة المحضة من الصوم وغيره رجحان جانب العبادة. وكذلك وجوبها على الخاطئ والمكره دليل على كونها عبادة، وكذلك وجوبها بطريق الفتوى مفوضًا أداؤها إلى من وجبت عليه من غير أن تقام عليه كرها ومن غير أن يفوض استيفاؤها إلى الأئمة على كونها عبادة؛ لما أن الشرع ما فوض إقامة شيء من العقوبات إلى المرء على نفسه. وكذلك وجوبها على حانث لم يأثم في حنثها دليل على رجحان جانب العبادة، وذلك مثل من حلف لا يكلم هذا الكافر فأسلم ذلك الكافر فكلمه تجب الكفارة من غير أن توجد منه جناية؛ لأن الواجب عليه في هذه الحالة أن يكلمه؛ إذ هجران المؤمن غير مشرروع، وكذلك عدم التدخل في الكفارة دليل على رجحان جانب العبادة.

وقوله: (عندنا) احتراز عن قول الشافعي، فإن جانب العبادة عنده لم يترجح حتى أوجب في القتل العمد واليمين الغموس، فلما ترجح جانب العبادة فيهما عندنا (راعينا فيها صفة الفعل) من كون ذلك الفعل له مباحًا من وجه ومحظورًا من وجه (فلم نوجب على القاتل عمدًا وصاحب الغموس)؛ لأنهما لا يصلحان سببًا لهذا الجزاء؛ لأن فعلهما كبيرة محضة. (وقلنا: لا يجب على المسبب الذي قلنا) أي من الحافز وغيره؛ لأن كفارة القتل واجبة على القاتل الذي حصل قتله منه مع وصف الإباحة، وهؤلاء مسببون لا قاتلون (والشافعي- رحمه الله- جعلها ضمان المتلف) في الأصل (وذلك غلط)؛ لأن ضمان المتلف في الأصل إنما يجب بطريق الجبران، وذلك لا يتحقق فيما يخلص لله تعالى؛ لأن الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه الخسران حتى تقع الحاجة إلى الجبران (بخلاف الدية)، فإنها بدل

عن المحل وهي حق العبد وضمان المتلف بالإجماع، فلذلك وجبت على المسبب والصبي. (وكذلك الكفارات كلها) بعني جهة العبادة راجحة في جميع الكفارات أي ما ذكرنا من التقرير في كفارة اليمين والقتل متحقق في غيرها من الكفارات، ولهذا لا تجب على الكافر. هذا لإيضاح أن في الكفارة جهة العبادة راجحة، لأن الكافر ليس بأهل لشيء فيه معنى العبادة. وقوله: (ما خلا كفارة الفطر) متصل بقوله: "وجهة العبادة فيها غالبة" فإن في كفارة الفطر جهة العقوبة غالبة؛ لأن سببها في الحقيقة لا يتردد بين الحظر والإباحة بل جناية محضة في حق الله تعالى وهو الإفطار الكامل في جنايته، لكن الصوم لما لم يكن مسلما بتمامه إلى الله تعالى كان فيه ضرب من القصور، فبالنظر إلى هذا كانت الجناية قاصرة واحتمل الفطر شبهة الإباحة، فقلنا: تجب عقوبة، وتؤدى عبارة اعتبارًا لتلك الجهة. وقوله: (حتى تسقط بالشبهة) متصل بقوله: "فإنها عقوبة" (وقلنا: تسقط باعتراض الحيض والمرض) يعني أن المرأة إذا أصبحت صائمة في رمضان ثم أكلت أو شربت عمدًا فوجبت عليها الكفارة، ثم حاضت في ذلك اليوم تسقط عنها ما وجب عليها من الكفارة، وكذلك المرض في حق الرجل والمرأة.

(وتسقط بالسفر الحادث إذا اعترض الفطر على السفر) وإنما فيد باعتراض الفطر على السفر احترازا عما لو اعترض الفطر على المقيم ثم سافر في ذلك اليوم، حيث لا تسقط عنه الكفارة بخلاف الحيض والمرض على ما يجئ في العوارض إن شاء الله تعالى. (وتسقط بشبهة القضاء) أي قضاء القاضي يعني إن رأى هلال رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد القاضي شهادته فإنه يجب عليه صوم ذلك اليوم بالإجماع؛ لأنه متيقن في رؤية هلال رمضان، ومع ذلك لو أفطر متعمدًا لا تجب عليه الكفارة لشبهة قضاء القاضي بأن هذا اليوم من شعبان. وقوله: (وظاهر السنة) أراد به قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون".

وكذلك قال أبو حنيفة- رحمه الله-: إذا نوى الصوم من النهار ثم أفطر لا كفارة عليه. لظاهر قوله عليه السلام: "لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل". (لشبهة في الرؤية) يعني يحتمل أنه أخطأ في رؤية الهلال صار ذلك الاحتمال شبهة في حق وجوب الصوم عليه قطعًا، فلم تجب الكفارة بالأكل في ذلك اليوم متعمدًا لذلك. (فإنه ألحقها بسائر الكفارات) أي كما أن سائر الكفارات وهي كفارة اليمين والظهار والقتل الخطأ لا تسقط بالشبهة اعتبارًا لرجحان جانب العبادة، فكذلك كفارة الفطر، إلا أنا أثبتنا ما قلنا أي أن جهة العقوبة راجحة في كفارة الفطر (استدلالًا بقول النبي عليه السلام: "من أفطر في رمضان متعمدًا فعليه ما على المظاهر").

واستدلالًا أيضًا بخير الأعرابي حيث قال: هلكت وأهلكت، فلما ظهر رجحان معنى العقوبة فيها من هذا الوجه جعلنا وجوبها بطريق العقوبة، فقلنا: إنها تندرئ بالشبهات حتى لا تجب على من أفطر بعدما أبصر هلال رمضان وحده للشبهة الثابتة بظاهر قوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون" أو بصورة قضاء القاضي بكون اليوم من شعبان. كذا قاله الإمام شمس الأئمة- رحمه الله. (ولإجماعهم أنها لا تجب على الخاطئ) ولو كانت بمنزلة سائر الكفارات لوجبت عليه كما وجبت على الخاطئ في القتل وعلى الحانث خطأ في اليمين. (لكنه لما لم يكن حقا مسلمًا تامًا)؛ لأن تمام الصوم بالليل، فتكون الجناية قاصرة فأوجبنا جزاءها بالوصفين عقوبة وجوبًا نظرًا إلى سببه، وعبادة أداء حتى تؤدي بالعبادات المحضة ويفتى بها ولا تستوفى جبرًا.

(وقد وجدنا ما يجب عقوبة يستوفى عبادة كالحدود؛ لأن إقامة السلطان عبادة) على ما روي عن النبي عليه السلام: "عدل ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة" والمرء لا يئاب إلا بما هو عبادة.

وكذلك إقامة الحدود بعد التوبة، فإن إقامتها للطهرة فكان وجوبها بطريق العقوبة واستيفاؤها بطريق العبادة. (ولهذا قلنا بتداخل الكفارات في الفطر). قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: قلنا بتداخل الكفارات والاكتفاء بكفارة واحدة إذا أفطر في أيام رمضان؛ لأن التداخل من باب الإسقاط بطريق الشبهة، وأثبتنا معنى العبادة في الاستيفاء؛ لأنها سمت كفارة. (وحقوق العباد أكثر من أن تحصى).

وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: وأما أن يكون محض حق العباد فأكثر من أن يحصى نحو ضمان الدية، وبدل المتلف، والمغصوب، وما أشبه ذلك. (والذي يغلب فيه حق العبد القصاص). ألا ترى أنه يجري فيه الإرث والعفو، ولو باشر الإمام الذي ليس فوقه إمام القتل العمد يقتص منه بخلاف حد القذف. فعلم أن حق العبد غالب في الأول دون الثاني.

وأما حق العبد في حد القذف فمن حيث إن سببه جناية على المقذوف من هتك عرضه. وأما حق الله تعالى في القصاص فمن حيث أنه يسقط بالشبهات كما في الحدود، ولأن القصاص في الأصل جزاء لا ضمان المحل.

ألا ترى أن ألف رجل إذا اجتمعوا على قتل رجل واحد فقتلوه يقتلون جميعًا، وما وضع بمقابلة الفعل جزاء كان من حقوق الله تعالى، فلو كان ضمان المحل لما قتلوا جميعًا كما في الدية؛ حيث لا تزاد الدية على ألف دينار إذا كان القتل خطأ وإن كان القاتلون جماعة. (وأما حد قطاع الطريق فخالص عندنا) أي خالص حق الله تعالى؛ لأنه لا يجري فيه العفو والإرث ويسقط بالشبهات، ولأن حق العبد مقيد بالمثل لا محالة والقصاص منه.

فأما حد القذف وحد قطع الطريق فليسا بمقيدين بالمثل، فإن جلد ثمانين ورد الشهادة لم يعقل ملًا للقذف، وقطع اليد والرجل مثلًا لأخذ عشرة دراهم. وهذه الحقوق كلها تنقسم إلى أصل وخلف. أما الإيمان فقد ذكر في الكتاب أصله وخلفه. أما الصلاة فأصلها أن يصلى كما هو المعروف من أركانها وشروطها، وخلفها عند العجز عن الأصل فدية طعام مسكين إذا أوصى، وكذلك في الصوم وفي الحج إذا أوصى أن يحج عنه فيكون ذلك خلفًا عن أدائه، وكذلك في حقوق العباد قيمة المتلفات خلف عن المتلفات، ثم صارت تبعية أهل الدار خلفا عن تبعية الأبوين. فإن قيل: لم يعهد في صورة من الصور في الشرعيات أن يكون للخلف خلف فكيف جاز هاهنا؟ قلنا: إن ذلك خلف عن أداء الصغير، لكن البعض مرتب على البعض يعني: إن الدار خلف عن أداء الصغير، وذلك كالوارث أنه خلف المورث، والابن مقدم على ابن الابن، فإذا لم يكن الابن يكون ابن الابن خلفًا عن الميت لا عن الابن، لكن شرط خلفية ابن الابن عن الميت عدم الابن الصلبي، فكذا هاهنا شرط خلفية أهل الدار عن أداء الصغير عدم الأبوين، ومثل هذا لا

يكون خلف الخلف (لكن هذا الخلف عندنا مطلق) لقوله عليه السلام: "التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" وهو خلف مطلق في قول علمائنا. (وعند الشافعي هو خلف ضروري)، ولهذا لم يعتبر قبل دخول الوقت عنده في حق أداء الفريضة، ولم يجوز أداء الفرضين بتيمم واحد؛ لأنه خلف ضرورة فيشترط فيه تحقق الضرورة بالحاجة إلى إسقا الفرض عن ذمته وباعتبار كل فريضة تتجدد ضرورة أخرى. فالحاصل أن عنده هو ضرورة ابتداء وبقاء وعندنا ضرورى ابتداء لا بقاء. (أو وقع في سهم المسلمين)، وصورة المسألة فيما إذا قسمت الغنائم في

دار الحرب فوقع الصبي في سهم رجل من الغزاة يحكم بإسلامه حتى لو مات يصلى عليه، وإنما قيدنا بالقسمة في دار الحرب؛ لأن الصبي لو أخرج إلى دار الإسلام بدون القسمة وليس معه أحد أبوية الكافرين كان مسلمًا أيضًا لا باعتبار تبعية السابي، بل باعتبار تبعية الدار. (وقال في إناءين نجس وطاهر في السفر: إن التحري فيه جايز)، وقيد بالإناءين؛ لأن الماء لو كان في ثلاثة أوان والغلبة للطاهر بأن كان الإناءان طاهرين والثالث نجسًا فإنه يتحرى فيها بالاتفاق؛ لأن الحكم للغالب وباعتبار الغالب لزمه استعمال الماء الطاهر، وإصابته بتحريه مأمول. وإن كانت الغلبة للأواني النجسةأو كانا سواء فليس له أن يتحرى عندنا، وعلى قول الشافعي: يتحرى ويتوضأبما يقع بتحريه أنه طاهر، فهذا ومسألة

المساليخ سواء. كذا في "المبسوط" ثم مذهبه في المساليخ أنه يتحرى فيها للأكل في حالة الاختيار وإن كانت الغلبة للحرام، وعندنا لا يتحرى في المساليخ في حالة الاختيار إذا كانت الغلبة للحرام أو كان الحرام والحلال متساويين؛ لأن الحرام يغلب عند المساواة شرعًا هذا في الإناءين. أما إذا وقع الأمر في الثياب، وفي بعضها نجاسة كثيرة وليس معه ثوب غيرها ولا ما يغسلها به ولا يعرف الطاهر من النجس، فإنه يتحرى ويصلي في الذي يقع تحريه أنه طاهر سواء كانت الغلبة للثياب الطاهرة أو للثياب النجسة أو كانا متساويين؛ لأنه لا يجد بدآ من ستر العورة في الصلاة فجوزنا له التحري للضرورى بخلاف الأواني، وقد ذكرنا أن الغلبة إذا كانت للأواني النجسة أو كانا سواء ليس له أن يتحرى عندنا، والفرق بينهما أن الضرورة لا

تتحقق في الأواني؛ لأن التيمم طهور له عند عجزه عن استعمال الماء الطاهر، فلا يضطر إلى استعمال التحري للوضوء عند غلبة النجاسة؛ لأنه أمكنه إقامة الفرض بالبدل، وفي مسألة الثيات الضرورة تتحقق؛ لأنه ليس للستر بدل يتوصل به إلى إقامة الفرض، حتى إن في مسألة الأواني لما كان تتحقق الضرورة في الشرب عند العطش وليس معه الماء الطاهر يجوز له أن يتحرى وإصابة الطاهر بتحريه مأمول أولى. (لكن الخلافة بين الماء والتراب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- وعند محمد وزفر- رحمهما الله- بين التيمم والوضوء)

والمتيمم صاحب الخلف فتكون صلاة المقتدي أقوى إذا كان متوضئًا فلا يجوز بناؤه عليه؛ إذ الاقتداء بناء وبناء القوي على الضعيف لا يجوز. وعندهما هما سواء؛ إذ الخلافة عندهما بين الماء والتراب فكانت الطهارة بالتيمم مثل الطهارة بالماء عند وجود رطها في تحقيق شرط جواز الصلاة فيجوز اقتداء أحدهما بالآخر. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: ثم الخلافة عند محمد- رحمه الله- بين التيمم والوضوء بطريق الضرورة، حتى لو صلى على الجنازة بالتيمم ثم جيء جنازة أخى يلزمه تيمم اخر، وإن لم يجد بين الجنازتين من الوقت ما يمكنه أن يتوضأ فيه. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله-: التراب خلف عن الماء فيجوز له أن يصلي على الجنائز ما لم يدرك من الوقت مقدار ما يمكنه أن يتوضأ فيه على وجه لا تفوته الصلاة على جنازة.

(وإنما غرضنا الإشارة إلى الأصل) وهو أن الخلف يثبت بما يثبت به الأصل، ونعني بذكر الأصل هاهنا هذا وهو أن الأصل يثبت بالنص لا بالرأي فكذلك (الخلف لا يثبت إلا بالنص أو دلالته). وقوله: "وذلك" إشارة إلى الأصل الذي ذكرنا، ونظير ذلك أن يقول: فبالعرق والبزاق والدمع لما لم يجب الأصل بالنص وهو الوضوء لم يجب بهذه الأشياء خلفه وهو التيمم، وكذلك العدة لما لم تجب بالحيض بالنص في الطلاق قبل الدخول لم يجب خلفها وهو العدة بالأشهر. (وشرطه) أي وشرط الخلافة على تأويل وشرط حكم الخلافة يعني أن الخلف يجب لما يجب به الأصل، وشرط كونه خلفًا أن ينعقد السبب موجبًا للأصل لمصادفته محله ثم بالعجز عنه يتحول الحكم إلى الخلف، وإذا لم ينعقد السبب موجبًا للأصل باعتبار أنه لم يصادف محله لا يكون موجبًا للخلف، حتى إن الخارج من البدن إذا لم يكن موجبًا للوضوء كالدمع والبزاق لا يكون موجبًا للتيمم على ما ذكرنا. واليمين الصادقة إي التي بر الحالف فيها لما لم تكن موجبة للتكفير بالمال لم تكن موجبة لما هو خلف عنه، وهو التكفير بالصوم.

فإن قلت: يشكل على هذا مسألة قضاء الصوم للحائض، فإن قضاء الصوم خلف عن أدائه الذي هو الأصل، ثم إن المرأة إذا حات في شهر رمضان تقضي الصوم خارج رمضان مع أن أداء الصوم الذي هو الأصل لم يكن مشروعًا في حق الحائض أصلًا لما أن الطهارة عن الحيض شرط صحة الصوم ومع ذلك يجب عليها قضاؤه مع عدم مشروعية الأصل عليها. قلت: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن قضاء الصوم على الحائض ثبت بالنص، وهو قول عائشة رضي الله عنها: "كانت إحدانا على عهد رسول الله- صلي الله عليه وسلم- إذا طهرت من حيضها تقضي الصيام ولا تقضي الصلوات". والحكم الذي ثبت بالنص لا مجال للقياس فيه. والثاني: هو أن اشتراط الطهارة للحائض من الحيض في حق صحة

الصوم ثبت بالنص بخلاف القياس. ألا ترى أنه لا يشترط لصحته الطهارة من الحدث والجنابة بخلاف اشتراط الطهارة في حق الصلاة فإن ذلك موافق للقياس، ولما كان كذلك أظهرنا أثر اشتراط الطهارة في حق الصلاة في الأداء والقضاء وأظهرنا أثر اشتراط الطهارة في الصوم في حق الأداء لا في حق القضاء تعليلًا لعمل ذلك الاشتراط الذي ثبت بخلاف القياس كما قلنا مثل ذلك في عمل شرط الخيار في البيع. فحصل من ذلك أن اشتراط من الحيض للصوم لما ثبت بخلاف القياس جعل أن أصل وجوب الصوم إدراك الحائض في وقته فوجب القضاء بمثلها بناء عليها تقديرًا بخلاف الصلاة، ويجيء بيان هذا بتمامه في العوارض في مسألة الحيض والنفاس إن شاء الله تعالى. (ولهذا قال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- في المشهود بقتله إذا جاء حيًا) إلى آخره. صورته ما ذكرة في باب رجوع الشهود من ديات " المبسوط": وإذا شهد شاهدان على رجل بقتل عمد وقتل بشهادتهما ثم رجعا فعليهما الدية في مالهما في قول علمائنا. وقال الشافعي: عليهما القصاص؛ لأنهما باشرا قتلًا بغير حق؛

لأنهما ألجأ القاضي إلى القضاء بالقتل، فإنه يخاف العقوبة إن امتنع من ذلك، والملجئ مباشر حكمًا فصار كالمكره. قلنا: إن الشاهد غير مباشر لا حقيقة ولاص حكمًا ولا معنى؛ لما ذكره من الإلجاء؛ لأن القاضي إنما يخاف العقوبة في الآخرة ولا يصير ملجئًا، فكل أحد يقيم الطاعة خوفًا من العقوبة على تكرها في الآخرة، ولا يصير به مكرها، ثم إن وجد هذا الإلجاء في حق القاضي فبمجرد القضاء ما صار المقضي عليه مقتولًا، وإنما صار مقتولًا باستيفاء الولي وهو غير ملجئ إلى ذلك، بل هو مندوب إلى العفو شرعًا. فإذا لم يجب القود عليهما كان عليهما الدية إن رجعا، وعلى أحدهما نصف الدية إن رجع؛ لأن كل واحد منهما مسبب لإتلاف نصف النفس، فإن رجع الولي معهما أو جاء المشهود بقتله حيًا فلولي المقتول الخيار بين أن يضمن الشاهدين الدية وبين أن يضمن القاتل؛ لأن القاتل متلف للنفس حقيقة والشهود متلفون لها حكمًا. والإتلاف الحكمي في حكم الضمان كالإتلاف الحقيقي فكان له أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الولي القاتل الدية لم يرجع على الشاهدين بشيء؛

لأنه ضمن بفعل باشره بنفسه باختياره، وإن ضمن الشاهدين لم يرجعا على الولي أيضا في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه. وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله-: يثبت لهما حق الرجوع على الولي بما ضمنا؛ لأنهما ضمنا بشهادتهما وقد كانا عاملين فيه للولي فيرجعان عليه بما يلحقهما من الضمان، كما لو شهدا بالقتل الخطأ أو بالمال فقضي القاضي واستوفى المشهود له رجعوا جميعًا وضمن المشهود عليه الشاهدين كان لهما أن يرجعا، ولا يقال هناك قد ملكًا المقبوض بالضمان وهنا لم يملكا؛ لأن القصاص لا يملك بالضمان والمشهود به هو القصاص؛ لأنا نقول: إنهما إن لم يملكا فقد قاما مقام من ضمنهما في الرجوع على القاتل بمنزلة من غصب مدبرًا فغصبه آخر منه ثم ضمن المالك الغاصب الأول فإنه يرجع بالضمان على الثاني وإن لم يملك المدبر بالضمان ولكنه قام مقام ضمنه. وهذا لأن القصاص مما يملك في الجملة وله بدل متقوم محتمل للتملك فيكون السبب معتبرًا على أن يعمل في بدله عند تعذر إعماله في الأصل- كاليمين على مس السماء تنعقد في إيجاب الكفارة التي هي خلف عن البر لما كان الأصل وهو البر متوهم الوجود في الجملة.

وعلى هذا غاصب المدبر فإن المدبر مال متقوم مملوك في الجملة فينعقد السبب للغاضب الأول فيه على أن يعمل في بدله حتى رجع بالضمان على الغاضب الثاني. وكذلك شهود الكتابة إذا رجعوا وضمنوا للولي القيمة كان لهم أن يرجعوا على الكاتب ببدل الكتابة ولم يملكوا رقبة المكاتب مملوكًا، ولكن لما كان المكاتب مملوكًا انعقد السبب في حقهم على ان يكون عاملًا في بدله وهو بدل الكتابة فيملكون بدل الكتابة بذلك وإن لم يملكوا رقبة المكاتب فهذا مثله. وأبو حنيفة- رضي الله عنه- يقول: الشهود ضمنوا لإتلافهم المشهود عليه حكما والمتلف لا يرجع بما ضمن على غيره كالولي؛ وهذا لأنهم لو لم يكونوا متلفين ما كانوا ضامنين مع المباشر للإتلاف؛ لأن مجرد السبب يسقط اعتباره في مقابلة المباشرة. ألا ترى أنه لو دفع انسانًا في بئر حفرها غيره في الطريق كان الضمان على الدافع دون الحافر، وهنا لما ضمن الشهود عررفنا أنهم جناة متلفون للنفس حكمًا وإن كان تمام ذلك الإتلاف عند استيفاء الولي، فأن استيفاء الولي بمنزلة شرط مقرر لجنايتهما ومن ضمن بجانيته على النفس لا يرجع على غيره.

وقولهما بأنه ينعقد السبب موجبا للملك له على ان يعمل في بدله قلنا: هذا أن لو كان الأصل متوهم الملك بالضمان وليس في القصاص توهم الملك بالضمان بحال فلا ينعقد السبب باعتبار الحف كيمين الغموس، ثم لو كان القصاص ملكًا لهما لم يضمنه المتلف عليهما كما إذا شهدا على الولي بالعفو أو قتل من عليه القصاص إنسان آخر فليس لمن له القصاص الضمان. وانعقاد السبب لا يكون أقو من ثبوت الملك حقيقة، وإذا كان المتلف للقصاص لا يضمنه للمالك فكيف يضمنه لمن انعقد له سبب القصاص؟ وبه فارق مسألة غصب المدبر والكتابة، فإن هنك لو كان مالكا حقيقة كان يضمنه المتلف عليه، فكذلك إذا جعل كالمالك حكمًا باعتبار انعقاد السبب كان له أن يرجع بالبدل لذلك. وقوله: (إن ملك الأصل المتلف وهو الدم غير مشروع أصلًا)؛ لأن الدم لا يملك بالضمان بحال وفي القصاص الذي قالا: الولي لا يملك نفس من عليه القصاص، وإنما يستوفيه بطريق الإباحة. ولو كان الدم بمحل أن يملك لم يكن إيجاب الضمان للشهود على الولي

أيضًا؛ لأن إتلاف ملك الدم لا يوجب الضمان سواء أتلفه حقيقة أو حكما على ما ذكرنا من قتل إنسان من عليه القصاص وشهادة العفو ثم الرجوع. (يحكي الأصل) أي يشابهه. (لو صار ملكا) أي لو صار الدم ملكا أي لو ثبت ملك القصاص فهو غير مضمون بنفسه على ما ذكرنا. (وأما القسم الثاني): وهو ما يتعلق به الأحكام المشروعة.

(ومنه قول زهير) أوله: ومن هاب أسباب المنايا ... ينلنه ولو نال ........ البيت

وذكر في الصحاح بيت الأعشى يهدد رجلا بالهجو بقوله: فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ولقيت أسباب السماء بسلم ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أني عنكم غير مفحم الاستدراج: استفعال من الدرجة وهو إدناء الشيء من الشيء بطريق التدريج، يقال: هره يهره إذا كرهه.

(والمريض عليلاً)؛ لأن بحلول العلة بالشخص يغير حاله. (كالجرح بالمجروح) حيث يتغير حال المجروح من وصف الصحة إلى وصف كونه مجروحا. وقيل: العلة حادث يظهر أثره فيما حل به لا عن اختيار منه، ولهذا سمي الجرح علة ولا يسمى الجارح علة، لأنه يفعل عن اختيار، ولأنه غير حال بالمجروح، ولهذا لم يجز وصف القديم جل ذكره بالعلة؛ لأن الله تعالى أنشأ العالم عن اختيار ولا يوصف بحلول. (عما يضاف إليه الحكم ابتداء) وقوله: ((ابتداء)) احتراز عن الدليل فإنه يبين أمرا قد كان. لا أن يثبت الحكم ابتداء كالدخان فإنه دليل على وجود النار لا علة. وقيل: هو احتراز عن التعليقات، فإنها تثبت الحكم بطريق الانقلاب لا بطريق الإبتداء، فإن عند وجود الشرط في قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق انقلاب ما ليس بعلة علة فيثبت الحكم عند ذلك لا على وجه الابتداء بخلاف

قوله: أنت طالق. وقال الإمام شمس الائمة- رحمه الله: وفي أحكام الشرع العلة معنى في النصوص وهو مغير حكم الحال بحلوله بالمحل يوقف عليه بالاستنباط، فإن قوله عليه السلام: ((الحنطة بالحنطة مثل بمثل)). غير حال بالحنطة. ولكن في الحنطة وصف هو حال بها وهو كونه مكيلا مؤثرا فى المماثلة ويتغير حكم الحال بحلوله، فيكون علة لحكم الربا فيه حتى إنه لما لم يحل القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لا يتغير حكم العقد فيه، بل يبقى بعد هذا النص على ما كان قبله. (والقتل للقصاص وما أشبه ذلك) كالتطليق للطلاق، والإعتاق للعتق.

وقوله: (وكذلك العقاب يضاف إلى الكفر من هذا الوجه). قيل: فى هذا الكلام نظر؛ لما أن في هذا ميلا إلى مذهب الأشعرية. وقال الشيخ الإمام أبو منصور- رحمه الله- الحكمة تقتضي تعذيب الكافر على كفره وترك التعذيب ليس بحكمة. (فأما أن تجعل لغوا كما قالت الجبرية) إن العبد مجبور في الأفعال لا اختيار له، والكل من الله بلا اختيار العباد وهو باطل؛ لأن العباد على قود كلامهم لا يستحقون شيئا لا الثواب ولا العقاب؛ لأنه لا فعل لهم. (أو موجبة بأنفسها كما قالت القدرية) أي المعتزلة هو أيضا باطل فإنهم يقولون: العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهم مستبدون في إيجاد

أفعالهم فيستحقون الثواب والعقاب باستبدادهم في أفعالهم فلا يرون فضل الله تعالى فى الثواب ولا خذلانه فى العقاب. (وكذلك حال العلل) أي علل الشرع في أحكام الدنيا. (على أن الشاهد بعلة الحكم إذا رجع) إلى آخره، وإنما عين هذه الصورة؛ لأن هذا صاحب العلة الشرعية الذي يجب عليه الضمان بخلاف الإتلاف، فإن صاحبه صاحب العلة الحسية، واستدل بهذه المسألة على أن صاحب العلة الشرعية بمنزلة صاحب العلة الحسية فى إيجاب الضمان. (اسم لما يتعلق به الوجود دون الوجوب) فإن قول القائل لامرأته: إن

دخلت الدار فأنت طالق يجعل دخول الدار شرطا حتى لا يقع الطلاق بهذا اللفظ إلا عند الدخول، ويصير الطلاق عند وجود الدخول مضافا إلى الدخول موجودا عنده لا واجبا به، بل الوقوع بقوله: أنت طالق عند الدخول. والمراد بالوجوب به الوقوع به، ومن حيث إنه لا أثر للدخول في الطلاق لا من حيث الوجوب به ولا من حيث الوصول إليه لم يكن الدخول علة، ومن حيث أنه مضاف إليه وجودا عنده كان الدخول شرطا فيه, ولهذا لا نوجب الضمان على شهود الشرط وإنما نوجب الضمان على شهود التعليق بعد وجود الشرط إذا رجعوا. (مثل الميل والمنارة) فالميل: علامة الطريق؛ لأنه معرف له، والمنارة

- بفتح الميم- هي التي يؤذن عليها سميت منارة لكونها علامة الجامع؛ لأنها معرفة له، ومنه سمي المميز بين الأرضين من المسناة منار الأرض. قال عليه السلام: ((لعن الله من غير منار الأرض)) أي العلامة التي يعرف بها التميز بين الأرضين فكان دون الشرط؛ لأن الشرط يضاف إليه الحكم وجودا. وأما العلامة فلا يضاف إليها الحكم لا وجوبا لها ولا وجودا عندها، والله أعلم.

باب تقسيم السبب

باب تقسيم السبب (إن وجوب الأحكام متعلق بأسبابها) أي بعللها. لأن السبب الحقيقي هو: ما يكون طريقا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود كما في العلامة على ما ذكر بعيد هذا, لكن الفرق بينهما إنما يقع بذلك الذي ذكر بعده بقوله: (لكنه تتخلل بينه وبين الحكم علة لا تضاف إلى السبب) كما فى دلالة السارق، فإن سرقة السارق علة لكون المال المدلول عليه مسروقا، وتلك العلة غير مضافة إلى الدال حتى لا يؤاخذ الدال لا بقطع اليد ولا بضمان المال، وليس للعلامة هذا الوصف، ولأن السبب قد

يكون له حكم العلل حتى يؤاخذ بضمان المال (كما في قود الدابة وسوقها) على مال إنسان فأتلفته، ولا يكون للعلامة حكم العلل أصلا. (لأنه جزاء المباشر) قيل: حد المباشرة أن يتصل فعل الإنسان بغيره ويحدث منه التلف كما لو جرحه أو ضربه فمات من ذلك، وحد التسبيب أن يتصل أثر فعله بغيره لا حقيقة فعله ويتلف بأثر فعله كما فى حفر البئر؛ لأن المتصل بالواقع أثر فعله وهو العمق الحاصل بحفره لا حقيقة فعله؛ لأن حقيقة فعله اتصلت بالمكان وهي الحفر. كذا قال الإمام بدر الدين الكردري- رحمه الله. (إلا أنه جعل السبب المؤكد بالعمد الكامل بمنزلة المباشرة) والسبب هو الشهادة الكاذبة تأكدت باستيفاء القصاص فكان سببا مؤكدا، والعمد الكامل هو تعيين الشهود المشهود عليه بالقتل بخلاف وضع الحجر وأمثاله، فإنه لم

يوجد فيه العمد الكامل حيث لم يعين واضع الحجر أحدا للقتل ليكون قاصدا لقتله بالتسبب، فلذلك لم يجب فيه القصاص وإن وجد فيه التسبيب أيضا. (لما سبق من قبل) أي في باب معرفة الأسباب بقوله: وقلنا لا تجب- أي الكفارة- على المسبب الذي قلنا؛ لأنها من الأجزية؛ (لأن المباشرة أضيفت إليه)؛ لأن تمكن المباشرة للقاتل من القتل إنما ثبت بشهادة الشهود، ولهذا صح أن يقول القاتل: باشرت القتل بشهادتهم، وكذلك صح للحاكم أن يقول: حكمت بشهادتهم، إلا أن حقيقة الإتلاف بمباشرة الولي القتل وذلك باختياره فكان سببا بمعنى العلة. (فبقى الأول) وهو شهادة الشهود الشهادة الكاذبة، والثاني وهو مباشرة الولي القتل.

(ولهذا لم يصلح لإيجاب ما هو جزاء المباشرة) وهو الحرمان من الميراث ووجوب الكفارة والقصاص، فإن هذه الأحكام الثلاثة إنما تثبت بالمباشرة لا غير. (لم يرجع على الدال بقيمة الولد) لما قلنا وهو قوله: لأنه صاحب سبب محض. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- لأن إخباره سبب للوصول إلى المقصود، ولكن تخلل بينه وبين المقصود وهو الاستيلاد ما هو علة فهو غير مضاف إلى السبب الأول. (بخلاف ما إذا زوجها على هذا الشرط) بأن يقول: زوجتكها على أنها حرة؛ (لأنه صار صاحب علة)؛ لأن ما لزم عليه لزم بالاستيلاد،

والاستيلاد حكم ذلك التزويج المقيد بالوصف؛ لأن شرط الحرية صار وصفا للتزويج فكان لازما كالتزويج فكان ما لزم عليه مضافا إلى ذلك التزويج المقيد بالوصف. (بخلاف المشتري إلى آخره يعني أنه المشتري) إذا استولدها ثم ظهر الاستحقاق فإنه يرجع بقيمة الأولاد؛ لأن بمباشرة عقد الضمان التزم صفة السلامة عن العيب ولا عيب فوق الاستحقاق. وأما بمباشرة عقد التبرع فلا التزام بسلامة المعقود عليه عن العيب. وقوله: (لأن البائع صار كفيلا) يعني إنما يرجع إلى البائع لكونه كفيلا لا لكونه تسبيبا. (فصار كأنه قال له: إن ولدك حر بحكم بيعي فإن ضمنك أحد فأنا كفيل عنه) والإمام شمس الأئمة- رحمه الله- استضعف التعليل بطريق الكفالة وصحح ما ذكرته أولا فقال: الأول أصح؛ لأنه قال في كتاب العارية:

العبد المأذون إذا أجر دابة فتلفت باستعمال المستأجر ثم ظهر الاستحقاق رجع المستأجر بما يضمن من قيمتها على العبد في الحال والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة ما لم يعتق، وهو مؤاخذ بالضمان الذي يكون سببه العيب بعد ما التزم صفة السلامة عن العيب بعقد الضمان. (ولذلك لم يرجع بالعقر) يعني أن المستحق لو أخذ العقر من المشتري لا يرجع المشتري بما ضمن من العقر على البائع. (فهو قيمة ما سلم له فلم يكن غرما) أي الذي سلم له من المنافع؛ لأنه استوفى المنافع واللازم بالعوض لا يسمى غرما. (الاستيناء) طلب الإنى، وهو الوقت.

(غير محفوظ بالبعد عن أيدي الناس بل) يدفع المالك شر العدوان عن ماله فلم تكن الدلالة إزالة للحفظ, وأيضا أنه لم يلتزم حفظه بخلاف المودع (على موجب العقد) أي عقد الإحرام. (وكان صيد الحرم لكونه راجعا) أي لكون الحرم (راجعا إلى بقاع الأرض مثل أموال الناس) أي في كونه مضمونا باعتبار البقاع، فإن كان الصيد في بقعه لا يجوز التعرض فيها وهو الحرم يضمن من دل عليه إذا اتصل بالإتلاف، ولو كان خارج الحرم لا يضمن كما في أموال الناس، فإنها إن كانت مودعة عنده يضمن بدلالتها لكون الدلالة مباشرة جناية على ما التزمه من الحفظ بالتضييع، فأما إذا لم تكن مودعة عنده لا يضمن بالدلالة.

فإن قيل: الأجنبي أيضا التزم بعقد الإسلام أن لا يدل السارق على مال الآخر وقد ترك ما التزمه بالدلالة فينبغي أن يضمن أيضا. قلنا: الالتزام هناك بعقد الإسلام كان مع الله فيقع عليه موجب ما تركه من الالتزام وهو الإثم حيث ترك ما التزمه، وهنا كان العقد واقعا مع المودع الذي هو صاحب المال فيقع عليه موجب ما تركه من الالتزام وهو الضمان مع الإثم. (لأن ذلك سبب محض) أن لأن دفع الدافع السكين إلى الصبي سبب محض. (اعترض عليه علة) أي اعترض على ذلك السبب علة وهو وجؤه به نفسه. (وإذا سقط عن يد الصبي عليه) أي على الصبي (فجرحه كان ذلك على الدافع)؛ لأن السقوط من يده لما كان بدون فعله الاختياري كان ذلك الجرح مضافا إلى السبب الأول، وهو مناولته إياه.

(فصار هو سببا له حكم العلل، وكذلك من حمل صبيا ليس منه بسبيل) أي ليس من الصبي بسبيل أي ليس له ولاية أخذ الصبي؛ حيث لم يكن وليا له فعطب بذلك الوجه أي فهلك الصبي بسبب ذلك الحر والبرد أو بسبب سبع كان فى ذلك الشاهق افترسه سبع أو سقط من ذلك الشاهق فهلك فإنه يضمن عاقلته؛ لأنه تسبب لموته. أما إذا مات بمرض لم يضمن؛ لأنه يقال لولا تقريبه إياه إلى موضع أصابه فيه الحر والبرد وافتراس السبع لما هلك الصبي ولا يقال لولا أخذه من يد وليه لم يمت من مرضه. وقوله: (لما ذكرنا) إشارة إلى قوله: لأن ذلك سبب محض اعترض عليه علة لا تضاف إليه بوجه- إلى أن قال: لأنه أضيف إليه العطب هنا.

(إذا كان صبيا يستمسك) أي يقدر على الجلوس على الدابة بدون أن يمسكه أحد. (لأنه صار بمنزلة صاحب العلة لما وقعت المباشرة له) فيلزمه ما يثبت

بسبب المباشرة؛ لأن الغرم بإزاء الغنم بخلاف ما تقدم، وهو في قوله: لتأكل أنت؛ لأن كلام الآمر هناكل تسبيب محض قد تخلل بينه وبين السقوط ما هو علة وهو صعود الصبي الشجرة لمنفعة نفسه. وكذلك في قوله: لنأكل نحن؛ لأن فعله وقع للآمر من وجه دون وجه فلا يجب الضمان بالشك أو لا ينقطع الحكم عن علته بالتردد، وأما هاهنا وهو في قوله: ((لآكل أنا)) فلما كان صعوده لمنفعة الآمر صار تسبيبه في معنى العلة بطريق الإضافة إليه. (ومسائل ما يبتنى عليه أكثر من أن تحصى) ومن تلك المسائل: من أخرج ظبية من الحرم فولدت فهو ضامن للولد؛ لأنها بالحرم آمن صيدًا،

وبثبوت يده عليها يفوت معنى الصيدية، فيثبت به معنى إزالة الأمن في حق الولد بخلاف الغاصب فإنه لا يكون ضامنا للزوائد؛ لأن الأموال محفوظة بالأيدي فإنما يجب الضمان هنا بالغصب الذي هو موجب قصر يد المالك عن ماله، وذلك غير موجود في الزيادة مباشرة ولا تسبيبا إلى آخر ما ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله. (لكنه لما كان يحتمل أن يؤول إليه سمي سببا مجازا) ونظير تسمية ما يؤول إليه قوله تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) قيل: هو البيض (وعندنا لشبهة المجاز شبهة الحقيقة) أي شبهة حقيقة العلة.

(فلم يكن بد من أن يصير البر مضمونا بالجزاء) ليكون واجب الرعاية، وعند ذلك يتحقق المقصود من اليمين وهو الحمل المؤكد أو المنع المؤكد. (صار لما ضمن به البر) وهو الكفارة في اليمين بالله ووقوع الطلاق والعتاق في التعليقات (شبهة الوجوب) أي الوقوع. (فيكون للغصب حال قيام العين شبهة إيجاب القيمة)، ولهذا لو أبرأ المالك الغاصب صح قبل هلاك المغصوب ولو لم تكن القيمة واجبة لما صح؛ لأن الإبراء عن العين لا يصح وكذلك تصح الكفالة به، والكفالة إنما تصح بمقابلة الدين لا بمقابلة العين إلى آخر ما ذكرناه في موضع آخر. (لم تبق الشبهة إلا في محله) أي في محل ثبوت الشبهة إلحاقا للشبهة بالحقيقة؛ لأن حكم الشبهة أبدا يؤخذ من حكم الحقيقة، وأن ما كان راجعا إلى المحل فالابتداء والبقاء فيه سواء.

(فإذا فات المحل) بإرسال الطلقات الثلاث (بطل) أي التعليق؛ لأن محلية الطلاق بمحلية النكاح، ولم يبق محلا للنكاح فلا يبقى محلا للطلاق بخلاف زوال النكاح بتطليقة أو تطليقتين؛ لأنها بقيت محلا للنكاح بعد. (وعلى قوله: لا شبهة له أصلا) أي وعلى قول زفر ليس لقوله: أنت طالق ((إن دخلت الدار)) شبهة العلية أصلا (وإنما الملك للحال) هذا جواب يجيب به زفر عن شبهة ترد عليه على قوله: فإنه لما لم يجعل للتعليق حقيقة العلة ولا شبهتها كان ينبغي أن يصح تعليق الطلاق بدخول الدار في الأجنبية.

قال: وإن كان هو كذلك عندي لكن يشترط الملك حال التعليق لا باعتبار أن للتعليق شبهة العلة، بل يشترط الملك حال التعليق لتفيد اليمين فائدتها وهو ضمان البر بالجزاء؛ لأن الجزاء لا بد أن يكون مخيفا، وذلك بأن يكون غالب الوقوع أو متيقن الوقوع، فالغالب: فيما إذا كان التعليق فى الملك بدخول الدار وغيره، والمتيقن: فيما إذا كان التعليق بالملك؛ لأن الشيء إذا كان موجودا في الحال كان الظاهر بقاءه إلى الزمان الثاني واستمراره إليه، فإذا وجد الملك عند التعليق وحكم بصحته بناء على أن الظاهر بقاء الملك إلى وقت وجود الشرط بعد ذلك لا يضر فواته وهذا في فوات الملك بالإجماع. وأما إذا فات المحل فكذلك عند زفر- رحمه الله- أي لا يبطل التعليق أيضا كما لو فات الملك، والجامع بينهما بقاء فائدة اليمين وهو احتمال وجود الجزاء عند وجود الشرط بأن يقع التحليل بزوج آخر ثم يطلقها، ثم يتزوجها الزوج الأول ثم يوجد الشرط. (والجواب عنه) أي عما استشهد به زفر من صحة التعليق بالملك مع فوات الحل عند التعليق يقول: (إن ذلك الشرط فى حكم العلل) أي النكاح فى حكم التطليق من حيث إن ملك الطلاق يستفاد بالنكاح فكان النكاح معملا للعلة والحكم كما يضاف إلى العلة يضاف إلى علة العلة لما عرف في مسألة الرمي. قال في ((التقويم)): فالرمي علة النفوذ، والنفوذ علة الإصابة، والإصابة

علة السراية, والسراية علة الموت. وأقرب من هذا قود الدابة أو سوقها على مال فأتلفته الدابة كان القائد أو السائق ضامنا لإعماله العلة، ولما كان كذلك تعارض مقتضى مطلق التعليق بمقتضى التعليق بالنكاح، فمقتضى كل واحد منهما يضاد مقتضى الآخر؛ لأن مقتضى مطلق التعليق بقاء النكاح؛ لأن للتعليق شبهة حقيقة علة الطلاق على ما ذكرنا، فكما أن حقيقة علة الطلاق تقتضي بقاء النكاح فكذلك شبهتها؛ لأن حكم الشبهة أبدا يؤخذ من حكم الحقيقة، ومقتضى التعليق بالنكاح يقتضي عدم النكاح باعتبار أن النكاح إنما يتحقق فى محل لا نكاح فيه؛ لئلا يلزم إثبات الثابت، فرجحنا جانب علة العلة لقوته لما أن علة العلة قائمة مقام العلة في مواضع على ما ذكرنا، فألغي لذلك جانب مطلق التعليق الذي له شبهة العلة على ما ذكر قبل هذا في أواخر باب وجوه الوقوف على أحكام النظم بقوله: فتسقط هذه الشبهة بهذه المعارضة. فكان المراد من قوله: ((الشبهة السابقة)) هي شبهة حقيقة علة الطلاق التي تحصل من مطلق التعليق، ونعني بمطلق التعليق ما وراء تعليق الطلاق بالنكاح كتعليق الطلاق بدخول الدار أو كلام زيد أو ضرب عمرو أو غير ذلك. وقوله: ((السابقة عليه)) أي السابقة على وجود الشرط وهذا هو الواضح.

أو نقول: وهو المشهور فيما بين الناس وهو أن النكاح لما كان له حكم العلة على ما ذكرنا كان تعليق الطلاق بالنكاح بمنزلة تعليق الطلاق بالتطليق وهو باطل؛ لأن تعليق الحكم بما هو علته لا يصح كما إذا قال: إن طلقتك فأنت طالق وإن أعتقك فأنت حر؛ لأن المزيل قارن الزوال فلا يعمل كما إذا قال: أنت طالق مع انقضاء عدتك لما أن المزيل يعتمد الثبوت سابقا وزمان الزوال ليس بزمان الثبوت فلا يصح هذا التعليق لكونه تعليق الحكم بما هو علته معنى فلا يشتر قيام المحل؛ لأنه إنما يشترط لشبهة التطليق. وهذه الشبهة قد بطلت فبقيت يمينا مطلقا لوجود الشرط، والجزاء صورة ومحل اليمين ذمة الحالف، فإذا وجد الشرط وجب الجزاء، فوجه المعارضة ما بينا من مضادة مقتضى كل واحد من شبهة حقيقة العلة التي تحصل بمطلق التعليق ومن كونه معلقا بالنكاح الذي هو بمنزلة علة العلة وكذلك بيان السابقة ما بينا، والله أعلم. (فأما الإيجاب) أي الإيجاب (المضاف) إلى وقت فى المستقبل نحو قوله: أنت طالق غدا ونحو قوله: لله علي أن أتصدق بدرهم غدا (فهو سبب فى الحال) بخلاف التعليق وهو كالثمن المؤجل والزكاة قبل الحول. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله: فأما الإضافة إلى وقت لا تعدم السببية معنى كما يعدمه التعليق بالشرط، ولهذا قلنا في قوله تعالى: (فَعِدَّةٌ

مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) لا يخرج الشهر من كونه سببا حقيقة في حق جواز الأداء. وقوله: (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) يخرج التمتع من أن يكون سببا لصوم السبعة قبل الرجوع من منى حتى لو أداه لا يجوز؛ لأنه لما تعلق بشرط الرجوع فقبل وجود الشرط لا يتم سببه معنى وهناك أضاف الصوم إلى وقت فقبل وجود الوقت يتم السبب فيه معنى حتى يجوز الأداء. وقال الإمام الأرسابندي- رحمه الله: ولو قال: إذا جاء غد فلله علي أن أتصدق بدرهم فتصدق قبله لم يصح؛ لأن كلمة إذا كلمة شرط فإذا علقه بالشرط لم يبق سببا فلا يصح التعجيل بخلاف النذر المضاف فإنه سبب حتى لو قال: لله علي أن أتصدق بدرهم يوم الخميس فتصدق قبله صح لأن الإضافة دخلت على الحكم فاجلته فكان سببا في الحال، فإذا عجل المؤجل كما إذا عجل الدين المؤجل أو عجل الصوم في السفر. (وأما السبب الذي له شبهة العلل فمثل ما قلنا في اليمين بالطلاق والعتاق) كمن قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق. أو قال لعبد الغير:

إن ملكتك فأنت حر، وإنما أعاد ذكر هذه المسألة هاهنا بعد ما ذكر مرة؛ لأن ما ذكره قبل هذا كان بطريق التطفل؛ لأنه كان فى ذكر السبب الذي يسمى سببا مجازا، وذلك الذي ذكره اقتضى ذكر السبب الذي له شبهة العلل، وذكر ههنا قصدا تتميما لما ذكره من تعداد السبب بأنه مقسم أربعة أقسام. فعلم بهذا أن الذي ذكره هنا كان لمعنى غير ذلك المعنى الذي اقتضى ذره قبل هذا. فإن قلت: لا يتم هذا الذي ذكره أن السبب أربعة أقسام؛ لأن السبب الذي له شبهة العلل لما كان مثل ما ذكره من اليمين بالطلاق والعتاق وهو أيضا هو السبب الذي يسمى سببا مجازا على ما ذكر نظيره بذلك كانا شيئا واحدا فحينئذ كانت الأقسام ثلاثة. قلت: لا، بل تمت الأربعة؛ فإن تعليق الطلاق بالنكاح هو السبب الذي له شبهة العلل علم ذلك بقوله: ((والجواب عنه أن ذلك الشرط في حكم العلل)) وبما ذكر قبل هذا في باب وجوه الوقوف بقوله: فأما تعليق الطلاق بالنكاح

فتعليق بما هو علة الطلاق ولو لم يجعل هكذا لم تتم الأربعة، فحصل من هذا كله أن تعليق الطلاق بالشرط على نوعين: أحدهما: تعليق بشرط من الشروط كدخول الدار وكلام زيد وغيرهما بأن قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، وهو الذي قاله وسبب وسمي به مجازا. والثاني: تعليق الطلاق والعتاق بالملك بأن قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق, أو قال لعبد الغير إن ملكتك فأنت حر. وهو الذي قاله: ((وسبب له شبهة العلل)). لكن هذا فى التقسيم وقع في القسم الثالث، وفي التقرير وقع في آخر الأقسام الأربعة؛ لما أن القسم الرابع الذي ذكره في التقسيم وهو السبب الذي في معنى العلة وهو نحو قود الدابة وسوقها على مال إنسان مر ذكره قبل هذا؛ فلذلك صرح هناك حين ذكره بقوله فيصير حينئذ من القسم الرابع لئلا يشتبه ما ذكره من التقسيم الذي قسمه على أربعة أقسام، ولا يرد مثل هذا الاشتباه على ما ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- حيث جعل نظير السبب الذي له شبهة العلل حفر البئر فى الطريق وإرضاع الكبيرة الصغيرة فيما إذا كانتا ضرتين، والله أعلم.

باب تقسيم العلة

باب تقسيم العلة المعنى من كون العلة اسما أن تكون تلك العلة موضوعة شرعا لذلك الحكم الذي هو حكمها كملك النصاب وضع لإيجاب الزكاة، ومن كونها معنى هو أن تكون تلك العلة مؤثرة في إثبات ذلك الحكم كتأثير الغنى في حق المواساة، ومن كونها حكما هو أن يتصل الحكم بها وجودا عند وجودها كوجود حكم الزكاة بوجوب الأداء عند حولان الحول. وأما لو أدى قبل حولان الحول يجوز لوجود نفس الوجوب بملك النصاب وإن لم يتحقق وجوب الأداء.

(وما يجري مجرى ذلك من العلل) كالطلاق والعتاق وخروج النجاسة في حق انتقاض الطهارة. (لما ذكرنا من تفسيرها) أي تفسير العلة وهو ما ذكره بقوله: فإنها في اللغة عبارةٌ عن المغّير. وهى في الشرع عبارةٌ عما يضافُ إليه وجوبُ الحكم ابتداءً فقد وُجد التغييرُ وإضافةُ الحكم إلى هذه الأشياءُ عللًا لأحكامها. (وحقيقة ما وُضعت له) هي إضافة الحكم إلية لا بواسطة ابتداء في الشرع، وقد وُجدت هي ههنا فكانت علةً أسما ومعنى وحكما لوجود الوضع والتأثير والاتصال. (ومَن فَرق بين الفصلين) أي بين الاستطاعة مع الفعل وبين العلة

الشرعية (فلا بد من صفة العلة) أي العلة الشرعية (تقدّمُها على الحكم والحكمُ يَعقُبها) ليكون الحكمُ مرتبًا على علةٍ موجودةٍ، وهذا في العلل الشرعية ممكنٌ؛ لأنها بمنزلة الجواهر بدليل جواز الإقالة في البيع بعد أزمنة. وهي عبارةٌ عن فسخ البيع ورفعه ولولا قيامُ البيع إلى وقت الإقالة لما

صح فسخه (بخلاف الاستطاعة) وسائرَ العلل العقلية فإنها أعراضٌ لا تبقى زمانين فكما وجدت انعدمت، فلذلك قلنا باقترانهما معا هناك إلا أنا نقول: أن عللَ الشرع أمارتٌ في الحقيقة وأعراضٌ وأجرينا على حقيقتها وقلنا باقتران الأحكام بها. (وأما الذي هو علةٌ اسمًا) يعنى ليس بعلة معنى ولا حكمًا. أما علةٌ اسماُ؛ لإنة يضاف الحكمُ إليه بدون الواسطة فيقال كفارة اليمين، وكذلك في يمين الطلاق والعتاق يضافُ الحكمُ إلى اليمين حتى إن شهودَ اليمين وشهودَ وجود الشرط إذا رجعوا كان الضمانُ على شهود اليمين لكونهم شهودَ علةٍ, لكن لما كان وضع اليمين للبر لا للحنث لم تكن اليمينُ مؤثرًا في وجود الحنث فلم تكن علةً معنى، وكذلك لما لم يثبت الحكمُ متصلًا باليمين قبل الشرط لم تكن علةً حكمًا. وقال الإمامُ شمس الأئمة -رحمه الله-: لأن العلةَ معنى وحكمًا ما يكون

ثبوت الحكم عند تقرُّره لا عند ارتفاعه وبعد الحنث لاتبقى اليمين بل ترتفع فلم تكن علةً معنى وحكمًا. (فمثلُ البيع الموقوف) وهو في بيع ملك الغير يغير إذنه؛ لأنه بيعٌ مشروعٌ؛ لأنه لا ضررَ للمالك في شرعيته وقلنا بشرعيته بقوله تعالى: "وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ"، ولأنه بيعٌ حقيقةً موضوعُ لهذا الموجب فيضاف لهذا الموجَب إلى هذا البيع فقلنا إنه علةٌ اسمًا. وكذلك هو علةٌ معنى؛ لأن هذا البيعَ منعقدٌ شرعًا بين المتعاقدين لإفادة هذا الحكم. وأما أنه ليس بعلة حكما لما في ثبوت الملك به من الأضرار بالمالك في خروج العين عن ملكه من غير رضاه. (فإذا زال المانعُ ثبت الحكم به) من الأصل حتى إن المشترى يملكه بزوائده بعد الإجازة من وقت العقد، وكذلك لو أعتقه المشترى يتوقف إعتاقه

على إجازة المالك ولو لم يكن ملكا موقوفا فيه لما توقف إعتاقه؛ لأن حكمَه تراخى أي حكمه الأصلىّ وهو الملك الباتّ، وأما الملكُ الموقوف ُ فثابتٌ لما ذكرنا. (إن المانع إذا زال وجب الحكمُ به من حين الإيجاب) حتى يملكه المشتري بزوائده المتصلةِ والمنفصلةِ من وقت العقد بخلاف التعليقات، فإنه إذا زال المانعُ يثبت الحكمُ فيها وقت زوال المانع. (لما عرف في موضعه) يعنى إنه بيع المعدوم فينبغي إنه لا يصحَ؛ لأن المعدومَ لا يكون محلًا للملك، ولهذا لم يثبت الملك في الأجر لانعدام العلة حكمًا إلا أن الشرعَ جوَّزه لضرورة حاجة العباد إلى ذلك العقد فملك الأجر بشرط التعجيل لوجود العلة اسمًا ومعنى فلا يكون متبرِّعا (لما فيه من معنى الإضافة) أي إضافة الملك إلى وقت المعقود عليه في الأصل وهو المنفعةُ فلم يثبت الملكُ فيه مستندًا إلى وقت العقد؛ لأن إقامةَ العين مُقام المنفعة في حق صحة الإيجاب دون الحكم، فلذلك قيل: الإجارةُ عقودٌ مضافةٌ.

(وكذلك كل إيجاب مضاف إلى وقت) مثل أن يقول: لله علىَّ أن أتصدقَ عند رأس شهر أو أصومَ أو أصلىَ على ما ذكرنا في باب السبب من مسائل الإضافة (فإنه علةً اسمًا ومعنى)، ولهذا لو عجَّل قبله يصح، وقد ذكرناه. (لا حكمًا) لأنه لم يلتزمه في الحال فكان متشابها للأسباب من حيث إنه لا يستند الحكم إلى وقت الإيجاب بل كان مقتصرًا وقت وجود الوقت المضاف إليه. (اتصل بالأصل لحكمه)؛ لأن الوصفَ لا يستقل بنفسه، والأصلُ مع ذلك الوصف علةٌ فكان بمنزلة الأسباب من حيث أن الحكم تأخر إلى شيء آخر فكان منزلة تأخر السرقة من وقت الدلالة إلى وجود فعل السارق بالسرقة (حتى يصح أداءُ الحكم قبله) أي قبل وجود ذلك الوصف باعتبار وجود العلة اسمًا ومعنى.

(وذلك مثلُ النصاب في أول الحول) فإنه سببٌ لوجوب الزكاة بصفة النماء، وحصول هذا النماء منتظَر لا يكون إلا بعد مدةٍ قدَّر الشرعُ تلك المدةَ بالحول، وإنما ذِكره لم ينتصب الحول شرطًا، فإنه عليه السلام قال: "لا زكاةَ في مال حتى يحولَ عليه الحولُ" وحتى كلمة غاية -والغايةُ صفةٌ للمغيّا- لاكلمةَ شرطٍ، وبانعدام صفة النماء في الحال لا ينعدم أصلُ المال الذى يضاف إليه هذا الحكمُ شرعًا، فجعلناه علةً تشبه السبب حتى يجوز التعجيل بعد كمال النصاب، ولا يكون المودى زكاةً للمال لانعدام صفة العلة بخلاف المسافر إذا صام في شهر رمضانَ والمقيمُ إذا صلى في أول الوقت فالمؤدَّى يكون

فرضًا لوجود العلة مطلقةً بصفتها. (ألا ترى أنه تراخى إلى ماليس بحادث به وإلى ما هو شبيه بالعلل) هذان الوصفان أعنى ما ليس بحادث به وما هو شبيه بالعلل يُرجِّحان جانب السببية للنصاب ووصفُ كون النماء غيرُ مستقل بنفسه يُرجِّحث جانب العلية للنصاب؛ لأن تراخى الحكم لو كان لمعنى حادث بالأصل كان الأصلُ بمنزلة علة العلة فيترجح حينئذٍ للأصل جانب العلية كما في الرمى فأن الوسائطَ بينه وبين الحكم وهو زهوق الروح من نفوذ السهم وإصابته وسراية ما جرحة مضافةٌ إلى الأول وهو الرمي، فلذلك كان الرميُ علةً وههنا لما لم يكن حولان الحول حادثًا بالنصاب كان النصابُ شبيهًا بالسبب. وكذلك كون الذى يوجب التراخي شبيها بالعلل يشعر بأن الأولَ شبيه بالسبب؛ لأن الحكمَ لو كان متراخيًا إلى ما هو علة حقيقة كسرقة السارق بعد الدلالة كان الأولُ وهو دلالةً الدال سببًا حقيقةً، فإذا كان متراخيًا بما هو شبيه بالعلل كان الأولُ شبيهًا بالأسباب ثم إنما قلنا: إن الذي يوجب التراخي ههنا وهو النماءُ يشبه العلل؛ لأن النماءَ يوجب المواساة فيكون له أثرٌ في وجوب الزكاة. وإنما قلنا إن وصفَ كون النماء غيرُ مستقلٍ بنفسه يرجح جانب العلية؛ لأن النماءَ وصفُ المال والوصفُ لا يقوم بنفسه، وحقيقةُ السبب أن يكون

الحكمُ متراخيًا إلى ما يستقل بنفسه كما في سرقة السارق ولم يوجد ههنا كون ذلك الوصف مستقلًا بنفسه فأشبه بالعلل من حيث أن هذا الوصفَ قائمٌ به. (وكان هذا الشبَة غالبًا) أي شبه كون النصاب في أول الحول علة غالبٌ على شبه كونه سببًا؛ لأنه بالنظر إلى الأصل وهو النصابُ علةٌ وإلى الوصف وهو النماء سببٌ، والأصلُ راجحٌ على الوصف. (أن لا يظهر وجوب الزكاة في أول الحول قطعًا)؛ لأن فات وصفُ العلة فلم تكن العلةٌ موجودةً؛ لأن العلةَ مال نام فلم يكن الوجوبُ ثابتا قطعًا من أول الحول (بخلاف ما ذكرنا من البيوع) أي من البيع الموقوف والبيع بشرط الخيار؛ لأنه ودت العلةُ ثمة ولم يفت وصف منها، فلذلك عند زوال المانع يثبت الحكمُ من أول الإيجاب قطعا. (ثابتًا من الأصل في التقدير)؛ لأن الوصفَ متى وُجد اتصل بأصله فكان الأصلُ موصوفا به من الأصل تقديرًا.

(وهذا أشبه بالعلل من النصاب) لأن المرضَ علةً تغيُّر الأحكام بوصف اتصاله بالموت وذلك الوصف لا يستقل بنفسه فكان المرضُ بمعنى العلة كما في النصاب بل المرضُ أشبه بالعلل من النصاب؛ لأن وصفَ الاتصال بالموتِ حادثٌ بالمرض، فكان شبه المرض بالعلة أقوى من النصاب؛ لأن ترادف َ الآلام التى هى الواسطةٌ المفضيةُ إلى الموت إنما حدثت من المرض. فلذلك كان شبه المرض بالعلة أقوى كما في الرمي هو علةٌ لزهوق الروح وإن كانت عليته للموت بالوسائط لكون تلك الوسائط حادثة من الرمي لم تُعتبر هى واسطة فكان الرمي علةً تامةً لمباشرة القتل حتى يجبُ القصاص على الرامي فكذا هنا. وقوله: (لما ذكرنا) إشارة إلى قوله: وكذلك ما هو علةُ العلة "وإنما قلنا إن التزكيةَ علةُ العلة، فإن الموجبَ للحكم بالرجم شهادةُ الشهود، والشهادةُ لا تكون موجبةً بدون التزكية، فمن هذا الوجه يكون الحكمُ مضافًا إلى التزكية، ومن حيث التزكيةَ صفةُ الشهادة بقي الحكمُ مضافًا إلى الشهادة

أيضًا، فأي الفريقين إذا رجع كان ضامنًا. كذا ذكره الأمامُ شمس الأئمة رحمه الله. (لأنه ليس بطريق موضوع له) أي أحد الوصفين لا يكون موضوعًا لوجود الحكم لكن له شبة العلل من حيث أن ركنَ العلة إنما يتم إذا كان هو مع غيره؛ (لأن ربا النسيئة شبهة الفضل)؛ لأن للنقد مزية على النسيئة عرفًا لا حقيقةً فيثبت بشبهة العلة؛ لأن الشبهات في باب الحرمات ملحقةٌ بالحقائق. وأيد ذلك ما روى في الحديث:"إن النبى عليه السلام نهى عن الربا والريبة". ولا يقال: كيف يحرُم شبهة الفضل بأحد الوصفين مع أن حقيقةَ

الفضل لا تحرُم به؟. لأنا نقول: ذلك الحكمُ فلا يمكن إثباته بشبهة العلة؛ لأن الحكمَ يثبت على حسب ثبوت العلة تحقيقًا للمعادلة والمناسبة. ألا ترى أن البيعَ الفاسدَ الذي فيه ضعفٌ لفساده يثبت به الحكم الذى فيه ضعف وهو أنه لا يثبت الملك فيه قبل القبض بخلاف حكم البيع الصحيح. وقوله: (لأنه مؤثر فيه) أي لأنه طهر أثره فيه في الحال؛ لأن الوصفَ الأولَ مؤثرٌ فيه أيضا لمِا ذكر قبل هذا بعلة ذات وصفين مؤثرين لكن لم يظهر أثره في الحال، وإنما قلنا إن كل واحد ٍ منهم مؤثرٌ. أما الملك فلأنه يُستفاد به ملك العتق فكان بمعنى العلة فكان مؤثرًا كالعلة. وأما القرابةُ فلأنها مؤثرةٌ في الصلة وفى إبقاء القريب رقيقًا قطعُ الصلة، ولهذا صان اللهُ تعالى هذه القرابةَ عن القطع بواسطة أدنى الرقّين وهو النكاحُ فلأن تُصان عن القطع بأعلاهما وهو ملك اليمين أولى.

(حتى يصير المشتري معتقًا) أي بواسطة الشراء، ولهذا صحت نيةُ الكفارة عند الشراء ولو كان الحكمُ مضافا إلى الكل لما صحَّت كما في الإرث، وليس لأحد أن يقولَ: أن أحدَهما شرطٌ والآخر علةٌ؛ لأنه لو كان كذلك لما صح عن الكفارة عند النية في آخرهما وجودا كما في المحلوف بالعتق. وبقوله: بعلة ذات وصفين مؤثرين"وقع الإحتراز عنه؛ لأن الشرطَ ليس بمؤثر. (أضيف العتق إلى القرابة) إي إلى دعوى القرابة عند الملك؛ لأنه لو لم يُضَف دعوى القرابة عند الملك لما غرِم؛ لأنه لم يوجد منه صنعٌ كما لو ورِثا قريب أحدهما. (فلا يترجحُ البعضُ على البعض)؛ لأن شهادتَهما إنما صارت حجةً للاستحقاق بقضاء القاضي وعند ذلك لا تأخُّرَ فيهما ولا تقدُّمَ. (وهذا ليس بعلة حكمًا) أي السفرُ هاهنا ليس بعلة للرخصة حكمًا.

فإن قلت: أليس في هذا الذى ذكره مناقضةٌ فإنه ذكر أولًا: فكان علةً حكما "أي كان السفر علةً للرخصة بالإفطار في الصوم ونفى هاهنا كون السفر علةً للرخصة فيه! قلت: لا مناقضةَ؛ لأن موضوعَ المسألة فيما ذكر قبل هذا في الذي لم يُصبح صائمًا في حالةِ الإقامة، بل أصبح غيرَ صائم وهو في السفر كان في حقه علةً للرخصة في الإفطار أي في أن لا يصوم. وأما إذا أصبح صائمًا وهو مُقيمٌ ثم سافر لم يكن سفره ههنا علةً للرخصة في الإفطار؛ لأنه لو كان علةً لها لأبيح الفطر وليس بمباح له، وذلك لأن العلةَ حكمًا هي التى تثبت الحكم حال وجودها فورًا ولن تثبت الإباحةُ ههنا عُلم أنه ليس بعلة حكمًا، ولكن مع ذلك لو أفطر لا تجب الكفارة للشبهة وهى قيامُ السفر المبيح للفطر في الجملة. (ولا معنى)؛ لأن المؤثر هو المشقة لا نفس السفر ولو لم يكن علةً اسما

لوجبت الكفارةُ لوجود الإفطار وعدم المرِخص؛ (لأن الرخصة تعلقت بالمشقة في الحقيقة)؛ لأن للمشقة والحرج تأثيرا في استباحة المحظورات واستجلاب الرخص، وإلى هذا أشار اللهُ تعالى بقوله: " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ" إلا أن المشقة أمرُ باطن تتفاوت أحوال الناس فيه، ولا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرعُ السفرَ المقدر بثلاثة أيام مُقام تلك المشقة لكونه دالا عليها غالبًا. (إلا أنه متنوع) أي في كونه سببا للمشقة بواسطة الصوم؛ لأن الصومَ يحصل به الحِمية وهي رأسُ كل دواء، ثم لو قلنا مع ذلك أن مطلقَ المرض سببٌ للرخصة يلزم منه أن نقول: ما هو الموجب للمنفعة موجبٌ للمشقة فكان فيه خرم القاعدة الممهدة. فإن قلت: بل في قولك بتنوع المرض في تعليق الرخصة خرم القاعدة

الممهدة؛ لأن الله تعالى جعل مطلق المرض علة رخصة الإفطار بقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) حيث لزهما في قرن واحد، والأصل أن المطلق يجري إطلاقه، وفيما ذكرته ترك لهذا الأصل وتفريق للمقترنين في الوصل. قلت: ليس فيما قلنا ترك الأصل، بل فيه تقييد المطلق لوجود دليل التقييد بالإجماع. ألا ترى أن ظاهر الآية التي ذكرتها كسف قيد إطلاقه بتقييد الإفطار بالإجماع، فكذا قيد مطلق المرض بالمرض المفضي إلى الحرج بالإجماع. بيان ذلك الله تعالى قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) لو خلينا ومجرد النظر إلى ظاهرة الآية يلزم أن يصوم المريض والمسافر مرتين في وقتين مختلفتين. أحدهما- في وقت الأداء، ويتوقت شهر رمضان لقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهما ممن شهد الشهر، وليس في قوله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر) ذكر الإفطار.

والثاني: أن يصوم في وقت القضاء لقوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فلابد من أن يقيد مطلق تلك الآية بقوله: "ومن كان مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، ولو لم يرد قوله: فأفطر" يلزم ما قلنا من الصوم مرتين وذلك مدفوع بمرة لقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) ولقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيقد ذلك المطلق بما قلنا. فكذا فيما نحن فيه يقيد بالمرض الذي يضر الصوم لا بالمرض الذي ينفعه الصوم. إذ لو قلنا ذلك يلزم أن يعود الكلام على موضوعه بالنقض؛ لأن الله تعالى جعل المشقة سببا للرخصة لا المنفعة فلذلك افترق المرض والسفر، لما أن السفر وإن قلت مشتقة لم يخل عن نفس المشقة لما أن التحرك للساكن مشقة وفيه ذلك. (فما كان منه سببا لاسترخاء المفاصل أقيم مقامه) وهو أن يكون مضطجعا أو متكئا (وكذلك الاستبراء متعلق بالشغل) أي بشغل الرحم بماء الغير

ليصون ماءه عن اختلاط ماء الغير ثم نقل إلى (استحداث سبب الشغل) وهو الملك؛ لأن ملك اليمين سبب لشغل الرحم ظاهرا فأقيم الملك مقام الشغل لذلك. (والثاني: أن يقوم الدليل مقام المدلول)، والفرق بين الدليل والسبب هو أن الدليل إنما يقام مقام المدلول فيما لا يعلم وجود المدلول حقيقة ولكن

وجود الدليل ظاهرا يدل على وجود المدلول بخلاف السبب الداعي كالمس في إثبات البعضية ومع ذلك يعلم حقيقة أنه لا يثبت البعضية بمجرد المس. (وطريق ذلك وفقهه) أي دليل إقامة الشيء مقام غيره، (وفي قيام النكاح مقام الماء) أي الأصل في إثبات النسب الماء إلا أن ذلك أمر باطن فقام النكاح مقامه؛ لأنه سببه. (كما في تحريم الدواعي في الحرمات) وهو أن الجماع حرام في الظهار وكذلك دواعيه (والعبادات) أي في تحريم الدواعي في العبادات وهو أن الجماع حرام حالة الإحرام والاعتكاف، فكذلك دواعيه من المس والقبلة حرام أيضاً، والله أعلم.

باب تقسيم الشرط

باب تقسيم الشرط (لا حكم له قبل العلم من المخاطب)؛ وإنما كان العلم شرطا؛ لأنه لا تحصل القدرة بدونه، والله تعالى نفي التكليف بدون القدرة بقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) وكذلك هذا في كل الشروط في العبادات والعقوبات والمعاملات.

(فالصيغة) هي: أن تدخل كلمة من كلمات الشرط. (والدلالة) هي: أن يكون في الكلام معنى الشرط من غير صيغته. (وقال بعضهم هو شرط عادة) يعني خرج الكلام على وفاق العادة، فإن الإنسان إنما يكاتب عبده إذا علم فيه خيرا لا أن يكون هذا شرطًا.

(وهذا قول بأنه لغة)؛ لأنه وجد الشرط ولم يجد معناه، واللغو ليس إلا هذا. (فأما الإباحة فتستغني عنه) أي الإباحة في الكتابة تستغني عن العلم بالخير. (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ). (سنة واستحباب) أي عطف قوله: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ) على قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) أجمعنا على أن قوله: (آتُوهُمْ) للاستحباب، فكان المعطوف عليه أيضا للاستحباب، وعقد الكتابة وإن كان مباحا قبل أن يعلم فيه خيرا، فإنما يصير مندوبا إليه إذا علم فيه خيرا، فظهرت فائدة الشرط من هذا الوجه. فإن قلت: يشكل على هذه قوله تعالى: (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) حيث عطف الذي هو للوجوب على الأمر الذي للإباحة وهو الأكل.

قلت: ليس كذلك، فإن الأكل بقدر ما يقوم به مهجته فرض، وجاز أن يكون المراد هنا ذاك، وإن نفع الأكل راجع إلى العبد والشكر حق الله تعالى، فلذلك قام دليل الوجوب في الشكر لكونه حق الله تعالى، ودليل الإباحة في الأكل لكونه حق العباد وكلامنا فيما إذا كان الحق لواحد. (قصر الأحوال) أي قصر أحوال الصلاة كالأداء راكبا بالإيماء والإيجاز بالقراءة وتخفيف الركوع والسجود لا أن يكون المراد قصر شطر الصلاة، وإنما عرف هذا بنص أخر وهو قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) فإنما تعلق قصر أحوال الصلاة بالخوف، والقرآن يفسر بعضه بعضا. (وقال تعالى): (فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَانَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) والمراد- والله أعلم- فإذا أمنتم فأتموا

الصلاة بأحوالها. (وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ) (فلا تذكر الحجور شرطًا)، وكلامنا في صريح الشرط لما أن دلالة الشرط لما أن دلالة الشرط لا تعتبر في المعرفة والربائب معرفة بالإضافة فكان ذكر الحجور لبيان التقرير كقوله تعالى: (من أصلابكم) وهذا الكلام لرد سؤال وهو أن يقال: ينبغي أن يكون الحجر شرطا؛ لأنه شرط دلالة من حيث الظاهر فيتفقد به حتى لو كانت الربائب في غير الحجر ينبغي أن يجوز نكاحها. والجواب ما ذكر وهو أن دلالة الشرط إنما تعتبر شرطا في النكرة لا في المعرفة. (هذا الكلام بمعنى الشرط دلالة لوقوع الوصف في النكرة) لما أن التزوج دخل علة امرأة غائبة غير معينة فكانت نكرة، والوصف في الغائب معتبر فصار كأنه قال: المتزوجة طالق، فكان الطلاق متعلقًا بالتزوج بخلاف ما

إذا قال: هذه المرأة التي أتزوجها طالق، فإنه لو تزوجها لا تطلق؛ لأن الوصف في الحاضر لغو لما أن الوصف للتعريف؛ لأنه موضوع للتفرقة بين المشتركين، والتعريف الحاصل من الإشارة أقوى من التعريف الحاصل من الوصف، فكان الوصف بعد الإشارة وقع ضائعا فلا يعتبر فبقي قوله: هذه طالق وهي أجنبية فلا يصح. (ونص الشرط يجمع الوجهين) أي صريح الشرط وهو ذكر حرف من حروف الشرط يجمع وجهي المنكرة والمعينة أي صح فيهما، ويكون الطلاق معلقا فيهما حتى لو قال: إن تزوجت هذه المرأة فهي طالق ثم تزوجها تطلق كما قول قال: إن تزوجت امرأة فهي طالق. (لما لم تكن عللًا بذواتها استقام أن تخلفها الشروط)؛ لأن العلل الشرعية أمارات في الحقيقة فيمكن أن ينقل حكمها إلى ما يقاربها وهو

الشروط بخلاف العلل العقلية، فإنها علل بذواتها أي بوضعها فلم يستقيم أن يخلفها الشروط في إضافة الحكم إليها. ألا ترى أن الكسر لما كان علة للانكسار والقطع علة للانقطاع لم يقم غيرهما مقامها في إثبات الانكسار والانقطاع. (فقد قالوا في شهود الشرط واليمين إذا رجعوا جميعا بعد الحكم إن الضمان يجب على شهود اليمين لأنهم شهود العلة)، وأما إذا رجع شهود الشرط وحدهم. قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- في "أصول الفقه" و"المبسوطة": إنهم لا يضمنون. وقال في "المبسوط" ظن بعض مشايخنا أنهم يضمنون في هذا الفصل، وقالوا: إن العلة لا تصلح لإضافة الحكم إليها هاهنا فإنها ليست متعدية فيكون الحكم مضافًا إلى الشرط على أن الشرط يجعل خلفًا عن العلة هاهنا باعتبار أن

الحكم يضاف غليه وجودا عنده وشبه هذا بحفر البئر، ثم قال: وهو غلط، بل الصحيح من المذهب أن شهود الشرط لا يضمنون بحال نص عليه في "الزيادات"، وهذا لأن قوله: أنت حر مباشرة الإتلاف للمالية وعند وجود مباشرة الإتلاف الحكم يضاف إليه دون الشرط، ولكن المصنف فخر الإسلام البزدوي وغيره من المشايخ- رحمهم الله- اختاروا جانب الضمان. وذكر المصنف بعد هذا في الكتاب بخطوط: وإذا رجع الشرط وحدهم وجب أن يضمنوا. (لما قلنا) وهو قوله: "إن الشرط يتعلق به الوجود دون الوجوب فصار شبيها بالعلل" إلى أخره. وكذلك قال الإمام فخر الدين قاضي خان- رحمه الله- في أيمان "الجامع الكبير" وإن رجع شهود الدخول لا غير لم يذكر هذا الكتاب، واختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يضمنون استدلالا بشهود الإحصان إذا رجعوا وحدهم لا يضمنون، ثم قال: وأكثر المشايخ قالوا بوجوب الضمان عليهم؛ لأن شهود الدخول إن لم يثبتوا علة التلف فقد أثبتوا التلف؛ لأن قوله: أنت حر يصير علة عند الدخول فالحق ذلك بالعلة عند تعذر إيجاب الضمان على صاحب العلة نظرًا لصاحب الحق. أما الإحصان فليس في معنى العلة، بل هو مانع عن العلة وهي الزنا فلا

يكون ملحقًا بالعلة. أما الدخول فلا يمنع العلة وهو الإعتاق فأمكن إلحاقه بالعلة، وكذلك في عامة شروح الجامع الكبير حيث ذكر وجوب الضمان على شهود الشرط إذا رجعوا وحدهم. (وذلك مثل قول علمائنا في رجل قيد عبده ثم حلف) إلى أخره. ذكر هذه المسألة في باب الشهادة في العتق من عتاق "المبسوط" فقال: وهذا بناء على أن قضاء القاضي بالعتق بشهادة الزور هل ينفذ ظاهرًا وباطنًا؟ عند أبي حنيفة- رحمه الله- ينفذ ظاهرًا وباطنًا، وفي قول أبي يوسف الأخر وهو قول محمد- رحمهما الله- ينفذ ظاهرا لا باطنا، فتبين أن قضاء القاضي بشهادتهما لم يكن نافذا في الباطن وأن العبد إنما عتق بحل القيد لا بشهادتهما فلا يضمنان عندهما شيئا. وعند أبي حنيفة- رحمه الله- إنما عتق العبد بقضاء القاضي لنفوذ قضائه ظاهرا وباطنا، وقضاء القاضي كان بشهادتهما، فلهذا ضمنا قيمته؛ لأنا علمنا أنهما شهدا بالباطل. فإن قيل: هما إنما شهدا بشرط العتق؛ لأنهما شهدوا بوزن القيد أنه دون

عشرة أرطال وذلك شرط العتق ولا ضمان على شهود الشرط. قلنا: لا كذلك؛ بل شهدا بتنجيز العتق؛ لأنهما زعما أن المولى علق عتقه بشرط موجود، والتعليق بشرط موجود كان تنجيزا حتى يملكه الوكيل بالتنجيز وشهود تنجيز العتق يضمنون عند الرجوع. فإن قيل: قضاء القاضي إنما عند أبي حنيفة- رحمه الله- إذا لم يتقين ببطلانه. فأما بعد التيقن ببطلانه فلا ينفذ، كما لو ظهر أن الشهود عبيد أو كفار، هاهنا قد تيقنا ببطلان الحجة كان وزن القيد خمسة أرطال وبعد ما علم كذبهم بيقين لا ينفذ القضاء باطنا فيعتق حينئذ بحل القيد. قلنا: لا كذلك؛ بل نفوذ القضاء عند أبي حنيفة- رحمه الله- باعتبار أنه يسقط من القاضي تعرف ما لا طريق له إلى معرفته وهو حقيقة صدق الشهود ولا يسقط عنه الوقوف على ما بتوصل إليه من كفرهم ورقهم؛ لأن التكليف يثبت بحسب الوسع وقد تعذر على القاضي هاهنا الوقوف على حقيقة وزن القيد؛ لأنه لا يعرف ذلك إلا بعد أن يحله، وإذا حل عتق العبد فتسقط عنه حقيقة معرفة وزن القيد ونفذ قضاؤه بشهادتهما ظاهرًا وباطنًا.

قلت: فعلى هذا كان قوله: "وذلك مثل قول علمائنا" في تشبيه أن شهود العلة إذا كانوا كذبة في شهادتهم يضمنون لما أتلفوا بشهادتهم والكذب منهم يظهر إما برجوعهم عن شهادتهم أو بظهور المشهود به على خلاف ما شهدوا، وهاهنا ظهر كذبهم بظهور المشهود به على خلاف ما شهدوا به فيضمنون عند أبي حنيفة- رحمه الله- لذلك، فكان قوله: "وذلك مثل قول علمائنا" إشارة على قوله: "إن الضمان على شهود اليمين"؛ لأنهم شهود العلة. هذا على تقرير "المبسوط" على ما ذكرت، وأما على تقرير هذا الكتاب فكان قوله: "فأما إذا سلم الشرط عن معارضة العلة صلح علة"، فكان ضمان الشاهدين عند أبي حنيفة- رحمه الله- باعتبار أن صاحب العلة وهو المولى بيمينه لما لم يصلح لإيجاب الضمان عليه ضمن صاحب الشرط وهو الشاهدان اللذان أثبتا شرط العتق بشهادتهما إن القيد عشرة أرطال. وقوله: (فوقع العتق بحل القيد) والحل كان بأمر القاضي فلا يكون موجبًا للضمان. وقوله: (وهذان الشاهدان أثبتا شرط العتق) من تتمة قول أبي حنيفة

رحمه الله- وقوله: "ومع ذلك ضمنا" أي على قول أبي حنيفة رحمه الله. وقوله: (لا تصلح لضمان العتق وهو يمين المولى) إما لأنهما مباحة فلا تصلح سببًا للضمان، أو لأن الإنسان لا يضمن لنفسه، أو لأنه تصرف في ملكه. (وفي مسألة رجوع الفريقين) أي شهود التعليق وشهود وجود الشرط (إيجاب كلمة العتق) وهو قول المولى: أنت حر إن كان كذا، وهما أثبتا تلك الكلمة زورًا فكان الضمان عليهما حيث أثبتا العتق فلا ضرورة في خلفية الشرط (فيكون حفر البئر إزالة للمانع) فصار كوجود الشرط بدخول الدار مثلًا

فإنه إزالة للمانع فكذا هنا، (ولهذا لم تجب على حافر البئر كفارة) هذا الإيضاح أن حافر البئر صاحب شرط لا صاحب علة. (فمن قسم الأسباب التي جعلت عللا) لأنها طرق إلى التلف وليست بشروط؛ لأنها لم تكن إزالة مانع للعلة بخلاف حفر البئر ونحوه، فإنه إزالة للمانع لا طريق مفض إلى التلف سابقا عليه، ففي كلتا الصورتين يجب الضمان، (وعلى هذا) الأصل وهو إقامة الشرط مقام العلة عند عدم إمكان الإضافة إلى العلة.

(وإن كان التغيير بطبع الأرض والماء والهواء) يعني ا، تغير المغضوب في يد الغاضب موجب للضمان عليه إذا كان بفعل الغاضب، وهنا وإن لم يوجد فعل مغير منه لكن وجد شرط التغير، وهو الإلقاء في الأرض فأقيم مقام العلة. (لكن العلة) أي العلة هنا لحصول الخارج من البدن قوة الأرض والماء والهواء وهي (مسخرة) بتقدير الله تعالى لا اختيار لها، فلم يصلح لإضافة الحكم إليها، والإلقاء الذي هو شرط جامع بين هذه الأشياء أعني الحب والأرض والهواء والماء فجعل العلة خلفا عنها في الحكم، وبهذا الطريق يصير الزرع كسب الغاضب مضافًا على عمله فكان مملوكا له فكان هذا كالواقع مع الحافر، فإن الثقل الذي هو علة لما لم يصلح لإضافة الضمان إليه أضيف إلى حفر الحافر الذي هو شرط خلفا عنه فكذا هنا. (فجعل للشرط حكم العلل) أي في حكم الضمان؛ حيث الضمان إلى صاحب الشرط كما يضاف إلى صاحب العلة.

(غير منسوب إليه) أي إلى الشرط لئلا يكون في معنى العلل (وأن يكون سابقا عليه) أي على الفعل الاختياري ليكون في معنى السبب. وقوله: (باتفاق أصحابنا) إنما قيد به احترازًا عن مسألة فتح باب القفص حتى طار الطير أو باب الإصطبل فخرجت الدابة فإن فيه خلافًا بين أصحابنا فقال محمد- رحمه الله-: فيه بالضمان. (إزالة للمنع)؛ لأن إباقة إنما صار علة التلف بعد الحل. (فالسبب مما يتقدم) أي على العلة، (والشرط مما يتأخر) أي عن العلة. (ثم هو سبب محض) فلا يمكن إضافة الحكم إليه؛ لأن السبب المحض لا يضاف إليه الحكم بل الحكم وهو تلف المالية مضاف إلى ما اعترض عليه من

العلة دون ما سبق إلى السبب. (وكالدابة) تجول بعد الإرسال، فكذلك هذا أي يصلح فعل البهيمة قاطعا لفعل الفاتح حتى لا يجب الضمان على فاتح القفص. وكذلك صيد الحرام إذا خرج من الحرم يعتبر فعله في قطع الحكم وهو الحرمة الثابتة له بسبب الحرم ولما كان فعل الدابة يعتبر في الجملة اعتبر هنا في حق قطع الفتح عن الفاتح حتى لا يجب الضمان على الفاتح بخلاف من فتح فم زق الدهن أو غيره حتى تلفت ماليته بسيلانه كان على الفاتح الضمان؛ لأن السيلان ليس بفعل البهيمة حتى يصلح قاطعا لفعل الفاتح.

وقوله: (ولهذا قلنا فيمن حفر بئرا) متصل بقوله: "لأن الإلقاء هو العلة وقد صلح لإضافة الحكم إليه" (أن العلة صالحة لإضافة الحكم إليها) لكون

ذلك الفعل اختياريا فلا ضرورة في جعل الشرط خلفا عنه؛ لأنه ضروري فلا يصار إليه إلا عند الضرورة. (ووجب المصير في لاضمان العدوان إلى محض القياس) وهو عدم وجوب الضمان على المشلى؛ لأن ما وجد منه من الإشلاء سبب قد اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إلى ذلك السبب، فإنه لا يكون سائقا بمجرد الإشلاء، ومع الشك في السبب الموجب للضمان لا يجب الضمان بحال. وحاصل الفرق بينهما ما ذكره في "الهداية" في باب جناية البهيمة: إن البهيمة مختارة في فعله ولا تصلح نائبا عن المرسل فلا يضاف فعله إلى غيره

هذا هو الحقيقة، إلا أن الحاجة مست في الاصطياد فأضيف إلى المرسل؛ لأن الاصطياد مشروع ولا طريق له سواه ولا حاجة في ضمان العدوان. وذكر الفقيه أبو الليث- رحمه الله- إذا أرسل كلبًا فأصاب في فوره إنسانا يضمن المرسل وإن لم يكن سائقا له؛ لأنه إذا أرسله وإن لم يكن خلفه فما دام في فوره فكأنه خلفه. قال الصدر الشهيد- رحمه الله- وعليه الفتوى. كذا في البهيمة في فصل مسائل جناية البهيمة من كتاب الجنايات والحدود. (ولهذا قلنا فيمن ألقى نارًا) يتصل بقوله: "لم يضمن" لأنه صاحب سبب والفعل الموجود بعده غير مضاف إليه؛ لأن هبوب الريح بعدما ألقى النار في الطريق غير مضاف إلى الملقي، وكذلك لدغ الحية بعد ما تحركت بخلاف ما إذا أحرقت قبل الوقوع على الأرض وقبل التحرك؛ لأنه مضاف إليه تسبيبًا فيضمن.

(وأما الذي هو شرط اسما لا حكما فإن كل حكم تعلق بشرطين فإن أولهما شرطا أسما لا حكمًا) فإن قلت: ما الفرق بين الشرط وبين العلة في مثل هذه الصورة، فإن الحكم إذا تعلق بوصفين لم يكن الوصف الأول هناك علة اسمًا بل كان هو شبهة العلل على ما ذكر فيه بقوله: "وأما الوصف الذي له شبهة العلل" إلى أخره. وأما الشرط في مثل هذه الصورة فكان الوصف الأول شرطًا اسما. قلت: إنما كان هكذا؛ لأن لكل من الوصفين هناك نوع تأثير. ألا ترى أنه كيف صرح به بقوله: فكل حكم تعلق بوصفين مؤثرين ولما لم تتم العلة إلا بهما لم يكن كل واحدة منهما علة بانفراده، فكان شبهة العلل باعتبار تأثيره ولم يكن علة لعدم تمام ركن العلة بخلاف الشرط، فإنه يتم شرطًا بانفراده وإن لم يثبت الحكم إلى وجود شرط أخر. وحاصل ذلك راجع إلى أن اجتماع شروط كثيرة جائز في حق حكم واحد وجوده، كجواز الصلاة مثلا يتوقف على شروط كثيرة، وكل شرط.

منها تام في كونه شرطًا وإن لم يثبت الحكم عنده وليست العلة كذلك؛ لأنه مستحيل أن يثبت الحكم الواحد في حالة الوجود بعلل كثيرة جمعًا، والمعنى فيه أن العلة هي المؤثرة في وجود الحكم، فلما وجد الحكم بواحدة منهما كان وجوده ثانيًا محالا بأخرى منها. وأما الشرط فليس بمؤثر في وجود الحكم؛ بل الحكم يوجد بالعلة عند وجود الشرط فيصح اجتماع الشروط، فكان كل شرط تامًا في كونه شرطًا، فصح إطلاق اسم الشرط على كل واحد من الشرطين بدون الأخر، ولم يصح ذلك في العلل لما ذكرنا أن المؤثر إحداها التي تسبق منها لا الجميع، ثم إذا لم يتم ركن العلة إلا بوصفين مؤثرين لم يكن كل واحد منهما علة تامة، فلم يكن على أسما. ولكن كان شبهة العلل باعتبار تأثيره لا عند وجود الوصف الأخر ثبوت الحكم بهما، فكان كل واحد منهما مؤثرًا في وجود الحكم، لكن لما لم يتم ركن العلة بوجود الوصف الواحد لم يثبت الحكم بوجوده، فكان هو بانفراده مشابها للعلة لا علة تامة فسمي شبهة العلل لذلك. (لأن الملك شرط عن وجود الشرط لصحة وجود الجزاء لا لصحة وجود الشرط)؛ لأن الشرط يصح وجوده وإن لم يوجد الحكم عنده على ما

ذكرنا. وأما الملك فشرط لصحة نزول الجزاء، ولهذا لو دخلت الدارين بعد زوال الملك، فإنه يوجد الشرط وتنحل اليمين لا إلى جزاء حتى لو نكحها بعد ذلك ودخلت الدارين لم تطلق، وهذا لأن الملك لو اعتبر عند وجود الشرط إنما يعتبر لبقاء اليمين ولا حاجة إلى بقاء الملك لبقاء اليمين؛ لأن اليمين تبقى بدون بقاء الملك؛ لأن محل اليمين الذمة، فكانت باقية ببقاء محلها من غير أن يشترط فيه الملك في المحل، ولهذا لو أبانها وانقضت عدتها، فإنه تبقى اليمين ما لم يوجد الشرط وإن عدم الملك، وهو معنى قوله: (ولم يجز شرطه لبقاء اليمين كما قبل الشرط الأول)، فإن اليمين تبقى قبل الشرط الأول بدون بقاء الملك، فكذا بعد الشرط الأول، وهذا لأن الملك في المحل إنما يشترط لنزول

الجزاء أو لصحة الإيجاب، وفي الشرط الأول لا يثبت واحد منهما فلا يشترط بقاء الملك عند وجوده. (لأن حكم الشرط أ، يمنع انعقاد العلة إلى أن يوجد الشرط) قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- وحد الشرط مل يمنع ثبوت حقيقة بعد وجودها صورة إلى وجوده، كما في تعليق الطلاق بدخول الدار والزنا موجب للعقوبة، ولا يمتنع ثبوت الحكم به إلى وجود الإحصان. كيف لو وجد الإحصان بعد الزنا لا يثبت بوجوده حكم الرجم، فعرفنا أنه غير مضاف إليه وجوبًا به ولا وجودًا عند وجوده، ولكنه معرف، فبظهوره

يعرف أن الزنا حين وجد كان موجبًا للرجم فكان علامة. (أن مولاه أعتقه) أي أن مولاه الكافر أعتقه (فأنكر العبد والمولى ذلك) أي الإعتاق، وهذا في الأمة ظاهر. وأما في الغلام فعلى قولهما صحيح أيضا، وفي قوله أبي حنيفة- رحمه الله عليه- يشترط الدعوى من العبد فلا تقبل الشهادة على العتق عنده فب العبد. (فهلا قبلت هذه الشهادة؟) يعني جرا قبول كرده نه شد اين كواهي دادن كافر بر كافر به اين ك هوي خوي شرا أزاد كرده است كه اين بنده مسلمانست در اثبات رجم وهم جنانكه بكواهي دادن زن عند الاختلاط احصان مرد ثابت مي شود در حق رجم با انكه كواهي زن را مدخل نيست در إثبات حدود.

يعني ينبغي أن يتمكن الإمام من إقامة حد الرجم علة هذا العبد بسبب ثبوت العتق بشهادة الكافرين عليه، وإن لم تقبل شهادة الكافر على المسلم في جميع الصور، كما يثبت إحصان الرجم بشهادة النساء حتى يتمكن الإمام من إقامة حد الرجم بشهادة النساء في حق الإحصان، مع أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود في جميع الصور؛ لما إن إقامة الحد غير مضافة إلى الإحصان لا وجوبًا به ولا وجودا عنده؛ لأن هذه الشهادة أعني شهادة الكافرين على عتق العبد المسلم ليست بشهادة على العبد بل شهادة على مولاه الكافر بزوال ملكه حتى ثبت عتقه على مولاه بهذه الشهادة بالإجماع، فيجب أن يثبت أيضا في حق الرجم. فأجاب عنه بقوله: (والجواب عنه أن لشهادة النساء) إلى أخره. على وجه يقع به الفرق بين شهادة النساء وشهادة الكفار في حق إثبات إحصان الرجم (أن لشهادة النساء مع الرجال خصوصا في المشهود به دون المشهود عليه) أي أن لشهادة النساء خصوصية في حق المشهود به حتى لا تقبل شهادتين في حق الحدود والقصاص وتقبل في غيرهما ولا خصوصية في حق المشهود عليه حتى قبلت شهادتهن في حق المسلمين والكفار جميعًا، وإن كان في شهادتهن ضرر على المسلم كما في إثبات المال على المسلم وشهادة الكفار على العكس، ثم هاهنا المشهود به هو الإحصان، والإحصان لا تعلق له في إيجاب الرجم، ولا في الإيجاد عنده، فتقبل شهادة النساء في

الإحصان لذلك. وأما شهادة الكفار فتقبل على الكافرين في جميع الصور سواء كانت في الحدود أو غيرها، فدخل الخصوص في شهادة الكفار في حق المشهود عليه أي تقبل في حق الكفار دون المسلمين، ثم لو قبلنا شهادة الكافر بالإعتاق هاهنا في جميع الأحكام لكان شهادة له على المسلم في حق الرجم عليه وذلك لا يجوز، وإن لم يكن الإحصان شرطًا للرجم ولكن له مدخل في الرجم من حيث العلامة، وفيه ضرر على المسلم ولا يجوز أن يثبت الضرر على المسلم بشهادة الكفار بوجه من الوجوه. قال الله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) فيه نفي لجميع وجوه السبل؛ لأن سبيلا نكرة وقعت في موضع النفي. وقوله: (ولكن في هذه الحجة) أي في شهادة الإحصان في الموضعين (تكثير محل الجناية) أي من حيث الجناية على نعمة الحرية في أحد الموضعين، وعلى نعمة إصابة الحلال بطريقة في الموضع الأخر، والجناية تعظم

عند كثرة النعمة. ألا ترى أن الله تعالى كيف ذكر مضاعفة العقوبة على نساء النبي عليه السلام على تقدير إتيانهن بالفاحشة بقوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَاتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) لأن النعم في حقهن دون سائر النساء ضوعفت وتكثرت، فضوعفت العقوبة بمقابلتها عند الجناية لذلك. وإذا ثبت هذا فشهادة النساء تكون حجة على المسلم وإن كان فيها ضرر عليه كما في إثبات الدين عليه، وإنما لا تكون حجة فيما تضاف إليه العقوبة وجوبا به أو وجودا عنده، وذلك لا يوجد في هذه الشهادة اصلًا. وأما شهادة الكفار ففيما يتضرر به المسلم لا تكون حجة أصلًا، فلذلك ثبت العتق بشهادة الكافرين على الكافر ولا يثبت الإحصان للمسلم بالعتق؛ لأن في ذلك ضررًا عليه وإن لم يكن ذلك الضرر واجبًا به أو موجودًا عنده. (وعلى هذا الأصل) أي تفريغ المسألة على أصل أن الشرط الذي هو

علامة (أن شهادة القابلة على الولاة تقبل من غير فراش قائم) أي في المعتدة. وبها صرح في "التقويم" فقال: وكذلك قال أبو حنيفة- رضي الله عنه- إذا ولدت المعتدة وأنكر الزوج الولادة وشهدت القابلة لم يثبت النسب بشهادتها إلا أن يكون الحبل ظاهرًا وكان الزوج أقر بالحبل، أو كان النكاح قائمًا حال الولادة. وعندهما يثبت بالفراش القائم عند العلوق، والولادة شرط ظهور الولد فهذه الولادة في حق النسب علم محض لنسب قد كان. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: إن كان الحبل طاهرًا حال قيام الفراش أو كان الزوج أقر به، فقد وجد علة ثبوت النسب وبالولادة يظهر ولد كان ثابت النسب، فلم يمتنع الظهور لمكان ثبوت الولادة بشهادة المرأة، والنسب يثبت بعلة قائمة وهي النكاح فلا يصير مضافًا إلى شهادتها. فأما إذا لم يكن إقرار ولا حبل ظاهر ولا نكاح قائم فابتداء الوجود في حقنا، إنما يثبت بشهادة المرأة بالولادة؛ لأن ما قبله من الوجود وجود باطن في حق الله تعالى لا سبيل لنا إلى علمه، فيعتبر بالعدم في حقنا كالخطاب النازل من السماء يعتبر عدما في حق من لم يبلغه، وحال البلوغ إليه معتبر في حقه

بابتداء الشرع؛ ليكون التكليف بقدر الوسع فكذا هذا، وإذا كان كذلك كان هذا حكمًا مضافًا إلى الشهادة عند عدم العلة وهي إقرار الزوج وغيره فلم يثبت بشهادة القابلة؛ لأنها ليست بحجة على النسب بحيث يضاف غليها، وكذلك الميراث للولد لا يثبت بشهادة القابلة أنه كان حيًا. وقوله: (فإنما يثبت بالفراش) أي بالفراش السابق الذي كان وقت العلوق (لا يتعلق به وجوب النسب)؛ لأن وجوب النسب إنما كان بالعلوق من مائه. وقوله: (حكما ثابتًا) متعلق بقوله: "كان ثبوت النسب"، وقوله: (في حق صاحب الشرع) وهو الله تعالى لا يحتاج في حقه إلى ان يثبت الحكم بناء على الأسباب الظاهرة بخلاف ثبوت الحكم في حقنا؛ للأنا لم نكلف درك الغيوب، فكان مضافًا إلى الأسباب الظاهرة.

(فيثبت ما كان تبعًا له) أي ما كان تبعا لوجود الولادة، وهو الجزاء المتعلق به من الطلاق والعتاق وثبوت النسب وغيرها. اعلم أن هاهنا مسائل لا بد من تحريرها حتى يتميز فأنت طالق، فقالت: قد ولدت وكذبها الزوج لم يقع الطلاق بقولها بخلاف الحيض؛ لأن الولادة مما يقف عليه غيرها، فقول القابلة يقبل في الولد فلا يحكم بوقوع الطلاق ما لم تشهد القابلة به، والحيض لا يقف عليه غيرها- ولا يقع الطلاق ما لم تشهد القابلة به، والحيض لا يقف عليه غيرها- فلذلك يقبل قولها- فإن شهدت القابلة بالولادة ثبت نسب الولد بشهادتها، ولا يقع الطلاق عند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم يشهد بها رجلان أو رجل وأمرأتان. وعند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- يقع الطلاق بشهادة القابلة؛ لأن شرط الوقوع ولادتها، وقد صار محكوما بها بشهادة القابلة بدليل ثبوت نسب الولد، ولأن شهادة القابلة في حال قيام الفراش حجة تامة في حق النسب وغيره كجريان اللعان وثبوت الحد وأمومية الولد، فكان حجة في حق وقوع الطلاق، يعني إذا ولدت امرأته ولدا فقال الزوج: ليس هو مني ولا أدري أنت ولدته أم لا؟ فشهدت القابلة- حكم باللعان بينهما، ولو كان الزوج حرًا محدودًا في قذف أو عبدًا وجب عليه الحد.

ولو قال لجاريته: إن كان بها حبل فهو مني، فشهدت القابلة على ولادتها صارت أو ولد له. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: شرط الطلاق إذا كان لا يثبت إلا بالشهادة فلابد فيه من شهادة رجلين وامرأتين كسائر الشروط، وهذا لأن شرط الطلاق كنفس الطلاق، وتأثيره أن شهادة المرأة الواحدة ليست بحجة أصلية، وإنما يكتفي بها فيما لا يطلع عليه الرجال لأجل الضرورة، والثابت بالضرورة، والثابت بالضرورة لا يعدو موضعها، والضرورة في نفس الولادة وما هو من الأحكام المختصة، والحكم المختص بالولادة أمية الولد للأم واللعان عند نفي الولد. وأما وقوع الطلاق والعتاق فليس من الحكم المختص بالولادة، بل إنما يقع بإيقاعه عند وجود الشرط، ونسب الولد من الأحكام المختصة بالولادة مع أن النسب عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يثبت بشهادة القابلة، وإنما يثبت يعين الولد. فأما ثبوت النسب فبالفراش القائم، وكون شهادة القابلة حجة في ثبوت النسب لا يدل على أنها تكون حجة في وقوع الطلاق، فكان هذا كقوله: إذا قال لإحدى امرأتيه: إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك- وهذا في صورة الإنكار-. وأما إذا كان الزوج أقر بأنها حبلي ثم قال لها: إذا ولدت فأنت طالق،

فقالت: قد ولدت. فعند أبي حنيفة- رحمه الله- يقع الطلاق بمجرد قولها، وعندهما لا يقع إلا أن تشهد القابلة به؛ لأن الشرط ولادتها، وذلك مما يقف عليه القابلة فلا يقبل فيه مجرد قولها كما في الفصل الأول. ألا ترى أن نسي الولد لا يثبت إلا بشهادة القابلة، وإن أقر الزوج بالحبل، فكذلك فى الطلاق. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: إنه علق وقوع الطلاق ببروز موجود في باطنها فيقع الطلاق بمجرد خبرها. كما لو قال: إذا حضت فأنت طالق، وهذا لأن وجود الحبل بها يثبت بإقرار حبل الزوج، فلما جاءت الآن وهي فارغة وتقول: قد ولدت فالظاهرة يشهد لها أو يتيقن بولادتها وهذا بخلاف النسب؛ لأن مجرد الولادة تثبت بقولها، وليس من ضرورته تعين هذا الولد؛ لجواز أن تكون ولدت غير هذا من والد ميت ثم تريد حمل نسب هذا الولد عليه، فلهذا لا يقبل قولها في تعيين الولد إلا بشهادة القابلة. فأما وقوع الطلاق فيتعلق بنفس الولادة أي ولد كان من حي أو ميت، وبعد إقرار الزوج بالحبل يتيقن بالولادة إذا جاءت وهي فارغة. هذا كله من باب الطلاق من طلاق ((المبسوط)).

(وكذلك قالا في استهلال الصبي إنه تبع للولادة) يعني لو شهدت القابلة بأن المولود استهل بعد الولادة يثبت حياته فى حق الإرث عندهما بطريق ثبوت التبعية للولادة، كما يثبت حياته في حق الصلاة بالاتفاق. وذكر في باب شهادة النساء من شهادات ((المبسوط)). وأما الاستهلال فإني لا أقبل فيه شهادة النساء إلا في الصلاة عليه. وأما في الميراث فلا أقبل في ذلك أقل من رجلين أو رجل وامرأتين، وهو قول أبي حنيفة- رضي الله عنه. وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة عدلة؛ لأن استهلال الصبي يكون عند الولادة وتلك حالة لا يطلع عليها الرجال، وفي صوته عند ذلك من الضعف ما لا يسمعه إلا من شهد تلك الحالة، وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كشهادة الرجال فيما يطلعون، ولهذا يصلى عليه بشهادة النساء، فكذلك يرث. وأبو حنيفة- رضي الله عنه- يقول: الاستهلال صوت مسموع وفي السماع الرجال يشاركون النساء، فإذا كان المشهود به مما يطلع عليه الرجال لا تكون شهادة النساء فيه حجة تامة، وإن وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال

كالشهادات على جراحات النساء في الحمامات، بخلاف الولادة فهي انفصال الولد من الأم، والرجال لا يشاركون النساء فى الاطلاع عليها، وإنما قبلنا ذلك في حق الصلاة عليه؛ لأن ذلك من أمر الدين، وخبر المرأة الواحدة في ذلك حجة تامة في ذلك كشهادتها على رؤية هلال رمضان، بخلاف الميراث فإنه من حقوق العباد, فلا يثبت بشهادة النساء في موضع يكون المشهود به مما يطلع عليه الرجال. وقوله: (فأخذ أبو حنيفة- رضي الله عنه- فيه) أي في استهلال الصبي أي في ثبوت استهلال الصبي في حق الإرث أخذ (بحقيقة القياس) في أن استهلاله لا يثبت في حق الإرث بمجرد شهادة القابلة بل حجة كاملة وهي شهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وقوله: (إن الوجود من أحكام الشرط) أي وجود الحكم، وإذا كان الحكم بالشرط وجودا (فلا يثبت) الشرط في حق الحكم (إلا بكمال الحجة) وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين كما في وجود الشرط بدخول الدار، (والولادة) لم تثبت بشهادة القابلة مطلقا، بل تثبت من وجه دون وجه كتعليق طلاق المخاطبة وضرتها بحيض المخاطبة، ثم قالت المخاطبة: حضت يثبت حيضها في حق حكم مخصوص بالمخاطبة وهو طلاقها لا طلاق ضرتها.

فكذلك هاهنا أثبتنا حكم الولادة فيما يختص بها دون ما لا يختص بها، فثبوت النسب وجريان اللعان وأمومية الولد مما يختص بالولادة، فيثبت وقوع الطلاق والعتاق، والتوريث مما لا يختص بها فلا يثبت، وهو معنى قوله: (فلا يتعدى إلى التوابع) أراد بالتوابع ما ذكرنا من وقوع الطلاق والعتاق والتوريث. (لا ترد على البائع وإن كان قبل القبض) مع أن الرد قبل القبض يشبه الامتناع من القبول؛ لأن القبض يشبه العقد ومع ذلك لا يرد بشهادتها، وكذلك لا يرد بعد القبض؛ لأن ذلك يكون نقضا للبيع لا امتناعا، فلما لم يتمكن بشهادتها من الامتناع لم يتمكن من نقضه بالطريق، والله أعلم.

باب تقسيم العلامة

باب تقسيم العلامة (فما يكون علما على الوجود) أي يكون هو دلالة الوجود فيما كان موجودا قبله كما في علم الثوب، وعلم العسكر. (على ما قلنا) أي في بيان الشرط الذي هو علامة، (وقد تسمى العلامة شرطا) من حيث إن كل واحد منهما دال على وجود الحكم. (فصارت العلامة نوعا واحدا) وهو ما كان علما على الوجود من غير أن يتعلق به وجوب الحكم ولا وجوده عنده.

(بل هو معرف) أي العجز معرف لذلك القذف بأنه كبيرة من حين وجد لا أن يصير كبيرة عند العجز، إلا أنه يحتمل أن يكون صادقا، فلذلك وجب التأخير إلى زمان يتمكن فيه من إثباته، فإذا عجز ظهر أنه حين وقع وقع كبيرة. (فيكون سقوط الشهادة سابقا عليه) أي على العجز؛ (لأنه أمر حكمي)؛ أي لأن سقوط الشهادة أمر حكمي أي حكمه شرعي، والحكم الشرعي جاز أن يتوقف كالعقد الموقوف على الإجازة، فإذا أجير العقد استند الحكم إلى السبب حتى تكون الأكساب الحاصلة قبل الإجازة للمشتري، فكذلك سقوط الشهادة أمر شرعي يتوقف على العجز عن إقامة البينة، فإذا كان العجز معرفا سقوط الشهادة سابقا على العجز تسقط الشهادة بنفس القذف، حتى إذا شهد القاذف في حادثة قبل العجز عن إقامة البينة، ثم ظهر العجز لم تقبل شهادته في تلك الحادثة عنده.

أما الجلد عنده ففعل حسي فلا يمكن أن يثبت الجلد بعد العجز مستندا إلى وقت القذف؛ بل يكون بعد العجز لا محالة، فلا يتصور وجوده قبله، (وذلك أن القذف كبيرة) بنفسه لما أنه إشاعة الفاحشة (وهتك) لستر عفة (المسلم). (والأصل في المسلم العفة)؛ لوجود ما يمنعه من الفاحشة وهو العقل والدين، والعمل بالأصل واجب ما لم يوجد دليل أقوى منه يترك به الأصل، فكان الدليل موجودا بكون القذف كبيرة في الحال لرجحان جهة الكذب بالأصل الذي ذكرنا، فتسقط شهادته بنفس الكبيرة كما في سائر الكبائر. وقوله: (هذه الجملة) أراد بها قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)). وحاصله أن العجز شرط للجلد وسقوط الشهادة، والمتعلق بالشيء لا يسبقه لما أن الثابت بالكتاب الجلد ورد الشهادة، وكل منهما فعل ذكر جزاء لفعله. ألا ترى أن الكل مفوض إلى الإمام، فكان جزاء، والجلد مرتب على

العجز ورد الشهادة عطف عليه فكان هو مرتبا على العجز أيضا لا محالة ولما كان كذلك كان سقوط الشهادة حكما لرد الشهادة الذي يحصل من فعل الإمام لا أن يكون حكما للقذف؛ لأنه لو كان حكما للقذف لما صح تفويضه إلى الإمام. (وإذا كان كذلك لم يصلح) أي العجز لم يصلح أن (يجعل معرفا، وأصل ذلك) أي وأصل ما قلنا أن العجز لا يصلح أن يكون معرفا؛ (لأن البينة على ذلك مقبولة) أي على فعل الزنا مقبولة. (الحسبة): اسم للاحتساب، مزد حشم داشتن از نزد خداي تعالى بمقابلة فعل, وقيل: الحسبة الأجر. (في إقامة حد الزنا) وإقامة حد الزنا حق من حقوق الله تعالى خالصة، والساعي في إقامته محتسب مقيم حق الله تعالى.

وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله- وكيف يكون نفس القذف كبيرة وقد تتم به الحجة موجبا للرجم، فإن الشهود على الزنا قذفه في الحقيقة، ثم كانت شهادتهم حجة لإيجاب الرجم، فعرفنا أن ما ادعاه الخصم من المعنى الذي يجعل به نفس القذف مسقطا للشهادة ما لا يمكن تحقيقه. (لكنه لم يصلح علة للاستحقاق) أي لاستحقاق رد شهادة القاذف؛ لأن الأصل يصلح دافعا مثبتا كاليد الثابتة على العين، فإنها دافعة يد الغير لا مثبتة للملك. (ولو صلح لذلك) أي ولو صلح الأصل مثبتا لاستحقاق رد شهادة القاذف (لما قبلت البينة) على الزنا (أبدا)، وهذا لأن البينة وإن كانت أقوى من الأصل الذي هو العفة، لكان هذا الأصل شبهة في ثبوت الزنا فلا تقبل البينة، وحيث قبلت بالإجماع دل أن الأصل لا يصلح موجبا. وقوله: (لكن الإطلاق) متعلق بمحذوف وهو: أن القذف ليس بكبيرة بدلالاة قوله: ((فكيف يكون كبيرة)) أي أن القذف في نفسه ليس بكبيرة لكن تجويز القذف مقيد (بشرط) طلب (الحسبة) أي الأجر والثواب من الله تعالى بقذفه ذلك؛ لأن الخبر بقوله: هو زان- خبر متميل بين الصدق والكذب،

والإطلاق له إنما يصح إذا اختار الحسبة حتى لو كان ذلك عن ضغينة لا يحل له ذلك وإن كان صادقا، ثم اختيار الحسبة إنما يعلم إذا كان له شهود حضور، فوجب تأخير القاذف إلى ما يتمكن به من إقامة الشهود وهو الزمان الذي يرى الإمام تقديره، وإذا لم يتمكن منه في ذلك الزمان وظهر عجزه فقد وجد الشرط فيترتب عليه الجزاء لرجحان الكذب على الصدق. (ثم لم يؤخر حكم قد ظهر) أي قد ظهر حكم وهو حد القذف بالجلد ورد الشهادة عند وجود شرطه وهو العجز عن إقامة البينة بسبب ما يحتمل وجود البينة بعد ذلك. فإن قيل: ينبغي أن يؤخر هذا الحكم وهو إقامة حد القذف إلى آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن عدم الإتيان بأربعة شهداء شرط إقامة حد القذف، والعدم لا يتحقق ما لم يمت كما في قوله: إن لم آت البصرة فهو كذا وهو معروف. قلنا: الشرط عدم الإتيان بالشهود في الحال إذ لو لم يكن كذلك لخلا قوله: ((فَاجْلِدُوهُمْ)) عن الفائدة؛ لأنه بعد ما مات لا يمكن الجلد ولا رد الشهادة، وكان هذا كقوله تعالى: ((فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ))، وقوله:

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)، فإن فيهما عدم وجود المال في الحال لا العدم المستغرق للعمر، فكذا هنا. (فإذا أقيم عليه الحد ثم جاء ببينة يشهدون بالزنا قبلنا وأقمنا الحد على المشهود عليه) وهو المقذوف، (وأبطلنا عن القاذف رد الشهادة) وقبلنا شهادته بعد ذلك، لأن سقوط الشهادة ثبت بحسب عجزه، فإذا قدر على إقامة الشهود علم أنه لم يكن عاجزًا. (كذا ذكره في "المنتقى") في رواية لا تقبل شهادته؛ لأن من ردت شهادته في حادثة لم تقبل شهادته بعد ذلك أبدًا، كالفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته لفسقه، ثم تاب يشهد في تلك الحادثة لم تقبل شهادته بعد ذلك

فيها أبدًا فكذلك ها هنا، (وإن كان تقادم العهد) قيل هو ستة أشهر (لم نقم الحد على المشهود عليه، وأبطلنا رد الشهادة عن القاذف) كل ذلك للشبهة، فصار هذا بمنزلة من ادعى السرقة على الغير وأقام البينة رجلًا وامرأتين يثبت المال ولا يجب الحد، فكذلك ها هنا لا يثبت حد الزنا ولكن تقبل شهادة المحدود في القذف. وقوله: (غير فصل التقادم) أي لم يذكر في "المنتقى" مسألة التقادم وهي قوله: وإن كان تقادم العهد لم يقم الحد على المشهود عليه وذكر غيرها فيه ويتصل بهذه الجملة.

باب العقل

باب العقل أي يتصل بالجملة التي ذكرناها من أول الكتاب إلى هذا (باب العقل)، فوجه الاتصال هو أن إثبات مساواة حكم العام بحكم خاص بدليل الاجتهاد وهو محتاج إلى العقل، وكذلك لإثبات قطيعة أحكام الظاهر والنص والمفسر والمحكم مع تفاوت في القوة والضعف فيما بينها، ولباب القياس في التفرقة بين العلل الطردية والمؤثرة ووجوه القياس والاستحسان، ولمعرفة السبب والعلة والشرط والعلامة وأحكامها لم يكن بد من العقل، فكان بابه متصلًا بهذا لهذه المناسبة، فكان قوله: "بهذه الجملة" إشارة إلى ما ذكر في أول باب معرفة أقسام الأسباب والعلل بقوله: "جملة ما يثبت بالحجج التي سبق ذكرها" إلى آخره.

وقال الإمام اللامشي -رحمه الله- بعد ما ذكر الأقوال المختلفة في حد العقل: والصحيح أنه جوهر يدرك به الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. (فوق العلل الشرعية)؛ لأن العلل الشرعية أمارات في الحقيقة لا موجبات بذواتها، فيصح تخلف أحكامها لمعنى بعد وجود العلة بتمامها كبقاء صوم الناسي لأكله، وعدم ثبوت حكم البيع في البيع بشرط الخيار بخلاف العلة العقلية، فإن وجود الكسر ولا تخلف الانقطاع بعد وجود القطع. (ولا عذر في الوقف عن الطلب) أي طلب الحق.

(أنه من أهل النار) لوجود ما هو الموجب للإيمان وهو العقل. (حتى أبطلوا إيمان الصبي) لعدم ورود الشرع، ولا عبرة لعقله لعدم تكليف الشرع عليه، فصار إيمانه كإيمان صبي غير عاقل، (وهذا الفصل أعني أن يجعل شركه معذورًا) بسبب أن عقل الصبي العاقل غير معتبر، فكان شركه كلا شرك. (تجاوز عن الحد) أي عن حد طرف عدم اعتبار العقل، (كما تجاوزت المعتزلة عن الحد في الطرف الآخر) وهو طرف اعتبار العقل على وجه كان

الصبي مكلفًا بالإيمان قبل البلوغ، وكلا طرفي المر ذميم، وخير الأمور أوساطها، ودين الله تعالى بين الغلو والتقصير. (وهو من أعز النعم)؛ لأن الإنسان به يمتاز من سائر الحيوان وبه يتمكن من معرفة الصانع ومن الوقوف على الأحكام التي لم يرد الشرع بها بالتنصيص، وبه يتوصل إلى السعادة الأبدية والنعم السرمدية. (يضيء به الطريق) الباء في به للسببية لا للتعددية- (الذي مبدؤه من حيث ينقطع إليه اثر الحواس)، يعني أن العاقل إذا نظر إلى محسوس أدرك بحسه ما هو محسوس، فإذا انقطع أثر حسه عن درك ما غاب عن الحس يبتدئ طريق درك الغائب الذي هو محسوس، وهذا إنما يتأتى فيما له صورة محسوسة. وأما في موجود لا يحس أصلًا إنما يبتدئ طريق العلم من حيث يوجد كالعلم مثلًا أنه لا يحس ويحتاج فيه إلى أن العلم معنى راجع إلى ذات العالم أو راجع إلى غير ذاته؟ وكذلك في غيره.

(ثم هو عاجز بنفسه)؛ لأنه آلة العمل وآلة العمل بدون العالم غير مفيدة. (وما بالعقل كفاية بحال) أي بدون إعانة الله تعالى والتأمل والتجنب عن الهوى والبدع، فكان العقل معتبرًا؛ لأنه لا يتمكن الإنسان من الوصول إلى معرفة الصانع إلا به، وهو سبب الأهلية، ولم يكن موجبًا للأحكام بذاته. (ولذلك قلنا) أي ولأجل أن العقل غير موجب بذاته، بل بإيجاب الله تعالى وما به كفاية بحال، قلنا: (إن الصبي لا يكلف بالإيمان)؛ لأن الله تعالى لم يكلف الصبي شيئًا من العبادة. قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم"، والإيمان رأس العبادات فلم يكن مكلفًا به إلا أنه إذا آمن بالله تعالى وهو عاقل يقع عن الفرض مع أنه غير مخاطب به كصوم المسافر وجمعته، لما أن الإيمان بعد

الوجود بحقيقته لم يقع نفلًا في حق شخص ما البتة، بل يقع فرضًا يقال: صبي مراهق أي مدان للحلم، من رهقه: دنا منه، ومنه: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليرهقها" (حتى إذا عقلت المراهقة ولم تصف) أي دينًا من الأديان لا الإسلام، ولا الكفر أي ولم تقر به، (لم تجعل مرتدة ولم تبن من زوجها). فإن قلت: التوقف فيما يجب الإيمان به كفر، وترك وصف الإسلام أي وترك الإقرار به وإباء الإسلام عند العرض عليه كفر وارتداد من المبالغة، فلم لم يجعل من العاقلة ارتدادًا مع أن ارتداد العاقلة صحيح لما ذكر بعد هذا بقوله: "ولو عقلت وهي مراهقة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها". قلت: إنما لم يجعل الإقرار بالإسلام من المراهقة العاقلة ارتدادًا لبقاء تبعية

أبويها المسلمين بسبب بقاء وصف الصبي، ثم لما بلغت خرجت لاستبدادها بنفس البلوغ، فحينئذ كان ترك الإقرار بالإسلام، ارتدادًا مها، لكونها مخاطبة بالإيمان وعدم بقاء التبعية. بخلاف ما قبل البلوغ فإنها لما لم تكن مخاطبة بنفسها بطريق الاستبداد بقيت تبعية أبويها، فجعلت مسلمة بإسلام أبويها بخلاف ما إذا صرحت بالإقرار بالإسلام أو بالكفر وهي مراهقة عاقلة حيث تخرج عن تبعية أبويها بالتصريح بالإقرار بالإسلام عن عقل، أو بالتصريح بالردة عن عقل لضرورة الحكم بصحة إيمان الصبي العاقل وصحة ارتداده، وحصل من هذا أنه وقع الفرق بين التصريح بالردة وبين ترك الإقرار بالإسلام في حق المراهقة العاقلة حيث جعل الأول كفرًا ولم يجعل الثاني كفرًا، لإمكان بقاء تبعية أبويها المسلمين لبقاء معنى الصبي فيما لم تصرح بالإفراد بالكفر لعدم الخطاب. بخلاف البالغة حيث يجعل كلاهما كفرًا لوجود الخطاب في حقها. وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله في "الجامع الكبير": إذا أراد الزوج أن يستوصفها لا ينبغي له أن يقول لها: صفي الإسلام، فإنها تعجز عن ذلك وإن كانت تحسنه حياء من زوجها، ولكن يصف بين يديها ويقول: هذا اعتقادي وظني بك أن تعتقدي هذا، فإن قالت: نعم، كفى ذلك، فكانت مسلمة حلالًا له، وإن قالت: لا أعرف شيئًا مما تقول، فلا نكاح بينهما جينئذ، ولم يبين في الكتاب قدر ما يحتاج أن يصف بين يديها أو يستوصفها.

قالوا: والأصل فيه حديث سؤال جبريل عليه السلام، وجواب رسول الله عليه السلام، وذلك حديث معروف. وقوله: (ولو عقلت وهي مراهقة فوصفت الكفر كانت مرتدة وبانت من زوجها) أي على قول أبي حنيفة ومحمد -رحمه الله-. وأما على قول أبي يوسف -رحمه الله- لا تكون مرتدة ولا تبين من زوجها؛ لأن ارتداد الصبي لا يصح عنده، وذكر ذلك في "الجامع الكبير" أي في الباب السادس من نكاح "جامع الكبير". (وكذلك يقول في الذي لم تبلغه الدعوة أنه غير مكلف بمجرد العقل) أي البالغ الذي لم تبلغه الدعوة إنما لم يكلف بمجرد العقل إذا لم يصادف مدة يتمكن فيها من التأمل والاستدلال ومعرفة الخالق، بأن بلغ على شاهق الجبل أو في دار الحرب فمات من ساعته من غير أن يصف إيمانًا ولا كفرًا كان

معذورًا، وهو كالصبي العاقل إذا لم يقر بالإسلام ولا بالكفر. (وأما إذا أعين بالتجربة وأمهل لدرك العواقب) يعني بعد البلوغ فهو مكلف بالإيمان لم يعذر في الجهل بالصانع لما أنه رأى أبنية كثيرة من السماء والأرض والجبال والأشجار والنبات. وألهم أن البناء لا يوجد بدون الباتي، فوجب عليه الاستدلال بها، إذ البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهذا الهيكل العلوي والمركز السفلي أما يدلان على صانع خبير!!! لأنه (قد استوفى مدة التجربة والامتحان)؛ لأنه صار بحال يصلح جدًا على ما ذكرناه في "الوافي" فلم يبق من أثر صباه شيء، فلابد أن يزداد فيه

نوع رشد وهو الشرط لدفع المال إليه، قال الله تعالى: (فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ). ذكره منكرًا. (وليس على الحد في هذا الباب دليل قاطع) أي في حد مدة التجربة دليل قاطع حتى يخرج المكلف بها من أن يكون معذورًا؛ إذ ذلك يختلف باختلاف العاقل، فرب عاقل يهتدي إلى التجربة في زمان قليل، ورب عاقل لا يهتدي بل يحتاج إلى زمان كثير، فلذلك لم يكن في تقدير المدة فائدة. (سوى أمور ظاهرة نسلمها له) أي سوى الأمور الظاهرة التي يحكم العقل بثبوتها كحسن شكر المنعم وحسن العدل والصدق والإحسان وقبح كفران المنعم والظلم والكذب أي في هذه الأشياء نسلم لمن جعل العقل حجة موجبة على وجه يمتنع ورود الشرع بخلافه بأن العقل يوجب أن يكون هذه الأشياء على هذه الصفات، لكن لا يكون إيجاب العقل بحكمه في هذه

الأشياء بهذه الصفات حجة لمن جعل العقل حجة موجبة فيما ادعاه من الحكم، بأن العقل حجة موجبة في جميع الأشياء؛ لأن العقل كما يوجب أن يكون هذه الأشياء على هذه الصفات، كذلك الشرع يوجب ذلك أيضًا، قال تعالى: (وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ). وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، ويدخل تحت ذكر الفحشاء والمنكر كل ما يستقبحه العقل والشرع. وكذلك من كان في مغارة فتصدى له طريقان للوصول إلى المقصد، أحدهما يخاف فيه المهالك والآخر لا يخاف فيه المهالك، فالعقل يحكم بالسلوك في هذا الطريق الذي لا يخاف فيه المهالك وكذلك الشرع. قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). فعلم بهذا أنه لا دليل له على أن العقل موجب بذاته حسن ما هو حسن وقبح ما قبيح، بل الموجب هو الله تعالى في الحقيقة. ألا ترى أن الله تعالى لم يخل زمانًا من الشرع، قال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)؛ وهذا لأن من المشروعات ما لا يدركه العقل أصلًا

مثل المقدرات من أعداد الركعات ومقادير الزكوات والحدود وغير ذلك. علم بهذا كله لا العقل لا يصلح أن يكون موجبًا بنفسه، لا لأصل شيء ولا لصفته. (إذا قتلوا ضمنوا) أي يصيرون مضمونين، (فجعل كفرهم عفوًا)، حيث جعلهم كالمسلمين في الضمان. (ومن كان فيهم من جملة من يعذر) أي في الكفار الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام من كان معذورًا في ترك الإيمان بأن بلغ في الحال ولم يجد مدة الإمهال والتجربة أو كان صبيًا، فإن كلا منهم لم يستوجب عصمة النفس والمال عندنا ما لم يحرز نفسه وماله بدار الإسلام وعنده استوجب ذلك بدون الإحراز بدار الإسلام. وقوله: (وذلك) إشارة إلى قوله: فلا دليل له أيضًا، (فإنما يلغيه بطريق دلالة الاجتهاد) لأنه إذا لم يجد في الشرع دليلا على مذهبه فلا بد له من أن

يستدل عليه من دليل العقل، نحو أن يقول مثلًا: نفس العقل غير معتبرة في أن يكون العبد مكلفًا بالإيمان والشرائع كالصبي العاقل، فإن له أصل العقد ومع ذلك لم يخاطب بشيء، لأن الشرع لم يرد به. (فيتناقض مذهبه)؛ لأنه نفى اعتبار العقل بالعقل فكان نافيًا ما أثبته مثبتًا ما نفاه، (وأن العقل لا ينفك عن الهوى) يعني أن العقل معتبر، لأن من ألغاه متناقض ولكن مع كونه معتبرًا ليس هو بحجة بذاته وليس بمستغن بنفسه. (وإنما يستوجب نسبة الأحكام إلى العلل) إلى آخره، جواب سؤال مقدر وهو أن يقال: لو لم يكن العقل حجة موجبة بنفسه للأحكام لما أضيفت الأحكام الشرعية الثابتة بالاجتهاد والقياس إلى العقل حيث يقال: هذا الحكم ثابت بالقياس والقياس إنما يكون بالعقل، وكذلك في العلل العقلية كثبوت الانكسار بالكسر والانقطاع بالقطع، كما تضاف الأحكام الثابتة بالعلل الثابتة بالنصوص إلى عللها. قلنا: إن إيجاب الله تعالى غيب عنا، فأقام الأسباب الظاهرة مقام إيجابه الغيبي تيسيرًا على العباد لا أن تكون الأسباب والعلل موجبة بنفسها، فكانت إضافة إلى الأسباب والعلل الظاهرة باعتبار جعل الله تعالى إياها عللًا لا أن تكون هي نفسها عللًا والعقل آله لمعرفة تلك العلل لا موجب للأحكام. (وأن يجعل العقل علة بنفسه) هذا كلام ابتدائي خرج جوابًا لقول المعتزلة بأن العقل علة بنفسه موجبة لما استحسنه .... إلى آخره.

(وهو باطن) أي والحال أنه شيء، وإنما قلنا أنه شيء باطن لأنه لا بد أنتجعل قضايا العقل متحدة حتى يرتب عليها حكم واحد كما في سائر الأسباب الظاهرة في حق العباد من دلوك الشمس وملك النصاب وشهود الشهر في وجوب الصلاة والزكاة والصوم. فحينئذ يجب أن تجعل عقول العقلاء علة موجبة في حق كل مكلف من المكلفين وفي حقه عقل غيره أمر باطن فلا يصح إثبات حكم يجب عليه بسبب عقل غيره الذي هو باطن في حقه؛ لأن سنة الله تعالى أنه أينما أوجب الأحكام إنما أوجب بعلة ظاهرة في حق المكلفين كالآيات الدالة على حدوث العالم في وجوب الإيمان، ودلوك الشمس وملك النصاب في حق وجوب الصلاة والزكاة مع أن العقول متفاوتة في نفسها فكيف تثبت حكما واحدا. وقوله: (إذا ثبت أن العقل من صفات الأهلية) إشارة إلى قوله: "والقول الصحيح في الباب هو قولنا إن العقل معتبر لإثبات الأهلية". والله أعلم.

باب الأهلية وما يتصل بها فالأهلية عبارة عن الصلاحية لوجوب الحكم له وعليه بخلاف البهائم وسائر الحيوانات، فتنقسم فروعها وهي: الأهلية لوجوب الإيمان والشرائع من الصلاة والزكاة وغيرهما من حقوق الله تعالى وكذلك من حقوق العباد، فمنها ماهو غرم وعوض، ومنها ماهو مؤونة، ومنها ماهو صلة لها شبه بالأجزية إلى آخر ماذكر. والصبي أهل لبعضها وليس بأهل لبعضها وأهل لبعضها بواطة الولي. (وهو الصلاح للحكم) أي وهو كون الذات صالحا لإيجاب الحكم له

وعليه. وقوله: (لحكم الوجوب) من قبيل إضافة العام إلى الخاص، فإن الحكم قد يكون حكم الوقوع كما في وقوع الطلاق وقد يكون حكم السقوط كما في سقوط القصاص عند العفو عنه، وكذلك حكم الندب والإباحة والكراهة عند وجود دليلها فكان الوجوب بعضا منها. والمراد من حكم الوجوب صحة توجه المطالبة به. فإن قلت: قوله "فمن كان أهلا لحكم الوجوب بوجه كان هو أهلا للوجوب "مما لا يكاد يصح إذ المراد من قوله: " للوجوب" حكم الوجوب فحينئذ كان هذا بمنزلة قول من يقول: من كان أهلا لحكم البيع بوجه كان أهلا لحكم البيع. وقول من يقول: من كان أهلا لحكم الطلاق بوجه كان أهلا لحكم الطلاق ونحوهما، وهذا مما يأباه استقامة الكلام؛ لأن الوجوب الثاني لا يفيد غير الوجوب الأول، فكان الشرط والجزاء شيئا واحدا وهذا لا يصح. قلت: لا بل هو مستقيم عاية الإستقامة؛ لأن الوجوب الأول مقيد بوجه من الوجوه. والثاني: مطل فكان تقديره من كان أهلا لحكم الوجوب بوجه من

الوجوه أي على صلاحية احتمال الوجوب بوجه نادر. (كان هو أهلا) لحكم (الوجوب) مطلقا أي في الوجوه كلها أي في حق الأداء والقضاء. كما إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي في آخر وقت الصلاة على وجه يتمكن فيه من الشروع في الصلاة لا غير تجب عليه تلك الصلاة لاحتمال امتداد ذلك الوقت على وجه يسع فيه تلك الصلاة أداء، فيجب عليه قضاء تلك الصلاة، وإن لم يمتد ذلك الوقت؛ لأنه لما كان أهلا لحكم وجوب الصلاة بوجه من الوجوه قلنا بأهليته له مطلقا، يعني في حق الأداء والقضاء، حتى أنه إذا لم يدرك ذلك المقدار من الوقت لا تجب عليه تلك الصلاة التي لم يدرك وقتها أصلا؛ لأنه لم يكن أهلا لحكم وجوب تلك الصلاة بوجه من الوجوه، فلا تجب عليه تلك الصلاة وهو معنى قوله: (من لا فلا). فإن قلت: يلزم على ذلك الكلي وهو قوله: " فمن كان أهلا لحكم الوجوب بوجه كان أهلا للوجوب مطلقا" الجنين فإنه أهل للوجوب له حتى صار أهلا للإرث والوصية وليس بأهل للوجوب عليه حتى لم يصر أهلا للضمان. وكذلك الصبي في حقول الله تعالى الخالصة حيث لم يصر هو أهلا لوجوب الصلاة والزكاة وغيرهما على ماهو اختيار المصنف - رحمه الله - مع كونه أهلا للوجوب له، وعليه في حقوق العباد. قلت: المراد من ذلك الكلي هو أن يكون أهلا لحكم الوجوب بوجه كان أهلا للوجوب مطلقا أي في حق ذلك الحكم الذي كان أهلا لحكم الوجوب

بوجه كان أهلاً لحكم الوجوب مطلقا لا في حق حكم أخر، ولأن الجنين لا يرد على ذلك الكلي نقضا؛ لأنه قال: "فمن كان أهلا" وهو لا يتناول الجنين؛ لأن الجنين بمنزلة جزء الأم كيدها ورجلها، وكلمة من للعقلاء. وأما الإرث والوصية فليسا بثابتين له في الحال بل على تقدير أن يولد حيا فكان ذلك عملا بالتوقف للاحتياط لا لكونه أهلا لهما في الحال. وأما الصبي فجوابه مذكور في الكتاب وهو قوله: وكذلك القول في حقوق الله تعالى على الإجمال، فإنه متى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه وإن صح سببه ومحله إلى آخره. (يصلح للزوم العهدة) أي للزوم الضمان. (فبناء على قيام الذمة)، والذمة: عبارة عن الصلاحية للإيجاب والإستيجاب، أي يجب عليه الواجب ويجب له على غيره.

(وله ذمة صالحة للوجوب) أي للوجوب له وعليه. أما له فإن نفقته وأجره رضاعة على أبيه، ومن اشترى ماله من وليه يجب ثمنه له على المشتري. وأما عليه: فإن ولي الصبي إذا اشترى للصبي شيئا كما ولد لزمه الثمن، وكذلك إذا انقلب على مال إنسان كالقارورة مثلا فأتلفها يضمن. قال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم) وعامة المفسرين على إخراج ذرية آدم من ظهره، وأخذ الميثاق عليهم من عصره. قال أبو العالية -رحمه الله- جميعهم جميعا يومئذ فجعلهم أرواحا ثم صورهم ثم استنطقهم وأخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ

برَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) قال فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم آباكم آدم أن تقولو يوم القيامة مالم تعلموا. اعلمو أنه لا إله غيري فلا تشركو بي شيئا: قالوا: نشهد أنك إلهنا لا إله غيرك فأقروا يومئذ بالطاعة. قال ابن عباس وأبي بن كعب رضي الله عنهم: فجعلهم سامعين ناطقين عقلاء مختارين، فإنه أشهدهم، ولا يصح الإشهاد إلا على الموصوفين بهذه الصفات، ولأنه خاطبهم فدل على سماعهم، وأجابوا فدل على كلامهم، وقالوا شهدنا، فدل على علمهم وعقلهم، وقال: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) اي كراهة أن تقولوا يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) فدل على اختيارهم، وليس بمستعبد وضع هذه الأشياء في الذر الصغار من قدرة الله

تعالى اعتبارًا بنمل سليمان وهدهده وكلام عيسى عليه السلام في المهد وشهادة الرضيع ليوسف عليه السلام. فإن قالوا: ما وجه إلزام الحجة بقوله (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ونحن لانذكر هذا الميثاق وإن تفكرنا. قلنا الله تعالى أنسانا ذلك ابتلاء؛ لأن الدنيا دار غيب، وعلينا الإيمان بالغيب، ولو تذكرنا ذلك زال الإبتلاء، وليس ما ينسى تزول به الحجة ويثبت به العذر. قال الله تعالى في أعمالنا: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) وأخبر أنه سينبؤنا وقال: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ).

ولأن الله تعالى جدد هذا العهد وذكرنا هذا المنسي بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعده فلم يثبت العذر، إلى هذا أشار في "التيسير". وذكر في "الكشاف" ومعنى آخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم نسلا وإشهادهم على أنفسهم، وقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى أنت ربنا. (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) أي عمله من الخير والشر هو من قولك: طار له سهم إذا خرج؛ يعني ألزمناه ما طار له من عمله في

ذمته والمراد من العنق الذمة، والمعنى أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لايفك عنه، وهذا وصف ثابت لكل إنسان، وابن اليوم إنسان فيدخل تحت حكم النص. وقوله: (لها ذمة وعهد) كلاهما واحد، لأن الذمة في اللغة: العهد، قال الله تعالى: (لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً) أي لا يحفظون قرابة ولا عهدا، ومنه يقال لأهل الذمة: العاهدون. (وقبل الإنفصال هو جزء من وجه) حتى إنه ينتقل بانتقال الأم ويقر بقرارها، وكذلك يعتق بعتقها ويدخل في بيعها كسائر أجزائها؛ ولكن لما كانت نفسا ذات حياة على عرضية الإنفصال اعتبر منفصلا في بعض الأحكام. (حتى صلح ليجب له الحق) حيث يصح اعتاقه مقصودا، والوصية له جائزة، ويرث هو من أقاربه، وتجب الغرة في حقه، (ولم يجب عليه) حتى إن مال الغير لو تلف بثقل أمه لا يجب عليه شيء من ضمانه، ويصان هو عند

جناية أمه عن أن يقع الضرر عليه فكان هذا أثر أن لا تكون ذمته مطلقة. (كان أهلًا بذمته للوجوب) أي للوجوب له وعليه (غير أن الوجوب) جواب سؤال مقدر بأن يقال: لما كان أهلًا للوجوب مطلقًا كان ينبغي أن يجب عليه الإيمان والصلاة والزكاة وغيرها. فأجاب عنه بهذا وقال: وهو وإن كان أهلًا للوجوب في حقوق الله تعالى إلا أن حقوق الله تعالى لا تجب عليه لعدم حكم الوجوب لأن حكم الوجوب في الدنيا تحقيق معنى الابتلاء وذلك إنما يظهر بالأداء وبتركه إذ بهما يظهر المطيع والعاصي فيتحقق الابتلاء المذكور في قوله تعالى: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وذلك إنما يكون عند تمام العقل الكامل وهو عند البلوغ فلا يكون الصبي أهلًا لحكم وجوب حقوق الله تعالى لذلك. (فيجوز أن تبطل لعدم حكمه) وهو الأداء (وغرضه) وهو الابتلاء (كما ينعدم الوجوب لعدم محله) كبيع الحر وإنما قلنا: إن الوجوب يبطل لعدم حكم الوجوب لأن الوجوب بدون حكمه غير مفيد كما إذا إشترى مال نفسه من غيره أو من نفسه لا يصح لعدم إفادته الحكم.

(فيصير هذا القسم) وهو الصلاح للحكم (منقسمًا بانقسام الأحكام) فإن الأحكام في أصل القسمة نوعان: حق الله تعالى وحق العباد وكل واحد منهما على أنواع. (وقد مر التقسيم قبل هذا في أول) أي في أول الفصل الذي قال: ثم جملة ما يثبت بالحجج التي سبق ذكرها سابقًا على باب القياس شيئان وهو باب معرفة أقسام الأسباب والعلل والشروط فإنه ذكر فيه جميع تقسيم الأحكام من حقوق الله تعالى وحقوق العباد فلما سد باب وجوب جميع حقوق الله تعالى على الصبي بطريق الإشارة بقوله: "غير أن الوجوب غير مقصود بنفسه فيجوز أن يبطل لعدم حكمه" شرع في بيان ترتيب حقوق العباد فقال: (فأما في حقوق العباد) إلى آخره. (فما كان منها غرمًا) كوجوب ضمان المتلف (وعوضًا) كوجوب ثمن المشتري لأن المال مقصود لا الأداء

الذي هو الفعل فإن المراد به رفع الخسران وما يكون خيرًا له أو حصول الربح وذلك بالمال يكون وأداء وليه كأدائه في حصول هذا المقصود. (فلما شبه بالأعواض) لأن وجوب نفقة الزوجات باعتبار إحتسابها للزوج وقد حصل الحبس له فيجب عليه ما يقابله كثمن المشتري لكنها ليست بعوض حقيقي لأن العوض الحقيقي إنما يكون في الأموال. (وأما الأخرى) أي نفقة القرابات (فمؤونة اليسار) لأن نفقة القريب إنما تجب إذا كان من عليه النفقة غنيًا والمقصود إزالة حاجة المنفق عليه لوصول كفايته إليه وذلك بالمال يكون لكن النصاب الذي يجب بسببه نفقة القرابات لا يشترط فيه النمو بخلاف نصاب الزكاة ثم أداء الولي فيه كأدائه فعرفنا أن الوجوب فيه غير خال عن حكمه فيثبت الوجوب في حق الصبي لذلك. (مقابلًا بالكف عن الأخذ على يد الظالم) والصبي لا يتمكن من أخذ يد الظالم بالكف عن التعدي فلذلك لا يتحمل الصبي الدية.

(لم يجب عليه على ما مر) وهو قوله: وكل صلة لها شبة بالأخروية لم يكن الصبي من أهله لأنه (لايصلح لحكمه) وهو الجزاء لأن الجزاء مرتب على كامل العقل لتحقيق الابتلاء في حقه وذلك إنما يكون بالبلوغ. (وكذلك القول في حقوق الله تعالى على الإجمال) أي على الجملة. يعني: سر جمله سخن در حقوق خداي تعالى بر صبي انست كه اعتبار حكم راست در هر كدام صورتيكه صحت حكم است در حق صبي سبب وجوب وي نيز ثابت است ودر هر كدام صورت كه صحت حكم در حق وي نيست سبب وجوب وي نيز در حق وي ثابت ني. ثم الذي يصح القول بحكمه في حق الصبي صدقة الفطر أي على قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافًا لمحمد -رحمهم الله- لأن فيها معنى المؤونة فيثبت الوجوب في حقه بحكمه وهو الأداء من ماله بواسطة الولي كذلك

العشر والخراج فإن وجوبهما عليه لصحة حكم الوجوب عليه وهو الأداء بالولي الذي قام مقامه في أداء المؤونات فإن معنى القربة في ذلك غير مقصود بل المال هو المقصود فيه وأداء الولي في ذلك كأدائه والذي بطل القول بحكمه وجوب الإيمان بالله تعالى في حق الصبي الذي لا يعقل لانعدام الأهلية لحكم الوجوب وهو الأداء وجوبًا عن عقل وإختيار فلا يكون القول بالوجوب هاهنا إلا نظير القول بالوجوب باعتبار السبب بدون المحل كمان في حق البهائم وذلك لا يجوز القول به. وكذلك العبادات المحضة كلها البدني والمالي في ذلك سواء لأن حكم الوجوب وهو معنى الابتلاء لا يثبت في حقه بحال فلا يثبت الوجوب. وقوله: (إن صح سببه) كما في ملك النصاب (ومحله) وهو ذات الصبي (لأن الوجوب كما ينعدم مرة لعدم سببه) كما إذا لم يملك النصاب ومرة (لعدم محله) كعدم وجوب الإيمان والصلاة والصوم على البهائم وإن وجدت أسبابها من حدوث العالم ودلوك الشمس وشهود الشهر (فينعدم أيضًا لعدم حكمه) أي فينعدم الوجوب أيضًا لعدم حكم ذلك الوجوب في حق الصبي وهو معنى الابتلاء (وقد مر تقسيم هذه الجملة)

أي في باب معرفة أقسام الأسباب. (لأنها نيابة جبر لا اختيار) أي لأن النيابة الثابتة في حق الصبي نيابة جبر وهي نيابة وليه عنه لأن الصبي لم يجعله وليًا بإختياره بلا جعله الله تعالى وليًا عنه بدون إختيار الصبي فيما صح حكمه إذا عجز الصبي عن الإتيان به كما في العشر والخراج على ما ذكرنا. ولو جعلنا كذلك في حق الزكاة لصار المال هو المقصود والمال ليس بمقصود في العبادات المحضة بل أداء من وجب عليه الزكاة هو المقصود إما بنفسه أو بنائبه بإختياره وفي قوله "لأنها نيابة جبر لا اختيار"إشارة إلى أن العبادات الخالصة المتعلقة بالمال تتأدى بالنائب إذا كانت النيابة عن اختيار وذلك إنما يكون في حق البالغ لا في حق الصبي لوجود الفعل عن اختيار منه معنى.

(وما يشوبه معنى المؤونة مثل صدقة الفطر) لأن صدقة الفطر عبادة فيها معنى المؤونة. وقوله: (لم يلزمه عند محمد لما قلنا) إشارة إلى قوله: "لأن الأداء هو المقصود في حقوق الله تعالى"، (ولزمه ما كان مؤونة في الأصل وهو العشر والخراج) لأن العشر مؤونة فيهما معنى العبادة والخراج مؤونة فيهما أصلًا لأن سببهما الأرض النامية وهي تبقى بحماية الإمام والعشر والخراج يأخذهما الإمام ويصرفهما والمؤونة ما كان سببًا لبقاء الشيء فكان دفع العشر والخراج نصرة للإمام معنى فلذلك كان فيهما معنى المؤونة.

وقوله: (لما ذكرنا) إشارة إلى ما ذكر في باب معرفة أقسام الأسباب والعلل بقوله: والمؤونة التي فيها معنى القربة هي العشر إلى آخره. (وما كان عقوبة لم يجب أصلًا) سواء كان وجوب العقوبة خالصًا لله تعالى أو مختلطا بحقوق العباد لأن الصبي ليس بأهل للجزاء بالعقاب لأن ذلك يبتنى على الابتلاء، والابتلاء بالبلوغ. وقوله: (ولهذا كان الكافر أهلًا لأحكام لا يراد بها وجه الله تعالى) وهذا إيضاح بقوله: "وما كان عقوبة لم يجب أصلًا لعدم حكمه"يعني أن وجوب الشيء على الإنسان دائر مع صحة حكمه فأينما صح حكم وجوب شيء ما صح القول بوجوب ذلك الشيء عليه وما لا فلا وعلى ما ذكر قبل هذا أيضا بقوله: إن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه ثم الأحكام التي لا يراد بها وجه الله تعالى أحكام المعاملات مثل: البياعات والأشربة والأنكحة والإجارات وغيرها فكان أهلًا للوجوب له وعليه فإنه يطلب مديونه بدين له عليه ويطالب هو أيضًا بدين عليه للغير وكذلك في عكسه.

(ولما لم يكن أهلًا لثواب اآخرة لم يكن أهلًا لوجوب شيء من الشرائع) فكان هذا تقريرًا لما ذكر قبل هذا أن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه وإن صح سببه. لما أن الأسباب إنما تقع معتبرة إذا أوجبت أحكامها فلما لم يكن الكافر أهلًا لحكم أداء العبادات لم يصح القول بوجوب أداء العبادات عليه.

فإن قيل: أليس أن العبد من أهل مباشرة التصرف الموجب لملك المال وإن لم يكن أهلًا لملك المال فكذلك يجوز أن يكون الكافر مخاطبًا بأداء العبادات وإن لم يكن أهلًا لما هو المقصود بالأداء. قلنا: صحة ذلك التصرف من المملوك على أن يخلفه المولى في حكمه أو على أن يتقرر الحكم له إذا أعتق كالمكاتب. فأما هنا فلا يثبت الأداء في حقه على أن يخلفه غيره فيما هو المبتغى بالأداء أو على أن يتقرر له ذلك بعد إيمانه كذا ذكره الإمام شمس الأئمة -رحمه الله- في أصول "الفقه". وقوله: ولما يكن أهلًا لثواب الآخرة -إلى أن قال-: (ولزمه الإيمان بالله تعالى لما كان أهلًا لأدائه ووجوب حكمه) افترق الحكم في حق الكافر بين وجوب الإيمان وبين وجوب الشرائع حيث لم تجب الشرائع وهي الصلاة والزكاة وغيرهما عليه ووجب الإيمان عليه لإختلاف حكميهما على ما ذكر في الكتاب وهذا لأنا لو قلنا بوجوب الإيمان على الكافر لا يلزم الفساد الذي لزم فيما قلنا بوجوب العبادات لأنه يكون مؤمنًا عند وجود الإيمان منه والمؤمن أهل لثواب الآخرة بخلاف أداء الشرائع فإنه لا يخاطب به لما ذكر في الكتاب من لزوم القول حينئذ بوجوب الإيمان بطريق الاقتضاء وهو رأس

العبادات فلا يصح أن يثبت في ضمن الطاعات من العبادات ولأن فيه فسادًا آخر وهو أن حكم أداء العبادات ثواب الآخرة والكافر مع كفره ليس بأهل لثواب الآخرة فلا يصح القول بوجوب سبب هذا الحكم كما ذكر قبل هذا: أن ما لا يصح القول في حق إنسان بثبوت حكم ما لا يصح القول بوجوب سبب مثل هذا الحكم في حقه فكان وجوب الإيمان على الكافر وعدم وجوب شيء من الشرائع عليه نظير تعليق طلاق المرأة بنكاحها. ونظير تعليق طلاق الأجنبية بدخول الدار مثلًا حيث يصح الأول لكون المرأة محلًا للطلاق عند النكاح لا محالة كما أن الكافر كان أهلًا لحكم الإيمان وهو دخول الجنة عند الإيمان ولا يصح الثاني لعدم محلية المرأة للطلاق عند دخول الدار ظاهرًا لأن الظاهر من المعدوم استمراره على العدم والمرأة لا تصلح محلًا للطلاق قبل النكاح. (ولم يجعل مخاطبًا بالشرائع بشرط تقديم الإيمان) هذا جواب إشكال وهو أن يقال: لما لم تكن العبادات معتبرة بدون الإيمان لم لم يجعل أداء الإيمان ثابتًا تقديرًا في حق الكافر ليصح التكليف بالشرائع والعبادات بناء على ثبوت الإيمان اقتضاء كما في سائر الأحكام الثابتة بالاقتضاء (لأنه) أي لأن الإيمان (رأس أسباب أهلية أحكام نعيم الآخرة) فلا يكن الأصل تبعًا لفرعه الذي هو تبعه ولذلك لم يكن الأصل لشيء أن يثبت بطريق الاقتضاء لذلك الشيء؛ لأن في ثبوت الشيء بطريق الاقتضاء معنى التبعية؛ لأن المقتضى

الذي هو غير مذكور شرط صحة المقتضى المذكور والشرط تبع للمشروط. فلذلك لا يصح ثبوت الإيمان بطريق الاقتضاء للعبادات فكان هذا نظير ما إذا قال المولى لعبده: تزوج أربعًا أو قال لعبده الذي حنث في يمينه: كفر يمينك بإعتاق هذا العبد لا يعتق العبد مع أن تزوج الأربع من النساء وإعتاق العبد من نفسه لا يصح بدون الحرية لما أن الحرية أصل للتزويج بالأربع من النساء والتزويج بها تبع لها فلا يصلح أن تكون هي تبعًا للتزويج وكذلك في إعتاق العبد من نفسه. فإن قلت: لا نسلم أنا لو قلنا بوجوب العبادات على الكافر أن يلزم من ضرورته وجوب تقديم ثابتًا في حقه بطريق الاقتضاء لأن الإيمان قد وجب على الكافر قبل توجه الخطاب عليه بالعبادات بسببه وهو الآيات الدالة على حدوث العالم. والدليل على أن الكفار مخاطبون بالإيمان قبل الخطاب بالشرائع قوله تعالى: (وكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) على ما ذكرنا في شرح الخطبة ولما كان كذلك وجب أن يخاطب الكفار بالشرائع لثبوت وجوب الإيمان قبله بسببه وعدم ثبوته بطريق الاقتضاء. قلت: سلمنا أن الكفار مخاطبون قبل ورود الشرائع بالإيمان أي بالإيمان

الذي دل عليه حدوث العالم وهو وجود الله تعالى وتوحده لا الإيمان بأن الله تعالى فرض الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وإنما الإيمان بهذه الأشياء بعد ورود الشرائع. فصح قولنا: إنهم لو كانوا مخاطبين بالشرائع يلزم أن يكون الإيمان بالله تعالى فرض الصلاة والزكاة والصوم وغيرها وأنا قبلتها كلها ولا يصح ذلك لأن الإيمان بقبول هذه الأشياء أصل فلا يصلح أن يكون ثابتًا قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) ووجوب الشرائع إنما يكون بإرسال الرسل وبالنظر إلى احتجاجهم هذا يلزم أن يكون الكفار كأنهم ليسوا بمخاطبين بالإيمان قبل إرسال الرسل. (وقد قال بعض مشايخنا) ومنهم القاضي أبو زيد -رحمه الله- حيث قال في "التقويم": إن وجوب الحقوق الشرعية كلها بأسباب جعلها الشرع أسبابًا للوجوب دون الأمر والخطاب كالزكاة بملك النصاب والحج بالبيت والصلوات

بأوقاتها والصوم بشهر رمضان والإيمان بالآيات الدالة على الله تعالى والنكاح بالمهر -إلى أن قال- وهذه الأسباب قائمة في حق الصبي والبالغ على السواء فلا ينبغي أن يقع الفرق بينهما في حصه الوجوب فعلمنا أن سقوط ما سقط عن الصبي كان بعذر يسقط بمثله بعد البلوغ تيسيرًا علينا لا لأنه ليس بأهل له. وهذا كما قيل: إن النائم يلزمه حقوق الله تعالى ولا يلزمه أداؤها حتى يستيقظ لأنه لا يقدر ولا يعلم به فكم من بالغ يلزمه حقوق الله تعالى ثم لا يقدر على الأداء فيسقط عنه كابن السبيل تلزمه زكاة أمواله ثم لو مات قبل الوصول إلى ماله تسقط عنه وذكر أيضًا هذا السؤال والجواب بقوله: فإن قيل: قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم". قلنا: رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة إنما يدل على سقوط أداء الواجب لأن القلم للحساب والحساب على ترك ما عليه من الأداء لا على الوجوب فإن الواجب متى تأجل لا يؤاخذ العبه به والوجوب قائم ألا ترى قرنه بالنائم والنائم تلزمه الصلاه في ذمته ولا يلزمه الأداء حتى يستيقظ فكذلك الصبي لأنهم جميعًا دخلوا تحت رفع واحد. وأما الإمام المحقق شمس الأئمة -رحمه الله- فقد وافق فخر الإسلام -رحمه الله- فيما اختاره من القول فجعل الأقول هنا على ثلاثة:

قوم يثبتون وجوب حقوق الله تعالى من الصلاة والزكاة وغيرهما من حين يولد باعتبار مجرد الذمة إذا وجد الأسباب ثم يسقطون فكان فيه مجاوزة الحد بالغلو في الإيجاب. وقوم لا يعتبرون الأسباب أصلًا فكان فيه مجاوزة الحد بالغلو في التقصير. والقول الصحيح فيه أن نقول بعد وجود السبب والمحل لا يثبت الوجوب إلا بوجود الصلاحية لما هو حكم الوجوب وليس لابن اليوم صلاحية حكم الوجوب وهو الأداء عن اختيار فلا يثبت مثل هذا الوجوب في حقه وإن تحقق السبب وهو في العبادات المحضة والعقوبات. وأما حقوق العباد فمنها ما تثبت كما في الأعواض والمؤن ومنها ما لا تثبت كالصلة التي لها شبهة الجزاء على ترك حفظ يد الظالم إلى آخره. (وقد كنا عليه مدة) أي على ما قاله بعض مشايخنا بوجوب كل الأحكام والعبادات على الصبي (لكنا تركناه بهذا القول الذي اخترناه) وهو أن الوجوب لازم متى صح القول بحكمه ومتى بطل القول بحكمه بطل القول بوجوبه وإن صح سببه ومحله على ما ذكر قبل هذا ولا نقول بأن الوجوب في حق كل الأحكام ثابت على الصبي، ثم سقوط الحكم لدفع

الحرج بعذر الصبا بل لا يثبت الوجوب أصلًا فيما لا يتصور منه حكم ذلك الوجوب حتى إن دلوك الشمس وشهود الشهر لا يثبت بهما وجوب الصلاة والصوم أصلًا من الإبتداء على الصبي لا أن يثبت الوجوب أو لا لوجود الذمة والسبب ثم السقوط بعد ذلك بعذر الصبا لأنه لو كان مؤديًا للواجب كصوم الشهر في حق المريض والمسافر والجمعة في حق المسافر فإنه إذا أدى كان مؤديًا للواجب وبالإتفاق لا يكون الصبي مؤديًا للواجب وإن تصور منه ما هو ركن هذه العبادات فعرفنا أن الوجوب غير ثابت أصلًا. (وهذا أسلم الطريقتين) أي ما قلنا أسلم مما قاله بعض مشايخنا. (صورة) لأن القول بالوجوب ثم السقوط من غير غرض يحصل به تصور بصورة العبث ولأن وجوب الأداء لم يكن بالإتفاق مع قيام الذمة فيجب أن لا يكون عليه صورة نفس الوجوب. (ومعنى) لأن المعنى يقتضي أن يكون المقصود من الوجوب الأداء والأداء غير ممكن من ابن يوم فلا فائدة في إثبات الوجوب علية لما ذكرنا أن القول بنفس الوجوب مع عدم حكمه أصلًا لعدم صلاحية المحل لذلك الحكم غير مشروع إذ القول بذلك يؤدي إلى القول بصحة الوجوب على البهائم. (وتقليدًا) لأنه لم يقل أحد من السلف بوجوب الأحكام وعدم وجوب

الأداء أصلًا في حق أحد ولأن في السلف وهم الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- من قال: إنه لا يجب على الصبي شيء من الأحكام. (وحجة) أي استدلالًا بالمتفق عليه وهو أنه لو كان الوجوب ثابتًا على الصبي ثم يسقط لدفع الحرج عنه كان ينبغي أن يقال: إذا إتفق الأداء منه كان مؤديًا للواجب كصوم رمضان في حق المسافر وبالإتفاق أنه لا يكون مؤديًا للواجب عرفنا أن الوجوب غير ثابت عليه أصلًا لما ذكرنا أو لأنه مرفوع القلم بالحديث قال النبي عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم" ففي حق مرفوع القلم كيف يصح القول بوجوب الحكم عليه ولا يلزم علينا ابن السبيل فإن له صلاحية نفس الوجوب لكونه عاقلًا بالغًا لكن لم يخاطب بالأداء تيسيرًا عليه وذلك لا يمنع ثبوت نفس الوجوب كالمريض والمسافر في حق صوم رمضان فإنهما لم يخاطبا به مع ثبوت نفس الوجوب كابن السبيل. وأما ابن اليوم فليس له صلاحية أداء الصلاة أصلًا فلم يثبت نفس الوجوب في حقه أيضًا وعن هذا جاء الفرق الواضح بينهما وهو أنه لو استقرض ابن السبيل من غيره مقدار الواجب من الزكاة وأدى يقع عن الفرض كما لو صام المسافر. وأما الصبي العاقل لو أدى فرض الظهر في وقته يقع نفلًا حتى إنه لو أداه في أول الوقت ثم بلغ في آخره تجب عليه إعادته.

وقوله: "قلنا رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة". قلنا: بل يدل على رفع الوجوب في الذمة في مثل هذه الصورة التي نحن بصددها وهو أن يثبت نفس وجوب الصلاة على ابن اليوم لأن نفس الوجوب إذا لم يوجب حكمها تبطل من حيث توجد لأن المراد من شرعية الوجوب شغل الذمة إلى أن يؤدي ذلك إلى وجوب الأداء إما في الحال أو في ثاني الحال وأحد منهما ليس بثابت في حق الصبي بالإجماع فلا تكون فائدة حينئذ في ثبوت نفس الوجوب بخلاف النائم والمغمى عليه فلذلك قلنا برفع القلم من الأصل وإلا يتصور بصورة العبث على ما ذكر في الكتاب لأنه لا فائدة في ثبوت نفس الوجوب من غير معنى. (ولذلك قلنا في الصبي) إلى آخره أي ولأجل ما قلنا: إن الوجوب غير ثابت في حق الصبي أصلًا قلنا: إنه لا يقضي ما مضى لأن الوجوب لو كان ثابتًا في حقه ثم سقط وجوب الأداء بالعذر لوجب عليه أن يقضي ما مضى كالمجنون إذا لم يستغرق جنونه حياته وكالمريض والمسافر إذا أفطرا. (وكذلك نقول في الحائض) يرجع إلى ما ذكر في أول الباب وهو أن من كان أهلًا لحكم الوجوب بوجه كان هو أهلًا للوجوب مطلقًا ومن لا فلا؛

لأن المعني من شرعية وجوب الحكم أداء الحكم لا ذات الوجوب فلذلك قلنا بوجوب الصوم على المرأة إما أداء أو قضاء لأن قضاءه لم يتضمن الحرج واحتمال الأداء في حق الحائض ثابت لأن القياس يقتضي أن لا تشترط الطهارة عن الحيض للصوم كما لا تشترط الطهارة له عن الجنابة والحدث وهو معنى قوله (أن الصوم يلزم الحائض لإحتمال الأداء) بخلاف الصلاة فإن في قضائها حرجًا بينًا وإشتراط الطهارة لها عن الحيض موافق للقياس لإشتراط الطهارة لها على الجنابة والحدث فلم يجب عليها قضاء الصلاة. أو نقول: إن معنى قوله: "أن الصوم يلزم الحائض لإحتمال الأداء"أي لإحتمال الأداء في ثاني الحال من غير حرج إذ ليس من شرط إحتمال وجود الأصل وجوده في الحال في حق صحة الخلافة بل إحتمال وجوده في ثاني الحال يكفي لأن يكون الخلف خلفًا عنه إذا لم يتضمن وجوب أدائه الحرج. ألا ترى أن المجنون والمغمى عليه إذا لم يزد الجنون والإغماء على يوم وليلة يجب قضاء الصلوات عليهما مع أن أداء الصلاة حال الجنون والإغماء منهما غير متصور ومع ذلك صح القضاء خلفًا عن الأداء في حقهما لإحتمال الأداء في ثاني الحال من غير حرج فكذلك هاهنا الصوم في حق الحائض لما لم يتضمن الحرج وجب قضاؤه بخلاف الصلاة.

(لعدم حكمه) أي حكم الوجوب وهو الأداء (هذا في الصلوات والصيام معًا) يعني إذا إمتد بطل القول بالوجوب أصلًا لعدم حكمه. (لزمه أصلًا) أي أصل وجوب الصوم. (قلنا بوجوب أصل الإيمان دون أدائه) أي دون وجوب أدائه (حتى صح الأداء) أي عن الفرض. في هذه المسألة اختلفت عبارات المشايخ فمن اختيار أستاذ العلماء شمس الأئمة الحلواني -رحمه الله عليه- أن الإيمان على الصبي العاقل الذي يصح منه الأداء واجب لوجود الصلاحية لحكمه وهو الأداء والمؤدى منه يكون فرضًا. ألا ترى أنه لو آمن في هذه الحالة لم يلزمة تجديد الإقرار بعد بلوغه فعرفنا أن أداء الفرض قد تحقق منه في حالة الصغر فمن هذا الطريق يثبت حكم الوجوب في حقه. والدليل عليه أنه لو أسلمت امرأته أبى هو الإسلام بعد ما عرض عليه القاضي، فإنه يفرق بينهما، ولو لم يثبت حكم الوجوب في حقه لم يفرق

بينهما إذا امتنع منه. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله- بعد ما قال هذا: والأصح عندي أن الوجوب غير ثابت في حقه إن عقل ما لم يعتدل حاله بالبلوغ فإن الأداء منه يصحح باعتبار عقله وصحة الأداء تستدعي كون الحكم مشروعًا لا تستدعي كونه واجب الأداء -كالنفل- فعرفنا بهذا أن حكم الوجوب وهو وجوب الأداء معدوم في حقه. وقد بينا أن الوجوب لا يثبت باعتبار السبب والمحل بدون حكم الوجوب إلا أنه أدى يكون المؤدي فرضًا لأن حكم الوجوب يصير موجودًا بمقتضى الأداء كان المؤدي فرضًا بمنزلة العبد فإن وجوب الجمعة في حقه غير قابت حتى إنه كان المؤدي فرضًا لأن ما هو حكم الوجوب صار موجودًا بمقتضى الأداء وإنما لم يكن الوجوب ثابتًا لانعدام حكمه. وهذا الذي ذكره شمس الأئمة السرخسي -رحمه الله- يقتضي أن لا يثبت في حق الصبي العاقل نفس وجوب الإيمان ولا وجوب أدائه. والذي ذكره شمس الأئمة الحلواني -رحمه الله- يقتضي أن يثبت نفس

وجوب الإيمان ووجوب أدائه في حقه. وتوسط المصنف فخر الإسلام -رحمه الله- حيث ثال بنفس وجوب الإيمان عليه لا بوجوب أدائه وخير الأمور أوسطها. وقوله: (وإذا لم يخل الوجوب عن حكمه) وهو صحة الأداء ونيابته عن الفرض. (والإغماء لما لم يناف حكم وجوب الصوم لم يناف وجوبه) فحكم وجوب الصوم هو الأداء في الحال أو في الثاني بلا حرج وهو موجود في حق الصوم لا في الصلاة فإنه إذا نوى الصلاة ثم جن أو أغمى عليه ولم يوجد منه ما يفسد الصوم صح صومه. علم بهذا أن الإغماء غير مناف للصوم وكذلك إن لم يتمكن من الأداء في الحال يتمكن منه في الثاني بلا حرج لأن الإغماء لا يستغرق الشهر عادة فلا يحرج في قضائه بخلاف الصلوات لأن الإغماء مناف لها في الحال؛ لأن

الإغماء ناقض للطهارة فلا تتحقق من المغمى عليه الصلاة وفي الثاني يلزم الحرج لتضاعف صلوات كل يوم. (والنوم لما لم يكن منافيًا لحكم الوجوب إذا انتبه) وهو القضاء بلا حرج لأنه لم يمتد أكثر من يوم وليلة عادة لم يكن منافيًا للوجوب أيضًا والله أعلم.

باب أهلية الأداء

باب أهلية الأداء (أما القاصر فيثبت بقدرة البدن إذا كانت قاصرة قبل البلوغ) أي إذا كانت القدرة موجودة مع وصف القصور فإن من الصبيان من لا قدرة له أصلا لا على وجه الكمال ولا على وجه القصور كمان في الرضيع وكما في الصبي الذي لم يعقل شيئًا فإنه لا قدرة لهما أصلًا وإذا لم تكن القدرة لكل واحد منهما أصلًا لا يأتي كلا منا هذا فيه فلذلك احترز عنه بقوله: "إذا كانت قاصرة". والدليل عليه ما ذكره شمس الأئمة -رحمه الله- بقوله: فالقاصرة باعتبار قوة البدن وذلك ما يكون للصبي المميز قبل أن يبلغ ثم المعنى من قدرة البدن هو التمكن من الأداء بعقل مميز.

(وأصل العقل يعرف بدلالة العيان) أي الأثر (وذلك أن يختار المرء ما يصلح له بدرك العواقب المستورة فيما يأتيه ويذره) يعني أن الرجل إذا عاين غيره أنه يختار ما يصلح له في ثاني الحال بطريق التجربة والإمتحان فيما هو مستور أمره في الحال بأنه مما يصلح له في ثاني الحال أم لا؟ وكذلك يختار ترك ما لا يصلح له في ثاني الحال فيما هو مستور أمره في الحال يحكم بأنه عاقل كمن فصد مثلا لدفع الحرارة أو شرب الدواء لدفع المرض. وقد علم دفع الحرارة بالفصد ودفع المرض بشرب ذلك الدواء بالتجربة مرارًا ولكن إندفاع الحرارة والمرض مستور بأمره حال الفصد وشرب الدواء وكذا إذا ترك شرب الدواء الذي لا يدفع مرضه وترك الفصد فيما لا منفعه فيه بطريق التجربة بحكم من عاينه أنه يباشر مثل هذه الأفعلا النافعة ويترك ما يضره بأنه عاقل وكذا من رأي غيره يهيئ في الصيف ما كان ينفعه في الشتاء من جمع الحطب ورم ما وهي من الحيطان وسد

ثلم السقوف وإصلاح خروق السطوح وتهيئة أسباب المطاعم والملابس التي لا يمكن تحصيلها غالبًا في الشتاء أو لو أمكن ما يمكن مثل تحصيلها في الصيف يحكم بكمال عقله في أمر المعيشة وإن إحتمل خلاف ذلك بأن يكون تحصيل هذه الأشياء أرخص وأيسر حصولًا في الشتاء من الذي في الصيف ولكن ما يقع غاليًا بطريق التجربة والإمتحان عد أنه من جملة العقلاء ومن زمرة الحكماء. وكذلك في أمر الآخرة إذا إشتغل بما ينفعه في الآخرة وإجتنب عما يضره فيها عد من العقلاء المهتدين والعباد المتقين. (فأما الإعتدال فأمر يتفاوت فيه البشر) على وجه يتعذر الوقوف عليه فأقام الشرع إعتدال الحال بالبلوغ عن عقل مقام كمال العقل حقيقة في بناء إلزام الخطاب عليه تيسيرًا على العباد، ثم صار صفة الكمال الذي يتوهم

وجوده قبل هذه الحال ساقط الاعتبار وتوهم النقصان بعد هذا الحد غير معتبر لما أن السبب الظاهر لما قام مقام المعنى الباطن للتيسير دار الحكم معه وجودًا وعدمًا. وقوله: (فأما حقوق الله تعالى فمنه) ذكر ضمير الحقوق على تأويل المذكور. (ولا عهدة فيه بوجه) أي لا حرج فيه ولا ضرر. (إلا بحجر من الشرع وذلك) أي الحجر (في الإيمان باطل لما قلنا) إشارة إلى ما ذكر قبيل هذا حسن لا يحتمل غيره والحجر من أمارات أن لا يكون حسناَ كما في قراءة المقتدى القرآن حتى إذا وجدت القراءة منه تجعل قراءته كلا قراءة لأنه محجور عنها شرعًا ولا يليق مثل ذلك في الإيمان ولأن الناس عن آخرهم دعوا إلى الإيمان والحجر عن الإيمان كفر ثم الحجر بسبب الصغر شرعًا لأجل النظر وذلك لا يليق بما يتمحض منفعة لا يشوبه ضرر فكان النظر في الحكم بصحة الأداء منه لأن المطلوب به الفوز والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة (وذلك يحتمل الوضع) أي لزوم أدائه يحتمل أن يوضع عنه (فوضع عنه) أي فأسقط لزوم أداء الإيمان عن الصبي.

(فأما الأداء فخال عن العهدة) أي فأما مجرد صحة الأداء من غير لزوم الأداء فخال عن الضرر ثم لزم على هذا التعليل حرمان الإرث عن أقاربه الكفار فإن حرمان الإرث ضرر عليه وإنما جاء ذلك عن صحة أدائه الإيمان. فأجاب عنه بقوله: (لأن حرمان الإرث يضاف إلى الكفر الباقي) لا إلى صحة أداء الإيمان يعني إذا مات أبوه الكافر الباقي بعد إسلام ابنه فلا يرث منه ابنه المسلم لأن الإيمان شرع عاصمًا للأملاك لا قاطعًا وإصرار الآخر على كفره يصلح قاطعًا فأضيف إليه. (ولأن ما يلزمه بعد الإيمان) من الضرر الدنيوي مثل حرمان الإرث وقوع الفرقه بينه وبين امرأته الكافرة. (فمن ثمرات الإيمان) لا المقصود الأصلي من الإيمان فإن المقصود الأصلي منه السعادة الأبدية وهي حاصلة بإيمانه فكان المنظور إليه في الباب المقصود الأصلي لا الثمرات ولأن هذا أمر معارض بمثله فلا يصلح أن يكون شبهة لأنه قد يصير مستحقًا للإرث بسبب إيمانه ولو لم يكن مؤمنًا لما إستحق الإرث، فإنه لو مات أقاربه المسلمون إنما يستحق إرثهم إذا كان مؤمنًا

وإذا كان كافرًا لا يستحق وكذلك يقرر ملك نكاحه إذا كانت زوجته أسلمت قبله. (إذا ثبت له حكم الإيمان تبعًا لغيره) أطلق لفظ التبعية بقوله لغيره لأن التبعية للغير على أنواع فأقواها تبعية الأبوين أو أحدهما ثم الدار يعني إذا لم يكن معه أحد أبويه يكون مسلمًا تبعًا لدار الإسلام ثم بعد الدار يعتبر اليد ويجعل مسلمًا تبعًا لصاحب اليد وتمام هذا مذكور في فصل التكفين من باب الجنائز من "النهاية". (ولم يعد عهدة) أي لم يجعل ذلك الضرر الدنيوي ضرر فعل الإيمان لأنه لم يوجد منه فعل يصلح للعهدة ومع ذلك ثبت الإيمان في حقه بالإجماع ولم يبال بما لزمه بعد الأداء من حرمان الإرث وغيره. (ألا ترى أنه لا يرد علمه بوالديه) ومعنى عدم رد علمه بوالديه أن الرجل إذا أقر بغلام يولد مثله لمثله وليس له نسب معروف أنه ابنه وصدقه

الغلام ثبت نسبه منه وشرط تصديقه لأنه في يد نفسه إذ المسألة في غلام يعبر عن نفسه كذا في إقرار "الهداية"أراد بالذي يعبر عن نفسه الصبي العاقل. علم بهذا أن علم الصبي العاقل بوالدية وتصديقه لهما معتبر في الشرع حتى يرتب عليه حكم شرعي وهو ثبوت نسبه منهما عند تصديقه بهما فلما لم يرد علمه بوالديه لم يرد علمه بالله تعالى أيضًا ولما كان علمه بالله تعالى علمًا كان جهله به أيضًا جهلًا وهو الردة فكانت منه متحققة وهذا الذي ذكره قول أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله-.

وقال أبو يوسف رحمه الله لا يحكم بصحة الردة في أحكام الدنيا من الصبي لأن ذلك يتمحض ضررًا لا يشوبه منفعة وإنما حكمنا بصحة إيمانه لأنه يتمحض منفعه ولكن أبو حنيفة ومحمد -رحمهما الله- قالا: كما يوجد منه حقيقة الإسلام من الوج الذي قلنا يوجد منه حقيقة الردة لأنه كما يتحقق منه العلم بسائر الأشياء يتحقق منه الجهل بها والردة جهل بالله تعالى فعرفنا أنه توجد حقيقتها منه ثم لا يمتنع ثبوتها بعد الوجود حقيقة للحجر شرعًا فالبالغ محجور عن الردة شرعًا كالصبي ومع ذلك تتحقق منه الردة فكذا تتحقق من الصبي العاقل. (ومن ذلك ما هو بين هذين القسمين) أي ومن المذكور الذي هو حقوق الله تعالى حقوق له بين كونه حسن لعينه وبين كونه قبيحًا لعينه أي ليس بحسن لعينه وليس بقبح لعينه وهو عامة العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج فإنها تحتمل النسخ والتبديل. ألا ترى أنه ورد النهي في بعض الأوقات والأحوال في الحديث: "ثلاث أوقات نهانا رسول الله عليه أن نصلي فيها"وقال عليه السلام: "ألا لا تصوموا في هذه الأيام" وما كان حسنًا لعينه لا يرد فيه النسخ والتبديل

والنهي في وقت من الأوقات. (حتى قلنا بسقوط الوجوب) أي قلنا بعدم ثبوت نفس الوجوب من الأصل على ما عليه اختيار المصنف -رحمه الله- (لأن اللزوم لا يخلو عن العهدة) أي لأن القول بلزوم هذه الأشياء في حق الصبي لا يخلو من إثبات الضرر في حقه وهو منجى عن الضرر الدنيوي شرعًا. ألا ترى أنه لا يجب عليه الدود والقصاص عند مباشرة أسبابها فكذلك لم يثبت لزوم العبادات في حقه. (وقد شرعت) أي صحه أداء هذه العبادات (بدون ذلك الوصف) أي بدون لزوم العهدة في حق الصبي (بلا لزوم مضي) أي بلا لزوم إمضاء ما شرع فيه من الصلاة والصوم بخلاف البالغ (لأنها قد شرعت كذلك) أي بلا لزوم مضى ولا وجوب قضاء أي في الجملة.

(وكذلك إذا شرع في اإحرام على هذا الوجه ثم أحصر) أي البالغ إذا شرع في إحرام الحج ظانًا أن عليه الحج ولم يكن عليه ثم أحصر فلا قضاء عليه. علم بهذا أن هذه العبادات قد توجد في حق البالغ أيضًا بلا وصف لزوم المضي والقضاء في صورة من الصور فيجب أن يثبت في حق الصبي أيضًا بلا وصف لزوم المضي والقضاء في جميع الصور وإنما قيد بالإحصار لأن الخروج من إحرام الحج بعد الشروع فيه لا يجوز إلا بالإحصار أو بالأداء. (وقلنا في الصبي إذا إرتد أنه لا يقتل). وذكر في "المبسوط"وإذا حكم بصحة ردته بانت منه امرأته لكنه لا يقتل استحسانًا لأن القتل عقوبة وهو ليس من أهل العقوبة في الدنيا بمباشرة سببه كسائر العقوبات ولكنه لو قتله إنسان لا يغرم شيئًا لأن من ضرورة صحة ردته إهدار دمه، وليس من ضرورته استحقاق قتله كالمرأة إذا ارتدت لا تقتل

ولو قتلها قاتل لا يلزمه شيء. وقوله: (لما قلنا) إشارة إلى قوله: "وقلنا بصحتها تطوعًا -إلى قوله- لأنها قد شرعت كذلك". (وفي ذلك جاءت السنة) أي في صحة النوافل منه وإنما هذا ضرب تأديب لتخلق بأخلاق الرجال الصالحين. وقال الشاعر: أدب بنيك إذا ما استوجبوا أدبًا ... فالضرب أنفع أحيانًا من الضرب أي العسل: وقال أيضًا: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ... ولا تلين إذا قومتها الخشب

وقوله: (وإنما هذا ضرب تأديب وتعزيز لا عقوبة) جواب لما يرد شبه على قوله عليه السلام: "مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعًا وإضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا" بما ذكر في الباب الذي قبل هذا بقوله: وما كان عقوبة أو جزاء لم يجب عليه. (ووجب للعبد بشرط السلامة) حتى لو هلك العبد المحجر في ذلك العمل تجب القيمة على المستأجر، ولا يجب الأجر. (ولا تشترط السلامة في الصبي الحر) فإنه إذا هلك في العمل يجب الأجر أيضًا، لأنه هو النفع المحض بخلاف هلاك العبد في العمل، فإنه لا

يجب الأجر؛ لأن العبد مال ويصير المستأجر غاضبًا باستعمال العبد المحجور, فتجب قيمته ويملك العبد من وقت الغضب فلا يجب أجر منافعه. (فإنه لم يذكر إلا في "السير الكبير") وما لم يصرح فيه بقول غيره فعامة إطلاقه مخصوصة بقوله, وها هنا أيضًا يحتمل أن يكون هذا قوله بناء على أن أمانه صحيح عنده. (فإن الآدمي مكرم بصحة العبارة وعلم البيان) لما أن الإنسان إنما باءن سائر الحيوان بالبيان ومن الله تعالى على الإنسان به. وقال تعالى: (خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) , فعرفنا أن معرفة البيان وصحة العبارة (من أعظم وجوه الانتفاع) به ولهذا صححنا منه التوكل عن الغير بالبيع والشراء

له, فإن ذلك محض منفعة له؛ لأنه يصير به مهتديًا إلى التصرفات الشرعية عارفًا بمواضيع الغبن والخسران ليتحرز منه عند حاجته إليه, وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) ولا تلزمه العهدة بهذا التصرف إذا لم يكن مأذونًا؛ لأن في إلزام العهدة معنى الضرر وبالأهلية القاصرة إنما يثبت في حقه ما يتمحض منفعة. فإن قيل: أليس أنه لا يصح منه أداء الشهادة وفى تصحيح عبارته في أداء الشهادة محض المنفعة في حقه؟ قلنا: صحة أداء الشهادة تبنى على الأهلية للشهادة وذلك تبتنى على الأهلية الكاملة؛ لأنها إثبات الولاية على الغير في الإلزام بغير رضاه وبدون الأهلية الكاملة لا تثبت هذه الولاية. (فبطلت مباشرته وذلك مثل الطلاق والعتاق) , وليس معنى هذا أن امرأة الصبى لا تكون محلًا للطلاق بل هي محل للطلاق وعبده محل للعتاق,

فإن الطلاق يملك بملك النكاح- وملك النكاح للصبى- إذ لا ضرر في إثبات أصل الملك وإنما الضرر في الإيقاع حتى إذا تحققت الحاجة إلى صحة إيقاع الطلاق من جهته لدفع الضرر كان صحيحًا, فإن الحكم الثابت في حقه عند الحاجة, حتى إذا أسلمت امرأة الصبى العاقل وعرض عليه الإسلام فأبى- فرق بينهما, وكان ذلك طلاقًا في قول أبى حنيفة ومحمد- رحمهما الله-وإذا ارتدت وقعت الفرقة بينه وبين امرأته, كانت هي طلاقًا عند محمد - رحمه الله- وكذلك في العتاق فإنه إذا كاتب الأب أو الوصى نصيب الصغير من عبد مشترك بينه وبين غيره واستوفى بدل الكتابة., صار الصبى معتقًا لنصيبه حتى يضمن قيمة نصيب شريكه إن كان موسرًا, وهذا الضمان لا يجب إلا بالإعتاق, فيكتفى بالأهلية القاصرة في جعله معتقًا للحاجة إلى دفع الضرر عن الشريك, فعرفنا أن الحكم الثابت في حقه عند الحاجة. وأما بدون الحاجة فلا يجعل ثابتًا؛ لأن الاكتفاء بالأهلية القاصرة لتوفير المنفعة على الصبى, وهذا المعنى لا يتحقق قيما هو ضرر محض. كذا ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسى وكذلك الصدقة. قال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: فإنه محض ضرر في العاجل لا يشوبه منفعة, ولهذا تبنى صحته شرعًا على الأهلية الكاملة, فلا تثبت

بالأهلية القاصرة. (إلا من قبل التوى) وهو الجحود. (فصار ملحقًا بهذا الشرط) أي صار القرض بهذا الشرط وهو أن يكون المقرض قادرًا على استيفائه ملحقًا بما كان نفعًا خالصًا فيملكه عليه القاضى؛ لأن القاضى يتمكن من استرداده بمجرد علمه, بخلاف الأب فإنه لا يتمكن من استرداده إلا بشهود حضور ومجلس قضاء وقاض عادل يقضى بالشهود العدول, وقد لا يتمكن الأب من جميع هذه الأشياء. (وأما ما يتردد بين النفع والضرر) - إلى قوله- (والنكاح). فإن قيل: لما كان الطلاق ضررًا محضًا وجب أن يكون النكاح نفعًا محضًا؛ لأنه ضده, وبالضد تتبين أحكام الأشياء. قلنا: إنما كان هكذا لأمر خاص لكل واحد منهما؛ لأن الأثر الخاص في الطلاق زوال ملك النكاح وهو ضرر محض. وأما النكاح فحكمه حل الاستمتاع مع لزوم المهر, فكان النكاح من حيث

حل الاستمتاع نفعًا. ومن حيث لزوم المهر ضررًا فتردد بينهما لذلك, وهذا لأن المرأة تحتمل أن تهب المهر قبل الطلاق فيبقى الطلاق ضررًا محضًا ولا يحتمل أن تهب المرأة المهر قبل النكاح, فيبقى النكاح لذلك مترددًا بين النفع والضرر. وأما النفقة فبماقبلة احتباس المرأة للزوج فكان النفع من الضرر متعارضين فيتقاصان. (وقد صار أهلًا يتصور منه المباشرة)؛ لأن الكلام في الصبى العاقل؛ لأن هذه الأحكام كلها مبنية على قوله:"أما القاصرة"فيثبت بقدرة البدن إذا كانت قاصرة قبل البلوغ, ثم وجه تصور المباشرة منه هو أنه إذا تصرف بطريق الوكالة للغير أنه جائز وإن لم يأذن له وليه فيه؛ لأن فيه اعتبار النيابة هو نفع محض على ما بين. ولما كان أهلًا للتصرف للغير كان أهلًا للتصرف لنفسه بالطريق الأولى. (فإذا صار أهلًا لحكمه) وهو الملك (كان أهلًا لسببه) وهو الشراء.

(مع فضل نفع البيان) حيث اعتبر بيانه, (وتوسع طريق الإصابة) لحصول الملك له تارة بمباشرة وليه وتارة بمباشرته بنفسه, فكان هذا أنفع له مما إذا كان طريق إصابة الملك واحدًا, (حتى يجعل الصبى كالبالغ)؛ لأن نقصان رأيه اتجبر برأى الولى, وما كان عدم صحة تصرفه إلا باعتبار نقصان رأيه, فلما انجبر ذلك النقصان برأى الولي كان كالبالغ في حق التصرف لا محالة. (بطريق أن رأى الولي شرط للجواز) أي أن شرط جواز تصرف الصبى رأى الولى, وبدون رأيه لا يجوز تصرف الصبى, فكان جواز تصرف الصبى برأى الولي بمنزلة رأى آخر للولى, فكان للولى رأيان: أحدهما: تصرف الولي بنفسه برأيه. والثانى: إذنه للصبى في التصرف وهو أيضًا برأيه, ثم تصرف الصبى برأى وليه وهو عموم رأى الولى؛ لأن رأى الولي فيه قائم أيضًا, فكان رأيه شاملا للموضعين فكان عامًا وتصرف الولي بنفسه برأيه خصوص رأيه؛ لأنه اختص برأى نفسه ولم يتعد إلى موضع آخر فكان خاصًا, ثم الولي إذا تصرف

في مال الصغير برأيه الخاص لم يملك التصرف بالغبن الفاحش, فكذا إذا تصرف في مال الصغير برأيه العام وهو تصرف الصغير بنفسه برأى الولي ينبغى أن لا يملك التصرف بالغبن الفاحش. وقال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - وما قاله أبو حنيفة رضى الله عنه أوجه, فإن إقرار الصبى بعد إذن الولي له صحيح وإن كان الولي لا يملك الإقرار عليه بنفسه؛ يعنى لا يلزم من عدم الجواز في تصرف الولي لأجله عدم الجواز في تصرف الصبى بعد إذن الولى, فإن إقرار الولي الولي بنفسه على الصبى لا يجوز, ثم لو أذن الولي للصبى في التجارة وأقر الصبى على نفسه بالمال يجوز, فعلم بهذا أن بينهما فرقًا. (وفي رواية أبطله لشبهة النيابة) أي صار الصبى بمنزلة نائب الولي في التصرف.

وقوله: (دون وصفه) وهو وصف الكمال. وقال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - ولأنه وجد أصل الرأى له بنفسه ولم توجد صفة الكمال فكان هو باعتبار الأصل متصرفًا لنفسه كالبالغ, وباعتبار الصفة هو كالنائب. علم بهذا أن الصبى هو بمنزلة النائب عن الولى, ولما ثبتت للصبى شبهة النيابة نظرًا إلى وصف الرأى (اعتبرت الشبهة في موضع التهمة) وهو

التصرف مع الأقارب بغبن فاحش, (ولم يعتبر في غير موضع التهمة) وهو في التصرف معهم بمثل القيمة لثبوت النيابة له من وجه دون وجه؛ لأنه لو ثبتت النيابة من كل وجه لما جاز تصرفه معه في الصور كلها كالوكيل مع الموكل, فلما ثبتت من وجه دون وجه اعتبرت أيضًا من وجه دون وجه. (وعلى هذا) الأصل أن ما كان نفعًا محضًا يتملكه الصبى بدون إذن الولى, وما كان مترددًا بين النفع والضرر لا يتملكه الصبى بدون إذن الولى, (إذا توكل) أي قبل الوكالة (لم تلزمه العهدة) أي ضرر التسليم والتسلم وبإذن المولى تلزمه وكذلك الصبى. (وفي الانتقال إلى الإيصاء ترك الأفضل)؛ لأن في ترك الانتقال إلى الإبصاء ماله إلى قريبه وفي الإيصاء إيصال ماله إلى الأجنبى, ولا شك أن إيصال النفع إلى القريب أولى من إيصال النفع إلأجنبى, وإليه أشار النبي

عليه السلام: "لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون". (والولي في موضع النزاع ليس بولي) أي كون الصبى مع الأب أو مع الأم مما يتردد حاله بين النفع والضرر في حالة الفرقة, وكان ينبغى أن يعتبر اختيار الولي في هذا كما يعتبر رأيه في سائر التصرفات التى تتردد بين النفع والضرر كالبيع لكن لا يعتبر اختياره؛ لأن الأب ليس بولى في هذا لأن الولي هو الذي يتصرف لغيره نظرًا له بطريق الولاية وفى هذا يحتمل أن يكون نظر الأب لنفسه فلا يبقى وليًا للصغير. وقال الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - وعلى هذا قلنا: إذا وقعت الفرقة

بين الزوجين وبينهما صبى مميز, فإنه لا يخير فيما بين الأبوين -إلى أن قال- وكما لا يعتبر اختياره في هذا لا يعتبر اختيار وليه؛ لأن وليه في هذه الحالة أبوه, وأبوه في هذا الاختيار يعمل لنفسه, فلا يصلح أن يكون ناظرًا فيه لوالده, ويجوز أن لا يعتبر قوله في ذلك ولا قول أبيه؛ لنقصان رأى الصبى وعدم كون الأب وليًا. (وكفى به) أي بالتناقض, (وقال بلزوم الإحرام من غير نفع) حيث لا يسقط عنه حجة الإسلام حين بلغ إذا حج بذلك الإحرام في حال الصبا. وأما إذا أهل الصبى بالحج ثم احتلم قبل أن يطوف بالبيت أو قبل أن يقف بعرفة لم يجزه من حجة الإسلام عندنا, وعلى قول الشافعى يجزيه - فصار اختلافًا هنا نظير الاختلاف في الصلاة- فإنه إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره عنده يجزيه عن الفرض ويجعل كأنه بلغ قبل أداء الصلاة, فهنا أيضًا يجعل كأنه بلغ قبل مباشرة الإحرام فيجزيه ذلك عن حجة الإسلام,

ولكنا نقول: حين أحرم وهو لم يكن من أهل أداء الفرض فانعقد إحرامه لأداء النفل فلا يصح أداء الفرض به وهو نظير الصرورة إذا أحرم بنية النقل عندنا لا يجزيه أداء الفرض به, وعنده ينعقد إحرامه للفرض والإحرام وإن كان من الشرائط عندنا ولكن في بعض الأحكام هو بمنزلة الأركان. ومع الشك لا يسقط الفرض الذي ثبت وجوبه بيقين, فلهذا لا يجزيه عن حجة الإسلام بذلك الأحرام إلا أن يجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة حينئذ يجزيه عن حجة الإسلام؛ لأن ذلك الإحرام الذي باشره في حالة الصغر كان تخلقًا ولم يكن لازمه عليه, فيتمكن من فسخه بتجديد الإحرام, وهذا بخلاف العبد إلى آخر ما ذكره في مناسك "المبسوط". (الأشياء موضوعًا) أي وضع ذلك الشيء بنفسه. (ولا يصح اختيار الولي عليه) أي لا يصح أن يختار الولي أحدهما لأجل الصبى, وكذلك قبول الهبة في قول صحيح منه دون الولى, وفى قول عكسة أي قبول الهبة للصبى يصح من الولي دون الصبى. وذكر في هبة "المبسوط"وكل يتيم في حجر أخ أو ابن أخ أو عم يعوله,

فوهب له رجل هبة, فإنما يقبضها الذي يعوله إذا كان هو صغيرًا لا يحسن القبض, وكذلك إذا كان عاقلًا ولا يحسن القبض فقبض له من يعوله جاز؛ لأنه فيما تتمحض منفعة لليتيم كان لمن يعوله أن يباشر فيه, وإن قبض الصغير بنفسه ففى القياس لا يجوز قبضه وهو قول الشافعى؛ لأنه لا معتبر بعقله قبل البلوغ خصوصًا فيما يمكن تحصيله له بغيره. وجه الاستحسان أنه إنما لا يعتبر عقله لدفع الضرر عنه, وهذا فيما يتردد بين المنفعة والمضرة, فأما فيما يتمحض منفعته فلا يتحقق هذا المعنى. وقوله: (ومتى جعلناه وليًا لم نجعل فيه موليًا) كما في الإيمان وقبول الهبة. وإذا جعلناه موليًا عليه لم نجعله وليًا كما في الإذن في التجارة, وهذا جواب عما ذكره الشافعى بقوله: "وهو أن من كان موليًا عليه لم يصلح أن يمون وليًا" إلى آخره. (وإنما هذا عبارة عن الاحتمال) أي في كل موضع جعلنا الصبى وليًا أو موليًا عليه هو عمل بالدليل عند قيام الليل عليه, واحتمال ذلك التصرف

ذلك الحكم, فكان هذا منا بيان احتمال ذلك التصرف ذلك الحكم؛ لأن لما جعلنا الصبى في كل تصرف وليًا ثم نجعله موليًا عليه في ذلك التصرف, وفى كل تصرف جعلناه موليًا عليه لم نجعله وليًا في ذلك التصرف ولم يكن ذلك تناقضًا, وإنما التناقض في جعله وليًا وموليًا عليه في تصرف واحد, وما يتصور من اجتماع من صورة اجتماع كونه وليًا وموليًا عليه في تصرف واحد كما في الإيمان وقبول الهبة فذاك (راجع إلى توسع طريق النيل) إلى المنفعة المحضة والمقصود هو النيل والوصول إلى المنفعة. وقوله: (وذلك هو المقصود) أي المقصود هو حصول المنفعة له من كونه وليًا أو موليًا عليه, وإذا كان هو المقصود من ذلك التردد في السبب وجب اعتبار هذا التردد في السبب من كونه وليًا وموليًا عليه في تصرف واحد عند حصول الحكم له, وهو الوصول إلى المنفعة بأي طريق كان. (وإنما الأمور بعواقبها) أي في الأمور إنما تعتبر عواقبها لا ابتدائها, وعاقبة ما قلنا غير مترددة وهى حصول المنفعة له وإن كان حصول المنفعة في الابتداء مترددًا في السبب, ولا اعتبار لتردد السبب؛ لأن المقصود من الأسباب أحكامها. والله أعلم.

باب الأمور المعترضة على الأهلية

باب الأمور المعترضة على الأهلية أي الأمور التي تعترض على أصل الأهلية التي بينا أنها بناء على قيام الذمة وتمنع الأحكام التي تتعلق بالأهلية. (العوارض نوعان): أي الموانع. يقال: عرض لي أمر أمر أي استقبلني فمنعني عما أريده. (سماوي): أي من قبل صاحب الشرع بدون اختبار العبد على وجه ليس في يد العبد دفعه وإزالته وإنما نسب هذا النوع من العوارض إلى السماء لكون الحوادث موعدًا تقديرها في السماء قال الله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ) (ومكتسب) أي ما حصل من كسب العبد واختياره منه أي من الذي

اعترض عليه. عد (الجهل) من العوارض مع أنه أمر أصلي. قال الله تعالى: (واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) باعتبار أنه كان في يده إزالته بسبب مباشرته لأسباب العلم حتى يحصل له العلم ويزول الجهل ولما ترك ذلك مع قدرته عليه جعل ذلك بمنزلة حصوله مع كبسه وباقي التقرير مذكور في "الوافي". (وإذا زال قبل الامتداد فجعلوه عفوًا) أي فجعلوا الجنون غير مؤثر في الإسقاط وجعلوه كأن لم يكن وألحقوه بالنوم والإغماء.

وقوله: "لكنهم استحسنوا فيه" ذكر في حق وجوب القضاء لفظ الاستحسان لأن القياس أن لا يجب القضاء لكون الجنون منافيًا لأهلية الأداء على ما ذكر قبل هذا بقوله: "أما الجنون فإنه في القياس مسقط للعبادات

كلها "وكذلك ذكر بعده (كان القياس لفظ فيه ما قلنا) وهو كون الجنون مسقطًا للعبادات. وذكر في صوم "المبسوط"فإن أفاق المجنون في بعض الشهر فعليه بالصوم ما بقي من الشهر وليس عليه قضاء ما مضى في القياس وهو قول زفر والشافعي -رحمهما الله- لأنه لو استوعب الشهر كله منع القضاء في اكل فإذا وجد في بعضه يمنع القضاء بقدره اعتبارًا للبعض بالكل وقياسًا على الصبي وهذا الصبي أحسن حالًا من المجنون فإنه ناقص العقل في بعض أحواله عديم العقل في بعض أحواله -إلى الإصابة عادة- والمجنون عديم العقل لا إلى الإصابة عادة ولهذا جاز إعتاق الصغير عن الكفارة دون المجنون فإذا كان الصغر في بعض الشهر يمنع وجوب القضاء فالجنون أولى. واستحسن علماؤنا -رحمهم الله- بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) والمراد منه شهود بعض الشهور لأنه لو كان السبب شهود كل الشهر لوقع الصوم في شوال فصار بهذا النص شهود جزء من الشهر سببًا

لوجوب صوم جميع الأشهر إلا في موضع قام الدليل وقد قام الدليل في حق الصبي أن لا يوجب القضاء دفعًا للحرج وهذا لأن الوجوب في الذمة ولا ينعدم ذلك بسبب الصبا ولا بسبب الإغماء إلا أن الصبا يطول عادة فيكون مسقطًا للقضاء دفعًا للحرج والإغماء لا يطول عادة فلا يكون مسقطًا للقضاء والجنون قد يطول وقد يقصر فإذا طار إلتحق بما يطول عادة وإذا قصر التحق بما يقصر عادة. وقوله: (ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام) إيضاح لقوله: "وذلك أنه لما كان منافيًا لأهلية الأداء"يعني أن الدليل على أن الجنون مناف لأهلية الأداء عصمة النبي عليه السلام إنما عصم عنه لأن الجنون ينافي أداء بخلاف النوم والإغماء لأن النوم معهود في الإنسان ويتوقع الإنتباه من النوم ساعة فساعة فلا يكون منافيًا للأداء تقديرًا فوجب القول بالوجوب وكذلك الإغماء. ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام لم يعصموا عنه فصح عنه القول بالوجوب

إذا لم يوجب حرجًا ولأن الإنسان بالجنون لما لم يبق أهلًا للعبادات كان ملحقًا بالبهائم ولو لم يعصم الأنبياء عليهم السلام عنه كان تنفيرًا للناس عن دعوتهم إلى الإسلام ولذلك قال الله تعالى في حق نبيه (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). (لم يكن موجبًا حرجًا على ما قلنا) وهو إشارة إلى ما ذكر في باب بيان الأهلية بقوله: وكذلك قلنا في الجنون -إلى أن قال- وإذا لم يمتد في شهر رمضان لزمه أصله لإحتمال حكمه وهذا لأن أصل الوجوب انما يراد لحكمه فمهما كان وجوب الأداء مفضيًا إلى الحرج قلنا بسقوط الوجوب من الأصل لأن الوجوب ثابتًا في حقه. (وقد اختلفوا فيه) أي في الجنون الذي بينا حكمه من جواب القياس والاستحسان. (فأما إذا بلغ الصبي مجنونًا فإذا زال صار في معنى الصبي إذا بلغ).

وكان هذا نظير الحيض في قوله تعالى: (واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ) أي حكمهن. لذلك يعتدن بالأشهر كالصغائر إذا بلغن بالسن كما أن عدم رؤية الدم هناك على وجه الأصالة ألحق بعدم رؤية الدم في حالة الصغر، ولم يُلحق عدم الرؤية به على وجه العارض كما في الممتد طهرها، فكذلك هاهنا ينبغي أن يُلحق الأصلي بالصغير دون العارضي. (وقال محمد -رحمه الله- هما سواء) أي الجنون الأصلي والعارضي في أنه إذا لم يمتد وجب القول بالوجوب وإذا امتد لا يصح القول بالوجوب. (واعتبر حاله) أي حال المجنون (ويلحق بأصله) أي يلحق محمد -رحمه الله- الجنون الأصلي إذا زال بأصل الجنون وهو أن يكون عارضًا؛ لأن الأصل في الجبلة السلامة وفوات السلامة عارض، فكان الأصل في الجنون أن يكون من العوارض والحكم في الجنون العارضي أنه إذا امتد يمنع الوجوب وإلا فلا. (وهو في أصل الخلقة متفاوت بين مديد وقصير فيلحق هذا الأصل في الحكم الذي لم يستوعبه بالعارض) أي إلحاق الجنون الأصلي بالعارضي في الحكم الذي لم يستوعبه لما أن الجنون في نفسه متفاوت، ولما ثبت أنه متفاوت بين مديد وقصير، فالمديد يفضي إلى الحرج دون القصير، فلذلك

أثبتنا الحكم فيه على حسب ذلك. وحاصل الكلام أن محمدًا -رحمه الله- ألحق الجنون الأصلي بالعارضي، والحكم في العارضي مجمع عليه وهو أنه إذا كان مستوعبًا لمدة وظيفة العبادة كان مسقطًا لها وإلا فلا، فكذلك في الأصلي. (وحد الامتداد يختلف باختلاف الطاعات)؛ لأن امتداد وقت بعضها الشهر، وامتداد وقت بعضها السنة، وامتداد وقت بعضها اليوم، فإن الجنون إذا لم يستوعب مدة وظيفة العبادة ألحق بالجنون العارضي حتى إذا بلغ الصبي مجنونًا قبل دخول شهر رمضان ثم أفاق قبل انسلاخ شهر رمضان كان الحكم فيه كالحكم في الجنون العارضي، أي يجب قضاء صوم شهر رمضان عليه،

وكذلك هذا في الصلوات أنه إذا بلغ مجنونًا ثم زال الجنون قبل مُضي يوم وليلة يجب عليه قضاء صلوات هذا اليوم كالجنون العارضي، وإن زال بعد مضي يوم وليلة لا قضاء عليه على حسب الاختلاف. (فاعتبر الزيادة بالساعات) أي بساعات الصلوات وهي أوقاتها، وفائدة هذا الاختلاف تظهر فيمن أغمى عليه بعد طلوع الشمس ثم أفاق من الغد بعد الزوال يسقط القضاء عندهما خلافًا لمحمد -رحمه الله- والقياس ما قاله محمد -رحمه الله- ليدخل الواجب في حد التكرار، وأبو حنيفة،

وأبو يوسف -رحمهما الله- أقاما الوقت مقام الواجب كما قالوا جميعًا في المستحاضة. كذا في "مبسوط" شيخ الإسلام. وذكر في "المحيط" أن ما قاله محمد -رحمه الله- هو الأصح. ثم قال: وإنما تظهر ثمرة الاختلاف فيما إذا أغمي عليه عند الضحوة ثم أفاق من الغد قبل الزوال بساعة فهذا أكثر من يوم وليلة من حيث الساعات فلا قضاء عليه في قول أبي يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- وعلى قول محمد -رحمه الله- يجب عليه القضاء؛ لأن الصلوات لم تزد على الخمس. (لأن ذلك لا يثبت إلا بحول) أي لأن التكرار لا يثبت إلا بحول، وفي اعتبار الحول حرج؛ لأنه ربما يُجن في كل سنة ويفيق شهرًا منها أو يومًا فلا يسقط عنه الواجب أبدًا ولا يقدر على أدائه، ولأنا لو اعتبرناه بالحول يصير التبع زائدًا على الأصل؛ لأن الأصل شهر واحد والزيادة عليه أحد عشر شهرًا والتبع لا يزيد على الأصل. فإن قيل: إن غسل العضو مرة واحدة أصل والمرتان بعدها زائدتان عليها والزائد أكثر عددًا من الأصل هناك.

قلنا: لا يرد ذلك علينا؛ لأن الزائد على المرة الواحدة هناك ليس بشرط والمدعي أن لا يكون الزائد مِثْلًا للأصل فيما هو شرط، والسنن والنوافل وإن كثُرن لا يكنّ مثلًا للفرض فلا يتوجه نقضًا. (فيما يمتد) أي فيما يمتد من الجنون. (فإذا زال قبل هذا الحد وهو أصلي كان على هذا الاختلاف) يعني إذا بلغ الصبي مجنونًا وهو مالك للنصاب فمضى بعد البلوغ ستة أشهر مثلًا فزال الجنون لتمام ستة أشهر، ثم تم الحول على إفاقته فعليه الزكاة عند محمد -رحمه الله-، بل يُستأنف الحول عقيب الزوال؛ لأن هذا عند أبي يوسف -رحمه الله- بمنزلة الصبي، وفي الجنون العراضي في هذه الصورة تجب الزكاة بالإجماع؛ لأنه قبل حد الامتداد عند الكل، فأما إذا زال الجنون بعد مضي أحد عشر شهرًا فكذلك الجواب عند محمد -رحمه الله- فيهما جميعًا للزوال قبل حد الامتداد، وعند أبي يوسف -رحمه الله- لا يجب لوجود الزوال بعد حد الامتداد، وفي "المبسوط" ثم في الجنون الأصلي لا ينعقد الحول على ماله حتى يفيق، فإن كان جنونه طارئًا فقد ذكر هشام في نوادره أن على قول أبي يوسف العبرة لأكثر الحول، فإن

كان مفيقًا في أكثر الحول تجب الزكاة وإلا فلا، وجعل هذا نظير الجزية، فإن الذمي إذا مرض في بعض السنة فإن كان صحيحًا في أكثر السنة تلزمه الجزية وإن كان مريضًا في أكثر السنة لم تلزمه الجزية. وقال محمد -رحمه الله-: إذا كان مفيقًا في جزء من السنة قل أو كثر من أولها أو آخرها تلزمه الزكاة. هكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف -رحمهما الله- وجعل هذا نظير الصوم، والسنة للزكاة كالشهر للصوم. والإفاقة في جزء من الشهر كالإفاقة في جميعه في وجوب صوم الشهر فهذا كذلك. (وهو الثواب في الآخرة)؛ لأنه مسلم تبعًا لأبويه (إذا احتمل الأداء) أي إذا وجد الأداء عند الاحتمال وهو فيما إذا لم يوجب الأداء الحرج. (وذلك ولاية) أي الوراثة ولاية بدليل قوله تعالى: (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ

ولِيًا (5) يَرِثُنِي)، حيث جعل الوراثة تفسيرًا للولاية، والوصف المفسر عين المفسّر وإلا لا يكون مفسرًا له، والمفسر ولاية فكان المفسر ولاية فكانت الوراثة ولاية بهذا التقرير، وثبوت الإرث والملك لا يكون بدون الذمة والولاية، فعلم بهذا أن للمجنون ذمة. (فيصير الوجوب عدمًا بناء عليه) أي على عدم الأداء أي على عدم وجوب الأداء وذلك فيما إذا كان الأداء مفضيًا إلى الحرج. (لأنه أهل لحكمه) لأن حكمه أداء المال في حقوق العباد وذلك يتحقق بالولي لما أن فعل من وجب عليه المال غير مقصود في حقوق العباد بل المقصود وصول المال إلى من يستحقه. وقوله: (على ما قلنا) إشارة إلى ما ذكر في باب بيان الأهلية بقوله: فما كان منها غرمًا وعوضًا فالصبي من أهل وجوبه؛ لأن حكمه وهو أداء العين يحتمل النيابة؛ لأن المال مقصود لا الأداء، وهذا كله بناء على قيام الذمة. (والحجر عن الأقوال صحيح) ألا ترى أن الحجر عن الأقوال في حق بعض العقلاء صحيح كالمقتدي محجور عن القراءة، والمريض محجور عن

الإقرار في بعض الأحوال بخلاف الأفعال، فأولى أن يصح الحجر عن الأقوال في حق المجنون نظرًا له، ففسدت عبارته؛ لأن العبارة إنما تكون بالكلام وصحة الكلام بالعقل والتمييز وبدونهما لا يكون كلامًا. (لعدم ركنه وهو العقد أي الاعتقاد فلم يكن حجرًا) يعني ما قلنا إن إيمانه لم يصح لم يكن ذلك منا حجرا له عن الإيمان، بل بناء على أن ركنه لم يوجد لا أن يكون مجورًا عنه، هذا جواب شبهة بأن يقال: قولكم إن إيمان المجنون لا يصح حجر منكم للمجنون عن الإيمان كما قلتم للشافعي في قوله: إن إيمان الصبي العاقل لا يصح أن هذا حجر منه عن الإيمان وهو لا يصح. قلنا: إن الصبي لما عقل يتحقق منه ركن الإيمان وهو التصديق ثم بعد وجود الإيمان بحقيقته من قال: لا يصح إيمانه كان ذلك حجرًا له عن الإيمان لا محالة. وأما في حق المجنون فكان عدم صحة الإيمان لعدم ركنه لا للحجر عنه. (دفعًا للظلم بقدر الإمكان)؛ لأن السبيل إلى إسلامه ممكن بهذا الطريق فوجب المصير إليه دفعًا للضرر عن المسلمة وهو كونها مقهورة تحت كافر ولا

يجوز ذلك؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. (وما كان ضررًا يحتمل السقوط فغير مشروع في حقه) نحو الحدود والقصاص والكفارات؛ لأنها تحتمل السقوط عن البالغ بالشبهات، وكذلك العبادات فإنها تحتمل السقوط بالأعذار. (حتى يصير مرتدًا تبعًا لأبويه)، وهذا لأن الإسلام لا يمكن في حقه أن يثبت بطريق الأصالة لعدم تصور ركن الإيمان وهو التصديق بالقلب عن المجنون، ولو ثبت الإسلام في حقه إنما يثبت بطريق التبعية، وإذا ارتد أبواه -والعياذ بالله- زالت التبعية في الإسلام، والمجنون بسبب عدم عقله تبع لأبويه لا محالة، ثم لو لم تثبت الردة في حقه مع كونه تبعًا لهما يلزم أن تكون الردة عفوًا في حقه، وهو محال في الذي هو قبيح لعينه فوجب القول بثبوت الردة في حقه؛ لأن الإسلام مع وجود الردة محال للتضاد بينهما فوجدت الردة في المتبوع حقيقة فتثبت في التبع ضرورة. ["الصغر"] (وأما الصغر) إلى آخره، فإن قيل: الصبا كيف يكون من العوارض وهو لازم الإنسان من زمان الولادة؟

قلنا: يعتبر العارض في ذات الإنسان وقد يوجد الإنسان بدون الصغر وهو في الحال كالبالغ، ووجد أيضًا في جنس أصل الإنسان في أول وجوده من لا صغر له كآدم عليه السلام، ولأنا بينا أن الوجوب بناء على قيام الذمة والسبب وهما موجودان في حق الصغير والوجوب ساقط، فعلم بهذا أن السقوط باعتبار العارض وليس ذلك في حق الصغير سوى الصغر فجعلنا الصغر من العوارض لذلك. (لكنا الصبا عذر مع ذلك) لكونه ناقص العقل (فقد سقط بعذر الصبا ما يحتمل السقوط عن البالغ)، فالصلاة مما يحتمل السقوط عن البالغ بالإغماء وغير ذلك فسقط عن الصبي، وكذلك الزكاة تحتمل السقوط عن البالغ بسبب الدين وبهلاك النصاب بعد الوجوب، وكذلك الصوم يسقط وجوب أدائه في الحال كما في حق الحائض والمريض والمسافر، وكذلك وجوب أداء الإيمان بالإقرار يحتمل السقوط عن البالغ. ألا ترى أن من لم يصادف وقتًا يتمكن فيه من الإقرار فصدق بقلبه وآمن صح إيمانه بالإجماع، وكذلك المكره على الكفر بالقتل فإنه يرخص له الإقدام على إجراء كلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان فكان وجوب أداء الإيمان في ذلك الزمان ساقطًا، فصح القول لذلك بسقوط وجوب أداء الإيمان عن الصبي لكن مع ذلك إذا آمن صح إيمانه.

(فقلنا لا يسقط عنه فرضية الإيمان) أي لا يسقط عنه شرعية فرضية أداء الإيمان لا لزوم أدائه، وإنما أوّلنا بهذا التأويل لئلا يتناقض هذا الظاهر بما ذكر قبله في آخر باب بيان الأهلية بقوله: وإذا عقل الصبي واحتمل الأداء قلنا بوجوب أصل الإيمان دون أدائه وبما ذكر بعده في باب أهلية الأداء بقوله: ولا عهدة فيه إلا في لزوم أدائه وذلك يحتمل الوضع. "فوضع عنه" أي عن الصبي. (حتى إذا أداه كان فرضًا لا نفلًا) ولو كان أداء الفرضية ساقطًا عنه لكان ما أداه نفلًا لا فرضًا، كالصلوات والزكوات والصيامات، ولأن الإيمان إذا وجد بحقيقته أينما وجد يقع نفلًا بل فرضًا. (الا ترى أنه إذا آمن في صغره لزمه أحكام ثبتت بناء على صحته الإيمان) كحرمانه الإرث عن أقاربه الكفار، واستحقاقه الإرث من أقاربه المسلمين والفرقة بينه وبين امرأته الكافرة وجواز صلاة الجنازة عليه. (وهي جعلت تبعًا للإيمان الفرض)، وقوله: "الفرض" خرج بيانًا لكون الإيمان أينما وجد وجد فرضًا لا أن يكون بيانًا لنوع الإيمان، لما قلنا:

الإيمان لا يتنوع إلى فرض ونفل. (ولم يعد كلمة الشهادة لم يجعل مرتدًا) فلو لم يكن ذلك الأداء فرضًا لوجب عليه الإعادة كما إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ في آخره تجب عليه الإعادة. فإن قيل: كيف يكون ذلك الأداء فرضًا وهو ليس بفرض عليه في الحال؟ قلنا: وقوع الأداء فرضًا لا يفتقر إلى فرضية في الحال كالمسافر والمريض والعبد في حق صلاة الجمعة، والمريض والمسافر في حق الصوم في شهر رمضان. (ولو كان الأول نفلًا لما أجزي عن الفرض)؛ لأن النفل يخالف الفرض وهو أدنى حالًا من الفرض، فكيف يجزئ النفل عنه وصفة الفرضية في النفل معدومة؟ فإن قيل: يُشكل على هذا الوضوء قبل الوقت فإن ذلك نفل ينوب عن الفرض الذي يفترض عليه بعد دخول الوقت. قلنا: لا يرد ذلك علينا؛ لأن الوضوء تبع للصلاة وشرط لها، ففي الشروط يعتبر وجودها بأي وصف كان لا وجودها بطريق الفرضية.

ألا ترى أن سائر الشروط من لبس الثياب وتطهير المكان واستقبال القبلة وغيرها لو وجد على وجه الإباحة أو لنفع نفسه من لبس الثياب لدفع الحر والبرد ينوب عن وجود الشرط بطريق الفرضية، فأولى أن ينوب الشرط النفل عن الشرط الفرض، بخلاف الإيمان فإنه رأس العبادات المقصودة فلا يصح فيه أن ينوب النفل عن الفرض كما في سائر العبادات المقصودة من الصلاة والزكاة والصيام، (ووضع عنه التكليف وإلزام الأداء) أي وضع عنه تكليف الإيمان وإلزام أدائه. وقوله: (عن كل عهدة يحتمل العفو) قيّدها باحتمال العفو لتخرج الردة ولذلك أي ولأجل أن الصبا من أسباب المرحمة (لا يُحرم الميراث بالقتل)، يعني إذا قتل الصبي مورثه يرث منه؛ لأن الحرمان عن الإرث بسبب القتل ثبت جزاء جناية القاتل والصبي ليس من أهل الجزاء بطريق العقوبة في الدنيا، بخلاف الرق والكفر حيث يحرم بهما الإرث؛ لأن ذلك لعدم الأهلية لا لاعتبار الجزاء. يوضحه أن الرق أثر الكفر والكفر موت كما أن الإسلام حياة. قال الله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) أي كافرًا

فهديناه، والميت لا يرث الحي، ولأن الرقيق مال والمال ليس بأهل للميراث، ولأن القول بوراثة الرقيق قول بوراثة الأجنبي من الأجنبي؛ لأن ما للرقيق لمولاه فكان الميراث لمولاه في الحقيقة وهو أجنبي وذلك باطل، ولأن الإرث نوع ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم، وكذلك لا ولاية للرقيق على نفسه فأولى أن لا يكون له ولاية على غيره. (خالصة لا تلزم الصبي بحال) نحو الحدود والقصاص. (ومشوبة يتوقف لزومها على رأي الولي) نحو لزوم العهدة في البيع والإجارة والوكالة. (صار من أسباب ولاية النظر) أي تثبت الولاية، أي تثبت للغير عليه ولا تثبت له على الغير. ["العته"] (والعته) ما يوجب خللًا في العقل؛ لأن المعتوه من هو مختلط الكلام يشبه كلامه مرة بكلام العقلاء ومرة بالمجانين، والعته نظير آخر أحوال

الصبي، والجنون بمنزلة أول أحوال الصبي. (لا يمنع صحة القول والفعل) حتى لو أسلم يصح ولو أتلف مال الغير يضمن. (ولكن شرع جبرًا) أي جبرًا للنقصان لا الجبر الذي هو ضد الاختيار. (والصبا محدود فوجب تأخيره) أي تأخير العرض؛ لأن فيه عهدة على

الصبي وهي فرقة المرأة عنه على تقدير إباء أبيه وأمه الإسلام ومطالبة المهر عنه في الحال وهو ليس من أهل العهدة. قيد المعتوه بالعاقل، احترازًا عن المعتوه غير العاقل فإنه والمجنون سواء. (وأما الصبي العاقل والمعتوه العاقل فلا يفترقان) أي يعرض عليهما الإيمان في الحال. ["النسيان"] (وأما النسيان) فهو عبارة عن الجهل الطارئ (فلا ينافي الوجوب) لأنه لا يُعدم العقل. (ولكنه يحتمل أن يُجعل عذرًا)، ذكر بلفظ الاحتمال؛ لأنه جعل عذرًا في موضع ولم يُجعل في موضع آخر، وإنما احتمل أن يُجعل عذرًا؛ لأن النسيان وصف جبل عليه الآدمي فكان مضافًا إلى من له الحق على ما أشار إليه

النبي عليه السلام بقوله: "إنما أطعمك الله وسقاك". (لأن حقوق العباد محترمة لحقهم وحاجتهم) إلى آخره. يعني أن الله تعالى غني عن العالمين وله أن يبتلي عباده بما شاء، والأمر والنهي ابتلاء من الله تعالى لعباده مع غناه عن أفعالهم وأقوالهم. وأما في حق العبد فليس فيه ابتلاء، بل حقه معصوم شرعًا لحاجته وافتقاره إليه، وإذا أتلف غيره حقه بأي وصف كان وجب عليه جبرانه لحاجته إلى ما يجبر حقه. (لكن النسيان إذا كان غالبًا يلازم الطاعة) يعني أن النسيان لا ينافي الطاعة، ولا تخلو الطاعة عنه كالنسيان في الصوم، فإن الصوم يبقى مع وجود الأكل إذا كان ناسيًا مع أن الأكل مناف ركن الصوم وغلبه النسيان فيه لدعوة الطبع إلى الأكل والشرب، وكذلك النسيان يغلب على البشر حال الذبح لخوف يعتريه أو اضطراب يلحقه، فلذلك جعل نسيان التسمية عفوًا فحلت الذبيحة.

(والنسيان ضربان: ضرب أصلي) وهو أن يكون مركبًا فيه على وجه ليس في وسعه حفظه كالنسيان في الصوم والذبيحة؛ لأنه ليس له فيهما حالة مذكرة تذكر حفظه فكان النسيان فيه عفوًا. (وضرب يقع فيه المرء بالتقصير) وهو فيما له حالة مذكرة كالأكل والكلام ناسيًا في الصلاة، وكذلك نسيان ما حفظه من العلوم الشرعية. إنما يقع فيه لتقصيره بسبب ترك التكرار، ولهذا استحق الوعيد من نسي القرآن بعد الحفظ. (لأنه ليس مثل المنصوص عليه في غلبة الوجود)؛ لأن القياس فيما ذكرنا لا يُجعل عفوًا أيضًا؛ لأن الحكم بعدم الشيء مع وجوده حقيقة مما يأباه القياس كالأكل في الصوم، وكذلك الحكم بوجود الشيء مع عدمه حقيقة

حكمًا كما في ترك التسمية على الذبيحة ناسيًا، فجعل النسيان عفوًا فيهما بخلاف القياس فلا يعدى هذا الحكم إلى غير المنصوص إلا إذا كان هو مثل المنصوص عليه من كل وجه فحينئذ يعدى إليه. (حتى إن سلام الناسي لما كان غالبًا) في الصلاة ألحقناه بالصوم في جعله عذرًا، وذلك إذا سلم في القعدة الأولى على ظن أنها القعدة الأخيرة، ثم علم أنها القعدة الأولى لا تفسد صلاته، والتسليم في غير ذلك الموضع لما لم يكن غالبًا لم يجعل عذرًا بل تفسد الصلاة. ["النوم"] (فعجز عن استعمال الأحوال) يعني به الإدراكات الحسية من السمع والبصر وغيرهما، والأفعال الحسية من القيام والركوع والسجود وغيرها أي لا يقدر على استعمال قدرة مدركة للأحوال، فلما كان هو عجزًا عن تحصيل القدرة التي تحصل بها الأفعال عند استعمال الآلات السليمة لعدم الاختيار للنائم لم يُعتد أفعاله من القيام والركوع والسجود؛ لأن هذه الأفعال اختيارية لا تتحقق بدون الاختيار. وأما القعدة الأخيرة فلا نص عن محمد -رحمه الله- فيها أنه تعتد من الفرض أو لا تعتد إلا أنه ذكر مسألة يستدل بها على اعتدادها من الفرض فيما

إذا وجدت في حالة النوم، وهي أنه إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الأخيرة وقعد ثم نام قدر التشهد ثم انتبه بعد قعوده قدر التشهد في النوم ثم قهقه قال: لا تفسد صلاته وتنتقض طهارته. دلت المسألة على اعتداد القعود المأتي به في حالة النوم من الفرض، لأنه لو لم يعتد من الفرض لوجدت القهقهة قبل القعود قدر التشهد فتفسد صلاته، وحيث لم تفسد علم أنه معتد به، ولعل الفرق بين القعدة وغيرها من الأركان أن القعدة فرض وليست بركن؛ لأن القعدة للاستراحة، والعبادة تنبئ عن المشقة، وغير القعدة من الأفعال كالقيام والركوع والسجود ركن فكان أقوى حالًا من

القعدة, فما هو المراد من شرعية الصلاة وهو التعظيم والتلل والتعبد لا يوجد في النوم بخلاف القعدة فإنها للإستراحة والنوم كذلك فيتوافقان فجاز أن تختسب القعدة بالنوم. وقوله: (والصحيح أنه لا يكون حدثاُ) ولا تفسد صلاته وقع على خلاف ما اختاره في ((الفتاوى)). وقال في ((الخلاصة)) وغيرها: ولوضحك في النوم في الصلاة قهقهة لا تنتقض طهارته ولكن تفسد صلاته, وهو المختار.

[((الإغماء))]

[((الإغماء))] (لأن النوم فترة أصلية وهذا عارض ينافي القدرة) أراد به أن الإنسان لا يخلو عن فترة النوم وأنه يوجد في كل إنسان ظاهرًا لا أن يكون المراد به أنه ليس من العوارض, ولهذا أورده في العوارض, وهذا عارض ((أي الإغماء)) عارض يعرض إنسانًا دون إنسان فكان في كونه عارضًا أقوى من النوم, وفي تفويت القوى أشد منه أيضًا, لأن النوم يمكن إزالته بالتنبيه ولا كذلك الإغماء.

((وهو فوق الحدث)) أى الإغماء فوق الحدث السماوي من النوم مضطجعًا غير معتمد وغيره فلا يلحق به في حق البناء, لأن البناء ثبت بخلاف القياس فلا يلحق به ماهو فوقه في الحدث كالجنابة. (أن لا يسقط به شيء من الواجبات) , لأن العقل غير زائل من المغمى عليه كما في النائم. (على ما فسرنا) أراد به قوله: فأما في الصلوان فبأن يزيد على يوم وليلة باعتبار الصلوات عند محمد -رحمه الله- إلى آخره.

[((الرق))]

(لأن الامتداد في الصوم نادر) فلا يعتبر, لأن النادر لا حكم له, لأن الأحكام تبتنى على ما عم وغلب لا على ما شذ وندر, وفي الصلاة غير نادر والحرج فيها بالتكرار فلذلك سقطت عند التكرار. (جاءت السنة) أي في الصلاة جاءت السنة على نحو ماقلنا وهي: أن عمار بن ياسر-رضس الله عنه -أغمي عليه يومًا وليلة فقضاهن, وعبدالله بن عمر -رضى الله عنهما-أغمى عليه في ثلاثة أيام فلم يقض الصلوات, كذا في ((المبسوط)). (فلم يوجب حرجًا) أي فيما إذا لم يزد الإغماء على يوم وليلة. [((الرق))] (وأما الرق) فإن قلت: فلم أورد الرق من العوارض السماوية مع أن

سببه هو الكفر مع وصف فكان في يده إزالته وكان من المكتسبة كالجهل؟ قلت: قال شيخي-رحمه الله-في جوال هذا: ليس هذا كالجهل, فإن العبد بعد ما صار مرقوقًا ليس في يده إزالته, وهنالك بعد ما كان جاهلًا هو في يده إزالته. ألا ترى أنه عد المرض من العوارض السماوية مع أن إزالة المرض في يده بالمعالجة في بعض الصور وهاهنا ليس في يد العبد إزالة الرق في جميع الصور فأولى أن يعد هو من السماوية. (عجز حكمي) أي لا حسي فكم من عبد يكون أقدر حسًا من الحر لكن هو عاجز عما يقدر عليه الحر حكمًا مثل الشهادة والولاية والملك والتزوج بالأربع ونحوها. (شرع جزاء في الأصل): لأن الكافر لما ألحق نفسه بالبهائم في حق عدم التكليف جازاه الله تعالى بالملك للعباد عليه كالبهائم, أم لما استنكف أن يكون

عبدًا لله جازاه الله تعالى بأن صبره عبد عبده. (لكنه في البقاء صار من الأمور الحكيمة) هذا إستدراك عما وردت الشبهة على الكلام الأول, وهو قوله: ((شرع جزاء)) بأن يقال: لما كان جزاء لاستنكافه وجب أن لا يبقى عند زوال الإستكناف أو لا يثبت في أولاده أيضًا وإن لم يوجد الإستنكاف منهم أصلًا لكون بقاء الرق من الأمور الحكمية لا الجزائية كبقاء الحرية بعد الإسلام. (العرضة): هى المعرض للأمور قال الشاعر: فلا تجعلوني عرضة للوائم (والابتذال): شب وروز داشتن جامه وآنجه بدان ماند. فكذلك العبد

صار محلًا للتعرض والغمتهان على حسب ماشرع للمولى من قضاء حاجته به من إستعماله في خدمته وتمليكه كما في سائر أمواله. (وكذلك العتق الذي هو ضده) أي ضد الرق, يعني لما كان الرق غير متجز لم يكن العتق الذي هو ضده متجزيًا, لانه لو كان متجزيًا يلزم أن يكون الرق متجزيًا أيضًا, لأنه لو ثبت في بعض المحل العتق فالبعض الآخر لا يخلو إما أن يكون رقيقًا أو حرًا فإن كان رقيقًا ثبت تجزيهما وهو ممتنع لا اتفاق وإن كان حرًا ثبت عدم تجزي العتق. (حتى إن معتق البعض لا يكون حرًا أصلًا عند أبى حنيفة -رضي الله عنه-في شهاداته وسائر أحكامه). وإنما هو مكاتب غير أنه لا ينفصخ بالفسخ أو بالتعجيز. وقال في ((المبسوط)): فإن العتق عنده يتجزى 0 أي الإعتاق عند أبي حنيفة رضي الله عنه يتجزى - حتى إن من أعتق نصف عبده فهو الخيار في النصف الباقي إن شاء أعتقه وإن شاء إستعساه في النصف الباقي في نصف قيمته, وما لم يؤد السعاية فهو كالمكاتب.

وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي -رحمهم الله- يعتق كله ولا سعاية عليه لقوله عليه السلام: (من أعتق شقصا من عبد فهو حر كله ليس لله تعالى فيه شريك)) , ولأن إتصال أحد النصفين بالآخر أقوى من إتصال الجنين بالأم: لان ذلك يعرض الفصل, ثم إعتاق الام يوجب عتق الجنين لا محالة, فإعتاق أحد النصفين أن يوجب عتق النصف الآخر أولى. واستدل أبو حنيفة -رضي الله عنه-بحديث سالم عن ابن عمر -رضي الله عنهم -أن النبي عليه السلام قال: ((من أعتق شخصًا له من عبد فإن كان موسرًا فعليه خلاصة, وإلا فقد عتق ما عتق ورق ما رق)) , والمعنى فيه أن هذا

إزالة ملك اليمين بالقول فيتجزى في المحل كالبيع, وتأثيره أن نفوذ تصرف المالك باعتبار نلكه وهو مالك للمالية دون الرق. فالرق إسم لضعف ثابت في حق أهل الحرب مجازاة وعقوبة على كفرهم, وهو لا يحتمل التملك كالحياة, إلا أن بقاء ملكه لا يكون إلا ببقاء صفة الرق في المحل كما لا يكون إلا باعتبار صفة الحياة في المحل, وذلك لا يدل على أن الحياة مملوكة له, فإذا ثبت أنه يملك المالية وملك المالية محتمل للتجزي فإنما يزول بقدر ما يزيله, ولهذا لا يعتق شيء منه بإعتاق البعض عند أبي حنيفة-رحمه الله-وإنما سمى فعله إعتاقًا مجازًا على معنى أنه إذا تم إزالة الملك بطريق الإسقاط يعقبه العتق الذي هو عبارة عن القوة لا أن يكون الفعل المزيل ملاقيًا للعتق كالقاتل فعله لا يحل الروح وإنما يحل البنية ثم ببعض البنية تزهق الروح فيكون فعله قتلًا من هذا الوجه. أما إعتاق الجنين عند إعتاق الام فليس لأجل الإتصال. ألا ترى أن إعتاق الجنين لا يوجب إعتاق الأم والإتصال موجود, ولكن الجنين في حكم جزء من أجزائها كيدها ورجلها وثبوت الحكم في التبع بثبوته في المتبوع وأحد النصفين ليس بتبع للنصف الآخر, فلذلك لم يكن إعتاق أحد

النصفين موجبًا للعتق في النصف الباقي, وتأويل قوله عليه السلام: ((فهو حر)) سيصير حرًا كله بإخراج الباقي إلى الحرية بالسعاية -إلى هذا أشار في ((المبسوط)). (وقال أبو يوسف ومحمد-رحمهما الله- الإعتاق إنفعاله العتق) أي لازمه ومطاوعه, يقال: أعتقه فعتق كما يقال كسرته فانكسر, ولا وجود للمتعدي بدون لازمه, لأن التعدية إثبات اللازم وإثباته مع كونه معدومًا لا يتحقق فكذلك الإعتاق مع التق, فإذا كان كذلك لا يكون الإعتقا متجزيًا ولو كان متجزيًا مع أن العتق غير متجز يلزم أحد أمرين: إما وجود المتعدي بدون اللازم وهو ممتنع وإما عدم تجزي الإعتاق على تقدير ثبوت اللازموهو العتق فيثبت هو ضرورة. (كالتطليق) وهو فعل غير متجز, لأن التطليق لا يتنصف لكا أن إنفعاله وهو الطلاق غير متجز بأن بطلق نصف المرأة دون نصفها الباقي, فكذلك الإعتاق مع العتق لما لم يتجز الإنفعال وهو العتق بالإتفاق يجب أن لا يتجزى فعله وهو الإعتاق.

(وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه- الإعتاق إزالة لملك تعلق به حكم لا يتجزى وهو العتق) ولا يصح أن يقال: إن الإعتاق إثبات القوة, لأن العتق عبارة عن الوقة, يقال: عتق الطير إذا قوى وطار عن وكره وإثبات القوة ليس في وسع البشر, والإعتاق الذي هو عبارة عن إزالة الملك في وسعه, لكن إذ زال ملكه عن العبد بالإعتاق ثتبت له الوقة فلذلك سمي إعتاقًا, وهذا لأن إزالة الملك حق العبد وإثبات العتق ليس بحقه. فصرف اللفظ الدال على فعله إلى ماهو حقه أولى من الصرف إلى ماهو ليس بحقه, (لأنه عبارة عن سقوط الرق) أي العتق عبارة عن سقوط الرق وهذا توسع في الكلام, لأن العتق عبارة عن القوة على ما قلنا, غير أن العتق لا يتثور بدون سقوط الرق فكان سقوط الرق لازمه ثبوت العتق فعبر به عنه, كما أن الحركة ليست عبارة عن زوال السكون بل هي عرض يلزم من وجوده زوال السكون فجاز أن نعبر بزوال السكون عن الحركة, فكذلك ها هنا جاز أن تعبر عن ثبوت العتق بسقوط الرق. (وسقوط الرق حكم لسقوط كل الملك) يعني أينما ثبت سقوط كل

الملك يثبت سقوط الرق, لأنه لا يتصور سقوط الرق الذي هو العتق مع بقاء الملك. (وكذلك إعداد الطلاق للتحريم) أي للحرمة الغليظة. فصار حاصل إختلافهم راجعًا إلى تفسير الإعتاق, فعندهما الإعتاق إثبات العتق والعتق لا يتجزى بالاتفاق, وهو إنفعال الإعتاق فلا يتجزى الإعتاق أيضًا. وعند أبى حنيفة-رحمه الله- الإعتاق إزالة لملك متجز فكان الإعتقا أيضًا متجزيًا, فكان إختلافهم ها هنا بمنزلة إختلافهم في مسألة الصابيات. وقوله: (لقيام المملوكية مالًا) أي قيام المملوكية من حيث المالية يمنع كونه مالكًا للمال, يعني هو مملوك من حيث هو مال فلا يتصور أن يكون مالكًا

للمال لما بين المالكية والمملوكية من المنافاة, لأن المالكية عبارة عن قدرة شرعية على المال والمملوكية عبارة عن عجز شرعي عنه. وكذلك المال مبتذل ومالكه مبتذل وبينهما منافاة بخلاف مالكية غير المال فإنه ليس بمملوك من ذلك الوجه, فلا يمنع مالكيته كالنكاح والإقرار بالدم والحدود على ما يجيء، وهذا لأن استحالة الاجتماع من جهتين مختلفتين كالنكاح يثبت الحل في المنكوحة والحرمة في أمها. وحصل من هذا أنه لما كان مالًا مملوكًا لم يكن أهلًا لملك المال ولا لما هو مختص بملك المال (حتى لا يملك العبد والمكاتب التسري) وإن كانا يملكان التصرف, لان التسري مختص بالملك في الرقبة ورقبتهما مال فلا يملكان التسري. (وهي البدنية) أي القدرة البدنية, (لأنها للمولى) أي لأن قدرة العبد

ملك المولى تبعًا لملك الرقبة, لان ملك الذات علة لملك الصفات (إلا ما استثنى عليه في سائر القرب البدنية) أي إلا ما استخرج على المولى في باقي العبادة البدنية مثل الإيمان والصلاة والصوم فإنه ليس للمولى منع عبده عن الإتيان بتلك العبادة البدنية, لأن تلك العبادات مستثناة عن تصرف المولى في حقها بالمنع إجماعًا. وكان شيخي -رحمه الله- يقول: كان ورد الإستفتاء من نسف إلى بخارى بالسؤال عن هذا الاستثناء بأن لفظ هذا الاستثناء في أي موضع من الكتب؟ قيل في جوابه: إن الاستثناء هاهنا معنوي لا لفظي بإجماع المسلمين يعني إن المسلمين أجمعوا من لدن رسول الله عليه السلام على أنه ليس للمولى منع عبده عن هذه العبادات البدنية فكان بمنزلة الاستثناء. لأن ملك الذات لما أوجب ملك الصفات والذات ملك المولى اقتضى

القياس أن يملك المولى جميع صفات عبده بالتصرف فيه بأن يمنعه عن الصلاة والصوم أيضًا إجراء لإطلاق هذا الأصل, فلما تخلف حكم هذه العبادات عن هذا الأصل كان ذلك بمنزلة الاستثناء عن ذلك الأصل. فإن الإستطاعة التي يحصل بها الإيمان والصلاة والصوم ليست للمولى وهو في حقها مبقى على الحرية بخلاف إستطاعة الحج فإنها للمولى, والمعنى فيه أن حق المولى في الحج يفوت في مدة طويلة, فقدم حق العبد على حق الله تعالى لحاجته, فلهذا إذا حج ثم اعتق لا يسقط عنه حجة الإسلام, وأيد هذا قوله عليه السلام: ((أيما عبد حج عشر حجج ثم عتق فعليه حجة الإسلام) فصار هذا كالحر الذي يحج عن الغير, لأن العبد حج بقدرة هي للمولى. (بخلاف الفقير) , لأن القدرة الأصلية وهي قدرة البدن ثابتة له, وإنما شرطت غستطاعته الزاد والراحلة ليتمكن بها من أداء الحج, فإذا تمكن بدونها كان المستطيع بالزاد والراحلة فكان كالمسافر والمريض والعبد يصلون الجمعة حيث تصح منهم الجمعة ويسقط عنهم فرض الظهر, لأن عدم وجوب الجمعة كان لنفي الحرج, فإذا تحملوا الحرج وأدوا الجميعة يسقط عنهم فرض الوقت الذي كان عليهم وهو الظهر.

وقوله: (فأما الزاد والراحلة فلليسر) وذكر اليسر هاهنا لبيان نفي الحرج لا لإثبات القدرة الميسرة, لأن الحج إنما وجب بالقدرة الممكنة لا بالميسرة, بدليل بقاء وجوبه على من افتقر بعد أن ملك الزاد والراحلة. (والرق لا ينافي مالكية غير مال وهو النكاح) , لأن العبد آدمي مكلف كان ينبغي أن يملك كل ما بملكه الحر من هذا الوجه, إلا أنه لما كان مملوكًا مالًا استحال أن يكون مالكًا للمال, إذ الاجتماع بين الضدين في حق شخص واحد من جهة واحدة محال, وعن هذا قلنا إنه لا ينافي مالكية غير المال, لأن المالكية والمملوكية هناك من جهتين مختلفتين فصح أن يجتمعا فيه, فلذلك كان العبد مالكًا للنكاح, لأن النكاح من خواص الآدمية ولا منافاة في كونه مالكًا للنكاح فيملك النكاح وإن كان هو مملوكًا مالًا. فإن قيل: كيف يكون مالكًا للنكاح فإنه لو نكح بغير إذن المولى لا ينفد بل يتوقف إلى إجازة المولى؟ قلنا: إنما يتوقف نفاذه إلى إجازة المولى لتعلق حق المولى به, وهو شغل ماليته بالمهر والنفقة وماليته ملك المولى فلا يملك شغل ذلك بتصرفه بغير إذن المولى.

والدليل على أنه مالك للنكاح أن إشتراط الشهود إنما يكون عند النكاح لا عند الإجازة, وكذلك لو تزوج بغير إذن المولى ثم اعتقه مولاه قبل الإجازة نفذ ذلك النكاح. فإن قلت: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)) يقتضي أن لا يملك العبد النكاح, لأن الله تعالى نفى قدرته على شيء منكر في موضع النفي فيتناول كل الأشياء والنكاح شيء فلا يملكه بقضية هذه الآية؟ قلت: بالنظر إلى ظاهرة هذه الآية قلنا إنه لا يستبد بالنكاح بنفسه بغير إذن المولى. وأما أصل ملك النكاح فيحصل له بالدليل الذي قلنا, ولهذا كان الحكم المقصود بالنكاح وهو حل الإستمتاع حاصلًا له لا للمولى, وكذلك ملك الطلاق الذي يرفع النكاح حاصل له لا للمولى وكل من يملك الرفع من العقود هو الذي يملك إثباته. علم بهذا أن النكاح مملوك له والتوقف إلى إجازة المولى باعتبار ماقلنا من شغل ماليته بالمهر والنفقة وهي مولاه. فإن قلت: لما ملك العبد النكاح وجب أن لا بيملك المولى إجبار عبده على

النكاح, لأنه عاقل بالغ مالك للنكاح فلا يملك إجباره على النكاح كما لا يملك إجبار إبنه العاقل البالغ على النكاح, وهذا لأن ما يتناوله النكاح من العبد غير مملوك للمولى عليه فهو فى تويجه متصرف فيما لا يملكه فلا يستبد به كما هو مذهب الشافعي -رحمه الله. قلت: إستدل علماؤنا -رحمهم الله-في صحة إجبار المولى عبده على النكاح بظاهر قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75). وإباء عقد المولى شيء فلا يقدر العبد عليه, لأنه مملوكه على الإطلاق فيملك إنكاحه بغير رضاه كالأمة, وهذا لأن في الأمة إنما ينفذ عقد المولى عليها بملكه رقبتها لا بملكه مايملك بالنكاح, فإن ولاية التزويج لا تستدعي ملك ما يملك بالنكاح. ألا ترى أن الولي يزوج الصغيرة ولا يملك عليها ما يملك بالنكاح, والزورج لا يزوج إمرأته وهو مالك عليها ما يملك بالنكاح فثبت أن بينهما مفارقة طردًا وعكسًا. هذا كله مما أشار إليه في نكاح ((المبسوط)). (والدم والحياة) أما الدم فإن العبد يملك إتلاف دمه بالإقرار على نفسه بالقصاص فكان فيه كالحر ولا يشترط فيه حضور مولاه, حتى أنه لو أقر به حال غيبة مولاه يقتل به حال غيبته.

وأما الحياة فإن مولاه لا يملك إتلاف حياته فكان في عدم ملك مولاه لحياته كالحر. فإن قلت: ففى صحة إقراره للقصاص إتلاف لماليته وهي للمولى فيجب أن لا يصح إقراره بذلك بدون إذن والمولى كما في النكاح بل أولى, لأن في نفوذ النكاح بدون إذن مولاه شغل ماليته بالمهر والنفقة لا إتلاف ماليته من كل وجه, فلما توقف نفوذ النكاح إلى إذن المولى باعتبار شغل ماليته بدون الإتلاف وجب أن تتوقفه صحة إقراره بالقصاص إلى إذن المولى وفيه إتلاف ماليته من كل وجه بالطريق الأولى, مع أن كليهما في حق الإختصاص بالآدمي متساويان. قلت: هذا الاستدلال منك عكس موجب الدليل, لان إتلاف ماليته في صحة الإقرار بالقصاص إنما ثبت بطريق الضمن لصحة الإقرار بالقصاص فكان الاعتبار للمتضمن الأصلي لا للمتضمن الفرعي كما في سائر الأحكام الثابتة بطريق الضمن, كما في ثبوت المضار الدنيوية في حق الصبي بطريق التبيعة من حرمان الإرث, ووقوع الفرقة بينه وبين إمرأته, وتعجل وجوب المهر لصحة ردته التي لا يمكن ردها. وهذا لما أن الضرر الواقع على نفس العبد بالقصاص أكثر من ضرر المولى, لأن ذلك الضرر واقع على المال وهذا واقع على النفس والنفس أعظم خطرًا من المال فلما صح فيما هو أعظم خطرًا صح أيضًا فيما هو أقل

خطرًا بطريق التبعية كما هو مرتبة الأحكام الثابتة بطريق الضمن. وأما شغل ماليته بالمهر والنفقة ونفوذ النكاح بغير إذن المولى فلا مفاضلة بينهما فلم يكن أحدهما تبعا للآخر, ولأن النكاح عقد قابل للتوقف في الجملة كما في نكاح الصغار والصغائر بدون إذن الأولياء ونكاح الفضولي. وأما إقرار العاقل البالغ فنافذ على المقر من كل وجه وبعد النفوذ لا يتوقف على إذن أحد. فإن قلت: ما وجه الفرق لأبي حنيفة ومحمد-رحمهما الله-في وجوب القصاص على العبد بين البينة والإقرار؟ حيث يؤاخذ إقراره في الحدود والقصاص وإن كان مولاه غائبًا بخلاف ما إذا ثبت الحد والقصاص عليه بالبينة, فإن استيفاءهما يتوقف إلى حضور مولاه عندهما خلافًا لأبي يوسف -رحمه الله-؟ قلت: هما يقولان: إن للمولى حق الطعن في البينة دون الإقرار, ولأن الإقرار موجب للحق بنفسه والبينة لا توجب إلا بالقضاء وفي استيفاء موجب القضاء إتلاف المالية وهى للمولى, فإذا كان تمام قضائه متناولًا حق المولى يشترط حضور المولى في ذلك, إلى هذا أشار في إباق ((المبسوط)).

(وينافي كمال الحل إلى قوله: مثل الذمة) , فإن الذدمة وهي كون الآدمي محلًا لتوجه الخطاب وأهلًا للإيجاب والإستيجاب من كرامات البشر بخلاف سائر الحيوانات. (والحل) أي حل الإستمتاع بالنكاح والولاية وهي الشهادة والإرث وغيرهما, ثم ابتدأ بتفصيل كل متهما بالبيان فقال: (حتى إن ذمته ضعفت) فيه بيان ضعف حاله في الذمة. وفي قوله: ((وكذلك الحل انتقض بالرق)) بيان ضعف حاله في الحل وفي قوله: ((وانقطعت الولايات كلها بالرق)) بيان ضعف حاله في حق الولاية, لكن ضعف العبد في حق الولاية من كل وجه, فلذلك قال وانقطعت الولايات كلها بالرق, ويمكن أن يقال فيها ضعف أيضا لا بطلان بالكلية. ألا ترى أنه يلي على نفسه بالإقرار بالقصاص والحدود وهو من باب الولاية من وجه فإن فيه تلف المالية وهي حق المولى, فكان قوله نافذًا على الغير شاء الغير أو أبى وهو معنى الولاية, وأما قوله: ((وانقطعت الولايات كلها)) أي بطريق القصد لا بطرق الضمن. (فلم يحتمل الدين بنفسها) أي بنفس الذمة وهي رقبة العبد القابلة

للإيجاب والاستجاب بخلاف سائر الحيوانات, وضمنت إليها مالية الرقبة وهو أنه يباع في الدين, (والكسب) وهو بالرفع أي وضم مكسوب العبد إلى ذمته بخلاف الحر, فأن الحر إذا كان مديونًا ليس لرب الدين الدين أن يأخذ ما في يد المديون من ماله جبرًا إذا لم يكن من جنس دينه, وفي العبد المديون يأخذه ويبيعه حتى يأخذ حقه من ثمنه كما يبيع رقبته ويأخذ دينه من ثمنه. وذكر في باب إقرار العبد بالدي من مأذون ((المبسوط)) وإذا كان على المأذون دين فأقر بشيء في يده أنه وديعة لمولاه أو لمكاتبه أو لعبد له تاجر عليه دين أو لا دين عليه فإقراره باطل, لأن حق غرماته تعلق بكسبه والمولى يخلقه في كسبه خلافة الوارث المورث, فكما أن إقرار المريض لوارثه أو لعبده أو لعبد الوارث أو لمكاتبه لا يصح لكونه متهمًا في ذلك وكذلك إقرار العبد لمولاه, لان سبب التهمة بينهما قائم فكذلك لعبد مولاه أو لأم ولده فإن كسبهما لمولاهما. فأما إقراره لابن مولاه أو لابنه جائز, لأنه ليس للمولى في كسبهما ملك ولا حق ملك. ألا ترى أن إقرار المريض لأب وارثه أو لابن وارثه جاز إقراره لهذا المعنى, وإذا صح الإقرار صار المقر به ملكًا للمقر له فلا يتعلق به حق غرمائه, كما لو أقر به لأجنبي, ولو لم يكن على العبد دين كان إقراره جائزًا في ذلك كله,

لأنه لا تهمة في إقراره ولا حق لأحد في كسبه. (ولذلك قلنا): إن الدين متى ثبت بسبب لا تهمة فيه أنه يباع فيه رقبته) أي ولأجل أن رقبته وكسبه تضمان إلى ذمة العبد لعدم إحتمال ذمته الدين بنفسها لضعفها تباع رقبته في الدين الذي ثبت بسبب لا تهمة فيه وهو دين الاستهلاك ودين التجارة. فأما لا تهمة في دين التجارة فظاهر, لأنه وقع في الدين بسبب إذن المولى في التجارة, لأن إقراره بدين التجارة لو لم يقبل منه لا متنع الناس عن المعاملة

به في التجارة فلا يفيد إذن المولى فائدته, وكذلك إقراره بدين الغضب والاستهلاك يقبل, لأن ضمان الغضب والاستهلاك من ضمان التجارة, لأن الغضب يوجب الملك في المضمون عند أداء الضمان. فالضمان الواجب به من جنس التجارة وإقرار المأذون بمثله صحيح, ولهذا لو أقر أحد المتفاوضين به كان شريكه مطالبًا به وكذلك دين الاستهلاك, لأن الاستهلاك يوجب الملك في المستهلك عند أداء الضمان فكان من دين التجارة. وقوله: ((بسبب لا تهمة فيه)) أحتزاز عن إقرار بدين يثبت بسبب فيه تهمة وهو كما ذكرنا من ((المبسوط)) فيما إذا أقر بدين لمولاه فإن ذلك لا يقبل في حق الغرماء, لأنه متهم عند الغرماء, وكذلك لو أقر أنه وطئ جارية هذا الرجل بنكاح بغير إذن مولاها فافتضها لم يصدق, لأنه ليس من التجارة فإن وجوب العقر هنا باعتبار النكاح لولاه لكان عليه الحد والنكاح ليس بتجارة ولهذا لو أقر به أحد المتفاوضين لم يلزم شريكه, فإن صدقه مولاه بذلك بدء بدين الغرماء, لأن تصديق المولى في حق الغرماء ليس بحجة, فوجوده كعدمه،

فإن بقي شيء أخذ مولى الجارية من عقرها. كذا ذكره في مأذون ((المبسوط)). وحاصل ذلك أن الدين الذي وجب بسبب التهمة وليس في ذلك السبب من أسباب التجارة ففي إقراره بذلك هو متهم فيه, لأنه ليس في ذلك الإقرار دليل يدل على أنه في إقراره صادق, بخلاف دين التجارة فإن إذن المولى في التجارة دليل على وجوب الدين عليه, كذلك في الإقرار بالدين لمولاه متهم في حق الغرماء على ما ذكرنا وكذلك العبد المحجور متهم في الإقرار بالدين فلا يظهر في حق المولى إذا لم يصدقه. (فيتسع الحرية) , لأنها سبب لاستجلاب الكرامات. (والعدة تنتصف) أي تنتصف حقيقة فيما إذا كانت العدة بالأشهر. وأما إذا كانت بالحيض فتنتصف أيضًا لكن الحيضة غير متجزية فتتكامل ضرورة, لأن جانب الوجود راجح على جانب العدم ولأن فيه القول بالاحتياط.

(لكن عدد الطلاق لما كان عبارة عن إتساع المملوكية اعتبر فيه النساء) لأن عدد الطلاق يدل على أن ما يملكه من الطلقات على حسب ملكه فيتعرف ذلك عن محله, لأن تصرف المتصرف يزداد بزيادة المحل وينتقص بانتقاصه. فإن من ملك عبدًا واحدًا ملك إعتاقًا واحدًا, ومن ملك عبدين يملك اعتاقين وكذا وكذا, ومحلية الحرة تزادا بالحل فيزداد الطلاق, لأن حكم الطلاق بارتفاع القيد عنها, وكل إمرأة كان حلها أكثر كان الطلاق أكثر. وحل الحرة أكثر من حل الأمة, لأن نكاح الحرة جائز متقدمًا على الامة ومتأخرًا عنها ومقارنًا معها بخلاف نكاح الأمة, فإنه إنما يجوز متقدمًا على

الحرة لا غير, فلما كان حلها أكثر كان طلاقها أكثر فيعتبر بالنساء. وأما النكاح فعبارة عن المالكية, لان الملك يثبت للرجل بالنكاح, فلذلك كان عدد الانكحة عبارة عن اتساع المالكية فاعتبر بالرجال, وهذا لأن الحل لما اتسع بفضيلة المتزوج الذي هو الرجل كما اتسع لرسولنا عليه السلام بالزيادة على الأربع وجب أن يتسع الحل للحر أكثر مما يتسع للعبد, لأن الرح له فضل على العبد شرعًا, حتى أظهر الشارع فضله في عامة الأحكام من الشهادة والولاية والإرث وغيرها فكذلك في حق حل النساء. يوضحه أن الرق ينصف الحل. ألا ترى أن الحل يتنصف في جانب الأمة بالرق, حتى إن ما يبتنى على الحل وهو القسم يكون حالها فيه على النصف من حال الحرة فكذا الحدود تنتصف بالرق, ولما كان كذلك كان حال العبد فيه على النصف من حال الحر والعبد يتزوج من النساء والحر يتزوج من أربعًا. وأما في الطلاق فإنما اعتبر جانب النساء بسبب أن النبي عليه السلام قابل

الطلاق بالعدة بقوله: ((طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان)) تقتضي التسوبة وبالإتفاق في العدة تعتبر حالها فكذلك في الطلاق, ومن ملك على امرأته عددًا من الطلاق يملك إيقاعها أوقات السنة, وبهذا أفحم عيسى بن أبان الشافعي -رحمهما الله أيها الفقيه إذا ملك الحر على إمرأته الأمة ثلالث تطليقات كيف يطلقها في أوقات السنة؟ فقال: يوقع عليها واحدة, فإذا حاضت وطهرت أوقع أخرى, فلما أراد أن يقول: فإذا حاضت وطهرت قال: حسبك فإن عدتها قد انقضت, فلما تحير رجع, وقال: ليس في الجمع بدعة ولا ي التفريق سنة. كذا ذكر في الباب الأول من طلاق ((المبسوط)) هذه الحكاية. (فلذلك تنتصف الحدود في حق العبد) وهذا يتعلق بقوله: ((ويقصر بالرق إلى النصف)) أي فلأجل أن الرق منصف لما هو الحكم الثابت للحر كرامة وملامة تتنصف الحدود في حق العبد, والمعنى فيه أن الحل في حق العبد أنقص فكان جنايته أقل بالنسبة إلى جناية الحر, لان الحل في حق الحر أكمل, فإذا زنى الحر مع كمال الحل كانت حنايته أعظك, فكان الجزاء في حقه أوفر. ألا ترى ان المحصن إنما يرجم لهذا المعنى وهو تكامل جنايته عند توفر النعمة عليه بمقابلة جناية من ليس بمحصن.

(ولذلك انتقصت قيمة نفسه) أي ولأجل أن الرقية موجبة للنقصان انتقصت قيمة نفس العبد وهذا يتعلق بقوله: ((وكذلك الحل انتقص بالرق, لانه من كرامات البشر)) وقوله: لما قلنا من انتقاص المالكية أي من انتقاص مالكية العبد في حق المال, حيث لا يملك رقبة المال ولكن يملك التصرف في المال بإذن المولى, فيملك المال حينئذ يدًا لا رقبة فكان له نقصان المالكية في حق المال فكان قوله: ((لما قلنا)) إشارة إلى قوله: ((وهذا الرق مبطل مالكية المال)). (كما انتقص بالأنوثة) أي كما انتقص المالكية بالأنوثة على تأويل كونها مالكة أي للنكاح, ثم بين ذلك النقصانين بكلمة الإستدراك بقوله: (لكن نقصان الأنوثة في أحد ضربي المالكية بالعدم فوجب التنصيف وهذا نقصان في أحدهما لا بالعدم). بيان هذا أن بدل الشيء يتقدر بقدر كمال ذلك الشيء, وكمال اآدمي بكمال الماكية, فلما كان كذلك كان كما الدية من غير نقصان للرجل الحر, لانه أقوى في المالكية من الحرة ومن العبد, لأنه يملك المال وغير المال على الكمال فوجب بدل دمه وهو الدية على الكمال عند الإتلاف, لأنه إتلاف من هو مالك للنوعين جميعًا, والحرة ليست بمالكة لأحد النوعين أصلًا وهو

النكاح والطلاق وتمالك المال على الكمال فكان حالها نصف حال الرجل الحر, فوجب نصف دية الرجب الحر عند إتلافها, والعبد مالك لأحد النوعين على الكمال وهو النكاح والطلاق, ومالك للنوع الآخر وهو المال ماهو الاقوى منه وهو التصرف يدًا, فلذلك انتقصت حاله من حال الحر فانتقص عن بدله ماله الاعتبار في الشرع وهو عشرة دراهم بأثر عبدالله بن مسعود -رضي الله عنهما-وهذا جواب عما قيل فيه: ينبغي أن يتنقص من بدل دمه ربع بدل الحر على هذا التقدير, لانه مالك لأحد النوعين وهو النكاح والطلاق على الكمال ومالك للمال من حيث التصرف باليد لا من حيث الرقبة فكان مالكًا لثلاثة أرباع النوعين فوجب النقصان بربع بدل الحر, لأنا نقول: لما ملك أحد النوعيم على الكمال وما هو الأقوى في النوع الآخر ترقى حاله من حال الحرة وانحطت من حال الحر فوجب النقصان من بدل دمه من دية الرح ماله اعتبار في الشرع وهو عشرة دراهم, ولا يقال بأن العبد مالك لنكاح بطريق النقصان, لأنه لا يملك النكاح بدون إذن المولى, لأنا نقول: لو كان التوقف إلى إذن المولى يوجب النقصان لزم أن يكون الصبي ناقص المالكية في النكاح وليس كذلك. وقال في ((المبسوط)) ,وأما النقصان -أي نقصان دم العبد عن دية الحر- فيقول: بدل النفس قد ينقص عن أعلى الديات باعتبار معنى موجب للنقصان في المحل.

ألا ترى أنه من ينقص بالأنوثة وبالكفر على أهل أصل الخصم وبالاجتنان في البطن بالاتفاق، فإن بدل الجنين دون بدل المنفصِل وإن كان الموجوب باعتبار النفسية هناك، إذ لا مالية في الجنين سواء كان حرًا أو مملوكًا فكذلك يجوز ان ينقص عن أعلى الديات باعتبار صفة المملوكية، وهذا لن تكميل الدية باعتبار كمال صفة المالكية. ألا ترى أن بدل الأنثى على النصف من بدل الذكر، لأن الذَكر أهل لمالكية المال والنكاح، والأنثى أهل لمالكية المال دون مالكية النكاح فإنها مملوكة نكاحًا فيتصنف بدلها لذلك، والجنين ليس بأهل للمالكيتين في الحال، ولكن فيه عرضية الأهلية لذلك إذا انفصل حيًا فباعتباره ينتقص له بدله غاية النقصان. إذا عرفنا هذا فنقول: بسبب الرق تنتقص صفة المالكية، لأنه صار مملوكًا مآلًا ولم يبقى مالكًا للنكاح بنفسه، إلا أن هذا النقصان بعارض على شرف الزوال بأن يعتق فيجوز أن يُزاد بدل الرق على بدل الأنثى لهذا إلى آخره. (لكنه أهل للتصرف في هذا المال) هذا بالإتفاق. ألا ترى أن العبد المأذون يتصرف في مال المولى، غير أن الإذن عند

الشافعي عبارة عن التوكيل والإنابة فيختصص بالتخصيص ويتوقت بالتوقيت، وعندنا هو عبارة عن فك الحجر وإسقاط الحق فلا يقبل التخصيص والتوقيت، (وأهل لاستحقاق اليد على المال). قال الصدر الشهيد -رحمه الله- في آخر مضاربة "الجامع الصغير" أن للعبد يدًا معتبرة. ألا ترى أنه إذا أودع مالًا عند آخر لا يملك المولى استردادَه. (وهذا عندنا) أي وهذا المذكور وهو أهلية التصرف على العموم وأهلية استحقاق اليد على المال. (أنه يتصرف لنفسه) يعنى أن تصرفه بعد الإذن بطريق الأصالة لا بطريق النيابة؛ لأن للعبد صحةَ العبارة، لأنه داخل تحت قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان) والبيان في حقه ثابت فكان متصرفًا لنفسه، حتى لو أذن له المولى في التجارة وفي يده شيء فقال له المولى: لا تتصرف فيه لا يثبت به الحجر.

(ويجب له اليد بالإذن غيرَ لازمة) أي التصرف يدًا لا يقع لازمًا للمأذون؛ لأنه غير عوض ويقع بالكتابة يد لازمة؛ لأنه بعوض، ومعنى غير اللزوم هو أن يتفرد المولى بالحجر، ففي الإذن كذلك، ومعنى اللزوم ألا يتفرد بالفسخ وفي الكتابة لا يتفرد بالفسخ فصارا نظيري العارية والإجارة. (وقال الشافعي: لما لم يكن أهلًا للملك لم يكن أهلًا لسببه؛ لأن السبب شرع لحكمة) وقد ذكرنا أن إذن المولى لعبده في التجارة عند الشافعي أمر للتجارة فيما ليس للعبد في ذلك ولاية أصلًا، كما لو أمر الموكل لوكيله في تصرف شيء من الأشياء فيتقدر بقدر ما أثبت له، وعندنا العبد أهل للولاية الكاملة على العموم من استحقاق اليد وعموم التصرف فلا يتخصص تصرفه عند التخصيص بل يتعمم. وعن هذا قال مشايخنا-رحمهم الله-، فإن أذن المولى له في نوع منها دون غيره فهو مأذون في جميعها سواء نهى عن عن ذلك النوع صريحًا أو سكت عنه، فإنه يكون مأذونًا في جميع أنواع التجارات. وقال زفر والشافعي-رحمهم الله-: إن صرح بالنهي عن التصرف في

سائر الأنواع فليس له أن يتصرف إلا في النوع الذي أذن له فيه خاصة. (قلنا: إن أهلية التكلم غير ساقطة بالإجماع) فإنه أهل للوكالة ورواية الحديث وشهادته برؤية هلال رمضان، ويقبل قوله في بعث الهدايا وغيره. (وكذلك الذمة مملوكة للعبد) حتى لو أقر بالدين وكان مأذونًا يصح مطلقًا، ولو كان محجورًا يصح في حقه، حتى صحت الكفالة بهذا الدين ووجب على الكفيل في الحال، وإن كان وجوبه على العبد محجورًا مؤجلًا إلى وقت العتق وكانت ذمته مملوكة للمولى لَما صح إقراره، وكذا لو اشترى المولى شيئًا بثمن يجب على ذمة عبده لا يصح كما لو شرط على ذمة أجنبي، ولو كانت ذمته مملوكة للمولى لصح كما أوجب الثمن على نفسه. (وإذا صار أهلًا للحاجة) أي وإذا صار العبد أهلًا لحاجة إثبات الدين في ذمته بسبب أنه محتاج إلى تنفيذ عباراته في معاملاته فيقع في شغل ذمته بالدين ضرورة، وهو لما ذكرنا أن مَنْ يعامله لو علم أن الدين لا يجب في ذمة العبد لاحترز من معاملته ولخلا صحة عبارته في بياعاته وأشريته عن الفائدة، ولما حصل مقصود المولى من الإذن في التجارة، ولَّما كان أهلًا لشغل ذمته بالدين لهذه الحاجة كان أيضًا أهلًا لقضاء هذه الحاجة وهي قضاء الدين

ليحصل به تفريغ ذمته من الدين. (وأدنى طرقه اليد) أي وأدنى طرق قضاء الدين، وإنما قال: وأدنى طرق قضاء الدين اليد؛ لأن أعلى الطرق فيه إجتماع ملك اليد مع ملك الرقبة، فكان ملك اليد المجردة أدنى الطرق لا محالة وهو الحكم الأصلى أي ملك اليد هو الحكم الأصلي؛ لأن ما هو المقصود يحصل بملك اليد وهو التصرف لقضاء حاجته. لما أن ملك الرقبة وإن كان ثابتًا ربما لا يمكنه التصرف في ملكه لعجزه إما لبُعده أو لمعنى آخر، ولما تمكن من التصرف باليد بدون ملك الرقبة كان اليد الأصلية. أو نقول: إن تصرف اليد يجري مجرى الأصل، وملك الرقبة يجري مجرى الوسيلة، بدليل أن من كان له ملك الرقبة كان ذلك مجوّزًا لتصرف اليد ولا ينعكس أينما كان ملك اليد لا يلزم منه ملك الرقبة كما في المستعير والمستأجر. وأما إذا كان في شيء ملك الرقبة فيلزم منه ملك اليد وهو الأصل إلا بعارض؛ لأن الملك عبارة عن المطلق الحاجز بخلاف ما إذا لم يُسلَّم المشتري ثمن ما إشتراه ليس له التصرف فيما إشتراه بيده بدون غذن البائع؛ لأن تأخير الثمن منه وذلك عارض، ولَما كان كذلك كان ملك الرقبة وسيلة إلى ملك اليد، والوسائل غير المقصودة كالوضوء للصلاة، فكان ملك اليد هو الحكم الأصليَّ من هذا الوجه.

(لأن الملك) أي ملك الرقبة (ضربُ قدرة شُرع للضرورة) وهي قطع طمع الطامعين ليكون المخصوص بالحكم هو الذي أُختُصَّ بالسبب حتى لا يؤدي إلى التقاتل والتفاني، ولما حصل جواز التصرف بدون ملك الرقبة كما في المستعير والمستأجر والوكيل كان ملك الرقبة لضرورة قطع طمع الأغيار، فكان ملك الرقبة أمرًا ضروريًا لا أمرًا أصليًا؛ إذ الأمر الأصلي هو المكنة من الصرف إلى قضاء حاجته وهي باليد. (وكذلك ملك اليد بنفسه غيرُ مال) إنما ذكر ليكون جوابًا لإشكال يرد على ما تقدم من قوله: وهذا الرق مبطِل لمالكية المال لقيام المملوكية مالًا بأن يقال بين كون العبد مالكًا للمال من حيث التصرف باليد وبين كونه مملوكًا في نفسه تناف فكما لا يثبت له ملك رقبة المال لذلك التنافي على ما تقدم وجب ألا يثبت له ملك اليد أيضًا، بل أولى لما ذكرت هو أن ملك اليد هو الأصل. فأجاب عنه بهذا وقال: إن ملك اليد ليس بمال، والتنافي إنما يكون في حق العبد بأن كان مالكًا لرقبة المال لأنه مملوك رقبة، وقد ذكرنا أن الرق لا ينافي مالكية غير المال من النكاح والدم والحياة، وكذلك ملك اليد فإنه ليس

بمال فيملكه، ثم استدل على أن ملك اليد ليس بمال بالمسألة وهي قوله: (ألا ترى أن الحيوان يثبت دينًا في الذمة في الكتابة) فوجه الإستدلال أن الحيوان لا يثبت دينًا في الذمة بدلًا عما هو مال أو له حكم المال كما في البيع والإجارة، ويثبت دينًا في الذمة بدلًا عما هو ليس بمال كالمهر والخلع. والمعنى فيها أن مبنى المبادلات المالية على المضايقة فيبقى في الحيوان الدين جهة الجهالة وإن بُلغ في وصفه فيُضايَقُ فيها بخلاف الواجب بمقابلة ما ليس بمال فإن مبناه على المساهلة فكان ما يبقى من الجهالة في الحيوان الدين محتملًا لتساهل في أمره، وإذا ثبت هذا فنقول: لو كان ملك اليد الثابتُ للمكاتب مالًا لَما صح الحيوان دينًا في ذمة المكاتب بمقابلة ملك اليد الثابت له، وحيث صح ثبوته في الذمة. عُلم ان ملك اليد ليس بمال وإذا لم يكن ملك اليد مالًا يملكه العبد لِما بينا أن العبد يملك ما هو ليس بمال كالنكاح والطلاق كالحر. فعلم بهذا أن ما يتصرف فيه العبد المأذون من التجارات كان هو له بطريق الأصالة، والولى يخلُفه فيما هو من الزوائد. (في حكم العقد الذي هو محكم) أراد بالمحكم الأصالة، يعني ان ملك اليد هو الأصل وشُرع ملك الرقبة للضرورة فكان ملك اليد من حكم العقد أصلًا والعبد أولى له والمولى يخلُف العبدفي ثبوت ملك الرقبة له. وتحقيقه أن للعقد حكمين: ملك اليد وهو الأصل، وملك الرقبة وهو من

الزوائد فيخلُف المولى في حق الحكم الذي هو من الزوائد. (ولذلك جعلنا العبد في حكم الملك) أي ولأجل أن العبد أهل لتصرف المال والمولى يخلُفه في ملك الرقبة جعلنا العبد كالوكيل، فإن من وكّل آخر بشراء شيء فاشتراه الوكيل يثبت الملك للموكل ابتداء، وبه قال أبو طاهر الدباس-رحمه الله-وهو اختيار الإمام المحقق شمس الدين السرخسي-رحمه الله- وهو الأصح، فإن القول ما قالت حذام، ولهذا لو كان المشتري منكوحةَ الوكيل أو قريبته لا يفسد النكاح ولا يعتق عليه. كذا في وكالة "التتمّة".

(وفي حكم بقاء الإذن كالوكيل في مسائل مرض المولى وعامة مسائل المأذون) وفي هذا اللفظ إشارة إلى أنه في أكثر المسائل كالوكيل وفي بعضها ليس هو كالوكيل. أما المسائل التي هو فيها كالوكيل فهي: أنه إذا أذِن المولى لعبده في التجارة وهو صحيح ثم مرض ثم باع العبد شيئًا مما في يده أو غشترى وحابى فيه بغبن فاحش أو يسير ثم مات المولى ولا مال له غير العبد وما في يده، فجميع ما فعَل العبد من ذلك بما يتغابن الناس فيه أو ما لا يتغابن الناس فيه فهو جائز في قول أبي حنيفة-رحمه الله- من ثلث مال المولى؛ لأن العبد بإنفكاك الحجر عنه بالإذن صار مالكًا للمحاباة مطلقًا في قول أبي حنيفة-رحمه الله-حتى لو باشره في صحة المولى كان ذلك صحيحًا منه والمولى حين إستدام الإذن بعد مرضه جُعل تصرف العبد بإذنه كتصرفه بنفسه ولو باع المولى بنفسه وحابى يُعتبر ذلك من ثلث ماله المحاباةُ اليسيرة. والفاحشة في ذلك سواء فكذلك إذا باشره العبد، وفي قول أبي يوسف ومحمد-رحمهما الله-محاباته بما يتغابن فيه الناس كذلك. فأما محاباته بما يتغابن الناس فيه فباطل وإن كان يخرج من ثلث مال المولى؛ لأن العبد عندهما لا يملك هذه المحاباةَ بالإذن له في التجارة. كذا في "المبسوط"فكان في هذا كالوكيل غيرَ مسألة ما إذا اشترى وحابى على ما

نبين. وكذلك إذا أخرج المولى المأذون من ملكه ليس للعبد أن يقبض شيئًا مما كان على غريمه وقت الإذن ولا يكون خصيمًا فيه؛ لأن منافعه صارت للمشتري وإن قبض لم يبرأ الغريم بقبضه لأنه خرج من أن يكون خصمًا فيه فكان قبضه كقبض أجنبي آخر فصار في هذا المعنى كالوكيل بعد العزل. وكذلك إذا أذِن الرجل لعبده في التجارة ثم جُنّ المولى فإذا كان جنونه مطبقًا دائمًا فهو حجر على العبد؛ لأن المولى صار موليًا عليه في التصرف وانقطع رأيه فكان حجرًا عليه كما في الوكيل. وكذلك إذا ارتد المولى وقتل فيه أو لحق بدار الحرب هو صار محجورًا كما في الوكيل. وأما المسائل التي ليس فيها كالوكيل فهي. ان العبد المأذون إذا باع متاعًا من رجل بألف درهم وتقابضا ثم حجر عليه المولى فوجد المشتري بالمتاع عيبًا فالخصم فيه العبد؛ لأن ملك المولى في منافعه باق بعد الحجر، وقد لزمه العهدة بمباشرة سببه بإذن المولى. وكذلك إذا كان للعبد المأذون دين من ثمن بيع أو إجارة أو قرض أو

استهلاك ثم حجر عليه مولاه فالخصم فيه العبد؛ لأنه باشر سبب إلزام العهدة في حال انفكاك الحجر وتأثير الحجر عليه بعد ذلك في منع لزوم العهدة إياه بمباشرة السبب ابتداء لا في إسقاط ما كان لزمه. وهذا أيضًا في "المبسوط"، وليس للوكيل بالبيع ولاية قبض الثمن بعد العزل. كذا في "التتمة". ومن المسائل التي ليس العبد المأذون فيها كالوكيل مسألة شراء العبد المأذون شيئًا بغبن فاحش، فإن تصرف العبد المأذون بما لا يتغابن الناس فيه جائز في قول أبي حنيفة- رحمه الله بيعًا كان أو شراء، سواء كان دين أو لم يكن. فإن أبا حنيفة- رضي الله عنه- فرق في تصرف الوكيل بين البيع والشراء في الغبن الفاحش، حيث جوز بيعه بالغبن الفاحش دون شرائه وفي تصرف المأذون سوى بينهما فقال: لأن الوكيل يرجع على الآمر بما يلحقه من العهدة فكان الوكيل بالشراء متهمًا في أنه كان اشتراه لنفسه، فلما ظهر له الغبن أراد أن يلزمه الآمر وهذا لا يوجد في تصرف المأذون؛ لأنه يتصرف لنفسه ولا يرجع بما يلحقه من العهدة على أحد فكان البيع والشراء في حقه سواء. كذا في "المبسوط".

(والرق لا يؤثر في عصمة الدم) يعني لا يؤثر الرق في حفظ دم العبد من حيث الإعدام أو النقصان، فلذلك يثتص الحر بقتل العبد فكان العبد في استحقاق عصمة الدم كالحر من كل وجه؛ (لأن العصمة) إنما تكون (بالإيمان ودار الإيمان والعبد فيه مثل الحر) إلا أن العصمة الحاصلة بالإيمان عصمة مؤثمة، والعصمة الحاصلة بالدار عصمة مقومة، ويظهر الفرق بين العصمتين فيمن أسلم في دار الحرب فقتله مسلم عمدًا أو خطأ وله ورثة مسلمون الموثمة، وعدم القصاص والدية لانعدام العصمة المقومة. وأما إذا قتله في دار الأسلام ففي العمد القصاص وفي الخطأ الدية والكفارة لوجود العصمتين. وإنما يؤثر في قيمته، أي وإنما يؤثر الرق في حق بدل دم العبد. يعني إذا قتل العبد خطأ وقيمته مثلل دية الحر أو أكثر. قلنا: إنه ينقص عن قيمته عشرة دراهم عن دية الحر بأثر عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- على ما ذكرنا. (ولذلك قتل الحر بالعبد قصاصًا) أي ولأجل أن الرق لا يؤثر في

عصمة الدم قلنا: إن الحر يقتل إذا كان هو قتل العبد عمدًا قصاصًا (وأوجب الرق نقصًا في الجهاد) حتى لو كان للمولى أن يمنع عبده عن الجهاد ولا يعطى له السهم الكامل، ولكن يرضخ له إذا قاتل، لما أن العبد تبع للحر فلا يسوى بين الأصل والتبع في الاستحقاق، ولأن لمولاه أن يمنعه فلا يستح مثل ما يستحقه المستبد في الجهاد، ولا فرق بين المأذون والمحجور لأن ملك اليد الذي للمأذون غير مؤثر في استحقاق السهم. ألا ترى أن ملك اليد للمكاتب أقوى من المأذون ومع ذلك لا يعطى له السهم الكامل بل يرضخ له لبقاء الرق فيه وتوهم عجزه فيمنعه المولى عن الخروج إلى القتال، فكذلك في الماذون يتوهم منع المولى إياه عن الجهاد فلا يكمل سهمه لذلك. (وانقطعت الولايات كلها) أي الولايات المتعدية (ولذلك بطل أمانه

عند أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله-) أي أمان العبد المحجور عن القتال. وأما أمان العبد المأذون له في القتال فيصح بالاتفاق، لأن أمان العبد مطلقًا يصح عند محمد- رحمه الله- سواء كان محجورًا أو مأذونًا وعندهما يصح إذا كان مأذونًا، وهذا الذي ذكره في الكتاب قول الطحاوى. وأما الكرخي فقد ذكر قول أبي يوسف مع محمد- رحمهم الله- (لأنه ينصرف على الناس ابتداء) وإنما قال: "ابتداء" احترازًا عن حكم فيه مشقة يثبت في حقه ثم يتعدى منه إلى غيره، مثل شهادته بهلال رمضان، وروايته الأخبار، وإنما قلنا ذلك لأن العبد المحجور بالأمان يلزم على الناس الامتناع من الاسترقاق والاغتنام من غير أن يلزم عليه الامتناع من ذلك أولًا، لأنه لا حق له في الجهاد ولا في مال أهل الحرب ولا في أنفسهم، لنه لما كان محجورًا عن القتال لم يملك أنفسهم بالقتل حتى يلزم عليه الامتناع عن

قتلهم واسترقاقهم بسبب أمانة ثم يتعدى منه إلى غيره. وليس كذلك، بل لو قلنا بصحة أمانة يلزم على الناس الامتناع عن اغتنامهم ابتداء، وليس للعبد المحجور ذلك بخلاف العبد المأذون في القتال، فإن صحة أمانة إنما نشأت من قتل السراية لا من قبل الولاية، لأنه لما كان مأذونًا في القتال وقاتل يرضخ له، فعند الأمان يبطل حقه أولًا من الذي آمنة في حق الرضخ ثم يسري منه إلى غيره، فكان هو مثل شهادته بهلال رمضان فيجب عليه الصوم أولًا ثم يتعدى منه إلى غيره فلم يكن هو من باب الولاية. وقال في "المبسوط": فإن كان العبد المحجور عليه لا يملك القتال لا يعرف الخيرية في الأمان فلا يكون أمانة جهادًا بالقول، بخلاف المأذون له في القتال، فإنه لا تمكن من مباشرة القتال عرف الخيرية في الأمان فلا يكون أمانة جهادًا ب القول، بخلاف المأذون له في القتال فإنه لا تمكن من مباشرة القتال عرف الخيرية في الأمان فحكمنا بصحة أمانه.

وفي قوله: (من قبل أنه صار شريكًا في الغنيمة) أي في أن العبد المأذون له في الجهاد صار شريكًا ل لغزاة في حق الرضخ، إشارة إلى أن العبد المحجور لا يرضخ له وإن قاتل، وكذلك في لفظ "المبسوط" إشارة أيضًا إليه حيث قال في باب معاملة الجيش مع الكفار: وإذا كان العبد مع مولاه يقاتل بإذنه يرضخ له، ففي ترتيب حكم الرضخ على العبد المقاتل بالإذن دليل على أن ال عبد المقاتل بغير الإذن لا يستحق الرضخ لما أن مقاتلته حينئذ كانت معصية منه لا طاعة وجهادًا، لأن لمولاه المنع عن الجهاد فلا يستحق الرضخ بالمعصية. (وعلى هذا الأصل) وهذا يحتمل وجوهًا من الإشارة والأولى أن تكون إشارة إلى ما يقرب منه وهو قوله: "فيلزمه ثم يتعدى" يعني أن صحة الإقرار بالحدود والقصاص مبنية على أن لزوم الضرر يثبت على نفس العبد أولًا بالنقصان في الحدود وبالهلاك في القصاص، ثم يتعدى منه إلى مال المولي ومثله غير ممنوع عن العبد بأن ثبت المشقة بخبره على نفسه أولًا: ثم يتعدى منه إلى غيره كما في شهادته بهلال رمضان ويحتمل أن يكون هو إشارة إلى قوله: "والرق لا يؤثر في عصمة الدم" ويحتمل أن يكون هو إشارة إلى قوله:

"والرق لا ينافي مالكية غير المال". (وصح بالسرقة المستهلكة) أي وضح إقرار العبد سواء كان العبد مأذونًا أو محجورًا بالسرقة المستهلكة، وهذا عندنا خلافًا لزفر، فإن إقرار العبد لا يصح عنده بالسرقة المستهلكة في القطع سواء كان العبد مأذونًا أو محجورًا، غير أنه إذا كان مأذونًا يضمن المال. (وبالقائمة صح من المأذون) أي يصح إقرار العبد المأذون بالسرقة القائمة عندنا حتى يؤخذ ب موجب إقراره، حيث لو قطع تقطع يده ويرد المال على المسروق منه. وجه قولنا: أن وجوب الحد باعتبار أنه آدمي مخاطب لا باعتبار أنه مال مملوك والعبد في هذا كالحر، لنه لا تهمة في إقراره، لأن ما يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما يلحق المولى والإقرار حجة عند انتفاء التهمة. (وفي المحجور اختلاف معروف) أي وفي إقرار المحجور بالسرقة القائمة اختلاف معروف، وذلك الاختلاف مشتمل للأقسام الأربعة العقلية غير صورة صحة إقراره بالمال دون الحد. (عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- يصح بهما) أي بالحد والمال حيث تقطع يده ويرد المال إلى المسروق منه، لنه لابد من قبول إقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقي على اصل الحرية، ولأن القطع هو الأصل.

ألا ترى أن القاضي يقضي بالقطع إذا ثبتت السرقة عنده بالبينة، ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون المال مملوكًا لغير مولاه لاستحالة أن يقطع العبد في مال هو مملك لمولاه، وبثبوت الشيء يثبت ما كان من ضرورته، كما لو باع أحد التوأمين فأعتقه المشتري ثم أدعي البائع نسب الذي عنده يثبت نسب الآخر منه ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة (وعند محمد- رحمه الله- لا يصح بهما) وهو قول زفر حتى لا يقطع يده والمال للمولى، لأن إقرار المحجور عليه بالمال باطل، لأن كسبه ملك مولاه وما في يده كأنه في يد المولى. ألا ترى أنه لو أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة، وإذا لم يصح إقراره في حق المال بقي المال على ملك مولاه ولا يمكن أن يقطع في هذا المال، لأنه ملك لمولاه ولا في مال آخر، لأنه لم يقر بالسرقة فيه والمال اصل، فإذا لم يثبت في حق الأصل لم يثبت في حق التبع. (وعند أبي يوسف- رحمه الله- يصح بالحد دون المال)، لأنه أقر بشيئين: بالقطع والمال الذي هو للمسروق منه، وإقراره حجة ف ي حق القطع دون المال فيثبت ما كان إقراره فيه حجة، لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر.

ألا ترى أنه قد يثبت المال دون القطع وهو فيما إذا شهد به ر جل وامرأتان، فكذلك يجوز أن يثبت القطع دون المال، كما إذا أقر بسرقة مستهلكة، وكالحر إذا قال الثوب الذي ف ي يد زيد أنا سرقته من عمرو، فقال زيد: بل هو ثوبي فإنه يقطع يد المقر وإن لم يقبل إقراره في ملك تلك العين للمسروق منه. كذا في "المبسوط". (وذلك إذا كذبه المولى) وقال: المال مالي وهو لم يسرقه، فأما إذا صدقه فإنه يقطع ويرد المال إلى المقر له بالإجماع. (وعلى هذا الأصل قلنا في جنايات العبد خطأ) إلى آخره. أي على ما ذكرنا من الأصل وهو أن الرق ينافي مالكية المال لقيام المملوكية مالًا، فوجه البناء هو أن موجب القتل الخطأ المال لقوله تعالى: (ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ)، ولا يمكن إيجاب ذلك على العبد، لأنه صلة، فإن معنى الصلة هو وجوب المال بمقابلة ما ليس بما كنفقة المحارم وهو بهذه الصفة والعبد ليس من أهل أن يجب عليه الصلة، لأنه لا يملك المال، ولهذا لا يجب عليه نفقة المحارم، وإذا لم يكن هاهنا إيجاب المال على الجاني الذي هو عبد، والحال أن لجاني هو المال تعين هو للجزاء والأصل أن يتعين الجاني لجزاء الجناية خصوصًا إذا كان الجاني مالًا كان

نفسه جزاء لذلك. وذكر في باب جناية العبد من ديات "المبسوط"، وإذا جنى العبد جناية خطأ فمولاه بالخيار عن شاء دفعه بها وإن شاء فداه بالأرض وأمسك عبده عندنا. وقال الشافعي جنايته يكون دينا في رقبته يباع فيه إلا أن يقضي المولى دينه، وحجتنا في ذلك أن المستحق بالجناية على النفوس نفس الجاني إذا أمكن. ألا ترى أن في جناية العمد المستحق نفس الجاني قصاصًا حرًا كان أو عبدًا فكذلك في الخطأ إلا أن استحقاق النفس نوعان: أحدهما- بطريق الإتلاف عقوبة، والآخر- بطريق التملك على وجه الجبران، والحر من أهل أن يستحق نفسه بطريقة العقوبة لا بطريق التملك، والعبد أهل من أن يستحق نفسه بالطريقين جميعًا ف يكون العبد مساويًا للحر في حالة العمد ومفارقًا له في حالة الخطأ، لن عذر الخطأ لا يمنع استحقاق نفسه تملكًا والسبب يوجب الحكم في محله، وفي حق الحر لم يصادف محله، وفي حق العبد السبب قد صادف محله فيكون مفيدًا حكمه وهو أن نفسه صارت مستحقة للمجني عليه تملكًا ليتحقق معنى الصيانة عن الهدر، إلا أن يختار المولى الفداء فيكون له ذلك، لأن مقصود المجني عليه يحصل به وبدل المتلف عليه يصل إلى بكماله بخلاف إتلاف لمال ف المستحق به بدل المتلف دينًا في ذمة المتلف ولا يستحق به

نفس المتلف بالحال. (إن رقبته يصير جزاء) حتى لو مات العبد الجاني لا يجب على المولى شيء؛ لأن الأصل أن يكون موجب الجناية في ذات الجبمالاني، وامتنع الدية هاهنا؛ لأن العبد ليس من أهلها فجعلت رقبته جزاء كما يقتضيه الأصل؛ (لأن العبد ليس من أهل ضمان ما ليس بمال، ولكنه صلة) معناه أن ضمان ما ليس بمال صلة والعبد ليس بأهل للصلة فلابد من تقدير محذوف قبل قوله: (لأن العبد ليس من أهل ضمان ما ليس بمال) حتى يصح الاستدراك منه، فكان تقديره: أن رقبته تصير جززاء لجنايته؛ لأن بدل الدم ليس بضمان مال فلا يجب هو على العبد؛ لأن العبد ليس من أ÷ل ضمان ما ليس بمال ولكنه صلة، فكان قوله: (ولكنه صلة) استداركًا عن قوله: (لأن بل الدم ليس بضمان مال). (وقوله: إلا أن يشاء المولى الفداء) استثناء عن قوله: إن رقبته تصير جزاء (فيصير عائدًا إلى الأصل) يعني إلا أن يشاء المولى الفداء فحينئذ يلزمه أرش الجناية وهو الأصل في موجب جناية الخطأ، قال الله تعالى: (ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ) [النساء:92]، والمصير إلى الرقبة كان للضرورة فإذا ارتفعت الضرورة باختيار المولى الفداء لا يعود إلى إيجاب الرقبة ثانيًا بعارض

يعترض المولى، وعندهما وجوب الأرش على المولى بطريق الحوالة، كأن العبد أحال الأرش على المولى فعند التوى يعود إلى الرقبة بخلاف ما هو مال. ألا ترى أن ضمان ما هو مال يملك قبل القبض وتصح الكفالة به وتجب الزكاة بحولان الحول قبل القبض، وضمان ما ليس بمال كالدية وغيرها لا يملك قبل القبض ولا تصح الكفالة به ولا تجب الزكاة بحولان الحول لكونها صلة، والعبد ليس بأهل للصلات فيصير عائدًا إلى الأصل. (عند أبي حنيفة رضي الله عنه) وهو وجوب الفداء على ذمة المولى. (حتى لا يبطل بالإفلاس) يعني لو أفلس المولى ولم يتمكن من أداء الفداء لا يتحول حق ولي القتيل من الفداء إلى دفع العبد. (وعندههما يصير بمعنى الحوالة) يعني يتحول حق ولي القتيل من الفداء إلى دفع العبد فصار كأن العبد أحال على المولى وإذا توى مال الحوالة على المحتال عليه بإفلاسه يعود الدين إلى المحيل وهو العبد هاهنا. وشرح هذا ما ذكره الإمام شمس الأئمة رحمه الله في باب جناية العبد من ديات «المبسوط» وقال: إذا جنى العبد جناية فاختار المولى إمساك عبده وليس عنده ما يؤدي وكان ذلك عند قاض أو عند غير قاض فالعبد عبده والأرش دين عليه في قول أبي حنيفة -رحمه الله-.

وقال أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله-: إن أدى الدية مكانه كان العبد له وإلا دفع العبد إلا أن يرضى الأولياء أن يبيعوه بالدية، فبعد ذلك لم يكن لهم أن يرجعوا إلى العبد. فوجه قولهما أن نفس العبد صار مستحقًا لولي الجناية إلا أن المولى يتمكن من تحويل حقهم من محل إلى محل فيه وفاء بحقهم فيكون صحيحًا منه، وإذا كان مفلسًا كان هذا منه إبطالًا لحقهم لا تحويلًا من محل إلى محل يعدله فيكون ذلك باطلًا من المولى. وهذا لأن ثبوت الخيا للمولى كان على وجه النظر من الشرع وإنما يثبت ذلك النظر على وجه لا يتضرر به صاحب الحق فإذا آل الأمر إلى الضرر كان باطلًا بمنزلة المحتال عليه إذا مات مفلسًا فإن الدين يعود إلى ذممة المحيل؛ لأنه حول حقه من ذمته إلى ذمة المحتال عليه بشرط أن يسلم له، فإذا لم يسلم عاد كما كان. وكذلك في بيع المقايضة إذا هلك أحد العوضين قبل القبض بطل العقد في الآخر؛ لأن صاحبه حول حقه إلى العرض الآخر بشرط أن يسلم له فإذا لم يسلم له عاد كما كان، وكذلك في البيع والأخذ بالشفعة إن سلم الثمن كان له أن يأخذ الدار، وإن عجز عن ذلك لم يكن له أن يأخذها -فهاهنا أيضًا إن رضي المولى الفداء كان مسقطًا حق المولى في العبد- وإن أبي أن يرضى كان له أن يأخذ العبد، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقنول بجناية العبد يخير المولى بين

الدفع والفداء، والمخير بين شيئين إذا اختار أحدههما تعين ذلك وجبًا من الأصل، كالمكفر إذا اختار أحد الأنواع الثلاثة، فهنا باختياره تبين أن الواجب هو الدية في ذمة المولى من الأصل، وأن العبد فارغ من الجناية فلا يكون لأولياء الجناية عليه سبيل، يوضحه أن من ثبت له الخيار شرعًا يستبد بالخيار من غير أن يحتاج إلى رضا صاحبه، ولو رضي الأولياء أن يتبعوه بالدية لم يبق لهم حق في العبد، فكذلك إذا اختار المولى ذلك في حال ما ثبت له الخيار شرعًا. وقيل: إن هذه المسألة في الحقيقة تبنى على اختلافهم في التفليس فعند أبي حنيفة رضي الله عنه التفليس ليس بشيء والمال غاد ورايح وهذا التصرف من المولى يكون تحويلصا لحق الأولياء إلى ذمته لا إبطالًا، وعندهما التفليس معتبر والمال في ذمة المفلس يكون، فكان هذا الاختيار من المولى إبطالًا لحق الولي. (وهذا أصل لا تحصى فروعه) أي أصل مسائل الرق أصل لا تحصى فروعه، ومن تلك الفروع التي تناسب لما ذكر هنا أن العبد المأذون إذا جنى

على حر أو عبد جناية خطأ وعليه دين قيل لمولاه ادفعه بالجناية أو افده؛ لأنه على ملك مولاه بعد ما لحقه الدين، وفي البداية بالدفع بالجناية مراعاة الحقين، فإن اختار الفداء فقد ظهر العبد من الجناية فيبقى حق الغرماء فيه فيباع في دينهم، وإن دفعه بالجناية اتبعه الغرماء في أيدي أصحاب الجناية فباعوه في دينهم إلا أن يفديه أولياء الجناية؛ لأن أولياء الجناية إنما يستحقون ملك المولى فيه بطريق الجزاء لا أن يثبت لهم فيه سبب متجدد، فهم بمنزلة الورثة يخلفون مورثهم في ملكه، والعبد المديون إذا مات مولاه اتبعه الغرماء في ملك الوارث فباعوه في دينهم إلا أن يقضى الوارث دينهم، فكذلك يتبعونه في يد صاحب الجناية فيبيعونه في دينهم إلاأن يقضي صاحب الجناية ديونهم. ومنها أنه إذا كان للمأذون جارية من تجارته فقتلت قتيلًا خطأ فإن شاء المأذون دفعها وإن شاء فداها إن كان عليه دين أو لم يكن؛ لأن التدبير في كسبه إليه وهو في التصرف في كسبه كالحر في التصرف في ملكه فيخاطب بالدفع أو بالفداء بخلاف جنايته بنفسه، فإن التدبير في رقبته ليس إليه. ألا ترى أنه لا يملك بيع رقبته ويملك بيع كسبه. ومنها أنه لو كان على المأذون دين فجنى جناية فباعه المولى من أصحاب الدين بدينهم وهو لا يعلم بالجناية فعليه قيمته لأصحاب الجناية؛ لأن حق أولياء الجناية لا يمنع المولى من بيع الجاني فإذا نفذ بيعه كان مفوتًا على أولياء

الجناية محل حقهم، فإن كان عالمًا بالجناية فعليه الأرش، وإن لم يكن عالمًا بها فعليه قيمته، كما لو أعتقه ولو لم يبعه من الغرماء ولم يحضروا ولكن حضر أصحاب الجناية فدفعه إليهم بغير قضاء قاض فالقياس فيه أن يضمن قيمته للغرماء؛ لأنه صار متلفًا على الغرماء محل حقهم بإخراجه عن ملكه باختياهر، فيكون بمنزلة ما لو أعتقه، وفي الاستحسان لا ضمان عليه، لأن حق أولياء الجناية ثابت في عينه، والمولى فعل بدونن أمر القاضي عين ما يأمر به القاضي أن لو رفع الأمر إليه، فيستوى فيه القضاء وغير القضاء بمنزلة الرجوع في الهبة، ثم هو ما فوت على الغرماء محل حقهم فإن العبد محل للبيع في الدين في ملك أولياء الجناية، كما لو كان الدفع إليهم بقضاء قاض، وإنما يضمن القيمة باعتبار تفويت محل حقهم، فإن جعلنا هذا تسليمًا لما هو المستحق بالجناية لا يفوت به محل حقهم، وإن جعلناه تمليكًا مبتدأ لا يفوت به محل حقهم أيضًا؛ لأنهم يتمكنون من بيعه كما لو باعه أو وهبه ثم لا فائدة في القبض؛ لأن بعد القبض يتممكنون من بيعه كما لو باعه أو وهبه ثم لا فائدة في القبض؛ لأن بعد القبض دفعه واجب إليهم بالجناية ثم بيعه في الدين، فلذلك لا يضمن المولى شيئًا بخلاف ما سبق من بيعه إياه في الدين ففيه تفويت محل حق أولياء الجناية على معنى أن البيع تمليك مبدأ ولا سبيل لأولياء الجناية على نقض ذلك. هذا كله من باب جناية المأذون من كتاب المأذون من «المبسوط».

[المرض]

[المرض] (والموت عجز خالص) بخلاف الرق فإنه أيضًا عجز ولكن ليس بخالص. (ولما كان الموت علة الخلاف كان المرض من أسباب تعلق حق الوارث والغريم بماله)؛ لأن الموت لما كان علة حقيقة لثبوت حق الغريم والوارث، والمرض سبب الموت كان المرض سبب علة ثبوت التعلق للغريم والوارث به، وبالسبب يثبت نوع الحكم قبل العلة. ألا ترى أن الجارح خطأ لو كفر قبل موت المجروح يجوز. (ولما كان عجزًا) أي سبب العجز (شرعت العبادات عليه بقدر المكنة) أي قائمًا وقاعدًا ومستلقيًا

(بقدر ما يقع به صيانة الحق)، ففي حلق الورثة في الثلثين وفي حق الغرماء في الكل، (حتى لا يؤثر المرض فيما لا يتعلق به حق غريم) مثل النكاح بمهر المثل والاستيلاء والنفقة على نفسه وعلى من تجب نفقته عليه. (ولا وارث) مثل تصرف المريض في ثلث تركته وفي هذه الأشياء التي ذكرنا. (مستندًا إلى أوله) ذكر لفظ الاستناد للفرق بينه وبين التبين، فالتبين هو ما يمكن الاطلاع عليه للعباد، والاستناد ما لا يمكن الاطلاع عليه لهم قبل ثبوته. (وكل تصرف لا يحتمل النقض جعل كالمتعلق بالموت كالإعتاق) هذا التشبيه في حق السعاية. أما في حق نفوذ العتق في الحال فليس كالمتعلق فإن المتعلق بالشيء لا يثبت قبل وجود ذلك الشيء، وهاهنا العتق ثابت في الحال، وقال في

«المبسوط» في كتاب العتق في المرض عن إبراهيم -رحمه الله- في الرجل يعتق عبده عند الموت وعليه دين قال: يستسعى في قيمته، وبه نأخذ؛ لأن العتق في مرض الموت وصية والدين مقدم على الوصية، فإذا كان الدين مثل قيمته أو أكثر ولا مال له سواه فقد بطلت الوصية ووجبت على العبد رد رقبته، ولكن العتق بعد نفوذه لا يحتمل النقض والرد فيكون رده بإيجاب السعاية عليه، ولا تلزمه السعاية في أكثر من قيمته؛ لأنه لا يسلم له أكثر من مالية رقبته. وإن كان الدين على المولى أقل من قيمته سعى في مقدار قيمته للغرماء وفي ثلثي ما بقى للورثة؛ لأن مال الميت ما بقي بعد قضاء الدين قائمًا يسلم له بالوصيية ثلث ما بقي وعليه السعاية في ثلثي قيمته للورثة، وإذا أعتق الرجل في مرضه عبدًا قيمته ثلاثمائة ولا مال للمولى سواه ولا دين عليه فعلى العبد السعاية في مائتي درهم للورثة؛ لأن يسلم له الثلث بطريقة الوصية. (وكان القياس أن لا يملك المريض الإيصاء لما قلنا) أي من أن المرض من أسباب الحجر، (لكن الشرع جوز ذلك نظرًا له) فإن الإنسان مغرور بأمله مقصر في عمله ومحتاج إلى تدارك ما فرط منه من التقصير لما أن الرجوع

إلى جزاء الله تعالى والمصير إليه، وفي الوصية أيضًا إيصال المنافع للإخوان واستذكار بخير بعد حينه من الخلان على وجه فيه طلب رضى الرحمن إذ بها يقوةى رجاؤه من الله تعالى ثواب رفده عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده. (الاستخلاص): جيزي را براي خود خاص كردن، والإخلاص: جيزي رابه هر كسي خاص كردن، والإخلاص مع الاستخلاص كالإيثار مع الاستيثار، أي الموصي بوصيته يستأثر ثواب الله تعالى لنفسه على الورثة بالقيل وهو الثلث. (ليعلم) وهو متعلق بقوله: «بقدر الثلث» أي ليعلم (أن التهمة فيه أصل) وهي أن يتهم أنه إنما أوصى بالكثير لضغينة له بورثته، يعني فلذلك قدر الشارع جواز وصيته بالقليل وهو الثلث؛ لأنه لو أباح في الكل من غير تقدير بشيء لاحتمل أن يوصي بالكل فحينئذ صار متهمًا ببغض ورثته ووقع في قالة الناس بأنه كان يعادي ورثته والاحتراز عما يورث التهمة واجب.

(التولي): بكار كسي قيام كردن وكار كسي رابخود كرفتن، أي إن الشرع أي الشارع وهو الله تعالى لما بين بنسه (الإيصار للورثة أبطل إيصاء الموصي لهم) يعني أن إيصاء الموصي للورثة كان مفوضًا إلى الموصي في ابتداء الإسلام بدليل قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:180] ثم تولى بيان ذلك بنفسه بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء:11] الآية، وانتسخت تلك الآية بهذه الآية، فإذا بطل إيصاء العباد للورثة بطل من كل وجه. (فبطل صورة) بأن يبيع عينًا من ماله من بعض الورثة بمثل قيمته فإن ذلك لا يجوز؛ لأن فيه إيثار العين لبعض الورثة لا إيثار معناه، وبطل (معنى) أيضًا، وهو أن يقر لأحد الورثة بالمال؛ لأنه وصية معنى، وبطل (حقيقة) الوصية بأن أوصى لأحد أقاربه بشيء من ماله، وبطل أيضًا (شبهة) الوصية بأن باع جيدًا بردي من الأموال الربوية من أحد الورثة لما فيه من شبهة الوصية بسبب إيثار الجيد لبعض الورثة، وإن كانت الجودة ساقطة العبرة في الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها.

فكان قوله: (حتى لا يصح منه البيع أصلًا عند أبي حنيفة رضي الله عنه)، بيانًا لتلك الصور على طريق اللف والنشر أي لا يصح بيع المريض بعض ماله من ورثته بمثل قيمته أو بأكثر من قيمته عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وذكر في باب الصرف في المرض من صرف «المبسوط» مريض باع من ابنه دينارًال بألف درهم وتقابضًا، فذلك لا يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن نفس البيع من وارثه وصية له عنده ولا وصية للوارث، وعندهما معنى الوصية في الحط لا في نفس البيع كما في حق الأجنبى، فإذا كان البيع بمثل القيمة أو أكثر فلا وصية فيه ولا تهمة. (لأن شبهة الحرام حرام)؛ لأنه عليه السلام (نهى عن الرب والريبة). (وإن لزمه في صحته) يعني أن ثبوت الدين نفي حال عدم التهمة له لا

يصح، فكذا إذا ثبت في حال التهمة لتهمة العدول عن خلاف الجنس إلى الجنس، يعني يتهم بأنه إنما لم يبع منه شيئًال بخلاف الجنس لظهور قيمة الجودة على ذلك التقدير فباع بجنسه لئلا تظهر قيمة الجودة. يعني يتهم المريض بأن من قصده أن يؤثر بعض الورثة على غيره بإيصال عين جيد إليه لينتفع هو به دون غيره فلا يملك هو ذلك القصد في غير الأموال الربوية؛ لأنه لا يملك إسقاط الجودة في غيرها لاعتبارها عرفًا وشرعًا، فعدل عنه وباع الجيد من الأموال الربوية بالردي من الواررث لينتفع ذلك الوارث بجودة ما باعه؛ لأن الجودة في الأموال الربوية إذا بيعت بجنسها ساقطة فرد ذلك عليه للتهمة. وفي قوله: (وتقومت الجودة في حقهم) إشارة إلى جواز بيع المريض من وارثه الأموال الربوية بجنسها من غير خلاف إذا تساوت في الجودة والرداءة، غير أن الجودة متقومة فيها؛ لأنه ذكر ذلك مطلقًا من غير خلاف أحد. إلى هذا أشار في «المبسوط»، والمعنى فيه أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود فلا يلزم فيه ما قلنا من إيثار العين لبعض الورثة؛ لأنه لما كان للوارث من ذلك الجنس بمثل عينه وصفته صار كأنه لم يبع منه شيئًا، فلذلك قيل معنى قوله: (كما تقومت في حق الصغار) أنه لو باع الولي مال الصبي

من نفسه تقومت الجودة حتى لا يجوز إلا باعتبار القيمة. (وحجر المريض عن الصلة) ولهذا لم تجب عليه نفقة المحارم ولا أدء الزكاة عليه (إلا من الثلث)، ومقوله: (لما قلنا) إشارة إلى قوله: «فكان من أسباب الحجر» أي فكان المرض. (وكذلك إذا أوصى بذلك) أي بأداء حق الله تعالى، وقيد بقوله: عندنا؛ لأن أداء حق الله تعالى عند الشافعي يعتبر من جميع المال واعتبره بحقوق العباد. (ولما تعلق حق الغرماء والورثة بالمال صورة ومعنى في حق أنفسهم ومعنى في حق غيرهم ...) إلى آخره، يعني أن حق الغرماء والورثة يتعلق بالمال في مرض الموت من حيث الصورة في حق أنفسهم حتى لا يجوز إيثار بعضهم بصورة المال كما لا يجوز الإيثار بالمعنى. أما في حق الورثة فظاهر حتى لا يكون لأحدهم أن يأخذ التركة ويعطي قيمتها لبقية الورثة، وكذلك الغريم على هذا فإنه لو أدى المريض حق بعض الغرماء بمال عنده كان لبقية الغرماء أن يستردوه منه، وكذلك لو باغ المريض بعض ماله منهم بمثل القيمة كان لبقية الغرماء أن ينقضوا البيع.

وأما في حق الورثة والغرماء من الأجانب فحقهم متعلق بمعنى المال وهو القيمة لا بصورة المال حتى يصح بيع المريض من الأجانب بمثل القيمة بخلاف بيعه من الورثة والغرماء. (صار إعتاقه) أي إعتاق المريض. (نفذ هذا) أي إعتاق الراهن، (ولم ينفذ ذلك) أي إعتاق المريض أي من حيث المعنى حتى تجب عليه السعاية، وقد بينا أن إعتاق المريض عنده فيما إذا لم يكن له مال غيره هو نافذ من حيث الصورة لا من حيث المعنى حيث يعتق وتجب عليه السعاية. (وهذا أصل لا تحصى فروعه) أي أصل مسائل المريض أصل لا تحصى فروعه، ومن تلك الفروع التي تناسب هذا الموضع ما إذا أعتق المريض عبدًا في مرضه لا مال له غيره وقيمته ثلاثمائة ثم مات المولى ثم مات العبد وترك ثلاثمائة فمن ذلك مئتان لورثة المولى والباقي لورثة العبد؛ لأن ثلث رقبة العبد يسلم للعبد عند موت المولى بالوصية وتلزمه السعاية في ثلثي رقبتته، فلما مات عن ورثة أحرار إنما يبدأ بقضاء الدين من تركته وذلك مئتان والباقي لورثته. ومنها أن المريض إذا أعتق أمته فولدت بعد العتق قبل أن يموت الرجل أو بعد ما مات لم يدخل ولدها في الوصية؛ لأنها ولدت وهي حرة، وهذا

(الحيض والنفاس)

التعليل مستقيم على أصلهما؛ لأن المستسعاة عندهما حرة عليها دين والعتق في المرض نافذ عندهما كسائر التصرفات، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله إن كانت تخرج من ثلثه. وإن كان الثلث أقل من قيمتها فعليها السعاية فيما زاد على الثلث، ويكون بمنزلة المكاتب ما دامت تسعى وحق الغرماء والورثة لا يثبت في ولد المكاتبة، لأن الثلث والثلثين لا يعتبر من رقبتها وإنما يعتبر من بدل الكتابة، فلا يثبت حق المولى في ولدها حتى يعتبر خروج الولد من الثلث، فإن ماتت قبل أن تؤدي ما عليها من السعاية كان على ولدها أن يسعى فيما كان على أمه على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة ولد المكاتبة وعندهما لا شيء على الولد؛ لأنه حر فلا تلزمه السعاية في دين أمه بعد موتها. (الحيض والنفاس) (فإنهما لا يعدمان أهلية بوجه)؛ لأن الحيض مصحة للبدن بدليل أن انقطاعه في حينه داء ترد به الجارية، ومن البعيد أن يكون المصحح منافيًا

للأهلية، وكذا النفاس فإنه درور ما كان مجتمعًا أوان الحبل، فإذا دروره كان مصحة غير أن كلًا منهما ربما يفضي إلى الحر لو قلنا بوجوب العبادات به وذلك في الصلاة دون الصوم؛ لأن الطهارة شرط أداء الصلاة فلا يتحقق أداؤها مع الحيض والنفاس فلا يمكن القول بوجوب الأداء. وفي القضاء حرج بين فيسقط عنهما بصفة اليسر، والواجب بصفة اليسر إنما يبقى كما وجب ولو بقي في حق القضاء لا على الوصف الذي كان به وجوب الأداء كان حرجًا. وقوله: (وقد شرعت) أي الصلاة، وتحرير الكلام هو أنا لو نظرنا إلى وجوب السبب وبقاء الأهلية للحائض والنفساء، كان ينبغي أن نقول بوجوب الصلاة والصوم على الحائض والنفساء غير أن وجب الصلاة ثابت بالقدرة الميسرة بالنظر إلى اشتراط الطهارة، فإن اشتراط الطهارة في وجوبها كاشتراط النماء في حق وجوب الزكاة، فكما لا تجب الزكاة هناك بدون النماء كذلك لا تجب الصلاة بدون الطهارة عن الحيض والنفاس، ولما لم تتحقق

الطهارة للحائض والنفسا منهما لم يتحقق وجوب الصلاة عليهما فلا يجب قضاء الصلاة عليهما؛ إذ وجوب القضاء يتلو وجوب الأداء؛ لأن القضاء خلف الأدء، ولما لم يجب الأصل لم يجب الخلف عند فوت الأصل. وقوله: (وفي وضع الحيض والنفاس) أي وفي إهدارهما وإبطالهما يعني وفي جعلهما كأن لم يكونا (ما يوجب) الحرج في القضاء؛ لأن الحيض مما يتكرر والنفاس مما يمتد (فلذلك وضع عنهما)، أي فلأجل إيجاب الحرج رفع وجوب أداء الصلاة عنهما، فلما لم يثبت وجوب أداء الصلاة عليهما وهو الًال لم يجب قضاؤها عليهما أيضًا وهو الخلف. (وقد جعلت الطهارة عنهما شرطًا لصحة الصوم نصًا أيضًا) وهو قوله عليه السلام: «الحائض تدع الصوم ونالصلاة أيام أقرائها»، وحديث عائشة رضي الله عنها «كنا نترك الصلاة والصوم على عهد رسول الله عليه السلام في أيام الحيض»، والمعنى في الفرق بينهما أن ورود النص في اشتراط الطهارة للصلاة لما كان موافقًا للقياس أثر عدم الطهارة من الحيض والنفاس في أن لا يوجب القضاء أيضًا كما لا يوجب الأداء؛ لكون الحيض والنفاس بدون اختيار الحائض والنفساء.

وفي الصوم لما لم تشترط الطهارة في أصله بدليل تحققه بالجنابة والحدث كان اشتراط الطهارة في الصوم عن الحيض والنفاس بخلاف القياس، فلذلك لم يؤثر في إسقاط القضاء وجعل كأن أصل وجوب الصوم أدرك الحائض والنفساء في وقته فوجب القضاء بناء على وجوب الأداء تقديرًا، ولأن الحرج في قضائه لم يلحقهما بخلاف قضاء الصلاة فإنه يلزم على الحائض خمسون صلاة في كل عشرة أيام من كل شهر ويلزمها قضاءة عشرة أيام في أحد عشر شهرًا. (وأحكام الحيض والنفس كثيرة لا يحصى عددها) وقد ذكرناها في بأبي الحيض والنفاس من «النهاية». [«الموت»] (فإنه عجز كله) أي عجز خالص ليس فيه شائبة القدرة بوجه من الوجوه بخلاف الرق وغيره بدليل ما ذكر في «المختصر» بهذا اللفظ.

(إن كان حقًا متعلقًا بالعين) كتعلق حق المودع بالوديعة وحق المعير بالعاررية (يبقى) بعد الموت (ببقاء العين لأن الفعل) في حقوق العباد (غير مقصود) وإنما المقصود هو وصول الحق إلى المستحق بأي وجه كان بخلاف حقوق الله تعالى، فإن الفعل هو المقصود هناك تحقيقًا للابتلاء لا المال كما في الزكاة، ألا ترى أن من له الدين إذا ظفر بجنس حقه له أن يأخذه

لحصول مقصوده به، والفققير إذا ظفر بمال الزكاة ليس له أن يأخذ لأن الحق لله تعالى فكان الفعل فيه هو المقصود للابتلاء. (وهذا لا يرجى زواله غالبًا) أي زوال الموت عن الميت قيد بقوله: «غالبًا» لرن زوال الموت عن الميت في الدنيا كان موجودًا في الجملة، كما في حق عزير عليه السلام، وكما في حق المار على قرية على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) إلى قوله: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)، وكما في حق الخارجين عن ديارهم حذر الموت، فمنه ما أخبر الله تعالى بقوله: إلى

قوله: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ) إلى قوله: (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وكما كان يحيي الموتى بدعاء عيسى عليه السلام، ÷ولكن الغالب عدم زوال الموت كما هو سنة الله تعالى في عامة الموتى في الدنيا فلذلك قال: لا يرجى زواله غالبًا. (لأن ثبوته بالمطالبة) أي ثبوت الدين؛ لأن الدين وصف شرعي يظهر أثره في المطالبة، والشيء إذا لم يستعقب أثرًا كان وجوده كعدمه، فلما سقطت المطالبة والذمة قد ضعفت لم يمكن القول بثبوت الدين في الذمة بخلاف الحي، فإن ذمته تحتمل الدين لقوتها فلما ضعفت الذمة بالموت لم يكن بد من انضمام المال إلى الذمة الضعيفة، وانضمام ذمة الكفيل إليها

لتتقوى الذمة الضعيفة به لظهور أثر الدين، وهو المطالبة عند ذلك. (فيكفل رجل عنه صح) حتى يؤخذ الكفيل به في الحال، وإن كان الأصل وهو العبد غير مطال به في الحال بل هو مؤخر عنه إلى أن يعتق؛ لأن ذمته قابلة للدين في الحال، غير أنه لا يطالب به في الحال لعسرته فكان الدين صحيحًا فصحت الكفالة به لذلك ويؤخذ به في الحال. (لأن ذمته في حقه كاملة) لأنه حي عاقل بالغ مكلف، وقوله: (وإنما ضمت المالية إليها في حق المولى) جواب شبهة ترد على قوله: «لأن ذمته في حقه كاملة» بأن يقال: لو كانت ذمته كاملة في حقه لتحملت ذمته الدين بنفسها لكمالها كما في الحر، ولما ضمت مالية الرقبة إلى ذمته بأن لا يباع العبد المأذون بسبب دينه الذي لحقه بسبب التجارة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله فأجاب عنه بهذا وقال: وإنما ضمت إليه مالية الرقبة إلى ذمته لظهور هذا الدين في حق المولى، فإنه لما أذن له في التجارة لتزم ما كان هو من لوازمها، ومن تلك اللوازم بيع رقبته في دينه كما في دين الاستهلاك بخلاف ما إذا لحق الدين بالعبد المحجور عليه بسبب التجارة حيث لا يباع هو فيه لعدم ظهوره في حق المولى؛ لأن مولاه لم يأذن له في التجارة فلم يظهر هو في حقه لذلك. (لكن عجزنا عنها) أي عن المطالبة، ولهذا لو خلف ما لا يطالب به،

فعلم أن الدين باق. (لأن ذلك العدم) أي عدم المطالبة (لمعنى في محل الدين) وهو ضعف ذمة الميت فوق ضعف ذمة الرقيق فكان انعدام المطالبة لعدم الدين كمن ليس عليه دين لا يمكن المطالبة لعدم الدين لا لعجز في المطالبة فلذلك لم تصح الكفالة به. وقوله: (فلهذا لزمته الديون) يتصل بقوله: «وإن كان دينًا لم يبق بمجرد الذمة حتى يضم إليه مال أو ما يؤكد به الذمم» فكان هذا لإيضاح أن ذمة الميت لم تبطل من كل وجه حتى تلحق بالجماد وسائر الحيوانات، بل بقيت مع الضعف القوي، والضمير البارز في لزمته راجع إلى الميت المفهوم من قوله: «لأن ضعف الذمة بالموت» بدليل رجوع الضمير الذي هو مضاف إليه إلى الميت فيما بعده، وهو قوله (صح في حياته)، أي يضاف الدين إلى سبب صح في حياته بأن وجد منه ذلك السبب في حياته، كما إذا حفر بئرًا على قارعة الطريق فوقع فيها حيوان مملوك بعد موته وهلك يلزم قيمته على الذي حفرها وهو ميت وأثر لزومه أنه يؤخذ من تركته وتصح الكفالة به. (ولهذا صح الضمان عنه إذا خلف مالًا أو كفيلًا) يعني إذا مات وله مال أو ليس له مال ولكن له كفيل كفل عنه في حياته عن دينه ثم مات هذا

المكفول صح أن يكفل عنه إنسان آخر لبقاء الدين بأثره وهو المطالبة ولتأكد الذمة الضعيفة بما يتقوى به وهو المال أو ذمة الكفيل، (وإن كان شرع عليه بطريق الصلة) كوجوب النفات عليه والزكاة وصدقة الفطر ونحوها. (وأما الذي شرع له) كجهاز الميت من التكفين وغيره وقضاء دينه (فبناء على حاجته) أي فبناء على حسب ترتيب حاجته، وما كانت حاجته إليه أشد فهو مقدم على غيره، ثم وثم إلى أن تنقضي حاجاته كلها. (لأن العبودية لازمة للبشر)؛ لأنه لا يتصور انفكاك العبودية عن البشر أبد الأبدين؛ لأن هذه صفة للآدمى وغيره من المخلقوات لكونهم مخلوقين لله تعلى وكونهم مخلوقين له لا يتصور زواله، فكذلك لا يتصور زوال العبودية عن العباد لذلك، فلذلك صارت صفة العبودية بعد الموت باقية، فالعبودية مستلزمة للحاجة فتبقى الحاجة بعد الموت لبقاء العبودية، فلما بقيت حاجة الميت بعد الموت قدم ما هو أشد احتياجًا هو إليه. (ولذلك بقيت التركة على حكم ملك الميت) أي ولكون حاجة الميت باقية بعد الموت كانت التركة باقية على ملكه ليقضى بها حاجته، (فلذلك قدم جهازه) على الدين لشدة حاجته إلى الكفن بالنسبة إلى الدين، وهذا لأن

الكفن لباسه بعد وفاته فيعتبر بلباسه وقت حياته، ÷ولباسه وقت حياته مقدم على دينه حتى لا يباع على المديونن ما عليه من ثيابه فكذلك لباسه بعد موته، ومن مات ولا شيء له يجب على المسلمين تكفينه، فيكفن من مال بيت المال، وماله يكون أقرب إليه من مال بيت المال، وبهذا يتبين أن الكفن أقوى من الدين فإنه لا يجب على المسلمين قضاء دينه من بيت المال ويجب تكفينه منه إذا لم يكن له مال. كذا في «المبسوط». قيل: هذا زي تأخر الدين عن الكفن في دين لم يتعلق بالعين. فأما الذي تعلق بالعين في حال حياة المديون كتعلق دين المرتهن بالرهن فإن ذلك الدين مقدم على التجهيز لتعلق حق المرتهن به فيقدم حاجته على حاجة الميت كما في حال حياته. (ولذلك صحت واياه كلها واقعة) أي منفذة في الحال بأن قال المريض: اعتقدت عبدي هذا، أو قال: أوصيت لفلان بكذا، (ومفوضة) أي بأن قال: اعتقوا هذا العبد بعد موتى، أو قال: أعطوا لفلان كذا بعد موتى، (ولذلك بقيت الكتابة) بعد موت المولى؛ لن المولى مالك فيبقى ملكه بعد موته لحاجته وهي إحراز ثواب الاعتقا، هو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من

النار». (وهي من أقوى الحوائج) أي حاجة المكاتب إلى حريته أقوى حوائجه، وهذه الحاجة له فوق حاجة المولى إلى عتقه؛ لأن الرق أثر الكفر لما عرف ودفع أثر الكفر من أقوى الحوائج، فإذا بقيت مالكية الملوى بعد موته ليصير معتقًا فأولى أن يبقى مالكية المكاتب. (ألا ترى أنه ندب فيه حط بعض البدل) لإبقاء ذلك الأمر المندوب، قال الله تعالى: (وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور:33]، وعند بعض العلماء حط ربع البدل واجب ليصل إلى الحرية سريعًا فكان قوله: «ألا ترى» لإيضاح إثبات حاجة المكاتب إلى إبقاء عقد الكتابة ليحصل له العتق ويزول عنه وعن أولاده أثر الكفر الذي هو الرق. (فلأن تبقى هذه المالكية) وهي مالكية المكاتب (أولى)؛ لأن الحاجة له

أقوى ليصل بها إلى الحرية وهو معنى قوله: ليصير معتقًا -بفتح التاء- على صيغة بناء اسم المفعول. (وأما المملوكية فهي تابعة) جواب إشكال وهو أن يقال: في إبقاء الكتابة إبقاء المملوكية في المكاتب والمملوكية بعد ما مات المكاتب لا يمكن إبقاؤها وليس في إبقائها نظر له أيضًا بل في إبقائها ضرر عليه لكون الرق من أثر الكفر ولظهور أثره في أولاده بوصف الرقبة. فأجاب عنه بقوله: وأما المملوكية فهي تابعة في باب الكتابة، فإن الأصل فيها مالكية المكاتب يدًا. والدليل على أن المالكية فيه أصل هو أنه يثبت له ملك اليد في الحال والمقصود من عقد الكتابة الوصول إلى الحرية وزوال المملوكية، فالبنظر إلى المقصود إلى ثبوت مالكية اليد في الحال يستدل على أن المالكية هي الأصل فيه، فلما كانت المملوكية تبعًا أمكن أن يبقى التبع لأجل الًال، ووجه ثبوت المملوكية بطريق التبعية هو أن المقصود من عقد الكتابة لما كان هو الوصول إلى الحرية لم يكن بد من المملوكية حال بقاء عقد الكتاب، فكانت هي شرطًا لمقصود الوصول إلى الحرية، وذلك إنما يكون لمالكية اليد في الحال فالعبرة للمقصود المتبوع لا للتبع. وقوله: (ولهذا وجبت المواريث بطريق الخلافة عن الميت نظرًا له)

يتصل بقوله: «وأما الذي شرع له فبناء على حاجته» فكان هو لإيضاح بقاء حاجته بعد الموت في ماله، فلذل وجبت المواريث لمن يتصل بالميت من أهل دينه من حيث النسب كالولاء وغيره. أو من حيث السبب والدين كالزواج من الزوج والزوجة، أو من حيث الدين لا غير بلا نسب وسبب وهو بيت المال، وفيه يوضع لحقوق المسلمين، يعني أن في انتقال مال الميت إلى من يصلح خليفة له نسبًا أو غير ذلك نظرًا له؛ لن فيه ثواب صلة الرحم له وإيصال النفع إلى المسلمين، واشترط من يصلح خليفة له فيمن ينتقل إليه ماله؛ لأن الموت من أسباب الخلافة. (ولهذا صار التعليق بالموت يخالف سائر وجوه التعليق) حتى أن الرجل إذا قال لعبده: إن مت فأنت حر؛ فهذا التعليق يخالف سائر التعليقات؛ لأن التعليق بالشرط عندنا يمنع انعقاد السبب والتعليق بالموت لا يمنع انعقاد السبب، بل ينعقد سببًا في الحال فلذلك لم يجز بيع المدبر. بخلاف ما إذا قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر؛ فإنه يصح بيعه قبل وجود الشرط؛ وغنما كان هكذا؛ (لأن الموت من أسباب الخلافة) فباعتبار أنه علقه بسبب الخلافة الذي هو كائن لا محالة كان له حكم الثبوت في الحال. وحاصل الكلام: إن الموت لما كان من أسباب الخلافة ظهر أثره في

موضعين: في حق العبد إذا دبره، وفي حق الوارث إذا مرض مرض الموت، فيجعل المدبر خلفًا عنه في حق العتق بعد موته، ففي الحال تعلق عتقه بالموت على وجه لا يصح إبطاله، فصار هذا كوجود المرض إذا اتصل به الموت في حق الوارث لما أن الموت من أسباب الخلافة فكان المدبر والوارث خلفين عنه. وهذا لأن المرض يثبت تعلق حق الوارث بالمال، يعني إذا مات في مرضه ذلك. وكذلك قوله: أنت حر بعد موتى يثبت تعلق حق العبد في الحرية بموته، فصار المولى محجورًا عن بيعه كما صار محجورًا عن إبطال حق الوارث عند تعلق حقه بالمال، وهو معنى قوله: (فكذلك إذا ثبت بالنص) أي إذا ثبت الخلافة بتأويل كون الخلافة بصريح قوله: أنت مدبر بعد موتي. يعني إذا وجد سبب الخلافة وهو المرض يثبت للوارث حق لا يجوز للمورث إبطاله. فكذلك إذا ثبت نصًا بقوله: أنت مدبر بعد موتى، (وصار المال من ثمراته) أي من ثمرات سبب الخلافة فيثبت المال ضمنًا، وإنما قال هذا لدفع شبهة وهي أن التدبير وصية، وقال قبل هذا: «فيصير التعليق به إيجاب حق للحال بطريق الخلافة عنه» أي قوله: «أنت حر بعد موتي» إثبات حق الحرية في الحال بطرييق الخلافة عنه وفيه إخراج مالية العبد عن ملكه فصار

كإخراج ماله عن ملكه بالإيصار للموصى له بالمال. ثم هناك يملك إبطال ما أوجبه في الحال فينبغي أن يملك إبطال ما أوجبه في الحال من تدبير العبد أيضًا بجامع أن كلًا منهما إيجاب حق متعلق بالموت في المال، فقال نعم كذلك. إلا أن المال هاهنا صار من ثمرات الخلافة وسبب الخلافة لما ثبت بيت المال في ضمنه وهو مالية العبد فلذلك لم يملك إبطاله بخلاف الموصي له. فإن المال ثمة أصل وعند ثبوت الخلافة المال موجود ولم يتعلق حق الموصى له بالمال قبل الموت فيملك الموصي إبطاله بخلاف ما نحن فيه؛ لأن إثبات الخلافة في الحرية على وجه التعليق بأمر كائن لا محالة، وهو مما لا يحتمل الإبطال، فلذلك لم يملك إبطال التدبير بعد إثباته نصًا، فلذلك وقع التدبير لازمًا دون الإيصاء بالمال للموصى له، (فينظر من بعد) أي بعد ثبوت سبب الخلافة. (منع الاعتراض عليه من المولى) أي منع ذلك الحق اللازم الاعتراض الصادر من المولى من التصرفات المبطلة لذلك الحق اللازم كالبيع والهبة وغيرهما عليه أي على ذلك الحق اللازم، (للزومه في نفسه) وهو الإعتاق فإنه لا يقبل الفسخ، و (للزومه) في سببه وهو تعليقه بأمر كائن لا محالة، ونفس التعليق أمر لازم فكيف إذا كان معلقًا بأمر كائن لا محالة، وإنما قيد بقوله: (وهو معنى التعليق)؛ لأن بهذا أعني التدبير، وهو قوله: أنت مدبر

أو قد دبرتك ليس بتعليق حقيقة لعدم كلمة التعليق، وكذلك قوله: إذا مت فأنت حر؛ لأن التعليق الحقيقي إنما يكون بالتعليق بأمر له خطر الوجود أي التردد في الوجود لا أن يكون أمرًا كائنًا لا محالة، فلم يكن هو حقيقة التعليق، لكن فيه معنى التعليق لتعلق عتقه بالموت فلذلك وقع لازمًا. ثم ترك هاهنا الشق الآخر أي لكونه معروفًا، وهو أن يقول: وإن كان الحق غير لازم بأصله مثل الوصية للموصي له بثلث ماله فهو لا يمنع الاعتراض عليه من المولى حتى صح بيع ما أوصى به وهبته والرجوع عنه. (وصار ذلك كأم الولد) أي وصار المدبر كأم الولد. (حق العتق لما بينا) من أن عتقها تعلق بالموت وهو كائن لا محالة، فصار الاستيلاء سبب تعلق حق العتق في الحال كما في المدبر؛ لأن التقوم بالإحراز يكون؛ لأن التقوم لا يكون بدون العصمة المقومة والعصمة المقومة بالإحراز تكون. ألا ترى أن الصيد والحشيش لا قيمة لهما قبل الإحراز. (والمتعة) منها (تابعة) ولهذا صح شراء أخته من الرضاع والأمة

المجوسية وشراء الأختين، (والمالية تابعة) لأن الفراش صار أصلًا فيها كالمنكوحة فصارت المالية تابعة، وإنما جعلت إحداهما تابعة للأخرى عند اجتماعهما؛ لأنه لم يعهد في الشرع أن يكون الإحراز لهما مقصودًا فكان الإحراز للمالية معارضًا للإحراز للفراش، وقد ثبت الإحراز للفراش هاهنا فينتفي الإحراز للمالية ضرورة فجعلناه تبعا؛ لأن الإحراز لو كان ثابتًا للمالية لتعلقه به الحق المؤكد وهو حق الغريم، والوارث كالمدبر ولم يتعلق بها حق قط، فعلم أن المالية فيها تبع لا أصل. (فصار الإحراز عدمًا في حق المالية) أي بمقابلة الإحراز للمتعة. (فتعدى الحكم الأول) وهو حق العتق أي على وجه اللزوم لوجود معناه وهو تعلقه بما هو كائن لا محالة. (دون الثاني) وهو سقوط التقوم أي لم يسقط تقوم المدبر لعدم معناه وهو ذهاب الإحراز للمالية. وقوله: (ولهذا قلنا) يتعلق بقوله: «وأما الذي شرع له فبناء على حاجته» فكان هذا معطوفًا على قوله: «ولهذا وجبت المواريث» أي ولأجل ما قلنا إن الذي شرع للميت يبقى بعد موته لحاجته: قلنا إن المرأة تغسل زوجها.

(وقد بطلت أهلية المملوكية) لأن الشيء المملوك لا يبقى مملوكًا بعد هلاكه، ولأن ما يبقى للإنسان بعد موته هو شيء يقضي به حاجته وبقاء المملوكية ليس مما تقضي به حاجة الميت فأجرى على حقيقته من البطلان. (ألا ترى أنه لا عدة عليه بعدها) حتى يحل للزوج تزوج أختها وأربع

سواها بعد موتها من غير تراخ. فعلم أنه لم تبق الوصلة بينهما أصلًا. (ألا ترى أنه مؤكد بالحجة) وهي الشهود (والمال) وهو المهر (والمحرمية) وهي إثبات حرمة المصاهرة. (الدرك): والدرك -بفتحتين وسكون الراء- اسم للإدراك، (وقد وجب عند انقضاء الحياة) أي حياة المقتول، وعند انقضاء الحياة لا يجب للميت شيء سوى ما يضطر إليه لحاجة تكون له بعد الموت؛ لأن الأصل أن لا يجب له شيء لبطلان الأهلية والمالكية. فالشيء إنما يثبت له بعد الموت بخلاف القياس باعتبار الضرورة ولا ضرورة في إبقاء القصاص له؛ لأنه شرع لدرك الثأر ولا ثأر له بعد الموت؛ لأن الثأر إنما ينشأ من النفس الحيوانية الداعية إلى الانتقام وإلى إطفاء نار الحمية الملتتهبة بالاضطرام، فلذلك قيل: يجب القصاص للأولياء من وجه؛

لأنهم كانوا ينتفعون بحياته ويجب للمقتول من وجه؛ لأن انتفاعه بحياته أكثر من انتفاع أوليائه به، فلذلك صح العفو منه ومن أوليائه. وقوله: (ولهذا صح عفو الوارث عن القصاص) استدلال من المصنف -رحمه الله- على أن ثبوت ولاية استيفاء القصاص للورثة لم يكن بطريق الوراثة لهم من المورث بل بطريق الأصالة ابتداء؛ لأنه لو لم يكن القصاص حقهم ابتداء لما صح منهم العفو عنه حال حياة مورثهم، كما لا يصح إبراؤهم غريم المورث عن الدين حال حياة مورثهم. (لكن القصاص واحد) جواب إشكال وهو أن يقال: لما كانت شرعيته لدراك الثأر وأن يسلم حياة الأولياء وذلك يحصل للجميع، فينبغي أن لا يصح استيفاؤه إلا بحضور الكل، فقال في جوابه: (أنه جزاء قتل واحد وكل واحد من الأولياء كأنه يملكه وحده) كثبوت ولاية الإنكاح للإخوة.

(إذا كان سائرهم صغارًا)؛ لأن احتمال العفو منهم في الحال معدوم. (ورجحان جهة وجوده) أي وجود العفو، وإنما قال هذا؛ لأن مجرد الاحتمال غير معتبر. (ثم حضر الغائب كلف إعادة البينة) فلو كان بطريق الإرث لما كلف إعادة البينة؛ لأن أحد الورثة ينتصب خصمًا عن الباقين فيما كان لهم بطريق الإرث كما في المال. (وإذا انقلب القصاص مالًا) لشبهة وقعت أو كان القاتل أبًا أو عفا أحد الأولياء صار موروثًا فحينئذ يقدم فيه ما كان الميت إليه أشد احتياجًاا من قضاء ديونه وتنفيذ وصايا وارثه. فإن قيل: الأصل هو القصاص وهو ليس بموروث فكيف يكون خلفه وهو المال موروثًا، والأصل إن السبب الموجب للأصل هو السبب الموجب

للخلف، فلما لم ينعقد القتل العمد وهو السبب الموجب للقصا موجبًا للإرث فيكف ينعقد موجبًا لإرث في خلفه وهو المال؟ قلنا: الموت سبب الخلافة في الإرث، والإرث إنما لم يثبت في القصاص لضرورة أن شرعيته لدرك الثأر وهو مما لا يحتاج إليه الميت، فإذا انقلب القصصا مالًا ارتفعت الضرورة، وسبب الخلافة في المال بطريق الإرث وهو الموت ثابت فيثبت الإرث. فإن قلت: لما لم يوجب القتل العمد الإرث في المال في ابتداء وجوده لم يوجب بعد ذلك؛ لأن ذلك حالة البقاء كالزنا الموجود في دار الحرب واستحداث الملك في الجارية المنكوحة، حيث لم يوجبا حكمهما الذي هو الحد ووجوب الاستبراء بعد زوال ما يمنعهما من ثبوت حكمهما وهو الخروج إلى دار الإسلام في الزنا وفرقة الزوج في الجارية المنكوحة؛ لأنهما لما لو يوجبا ذينك الحكمين في ابتداء وجود السبب لم يوجبا بعد ذلك؛ لأن السبب لم ينعقد موجبًا لذلك الحكم حال ابتداء وجوده فلا ينقلب موجبًا بعد ذلك. قلت: ليست هاتان الصورتان زوان ما نحن فيه؛ لأن الزنا الموجود في دار الحرب واستحداث ملك الجارية المنكوحة لم يوجبا حكمًا من الأحكام في ابتداء وجودهما لانعدام شرطهما حتى ينقلب ذلك الحكم إلى حكم آخر عند

وجود شرطه فلغا السبب عن إثبات حكمه لعدم شرطه ابتداء وبقاء لذلك بخلاف ما نحن فيه. فإن القتل العمد أوجب حكمه الأصلي وهو القصاص وحق القصاص شيء يصلح أن يكون سببًا لوجوب المال بدليل صحة صلح القصاص على المال، ولما انقلب القصاص مالًا صار كأنه هو الواجب الأصلي فيه فيتعلق حق الميت به، كما لو كان الموت موجبًا لإرث المال ابتداء؛ لأن الخلف إنما يثبت بالسبب الذي يجب به الأصل والسبب وجد في ذلك الوقت فيستند وجوب الخلف إلى ذلك الوقت أيضًا فكان موروثًا. (ألا ترى أن حق الموصى له لا يتعلق بالقود) هذا لإيضاح أن الدية تجب من الأصل ويصير موروثًا من الأصل؛ لأنه إذا لم يكن كذلك لما تعلق بها حق الموصى له كما في القصاص. (فاعتبر بسهام الورثة في الخلف) يعني يأخذ كل واحد منهم بقدر حقه؛ لأنه متجز بخلاف القصاص؛ لأن لكل واحد منهم أن يستوفى كله لاختلاف حالهما وهو أن القصاص غير منتجز وسهام الورثة متجزية. (وفارق الخلف الأصل لاختلاف حالهما) يعني أن حال الأصل وهو القصاص لا يصلح لحاجة الميت؛ لأن الغرض منه درك الثأر وهو قد عدم في حقه، وحال الخلف وهو الدية يصلح لحاجة الميت فكان الخلف مفارقًا لأصله

في الحكم المتعلق بكل واحد منهما كما في التيمم مع الوضوء، حيث اشترطت النية في التيمم دون الوضوء؛ لأن الماء مطهر للشيء طبعًا وشرعًا فلا يحتاج إلى النية التي تجعله مطهرًا بخلاف التراب فإنه غير مطهر في أصله فاحتاج إلى النية التي تجعله مطهرَا شرعًا. (ولهذا وجب القصاص للزوج والزوجة) أي ولأجل أن القصاص وجب للورثة ابتداء وجب للزوج والزوجة؛ لأنهما من الورثة، (ولهذا وجب بالزوجية نصيب في الدية) أي ولأجل أن الزوجية تصلح سببًا للخلافة فكان هو استدلالًا على أن الزوجية تصلح سببًا للخلافة. (ألا ترى أن للزوجية مزية تصرف في الملك) أي أن لكل واحد من الزوجين زيادة تصرف في مال الآخر وزيادة بسوطة وانتفاع بمال الآخر

بالنسبة إلى تصرف الأقرباء في مال القريب الآ×ر، وعن هذا لم تصح شهادة أحدهما للآخر بخلاف شهادة الأخ لأخيه، فلما كان كذلك كان للقريب نصيب في الدية فأولى أن يكون لأحد الزوجية في دية الآخر نصيب، وعن هذا قال فصار كالنسب. وقوله: (وما يجب له وما يجب عليه مما اكتسبه) هذا في حق (السبب وما يلقاه من ثواب وكرامة أو عقاب وملامة) هذان في حق الحكم أي بقاء ما يجب له من المظالم بأن ظلم عليه غيره أو ما يثبت له من الملك بعد موته بسبب باشره في حياته، كما إذا رمى صيدًا فأصاب السهم الصيد بعد ما مات الرامي فإن الصيد يكون له ويصرف في حوائجه كما في سائر أمواله، وكذلك لو نصب شبكة فتعلق به صيد يكون له أيضًا، وكذلك قوله: «وما يجب عليه» أي بقاء ما يجب عليه، كما إذا حفر بئرًا في قارعة الطريق فوقع فيها إنسان أو حيوان بعد موت الحافر هو عليه يؤخذ بضمانه من تركته. (كالرحم للماء) من حيث إنه وضع فيه إلى زمان ثم يخرج منه. (في هذا المنزل) وهو القبر (الابتلاء في الابتداء) أي بعد ما صار بالغًا

في الدنيا حال حياته، فعلى هذا كان قوله: «الابتلاء» فاعل يمضي، وفي بعض النسخ للابتلاء في الابتداء، وهو سؤال المنكر والنكير في القبر وهو ابتلاء، وهو آخر ابتلاء في حق الميت في الدنيا، ثم السؤال في حق البالغ ظاهر لورود الآثار المتتابعة فيه. وأما إذا مات الصبي فإنه يسأل ولكن يلقنه الملك، وقال بعضهم: لا يلقنه الملك ولكن يلهمه الله تعالى بفضله حتى يجيب كما ألهم عيسى عليه السلام بالجواب في المهد حتى قال: الآية (قَالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الكِتَابَ) [مريم:30]، وبهذا نأخذ. كذا ذكره الإمام الزوندويستى في «الروضة».

باب العوارض المكتسبة (أما التي من جهته فالجهل)؛ لأن الله تعالى أعطاه أسبابًا بها يزيل الجهل عن نفسه، فلما لم يشتغل بتلك الأسببا واشتغل بضدها جعل كأن الجهل حصل منه بخلاف الرق؛ لأنه جزاء استنكافه، وجزاء فعله لا يكون منه؛ لأن الإنسان لا يجازي نفسه، وهذه المجازاة من الله تعالى في حق الكافر فكان سماويًا، ولأنه لا يلزم من الكفر الرق كأهل الذمة بل الرق يثبت بالاستيلاء عليه وهو ليس باختياره، ولأنه بعد ما ثبت لا يتمكن من إزالته بخلاف الجهل.

[الجهل]

[الجهل] (والجحود) إنكار (بعد وضوح الدليل) وثبوت العلم، قال الله تعالى: (وجَحَدُوا بِهَا واسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ) [النمل:14]. وقوله: «بعد وضوح الدليل» أي على حدوث العالم، فإنه لما شاهد حوث العالم وجب عليه أن يعتقد بأن له محدثًا أحدثه؛ لأن الحادث هو ما كان مسبوق العدم، والعالم موجود مشاهد والعدم لا يوجد نفسه، فلا بد له من موجد يخرجه من العدم إلى الوجود وهو المحدث، والإنكار لوجود المحدث وصفاته التي هي لازمة الإحداث من الحياة والعلم والقدرة بعد ذلك إنكار بعد وضوح الديل، (فإنها تصلح دافعة للتعرض) كاستصحاب الحال. يعني لو أراد واحد التعرض لإتلاف خمره يدفعه الكافر بديانته أي باعتقاده بأن الخمر كانت حلالًا متقومة في الأصل، فيبقى كذلك وصف الحل والتقوم، ونحن أمرنا بأن نتركهم وما يدينون.

(في الأحكام التي تحتمل التغير) مثل حرمة الخمر وحرمة نكاح الأخت فإن هذه الأحكام تحتمل التغير. ألا ترى أن نكاح الأخت كان صحيحًا في عهد آدم عليه السلام، والخمر كانت مباحة في ابتداء الإسلام، فيصلح أن تكون ديانة الكافر في مثل هذه الأحكام دافعة للدليل الموجب للحرمة. (الاستدراج): اندلت اندك نزديك كردانيدن خداي تعالى بنده بخشم وعقوبت خود. (والمكر): هو الأخذ على الغرة، (وتمهيدًا لعقاب الآخرة) يعني أن قصور الخطاب عنهم وإن لم يكونوا مخاطبين بأداء العبادات لم يكن للتخفيف عليهم بل للتغليظ وهو تمهيد عقاب الآخرة بسبب ذلك القصور وترك الخطاب بأداء العبادات. وهذا لأن الخطاب بأداء العبادات إنما يكون ليسعى المرء بأدائها في فكاك نفسه. قال النبي عليه السلام: «الناس غاديان بائع نفسه فموبقها»، يعني

يترك الائتمار بالأوامر، والقول بأن الكافر ليس بأهل للسعي في فكاك نفسه ما لم يؤمن لا يكون تخفيفًا عليه، بل هو نظير أداء بدل الكتابة لما كان ليتوصل به المكاتب إلى فكاك نفسه، فإسقاط المولى هذه المطالبة عند عجزه بالرد في الرق لا يكون تخفيفًا عليه، فإن ما يبقى فيه من ذل الرق فوق ضرر المطالبة بالأداء. ونظيره أيضًا من الحسيات أن مطالبة الطبيب المريض بشرب الدواء المر إذا كان يرجو له الشفاء يكون نظرًا له من الطبيب لا إضرارًا به، فإذا أيس من شفائه وترك مطالبته بشرب الدواء لا يكون ذلك تخفيفًا عليه بل إخبارًا له بما هو أشد عليه من ضرر شرب الدواء المر وهو ما يذوق من كأس الحمام، فكذلك هاهنا قولنا: إن الكفار لا يخاطبون بأداء الشر ائع لا يتضمن معنى التخفيف عليهم بل يكون فيه بيان عظم الوزر والعقوبة. كذا قاله الإمام شمس الأئمة رحمه الله. («وجنة الكافر») من حيث إنه لا خطاب في الجنة بل فيها ما تشتهي الأنفس. (فأما في حكم لا يحتمل التبدل) مثل تدينهم بعبادة الصنم عصمنا الله

تعالى عن ذلك لا يعطي له حكم الصحة ولا يكون ذلك دافعًا لدليل الشرع. (ويبتنى على هذا) أي على أن ديانتهم صارت دافعة. (وما أشبه ذلك) مثل جواز جعل الخمر أجرة في الإجارات ومهرًا في النكاح ودفعهم إياها في الضمانات. (قضى بها عنده) أي قضي بهذه الأحكام عند أبي حنيفة رضي الله عنه. (لا تصلح حجة متعدية) أي ملزمة؛ (لأن ديانتها لا تصلح حجة على الأخرى) فلما لم تكن ديانتها حجة في حق من هو على ديانتها فلأن لا تكون حجة على من اعتقد خلاف دينها بالطريق الأولى. (وجب أن لا تجعل حجة متعدية) يعني وجب أن لا تجعل ديانتهم حجة ملزمة على المسلمين في هذه الأحكام الثلاثة وينبغي أن لا يجب الحد

على القاذف ولا تستحق القضاء بالنفقة ولا يجب الضمان على متلف خمرهم. (قلنا عنه: هذا تناقض؛ لأنا نجعل الديانة معتبرة) إلى آخره بيان التناقض أنك ساعتدتنا على أن ديانتهم معتبرة في حق الدفع، وما قلت من النقض يؤدي إلى التناقض؛ لأنه يؤدي إلى أن لا تكون ديانتهم معتبرة أصلًا فحينئذ يكون ذلك قولًا باعتبار الديانة وعدم اعتبار الديانة، وهذا هو التناقض. فقوله: «هذا تناقض لأنا نجعل الديانة معتبرة» إلى آخره. جواب تام؛ لأن السائل يحترز عن التناقض وعند ظهور ما يوجب تناقضًا في سؤاله يمتنع عن مثل ذلك السؤال، والمقصود من الجواب هو أن يظهر من المجيب الجواب ما ينقطع به سؤال السائل؛ لأن الجواب مأخوذ من جاب الفلاة أي قطعها؛ وذكر في غصب «المبسوط»، ثم وجوب الضمان بالإتلاف لا يكون المحل مالًا متقومًا ولكن شرط سقوط الضمان بالإتلاف انعدام المالية وانعدام التقوم في

المحل، وهذا الشرط لم يثبت في حقهم مع أنا ضمنا بعدق الذمة حفظها وحمايتها لم÷، والعصمة تتم بهذا الحفظ، ووجوب الضمان بالإتلاف يبتنى على ذلك، فكان هذا من ضرورة ما ضمناه بعقد الذمة. ألا ترى أن في الذي لم يضمن بعقد الذمة بقي على ما هو مقتضي الشرع كما في عقود الربا، حيث يتعرض لهم في إبطال عقود الربا بينهم؛ لأنا لم نضمن ترك التعرض لهم في ذلك مع قول الرسول عليه السلام: «ألا من أربى فليس بننا وبينه عهد»، وهذا لآن ذلك فسق منه في الاعتقاد ولا ديانة، وقد ثبت بالنص حرمة الربا في اعتقادهم، قال الله تعالى: (وأَخْذِهِمُ الرِّبَا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ) [النساء:161] ولم نعمل فيه بما يدعون من اعتقادهم بحل الربا. (لأنا نأخذ نصف العشر من خمور أهل الذمة والعشر من خمور أهل الحرب) كما نأخذ من سائر أموالهم كالحنطة والشعير، فجعلنا خمورهم من الأموال المتقومة بناء على اعتقادهم أنها من الأموال المتقومة وجريان عقد الذمة بهم على ذلك. (وهذه غير متعدية) أي وهذه الديانة التي يدينون بها بأنها من الأموال

المتقومة نأخذ العشر باعتبارها لا باعتبار أن حجتهم متعدية أي ملزمة علينا بالإجماع، فكذا فيما وراء هذا مما قلنا من المسائل، بل أجريناها على موجب اعتقادهم. (بل هي حجة عليهم) يعني أن ديانتهم تصير حجة عليهم ونأخذ العشر باعتبار ديانتهم أنها من الأموال المتقومة؛ لأن العشر إنما يؤخذ من الأموال المتقومة إلا أنه لا يؤخذ أي العشر من الخنزير. هذا جواب لإشكال وهو أن يقال: لو كان أخذ العشر باعتبار ديانتهم وديانتهم موجودة في حق الخنزير أيضًا فلم لا يؤخذ العشر منه؟ (وحقيقة الجواب: أنا لا نجعل الديانة متعدية) يعني ما قلنا إنه تناقض كان ذلك لدفع سؤالهم. فأما ما هو حقيقة الجواب فهو إنا لا نعتبر ديانتهم متعدية في جميع ما ذكرنا من المسائل، بل كل ذلك بناء على أمر آخر وهو أنا نعتبر ديانتهم في حق الدفع. (لم يثبت بالديانة إلا دفع الإلزام بالدليل) أي دفع إلزامان إياهم بالدليل الثابت لنا من الكتاب والسنة، أي أنههم يدفعون بديانتهم بأن الخمر متقومة ما

نلزمهم بالدليل عدم بقاء تقومها، يعني أن الخرم في الأصل كانت متقومة ثم النص ابطل تقومها فكانت ديانتهم دافعة لذلك الإلزام لا مثبته للتقوم للخمر، لأن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف، وحقيقته أنه لا شك أن الضمان مضاف على سببه وسببه الإتلاف لا تقوم المحل بل هو شرطه، ولهذا يقال: ضمان الإتلاف وضمان الجناية لا ضمان التقوم، وهذا لأن الإتلاف فعل قائم بالمتلف والتقوم راجع على المحل والمحال شروط فلا يجوز أن يكون وصف المحل الذي هو شرط داخلًا في حكم السبب الذي هو الإتلاف مع صلاحية الإتلاف للسببية. وقد وجد السبب وهو الإتلاف من المسلم فكان الضمان مضافًا إلى الإتلاف لذلك، ولكن المسلم ادعى عدم الشرط وهو التقوم بدليله، والكافر يدفع هذه الدعوى الصادرة من المسلم بديانته ف بقيت متقومة على زعمه فوجب الضمان لجريان عقد الذمة على اعتبار دفعه بديانته. ولو لم يكن الضمان مضافًا إلى الإتلاف بل إلى التقوم كانت الديانة متعدية حينئذ، لأن التقوم ساقط عند المسلمين والسب غير موجود في حق المسلمين وهو التقوم، ومع ذلك وجب الضمان كان ذلك حينئذ ثابتًا بِإلزام الكافر على المسلم، لأن تقومه بناء على اعتقاده فصار حجة على المسلم وذلك منتف.

(وإنما العلة هي القذف) فلا يكون الحد مضافًا إلى الإحصان ليكون ثبوته باعتقادهم بل هو مضاف إلى القذف وأنه وجد من المسلم. (وأما النفقة فإنما شرعت بطريقة الدفع)، يعنى أينما شرعت كان لدفع الهلاك عن المنفق عليه، ودفع الهلاك لا يعد إلزامًا فلا يكون وجوب النفقة في نكاح المحارم باعتبار أن ديانتهما كانت متعدية، بل باعتبار دفع الهلاك فإنها لما كانت محبوسة له تجب نفقتها عليه دفعًا لهلاكها. (كما يحل دفعه إذا قصد قتله) أي إذا قصد الأب قتل ابنه يحل ل لأبن أن يدفع أباه عن نفسه وأن كان لا يحصل ذلك الدفع إلا بالقتل دفعًا للهلاك عن نفسه. فعلم أن وجوب النفقة لدفع الهلاك لا باعتبار أن ديانة الكفار متعدية. (ولا يحبسن بدينه جزاء كما لا يقتل قصاصًا)، أي لا يحبس الأب بدين الابن إذا مطلب بطريق جزاء ظلمه على الابن، لأنه لو حبس فيه كان هو جزاء الظلم ابتداء لا دفعًا لضرر الهلاك عن الابن كما لا يقتل لذلك قصاصًا للابن، لأنه لو اقتص للابن كان هو مجازاة على الأب للابن ولا يجازي والد لولده.

ولكن يستحق الوالد الحبس والقتل بطريق دفع الهلاك عن الابن كما حبس بسبب نفقة الآبن وقتل أيضًا بسبب دفع الهلاك عن الابن على ما ذكر. فعلم أن وجوب نفقة المرأة المحبوسة على زوجها الذي هو محرم لها كان لدفع الهلاك عنها لا لأن يكون ديانتهما بوجوب النفقة على زوجها المحرم ملزمة على القاضي بإيجاب النفقة على زوجها المحرم. (بخلاف الميراث) وهو ما ذكر من المسألة المجمع عليها، وهي قوله: "ألا ترى أن لمجوسي ِإذا تزوج ابنته" إلى آخره فإنه لو وجب الإرث ب النكاح كانت ديانة المنكوحة ملزمة على الأخرى زيادة الميراث. فإن قيل: بأن أختها تدين بهذا أيضًا فكانت زيادة الميراث بناء على ديانتهما. قلنا: لما ترافعتا إلى القاضي وخاصمتا في زيادة الميراث دل ذلك على أن أختها التي هي غير منكوحة لم تلتزم ذلك، ولأن نكاح المحارم ثبت في شريعة آدم ع ليه السلام ولم يثبت كونه سببًا للميراث في دينه فلا يثبت ذلك باعتقادهم وديانتهم، لنه لا عبرة لديانتهم في جواز حكم أو فساده إذا لم تقترن ديانتهم بشريعة ثابتة من الشرائع قطعًا. (وإذا لم يفسخ بمرافعة أحدهما) فيما ذكر من المسائل (فقد جعلنا

الديانة دافعة)، لأنها تدفع مرافعة الآخر. (هذا جواب قد قيلِ) أي قد قيل في الفرق بين وجوب النفقة بهذا النكاح وبين عدم وجوب الإرث بهذا النكاح. (ولم تصح منازعته من بعد) أي لم تصح منازعة الزوج في عدم وجوب نفقه امرأته التي هي أخته بعد اعتقاده بصحة نكاح أخته، لأنه يكون مناقضًا ولا يسمع قول المناقض. فِإن قلت: ما الفرق الظاهر بين الجوابين؟ قالت: في الجواب الأول كان الفرق بين وجوب النفقة بذلك النكاح على الزوج وعدم ثبوت الميراث بذلك النكاح يدور على ضرورة ديانتهم دافعة للهلاك وعلى صيرورة ديانتهم دافعة موجبة، لأن المرِأة لما كانت محبوسة للزوج كان وجوب النفقة على الزوج باعتبار دفع الهلاك عن المرأة لا أن يكون ديانة الزوجين بصحة النكاح ملزمة على القاضي بالحكم بإيجاب النفقة على الزوج بهذا النكاح ودفع ال هلاك لا يرد في الميراث. ثم لو حكم القاضي بزيادة إرث البنت المنكوحة على الأخرى كانت ديانة الكافرة التي هي منكوحة أبيها ملزمة على القاضي بأن يحكم بصحة نكاحها، وليست ديانة الكافر بملزمة على المسلم شيئًا، وفي الجواب الثاني كان دور الفرق بين وجوب النفقة بذلك النكاح وعدم ثبوت الميراث به على المناقضة وعدم المناقضة، وذلك أن المحرمين لما تناكحا قد التزم الزوج النفقة على

نفسه باعتبار أن في ديانته أن النكاح بينهما صحيح، ثم لو أراد أن لا ينفق عليها بسبب أن النكاح بينهما غير صحيح مع بقائه على كفره كان مناقضًا في ديانته فلا تسقط النفقة عنه إلا بإسقاط صاحب الحق، فلذلك لم تصح منازعته للتناقض بخلاف منازعة البنت الأخرى في حق الميراث، فإنها لما نازعت أختها في استحقاق زيادة الإرث بالزوجية حيث تصح تلك المنازعة منها، لأنها ما أقدمت على النكاح فتكون منازعتها دليلًا عن عدم التزام هذه الديانة، وهو معنى قوله: (بخلاف منازعة من ليس في نكاحهما، لأنها لم تلتزم هذه الديانة). أقصى ما في الباب أن عندها أيضًا أن نكاح المحارم صحيح في ديانتها لكن ديانة الكفرة إنما تعتبر إذا كانت مبنية على شرع سماوي في الجملة، وقد ذكرنا أن نكاح المحارم كان في شريعة آدم عليه السلام، لكن لم يثبت الإرث في ذلك النكاح لم يعتبر. وقوله: (فأما القاضي) إلى آخره جواب سؤال، وهو أن ديانة البنت المنكوحة لم تلزم على البنت الأخرى التي ليست هي في نكاح أبيها، لأنها ليست بداخلة في نكاحهما فلا تكون ملتزمة ديانتهما بأن نكاح المحارم يوجب الإرث، فودر على هذا الجواب لزوم القضاء على القاضي بوجوب النفقة على زوجها الذي هو أبوها فكانت ديانتهما ملزمة على القاضي بوجوب النفقة

على زوجها مع أن القاضي أيضًا ليس في نكاحهما. فقال في جوابه: ليس لزوم القضاء على القاضي بوجوب النفقة باعتبار أن ديانتهما صارت ملزمة على القاضي بل باعتبار تقلد القضاء على العموم بأن يقضي في قضايا المسلمين والكافرين لا باعتبار أن ديانتهم ألزمت القاضي القضاء بوجوب النفقة في نكاح المحارم على الزوج. وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي حنيفة- رضي الله عنه- ولو تزوج- أي الذمي- مجوسية صح النكاح بالاتفاق، والمجوسية محرمة النكاح بخطاب الشرع كذوات المحارم، وإنما حكمنا بجوازه، لأن الخطاب في حقهم كأنه غير نازل فإنهم يكذبون المبلغ ويزعمون أنه لم يكن رسولًا، وقد انقطعت ولاية الإلزام بالسيف وبالمحاجة لمكان عقد الذمة فصار حكم الخطاب قاصرًا عنهم، وشيوع الخطاب إنما يعتبر في حق من يعتقد كون المبلغ ر سولًا، فإذا ثبت حكم صحة النكاح كالنفقة وبقاء الإحصان. فأما الميراث ف ليس من ضرورة صحة النكاح فقد يمتنع التوارث بأسباب كالرق واختلاف الدين.

(وأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله- فكذلك قالا أيضًا) يعني قالا كما قال أبو حنيفة- رضي الله عنه- بأن ديانتهم تصلح دافعة لا ملزمة، لكنهما خالفًا في بعض الأحكام بناء على اختلاف التخريج لا في اختلاف أن ديانتهم تصلح دافعة لا ملزمة، ثم ذكر وجه تخريجهما بقوله: (إلا أنهما قالا: إن تقوم الخمر) إلى آخره. (فإذا قصر الدليل بالديانة) أي قصر دليلنا على التحريم عن إلزامهم بسبب اعتقادهم على حل الخمر والخنزير ِ (بقي على الأمر الأول)، وهو الحل الأصلي، فلذلك لم يجب الحد عليهم إذا شربوا الخمر وصحت بياعاتهم وأشريتهم فيها. (فأما نكاح المحارم فلم يكن أصليًا) بل كان أمرًا ضروريًا والثابت بالضرورة يتقدم بقدر الضرورة. (وإذا كان كذلك) أي وإذا كان نكاح المحارم لم يكن أصليًا لم يجوز استبقاءه. أي استبقاء حل نكاح المحارم (بقصر الدليل) أي قصر دليلنا على

تحريم نكاح المحارم لمعارضة ديانتهم بحله لم يبق حرامًا على الإطلاق على زعمهم، فلذلك لم يحد قاذفه، لأنه صادق في مقالته من وجه، ولئن سلمنا أن النكاح صحيح بينهما إلا أن دليل البطلان، وهو قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) الآية كان شبهة في درء الحد عن قاذفه. (والقضاء بالنفقة على الطريق الأول باطل) يعني لو طلبت المرأة التي هي أخته من زوجها الذي هو أخوها بسبب النكاح عند قاضي المسلمين لا يقضي القاضي بالنفقة بالنكاح، لأن النكاح باطل لما بينا أن حل نكاح المحارم كان أمرًا ضروريًا فيما كان حلالًا ولم يبق ذلك حلالًا أصلًا بعد انتساخه فلم تجب النفقة بسبب النكاح الباطل كما لا تجب النفقة بسبب النكاح الفاسد في حق المسلمين. (وأما على هذا الطريق) وهو قوله: "ولأن حد القذف من جنس ما يدرء بالشبهات" فإن هذا الدليل يقتضي أن تكون لها النفقة، حيث سلم لصحة النكاح بينهما. بدليل قوله: "فلابد من أن يصير قيام دليل التحريم شبهة" فأسقطا الحد لمكان الشبهة والنفقة مما لا يسقط بالشبهات غير أنها لا تجب،

لأنها من قبيل الصلات المبتدأة كالميراث. ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه- جعل لنكاحهم حكم الصحة في حقهم، ومع ذلك لم يجب الميراث بسبب هذا النكاح بالاتفاق لكونه من الصلات المبتدأه، فكذلك النفقة عند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- لا تجب لهذا المعنى. ودليل كونها صلة مبتدأه ما ذكر في الكتاب بقوله: (حتى أنه لم يشترط لها حاجة المستحق) يعني أن نفقة المرأة تجب على زوجها وإن كانت غنية ولم يكن وجوب النفقة على الزوج على ما ذكر أبو حنيفة- رضي الله عنه- لأنها وجبت بطريق الدفع، لأن كل ما ثبت بطريق الدفع إنما تجب عند الحاجة ولا تجب عند عدم الحاجة. ألا ترى أن الأب إذا اشهر على ابنه السيف وقصد على قتله ولم يتمكن الابن من دفعه إلا بقته يحل له قتله لحاجته إلى الدفع، وفي الجهاد إذا أدرك المسلم أباه الحربي لا يحل له قتله بل يمسكه حتى يقتله غيره لاستغنائه عن قتله بنفسه، فلو كان وجوب النفقة على الزوج بسبب دفع الهلاك عن المرأة لما وجبت للمرأة الغنية لاستغنائها بمالها عن وقوع الهلاك. ويحتمل أن يكون المراد من قوله: (أما على الطريق الأول) ما قال في تعليل قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- وهو من قال: (وحقيقة الجواب - إلى أن

قال- وأما النفقة إنما شرعت بطريق الدفع) وقالا: لم تجب النفقة بطريق الدفع بل وجوبها صلة مبتداه على ما قلنا، فلا تجب الصلة المبتدأه ب هذا النكاح كالميراث، لأن هذا النكاح محكوم عليه بالبطلان. وأما الطريق الثاني فهو قوله: (والجواب الصحيح عندي فإنها لما تناكحا فقد دانا بصحته فأخذ الزوج بديانته) أيضًا لكن لا تجب النفقة عندما، لأنها من الصلات المبتدأه كالميراث، والأوجه هو ما ذكرنا من الاحتمال الأول المساعدة لفظ الكتاب إياه، ولأن في الاحتمال الثاني صيرورة الطريقين واحد في المآل. (والجواب لأبي حنيفة- رضي الله عنه-) أي عما قالا: بأن النفقة صلة مبتدأه بدليل وجوبها عند غنى المرأة لا بطريق الدفع حيث قال: إن الحاجة الدائمة بدوام الحبس لا يردها المال المقدر) يعنى أنها وإن كانت غنية تحتاج للنفقة لدوام حبسها لحقه ومالها وإن كان كثيرًا مقدرًا فلا يرد حاجتها الدائمة، لأن المال المقدر لا يبقى مع دوام الحبس، فكان وجوب النفقة بطريق الدفع بهذا الطريق، وما كان وجوب النفقة لأحد بسبب أنه محبوس لحق الغير لا يعتبر فيه الغني كالقاضي والعامل فإنه تجب النفقة لهما وِإن كانا غنيين باعتبار الحاجة الدائمة بدوام الحبس.

(فأما سائر الأحكام فلا تثبت) وهي ما بيناها من الحد لقاذفه وضمان متلفه ووجوب النفقة على الزوج لأنا لو قلنا بثبوتها تكون ديانتهم ملزمة. (والجواب عنه) أي عما قال الشافعي بأن سائر الأحكام لا تثبت، لأنه لو ثبت يلزم تعدى ديانتهم إلينا ملزمة. (فيكون في تحقيق العصمة بديانتهم حفظ عن التعرض) يعني لا يصير الأموال والنفوس محفوظة عن أيدي المسلمين في حق أحكام الدنيا إلا بعد أن يجب الضمان بإتلافهم فوجب الضمان لضرورة تحقيق العصمة. كذا في "منتخب التقويم". (وقد بينا ما يبطل به مذهبه) حيث قلنا: إن الضمان لا يجب بتقوم المتلف لكن بإتلاف المتلف، والمتلف مسلم فكان الضمان عليه بسبب إتلافه عند وجود الشرط وهو تقوم المحل المتلف، وكذلك حد القذف يجب بالقذف لا بالإحصان فلا تكون ديانتهم متعدية. (ولا يلزم عليه استحلالهم الربا) أي لا يلزم على ما قلنا إن ديانتهم معتبرة في حق الدفع استحلالهم الربا، فإن بيع الربا حرام عليهم أيضًا وإن

كانوا يدينون بأنه حلال حيث قال "لم تعتبر ديانتهم فيه" (لأنهم نهوا عنه) أي نهو عن أن يخونوا فيما ائتمنوا في كتبهم حيث ارتكبوا كان ذلك الاستحلال والديانة منهم فسقًا لا اعتقادًا فكذلك الربا، لأنهم نهو عنه أيضًا، قال الله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه). (فجعل صاحب الهوى) وهو الذي يتبع هوى نفسه أي ما أحبته نفسه ولا يتبع الدليل مثل القدرية والجبرية وغيرهما، فالقدرية وهي المعتزلة ينكرون صفات الله تعالى ويقولون: لا علم لله تعالى ولا قدرة له، وكذا في سائر

الصفات، وهذا الجهل منهم لا يجعل عذرًا لمخالفتهم بهذا الجهل للدليل الواضح الذي لا شبهة فيه وهو استحالة اتصاف الذات بكونه عالمًا بدون العلم، وقادرًا بدون القدرة، وسمعيًا بدون السمعِ، فإنهم يعترفون بكون الله تعالى عالمًا وقادرًا وسمعيًا، وينكرون العلم والقدرة والسمع لله تعالى، وكذا في سائر الصفات، إذ الأسامي المشتقة من المعاني يستحيل ثبوتها بدون تلك المعاني، لأنها إثباتها بدون تلك المعاني لا يكون إلا لقبًا أو هزؤًا كصبي سمي حين ولد عالمًا وأميرًا، والله تعالى يتعالى عن أن تكون الصفات الثابتة في القران ب قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة) وقوله: (وهو على كل شيء قدير) وقوله: (وهو السمعي البصير) بطريق اللقب علو كبيرًا. وكذلك لا يعذر في (جهله بِأحكام الآخرة) فيما اعتقد أن ص احب الكبيرة يخلد في النار، واعتقاده باستحالة رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة من ورود النص على خلاف اعتقاده، وكذلك اعتقاده في وجوب

الأصلح للعباد على الله تعالى، واعتقاد أن العباد خالقوا لأفعالهم الاختيارية جعل باطل بلا شبهة لمخالفته الدليل الظاهر من السمعي والعقلي. (فكان باطلًا كالأول) أي وجهل صاحب الهوى وجهل الباغي كل واحد منهما كان باطلًا كالأول وهو جهل الكافر الذي ينكر وجود الصانع ووحدانيته، فهما يتساويان في أن الجهل فيهما جميعًا لا يصلح عذرًا. (إلا أنه متأول بالقرِآن) في اعتقاده أي إلا أن صاحب الهوى والباغي كل منهما متأول بالقرآن في اعتقاده ولم يحكم لذلك ب كفره، وإن كان ذلك التأويل الذي صدر منه ليس بتأويل للقرآن في الحقيقة، فإن صاحب الهوى وهو المعتزلى مثلًا في نفى الصفة يتأول بقوله تعالىِ: (وإلهكم إله واحدِ) ولو قلنا بالصفة والصفة غير الموصوف لا يبقى به التوحيد. (والباغي) ي تأول قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده

يدخله نارًا خالدًا فيها) وغمام العدل لم يبق واجب الطاعة لكفره بوجود المعصية منه، فبسبب هذا التأويل ي ظهر عليه البغي، وهذا فيما إذا لم يكن غاليًا في اعتقاده فكان من المسلمين، وهو معنى قوله: (ولكنه لما كان من المسلمين). وأما إذا غلا في هواه حتى كفر كما غلا بعض الروافض في محبة علي- رضي الله عنه- وهو من اعتقادهم ذلك بريء حتى نسبوا جبريل عليه السلام وهو أمين الوحي إلى الغلط، وهو معنى قوله: (أو ممن ينتحل الإسلام) أي يتخذ الإسلام نحلة أي دينًا وهو ليس بمسلم. (وكذلك سائر الأحكام تلزمه) أي يلزم الباغي حكم ضمان ما أتلف من المال والنفس، وكذلك يلزمه غير ذلك الحكم من الصلاة والزكاة وغيرهما من الأحكام التي تلزم المسلم ب خلاف ما إذا صارت له منعة بحيث لا يؤخذ حينئذ بضمان ما أتلف لتقوى تأويله الفاسد بالمنعة الظاهرة فكان ملحقًا

بأهل الحرب في حق عدم وجوب الضمان لانقطاع ولاية إلزام أهل العدل. (والتدفيف على جريحهم) يقال: دففت على الجريح تدفيفًا إذا أسرعت قتله. قال أبو عبيد: يروي بالدال والذال معًا. كذا في الصحاح.

(لأن الإسلام جامع) أي جامع لنا وللباغي في دين واحد في الأصل فكان الدين الأحد جامعًا بين المورث والوارث ف لم يثبت اختلاف الدين الذي هو مانع من الإرث. (والقتل حق) فكان كالقتل بحق القصاص فلم ي وجد القتل الذي هو مانع عن الإرث. (في حكم الجهاد بناءً على ديانتهم)، لأنهم قالوا: نحن على الحق وأنتم على الباطل، فلزمنا مجاهدتكم وليس لنا ولاية الإلزام لقوتهم وشوكتهم فاعتبرت ديانتهم لذلك، (لأن أصل الدار واحدة، وهي بحكم الديانة مختلفة فتثبت العصمة من كل وجه، فلم يجب الضمان بالشك فلم يجب الملك بالشبهة ولم يجب الملك بالشبهة) بيان هذا أن كل واحدة

من الطائفتين اعتقد على أن الأخرى على ال باطل وقد غلبت على دار الإسلام وجعلتها دار الحرب ف لزمنا محارتها فلم يجب الضمان بالشك ولا يجب الملك أيضًا بالشك، وهذا لنه لو كانت الدار مختلفة من كل وجه لثبت الملك بالاستيلاء ولم يجب الضمان، ولو كانت متحدة من كل وجه لم يثبت الملك ووجب الضمان، فإذا كانت مختلفة من وجه متحدة من وجه ل م يثبت كل واحد من حكم الاختلاف والاتحاد على الإطلاق بالشك فلذلك ل م يجب الضمان نظرًا إلى الاختلاف، ولم يثبت الملك نظرًا إلى الاتحاد. فإن قلت: لم لم يعكس حكمًا الاختلاف والاتحاد ولم يقل يثبت الملك نظرًا إلى الاختلاف ويجب الضمان نظرًا إلى الاتحاد؟ قلت: فيه ترك العمل بجانب الاتحاد من كل وجه، وذلك لأنه لما كان موجبًا للملك بالنظر على الاختلاف وهو الأقوى كان موجبًا نفي الضمان بالطريق الأولي وهو الأضعف، فكان فيه ترك العمل بجانب الاتحاد، لأن استياءهم لما كان مثبتًا أقوى الأمرين بأي شبه كان كان مثبتًا لأضعفهما بالطريقة الأولي. وقوله: (وكذلك جهل من خالف في اجتهاده الكتاب والسنة- إلى

قوله- لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإن قلت: ما وجه المطابقة بين الدليل والمدلول والظاهر عدم المطابقة؟ قلت: وجهها أن يقال ليس هذا الجهل عذرًا، لأنا أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفة الكتاب والسنة منكر، فلزمنا النهي عنه فلا يكون الارتكاب منهم على تلك المخالفة عذرًا في الدنيا ولا ف ي الآخرة، كان هذا التعليل ل بيان أن ما ذكرنا من قولنا: إن جهلهم ذلك ليس بعذر، لأنه جهل باطل قول لا على طريق التشنيع بل على طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (وعلي هذا يبتنى ما ينفذ فيه قضاء القاضي وما لا ينفذ) أي ما كان فيه مخالفة الكتاب والسنة المشهورة لا ينفذ فيه قضاء القاضي، وما لا يكون كذلك ينفذ ف يه قضاء القاضي. (في موضع الاجتهاد الصحيح). يعني في موضع يسوغ فيه الاجتهاد

(لكن في موضع الشبهة) كوطء الابن جارية أبيه أو أمه. (فالعصر فاسدة) يعني عندنا. أما عند الشافعي فجائزة، (لأن هذا جهل على خلاف الإجماع) أي ظنه بأن ظهره بدون الوضوء جائز وقع على خلاف الإجماع، لأن أحدًا لم يقل بجواز الصلاة بدون الوضوء ولا بخلفه، (وإن قضي الظهر) إلى آخره، فالمقصود هذه المسألة. وأما الأولي فإنما ذكرها لترتيب هذه المسِالة عليها، وقوله: (وعنده) أي وعند المصلي. (لأنه جهل في موضع الاجتهاد) أي بالدليل الذي ذكره الشافعي في عدم اشتراط الترتيب، وبالقياس على ما إذا كان الوقت ضيقًا أو الفوائت

كثيرة وعلى الصيام. (لأن جهله حصل في موضع الاجتهاد)، لأن القصاص لا يسقط عند البعض ب عفو أحدهما. (وعلى ذلك التقدير لم تلزمه الكفارة) أي على تقدير ظنه أن الحجامة أفطرته اعتمادًا على ظاهرة ال حديث، أو على قول المفتى الذي أفتاه بقول الأوزاعي يعين أكل عمدًا بعد الاحتجام على ظن أو صمه فسد بالاحتجام، أو على ظن أن أكل العمد ب عد الحجامة لا يوجب الكفارة يكون

جهله هذا عذرًا فلا تجب الكفارة لم قلنا، أي لأنه جهل في موضع الاجتهاد في حكم يسقط بالشبهة، لأن كفارة الفطر مما تسقط بالشبهة. (فيصير الجهل في موضع الاشتباه شبهة في الحد) وإنما قيل إنه في موضع الاشتباه فإن الأب إذا وطء جارية ابنه لا يلزمه الحد ف يشتبه على الولد أن القرابة واحدة وهي قرابة الولاد فيظن الولد بسبب هذا الاشتباه أن الانتفاع بما الأب يحل له كما للأب في ماله. (وكذلك في جارية) امرأته لما أن المنافع بينهما متصلة فيظن حل

جاريتها تبعًا لسيدتها كما في سائر الأموال (دون النسب والعدة) أي يؤثر جهله ف ي سقوط الحد أما لا يؤثر في ثبوت النسب والعدة. (بخلاف ما إذا زني)، لأن الزنا حرام في الأديان كلها فجهله لا يجعل عذرًا (على هذا الأصل الذي ذكرنا) وهو أن الجهل في موضع الاشتباه كان شبهة في درء الحد، وإذا لم يكن في موضع الاشتباه والاجتهاد لا يجعل عذرًا. (لأنه غير مقصر) أي في طلب الدليل فكان جهله عذرًا، لأنا لو ق لنا بأن جهله لا يجعل عذرًا كان ذلك تكليفًا بالإتيان بشيء قبل السماع وهو تكاليف بما ليس له ف ي وسعه، لأن الإنسان لا يمكنه الإتيان بالأمور به إلا بعد علمه بالأمر بذلك الشيء، وغلى هذا أشار محمد- رحمه الله- في مسافر إذا كان في رحله ما وهو لا يعلم به فيتيمم. قال: يجوز تيممه لأن النسيان يعدم القدرة وكان الأمر بالوضوء مع

ذلك تكليفًا بما ليس في الوسع ثم البلوغ بطريقين: بطريقة السماع صريحًا، وبطريقة الاستفاضة والشهرة. أما السماع: فلا شبهة فيه. وأما الاستفاضة: فإنها تقوم مقام السماع والبلوغ. ألا ترى أن النبي عليه السلام سمي نفسه مبلغًا إلى جميع الناس، ومعلوم أنه ما بلغ إلى جميع الناس بنفسه بل حصل التبليغ منه تارة بالكتاب وتارة بالرسول وتارة بالتبليغ ثم قال: "ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، ثم قال: اللهم فاشهد"، والمعنى فيه أن الخطاب بعد الشهر صار ميسر الإصابة، فعدم الوصول بعد ذلك كان بتقصير من جهته فلا يكون عذرًا.

(وكذلك جهل الوكيل بالوكالة) يعني أن الوكيل لا يصير وكيلًا بدون علمه، لأن في صيرورته وكيلًا ضرب إيجاب وإلزام عليه حيث يلزمه الجري على موجب الوكالة إذا قبل الوكالة في بعض المواضع. ألا ترى أنه لو كان وكيلًا بشراء شيء بعينه لا يتمكن من شرائه لنفسه، وكذلك لا يجوز تصرفه فيه مع من لا تقبل شهادته له، فلما كان في صيرورته وكيلًا نوع إيجاب عليه لا تثبت الوكالة بدون علمه، وهذا لأن حكم الشرع لا يثبت بدون العلم مع كمال ولاية صاحب الشرع، فلأن لا يثبت الحكم من جهة العباد بدون العلم أولي. وكذلك المأذون حيث يلزمه الجري على موجب الإذن وتتعلق الديون برقبته وكسبه في الحال ويطالب به قبل العتق، بخلاق ما إذا لم يكن مأذونًا حيث لا يطالب بالدين الذي ف ي ذمته في الحال، فلما كان جهل الوكيل ب الوكالة وجهل المأذون بالإذن عذرًا كان تصرفهما قبل بلوغ الخبر إليهما لم ينفذ على الموكل والمولى حتى لو اشترى الوكيل قبل العلم بوكالة يقع العقد للوكيل، لن الشراء لا يتوقف. وأما لو باع متاعًا للموكل قبل العلم بالوكالة كان موقوفًا، لأن تصرف الفضولي في البيع موقوف. ثم ذكر المصنف- رحمه الله- الوكالة والإذن في باب أقسام السنة من قبيل

ما لا إلزام فيه أصلًا، وذكرهما هنا من قبيل ما فيه نوع إلزام بحسب اقتضاء الدليل كل واحد منهما، وقد ذكرنا في "الوافي" وجه اقتضاء الدليل. وقيل معنى قوله: (لأن فيه ضرب إيجاب وإلزام) يعني إذا تصرفا بحكم الوكالة والإذن يلزمها حقوق العقد فكان فيها إلزام من هذا الوجه. (وإن كان فضوليًا) و (إن) هذه للوصل. وأما إذا كان المخبر رسول الموكل والمولى فلا شك أنه لا تشترط العدالة في الرسول، لأن كلام الرسول ككلام المرسل، وفي المرسل لا يشترط العدد أو العدالة فكذا فيمن قام مقامه (بل هو مخير) أي بل كل واحد من الوكيل والمأذون مخير إن شاء قبل الوكالة والإذن وإن شاء لم يقبل هذا في الوكيل ظاهرة، لأنه لا ولاية لأحد عليه فلا يجب عليه قبول الوكالة فلذلك كان هو على خيرة الرد.

وأما العبد فكان ينبغي أن لا يكون على خيرة الرد، لكن هو على خيرة الرد أيضًا كالوكيل، لأن مولاه ما أمره بالتجارة بل أذن له في التجارة والإذن لرفع المانع عن التصرف لا لإيجاب التصرف عليه، فلذلك كان هو أيضًا على خيرة الرد حتى لو أمره بذلك يجب عليه الائتمار من غير تردد. (لأن الدليل خفي)، لأن الحجر والبيع وجناية العبد لا يكون مشهورًا غالبًا، (وفيه إلزام) من حيث إنه يلزم على الوكيل الامتناع من التصرف في مال الموكل، وعلى المأذون الامتناع من التصرف في مال المولى على وجه لو تصرف الوكيل يقع تصرفه على نف سه، وكذلك في الشفيع إلزام الطلب على الشفيع في حال العلم وإبطال شفعته إن لم يطلب وفي مولى العبد الجاني إلزام الفداء بالتصرف في العبد الجاني فكان في هذه المسائل إلزام من هذا الوجه فلا يلزمهم ب دون علمهم. (وكذلك قوله في تبليغ الشرائع إلى الحربي) الذي اسلم في دار الحرب أي وكذلك قولي أبي حنيفة- رضي الله عنه- في هذا يعني أنه يشترط

العدالة أو العدد في مبلغ الشرائع إلى الحربي الذي اسلم في دار الحرب. وقال الإمام شمس الأئمة- رحمه الله-: الأصح عندي أنه لا يشترط العدالة أو العدد في هذا الفصل خاصة. أراد به مبلغ الشرائع. إلى دار الحرب، لأن كل مسلم يلزمه تبليغ الشريعة إلى من لم يعلم أحكام الشرائع. قال النبي عليه السلام: "ألا فليبلغ الشاهد الغائب" فكان المبلغ بالتبليغ مسقطًا ما وجب عليه فلا يشترط فيه العدد أو العدالة بل يشترط ف يه ما يصير به أهلًا للتبليغ من العقل والإيمان. (لأن لدليل خفي في حقها) أي دليل تثبيت ثبوت الخيار وهو العتق ودليل ولاية خيار التق لها لأن العتق غير مشهور وهي أيضًا لا تتفرغ من خدمة المولي للتعلم الشرائع، وتعلم ولاية ثبوت خيار العتق لها. (فلم يعلم بالخيار لم تعذر)، لأنها قادرة على التعلم لعدم اشتغالها بخدمة أحد فكان الجهل بتقصير منها.

(وجعل سكوتها رضا) أي سكوتها بعد البلوغ، (ولأنها تريد بذلك إلزام الفسخ ابتداء لا الدفع عن نفسها)، والجهل لا يصلح عذرًا في الإلزام البتة بخلاف الجهل في موضوع الدفع فإنه قد يصلح للدفع. والدليل على أنها لا تريد الدفع عن نفسها أن النكاح ثابت ولا يزداد شيء ببلوغها بخلاف الأمة، لأنها تدفع زيادة القيد التي تثبت عليها بعد العتق وهي الطلقة الثالثة. (ولهذا التفرق الخياران في شرط القضاءِ) يعني شرط القضاء في خيار البلوغ لا في خيار العتق حتى لو قالت الحرة: رددت لا ينفسخ النكاح بدون القضاء بخلاف خيار العتق فإن النكاح ينفسخ بمجرد اختيار المعتقة نفسها. (إن ذلك لا يصح إلا بمحضر منه) أي إلا بعلم منه.

وأما من له الخيار ِإذا أجاز بغير علم صاحبه جاز بالإجماع، وكذلك عند أبي يوسف في الفسخ بدون علم ص احبه صح خلافًا لهما، (لأن الخيار وضع لاستثناء حكم العقد)، لأن الشرط دخل على حكم العقد وهو لزوم الملك في البياعات لما ذكر، والمعلق بالشرط عدم قبله فصار كالاستثناء من حيث المنع، إلا أن الاستثناء يمنع انعقاد السبب في حق المستثني وشرط الخيار يمنع الحكم، لأن شرط الخيار لما ثبت بخلاف القياس ظهر أثره في حق الحكم تعليلًا لعمله مهما أمكن، فإذا امتنع الحكم بقي الخيار وفاتت صفة اللزوم عن البيع وخيار الفسخ بناء على فوات صفة اللزوم وكما في الوكالة، لا أن أشرط الخيار وضع للفسخ لا محالة، لأن حكم التخيير الاختيار كما أن حكم الكسر الانكسار، وبثبوت الاختيار له صار العقد غير لازم، وقوله: "لأن الخيار" أي التخيير. وقوله: (لعدم الاختيار) أي لعدم اختياره أحد الحكمين وهما الفسخ والإجازة، ولعدم الاختيار أثر في عدم لزوم العقد كما في بيع المكره والهازل، فإن السبب فيهما قد انعقد ولكن غير لازم، ولما لم يوضع شرط الخيار للفسخ لا محالة لم يكن الفسخ حكمًا للخيار، لأن حكم الشيء يثبت بذلك الشيء لا محالة فحينئذ يصير من له الخيار بالفسخ متصرفًا على صاحبه بالإلزام، لأن صاحبه ربما يجري على موجب العقد على ما هو ثابت عنده من

غير خيار فهو بالفسخ يلزمه خلاف موجب العقد فيشترط علم صاحبة قبل مضي مدة الخيار دفعًا للضرر عنه. قوله: (لا أن الخيار للفسخ لا محالة) جواب عن قوله أبي يوسف رحمه الله- فإنه يقول: إن صاحب الخيار مسلط على الفسخ من قبل صاحبه فلا يتوقف على علمه، وهما يقولان: إن الخيار لم يوضع للفسخ. ألا ترى أن من اشترى شيئًا قبل الرؤية كان له حق الفسخ بخيار الرؤية بناء على فوات صفة اللزوم عن العقد لا أن الخيار وضع للفسخ، إذا لو كان موضوعًا للفسخ لوجد الفسخ لا محالة، لأنه حكمه بل ربما لا يفسخ ويجيز. (صح في الثلاث) أي في ثلاث أيام (وبعد الثلاث) لا يصح أي سواء كان عدلًا أو غير عدل، (فإن وجد أحدهما) أي العد أو العدالة.

فصل في السكر

فصل في السكر (فإنه يحل له)، لأن الخمر في حال الإكراه مبقاة على الأمر الأصلي من الحل للاستثناء، قال اله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتهم إليه) فالصدر للتحريم وهذا مستثني منه وحكم المستثني يخالف حكم المستثني منه فيكون حكم المستثني الحل لا محالة. الأفيون: دواء مخدر بسبب كه إنسان رابيهوش ميكند، أو شرب لبنًا فسكر به كلبن الرماك.

(لأن ذلك ليس من جنس اللهو) أي في اصله ليس هو من جنس اللهو. عتق الشيء- بالضم- عتاقة أي قدم، وعتقته أنا تعتيقًا أي جعلته قديمًا وسابقًا، والمعتقة الخمر التي عتقت زمانًا حتى عتقت، وفي المصادر التعتيق: كهنه كردن خمر شدن. (وهذا السكر) أي السكر الذي حصل من الشرب الحرام.

(لا يقال للعاقل: إذا جننت فلا تفعل كذا)، لأن ذلك تعليق الخطاب إلى حالة منافية ل لخطاب، فلما صح هاهنا إضافة الخطاب إلى حالة السكر علم أنه مخاطب حالة السكر، وإنما قلنا إنه علق الخطاب بحالة السكر، لأنه قال: (وأنتم سكارى) جعل حالة السكر شرطًا لهذا الخطاب، لأنه جعلها حالًا والأحوال شروط كما إذا قيل: إن دخلت الدار وأنت راكبة فأنت طالق، والمعلق بالشرط عدم قبله فيوجد الحكم المعلق عند وجود الشرط لما أن المعلق بالشرط كالملفوظ عند وجود الشرط، فإذا كان مخاطبًا بخطاب الشرع وهو الأصل كان أهلًا لجميع الأحكام، لأن خطاب الشرع بناء على الأهلية الكاملة.

(وإنما ينعدم بالسكر القصد)، لأنه عديم العقل دون العبارة، لأنها توجد حسًا وعيانًا. (لم تبن منه امرأته استحسانا) لعدم القصد، لأن الرجل إذا تلفظ بلفظ الكفر، وعلمنا عدم قصده لا نجعله كافرًا ب خلاف ما إذا قال هازلًا وهو كفر، لأنه استخفاف بدين الإسلام، حتى إن من أراد أن يقول في دعائه: اللهم أنت بي وأنا عبدك، فجرى على لسانه عكسه لا يكفر ل عدم الركن وهو الاعتقاد بخلاف الإسلام فإن الإقرار ركن على قول الفقهاء، ولهذا لو اعتقد الإسلام ولم يقرب اختيار لم يكن مسلمًا، وإذا أسلم مكرهًا يحكم بإسلامه بناء على وجود أحد الركنين ترجيحًا للإسلام على الكفر. فلهذا قال في الكتاب (إذا أسلم يجب أن يصح إسلامه كإسلام المكره)

بخلاف المكره إذا أجرى كلمة الكفر على لسانه حيث لا يكفر، لأن الإسلام يعلو ولا يعلي. هذا كله كان بخط الإمام ر كن الدين الأفسنجي- رحمه الله. (لأن السكر دليل الرجوع)، لأن السكران لا ثبات له على ما يقول ف ي حال سكره، فقل ما يثبت بعد الصحو على ما قال في احل سكره فدل على الرجوع فيجعل عاملًا في حق حكم يقبل الرجوع. (وذلك لا يبطل بصرحه فبدليله أولي) أي وحد القذف بعد ثبوته بالقذف أو بالإقرار لا يبطل بصريح الرجوع فبدليل الرجوع وهو السكر أولي أن لا يبطل.

(حد إذا صحا)، لأن الزنا موجود مشاهدة فلا مرد له بعد الوجود، وغاية ما في الباب أن فيه عدم القصد بسبب السكر، ولكن ذلك العدم إنما نشأ من الشرب الذي هو معصية ف لا يصلح سببًا للتخفيف عليه، ولكن يحد إذا صحا ليفيد فائدته. (وإذا أقر بشي من الحدود فلا يؤخذ به إلا بحد القذف)، لأن الرجوع يصح فيما سوى حد القذف والقصاص، وهاهنا قد قارنه دليل الرجوع، فلأن كان مانعًا من وجوب الحد كان أولي. (وكذلك إذا كان مباحًا مقيدًا) أي مقيدًا إباحته بشرط أن لا يسكر يعين أن السكر الحاصل من المباح المقيد كنبيذ التمر والزبيب فحكم هذا السكر كحكم السكر الحاصل من الحرام في أنه لا يعد عذرًا، وقال في "المبسوط" وفي المثلث المطبوخ من ماء الزبيب يفصل بين القليل والكثير ف لا باس بشرب القليل منه.

وإنما يحرم منه ما يتعقبه السكر وهو القدح الأخير، وقال ابن عباس- رضي ال له عنهما-: الكأس المسكر حرام، وقال أبو يوسف- رحمه الله-: وإنما مثل ذلك مثل دم في ثوب فلا باس بالصلاة به إن كان قليلًا، وإذا كثر لم تحل الصلاة فيه. ألا ترى أن اللبن وما أشبه ذلك حلال فلا ينبغي له إن كان يسكر أن يستكثر منه. ألا ترى أن البنج لا باس به بأن يتداوى به الإنسان، فإذا أراد أن يذهب عقله منه فلا ينبغي له أن يفضل ذلك. (لعدم ركنه) أي ركن الردة بتأويل الارتداد وهو القصد. (إلا أن من عادة السكران اختلاط الكلام) هذا استثناء من قوله: أما الحدود فيقام عليه إذا صحا واستثنى منه وقال: إن الحد الذي ثبت بالإقرار فإنه لا يقام عليه إذا صحا لوجود دليل الرجوع وهو السكر، والمراد من قوله: يقام عليه الحدود إذا صحا هو الحدود التي تثبت بأسبابها معاينة بمباشرتها في

حال السكر كالزنا والسرقة، والحد الذي لا يقبل الرجوع إذا ثبت بالإقرار كحد القذف. (وقد زاد أبو حنيفة- رضي الله عنه- في حق الحدود) حيث قال: هو أن لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من النساء، (فيحتمل أن يكون حده في غير الحد هو أن يختلط) يعني يحتمل أن يكون حد السكر عند أبي حنيفة - رضي الله عنه- غير حد السكر الذي قال في حق إقامة الحد على السكران، وأن يقول حد السكر في غير إقامة الحد هو أن يختلط كلامه كما قالا في حد السكر في جميع الصور بذلك. وأما حد السكر عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- في حد إقامة الحد فهو أن يبلغ حدًا لا يعرف الأرض من السماء ولا الرجل من النساء ب عد تحقق اختلاط كلامه، لأن الحد مما يحتال في إسقاطه.

وأما في حق غير الحد من الأحكام كالقول بعدم صحة ردته والقول بصحة إيمانه والقول بعدم إقامة الحدود الخالصة لله تعالى بإقراره فحده هو أن يختلط كلامه كما قالا. والله اعلم.

فصل في الهزل

فصل في الهزل (وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له). وقال الشيخ الإمام أبو منصور- رحمه الله- الهزل ما لا يراد به معني، وبهذا ظهر الفرق بين الهزل والمجاز، فإن المجاز ما أريد به معنى مصطلح عليه ولم يرد به ما وضع له، بل أريد به غيره لمناسبة بينهما. وأما الهزل فهو أن يراد به ما لم يوضع له، وهو ليس بمعني مصطلح عليه ل عدم مناسبة بين ما وضع ل هـ لغة وبين ما أريد به من المعني. اعلم أن الجد أعم من الحقيقة، فإن الحقيقة تكون جدًا إذا لم تكن هزلا.

وأما ما يكون جدًا فلا يلزم أن يكون حقيقة كالمجاز، فإن المجاز يوجد كثيرًا في كلام الله تعالى، وتعالى كلامه عن الهزل على ما نص الله تعالى بقوله: (إنه لقول فصل * وما هو بالهزل). (ولا يعدم الرضا والاختيار) فرق بين الرضا والاختيار، لأنهما غيران، لأنه يحتمل أن يكون لإنسان رضا بالشيء ولا يقع اختياره به. (وشرطه أن يكون صريحًا مشروطًا باللسان) أي شرط أن يكون الهزل في البيع هو أن يشترط باللسان قبل البيع في الخلوة صريحًا لا أن يثبت ذلك بطريق دلالة الحال. (إلا أنه لا يشترط ذكره في نفس العقد)، لأنه لو شرط ذلك في نفس العقد لا يحصل مقصودهما ويفوت غرضهما، لأن الغرض من البيع هازلًا

هو أن يعتقد الناس بيعًا لازمًا نافذًا وليس ذلك ببيع في الحقيقة. (والتلجئة: هي الهزل) من حيث إنهما لا يراد بهما معنى ما يلفظ به المتعاقدان إلا أن الهزل أم من التلجئة، لأن التلجئة أن يصير المرء مضطرًا إليه، يقال: لجأه إذا اضطره، وهذا يقتضي أن يكون ما قصد إليه المتبايعان من الغرض سابقًا على البيع لا محالة بخلاف الهزل، فإنه جاز أن يكون ما قصداه من الغرض سابقًا وجاز أن يكون مقارنًا للعقد بأن قال: بعت هذا هازلًا، (وإذا كان كذلك) أي وإذا كان معني الهزل ما ذكرنا بأنه ينافي اختيار الحكم والرضا ولا ينافي الرضا بالمباشرة. (فيما لا يحتمل النقض) كالطلاق (أو فيما يحتمله كالبيع). إما أن يهزلا بأصله أي بأصل بأن يذاكرا لفظ البيع وليس من

غرضهما البيع، أو يعقدا هازلين على أن لا بيع بينهما (أو بقدر العوض) بأن عقدا بالعين بشرط أن يكون الثمن ألفا، (أو بجنسه) بأن عقدا بالدنانير على أن يكون الثمن الدراهم أو على العكس. (ثم يتفقا على الأعراض) أي بعد العقد. (فانعقد فاسدًا غير موجب للملك) أي أبدًا بخلاف ما إذا كان الفساد بوجه آخر، فإنه يوجب الملك إذا اتصل القبض به فكان هذا نظير خيار الشرط أبدًا فإنه لا يوجب الملك. وإن اتصل القبض به (كخيار المتبايعين معًا) في أنه غير موجب للملك، وفي كل واحد منهما يتفرد بالنقض. أما لا تنفرد بالإجازة، لأن للآخر ولاية النقض. وقال في "المبسوط": وإذا كان الخيار للبائع والمشتري جميعًا

لم يتم البيع بإجازة أحدهما حتى يجتمعا عليها. (وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- يجب أن يكون مقدرًا بالثلاث) أي رفع الفساد والإجازة يتقدم بثلاثة أيام عنده كخيار الشرط أبدًا حتى إنه إذا رفع المفسد بعد الثلاث لا يجوز هناك فكذا هنا. وقوله: (ولهذا) إيضاح لحكم قوله: كخيار المتبايعين معًا، (ودلالة هذه الجملة) وهي أن الهزل لم يكن منافيًا للأهلية وأن الهازل مختار راض بمباشرة السبب ولا يمنع الانعقاد، لأنه لو كان منافيا للأهلية أو كان مانعًا للانعقاد لما صح النكاح، لأن الشيء لا يثبت بدون ركنه وأهلية فاعله. ألا ترى أن النكاح لا يثبت بالتعاطي لعدم ركنه ولا ينعقد بعبارة المجنون لعدم أهلية الفاعل، علم بهذا أن عبارة الهازل صحيحة في حق انعقاد السبب. (لا يؤثر في النكاح بالسنة) وهي قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد

وهزلهن جد"، (وإنما دخل على الحكم) لما بينا أنه ينافي الرضا بالحكم كبيع المكره والبيع بخيار الشرط. (في الحالين) يعني إذا لم يحضرهما شيء أو اختلفنا. (فإن العقد باطل) أي فاسد بدليل صحة الانعقاد ولكن فيه فساد، لأنه بناء على المواضعة عندهما.

(فالقول قول ما يدعي البناءِ) أي عندهما (إلا أن يوجد النص على ما ينقضها) أي إلا أن يوجد صريح قول بنقض المواضعة وهو أن يتفقا على الإعراض عن المواضعة. (لكنه قال: وقال أبو حنيفة- رحمه الله-) أي لكن أبا يوسف قال: وقال أبو حنيفة- رحمه الله- (فيما أعلم) هذا (ليس بشك في الرواية) ولا تردد فيثبت الاختلاف. يعني أن عند أبي حنيفة- رحمه الله- جازمًا في الرواية عن أبي حنيفة- رحمه الله- أن البيع عنده صحيح فيثبت الاختلاف، (لأن من مذهب أبي يوسف- على قوله- لازم)، ولا يكون قوله: (فيما أعلم" للشك، لأنه لو كان للشك لما وجب شيء، كما إذا قال بعد الإقرار إن شاء الله، لأن الأصل براءة الذمم فلا يثبت بالشك شيء. (ومنهم من اعتبر هذا ب قول الشاهد عند القاضي فلم يثبت الاختلاف)، لأن الشهادة لما بطلت بقول الشاهد فيما أعلم بطلت روايته عن أبي حنيفة

رضي الله عنه- هاهنا أيضا اعتبارًا بمسالة الشاهد فلم يثبت روايته عن أبي حنيفة- رحمه الله- في أن البيع صحيح عند أبي حنيفة- رحمه الله- لكن الصحيح هو الأول يعني أن الخلاف بينهم ثابت، فالبيع صحيح عند أبي حنيفة- رحمه الله- خلافًا لهما. وقوله: وكذلك يحكي محمد عن أبي حنيفة- رحمهم الله- قوله في كتاب الإقرار في باب الإقرار بالبراءة وغيرها من إقرار "المبسوط" وذكر فيه هذه المسألة بهذه العبارة، ولو قال: إني أريد أن ألجيء إليك داري هذه وأشهد لك بالبيع وقد حضر الشهود تلك المقالة فإن أبا حنيفة- رحمه الله- قال ف يما أعلي: يقع البيع والمقالة التي كانت قبله باطلة. وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- البيع باطل على الكلام الأول، ثم قال: ومعنى قوله: "ألجيء" أي أجعلك ظهرًا لي لا تمكن بجاهك من صيانة ملكي. يقال التجأ فلان إلى فلان وألجأ ظهره إلى كذا والمراد هذا المعني. وقيل معناه: أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع معك ولست بقاصد حقيقة البيع، ثم صحح أبو يوسف روايته عن أبي حنيفة- رحمه الله- بقوله: فيما أعلم، لأن الرواية عن الغير كالشهادة، وهذا اللفظ شك في الشهادة عند أبي يوسف- رحمه الله-

ولكن روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة- رحمهم الله- مطلقًا أن البيع جائز. وروى محمد- رحمه الله- في الإملاء عن أبي حنيفة- رضي الله عنه- أن البيع باطل وهو قولهما. وقوله: "فيما أعلم" ملحق برواية أبي يوسف، فحينئذ يكون الشك في رواية أبي يوسف في أنه هل سمع من أبي حنيفة- رضي الله عنه- أم لا؟ أما فتوى أبي حنيفة- رحمه الله- فمشهورة بأن الصحة أولي عنده. (العقد المشروع لإيجاب حكمه في الظاهر جد) معناه البيع مشروع وهو في الظاهر جد لإثبات حكمه وهو الملك، لأن الهزل لم يتصل بهذا البيع نصًا فكان العمل بالجد أولى، وإنه سبقه الهزل فرجحنا كونه جدًا باعتبار

الصحة، وقالا: السبق من أسباب الترجيح وترجح جهة الهزل بالسبق، وذلك لأن حالة الهزل لم يعارضها شيء فتثبت هي نصًا بلا معارض، والسكوت في حالة العقد أو الاختلاف في البناء والإعراض لا يصلح معارضًا لما سبق، لأنه لم يتعرض لا ل لهزل ولا للجد فوجب العمل بالسابق. وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه- العقد لخالي عن الهزل نصًا يصلح معارضًا وناسخًا للأول باعتبار حمل أمر المسلمين على الصحة والسداد، وهو معنى قوله: (الآخر ناسخ) أي البيع الخالي عن الهزل نصًا ناسخ للهزل السابق. (وأما إذا اتفقا على الجد في العقد) هذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة، وهو قوله: أو ب قدر العوض (كان الثمن ألفين) لبطلان الهزل بإعراضهما باتفاقهما. (لما ذكرنا من الأصل) أي أصل أبي حنيفة- رحمه الله- وأصلهما فإن من أصل أبي حنيفة- رحمه الله- أن العقد المشروع كان ظاهرة في الجد، فكان

العمل بالصحة أولي حملًا لأمر المسلمين على ال صلاح، ومن أصلهما أن العمل بالهزل أولي لما أن الهزل سابق والسبق من أسباب الترجيح. (لأنهما جدًا في العقد)، لأن هزلهما ومواضعتها في البدل لا في نفس العقد، لأنهما عقدا العقد جدًا (والعمل بالمواضعة يجعله شرطًا فاسدًا)، أي العمل بالمواضعة في البدل يجعل ق بول ال بيع بألفين شرطًا فاسدًا، لأنه شرط قبول ما هو غير داخل في ال بيع (فيفسد البيع) كما إذا جمع بين حر وعبد وباعهما. (فكان العمل بالأصل عند التعارض أولي من العمل بالوصف) يعني أن الجد في العقد مع الهزل في ثمن يتعارضان، لأن كون العقد جدًا يوجب صحة البيع ب الألفين والعمل بالهزل في قدر ال ثمن يوجب فساد البيع فكان الأصل أولي، لأن التبع لا يعارض الأصل فصار بمنزلة خلوة عن المعارضة في الوصف لعدم اعتبار الوصف بمقابلة الأصل (أعني تعارض المواضعة في البدل والمواضعة في أصل العقد) فإنهما تواضعا على شيئين. أحدهما: أن يكون الثمن ألفًا وإن كان البيع واقعًا بألفين، وهو يوجب فساد العقد. والثاني- أن يكون العقد صحيحًا، لأنهما لم يتواضعها على عدم العقد

والعمل بهما أي بالفساد والصحة غير ممكن والقول بصحة العقد مع أن يكون الثمن ألفًا ممكن والعقد أصل والثمن فيه تابع فكان الثمن للبيع بمنزلة الوصف فالفساد الطارئ منه كان فسادًا في ال وصف فيكون الأصل أولي بالاعتبار وفيه صحة العقد. (بخلاف تلك المواضعة) أي المواضعة في اصل العقد فإنها مخالفة للمواضعة في البدل، لأن تلك المواضعة تقتضي جوازه بالاتفاق على كل حال سواء اتفقا على البناء أو الإعراض أو اتفقا على أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا، وغنما ذكر هذا للفرق بين ما إذا اتفقا على البناء في الهزل بأصل العقد، فإن ذلك فاسد على قول أبي حنيفة- رحمه الله- أيضًا. وأما مسألتنا وهي ما إذا جدًا في اصل العقد وهزلا في قدر البدل ففي قولهم جميعًا يصح في الصور الأربع على ما ذكرنا في ظاهر الرواية. وإنما قلت: إن القول بالجواز قولهم جميعًا في ظاهرة الرواية لأنه ذكر في "المبسوط" في باب التلجئه من الإكراه، ولو أن رجلًا قال لولي امرأة: إني أريد أن أتزوج فلانة على ألف درهم ويسمع بألفين والمهر ألف، فقال

الولي: نعم أفعل، فتزوجها على ألفين علانية كان النكاح جائزًا والصدق ألف درهم إذا تصادقا على ما قالا في السر- إلى أن قال- وكذلك البيع، ثم قال: وهذا الجواب في البيع قول أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- وهو أدى الروايتين عن أبي حنيفة- رضي الله عنه. وأما في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة- رحمها الله- فالبيع فاسد إذا تصادقا عل أيهما شاء على تلك المواضعة. ووجه الفرق أن شيئًا من الجد لم يعارض الهزل هناك فكان حكم الهزل ثابتًا في صورة البناء ففسد العقد لذلك. وأما هاهنا فقد عارض ل صور الهزل الجد في اصل العقد، فلذلك رجحنا جانب الصحة في الصور الأربع ترجيحًا لجانب الأصل على جانب الوصف وحملًا لأمر المسلمين على الصلاح لما أنهما لم يذكرا الهزل في البدل حال ال عقد واتفاقهما على البناء إنما كان بعد العقد والاتفاق الطارئ لا يؤثر في العقد الماضي. (فإن البيع جائز على كل حال) أي الصور الأربع من الاتفاق على الأعراض والبناء والاختلاف وما لم يحضرهما شيء من الأعراض والبناء، وهذا لأن الدنانير إذا كانت تلجئه أي هزلًا تعذر العمل بالهزل وبالجد، لأن العمل بالهزل أن لا يكون الدنانير ثمنًا، على هذا لا يمكن العمل بالجد في

أصل العقد وهو صحة البيع، لأن البيع بدون الثمن باطل، فلذلك رجحنا جهة الجد وهو الفرق لهما بخلاف الهزل في القدر، لأن أحد الألفين شرطا لا طالب له لاتفاقهما على عدم التسمية فلا يفسد البيع، كمن اشترى حمارًا على أنه لا يعلفه لا يفسد البيع، لأن هذا شرط لا طالب له من جهة الخلق، والبيع لا يصح بغير الثمن والثمن ما يذكر في العقد فلو لم يجب ما هو المذكور في العقد يبقى البيع بلا ثمن، والبيع بلا ثمن فاسد فكان جعل الثمن ما هو المذكور في العقد وهو الدنانير أولي ليصح العقد. وهو معنى قوله: (فصار العمل بالمواضعة أولي) أي العمل بالمواضعة المذكورة في العقد وهي الدنانير أولي، فحصل من هذا كله أن البيع بالهزل في قدر العوض مع الحد في اصل البيع والبيع بالهزل في جنس العوض مع الجد في اصل البيع جائز بالاتفاق في الصور الأربع وفي كل واحد منهما. غير أن الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه- رحمهم الله- فيما إذا كان الهزل في قدر البدل كان الثمن هو المذكور في العقد عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- وهو الألفان من الدراهم وعندهما الثمن هو المذكور في السر وهو ألف درهم.

وأما إذا كان الهزل في جنس البدل كان الثمن هو المذكور في العقد بالاتفاق، والفرق لهما هو أنه إذا اتحد الجنس مع الهزل في القدر ممكن أي يجعل بعض المذكور ثمنًا فصار بعض الثمن ب منزلة الإسقاط بعد الوجوب بسبب أنه لا طالب له ولا يمكن مثل ذلك التقدير فيما إذا اختلف جنس العوض فلذلك كان الثمن هو المذكور في العقد ليصح العقد. (وأما فيما لا يحتمل النقض فثلاثة) أنواع وعدم احتمال النقض فيه هو أن لا يجري ف يه الفسخ والإقالة كالطلاق والعتاق والهزل فيه أن يواضع الرجل امرأته أنه يطلقها علانية ولا يكون بينهما طلاق، وكذلك العتاق والعفو عن القصاص. والمواضعة في اليمين في: أن يواضع مع امرأته مثلًا إني أقول إن دخلت الدار فأنت طالق لكني أقول ذلك بطريقة الهزل لا بطريق الجد، وكذلك النذر بأن قال: نذرت هازلًا، أو تواضع مع فقير أنه يوجب على نفسه التصدق عليه على ملأ من الناس ولكن يكون في ذلك هازلًا، أو نوي في هذه الصور كلها في نفسه أنه هازل فيما صدر منه من الطلاق والعتاق والنذر واليمين والعفو عن القصاص. (ما لا مال فيه أصلا) أي لا يجب لا مال فيه بدون الشرط.

وأما إذا شرط المال فيجب، (وحكم هذه الأسباب لا يحتمل الرد والتراخي) أي لا يحتمل الرد بالإقالة ولا يحتمل التراخي بشرط الخيار كما يحتمل هنا البيع. (والعقد لازم)، لأن الهزل ملحق بخيار الشرط فكل ما يؤثر فيه خيار الشرط يؤثر فيه الهزل والنكاح عقد لا يؤثر فيه خيار الشرط فلا يؤثر فيه الهزل وأيده قوله عليه السلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد". (بخلاف مسألة البيع عند أبي حنيفة- رحمه الله-) حيث يجعل هناك الثمن ألفين وإن اتفقا على البناء، لأنه أي لأن البيع (بالشرط الفاسد يفسد) والعمل بمواضعة السر يفسده فلا يعمل بها بل يعمل بالأصل وهو الجد في العقد دون الوصف وهو الثمن. وأما النكاح فلا يفسد بالشرط الفاسد فيعمل بالمواضعتين وهما جواز العقد وأن يكون المهر ألفًا.

(بخلاف البيع)، لأن المهر تابع في هذا، لأنه يصح النكاح بدون ذكره ولا كذلك الثمن. فإن قيل: قد ذكر قبل هذا: "فكان العمل بالأصل- أي بنفس العقد- عند التعارض أولي من العمل بالوصف" أي بالثمن فقد جعل الثمن وصفًا والوصف" أي بالثمن فقد جعل الثمن وصفًا والوصف تبع للموصوف ثم ذكر هاهنا في مقام الفرق بين البيع والنكاح، لأن المهر تابع، فكان فيه إشارة إلى أن الثمن ليس بتابع في البيع فما وجهه؟ قلنا: وجهه إن في الثمن معني الأصالة ومعنى التبعية بدليل شهادة الأحكام على ذينك المعنيين فمعني الأصالة هو أن لا يصح البيع بدون ذكره والجهالة فيه مانعة لصحة البيع، ومعنى التبعية فيه هو أنه يحتاج في الشراء إلى أن يكون الثمن موجودًا في ملك المشتري ولا يتوقف صحة الإقالة إلى بقائه فكان هو في البيع بمنزلة الركن الزائد كالقراءة في الصلاة والإقرار في الإيمان. وأما المهر في النكاح فتابع من كل وجه وليس فيه شيء من دلالة الأصالة في النكاح فلذلك سماه تبعًا على الإطلاق في مقام الفرق بينه وبين الأصل من كل وجه جانب الوصفية التي هي تدخل على التبعية، وذكر هاهنا في مقام الفرق بينه وبين التبع

من كل وجه جانب الأصالة الذي يدل على المتبوعية ليتبين تفاوت الأحكام والفروق بالالتئام. (فلا يجعل مقصودًا في الصحة) أي فلا يجعل المهر مقصودًا في صحته تابع من كل وجه، فلو اعتبرنا تصحيح التسمية وأوجبنا ألفين كما في البيع يصير المهر مقصودًا في الصحة وهو في نفسه تابع من كل وجه، فلا يجوز أن تكون مقصودًا صحته بوجه من الوجوه لما أن النكاح بدونه صيح من أن في تصحيح تسمية المهر على ما ذكر في العلانية ترك العمل بالمواضعة في حق المهر. وأما لو اعتبرنا في باب البيع صحة التسمية لا يكون الثمن مقصودًا منه، بل المقصود منه جواز البيع، لأنه لا يصح بدونه فاعتبرنا صحة التسمية عملًا بإحدى المواضعتين تصحيحًا لمواضعه جواز البيع، وإن كان فيه ترك المواضعة الأخرى وهي وجوب الأقل من الثمن. وأما هاهنا لو اعتبرنا ترك العمل بمواصفة الأقل كان فيه إبطال العمل بمواضعة الأقل وليس في إبطاله تصحيح المواضعة الأخرى وهي جواز النكاح لما أن النكاح بدونه جائز.

(وأن التسمية في الصحة مثل ابتداء البيع) أي تسمية المهر في صحتها واعتبارها مثل صحة تسمية الثمن واعتبارها في ابتداء البيع وهو ما إذا تواضعها على البيع بألف وعقدا على ألفين فإن عند أبي حنيفة- رحمه الله- اعتبار صحة تسمية الثمن في العقد أولي حتى يجعل الثمن ألفين فكذا هاهنا، وهذا لأن موجب البيع الصحة والفساد بالعارض، فلما وجب العمل هناك بصحة البيع مع وجود الهزل والهزل يؤثر في البيع حتى وجب الألفان من الثمن وجب أن تصح التسمية هاهنا ويجب الألفان من المهر بالطريق الأولي، لما أن الهزل لا يؤثر هاهنا في الأصل وهو النكاح، فيجب أن لا يؤثر أيضا في تبعه وهو المهر، لأن التبع فيما يثبت إنما يثبت على وفاق الأصل لا على خلافه، فلذلك قيل: إن هذه الرواية وهي رواية أبي يوسف أصح من رواية محمد- رحمهما الله-. (وجب مهر المثل بلا خلاف) لما ذكرنا أن المهر تابع ولا يجعل مقصودًا

بالصحة فيكون النكاح بلا مهر فيجب مهر المثل، (وعلى رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة- رحمهما الله- أنه يجب المسمي) للدليل الذي ذكرنا في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة- رحمهما الله- فيما إذا كان الهزل في قدر المهر على ما ذكرنا آنفًا، وهو أن المهر تبع للشيء الذي لا يؤثر فيه الهزل وهو النكاح فلا يؤثر في تبعه فكان المهر هو المذكور في العلانية ضرورة. (فإن ذلك على هذه الأوجه أيضًا) وهي اثنا عشر وجهًا وهي: أن الهزل إما أن دخل في الأصل، أو في قدر المال، أو في جنس المال، ثم تدور هذه الثلاثة في الأربعة التي ذكرناها من البناء والإعراض ولم يحضرهما شيء واختلفا فكان اثني عشر وجهًا. (لكنه غير مقدر بالثلاث في هذا بخلاف البيع) أي مشيئة المرأة الطلاق

غير مقدرة عند أبي حنيفة -رحمه الله- بخلاف الخيار فى البيع فإنه مقدّر بالثلاث عنده؛ لأن البيع يفسُد بالشروط الفاسدة فيفسُد البيع بالهزل؛ لأنه بمنزلة خيار الشرط مؤّبدًا وعنده أن المفسد إذا ارتفع قبل مُضي ثلاثة أيام يعود إلى الجواز. أما إذا ارتفع بعد ثلاثة أيام فلا يعود إلى الجواز. وأما الخلع فلا يفسد بالشرط الفاسد فيصح اختيار الخلع من المرأة وإن كان بعد الثلاث وهذا لأن الشرط فى باب الخلع ملائم للقياسِ لما أن تعليق الطلاق بالشرط جائز لكون الطلاق من الإسقاطات بخلاف البيع، فإن تعليق البيع بالشرط باطل؛ لأنه من الإثباتات وثبت خيار الشرط فى البيع بالنص بخلاف القياس، وقد ورد مقدّرًا بالثلاث فيبطل فيما وراء المنصوص عملًا بالقياس. أما هذا فملائم للقياس فصح غير مقدّر فلا ضرورة فى التوقيت بالثلاث. وإن هزلا بالكل أي بأصل الخلع والبدل والجنس وهذا لزيادة التأكيد فإن الهزل لما كان فى أصل الخلع كان أيضًا فى البدل والجنس. (ووجب المال بالإجماع) أما عندهما فلأن الهزل لا يمنع من وقوع الطلاق ووجوب المال بطريق التبعية لوقوع الطلاق. وأما عند أبى حنيفة-رضى الله عنه-فلأن المواضعة بطلت فى صورة الإعراض بأعراضهما وكذلك إن اختلفا. أما عندهما فلما أن الهزل لا

يؤثر في الخلع وفى بدله فيقع الطلاق ويجب المال. وأما عنده (فلأنه جعل القول قولَ من يدّعى الإعراض) فى جميع الصور وكذلك فى صورة السكوت؛ لأنه جعل الإيجاب أولى، (لأنه يجعل ذلك مؤثرًا في أصل الطلاق) أي يجعل الهزل مؤثرًا فى الطلاق من حيث إنه لا يقع كما فى البيع (وعندهما هو جائز) أي الخلع واقع ثابت، (ولا يفيد الاختلافُ) أي اختلاف الزوجين فى البناء والإعراض؛ لأن عندهما الهزل غير مؤثر فى باب الخلع أصلًا؛ لأنه غير مؤثر فى أصل الطلاق ولا فى البدل أيضًا ويجب المسمى إذا اتفقا على البناء. فكذلك إذا اختلفا بل بالطريق الأولى فلا يفيد اختلاف الزوجين؛ لآن لحكم فى حال اتفاق الزوجين على البناء أو على الإعراض أو عند اختلافهما سواء يعنى أن الخلع واقع والمالَ لازم فلا يفيد الاختلاف فكان الجواب فى هذا لفصل عند الكل واحدًا، لكن على اختلاف التخريج، فعند أبى حنيفة-رضى الله عنه-باعتبار المعنى الذى ذكرنا، وهو أنهما إذا اختلفا فى البناء والإعراض كان القول من يدّعى الإعراض، وعندهما باعتبار عدم تأثير الهزل فى الخلع أصلًا (لأنهما جعلا المال لازمًا بطريق التبعية) يعني أن

الخلع واقع بالهزل؛ لآن الهزل لا يؤثر فيه عندما فيجب المال كله آيضا وإن كان الهزل يؤثر فى إيجاب المال كما فى البيع؛ لأنه ثبت المال هنا فى ضمن الخلع والعبرة للمتضمًن لا للمتضمًن كالوكالة الثابتة فى ضمن الرهن فلم يؤثر الهزل فى المال أيضًا لذلك فيجب جميع المسمى وإن كان إيجاب المال في بعضه بطريق الهزل. (يجب أن يتعلق الطلاق باختيارها) أي باختيار المرأة جميع المسمى فى الخلع جدّا، وهذا لأن الهزل لما كان مؤثرا فى الخلع عند أبى حنيفة-رضى الله عنه-لمَ يقع الطلاق فيما إذا اتفقا على البناء، فوجب ان يتعلق الطلاق باختيارها كلَ البدًل جدًا؛ لأنه بمنزلة خيار الشرط وفى خيار الشرط يتعلق باختيارها فكان الطلاق معلًقا بقبول كل البدل أو البدل ألفان فكان الخلع واقعًا على الأبفين. ما فى أحد الألفين فلا شك؛ لأنه جدّ فيتعلق به لا محالة وكذلك يتعلق بالألف الأخرى؛ لأنه بمنزلة خيار الشرط والمعلَّق بالشرط لا يوجد قبل وجود الشرط؛ (لأن الطلاق يتعلق بكل البدل)؛ لأن الطلاق يتعلق بما علّق به الزوج والزوج علق الطلاق بألفين وإن كان هازلين بأحدهما والمرأة ما قبلت بعضها جدًا لكونهما هازلين فى الألف فكون القبول واقعًا ببعض البدلَ لا بكله فلا يقع الطلاق كام إذا قال: أنت طالق بألفين فقبلت أحد الألفين. (وقد تعلق بعضه بالشرط) أي بعض البدل بالشرط وهو اختيارها فلا بد

من وجوده لوقوع الطلاق؛ لأن الهزل من جانبها بمنزلة خيار الشرط ولا يقال بأن الألف فى هذا جدّ، وقد وُجد القبول فصار كأن الخلعَ واقع على الألف فيقع الطلاق؛ لأنا نقول: نعم كذلك. لكن الألف الأخرى معلق وجوبها والطلاق بالألفين حالة الخلع فتعلّق بهما جميعًا. غاية ما فى الباب أن النظر إلى الألف الجد يوجب وقوع الطلاق والنظر إلى الألف الأخرى لا يوجب فلا يجب بالشكَ، والفقه فيه ما ذكرنا قبل هذا وهو انه بمنزلة خيار الشرط والمعلَّق بالشرط عَدَمُ قًبْل وجود الشرط. (وعندهما كذلك لما قلنا) آى يقع الطلاق ويجب المال كله لما قلنا من أصلهما أن الهزل لا يؤثر فى الخلع فكذا فى بدله. (وأما إذا هزلا بأصل المال) أي بجنس المال بأن ذكرا فى العلانية أن بدل الخلع الدنانير (وغرضهما الدراهم فإن المسمى هو الواجب عندهما) أي عند أبي يوسف ومحمد-رحمهما الله- (في هذا بكل حال) أي سواء اتفقا على الإعراض أو البناء أو اختلفا أو اتفقا على أنه لم يحضُرهما شيء لما بينا

أن الهزل لا يؤثر عندهما فى الخلع وفى بدله، فيقع الخلع ويجب المال بطريق التبعية للخلع، (وصار) أي وصار وجوب المال (كالذى لا يحتمل الفسخ بطريق التبعية) للخلع، وإن كان وجوب المال فى نفه مما يحتمل الفسخ. (وكذلك هذا فى نظائره) أي الحكم الذى بينا فى الخلع هو الحكم فى نظائره وهو الصلح عن دم العمد والعتق على المال. أطلق لفظ الجمع على الاثنين حيث لم يقل فى نَظيرَيه لقرب الاثنين من الجمع أو أراد بقوله: ((في نظائره)) إلحاق ما هو فى معناهما كالطلاق على مال وإن لم يذكره؛ لأن الطلاق على مال بمنزلة العتق على مال فجاز أن يُلحق بهما، فكانت هذه الثلاثة حينئذ نظائر الخلع. والدليل على صحة ما ذكرنا من أن الطلاق على مال ملحق بالعتاق على مال ما ذكره فى باب التلجئة من إكراه ((المبسوط)) فقال: ولو طلق امرأته على مال على وجه الهزل أو أعتق عبده على مال على وجه الهزل وقد تواضعنا قبل ذلك أنه هزل وقع الطلاق والعتاق ووجب المال، ثم قال: وهذا عندنا قول أبي يوسف ومحمد-رحمهما الله-.

وأما عند أبي حنيفة-رضى الله عنه-يتوقف وقوع الطلاق والعتاق على وجود الإجازة بين المرأة والعبد إلى آخره. (فإن ذلك كالسكوت مختار) لما أنه لّما اشتغل بتسليم الشفعة هازلا صار ساكتًا عن طلب الشفعةَ والشفعةَ تبطل بالسكوت عن طلبها بعد العلم بالبيع فكان التسليم تسليمًا. وأما إذا كان تسليم الشفعة هازلًا بعد طلب المواثبة والإشهاد فبطل التسليم والشفعة باقية لما ذكرنا أن الهزل بمنزلة خيار الشرط أبدًا والتسليم من جنس ما يبطل بخيار الشرط، حتى إنه إذا قال سلّمت شفعتي على أني بالخيار ثلاثة أيام فإن التسليم باطل والشفعة باقية فكذا فى صورة الهزل، ولأن الشفعة لا تبطل بعد طلب المواثبة والإشهاد بصريح السكوت فكذا لا تبطل بدلالة السكوت ولا كذلك قبل طلب المواثبة. (وكذلك إبراء الغريم) أي أن ربٌ الدين إذا أبرأ غريمته هازلاٌ يبطل إبراؤه، وبقى الدين كما كان كما فر إبراء الغريم بشرط الخيار حيث لا يبرأ هناك فكذلك فى الهزل؛ لان الهزل بمنزلة خيار الشرط.

(وأما القسم الثاني وهو الإقرار فإن الهزل يبطله) أي يبطل الإقرارَ (سواء كان إقرارًا بما يحتمل الفسخ) نحو الإقرار بالبيع والإجازة بأن تواضعا على أن يُقرّ عند الناس بالبيع ولكن لا يكون كذلك، (أو بما لا يحتمله) كالطلاق والعتاق بأن تواضعا على أن يقر عند الناس بالطلاق والعتاق وهو ليس كذلك فلا يثبت واحد منهما، فحصل من هذا أن الفرق ثابت بين الطلاق هازلًا وبين الإقرار بالطلاق هازلًا حيث وقع الطلاف فى الأول دون الثانى. فإن قلت: ما الفرق الموضح بين هذين الهزلين أي بين الهزل بالطلاق وبين الهزل بالإقرار بالطلاق حيث وقع الأول دون الثانى مع انهما يتحدان فى الحكم فى الحد فإن الطلاق كما يقع بالإنشاء كذلك يقع بالإقرار به فى الحد، ولأن الهزل إنما يؤثر فيما فيه خيار الشرط وخيار الشرط لا يؤثر فى الإقرار بالطلاق فيجب أن لا يؤثر الهزل فيه أيضًا لما أن الهزل إنما يؤثر فيما هو قابل للفسخ بعد الثبوت كما فى البيع والإجارةَ والطلاق الذي وقع بالإقرار بالجِد غير قابل للرفع والفسخ كالطلاق الذي وقع بالإنشاء. قلت: الفرق بينهما هو أن الواقع بالإنشاء كالشاء الذى ثبت بالآلة المحسوسة وبعد ما ثبت الشاء بالآلة لا يمكن أن لا يُجعل ثابتًا كالقطع الثابت

بالسكين والإحراق الثابت بالنار لا يمكن أن يجعل غير مقطوع وغير مُحرَق وإن كان قطعه وإحراقه بطريق الإكراه والهزل، لِما أنه ثابت حسًا فلا يمكن ردٌّه ودفعه. وإما الطلاق الواقع بالإقرار فباعتبار أنه أقر طائعًا وهو إخبار، فكان خبره محمولًا على الصدق وهو الأصل فى خبر العاقل البالغ لا باعتبار أن إقراره بالطلاق موضوع لإيقاع الطلاق، فلذلك كان عند قران الشيء الدال على كذبه فى إقراره من الإكراه والهزل حُمل خبره على الكذب فلم يقع به الطلاق فكان وقوع الطلاق من إقراره بالطلاق لضرورة حمل إقراره على الصدق لا باعتبار أنه موضوع لإيقاع الطلاق بطريق الأصالة بخلاف إنشاء الطلاق بلفظ موضوع لعه فإنه لا يحتمل غير الإيقاع، فلذلك لم يتغّير حكمه بالإكراه والهزل. والدليل لى أن الإقرار غير موضوع لإيقاع الطلاق وإن كان إقراره بطريق الطوع ما ذَكر فى باب الإكراه ((المبسوط)) فى موضوعين فقال: لو أقر بالطلاق طائعًا وهو يعلم أنه كاذب فى ذلك فإنه يسعه إمساكُها فيما بينه وبين الله تعالى إلا أن القاضى لا يصدقه على ذلك؛ لانه مأمور بإتباع الظاهر والظاهر أن الإنسان لا يكذب فيما يلحق به الضرر، فإذا كان مكرَهًا وجب تصديقه فى ذلك لوجود الإكراه، فلهذا لا يقع به

شيء من الطلاق والعتاق، وبهذا خرج الجواب عن خيار الشرط فإنه لا يؤثر فى الإقرار بالطلاق؛ لأن خيار الشرط إنما يؤثر فيما يُستقبَل من الأفعال التي وضَعت للإنشاء لا في الماضى والإقرار بالطلاق إخبار عن وقوع الطلاق فيما مضى من الزمان وخيار الشرط لا يعمل فى الماضى فبقى الإقرار طائعًا فيقع الطلا لما ذكرنا من حمل أمره على الصدق. وأما قوله: والطلاق الذى وقع بالإقرار فى الحد غير قابل للفسخ فلا يؤثر فيه الهزل. فقلنا: إنما لا يؤثر الهزل فيما إذا وقع الطلاق وأما قبل وقوع الطلاق بالإقرار بالطلاق فيمنع الهزلُ الإقرارَ بالطلاق عن وقوع الطلاق به فلا يرد قولك: ((إن الهزل ايؤثر فيما لا يقبل الفسخ والرد)). وقال فى ((المبسوط)) فى تعليل بطلان إقرار المكرَه بالطلاق والعتاق: لأن الإقرار خبر متميلّ بي الصدق والكذب، والإكراه الظاهر دليل على أنه كاذب فيما يَقرّ به قاصد إلى دفع شره عن نفسه والمخَبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقًا. ألا ترى أن فريةَ المفترين وكفر الكافرين لا يصير حقًا بأخبارهم،

وقوله: فلذلك يبطل بالهزل بطلانًا لا يحتمل الإجازة؛ لأن الإجازة تعتمد وجود شيء موقوف سابق عليه وهاهنا الإقرار ما انعقد موجبًا شيئًا، وصار كبيع حر وهو لاينقلب إلى الصحة بالإجازة لأنه لم ينعقد موقوفّا حتى يحتمل الإجازة بخلاف إنشاء البيع والإجارة هازلًا أو مكرَهًا فإنه يبطل في الحال ولكن يحتمل الإجازة؛ لأن الانعقاد مبنى على الصحة التكلم بوجود أهلية المتكلم ومحل البيع والإجازة وهما موجودان فينعقد. (وأما القسم الثالث) وهو أن يدخل الهزل فيما يبتنى على الاعتقاد، (فإن الهزل بالردة كفر لا بما هزل به لكن بعين الهزل) أي الهزل بالردة كفر لا باعتبار حكم ما هزل به بل باعتبار عين الهزل، وهذا لأن الهازل بالشيء غير راض بحكم ذلك الشيء ولكنه راض بمباشرة ذلك الشيء نحو أن يقول هازلاً: الصنم إله مثلاً - نعوذ بالله من ذلك - فإنه يصير كافراً بهذا القول وإن كان هازلاً فيه لا بمعنى ما هزل به وهو اعتقاد الألوهية للصنم، لأنه غير معتقد لذلك ولكنه راض بالتلفظ به فيكفر لا ستخفافه بالدين الحق وأنه كفر قال الله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ" فعلم أن

استخفاف الدين الحق كفر. (فصار مرتدّا بعينه) أي بعين ما تلفظ من لفظ الكفر، (إلا أن أثرهما سواء) أي الكفر الحاصل بعين الهزل والكفر الحاصل بمعنى ما هزل به وهو اعتقاد الصنم إلهًا مًثًلًا سواء؛ لأن كلًا منهما ردة؛ وإنما قال هذا لجواب شبهة ترد على قوله: ((لكن بعين الهزل)) وهى أن يقال: إن الهازل غير راض بموجب هذا الكلام فينبغى أن لا يكفر كما فى المكَره حيث لا يكفَر بتلفّظ ما أُكره عليه من كلمة الكفر. فقال فى جوابها: إنما يكفر بعين الهزل لا بما هزل به؛ لان أثرهما سواء بخلاف المكَره على الردة؛ لأن الإكراه إنما يتحقق على إجراء كلمة الكفر على اللسان وهو غير راض بإجراء كلمة الكفر فلم يكفر لعدم الرضى لا للفظ ولا لموجبه بخلاف الهازل؛ لأنه راض بإجراء هذه الكلمة وإجراء هذه الكلمة بالرضا استخفاف بالدن الحق واسخفافه كفر لما ذكرنا من قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} الآية. ولا يقال إن الهازل لا يعتقد الكفر والكفر والإيمان من باب الاعتقاد فكيف يكفر من غير تبدل الاعتقاد من الإيمان إلى الكفر؛ لأنا نقول: قد تبدل اعتقاده من الإيمان إلى الكفر؛ لأن من الاعتقاد الواجب عليه أن لا يعتقد الاستخفاف بالله ولا يرضى به، ولما كان راضيًا بالتكلم بالكلام الذى يوجب

الكفر قد بدّل اعتقاده من الإيمان إلى الكفر فيكفر. (بخلاف مسألتنا هذه) أي مسألتنا التى هى مسألة الهازل مخالفة لمسألة المكرَه حيث لا يكفر المكرَه بإجراء كلمة الكفر على لسانه ويكفُر الهازل به لما أن المكره غير راض لا بعين إجراء كلمة الكفر ولا بمعناه بخلاف الهازل فإنه راض بعين إجراء كلمة الكفر فيكفر. فأما الكافر إذا هزل بكلمة الإسلام وتبرأ عن دينه هازلًا يجب أن يُحكم بإيمانه؛ فإن المسلم لما كفر بإجراء كلمة الكفر هازلًا وجب أن يُحكم بإسلام الكافر بإجراء كلمة الإسلام على لسانه هازلًا بالطريق الأولى؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى. ألا ترى أن صورة الإكراه المكرَه غير محكوم بكفره إذا أجرى على لسانه كلمة الكفر مكرَهّا ويُحكم بإسلام الكافر إذا أجرى كلمة الإسلاك على لسانه مكرَها باعتبار ما قلنا بان الإسلام يعلو ولايعلى ترجيحًا لجانب الإسلام مهما أمكن لوجود أحد ركنى الإسلام، وهاهنا أولى أن يكون مسلمًا؛ لأن المسلم في ضذّه يكون كافرًا.

السفه

السفه خفة تعتري الفاعل فتبعثه على العمل بخلاف موجب العقل، وأراد بالذي ذكر في معنى السفه السفه المصطلح بين الفقهاء لا السفه الحقيقي. (بخلاف موجب الشرع من وجه) وإنما قال من وجه لأن السفه المفسر بالتبذير وهو الإسراف في التصرف في ماله ليس بعمل مخالف للشرع من كل وجه؛ لأنه تصرف في ملك نفسه والملك عبارة عن المطلق الحاجز، فكان المالك مطلقا تصرفه كيف شاء ولكن فيه صفة التبذير فكان سفيها. (وإن كان أصله مشروعا) أي وإن كان أصل فعل السفه المصطلح بين الفقهاء وهو التبذير في صرفه ماله إلى من يستحق الصرف إليه وإلى من لا يستحق الصرف إليه مشروعًا؛ لأن ذلك يدل على فرط الجود وهو مشروع،

وهو أيضًا تصرف في ماله نفسه كسف شاء وهو مشروع، والإسراف: مجاوزة الحد، وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوساطها. وقيل بالفارسية: اكر احتياط مبالغت كني در وسوسه افتى، ثم إضافة الأموال إلى المخاطبين في (قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ) باعتبار وصله الولاية والقيام والمحافظة للأموال لا الملك، وفي قوله: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)) هذه الإضافة للملك، فإن هذه الأموال مملوكة لليتامى لا للأولياء، إلا إضافة الشيء إلى الشيء تجوز بأدنى وصلة وملابسة بينهما، كما يصح أن يقال لمن يقرب من طرف الخشبة: خذ طرفك وإن لم يكن الطرف ملكا له باعتبار وصلة القرب منه، ومنه قوله تعالى: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) والبيوت للأزواج لكنها كانت في أيدي النساء بالسكني فأضيفت إليهن.

(الخبرة): الامتحان. (حدث ضرب من الرشد) لاستيفاء مدة التجربة وهي مدة خمس وعشرين سنة، فإن هذه المدة مدة استيفاء التجربة وانتهاء آثار الصبا، فإن هذه مدة تصلح لأن يكون الإنسان فيها جدًا فحينئذ يصير فرعه واليًا، فمحال أن يكون هو موصوفًا بأوصاف الصبا ويكون هو محجورًا عليه بعده مع وجود عقله. (إما عقوبة) زجرًا له عن فعله الحرام ومنعًا له عن ذلك، (وإما حكم لا يعقل معناه)؛ لأن منع المال عن مالكه لا يعقل؛ لأن الملك عبارة عن المطلق الحاجر على ما مر فعكس الأمر في حقه وهو أن يحجز المالك عن التصرف في ملكه ويطلق غيره بالتصرف فيه من غير رضا مالكه حكم لا يعقل معناه.

(فيتعلق بعين النص)؛ لأن الحكم الذي هو للعقوبة أو الحكم الذي هو غير معقول المعنى لا يمكن تعديته. وقوله: (فإذا دخله شبهة) يتعلق بقوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ) أي دخله شبهة في بقاء السفه. وقوله: (أو صار الشرط في حكم الوجود) يتعلق بقوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا) أي صار إيناس الرشد المنكر في حكم الوجود (وجب جزاؤه) وهو الدفع؛ لأن ذلك جزاء الشرط وهو قوله تعالى: (فَادْفَعُوا). (واختلفوا في وجوب النظر للسفيه فقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-) لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات بسبب السفه، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي- رحمهم الله- يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ. إلا أن أبا يوسف ومحمدًا- رحمهما الله- قالا: إن الحجر عليه على سبيل النظر له، وقال الشافعي: على سبيل الزجر والعقوبة عليه، ويتبين هذا الخلاف بينهم فيما إذا كان مفسدًا في دينه مصلحًا في ماله كالفاسق، فعند

الشافعي يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريقة العقوبة والزجر، ولهذا يجعل الفاسق أهلًا للولاية وعندهما لا يحجر عليه. كذا في " المبسوط". (بل كان مؤكدًا) أي بل كان الخطاب مؤكدًا ولازمًا بسبب التقصير في حقوق الله تعالى، مجانة وسفهًا لا أن يكون الخطاب ساقطًا عنه؛ لأن الترك موجب العقل، والشرع بعد وجود العقل زيادة تأكيد في لزوم الخطاب لا سقوط الخطاب. ألا ترى إلى قوله عليه السلام: "ويل للجاهل مرة وللعالم سبعين مرة" (وقد يحبس عقوبة) أي في حقوق العباد كما إذا مطل ديون أرباب الديون. (النظر واجب حقًا للمسلمين) أي الحجر للسفيه عن التصرفات واجب حقًا للنظر والمرحمة لأجل المسلمين؛ لأنه ربما يكون للمسلمين على السفيه ديون فلو لم يحجر عن التصرفات يتلف ماله ويضر بالمسلمين الذين هم أرباب

الديون. (وحقًا له دينه) أي النظر واجب للسفيه لأجل دينه الإسلام؛ لأنه لو لم يحجر عسى أن يتلف ماله لنفسه شيئًا ينفقه على نفسه، ثم الحجر عندهما عن التصرفات إنما هو عن التصرفات التي هي قابلة للفسخ كالبيع والإجارة. وأما عن التصرفات التي لا تقبل الفسخ كالطلاق والعتاق فلا يتحجر عنها بالاتفاق؛ لأن السفيه في معنى الهازل فلذلك يؤثر الحجر عليه فيما يؤثر فيه الهزل وما لا فلا. وقوله: (لا لسفهه) جواب عما قال أبو حنيفة- رضي الله عنه- بقوله: " لما كان السفه مكابرة وتركا إلى قوله: لم يحجز أن يكون سببًا للنظر". (وقاساه بمنع المال) أي وقاس أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- حجر السفيه عن التصرفات على منع ماله عنه إذا بلغ سفيهًا. (أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا)، فإن العفو عمن

وجب عليه القصاص حسن، قال الله تعالى: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) وقال تعالى: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ولم يخرجه بكبيرته عن استهال المرحمة في الدنيا، وهذا لأنه وإن كان مرتكبًا للكبيرة فكيمياء الإيمان معه، وخاصية الكيمياء هي ا، تجعل الصفر ذهبًا، فكذلك الإيمان يجعل غيره طاعة، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ). (وأما في الآخرة) فإن الكبيرة سوى الكفر جائز المغفرة، فكان العفو عن صاحب الكبيرة في الآخرة حسنا أيضًا. وقوله (النظر من هذا الوجه جائز لا واجب) جواب عن قولهما. يعني أن ما ذكرتم لا يدل على أن النظر واجب، بل يدل على أنه جائز حسن كما في حق صاحب الكبيرة فلم قلتم أنه واجب؟ ثم قوله: (وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررًا فوقه) جواب لما يرد شبهة على ذلك الجواب الذي أجاب به.

أبو حنيفة- رضي الله عنه- عن قولهما بقوله: "النظر من هذا الوجه جائز لا واجب" بأن يقال: لما دل هذا على الجواز فلم لم تقل أنت في هذا بجواز الحجر على السفيه؟ فقال أبو حنيفة- رحمه الله- في جوابه: وإنما يجوز ويحسن إذا لم يتضمن ضرر الحجر ضررًا يفوق ذلك الضرر على الضرر الذي يلزم عند ترك الحجر وهاهنا كذلك، فإن الحجر يلزم أن يكون كلام الرجل المنطيق ملحقًا في اللغو بالنعيق. وذات الإنسان الصائم القائم مشبهًا بالبهائم في سلب ولايته وبطلان تصرفاته وولاية غيره عليه، وتحمل الضرر الأدنى يجوز أن يكون حسنًا بمقابلة حصول نفع يماثل ذلك الضرر، فصار كأنه لم يتضرر لمعادلة الضرر بالنفع كما في التجارات التي لا ربح فيها ولا خسران لما أن ضرر زوال العين ينجبر بحصول نفع ثمن يعادله في القيمة فصار كأنه لم يتضرر بزوال العين. وأما إذا زال العين عنه بمقابلة حصول نفع لا يماثل عشر قيمته فلا يرضى به عاقل، وروى في قصة معاوية- رضي الله عنه- أنه دخل عليه أعرابي يومًا

فقال لمعاوية: أمك كانت عظيمة الكفل، فحلم معاوية عنه، فقال: لأجل ذلك كان يحبها أبي، فخرج الأعرابي من عنده فرأى ابنه يزيد فقال: كانت جدتك عظيمة الكفل فضربه يزيد بالصيف وقتله، فسمع معاوية ذلك فقال: قتله حلمي فلو أن معاوية أدبه على ذلك لما فعل به يزيد ما فعله، أوردوا هذه القصة في هذا المقام لبيان تحمل ضرر التأديب الذي هو الأدنى من الأعرابي كان حسنا بمقابلة حصول نفع الحياة الذي يفوق على ذلك الضرر، وأما عند غلبة الضرر على النفع فلا. (واللسان والأهلية نعمة أصلية) لما أن الإنسان إنما باين سائر الحيوان بالبيان، قال الله تعالى: [الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] من الله تعالى على الإنسان بعد خلقه وإيجاده بتعليم البيان.

فعلم بهذا أن نعمة بعد الوجود لم تكن تساوي نعمة البيان في حق الإنسان، ففي حجر السفينة عن التصرفات على وجه لا اعتبار لكلامه أصلا كان فيه تفويت لأعلى النعم كلها فلا يكون ذلك من النظر له بل هو أقوى الإضرار به، فكان تدبير النظر له بهذا الطريق عائدًا على موضوعه بالنقض. (فيبطل القياس)؛ لأن من شرط صحة القياس أن يكون الفرع نظيرا للأصل (لإبطال أعلى النعمتين) وهو نعمة اللسان (باعتبار أدناهما) وهو نعمة اليد فهو لا يصح. كما إذا أكره على شرب الخمر بالقتل يلزم عليه شرب الخمر لأن في شرب الخمر إزالة جزئه وهو العقل وفي الامتناع عنه إزالة كله بالقتل وهو النفس فلا يباح اختيار إزالة النفس باعتبار إبقاء جزئها. (وقال: بهذه الأمور صارت حقا للعبد رفقا به) أي صحة العبارة واليد واللسان تثبت رفقا يصاحبها، (فإذا أدى إلى الضرر وجب الرد) لئلا يصير الرفق عائدا على موضوعه بالنقض؛ لأن هذه النعم تثبت لنفع صاحبها فإّذا صار اعتبارها ضررا لا يبقى الانتفاع بهذه النعم، فالعقل نعمة عظيمة فإذا لم يتأمل صاحب العقل بعقله في آيات الله تعالى حتى استحق به العقاب صار وجود العقل ضررا له. ألا ترى أن المجنون لا يعاقب باعتبار عدم العقل والعاقل يعاقب باعتبار

وجود العقل عند ترك التأمل، فكذلك نفع البصر والسمع، فإن البصير والسميع لما لم بهما كان وجودهما أضر من عدمهما، فلذلك كان الكفار أضل من الأنعام، قال الله تعالى: [أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ] (وهذا قياس ما روى عن أبي يوسف- رحمه الله) أي حجر السفينة عن التصرف في ملكه لدفع المسلمين نظير ما روى عن أبي يوسف في أن صاحب الملك يمنع عن التصرف في ملكه لتأذي جاره. وذكر في "التتمة" وعن أبي يوسف- رحمه الله- من اتخذ داره حماما فتأذى الجيران من دخانه فلعم منعه إلا أن يكون دخان الحمام مثل دخان الجيران. (وإنما يجب أن ينظر إلى ما فيه نظر له أبدًا فلا يلحق بالصبي) إلى أخره. يعني لما كان حجر السفيه عندهما لأجل النظر له لدينه أو للمسلمين يجب علينا أن ننظر في أي موضع من المواضع المجمع عليها من مسائل الصبي

والمريض والمكره يتحقق النظر له عند إلحاقه به يلحق به، فلا يقتصر بالإلحاق بالصبي لا غير ولا بالمريض لا غير ولا بالمكره لا غير بل في أي موضع يتيسر النظر له فيلحق هو ربه. وذكر بيان إلحاق المحجور علي بسبب السفه بهذه المواضع من المسائل في حجر"المبسوط". أما إلحاقه بالمريض فهو أن السفيه البالغ المحجور عليه إذا تزوج امرأة جاز نكاحه وينظر إلى ما تزوجها عليه وإلى مهر مثلها فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها أو ما سمي، وهو في ذلك كالمريض المديون فإن التزوج من حوائجه، وكذلك لو جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد له، فإن مات كانت حرة لا سبيل عليها لأحد؛ لأن توفير النظر في إلحاقه بالرشيد في حكم الاستيلاء فإنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه. ويلحق في هذا الحكم أيضا بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته. وأما إلحاقه بالمكره فهو أن المحجور عليه بسبب السفه إذا اشترى ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه، ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه؛ ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه؛ لأنه الملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع.

وأما إلحاقه بالصبي ففي هذه الصورة أنه ليس للبائع في مال المشتري شيء من ذلك؛ لأنه وإن ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه، وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي، وإذا لم يجب على المحجور شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع، وهذا الذي ذكرته هو ما أحال به على "المبسوط" في قوله (على ما هو مذكور في "المبسوط"). وقوله: (عندهما) ظرف لقوله: "أنواع" أي تنويع الحجر على هذه الأنواع الثلاثة إنما هو عندهما لا عند أبي حنيفة- رحمه الله- فإن عنده لا حجر أصلا على الحر العاقل البالغ فلا يتأتي التنويع. وذكر في حجر "المبسوط" قال أبو حنيفة- رضي الله عنه- الحجر على الحر باطل. ومراد إذا بلغ عاقلا، وحكي عنه أنه كان يقول: لا يجوز الحجر إلا على ثلاثة: على المفتي الماجن، وعلى المتطبب الجاهل، وعلى المكاري المفلس لما فيع من الضرر إذا لم يحجر عليهم. فالمفتي الماجن يفسد على الناس دينهم، والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم، والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيمنعون من ذلك دفعا للضرر. ثم الاختلاف بين العلماء وراء هذا في فصلين؛ أحدهما: الحجر على السفيه المبذر والأخر الحجر على المديون بسبب الدين- وذكر تفسير الحجر

على السفيه بأحكامه إلى أن قال- ثم بلغ سفيها عند محمد- رحمه الله- يكون محجورا عليه بدون حجر القاضي. وقال أبو يوسف- رحمه الله- لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي، وكذلك لو بلغ رشيدًا ثم صار سفيها فمحمد- رحمه الله- يقول: قد قامت بدلالة لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والحجر يثبت بنفسهما هناك من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك السفه، وأبو يوسف- رحمه الله- يقول الحجر على السفيه لمعنى النظر له، وهو متردد بين النظر والضرر، ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي. ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين، ثم قال: والكلام في الحجر بسبب الدين في موضعين: أحدهما- أن من ركبته الديون إذا خيف أن يلجئ ماله بطريق الإقرار فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه عند أبي حنيفة- رضي الله عنه- لا يحجر عليه القاضي وعندهما يحجر عليه، وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وينفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين. فإذا جاز عندهما الحجر عليه بطريق النظر له فكذلك يحجر عليه لأجل النظر للمسلمين، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- كما لا يحجر على المديون

نظرًا له فكذلك لا يحجر عليه نظرا للغرماء لما في الحيلولة بينه وبين التصرف في ماله من الضرر عليه. وإنما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه إلحاق الضرر إلا بقدر ما ورد الشر عبه وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه، وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق، ثم الضرر في إهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى. ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي، ومحمد- رحمه الله- يفرق بين هذا وبين الأول فيقول: الحجر هنا لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم، وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي والحجر على السفيه لأجل النظر له- وكونه سفيها لا يتوقف على طلب أحد فيثبت حكمه بدون القضاء لذلك-. والفصل الثاني- أنه لا يباع على المديون ماله في قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- العروض والعقار في ذلك سواء، وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- يبيع عليه ماله فيقضي دينه إلى أخره. (حجر بسبب السفه مطلقا) أي سواء سفه بعد أن بلغ رشيدًا أو بلغ سفيهاً.

(لكنه بمنزلة العضل) من الأولياء معناه أن للولي أن يمنع الحرة العاقلة البالغة من التزوج ليحصل التزوج برأي الولي، ولئلا تقع المرأة تحت غير كفء، ولئلا تنسب إلى الوقاحة بمباشرة النكاح بنفسها بدون رأي الولي، فلهذا ملك الأولياء عضلهن ندبًا لا حتمًا عند أبي حنيفة- رضي الله عنه-، وعند محمد- رحمه الله- حتما، وكذلك عند أبي يوسف- رحمه الله- في رواية عنه حتى يتوقف نكاحها بدون الولي إلى إجازة الولي. ووجه الاتصال بمسألة السفيه أن شرعية العضل إنما كانت نظرًا للأولياء وللمرأة لا أنها تصير موليًا عليها في الحقيقة، فكذلك الحجر ثبت في حق السفيه نظرًا له؛ لا أن السفه يوجب النظر في الحقيقة، وقيل لقوله: "بمنزلة العضل" معنى أخر وهو أن المديون في امتناعه عن أداء الديون بمنزلة عضل

الولي وهو امتناع الولي عن تزويج وليته عند مخاطبة الكفء الخاطب، فإن القاضي يقوم مقامه ويزوج وليته وينحجر الولي عن العضل، وهذا قول قيل فيه، لكن لفظ الكتاب لا يساعده؛ لأنه لو كان معناه هذا لقيل لكنه بمنزلة عضل الأولياء، ولكنه لما قال: بمنزلة العضل من الأولياء، علم أن المعنى هو الأول، ولأن في تعليل "الأسرار" إشارة إلى المعنى الأول. وحاصل ذلك أن من امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما لا تجري فيه النيابة ناب القاضي في منابه. كالذمي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي عليه لهذا، والعنين بعد مضي المدة إذا أبي أن بفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما.

["السفر"] (لكنه من أسباب التخفيف بنفسه مطلقا) أي سواء كان فيه المشقة أو لم تكن، حتى إن السلطان إذا تنزه من بستان إلى بستان في سفره فإنه يترخص برخص المسافرين باعتبار وجود نفس السفر من غير توقف إلى وجود نفس المشقة، أي من غير توقف إلى وجود المشقة القوية إذ هو عبارة عن الخروج المديد فكان فيه تحرك ممتد، ونفس التحرك أشق على النفس من السكون في مكانه واحد خصوصًا ما إذا كان ممتدًا، فلذلك قال في الكتاب (لأنه من أسباب المشقة لا محالة).

وقوله: (لأنه متنوع على ما قلنا) أي في باب تقسيم المأمور به بقوله: "وأما المريض فالصحيح عندنا فيه أن يقع صومه بكل حال عن الفرض" إلى أخره. (ولنا على ما قلنا دليلا ظاهران ودليلان خفيان) وإنما سمي الأولين من الدليل ظاهرين؛ لأن أحدهما (حديثة عائشة- رضي الله عنها-) وهو نص ظاهر. والثاني قياس على النوافل بدليل ظاهر.

وسمى الآخرين من الدليل خفين لدقتهما في نفسهما لا يدركان إلا بزيادة التأمل، وهذا لأن ما ثبت بطريقة الرخصة لا يبطل الحكم المشروع بطريقة العزيمة كما في صوم المسافر على ما ذكره الشافعي وهو الظاهر، ثم مع ذلك كان القول ببطلان حكم العزيمة قولا مخالفا للدليل الظاهر فكان خفيا، وكذلك القول بنفس المشيئة المطلقة والاختيار الكامل للعباد مع أن الله تعالى خلقهم مختارين وشائين، إذ بدون الاختيار يلزم الجبر والجبر باطل كان قولًا مخالفًا للدليل الظاهر فكان خفيًا. (وحق الصلاة علينا حق لا يتحمل التمليك) فكان إسقاطًا محضًا فكان من قبيل الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص لا من قبيل الإبراء وتمليك

الأمر باليد ولله تعالى الاختيار المطلق، قال الله تعالى: [وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ]، مدح ذاته بالمشيئة المطلقة فلا يكون ذلك لغيره ثابتًا لو ثبت له الاختيار بين القصر والإكمال لكان ذلك اختيارا في وضع الشرع، ولا يرد علة هذا كون العبد مختارا في الأقل والأكثر من التطوعات كما في صلاة الضحى فإنه مخير بين أن يصليها ركعتين وبين أن يصليها أربعا أو أكثر، ولم يقل فيه أحد بأنه لا يجوز؛ لأن ذلك يؤدي إلى الاختيار في وضع الشرع. قلنا: إن ذلك في التطوعات وما نحن بصدده في الفرائض، فإن الاختيار في أصل التطوعات ثابت، فإن كل إنسان مختار في أن يفعلها وأن لا يفعلها، فأولى أن يثبت الاختيار في قدرها ولا يرد أيضا على هذا قول تعالى: [اعْمَلُوا مَا شيءتُمْ] لأن تلك المشيئة ليست على حقيقتها التي توجب الإطلاق. وكذلك الأمر بالعمل بها ليس على حقيقته؛ لأن المشيئة الصادرة من الشارع إذا كانت على حقيقتها كانت عبارة عن الإذن والإباحة بفعل ما يشاء وكذلك الأمر إذا كان على حقيقته كان أول درجاته الإباحة، وليس في فعل

الكفر والمعاصي الإباحة، بل هو أمر تهديد وتوبيخ فكان ذلك من قبيل قوله تعالى: [فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ] وقد ذكرناه. (وكذلك المكاتب في جناياته) فإن المكاتب إذا جني موجبة للمال كانت جنايته عليه يجب الأقل من قيمته ومن الأرش، هكذا ذكر في "فتاوى قاضي خان". (ولا رفق في اختيار الكثير على القليل) بل الرفق متعين في اختيار القليل، (والجنس واحد) أي من حيث المال.

(فما الثواب إلا في حسن الطاعة لا في الطول والقصر) قال النبي عليه السلام: "ركعتان من متق خير من ألف ركعة من مخلط" فرب درهم يكون له ثواب عشرة ورب درهم يكون له ثواب سبعمائة ويكون ضعفه أيضًا. فعلم أن الثواب في حسن الطاعة لا يصلح بناؤه على حكم الآخرة وهو الثواب. (وإنما ثبت هذا الحكم) أي حكم الرخصة (إذا اتصل بسبب الوجوب)

وهو وقت الأداء (وإذا لم يتصل به فلا) أي وإذا لم يتصل السفر بوجوب الأداء فلا يثبت هذا الحكم وهو سقوط الركعتين في قضائه. (ولما كان السفر من الأمور المختارة) احترز بهذا القيد عن المرض فإنه ليس من الأمور المختارة، فلذلك تفاوتا في الحكم، (ولم يكن موجبا ضرورة لازمة) يعني أن السفر موجب لكن يتعلق باختياره فلم يكن موجبا على وجه لا يمكن دفعه؛ لأن في وسعه الامتناع عن السفر فيكون في وسعه الامتناع عن حكمه بواسطة الامتناع عن سببه فلم يكن حكمه من الأمور اللازمة بهذا الطريق، وظهر أثر هذا الفرق في الأحكام المذكورة التي بنيت عليهما أي على السفر والمرض. (بخلاف المريض إذا تكلف) إلى قوله (لأنه سبب ضروري) يعني أن المرض سبب ضروري على وجه لا يمكن دفعه لكونه سماويا فكان ضرورة لازمة وأثره يظهر فيما ذكر من الفروع. (وهذا موضوع لها) أي السفر موضوع للمشقة لكن العبد فيه مختار.

(وأحكام السفر تثبت بنفس الخروج بالسنة المشهورة) وهي ما ذكر في ((المصابيح)) قال أنس -رضي الله عنه- ((إن النبي -صل الله عليه وسلم- صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفه ركعتين)) والقياس أن لا يثبت إلا بعد تمام السفر؛ لأن العلة إنما تتم حينئذ، وحكم العلة لا يثبت قبلها، لكن ترك القياس لما روينا. ولتحقيق الرخصة في كل فرد من أفراد المسافرين؛ لأنه لو توقف حكم علة السفر إلى تمام العلة وهو سير ثلاثة أيام لتخلفت الرخصة في حق بعض

المسافرين وهو ما إذا قصد المسافر إلى مسيرة ثلاثة أيام فلا يترخص هو حينئذ لا قبل ثلاثة أيام ولا بعدها وهو مسافر من حيث خرج بالحديث؛ لأن الشارع أثبت رخصة السفر لجنس المسافرين بقوله: ((يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها)). (ألا ترى أنه إذا نوى رفضه) أي رفض السفر (صار مقيما) يعني فيما إذا لم تتم ثلاثة أيام (وإن كان في غير موضع الإقامة) بأن كان في المفازة (لأن هذا ابتداء إيجاب) أي إيجاب إقامة. ((فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ)) قيل: أريد بالباغي الخارج على الإمام، وبالعادي الذي يقطع الطريق على المسلمين، وبهذا التأويل تمسك الشافعي، ويحتمل أن يكون المراد من الباغي الذي يطلب ادخار الميتة بعد ما وجدها

وبالعادي أن يأكل الشبع، وهذا التأويل بهذا الموضع أليق على ما يجيء بعيد هذا. فصار النهي عن هذه الجملة نهيا لمعنى في غير المنهي عنه، أي النهي عن سفر في إباق عن المولى والنهي عن سفر فيه قطع لطريق المسلمين، والنهي عن سفر فيه خروج على الإمام من الباغي نهي عن السفر لمعنى في الإباق ولمعنى في قطع الطريق ولمعنى في الخروج على الإمام لا لمعنى في عين السفر.

(وبذلك لا يمتنع تحقق الفعل) وهو السفر مشروعا. (لأن صفة الحل في السفر دون صفة القربة في المشروع) يعني أن المشروع مقصود، والسبب وسيلة، والقربة أقوى في المشروعية من نفس الحل لزيادة وصف محمود فيها وهو القربة في المشروع، ثم زوال صفة القربة عن المشروع لا يمنعه من تحققه مشروعا كالإحرام الفاسد والصلاة في الأرض المغصوبة, فلأن لا يمنع زوال صفة الحل عن السبب من تحققه سببا أولى، فكان سفر المعصية سببا لثبوت الرخصة. وهذا لأن المشروع يبقى مشروعا وإن كان منهيا لمعنى في غيره، فكذلك السبب يصلح أن يكون سببا إذا كان النهي لمعنى في غيره كالصلاة في الأرض المغصوبة فكذلك هاهنا سفر الآبق والباغي غير منهي لمعنى في نفسه من حيث

إنه خروج مديد بل هو مباح في نفسه وإنما صار منهيا لمعنى في غيره مجاور له وهو التمرد على المولى والخروج على الإمام والإضرار بالمسلمين بقطع الطريق، وذلك معنى منفصل عن السفر فلا يخرج هذا السفر عن كونه سببا لثبوت الرخصة. ألا ترى أن العبد المتمرد على المولى في البلد يتمكن من المسح على الخف مسح الإقامة فيجب أن يكون متمكنا في السفر وإن كان متمردا على مولاه من مسح السفر. وأما قوله تعالى: ((فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ)) قيل أريد به ما تمسك به الشافعي -رحمه الله- وهو أنه أريد بالباغي الخارج على الإمام، وبالعادي الذي يقطع الطريق على المسلمين. وقيل أيضا: أريد بالباغي الذي يطلب ادخار الميتة بعدما وجدها، وبالعادي أن يأكل إلى الشبع ولا يكتفي بما يسد به جوعه، وهذا التأويل أليق بهذا الموضع؛ لأن الآية وردت في أكل الميتة وغيرها والعدوان في الأكل ما قلنا، فكان هو أدل ما هو على المراد من الآية، ولأن صيغة قوله: ((ولا عاد)) تنبئ عن التعدي في عين ذلك الفعل، وهو ما قاله في الكتاب (بأن يتغذى المضطر على غيره).

وأما السفر على وجه الإباق عن المولى ليس بتعد في عين ذلك الفعل فإن التمرد ينفصل عن السفر وجودا وعدما على ما ذكر في الكتاب؛ حيث يوجد السفر ولا تمرد فيه، بل فيه طاعة وقربة لخروجه إلى الغزو، ويوجد التمرد بلا وجود السفر وهو أن يتمرد العبد على مولاه في البلد. فعلم بهذا أن النهي عن سفر الإباق ليس بنهي في عين السفر بل لغيره وهو الإباق، فلا ينافي مشروعية السفر كالبيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة، ولما كان نفس السفر مشروعا يترخص العبد الآبق وقاطع الطريق في سفرهما برخص المسافرين كما يترخص من يسافر للتجارة، وأحكام السفر أكثر من أن تحصى وهي معروفة.

الخطأ

الفصل السادس: وهو الخطأ وقوله: (وشبهة) -بالنصب- معطوف على قوله: (عذرا). (إن الخاطئ لا يأثم) إثم القتل العمد، وأما هو في نفسه فلا يخلو عن ضرب تقصير حتى احتاج المخطئ فيه إلى التكفير، (ولا يؤاخذ بحد) أي لو وجد ما يوجب الحد من الزنا وغيره بطريق الخطأ لا يجب عليه الحد حتى إنه لو زفت إليه غير امرأته وقال النساء: إنها زوجتك فوطئها لا حد عليه، فإن هذا زنا حقيقة ولكن وجد ذلك منه خطأ فلم يوجب الحد وإنما وقع فيه بسبب إخبار النساء بأنها امرأته في موضع الاشتباه فكان ذلك عذرا له في دفع الحد، وكذلك لو شرب الخمر على ظن أنه ماء، كما لو رمى على إنسان سهماً على

ظن أنه صيد فإنه يسقط القصاص هناك، فكذا الشرب هنا يسقط الحد؛ (لأنه جزاء كامل) أي الحد والقصاص. (لأنه ضمان مال لا جزاء فعل) يعني أن ضمان استهلاك مال الغير ضمان لجبر نقصان مال الغير، لا أن يكون مجازاة لفعله بخلاف الحد والقصاص فإنهما جزاء الفعل الذي هو حرام وتعد. ألا ترى أنه لو اجتمع عشرة في إتلاف مال إنسان فأتلفوا عليه يجب عليهم ضمان واحد، فلو كان جزاء فعل لوجب على كل واحد منهم جزاء كامل، كما لو اجتمع المجرمون في قتل صيد واحد أو اجتمعوا في قتل موجب للقصاص. (صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة) أي صلح الخطأ سببا للتخفيف فيما هو صلة بسبب الفعل الخطأ, أو معناه صلح سببا للتخفيف في موجب الفعل القاصر إذا كان ذلك الموجب صلة لا يقابل مالا, ومن أثر

تخفيفه أن الدية تجب على العاقلة في ثلاث سنين. وحاصله أن جزاء قتل الخطأ يشبه بجزاء الفعل من وجه ولضمان المحل من وجه، فلشبهه لجزاء الفعل يجب الكفارة، ولشبهه بضمان المحل تجب الدية، لكن لما كان وجوب الدية في مقابلة ما ليس بمال سوهل فيه بالوجوب على العاقلة في ثلاث سنين فكان جزاء قتل الخطأ من هذا الطريق مشابها بقتل المحرم صيدا مملوكا للغير؛ حيث يجب عليه الجزاء والقيمة مع ذلك، فالجزاء باعتبار جزاء الفعل والقيمة باعتبار ضمان المحل. (ولقام البلوغ مقام الرضى أيضا فيما يعتمد الرضى) أي فيما يقتضي الرضى وهو البيع، فحينئذ ينبغي أن يصح بيع المكره البالغ بلا فساد وليس كذلك، وكذلك بيع المخطئ والهازل. (أن الشيء إنما يقوم مقام غيره إذا صلح دليلا وكان في الوقوف على الأصل حرج) كالنوم للحدث والسفر للمشقة فإن النائم لا يمكنه الوقوف على خروج الريح منه. (وليس في أصل العمل بالعقل حرج في دركه) أي في درك أصل العمل أي ليس لأحد حرج في أن يدرك أن أصل عمله بالعقل، (ولا حرج في

معرفته) أي في معرفة أن النوم ينافي أن يكون أصل العمل بالعقل. (فلم يقم البلوغ مقامه) أي فلم يقم البلوغ في حق النائم مقام أصل العمل بالعقل. (والرضى عبارة عن امتلاء الاختيار حتى يفضي إلى الظاهر). ألا ترى أن من كان راضيا يرى في وجهه وعينيه بشاشة وسرور. (ولهذا كان الرضى والغضب من المتشابه) أي ولأجل أن الرضا عبارة عن امتلاء الاختيار حتى يفضي إلى الظاهر، والغضب عبارة عن غليان دم القلب على وجه يظهر أثره في حماليق العينين، وهذان الوصفان لا يستقيم إثباتهما في حق الله تعالى على الحقيقة، ثم ورودهما مع ذلك في حق الله تعالى بقوله: ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ))، وقوله تعالى: ((مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ)) من المتشابه.

(فلم يجز إقامة غيره مقامه) أي لم تجز إقامة غير الرضى وهو البلوغ مقام الرضى؛ لأن البلوغ لا يصلح دليلا على الرضا. وقوله: (لما كان الخطأ لا يخلو) إلى آخره، ابتداء نكتة يفرق بها بين الخاطئ والناسي في حق عدم بقاء الصوم في حق الخاطئ وبقائه في حق الناسي لما أن الخاطئ غير مستحق لكرامة بقاء الصوم لوجود ضرب تقصير منه وهو ترك التأني في سبق الماء إلى حلقه عند المضمضة مع تذكر صومه. (ألا تراه صالحا للجزاء) هذا إيضاح لقوله: ((الخطأ لا يخلو عن ضرب تقصير)) أي ألا ترى أن الخطأ يصلح أن يكون سببا للجزاء القاصر وهو الكفارة. (استوجب بقاء الصوم من غير أداء) أي من غير أداء الصوم حقيقة؛ لأنه وجد الأكل حقيقة وبوجود الأكل الحقيقي في النهار لا يتصور أداء الصوم

حقيقة، ومع ذلك جعله الشارع أداء فكان ذلك كرامة للناسي. (وجعل المناقض) وهو الأكل (عدما في حقه) أي في حق الناسي، وإلى تحقيق الكرامة أشار النبي عليه السلام في قوله: ((إنما أطعمك الله وسقاك)) فقطع فعل التقصير منه وأضاف الإطعام إلى الله تعالى وهو إكرام منه. (لوجود الاختيار وضعا) لأن هذا فعل وجد من الآدمي المختار لا على طريق النسيان فكان جريان لفظ البيع في لسانه ليس كجريان الماء وطول الثبات؛ لأنهما ليسا من ذي اختيار ولكن انعدم به الرضى فكان بمنزلة بيع المكره، وله اختيار في إجراء كلمة البيع على لسانه؛ لأنه علم الشرين فاختار أهونهما عليه وليس له رضى بثبوت موجب البيع بذلك اللفظ.

فصل الإكراه

وأما الفصل الآخر فهو: فصل الإكراه (ألا ترى أنه يتردد بين فرض وحظر) إلى آخره، فالفرض: فيما إذا أكره بأكل الميتة وشرب الخمر بالقتل فإنه يفترض عليه الإقدام على الأكل والشرب حتى لو صبر فقتل كان آثما كما في ترك الفرض باختياره. والحظر: فيما إذا أكره على قتل الغير أو على الزنا بالقتل فالإقدام على القتل والزنا محظور فيأثم بفعلهما، والإباحة: فيما إذا أكره على الإفطار في صوم رمضان بالقتل فإنه يباح له الفطر؛ لأن الإفطار في نهار رمضان يباح

فى الجملة بعذر، وهذا أقوى الأعذار؛ إذ فيه هلاك النفس على تقدير ترك الإفطار. والرخصة: فيما إذا أكره على إجراء كلمة الكفر على اللسان إذ هو يستحيل اتصافه بالإباحة لكن يرخص له الإقدام على ذلك عند طمأنينة القلب بالإيمان، (فيأثم مرة) كما إذا صبر عن أكل الميتة وشرب الخمر حتى قتل يكون آثما. (ويؤجر أخرى) كما إذا صبر عن إجراء كلمة الكفر على اللسان فقتل كان مأجورا. (لأنه لو سقط) أي الاختيار (لبطل) أي (الإكراه)؛ لأن الإكراه إنما يتحقق في حق فعل هو في إمكان المكره تحصيله فكان فيه مختارا، وأما في حق فعل ليس هو في إمكانه تحصيله فلا يتحقق الإكراه لانعدام الاختيار كما إذا أكره القصير بأن يكون طويلا أو على العكس يبطل حكم الإكراه لسقوط الاختيار. (ألا ترى أنه حمل على الاختيار) أي أجبر المكره على أن يختار ما هو الأهون من الأمرين المكروهين وكل منهما في وسعه ولكن هو شيء شاق عليه. (وقد وافق الحامل فكيف لا يكون مختارا؟) فإن الموافقة لأمر الأمراء

دليل الاختيار حيث علم المكروهين عليه فاختار أهونهما عليه، ولو لم يكن مختارا لما قيل إنه وافق أمر الأمراء. ألا ترى أنه لو قال للماء الجاري: أجر فجرى لا يقال: بأن الماء وافق أمره؛ لأنه لا معرفة للماء بأمر الآمر ولا خبرة له بالشر ولا بأهونه. (إلا بدليل غيره على مثال فعل الطائع) أراد به أن لفعل الطائع موجبا أصليا، وإذا قارنه دليل مغير عن موجبه الأصلي غيره عنه فكذلك في حق المكره لأقواله وأفعاله موجب أصلي، فإذا قارنها ما يغيرها عن موجبها الأصلي غيرها عنه، فإن موجب إجراء كلمة الكفر على اللسان الكفر ولما أجرى المكره تلك الكلمة الشنعاء على لسانه بالإكراه لم يثبت موجبها الذي هو الكفر لقران دليل غيرها عن موجبها الأصلي بها وهو الإكراه. كما يغير الدليل المغير إذا قارن قول الطائع في مسألة الشرط والاستثناء في قوله لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، وإقراره بغيره بقوله: لك علي ألف درهم إلا مائة. وكذلك في الأفعال؛ فإن موجب شرب الخمر وموجب الزنا الحد فإذا فعلهما بالإكراه بالقتل لم يثبت موجبها الذي هو الحد لقرن الدليل الذي غيره عن موجبه كما يثبت ذلك التغير في حق فعل الطائع عند قران الدليل المغير بفعله، وهو ما إذا شرب الخمر أو زنا -والعياذ بالله- في دار الحرب لا يجب الحد لقران المغير ذلك الفعل عن موجبه وهو وجود فعل طائع فيهما في دار الحرب. (وإنما أثر الكره إذا تكامل في تبديل النسبة) المراد من تكامل الإكراه

هو أن يكون ملجئاً بأن يكرهه على أمر لو لم يفعله يقتله أو يقطع عضوه أو نحو ذلك، والمراد من تبديل النسبة أن يكون فعل المكره المحمول حسا أن يكون فعل المكره الحامل حكما حتى يجب القصاص في القتل على المكره الحامل لا على المكره المحمول, وهذا الذي ذكره من تبديل النسبة إنما يتحقق في الفعل الذي يحتمل تبديل النسبة كما في الإتلاف على ما يجيء بيانه. (وأثره إذا قصر في تفويت الرضا) أي لا في تبديل النسبة، والمراد من الإكراه القاصر هو أن يكون الإكراه بالحبس أو القيد، وتفويت الرضى وإن كان عاما في الإكراه الكامل والقاصر، لكن لما لم يكن للقاصر أثر غيره صار كأنه هو المخصوص به. (فأما في الإهدار فلا) أي ليس للإكراه أثر في إهدار القول والفعل، وقوله: (خلافا للشافعي) راجع إلى نفي الإهدار عندنا وإلى إثبات الفرق بين الإكراه الكامل والقاصر، فإن إهدار القول والفعل بالإكراه الباطل ثابت عند الشافعي على السواء من غير فرق بينهما حتى لا يقع طلاق المكره ولا إعتاقه، ولا يفسد صومه بالأكل بالإكراه لبطلان قول المكره وفعله، وكذلك عنده لا فرق بين الإكراه الكامل والقاصر بل القاصر مثل الكامل.

(فيبطل عند عدمه) أي فيبطل القول عند عدم القصد والاختيار، فصار كأن القول لم يكن فلا يقع بمثل هذا القول الطلاق والعتاق، وإنما قلنا إن القول يبطل عند عدم القصد والاختيار لقوله تعالى: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) أخبر الله تعالى بأنهم كاذبون مع أنهم شهدوا برسالة محمد عليه الصلاة والسلام لما خالف لسانهم ضميرهم فبطل صحة القول بعدم القصد والاختيار. ألا ترى أن قول الصبي الذي هو غير عاقل لا يصح لعدم قصده، وكذلك قول النائم باطل لعدم قصده. (وتحقيق العصمة في دفع الضرر عنه عند عدم الرضا) يعني أن ماله معصوم لأنه ليس بكافر حربي بل هو مسلم أو ذمي لأن كلامنا فيه، فتحقيق عصمته في أن لا يفوت عن ملكه إلا برضاه دفعا للضرر عنه فتحققت العصمة فوجب أن يبقى على ملكه عند عدم الرضى.

(وتمامه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل) أي شرعا كما إذا أكره على إتلاف مال الغير وعلى شرب الخمر فإن أمكن أن ينسب إلى المكره نسب إليه كما في إتلاف مال الغير، فيجعل كأن المكره هو الذي أتلفه بنفسه حتى وجب الضمان عليه بالاتفاق؛ لأنه يمكن أن ينسب إليه الإتلاف ويجعل المكره آلة له بأن يأخذ المكره رجل المكره فيلقيه على مال إنسان فيتلفه، ففي الإكراه على إتلاف مال الغير يجعل كأنه فعل كذلك فيجب الضمان على المكره لذلك. (وإلا فيبطل حكمه) أي وإن لم يمكن أن ينسب ذلك الفعل الذي حصل من المكره إلى المكره بطل حكم ذلك الفعل أي يجعل كأنه لم يوجد ذلك الفعل لا من المكره ولا من المكره كما في شرب الخمر بالإكراه، حيث لا يجب حد الشرب لا على المكره ولا على المكره، وكذلك لو أكره الصائم الصائم في نهار رمضان على الأكل والشرب فأكل المكره أو شرب لا يفسد صوم المكره الآكل ولا صوم المكره الآمر؛ لأن فعل الأكل والشرب من الأفعال التي لا يمكن أن ينسب إلى المكره الآمر؛ لأن الإنسان لا يمكن له أن يأكل أو يشرب بفم غيره، فلذلك جعل كأن الأكل والشرب لم يوجدا أصلا فلا يجب حد الشرب

والأكل على أحد، ولا يفسد صوم أحد على أصله، (وقال في الإكراه على الزنا: إنه يجب الحد على الفاعل) لأن هذا من قبيل الإكراه غير التام؛ لأن الزنا لا يباح بالإكراه بالاتفاق، فلما لم يتم الإكراه على أصله صار كأن الإكراه لم يوجد، ووجد الزنا من الزاني من غير إكراه فيجب الحد عليه لذلك. (وكذلك قال في المكره على القتل: إنه يقتل) أي إذا قتل لما قلنا إشارة إلى قوله: ((لأنه لم يحل له الفعل)). (وأما المكره فإنما يقتل بالتسبيب) جواب لإشكال وهو أن يقال: لما بقى القتل مضافا إلى المكره حتى وجب القصاص عليه ولم يوجد القتل من الآمر حقيقة فلم وجب القصاص عليه أيضا؟

فقال: إنما يقتل الآمر لوجود تسبيب القتل منه والمسبب عنده بمنزلة المباشر في استحقاق القصاص عليه كشهود القصاص إذا رجعوا. (وقال في الإكراه على الإسلام: إن المكره إذا كان ذميا) وذكر في ((المبسوط)) (أو مستأمنا)، وقوله: (لأن إكراه الذمي باطل) قال العبد الضعيف عبد الله -غفر الله له- فيعلم بهذا أن عدم تمام الإكراه غير منحصر على عدم إباحة الفعل على المكره بل عليه، وعلى عدم إباحة فعل الإكراه على المكره الآمر، وهذا لأن الذمي لو أسلم عند الإكراه عليه كان الإسلام مباحا له بل يقع فرضا، وما ذكره قبل هذا بقوله: ((وتمامه بأن يجعل عذرا يبيح الفعل)) معناه يبيح الفعل على المكره المأمور أو يبيح فعل الإكراه على المكره الآمر بالإكراه. (وكذلك المولي) هو اسم فاعل من الإيلاء. (وذلك بعد المدة عنده) لأن الطلاق لا يقع عند الشافعي -رحمه الله-

بعد انقضاء مدة الإيلاء، بل يتوقف إلى التفريق فإذا لم يفرق فالقاضي يجبره ويكون الإجبار حقا، فلذلك وقع الطلاق لكون التفريق مستحقا على المولى بعد انقضاء المدة فكان الإكراه حقا عليه كإكراه المديون على بيع ماله عند المماطلة، فأن بيع صحيح وإن كان بإكراه لكون الإكراه على البيع حقا. (فكان دون الهزل وشرط الخيار والخطأ) أي للإكراه دون هذه الأشياء في إفادة الحكم فكانت هذه الأشياء أقوى في إثبات الحكم من الإكراه؛ لأن الرضى بالسبب موجود في الهزل وشرط الخيار والبلوغ قائم مقام الحفظ مع اعتدال العقل في الخطأ، فكان الرضا والاختيار موجودا، والإكراه فيما يتعلق بالرضى دون هذه الأشياء، فلذلك كان أبعد في إفادة الحكم من الهزل وأختيه، وفيما يتعلق بالاختيار دون الرضا كالطلاق فوق الهزل لوجود الاختيار والحكم جميعا، وإن كان فاسدا، وفي الهزل وشرط الخيار الاختيار للحكم معدوم. (فإذا عارضه اختيار صحيح) وهو اختيار المكره.

(وفيما لا يحتمله لا يستقيم نسبته إلى المكره) وهو الأقوال كلها، ومن الأفعال الأكل والوطء. (لأنه صالح) أي لأن الاختيار الفاسد صالح لنسبة الحكم إليه. (ألا ترى أن هذا القدر صالح للخطاب) حتى قيل: إن المكره متردد بين فرض وحظر وإباحة ورخصة إلى آخر ما ذكرنا قبل هذا. (منقسمة إلى هذين القسمين) أي فيما يصلح آلة للمكره وفيما لا يصلح آلة له: أحدهما: مثل (الأقوال) أي في أن لا يصلح آلة للمكره كالأكل والوطء. والثاني: ما يصلح أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره كما في إتلاف مال الغير. (ما يحتمل الفسخ ويتوقف على الرضى) كالبيع والهبة، (وما لا

يحتمل الفسخ) كالطلاق والعتاق. (كامل يفسد الاختيار ويوجب الإلجاء) كالإكراه بالقتل أو بقطع العضو. (وقاصر يعدم الرضا) كالإكراه بالحبس والقيد. (حرمة لا تنكشف) أي لا يزول عنها الحرمة أصلا كالزنا والقتل بغير حق. (وحرمة) تحتمل السقوط أصلا كشرب الخمر بالإكراه، (وحرمة لا تحتمل السقوط لكنها تحتمل الرخصة) كإجراء كلمة الكفر على اللسان. (وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط بعذر الكره واحتملت الرخصة أيضا) كتناول مال الغير بالإكراه، فإن تلك الحرمة تحتمل السقوط بإباحة صاحب المال لكن لم تسقط حرمته بعذر الكره بل يرخص له الأكل عند المخمصة على معنى عدم المؤاخذة لا أنه يحل أكله بل بشرط الضمان يرخص له الأكل.

(إن الإكراه لا يوجب تبديل الحكم بحال) يعني أن حكم السبب الموضوع له لا يبتدل بالإكراه بل يبقى حكمه كما في حق الطائع؛ لأن السبب إنما أوجب الحكم لكونه صادرا عن ذي عقل وتمييز وأهل خطاب وبلوغ، وبالإكراه لا تنعدم هذه المعاني لما ذكرنا من انقسام أفعال المكره إلى الفرض والحظر والإباحة والرخصة كأفعال الطائع. ولا يوجب أيضا بتبديل (محل الجناية)؛ لأن في تبديل محل الجناية تبديل محل الحكم، وهو لا يصح على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى. (ولا وجه لنقل الحكم بدون نقل الفعل)؛ إذ في نقل الحكم بدون نقل الفعل انفكاك الأثر عن المؤثر وذلك لا يصح؛ لأن فيه قولا بوجود الضرب في محل ووجود الألم في محل آخر وهو محال. (ولا وجه لنقل الفعل ذاته) أي لا وجه لنقل ذات الفعل؛ لأن الفعل عرض فلا يوصف بالانتقال من محل إلى محل؛ لأنه إذا وجد في محل اضمحل وتلاشى بعد الوجود؛ فلم يتصور نقله لا حال الوجود ولا بعد

الوجود فوجب القول بنقل الفعل بأن يجعل المكره آلة للمكره. (بهذا الطريق) وهو إشارة إلى قوله: ((وهو أن يجعل المكره آلة للمكره)) وطريق جعله آلة هو ما ذكر قبل هذا بقوله: ((فيجعل الاختيار الفاسد معدوما في مقابلته)) أي في مقابلة الاختيار الصحيح، فلما كان اختيار المكره معدوما كان هو والسيف سواء في أن كل واحد منهما عديم الاختيار، والسيف آلة للضارب فكذا المكره المأمور آلة للمكره الآمر. (ففي الأقوال كلها لا يصلح أن يتكلم الرجل بلسان غيره) ولا يلزم على هذا قول الرسول، فإن قوله منتقل إلى المرسل مع أن القول لا يمكن نقله من القائل إلى غيره؛ لأنا نقول: إن انتقاله إلى المرسل شرعي لا حسي لوجود الرضى والطواعية من الرسول في انتقال كلامه إلى المرسل؛ لأنه يبذل منفعة نفسه إلى المرسل توسعة للأمر على الناس وفي الإكراه لم يوجد الرضا والطواعية في انتقال كلامه إلى المكره، ولو انتقل إنما ينتقل حسا وذلك غير ممكن في القول. (لأن ذلك لا يبطل بالهزل وهو ينافي الاختيار أصلا) أي الطلاق

والعتاق والنكاح لا يبطل بالهزل مع أن الهزل ينافي الاختيار أصلا، والإكراه لا يبطل الاختيار بل يفسده فلأن لا يبطل صحة الطلاق به أولى. (فلم يتوقف الطلاق عليه) أي على لزوم المال، بل وقع ولكن يتوقف على قبول المال فإنه ذكر في ((الجامع الصغير)) لقاضي خان -رحمه الله- إذا قال الرجل لامرأته الصغيرة: أنت طالق على ألف يتوقف على قبولها وإن كان لا يلزمها المال عند قبولها، وكذا ذكر في ((الهداية)) وقال: وإن شرط الألف عليها أي وإن شرط الزوج الألف على امرأته الصغيرة توقف على قبولها إن كانت من أهل القبول، يعني بأن كانت تعقل العقد وتعبر عن نفسها، فإن قبلت وقع الطلاق لوجود الشرط ولا يجب المال؛ لأنها ليست من أهل الغرامة. (بخلاف الهزل في الخلع عند أبي حنيفة -رضي الله عنه-) حيث يتوقف الطلاق هناك حتى تشاء المرأة وجوب المال على نفسها، وهاهنا يقع الطلاق ولا يجب المال، وأما الفرق لهما حيث يقولان بوجوب المال في صورة الهزل في الخلع ولم يجب هاهنا فيما إذا أكرهت على قبول المال في الخلع. وذكر في ((المبسوط)) وللكل حاجة إلى الفرق بين مسألة الإكراه وبين

مسألة الخيار والهزل. فأما أبو حنيفة -رضي الله عنه- يقول فيقول: الإكراه لا يعدم الاختيار في السبب والحكم وإنما ينعدم الرضا بالحكم، فلوجود الاختيار في السبب والحكم تم القبول ووقع الطلاق، ولانعدام الرضى لا يجب المال فصار كأن المال لا يذكر أصلا. فأما خيار الشرط فلا يعدم الاختيار والرضا بالسبب ويعدم الاختيار والرضى بالحكم فيتوقف الحكم وهو وقوع الطلاق ووجوب المال على وجود الاختيار والرضى به. وكذلك الهزل لا ينافي الاختيار ولا الرضى بالسبب وإنما ينعدم الاختيار فيه والرضى بالحكم فتوقف الحكم لانعدام الاختيار في حقه وصح التزام المال به موقوفا على أن يلزم عند تمام الرضا. وهما يقولان: إن الإكراه يعدم الرضى بالحكم ولا يعدم الاختيار في الحكم والسبب جميعا فيثبت الحكم وهو الطلاق ولا يجب المال لانعدام الرضى به فكأنه لم يذكر، وأما الهزل وشرط الخيار لا يعدمان الرضا بالسبب، والحكم لا ينفصل عن السبب. فالرضى بالسبب فيهما يكون رضا بالحكم فيقع الطلاق ويجب المال؛ لأن المال صار تبعا للطلاق في الحكم، وفي الإكراه انعدم الرضى بالسبب فلا يثبت ما يعتمد ثبوته على الرضى وهو المال، ويثبت من الحكم ما لا يعتمد ثبوته على

الرضى وهو الطلاق. وقوله: (ولأنه يعدم الرضا والاختيار جميعا) أي لأن الهزل يعدم الرضا والاختيار جميعا. (كشرط الخيار) أي على قول أبي حنيفة -رضي الله عنه- (فإنه) أي فإن شرط الخيار بأن اختلعت المرأة على المال على أنها بالخيار ثلاثة أيام كذلك هاهنا أي في الهزل أي يتوقف الطلاق على وجوب المال عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- كشرط الخيار وهو عندهما. (وما دخل على السبب يؤثر في المال دون الطلاق) كما في فصل الإكراه؛ (لأنه) أي لأن المال لا يجب إلا بشرط الخيار، (فكان في الإيجاب مثل

اليمين) أي فكان وجوب المال في إيجاب الخلع مثل ذكر الشرط فين اليمين يعني في اليمين لا يجب الجزاء إلا بعد وجود الشرط فكذلك المال في الخلع لا يجب إلا بوجود شرط ذكر البدل. (وبعد صحة الإيجاب يتبع الطلاق الذي هو المقصود) أي بعد صحة إيجاب الخلع يتبع وجوب المال لوقوع الطلاق، وبهذا يفرقان بين الهزل في الخلع وبين الإكراه فيه؛ حيث يجب المال في الهزل فيه ولا يجب في الإكراه فيه، يعني لما صح السبب في فصل الهزل وجب المال هناك أيضا تبعا لصحة السبب لأنه راض بمباشرة السبب فكان السبب صحيحا فوجب المال بالتبعية. بخلاف الإكراه فإنه لما لم يصح السبب فيه لعدم الرضى بالسبب لم يتبعه وجوب المال، وفي بعض النسخ: ((فكان في الإيجاب مثل الثمن)) يعني كما أن الثمن لا يجب إلا بشرط الذكر في البيع كذلك لا يجب المال في الخلع إلا بشرط الذكر. ثم إذا صح الإيجاب في البيع وجب الثمن وإن فسد لا يجب، فكذلك في الخلع إذا صح الإيجاب وجب المال وذلك موجود في الهزل بالخلع لوجود الرضى بالسبب فوجب المال تبعا للطلاق لكون الطلاق مقصودا فلا يتوقف الطلاق على المال بل يقع الطلاق في الحال والمال يتبعه، وفي الإكراه فسد الإيجاب لعدم الرضى بالسبب والحكم جميعا فلا يلزم المال؛ لأن لزوم المال

يتوقف على الرضى ولم يوجد فكان وجوب المال من أثر صحة الإيجاب. (ولا تصح الأقارير كلها) أي سواء كان الإقرار بما يحتمل الفسخ أو لا يحتمل. (والكامل من الإكراه والقاصر في هذا سواء) أي في إبطال الأقارير كلها. وذكر في باب ما يكره عليه اللصوص من إكراه ((المبسوط)) ولو هددوه بقتل أو إتلاف أو بحبس أو بقيد ليقر لهذا الرجل بألف درهم فأقر له به فالإقرار باطل. أما إذا هددوه بما يخاف منه التلف فهو ملجأ إلى الإقرار محمول عليه، والإقرار خبر متميل بين الصدق والكذب، فإنما يوجب الحق باعتبار رجحان جانب الصدق وذلك ينعدم بالحبس والقيد لما يلحقه من الهم والحزن به، وانعدام الرضى يمنع ترجيح جانب الصدق في إقراره، ثم قد بينا أن الإكراه نظير الهزل ومن

هزل بالإقرار لغيره وتصادقا على أنه هزل بذلك لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه. فإن قيل: لماذا لم يجعل هذا بمنزلة شرط الخيار وشرط الخيار لا يمنع صحة الإقرار؟ قلنا: لا كذلك، بل متى صح شرط الخيار مع الإقرار بالمال لا يجب المال حتى لو قال: كفلت لفلان على فلان بألف درهم على أني بالخيار لا يلزمه المال. فأما إذا أطلق الإقرار بالمال وهو خبر عن الماضي فلا يصح معه شرط الخيار، والإكراه هاهنا متحقق، وإنما يعتبر بموضع صح فيه اشتراط الخيار وهذا بخلاف ما تقدم من تناول الحرام - يعني لا يحل له التناول بالإكراه القاصر- لأن المؤثر هناك الإلجاء وذلك مما يخاف منه التلف، وهنا المانع من وجوب المال عليه انعدام الرضى بالالتزام. وقد انعدم الرضا بالإكراه وإن كان بحبس أو قيد، ثم قال: ولو أوعدوه بضرب سوط واحد أو حبس يوم أو قيد يوم على الإقرار بألف فأقر به كان الإقرار جائزا لأنه لا يصير مكرها بهذا القدر من الحبس والقيد، فالجهال

يتهازلون فيما بينهم فيحبس الرجل صاحبه يوما أو بعض يوم. ثم قال بعد هذا في باب من الإكراه على الإقرار: وإذا أكره الرجل بوعيد تلف أو غير تلف على أن يقر بعتق ماض أو طلاق أو نكاح وهو يقول: لم أفعله فأقر به مكرها فالإقرار باطل، والعبد عبده كما كان، والمرأة زوجته كما كانت؛ لأن الإقرار خبر محتمل بين الصدق والكذب، والإكراه الظاهر دليل على أنه كاذب فيما يقر به قاصد إلى دفع شر عن نفسه، والمخبر عنه إذا كان كذبا فبالإخبار لا يصير صدقا. ثم قال: والإكراه بالحبس والقتل في هذا سواء؛ لأن الإقرار تصرف من حيث القول ويعتمد تمام الرضا وبسبب الإكراه بالحبس ينعدم ذلك، وكذلك الإقرار بالرجعة أو الفيء في الإيلاء أو العفو عن دم العمد فإنه لا يصح مع الإكراه لما قلنا. فإن قيل أليس عند أبي حنيفة -رضي الله عنه- إذا قال لمن هو أكبر سنا منه: هذا ابني يعتق عليه، وهناك يتيقن بكذبه فيما قال فوق ما يتيقن بالكذب عند الإقرار مكرها, فإذا نفذ العتق ثمة ينبغي أن ينفذ هنا بالطريق الأولى. قلنا: أبو حنيفة -رضي الله عنه- يجعل ذلك الكلام مجازا عن الإقرار بالعتق. كأنه قال عتق علي من حين ملكته، وباعتبار هذا المجاز لا يظهر رجحان جانب الكذب في إقراره. فأما عند الإكراه أكثر ما فيه أن يجعل هذا مجازا عن الإقرار بالعتق ولكن

الإكراه يمنع صحة الإقرار بالنسب. (فإن كان عليه) أي على المكره المحمول (ما أوجب جرحه وجب به القود في النفس) أي على المكره الحامل. قال شيخي- رحمه الله-: صورته أن يكون مع المكره المحمول آله قاتلة كالسيف والخنجر، ثم أن المكره الحامل أخذ المكره المحمول بتلك الآلة وألقاهما على إنسان فتلف لك الإنسان بتلك الآلة يجب القصاص على الملقى بالإجماع، وإنما فرض المسألة في المكره الذي معه آله جارحة ليرتب عليه جواب المسألة بالقصاص على الاتفاق؛ لأن في القتل بالمثقل اختلافًا. (وليس في ذلك تبديل محل الجناية) وإنما قال هذا لدفع شبهة وهي أن يقال: ففي جعل المكره آله للمكره حتى يجب القصاص على المكره الآمر في العمد والدية على عاقلته في صورة الخطأ والكفارة عليه تبديل محل الجناية لأن الجناية حقيقة وجدت من المكره المأمور فكان في جعل الجناية من الآمر تبديل محل الجناية. فقال في جوابه: ليس فى ذلك تبديل محل الجناية على الوجه الذي قلنا، وهو أن المكره امأمور فاسد الاختيار والمكره الآمر صحيح الاختيار والفاسد في

مقابلة الصحيح بمنزلة المعدوم فصار المكره كأنه لا اختيار له أصلًا، فصار آلة للمكره من هذا الوجه، مع أن جعله آله له في الحقيقة متصور على ما ذكره بقوله: "وهوأن ياخذه فيضرببه نفسًا أومالًا فيتلفه" فحينئذ كانت الجناية موجودة من الآمر فيؤخذ بموجب الجناية محل الجناية الذ وجدت منه الجناية ولم يكن فيه تبديل. (ولذلك قلنا) أي ولأجل أن المكره صار بمنزلة الآلة للمكره، (والكفارة عليه) أي علالمكره الآمر؛ لأن المكره لما جعل آلة خرج هو من البين فلا تجب عليه الدية والكفارة؛ لأنهما لا تجبان على الآلة فكذلك لا تجبان على المكره المأمور لصيرورته آلة للمكره الآمر. وقوله (لحرمة هذا المحل أيضًا) دليل وجوب الكفارةعلى المكره الآمر مع تضمن دفع شبهة، وهي أن المكره لا يصلح آلة للمكره في حق الإثم والكفارة لرفع الإثم فكان ينبغي أن تجب الكفارة على المكره المأمور؛ لأن فعل المكره في حق القتل حرام بدليل أنه يأثم في ذلك، ومع ذلك وجبت الكفارة

على المكره الآمر. فأجاب عنه بهذ: أي نعم كذلك أن الكفارة جزاء الفعل المحرم، ولكن لحرمة المحل والمكره المأمور فيما يرجع إلى المحل يجعل آلة للمكره كما في الدية فتجب على المكره الآمر لذلك. (وهذه نسبة ثبتت شرعًا) أي نسبة فعل المكره المأمور إلى المكره الآمر ثبتت شرعًا باقتضاء النص، وهو قوله عليه السلام: "رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وإنما قلنا: إن هذا يثبت شرعًا باقتضاء النص؛ لأن الإتلاف وجد من المكره المأمور حسًا وحقيقة، ولما ثبت رفع الفعل من المكره المأمور بعبارة النص لم يكن بجد من تحقيق موجب الفعل على أحد، وليس هاهناأحد ينسب إليه الفعل سوى المكره الآمر بعد انتفاء نسبة الفعل إى المكره المأمورفنسب إلى الآمر، فكانت نسبة إتلاف النفس والمال إلى المكره الآمر باقتضاءالنص بهذا الطريق. (وهذا كالأمر) أي ثبوت النسبة في الإكراه إلى غير الفاعل حقيقة لثبوت نسبة الفعل في غير الإكراه وهو الآمر إلى غير الفاعل حقيقة. (فإنه متى صح) أي فإن الأمر متى صح واحترز بقوله: "صح" عن الأمر الذي لم يصح، وهو فيما ذكر بعده بقوله: "وإذا كان في جادة الطريق لا

يشكل حاله بطل الأمر"، وبهذا يعلم أن المراد من صحة الأمرهوأن يعلم المأموربأن للآمرحق الأمر بذلك الفعل شرعًا كما في الأمر بحفر البئر في فنائه. وقوله: (قد يخفى على الناس) تفسير لقوله: "إشكال" أي الإشكال قد يتأتى من قبل خفاء ذلك الموضع على المأمور بأنه ملك الآمر أو حق المسلمين ولم يقيد في هذه المسألأة بالإشكال في "المبسوط". وقال: وإن أمر عبدًا له فحفر بئرًا في فنائه فضمان ما يقع فيها على الآمر، ولو كان في غير فنائه فالضمان في عنق العبد يدفع به أو يفدى. ثم قال: ولم يفصل هنا بين أن يكون العبد عالمًا بذلك أو غير عالم بخلاف الحر، والفرق أن الضمان هناك لمعنى الغرور ولا غرورو بين العبد وسيده، فإن قرار المان في الفصلين على السيد، فلهذا جعل فعل عبده بأمركفعله بنفسه. ثم إنما ألحق هذه المسألة بمسألة الإكراه في حق نقل الفعل من الفاعل إلى الآمر إذا صح يعني أن الأمر إذا صح يستقيم نقل الفعل من الفاعل إلى الآمر كما يستقيم نقل فعل المكره إلى المكره الآمر في الإكراه أي تحقق وثبت من كل وجه وهو الإكراه الملجئ؛ يعني أن ما قلنا من نقل فعل المكره إلى المكره الآمر عند صحة الإكراه ليس ببعيد؛ لأن مثل ذلك موجود في الأمر، فإن الأمر إذا صح ينتقل فعل المأمور إلى الآمر فكذا في الإكراه.

(وكذلك لو استأجر حرًا- إلى قوله- فإن ضمان ما يعطب به على الأمر استحسانًا) يعني لو استأجر حرًا على حفر البئر فيطريق المسلمين في غير فنائه ولكن ذلك الموضع في موضع مشكل بأن ذلك الموضع حق الآمر أم حق المسلمين وكان ذلك الموضع في الحقيقة حق المسلمين. والدليل على هذا التفسير ما ذكره في باب البئر وما يحدث فيها من ديات "المبسوط" بقوله: فإن كان استأجر عليها- أي على حفر البئر في طريق المسلمين- أجراء فحروها له فذلك على المستأجر ولا شيء على الأجزاء إن لم يعلموا أنها في غير فنائه؛ لأنهم صاروا مغرورين من جهته حين لم يعلمهم أن ذلك الموضع ليس من فنائه وإنما حفروا اعتمادًا على أمره، وعلى أن ذلك من فنائه. فلدفع ضرر الغرور ينقل فعلهم إلى الآمر فيصير كأن المستاجر حفر بنفسه، وإن كانوا يعلمون أنها في غير فنائه فالضمان عليهم؛ لأنهم جناة في الحفر وأمره إياهم بالحفر غير معتبر شرعًا؛ لأنه غير مالك للحفر بنفسه في هذا الموضع، وإنما يعتبر أمره لإثبات صفة الحل به أو لدفع الغرور عن الحافر وقد انعدما جميعًا في هذا الموضع فسقط اعتبار أمره، فكان الضمان على الذين باشروا الحفر، وإن كان في فنائه فهو على الآمر دون الأجراء إن علموا أو لم

يعلموا؛ لأن أمره في فنائه معتبر، فإن عند أبي يوسف ومحمد- رحمهما الله- له أن يحفر في فنائه إذا كان لا يضر بالمارة لأحد أن يمنعه، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- يحل ذلك له فيما بينه وبين ربه ما لم يمعنه مانع؛ لأن الفناء اسم لموضع اختص صاحب لملك بالانتفاع به من حيث كسر الحطب وإيقاف الدابة وإلقاء الكناسة فيه فكان أمره معتبرًا في الحل، وانتقل فعل الأجراء إليه بهذا الأمر فيصير كأنه فعل هذا ذلك بنفسه. وقوله: (وكذلك من قتل عبد غيره بأمر مولاه) أي قتل حر أو عبد عبد غيه بأمر مولى ذلك العبد المقتول؛ لأنه موضع شبهة؛ لأنه يشتبه عليه. فنقول: يحتمل أن يكن أمر مولى العبد لآخر بقتل عبده كان صحيحًا باعتبار أنه صار حلا الدم عنده والمولى يتصرف في ملك نفسه، والأصل أن يكون تصرف المسلم حلالًا له، (بخلاف ما إذا قتل حرأ بأمر حر آخر فإن الضمان على المباشر)؛ لأن هذا الأمر ظاهر الفساد وجلي عدم صحة أمره على العباد؛ إذ لا ولاية لحر على حر آخر، فو كان مباح الدم كان الأمر بالقتل للولاة والحكام لا لكل أحد من آحاد الأنام، فكان الاشتباه على المباشر بسبب تقصير من جهته لا أن يكون الغرور له من جانب الآمر، فلذلك اقتصر

الضمان على المباشر. (والإكراه صحيح بكل حال) أي سواء كان الأمر في موضع الاشتباه بأن أكره الحافر على حفر بئر في فناء داره أو في غير موضع الاشتباه بأن أكره الحافر على حفر بئر في طريق المسلمين، وكذلك إذا أكره رجلًا على قتل عبده أو على قتل حر فإن الإكراه في الفصلين صحيح والضمان على المكره الآمر بذلك الفعل، وإنما كان هكذا لأن الدليل الموجب للنقل في الإكراه خوف التلف وهو لا يتفاوت بين أن يكرهه على قتل عبده أو قتل حر بخلاف الآمر، فإن دليل النقل فيه صحة الأمر، وهي إنما توجد في الأمر بقتل عبده لا في الأمر بقتل حر آخر، فلما لم يصح الأمر لم ينقل الفعل إلى الآمر. (وأما الإكراه الذي لا يوجب الإلجاء) وهو الإكراه بالحبس والقيد لا بالقتل ولا بإتلاف العضو. (فذلك مثل الأكل)؛ لأنه لا يصلح آلة للمكره في حق الأكل لما ذكر في الكتاب فكان الأكل منحصرًا على الأكل، فلذلك قلنا بفساد صوم المكره المأمور بالأكل إذا كان صائمًا بأكله لوجود الأكل منه حقيقة، ثم حكم الضمان هو ما ذكر في "تتمة الفتاوى" فقال: لو أكره على أكل طعام نفسه فأكل فإن

كان جائعًا لا يرجع على المكره بشيء، وإن كان شبعان يرجع عليه بقيمة الطعام؛ لأن منفعة الأكل حصلت للمكره في الفعل الأول وفي الثاني لا. ثم قال: فإن قيل: هذا العذر يشكل بما لو أكره على أكل طعام الغير فإن الضمان على المكره الآمر لا على المكره، وإن كان جائعًا وقد حصل له منفعة الأكل. قلنا: إنما لم يجب الضمان على المكره المأمور؛ لأنه أكل طعام المكره الآمر بإذنه؛ لأن الإكراه على الأكل إكراه على القبض؛ لأنه لا يمكنه بدون القبض وكما قبض المكره المأمور الطعم صار قبضه منقولًا إلى المكره الآمر فصار كأن المكره قبضه بنفسه وقال: كل، ولو قبض بنفسه صار غاضبًا ضامنًا ثم آذنًا له بالأكل، وفي طعام نفسه لم يصر آكلًا طعام المكره بإذنه؛ لأن المكره هناك يضمن بعد الأكل والإن وجد قبل الأكل. إلى أن قال: وإذا لم يوجد سبب الضمان في طعام المكره قبل الأكل صار المكره آكلًا طعام نفسه لا طعام المكره، إلا أن المكره متى كان شبعان لم يحصل منفعة فقد أكرهه على إتلاف ماله، ومن أكره غيره على إتلاف ماله فأتلف ضضمن المكره الآمر فكذا هنا. وقوله: (والوطء والزنا) أراد بكليهما واحدًا وهو الزنا، ولهذا اقتصر بذكر الزنا عند ذكرالدليل، ثم لما اختصر حكم الزنا على الزاني كان ينبغي أن

يجب الحد على الزاني كما هو القول القول لأبي حنيفة- رحمه الله- وهو قول زفر لما ذكرنا؛ للأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بانتشار الآلة، ولا تنتشر آلته إلا بلذة وذلك دليل الطواعية. وفرق على هذا القول بين الرجل والمرأة؛ لأن المرأة في الزنا محل الفعل ومع الخوف يتمكن التمكين منها، وفرق على هذا القول بين الإكراه على الزنا وبين الإكراه على القتل. قال: لا قود على المكره المأمور وعليه الحد في الزنا، ففي كل واحد من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالإكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره وبسبب الإلجاء يصير الفعل منسوبًا إليه، ولهذا ألزمه القصاص بخلاف الزنا فإن المكره فيه لا يصلح أن يكون آلة للمكره ولهذا لا يجب الحد على المكره. ووجه قوله الآخر وهو قولهما أن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى الزجر في حالة الإكراه؛ لأنه كان منزجرًا عنه إلى أن يحقق الإلجاء وخوف التلف على نفسه فإنما كان قصده إلى هذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه، وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف، فقد تنتشر الآلة طبعًا بالفحولة التي ركبها الله تعالى في الرجال، وقد يكون ذلك طوعًا.

ألا ترى أن النائم قد تنتشر آلته طبعًا من غير اختيار له، وإن كان الإكراه على الزنا بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد؛ لأن تمكن الشبهة باعتبار الإلجاء وسبب الإكراه بالحبس لا يتحقق الإلجاء فوجوده وعدمه في حكم الحد سواء، ثم في كل موضع وجب الحد على المكره لا يجب المهر لها؛ لأن المهر والحد لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافًا للشافعي. وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر؛ لأن الوطء في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر، فإذا سقط الحد وجب المهر لإظهار خطر المحل بإنه مصون عن الابتذال محرمًا كاحترام النفوس ويتسوي إن كانت المرأة اذنت له في ذلك أو استكرهها. أما وجوب المهر عند استكراهها فغير مشكل؛ لأن المهر يجب عوضًا عما أتلف عليها ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها. وأما إذا أذنت له في ذلك فلأنه لا يحل لها شرعًا أن تأذن في ذلك فيكون إذنها لغوًا لكونها محجوره عن ذلك شرعًا بمنزلة إذن الصبي والمجنون في إتلاف ماله. كذا في "المبسوط"، ثم ذكر في "تتمة الفتاوى" ولا يرجع بما ضمن على المكره؛ لأن منفعة الوطء حصلت للزاني وكان كما لو أكره على أكل طعام نفسه فأكل، إن كان جائعًا لا يرجع على المكره بشيء وإن كان شبعان

يرجع عليه بقيمه الطعام وقد ذكرناه. (وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره صورة إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الإتلاف صورة- إلى قوله- وذلك مثل إكراه المحرم على قتل الصيد) يعني أن نفس القتل من قال إنه إتلاف قابل للنقل من الفاعل إلى المكره الآمر. ومن قال إنه جناية في دين القاتل وإحرامه غير قابل للنقل فإن إنسانًا لو أثم في شيء ففعله لا يمكن أن يقال: إن إثمه منه إلى من أمره بذلك الفعل لقوله تعالى: (عَلَيْهَا ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى)، وهذا لأنا لو قلنا بأن المحرم الآمر بقتل الصيد هو الذي قتله بواسطة المكره المأمور يلزم منه تبديل محل الجناية؛ لأن محل الجناية صورة هو الصيد. وفي الحقيقة محل الجناية الإحرام، وفي جعل المكره آلة تبديل محل الجناية؛ لأنه حينئذ تكون الجناية واقعة على إحرام المكره الآمر وفي ذلك بطلان الكره؛ لأن إنسانًا لو أكره آخر بأن يجني المكره المأمور في محل معين وهو أوقع جنايته في محل آخر غير المحل الذي أمر به المكره الآمر كان ذلك جناية

منه بطريق الطوع لا بطريقه الكره، وهذا بخلاف الإكراه على قتل نفس معصومة؛ لأن محل الجناية هو المقتول فلا يكون في تبديل النسبة تبديل محل الجناية. أما الصيد ففي قتله محل الجناية الإحرام في حق المحرم أو الدين في حق صيد الحرم في حق الحلال؛ لأنه لا حرمة للصيد في نفسه. ألا ترى أن اصطياده لغير المحرم في غير الحرم حلال وللمحرم أيضًا يحل أكله وكذلك صيد الحرم. ألا ترى أنه لو خرج من الحرم يحل اصطياده، فلما كان محل الجناية في الحقيقة هو الإحرام أو الدين كان في تبديل النسبة تبديل محل الجناية. وفي تبديل المحل خلاف المكره، أي مخالفة المكره؛ لأن الإكراه لما وقع في محل، وفعل المكره المأمور في محل آخر لم يبق ما أكره عليه، فكان هو مخالفة للمكره الآمر ضرورة؛ لأنه لم يوجد الإكراه في حق المحل الآخر فيبطل الكره. وعاد الأمر إلى المحل الأول، وهو إحرام المكره المأمور؛ لأن الفعل قام ببدن المكره الفاعل وهو المأمور حقيقة، والانتقال عنه إنما يكون إلى الآمر إذا

وافق المكره المكره الآمر، فإذا خالفه يعود الفعل إلى المحل الأول وهو إحرام الفاعل. وقوله: (ولهذا قلنا) إيضاح لما ذكر قبله وهو قوله: وكذلك إذا كان نفس الفعل مما يتوصر أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره، إلا أن المحل غير الذي يلاقيه الإتلاف صورة، يعني أن الفعل إذا كان مشتملًا لمعنى قابل للنقل إلى المكره الآمر ولمعنى غير قابل للنقل إليه فينقل ما هو قابل له، ويقتصر على الفاعل ما هو غير قابل له، كما إذا أكره على قتل نفس معصومة ففي القتل بالإكراه معنيان: أحدهما- قابل للنقل وهو معنى الإتلاف فلذلك وجب القصاص فيما فيه القصاص، والضمان فيما ليس فيه قصاص، والكفارة على المكره الآمر. والثاني- غير قابل للنقل وهو جناية القتل على دين نفسه حى يأثم المكره المكره المأمور بالقتل عند قتله؛ حيث لا ينقل قتله إلى الآمر فيحق الإثم بأن لا يأثم المكره القاتل بل يأثم الآمر، وهذا لأن إثم المكره القاتل باعتبار اختياره قبل غيره على قتل نفسه بأن يصبر عن قتل غيره حتى يقتل هو، والاخيتار

إنما ينشأ عن عزيمة قلبه فكان الإثم بمقابلة عزيمة قلبه عند اتصال الفعل بها وهو في ذلك لا يصلح آلة لغيرة؛ لأن ذلك ليس بأمر حسي حتى يتصور أن يكون الفاعل فيه آلة لغيره كما في الإتلاف. وكذلك قوله: (ولهذا قلنا في المكره على البيع والتسليم) إيضاح لذلك أيضًا، وهو أن المكره على البيع والتسليم لما لم يصلح آلة للمكره في حق التسليم اقتصر التسليم على المكره المأمور، وإن كان التسليم فعلًا حسيًا كما في الإتلاف؛ لأنا لو جعلنا المكره المأمور آلة للمكره في حق التسليم صار اآمر كأنه قبض من المالك بغير رضاه وسلمه إلى المشتري، فحينئذ يكون هذا غصبًا محضًا لا إكراهًا على البيع وحكم الغضب غير حكم البيع. وقوله: (لتبدل المحل) إلى محل الإكراه، فإنه إنما أكرهه على البيع على أن يتصرف المالك في مال نفسه بالبيع ولو جعل آلة يكون بيعًا في المغصوب، وفي لفظ البيع أيضًا لا يصلح المكره آلة للمكرة الآمر؛ لأن البيع يحصل بالتكلم والمكره لا يصلح آلة للمكره الآمر في حق التكلم، فكذا فيما يتم به البيع وهو التسليم لا ينقل إلى المكره من حيث إنه إتمام البيع. (وإذا ثبت أنه أمر حكمي صرنا إليه استقام ذلك) فقوله: "استقام" ذلك جزاء الشرط، وقوله: "صرنا إليه" صفة بعد صفة لقوله: "أمر" أي وإذا

ثبت أن نقل فعل المكره إلى المكره الآمر أمرحكمي مصير إليه لا حسي استقام ذلك القول بالنقل فيما يعقل نقله بالطريق الذي قال بأن يأخذ المكره الآمر رجل المكره المأمور فيلقيه على النفس أو على المال فيتلفه، ولكن ذلك الإتلاف من المكره الأمر غير محسوس، بل الإتلاف إنما وجد حسًا من المكره المأمور. فيعلم من هذا أن فعل المكره المأمور لا ينقل إلى المكره فيما لا يعقل نقلله كما في الأقوال كلها، وكما في الأكل والوطء وفي حق الإثم وفي حق الجناية على الدين. (وأن القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح) وإنما قدم هذه الأشياء على سائر الحرمات؛ لأن حرمة هذه الأشياء مصمتة لا تنكشف أصلًا على وج لا يجري فيها الرخصة في حال من الأحوال. (فسقط الكره) فلما سقط الكره كان بمنزلة من قتل نفسًا معصومة بدون الكره فيأثم.

وقوله: (حتى إن من قيل له- إلى قوله- ويد غيره ونفسه سواء) يتعلق بما ذكره قبله من التعداد بقوله: "والقتل والجرح" فيعلم بهذا أن جرح غيره بمنزلة قتل نفسه في حق الحرمة، ومعنى قوله: "أو لتقطعن يدك" حتى يقطعن. (غَيْرَ بَاغٍ) أي غير طالب للحرام ببعد إبقاء المهجة (ولا عَادٍ) أي ولا مجاوز من حد سد الرمق، وقد ذكرنا قبل هذا بأتم منه.

(فإذا سقطت الحرمة أصلًا) أي في فصل الخمر وغيرها. (وهذا إذا تم الإكراه) وهو في فصل الإكراه الكامل. (فأما إذا قصر لم يحل له التناول) وكذك هذا في إتلاف مال الغير إنما يضمن المكره في الإكراه الكامل؛ لأن المكره إنما يصير كالآلة عند تمام الإلجاء. وأما إذا أكرهه بحبس أو بقيد ففعله لم يكن على المكره الآمر ضمان ولا قود فبقي الفعل مقصورًا على الفاعل المأمور فيواخذ بحكمه. إلى هذا أشار في "المبسوط". (وأما الذي لا يسقط) أي لا يسقط حرمته أبدًا، (ويحتمل الرخصة)

فمعنى احتمال الرخصة هو ان لا يأثم بفعله. أما لولا يفعل وصبر على عذاب القتل فقتل كان هو أولى من الترخص بفعله. (رخص بالنص في قصة عمار بن ياسر- رضي الله عنه-) وهو ما روى أو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب رسول الله عليه السلام وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما آتى رسول الله عليه السلام قال عليه السلام: "ما رواءك"؟ قل: شر ما تركوني حتى نلت وذكرت آلهتهم بخير. قال عليه السلام: "فكيف تجد قلبك؟ " قال: أجده مطمئنًا بالإيمان. قال عليه السلام له: "إن عادوا فعد" أي إن عادوا إلى الإكراه بالقتل فعد إلى طمأنينة القلب وتخليص نفسك. فإن قلت: على هذا ينبغي أن يكون إجراء كلمة الكفر أولى من الصبر

والحكم على العكس! وذلك لأن النبي عليه السلام أمره بالعود وتخليص النفس، ولا يحصل تخليص النفس إلا بإجراء كلمة الشرك على اللسان فكان هذا منه أمر بإجراء كلمة الشرك على اللسان ومطلق الأمر للأيجاب، ولأن ما أجراه على لسانه ليس بكفر عند طمأنينة القلب بالإيمان فينبغي أن يكون الإجراء أولى من الصبر كما في الإكراه بالقتل على شرب الخمر. قلت: لا، بل معنى قوله عليه السلام: "إن عادوا فعد إن عادوا فعد" إلى طمأنينة القلب بالإيمان. هكذا ذكره الإمام المعو عليه شمس الأئمة- رحمه الله- في إكراه "المبسوط" فقال فيه: وبعض العلماء يحملون قوله: "إن عادوا فعد" على ظاهره، يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير، وهو غلط فإنه لا يظن برسول اله عليه السلام أنه يأمر أحدًا بالتكلم بكلمة الشرك، ولكن مراده: "فإن عادوا فعد" إلى طمأنينة القلب بالإيمان، وهذا لأن التكلم وإن كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل. ألا ترى أن خبيب بن عدي- رضي الله عنه- لما امتنع حتى قتل سماه

رسول الله عليه السلام أفضل الشهداء وقال: "هو رفيقي في الجنة"، وأما قوله: ولأن ما أجراه على لسانه ليس بكفر عند طمأنينة القلب بالإيمان. قلنا: نعم كذلك، ولكن كما يجب على المؤمن صيانة إيمانه بقلبه كذلك يجب صيانته بلسانه؛ لأن القلب واللسان محلا ركني الإيمان، وهما: التصديق والإقرار بالإيمان وإن كان الإقرار ركنا زائدا؛ لأنه يجب على المؤمن صيانة إيمانه ظاهرا وباطنا ولا تحصل الصيانة هكذا إلا بكاللف عن تبديلهما معا، هذا هو القياس؛ لأن تبديل الاعتقاد من الإيمان إلى الكفر كفر في جميع الأحوال، فكذا يجب أن يكون تبديل اللسان من كلمة الإيمان إلى كلمة الكفر كفرا. إلا أنه لما جاء النص بإباحة إجراء كلمة الكفر على اللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان وجب أن يحمل ذلك على رخصة الأمر مع قيام المحرم لا على الجواز المطلق، فلما حمل ذلك على الرخصة مع قيام الحرمة كان الصبر عن إجراء كلمة الشرك حتى يقتل أولى من إجرائها وتخليص نفسه، وإلى هذا المعنى أشاء النبي عليه السلام في حديث خبيب -رضي الله عنه- حيث سماه أفضل الشهداء وقال: "هو رفيقي في الجنة".

(وفي هتك الظاهر مع قرار القلب ضرب جناية)، وهذا إشارة إلى ما قلت: إن على المؤمن صيانة الظاهر واجب، وهي أن لا تجرى كلمة الشرك على لسانه لئلا يهتك ظاهر إيمانه وإن كان في حال الإكراه، ولو هتك ظاهر إيمانه في حال الإكراه بإجراء كلمة الشرك على لسانه مع قرار قلبه بالإيمان كان هو نوع جناية منه. (لكنه دون القتل) يعني كشته شدن، أي دون أن يقتل المكره الذي صبر حتى أن يقتل بسبب الامتناع عن إجراء كلمة الشرك على لسانه، أي إجراء كلمة الكفر مع طمأنينة القلب أدون وأحقر من أن يقتل المكره الصابر؛ لأن في إجراء كلمة الكفر مع طمأنينة القلب هتك صورة الإيمان مع بقائه معنى لبقى الركن الأصلي وهو طمأنينة القلب بالإيمان، وفي الكف حتى يقتل هدم للآدمي الذي هو بنيان صورة، ومعنى لكن مع ذلك كان الامتناع عن إجراء

كلمة الكفر أولى لكون ذلك جهادا في سبيل الله وإظهار صلابة في دينه والذي ذكره من الدليل كان ذلك دليل الترخص في حق إجراء كلمة الكفر. (فصار هذا القسم قسمين) أي القسم الثاني من تقسيم المحرمات، أي فصار القسم الذي لا تسقط حرمته أصلا ولكن يحتمل الرخصة قسمين. (والأداء فيه ركن ضم إليه) أي الإقرار باللسان في الإيمان ركن ضم إلى الاعتقاد الذي هو أصل في الإيمان، يعني أن الإقرار باللسان ليس بركن أصلي كالاعتقاد، بل هو من الزوائد فيحتمل السقوط بعارض الإكراه بخلاف الاعتقاد فإنه لا يحتمل السقوط أصلاً.

(فصار عمدة الشرع) أي فصار الاعتقاد ما يعتمد عليه الشرع، (وصار غيره عرضة للعوارض) أي وصار غير الاعتقاد وهو الإقرار باللسان والصلاة والصوم وسائر العبادات الظاهرة محل تعرض العوارض، أي محل أن يمنعه مانع من المضي على ما عليه أصل تلك العبادات. وقوله: (وما كان من حقوق العباد -إلى قوله- قسم آخر) مبتدأ وخبر بيان للقسم الثاني الذي ذكره قبل هذا بقوله: (فصار هذا القسم قسمين). فإن قلت ففي قوله: (فصار هذا القسم قسمين -إلى قوله- لم تحتمل الرخصة بالتبديل) شبهتان هائلتان واردتان على القسم الأول والثاني. إحداهما -هي ما ذكرنا إن الإشارة في قوله: (فصار هذا القسم) راجعة إلى قوله: (وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة) والقسم الأول من هذين القسمين لا يحتمل الرخصة كما ذكر بقوله: (لم يحتمل الرخصة بالتبديل) وهذا الأصل مقرر وهو أن موضع التقسيم يجب أن يكون مشتركا بين ما يرد على ذلك التقسيم من الأنواع كما تقول: الإنسان حيوان ناطق ثم تقسم الإنسان على أنواع ثلاثة بين الرجل والمرأة والصبي فوصفا الإنسان وهما الحيوانية والناطقية موجودتان في كل واحد من هذه الأنواع. وهاهنا القسم الذي انشعب منه هذان القسمان محتمل للرخصة، والقسم الأول من هذين القسمين غير محتمل للرخصة كما ترى فوجب أن لا يصح

القسم عليه لانعدام تناول موضع التقسيم له. والثانية -هي أن وصف هذا القسم الأول من هذين القسمين حرمة تبديل الإيمان إلى الكفر لا تسقط ولا تحتمل الرخصة، فكان هذا القسم في حق هذين الوصفين نظير ما ذكر قبل هذاا بورق بعينه بقوله: (فإن القسم الأول هو الزنا بالمرأة والقتل والجرح لا يحل ذلك بعذر الكره ولا يرخص فيه) فلما كان هذا القسم عين ذلك القسم في الاتصاف بهذين الوصفين ما فائدة إفراد هذا القسم بجعله أحد قسمي القسم الثاني، ولم لم يورد هذا القسم في ذلك القسم الذي ذكر فيه الزنا وغيره حتى ينصب هذا الوصفان على كليهما انصبابة واحدة؟ قلت: أما الجواب عن الشبهة الأولى فهو أنه لما ذكر القسم الثاني الذي هو موضع التقسيم بقوله: وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة فمثل إجراء كلمة الكفر على اللسان والقلب مطمئن بالإيمان كان ذلك القسم محتملا شيئين: أحدهما- غير محتمل لسقوط حرمته ولكن يحتمل الرخصة وهو إجراء كلمة الكفر على اللسان. والثاني- غير محتمل لسقوط حرمته ولا يحتمل الرخصة وهو ترك اطمئنان القلب بالإيمان، لكن جعل كون إجراء كلمة الكفر على اللسان نظيرا لما ذكر بطريق العبارة والقصد، وجعل ترك اطمئنان القلب نظيرا لما ذكر بطريق الإشارة والضمن؛ حيث لم يعلم هناك ذلك المقصود الحاصل من

الإشارة، ثم إن جر ما ذكره من حكم إجراء كلمة الكفر على اللسان مع زيادة تقرير فيه إلى أنه ألحق به حكم استهلاك أموال الناس وجواز الترخيص فيه بالإكراه التام. ثم ذكر هاهنا حكم ضد ذينك الشيئين بطريق النتيجة لما ذكر قبله بقوله: فصار هذا القسم قسمين" إلى آخره أعني بذينك الشيئين إجراء كلمة الكفر على اللسان وترك اطمينان القلب بالإيمان، وأعني بضدهما الإقرار بالإيمان بالله تعالى باللسان واطمينان القلب بالإيمان، والدليل على ما قلته من ذكرهما بطريق النتيجة كما قلته شيئان: أحدهما- ذكر الفاء في قوله: "فصار هذا القسم". والثاني- إعادة عين ما ذكر فيه من اطمئنان القلب بالإيمان، لكن عبر عنه هاهنا بلفظ العقيدة، ومن ذكر جنس ما يحتمل السقوط كان هو إجراء كلمة الكفر على اللسان. وحاصله أنه لما ذكر هناك حكم إجراء كلمة الكفر على اللسان عند الإكراه كان ذكر حكم ضده وهو الإقرار بالإيمان بالله تعالى في حق الإيمان نتيجة له، فكان الذي ذكر هناك في حق تحمل الرخصة مقصودا عند الإكراه والذي هنا في حق تعلق الله تعالى بالإيمان مقصودًا وهو شيئان: أحدهما- الاعتقاد الثابت على الإيمان. والثاني- الإقرار بالله تعالى باللسان، وفي حق ذكر تحمل الرخصة أو عدم تحملها تبعًا، فلذلك ذكر هذا القسم الذي صار قسمين في حق الإيمان وغيره بعد ذلك ذكر فيه تحمل الرخصة مقصودًا.

وأما الجواب عن الشبهة الثانية فمستخرج من جواب الشبهة الأولى، وهو أنه لما استقام ذكر القسم الثاني وهو قوله " وأما الذي لا يسقط ويحتمل الرخصة" باعتبار المقابلة للقسم الأول لما أن القسم الأول وهو الزنا وغيره لا يحتمل الرخصة. وهذا القسم الثاني يحتملها كان ذكر هنا القسم الذي يتراءى التكرار بالقسم الأول بطريق النتيجة والتبعية للقسم الثاني، فلم يكن تكراره ملتفتًا إليه؛ لأن تكراره لم يكن بمقابلة القسم الأول، وهذا أيضًا جواب لعدم إيراد هذا القسم تبعًا ونتيجة للقسم الثاني والقسم الثاني مضاد للقسم الأول ومقابل له كان تبع القسم القاني أيضًا مضادًا للقسم الأول من حيث المعنى. فحينئذ لا يستقيم إيراد هذا القسم هناك. والله أعلم هذا الذي أدت إليه رويتي وحجري وانتهت إليه نهيتي وفكري من

الجواب لمثار الشبهتين المثارتين من قبلي والمزبرحتين من عندي، ومن كان عنده جواب أصح متنًا وأوسع صحنًا فليبرزه فهو في سعة في ذاك وخليق بأن يقال المئنة هناك. وقوله: (أنه يتحمل السقوط بأصله لكن دليل السقوط لما لم يوجد) وأرى لهذا تناول مال الغير عند المخمصة نظيرًا، فاحتمال السقوط هناك بأصله بأن يأذن صاحب المال بالتناول له، ولكن لما لم يعلم الإذن منه كان التناول منه قبل الإذن حرامًا في أصله فلذلك كان الكف عنه عزيمة صيانة المال المسلم، فإن وجوب صيانة مال كصيانة نفسه. ألا ترى أن لصاحب المال أن يقاتل لأجل صيانة ماله كمال أن يقاتل لأجل صيانة نفسه، فلو مات فيه مات شهيدًا، لكن دليل السقوط لم للم يوجد وعارضه أمر فوقه وهو تلف النفس بسبب صيانة المال، وإنما جعل تلف النفس فوق تلف المال وإن كان في وجوب الصيانة سواء علة ما ذكرنا؛ لأن المال في أصله خلق لوقاية النفس فكانت مرتبة الموقي أقوى من مرتبة الواقي،

فكانت حرمة تلف النفس أشد حرمة وأعظم خطرًا من حرمة تلف المال، مع أن استهلاك المال بالتناول مجبور بالضمان بقيمة المال، ففي الإكراه على المكره الآمر، وفي المخمصة على الآكل فصار كأن المال لم يهلك؛ لأن قيمة المال تقوك مقام المال. فإن قلت: بالنظر إلى هذا الدليل ينبغي أن تكون هذه الرخصة من قبيل رخصة الإسقاط كما أكل الميتة وشرب الخمر حالة الإكراه وحالة المخمصة بل أولى؛ لأن حرمتهما في نفسهما ثابتة؛ لأنه ذكر في إيمانه "التتمة" محالًا علة "المنتقي" رجل حلف لا يأكل الحرام فاضطر إلى ميتة فأكل منها حنث. وأما هاهنا فلما ضمن قيمة المال وأداها صار كأنه لم يستهلك المال لقيام قيمته مقامه، فحينئذ كان قاتلا نفسه بالامتناع عن التناول بدون استهلاك كمال الغير فيجب أن يأثم لصبره حتى قتل، والحكم على خلاف ذلك، فإنه لو امتنع حتى قتل كان شهيدًا مأجورًا. قلت: نعم كذلك غير أم جواب هذا وأمثاله مبني على ما ذكر في آخر إكراه "المبسوط" فقال: وكل أمر أحله الله في مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها والفطر في المرضى والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم، وما أمر حرمه الله تعالى ولم يجيء فيه إحلال إلا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ

بالرخصة حتى قتل فهو في سعة؛ لأن في هذا إعزاز الدين. ألا ترى أن محرما لو اضطر إلى ميتة وإلى ذبح صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة؛ لأن الميتة حلال في الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة أي لم يجيء فيه نص إحلال في صورة من الصور، فيبقى على حرمته، ومن أبقى الحرام حراما حتى يقتل كان إعزازا للدين الحق فكان شهيدا بخلاف الميتة والخمر حيث جاء نص بإحلالهما على مضطر بالاستثناء عن التحريم. وأما قوله: فلما ضمن قيمة المال وأداها صار كأنه لم يستهلك، فقلنا: لا كذلك فإن لصاحب المال في عين ماله حقا قويا فليس لغيره أن يتعرض لعين ماله بدون رضاه وإن كان هو مضمونا بقيمته فكان ضمان القيمة وأداؤها هنا بمنزلة ضمان القضاء في إفساد الصلاة المفروضة وقضائها وإفساد صوم رمضان وقضائه، فإنه وإن كان قضاؤهما قائما مقام الأداء كان الصبر على المكره بالإفساد حتى يقتل أفضل له من الإفساد. إلى هذا أشار في آخره إكراه "المبسوط"، وهذا أيضا مبني على ما ذكرنا قبل هذا من الأصل المذكور من "المبسوط" فإنه لما لم يجيء نص بالإحلال بترك الصلاة المفروضة عن وقتها وترك الصوم المفروض عن وقته كان في الصبر على القتل إعزاز لدين الله تعالى.

وإن كان قضاؤهما مشروعًا، وفي كل موضع جاء النص بتأخير تلك العبادة فلم يؤخر حتى قتل أثمًا، وقال في "المبسوط" وفي صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم لإن لم تفطر لنقتلنك فإبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورًا؛ لأنه متمسك بالعزيمة وفيما لا يفعل يظهر إظهار الصلابة في الدين فإن أفطر وسعة ذلك؛ لأن الفطر رخصة له عند الضرورة إلا أن يكون مريضًا يخاف على نفسه إن لم يأكل ولم يشرب فلم يفعل حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه فحينئذ يكون أثمًا. وكذلك لو كان مسافرًا في شهر رمضان فقيل له: لنقتلنك أو لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان أثمًا؛ لأن الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين بقوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (وذلك مثل تناول محظور الإحرام) أي وتناول مال الغير مثل تناول محظور الإحرام من غير ضرورة بالمحرم. (فكذلك هاهنا) أي في تناول مال الغير يرخص له ويضمن، ثم قوله: "وذلك مثل تناول محظور الإحرام عن ضرورة بالمحرم" يتناول الإكراه والمخمصة؛ لأن كلا منهما يضطر المضطر إلى الإقدام على قتل الصيد فلذلك

رخص له القتل وضمن جزاء الصيد. فإن قلت: يلزمم على هذا أن يكون قتل الصيد للمحرم أغلظ من قتل المسلم المحرم قتله، فإن المكره لو أكره رجلًا على قتل المسلم بالإكراه الكامل فقتله لم يجب على القاتل شيء، وهنا يجب جزاء الصيد على القاتل وإن كان هو في الإكراه الكامل ولا يتمحل في هذا بإن وجوب جزاء الصيد على المكره القاتل باعتبار أنه حق الله تعالى وجناية على إحرامه، فإن ذلك متقوض بعد وجوب الكفارة على المكره القاتل المسلم في قتل الخطأ، بل تجب الكفارة على المكره الآمر لا على القاتل على ما ذكرناه قبل هذا، مع أن وجوب الكفارة لرفع الإثم الثابت في دين القاتل وهي حق الله تعالى أيضًا فلما لم يجب على المكره القاتل شيء مع أنه لا رخصة في القتل أصلًا وإن كان في حال الإكراه الكامل وجب أن لا يجب هنا بالطريق الأولى فإن للمحرم رخصة في قتل الصيد عند الضرورة بخلاف قتل المسلم بغير حق. قلت: هذا الذي ذكره من ضمان الجزاء في الصيد جواب الاستحسان. وأما في جواب القياس فلا يجب عليه شيء كما في قتل المسلم؛ لأن القاتل في الإكراه الكامل كالآلة ولا يجب شيء على الآلة فكذا على القاتل، ولأنه لما لم يجب في قتل المسلم شيء مع أنه لا يسعه الإقدام على القتل، وهنا أولى أن لا يجب على القاتل شيء لأنه رخص له القتل هاهنا.

أما وجه الاستحسان وهو وجه الحكم المذكور في الكتاب على وجه الفرق بين قتل المسلم وبين قتل المحرم الصيد فهوأن قتل الصيد من المحرم جناية على إحرامه وهو في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره. فأما قتل المسلم جناية على المحل وهو يصلح أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى أنه في حق الإثم لما كان جناية على دينه وهو لا يصلح أن يكون آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الإثم. يوضحه أنه لما لم يجب على الآمر هنا شيء- إذا كان حلالًا- فلو لم نوجب الكفارة على القاتل كان تأثير الإكراه في الإهدار، وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وإن كانا محرمين جميعًا فعلى كل واحد منهما كفارة. أما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر بالإكراه. وأما المكره فلأنه في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح آلة لغيره. يوضحه أنه لا حاجة هنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره في إيجاب الكفارة عليه لما أن كفارة الصيد على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبًا إليه فكذلك هاهنا، وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ أو شبه عمد فإنه يكون على المكره الآمر دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص؛ لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل، ومن ضرورة نسبة

المباشرة إلى المكره أن يبقى فعل في جانب المكره المأمور، وهاهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابه على المكره المأمور بالمباشرة وعلى المكره الآمر بالتسبيب. كذا في "المبسوط" والله أعلم.

يقول العبد الضعيف حسين بن علي بن حجاج السغناقي حاطه الله عما يهمه، وساسه عما يلمه بتاريخ يوم الخميس الثامن عشر من شهر جمادى الأولى من شهور سنة أربع وسبعمائة قد اسلنطخ ما اصلخد مما سرهفت، في التامور، واخرنمس،

ما غمغم مما يمور، معبقرًا بما يلوح من المعاني الدقيقة ومزبرحا بما يجود من الكلمات الرقيقة وما انهل هطلان البيان على حقلد الكلام إلا أرى فيه العجاب، وشفى مرض الجهل، وإن كان فيه داء القلاب، وواشكت،

إلى ما انتدبوني بالاحرنجام، وسارعت إلى تحرير ما ارتبك عليهم بالارتطام، ولينت ما اطرخم من دراهس الكلام، وأوضحت ما ادلهم من عكامس الظلام، وما ادخرت مما قيل فيه من البيان أو يقال، رجاء ان يعفى عني ما عسى فيه عثرة أو يقال، وما قصرت في إيراد ما يزداد به الكتاب إيضاحًا، وما ينقضي به حاج من تأرض فيه لانسلاكه إنجاحًا،

ودغففت فيه غدق النظائر، في مضايق معضلات لا تدركها البصائر، وكثرت لها شواهد من المبسوط غير مسردق على وجه يفقهها المحذق وغير المحذق، ويضربان هذا المثل من جرا التسهيل والتخضيع، إن أهون السقي التشريع، وكتابي هذا يعرف قدره من أكرمه الله بالمدارسة، فإنه يشاح على غيره للمنافسة، لما أن هذا جامع للفوائد المزدحمة، والنظائر المرتكمة وما جووز مضيق إلا وقد أعلم بالتوسيع، وما أنهي إلى مغمم إلا وقد رسم

بالتقشيع، ولما كان أمره بكفاية كل مهم من الكتاب، وتقسيع كل مغم من الخطاب، سميته ب"الكافي" وجعلتها علمين في تفسيح المشكلات وتكشيف المعضلات، وقد وفقني الله تعالى لإتمامهما برحمته في هذا الوقت الموصوف بالادلهمام والدهر المنعوت بنوه بالاطرخمام، وأرجو أن يوفقني بفضله على عمل يسرني يوم التناد، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد. تمت كتابة هذا الشرح الموضح والأصل المربح المنجح في غرة شهر الله المبارك رمضان الميسر لعباده المدينين بالرحمة والغفران، حجة إحدى عشرة وسبعمائة بالمدينة المتبركة المأنوسة دمشق المحروسة، نقلًا عن خط مصنفه الشيخ الإمام الهمام والقزم السميدع القمقام حسام الملة والدين، شارح

مشكلات الفقه ومعضلات القوانين، المخصوص بجزائل نعم الله تعالى الدائم الباقي، حسين بن علي بن حجاج بن علي السغناقي جازاه الله عن المسلمين المستفيدين بفوائده خيرًا، وكافاه سعادات الدنيا والآخرة أحسن مكافأة وأجرًا.

§1/1