القيامة الكبرى

سليمان الأشقر، عمر

التعريفُ بالقيَامة الكبرى سيأتي يوم يبيد الحيُّ القيوم فيه الحياة والأحياء، مصداقاً لقوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26- 27] ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: 88] ، ثم يأتي وقت يعيد الله العباد ويبعثهم، فيوقفهم بين يديه ويحاسبهم على ما قدموه من أعمال، وسيلاقي العباد في هذا اليوم شيئاً عظيماً من الأهوال، ولا ينجو من تلك الأهوال إلا من أعدَّ لذلك اليوم عدته من الإيمان والعمل الصالح، ويساق العباد في ختام ذلك اليوم إلى دار القرار: الجنة أو النار. هذا اليوم هو يوم القيامة.

الفصل الأول أسماء يوم القيامة

الفصل الأول أسمَاء يَوم القيَامَة سمى الله ذلك اليوم الذي يحل فيه الدمار بهذا العالم، ثم يعقبه فيه البعث والنشور للجزاء والحساب بأسماء كثيرة، وقد اعتنى جمع من أهل العلم بذكر هذه الأسماء، وقد عدها الغزالي والقرطبي فبلغت خمسين اسماً كما يقول ابن حجر العسقلاني (¬1) . وقد ساق القرطبي هذه الأسماء مفسراً لها، ولكنه أخذ تفسيرها من كتاب (سراج المريدين) لابن العربي، وربما زاد عليه شيئاً ما في الشرح والتفسير (¬2) . وقد عدَّها بعضهم من غير تفسير، منهم ابن نجاح في كتابه ((سبيل الخيرات)) ، وأبو حامد الغزالي في ((الإحياء)) وابن قتيبة في ((عيون الأخبار)) (¬3) . وسنقتصر في هذا الحديث على ذكر أشهر هذه الأسماء، مع تعريف كل اسم تعريفاً مختصراً. ¬

(¬1) فتح الباري: (11/396) . (¬2) التذكرة للقرطبي: 233. (¬3) التذكرة: 232.

أشهر أسماء ذلك اليوم: 1- يوم القيامة: ورد هذا الاسم في سبعين آية من آيات الكتاب، كقوله تعالى: (اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ) [النساء: 87] ، وقوله: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) [الإسراء: 97] ، وقوله: (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الشورى: 45] . والقيامة في اللغة مصدر قام يقوم، ودخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب، وسميت بذلك لما يقوم فيها من الأمور العظام التي بينتها النصوص. ومن ذلك قيام الناس لرب العالمين. 2- اليوم الآخر: كقوله تعالى: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة: 177] ، وقال: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة: 232] ، وقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة: 18] . وأحياناً يسميه بالآخرة أو الدار الآخرة، كقوله: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [البقرة: 130] . وقوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) [النساء: 74] . وقوله: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا

لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [القصص: 83] ، وقوله: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64] . وسمى ذلك اليوم باليوم الآخر، لأنه اليوم الذي لا يوم بعده. 3- الساعة، قال تعالى: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85] ، وقال: (إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) [طه: 15] ، وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج: 1] . قال القرطبي: " والساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء من الزمان غير محدود، وفي العرف على جزء من أربعة وعشرين جزءاً من يوم وليلة، اللذين هما أصل الأزمنة.. وحقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف واللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه، وهو المسمى بالآن، وسميت به القيامة إما لقربها، فإن كل آت قريب. وإما أن تكون سميت بها تنبيهاً على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود. وقيل: إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة.. " (¬1) . 4- يوم البعث: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ... ) [الحج: 5] ، وقال: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذا يومُ البَعثِ) [الروم: 56] . ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: 216.

قال ابن منظور: " البعث: الإحياء من الله تعالى للموتى، وبعث الموتى نشرهم ليوم البعث " (¬1) . 5- يوم الخروج: قال تعالى: (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق: 42] وقال: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج: 43] ، وقال: (ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم: 25] . سمي بذلك لأن العباد يخرجون فيه من قبورهم عندما ينفخ في الصور. 6- القارعة: قال تعالى: (الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ) [القارعة: 1-3] وقال: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ) [الحاقة: 8] . قال القرطبي: " سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها. يقال: قد أصابتهم قوارع الدهر، أي: أهواله وشدائده، قالت الخنساء: تعرفني الدهر نهشاً وحزا ××× وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا أرادت أن الدهر بكبريات نوائبه وصغرياتها " (¬2) . 7- يوم الفصل: قال تعالى: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [الصافات: 21] . وقال: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) [المرسلات: 38] . وقال: (إِنَّ يَوْمَ ¬

(¬1) لسان العرب: مادة: (ب ع ث) (1/230) . (¬2) التذكرة للقرطبي: 209.

الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) [النبأ: 17] . سمي بذلك لأن الله يفصل فيه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، وفيما كانوا فيه يختصمون، قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [السجدة: 25] . 8- يوم الدين: قال تعالى: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ - يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ - وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار: 14-19] . وقال: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) [الصافات: 20] . والدين في لغة العرب: الجزاء والحساب. قال الشاعر: حصادك يوماً ما زرعت وإنما ××× يدان الفتى يوماً كما هو دائن سمي بذلك لأنه الله يجزي العباد ويحاسبهم في ذلك اليوم. 9- الصاخة: قال تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ) [عبس: 33] . قال القرطبي: " قال عكرمة: الصاخة النفخة الأولى " والطامة النفخة الثانية. قال الطبري: أحسبه من صخ فلان فلاناً إذا أصمه. قال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم، وإنها المسمعة، وهذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان: أصمَّ بك الناعي وإن كنت أسمعا

وقال آخر: أصمَّني سيرهم أيام فرقتهم ××× فهل سمعتم بسير يورث الصمما ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعة، تصم عن الدنيا، وتسمع أمور الآخرة " (¬1) . وقال ابن كثير: " قال البغوي: الصاخّة يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخُّ الأسماع، أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها " (¬2) . 10- الطامة الكبرى: قال تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) [النازعات: 34] . سميت بذلك لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) [القمر: 46] . قال القرطبي: " الطامَّة الغالبة. من قولك: طمَّ الشيء إذا علا وغلب. ولما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء. قال الحسن: الطامة: النفخة الثانية. وقيل: حين يسار أهل النار إلى النار " (¬3) . 11- يوم الحسرة: قال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم: 39] . سمي بذلك لشدة تحسر العباد في ذلك اليوم وتندمهم. أما الكفار فلعدم إيمانهم (حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 227. (¬2) تفسير ابن كثير: (7/217) . (¬3) تذكرة القرطبي: 227.

فِيهَا) [الأنعام: 31] ، واستمع إلى تحسر الكفار عندما يحل بهم العذاب: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 56-58] . وتبلغ الحسرة ذروتها بأهل الكفر عندما يتبرأ السادة والأتباع من متبوعيهم (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة: 167] . ويتحسر المؤمنون في ذلك اليوم بسبب عدم استزادتهم من أعمال البر والتقوى. 12- الغاشية: قال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) [الغاشية: 1] ، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأفزاعها وتغمهم، ومن معانيها أن الكفار تغشاهم النار، وتحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [العنكبوت: 55] . وقال: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41] . 13- يوم الخلود: قال تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) [ق: 34] . سمي ذلك اليوم بيوم الخلود لأن الناس يصيرون إلى دار الخلد، فالكفار

مخلدون في النار، والمؤمنون مخلدون في الجنان، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 39] ، وقال: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [آل عمران: 107] . 14- يوم الحساب: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص: 26] . وقال: (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) [غافر: 27] . سمي بذلك اليوم بيوم الحساب، لأن الله يحاسب فيه عباده، قال القرطبي: " معنى الحساب أن الله يعدِّد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة، ويعدِّد عليهم نعمه، ثم يقابل البعض بالبعض، فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوف بحكمه الذي عينه للخير بالخير، وللشرِّ بالشرِّ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما منكم أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ". 15- الواقعة: قال تعالى: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الواقعة: 1] ، قال ابن كثير: " سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها " (¬1) . وأصل وقع في لغة العرب كان ووجد. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 6/507.

16- يوم الوعيد: قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) [ق: 20] ، لأنه اليوم الذي أوعد به عباده. وحقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة. 17- يوم الآزفة: قال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) [غافر: 18] ، سميت بذلك لاقترابها، كما قال تعالى: (أَزِفَتْ الْآزِفَةُ -لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) [النجم: 57-58] . والساعة قريبة جداً. وكل آت فهو قريب وإن بَعُد مداه. والساعة بعد ظهور علاماتها أكثر قرباً. 18- يوم الجمع: قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ) [الشورى: 7] ، سميت بذلك، لأن الله يجمع فيه الناس جميعاً، كما قال تعالى: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ) [هود: 103] . 19- الحاقة: قال تعالى: (الْحَاقَّةُ - مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة: 1-2] ، سميت بذلك - كما يقول ابن كثير - لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد (¬1) . قال البخاري في صحيحه: " هي الحاقة لأن فيها الثواب وحواق الأمور. الحقة والحاقة واحد ". وقال ابن حجر في شرحه لكلام البخاري: " هذا أخذه من كلام الفراء. قال في معاني القرآن. الحاقة: القيامة. سميت بذلك لأن فيها الثواب وحواقّ الأمور. ثم قال: الحقة والحاقة ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (7/99) .

كلاهما بمعنى واحد. قال الطبري: سميت الحاقة لأن تحقّ فيها. وهي كقولهم: ليلٌ قائم. وقال غيره: سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة ولقوم النار. وقيل: لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء. يقال: حاققته فحققته، أي: خاصمته فخصمته. وقيل: لأنها حق لا شك فيه " (¬1) . 20- يوم التلاق: قال تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ) [غافر: 15] . قال ابن كثير: " قال ابن عباس: يلتقي فيه آدم وآخر ولده. وقال ابن زيد: يلتقي فيه العباد. وقال قتادة والسدي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة: يلتقي فيه أهل الأرض والسماء، والخالق والخلق، وقال ميمون بن مهران: يلتقي فيه الظالم والمظلوم. وقد يقال: إن يوم التلاق يشمل هذا كله، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشر كما قاله آخرون " (¬2) . 21- يوم التناد: قال تعالى حاكياً نصيحة مؤمن آل فرعون قومه: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ) [غافر: 32] ، سمي بذلك لكثرة ما يحصل من نداء في ذلك اليوم، فكل إنسان يدعى باسمه للحساب والجزاء، وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار، وأصحاب النار ينادون أصحاب الجنة، وأهل الأعراف ينادون هؤلاء وهؤلاء. 22- يوم التغابن: قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ) [التغابن: 9] . ¬

(¬1) فتح الباري: (11/395) . (¬2) تفسير ابن كثير: (6/130) .

سمي بذلك لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار، إذ يدخل هؤلاء الجنة، فيأخذون ما أعد الله لهم، ويرثون نصيب الكفار من الجنة. هذه هي أشهر أسماء يوم القيامة، وقد أورد بعض العلماء أسماءً أخرى غير ما ذكرناه، وهذه الأسماء أخذوها بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصاً، فقد سموه بيوم الصدر أخذاً من قوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا) [الزلزلة: 6] ، ويوم الجدال أخذاً من قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) [النحل: 111] . وسموه بأسماء الأوصاف التي وصف الله بها ذلك اليوم، فقالوا من أسمائه: يوم عسير، ويوم عظيم، ويوم مشهود، ويوم عبوس قمطرير، ويوم عقيم. ومن الأسماء التي ذكروها غير ما تقدم: يوم المآب، يوم العرض، يوم الخافضة الرافعة، يوم القصاص، يوم الجزاء، يوم النفخة، يوم الزلزلة، يوم الراجفة، يوم الناقور، يوم التفرق، يوم الصدع، يوم البعثرة، يوم الندامة، يوم الفرار. ومنها أيضاً: يوم تبلى السرائر، يوم لا تملك نفساً لنفس شيئاً، يوم يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعّا، يوم تشخص فيه الأبصار، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، يوم لا ينطقون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لا يكتمون الله حديثاً، يوم لا مرد له من الله، يوم لا بيع فيه ولا خلال، يوم لا ريب فيه. وقد يضيف إليها بعض أهل العلم أسماء أخرى، وقد يسمى الاسم بما يقاربه ويماثله، قال القرطبي: " ولا يمتنع أن تسمى بأسماء غير ما ذكر بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام والتضايق واختلاف الأقدام، والخزي،

والهوان، والذل، والافتقار، والصَّغار، والانكسار، ويوم الميقات، والمرصاد، إلى غير ذلك من الأسماء " (¬1) . السر في كثرة أسمائه: يقول القرطبي: " وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته، وكثرت أسماؤه، وهذا مهيع كلام العرب، ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه، وتأكد نفعه لديهم وموقعه، جمعوا له خمسمائة اسم، وله نظائر. فالقيامة لما عظم أمرها، وكثرت أهوالها، سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة، ووصفها بأوصاف كثيرة " (¬2) . ¬

(¬1) التذكرة: 233. (¬2) التذكرة: 214.

الفصل الثاني إفناء الأحياء

الفصل الثاني إفنَاء الأحيَاء المَبحَث الأول النفخ في الصّور هذا الكون العجيب الغريب الذي نعيش فيه، يعجُّ بالحياة والأحياء الذين نشاهدهم والذين لا نشاهدهم، وهم فيه في حركة دائبة لا تهدأ ولا تتوقف، وسيبقى حاله كذلك إلى أن يأتي اليوم الذي يُهلك الله فيه جميع الأحياء إلا من يشاء، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن: 26] ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 88] . وعندما يأتي ذلك اليوم ينفخ في الصور، فتُنهي هذه النفخة الحياةَ في الأرض والسماء (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) [الزمر: 68] . وهي نفخة هائلة مدمرة، يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيء، ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس: 49-50] .

وفي الحديث: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً (¬1) ، قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال: فيصعق ويصعق الناس " (¬2) . وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة، فقال: " ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " (¬3) . ¬

(¬1) أصغى: أمال: والليت: صفحة العنق. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الفتن: باب خروج الدجال: (4/2295) ورقمه: 2940. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الفتن، رقم (7120) ، فتح الباري: (13/82) عن أبي هريرة. ورواه في كتاب الرقاق، فتح الباري: (11/352) .

الصّور الذي ينفخ فيه الصور في لغة العرب القَرْن، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصور، ففسره بما تعرفه العرب من كلامها، ففي سنن الترمذي وسنن أبي داود، وسنن ابن حبان، ومسند أحمد، ومستدرك الحاكم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما الصور؟ قال: الصور قرن ينفخ فيه " (¬1) قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي فيه: حديث حسن صحيح. وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ (الصُوَر) ، جمع صورة، وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح. ونقل عن أبي عبيدة والكلبي أن (الصُّوْر) بسكون الواو جمع صورة، كما يقال: سور المدينة جمع سورة، والصوف جمع صوفة، وبسر جمع بسرة. وقالوا: المراد النفخ في الصور وهي الأجساد، لتعاد فيها الأرواح، وما ذكروه خطأ من وجوه: الأول: أن القراءة التي نسبت إلى الحسن البصري لا تصح نسبتها إلى الأئمة الذين يحتج بقراءتهم. الثاني: أن (صورة) تجمع على (صُوَر) ، ولا تجمع على (صُوْر) كما ادعى ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/68) ، ورقمه: 1080.

أبو عبيدة والكلبي، قال تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر: 64] ، ولم يعرف عن أحد من القراء أنه قرأها: فَأَحْسَنَ صُوْركُمْ. الثالث: أن الكلمات التي ذكروها ليست بجموع، وإنما هي أسماء جموع، يفرق بينها وبين واحدتها بالتاء. الرابع: أن هذا القول خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة، فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الصور بوق ينفخ فيه. الخامس: أن هذا القول مخالف لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث فسره بالبوق، ومخالف للأحاديث الكثيرة الدالة على هذا المعنى. السادس: أن الله تعالى قال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 68] ، فقد أخبر الحق أنه ينفخ في الصور مرتين، ولو كان المراد بالصور النفخ في الصُّوَر التي هي الأبدان لما صح أن يقال: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى) ، لأن الأجساد تنفخ فيها الأرواح عند البعث مرة واحدة (¬1) . وما ذكره بعض أهل العلم من أن الصور من ياقوتة أو من نور فلا نعلم في ذلك حديثاً صحيحاً، والله أعلم. ¬

(¬1) راجع في هذه المسألة: تذكرة القرطبي: 182، 185. فتح الباري (11/367) . لسان العرب: (2/493) .

النَافخ في الصُّور قال ابن حجر العسقلاني: " اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام، ونقل فيه الحليمي الإجماع، ووقع التصريح به في حديث وهب ابن منبه، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه، وكذا في حديث الصور الطويل " (¬1) . وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن صاحب الصور مستعد دائماً للنفخ فيه منذ أن خلقه الله تعالى، ففي مستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن طَرْف صاحب الصور منذ وُكِّل به مستعد ينظر نحو العرش، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طَرْفه، كأن عينيه كوكبان دُرِّيان " قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي (¬2) . وفي هذا الزمان الذي اقتربت فيه الساعة، أصبح إسرافيل أكثر استعداداً وتهيؤاً للنفخ في الصور، فقد روى ابن المبارك في الزهد، والترمذي في سننه، وأبو نعيم في الحلية، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ¬

(¬1) فتح الباري: (11/368) . (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/65) ، ورقمه: 1078.

ينفخ، فينفخ. قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا " وقال الترمذي: حديث حسن، وقد ذكر الشيخ ناصر رواته من الصحابة وطرقه ومتابعاته وشواهده في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) بما يدلُّ على صحته (¬1) . ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/66) ، ورقمه: 1079.

اليَوم الذي يكون فيه النفخة تقوم الساعة في يوم الجمعة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة " (¬1) . وفي حديث آخر أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم في يوم الجمعة، وفيها يُبعث العباد أيضاً، فعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصَّعْقَة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ " رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، والبيهقي في ((الدعوات الكبير)) (¬2) . وفي ((مسند الطبراني الأوسط)) ، و ((الحلية)) لأبي نعيم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عُرِضَت عليَّ الأيام، فعُرض عليَّ فيها يوم الجمعة، فإذا هي كمرآة بيضاء في وسطها نكتة سوداء، فقلت: ما هذه؟ قيل: الساعة " (¬3) . ¬

(¬1) صحيح مسلم: 854. (¬2) مشكاة المصابيح: (1/430) ، ورقمه: (1361) ، وقال - محقق المشكاة: إسناده عند أبي داود صحيح، وصححه جماعة. (¬3) رمز الشيخ ناصر للحديث بالصحة في صحيح الجامع: (4/31) ، ورقمه (3895) وأورد طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/568) ، ورقمه: (1930) .

ولما كانت الساعة تقع في هذا اليوم فإن المخلوقات في كل يوم جمعة تكون مشفقةً خائفةً إلا الإنس والجن، ففي موطأ الإمام مالك، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي والنسائي، ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه هبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة (¬1) ، يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلا الجن والإنس " (¬2) . ¬

(¬1) منتظرة قيام الساعة. (¬2) مشكاة المصابيح: (1/428) ، ورقمه (1359) وعزاه محقق المشكاة إلى الموطأ والترمذي. وقال الترمذي فيه: حسن صحيح.

كم مَرَّة ينفخ في الصُّور؟ الذي يظهر أن إسرافيل ينفخ في الصور مرتين، الأولى يحصل بها الصعق، والثانية يحصل بها البعث، قال تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 68] . وقد سمى القرآن النفخة الأولى بالراجفة، والنفخة الثانية بالرادفة، قال تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات: 6-7] . وفي موضع آخر سمى الأولى بالصيحة، وصرح بالنفخ بالصور في الثانية، قال تعالى: (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ) [يس: 49-51] . وقد جاءت الأحاديث النبوية مصرحة بالنفختين، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بين النفختين أربعون ". قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوماً؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت " (¬1) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر، فتح الباري: (11/551) ورواه مسلم في صحيحه: (4/2270) ، ورقمه 2955.

يقول: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً (¬1) ، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق، ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال: ينزل الله مطراً، كأنه الطَّلُّ، أو الظِّلُّ، (نعمان (¬2) الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " (¬3) . وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفاً: " ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، والصور قرن، فلا يبقى خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون " (¬4) . وروى أوس بن أوس الثقفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه الصعقة وفيه النفخة " (¬5) ، وقد أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (¬6) . وقد رجح هذا الذي دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي سقناها جمع من أهل العلم، منهم القرطبي (¬7) ، وابن حجر العسقلاني (¬8) . وذهب جمع من أهل العلم إلى أنها ثلاث نفخات، وهي نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث. ¬

(¬1) الليت: صفحة العنق، وإصغاؤه: إمالته. (¬2) هو نعمان بن سالم أحد رواة هذا الحديث. (¬3) رواه مسلم: (4/2258) ، ورقمه: 2940. (¬4) فتح الباري: (11/370) . (¬5) فتح الباري: (11/370) . (¬6) فتح الباري: (11/370) . (¬7) التذكرة للقرطبي: 183، 184. (¬8) فتح الباري: (11/369) .

وممن ذهب هذا المذهب ابن العربي (¬1) ، وابن تيمية (¬2) ، وابن كثير (¬3) ، والسفاريني (¬4) ، وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله ذكر نفخة الفزع في قوله: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) [النمل: 87] . كما احتجوا ببعض الأحاديث التي نصت على أن النفخات ثلاث، كحديث الصور، وهو حديث طويل، أخرجه الطبري، وفيه: " ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين " (¬5) . أما استدلالهم بالآية التي تذكر نفخة الفزع فليست صريحة على أن هذه نفخة ثالثة، إذ لا يلزم من ذكر الحق تبارك وتعالى للفزع الذي يصيب من في السماوات والأرض عند النفخ في الصور أن تجعل هذه نفخة مستقلة، فالنفخة الأولى تفزع الأحياء قبل صعقهم، والنفخة الثانية تفزع الناس عند بعثهم. يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: " ولا يلزم من مغايرة الصعق الفزع أن لا يحصلا معاً من النفخة الأولى " (¬6) ، وجاء في تذكرة القرطبي: " ونفخة الفزع هي نفخة الصعق، لأن الأمرين لازمين لها، أي: فزعوا فزعاً ماتوا منه " (¬7) . أما حديث الصور فهو حديث ضعيف مضطرب كما يقول الحجة في علم ¬

(¬1) فتاوي شيخ الإسلام: (4/260) . (¬2) فتح الباري: (11/369) تذكرة القرطبي: ص 184. (¬3) النهاية لابن كثير: (1/253) . (¬4) لوامع الأنوار البهية: (2/161) . (¬5) فتح الباري: (11/369) . (¬6) فتح الباري: (11/369) . (¬7) تذكرة القرطبي: 184.

الحديث ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى، ونقل تضعيفه عن البيهقي (¬1) . وذهب ابن حزم رحمه الله تعالى إلى: " أن نفخات يوم القيامة أربع: الأولى نفخة إماتة، والثانية نفخة إحياء، يقوم بها كل ميت، وينشرون من القبور، ويجمعون للحساب. والثالثة: نفخة فزع وصعق، يفيقون منها كالمغشي عليه، لا يموت منها أحد. والرابعة: نفخة إفاقة من ذلك الغشى " (¬2) . قال ابن حجر بعد أن حكى مقالة ابن حزم: " هذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعاً ليس بواضح، بل هما نفختان فقط، ووقع التغاير في كل واحد منهما باعتبار من يستمعهما، فالأولى يموت فيها كل من كان حياً، ويُغشى على من لم يمت ممن استثنى الله. والثانية: يعيش بها من مات، ويفيق بها من غشي عليه، والله أعلم " (¬3) . ¬

(¬1) فتح الباري: (11/369) . (¬2) فتح الباري: (6/446) . (¬3) فتح الباري: (6/446) .

الذين لا يُصعقون عند النفخ في الصّور أخبرنا الباري جلَّ وعلا أن بعض من في السماوات ومن في الأرض لا يُصعقون عندما يُصعق من في السماوات ومن في الأرض (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) [الزمر: 68] . وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق بالاستثناء في قوله: (إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ) . 1- فذهب ابن حزم إلى أنهم جميع الملائكة، لأن الملائكة في اعتقاده أرواح لا أرواح فيها، فلا يموتون أصلاً (¬1) . وهذا الذي ذهب إليه من أن الملائكة لا يموتون لا يُسلم له، فالملائكة خلق من خلق الله تبارك وتعالى، وهم عبيد مربوبون مقهورون، خلقهم، وهو قادر على إماتتهم وإحيائهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وعن غير واحد من الصحابة أنه قال: " إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة منه مثل الغشى "، وفي رواية: " إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا " فأخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون صعق الغشي، فإذا جاز عليهم صعق الغشي، جاز عليهم صعق الموت " (¬2) . ¬

(¬1) فتح الباري: (6/371) . (¬2) راجع مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/260) .

2- وذهب مقاتل وغيره إلى أنهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (¬1) . وأضاف إليه بعض أهل العلم حملة العرش (¬2) . وصحة هذا متوقف على أحاديث رووها، وأهل العلم بالحديث لا يصححون مثلها (¬3) . 3- وذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المراد بهم الذين في الجنة من الحور العين والولدان، وأضاف إليهم أبو إسحاق بن شاقلا من الحنابلة، والضحاك بن مزاحم: خزان الجنة والنار، وما فيها من الحيات والعقارب (¬4) . يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وأما الاستثناء فهو متناول لما في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت " (¬5) . 4- وقد جنح أبو العباس القرطبي صاحب ((المفهم إلى شرح مسلم)) إلى أن المراد بهم الأموات كلهم، لكونهم لا إحساس لهم، فلا يصعقون (¬6) . وما ذهب إليه أبو العباس صحيح إذا فسرنا الصعق بالموت، فإن الإنسان يموت مرة واحدة، قال تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) [الدخان: 56] . وقد عقد ابن القيم في كتابه: ((الروح)) فصلاً بيَّن فيه أن أهل العلم قد اختلفوا في موت الأرواح عند النفخ في الصور. ¬

(¬1) الروح لابن القيم: ص 50، وفتح الباري: (6/371) . (¬2) فتح الباري: (6/371) . (¬3) راجع فتح الباري: (6/371) . (¬4) الروح لابن القيم: ص 50، وفتح الباري: (6/371) . (¬5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/261) . (¬6) فتح الباري: (6/370) .

والذي رجحه ابن القيم أن موت الأرواح هو مفارقتها للأجساد، وخروجها منها، وردَّ قول الذين قالوا بفناء الأرواح وزوالها، لأن النصوص دلت على أن الأرواح تبقى في البرزخ معذبة أو منعمة (¬1) . أما إذا فسرنا الصعق بالغشى، فإن الأرواح تصعق بهذا المعنى ولا تكون داخلة فيمن استثنى الله تبارك وتعالى، فإن الإنسان قد يسمع أو يرى ما يفزعه، فيصعق، كما وقع لموسى عندما رأى الجبل قد زال من مكانه (وَخَرَّ موسَى صَعِقًا) [الأعراف: 143] . وقد جاء هذا المعنى صريحاً في بعض النصوص، ففي حديث أبي هريرة، عند البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله " (¬2) . ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة بلفط: " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري، أكذلك كان، أم بعد النفخة " (¬3) . ورواه في موضع ثالث بلفظ: " فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله " (¬4) . ¬

(¬1) الروح، لابن القيم: ص 49. (¬2) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى، فتح الباري: (6/441) . (¬3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر، فتح الباري: (8/551) . (¬4) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب النفخ في الصور، فتح الباري: (11/367) .

وهذا الحديث صريح في أن الموتى يصعقون، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين يصعق، فغيره أولى بالصعق. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يصعق صعق غشى هم الشهداء دون غيرهم من الأموات، وأضاف إليهم آخرون من الأنبياء. والسر في قَصْر هذا على الشهداء والأنبياء - كما يقول شيخ القرطبي: أحمد بن عمر -: " أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا حال الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء، وخصوصاً بموسى، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه روحه، حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء.. وإذا تقرر أنهم أحياء، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق، صعق كل من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله " (¬1) . وذهب إلى أن الشهداء والأنبياء يصعقون صعق غشي البيهقي فقال في صعق الأنبياء: " ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه، إلا في ذهاب الاستشعار، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع في صعقة الطور " (¬2) . ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 169. (¬2) فتح الباري: (11/371) .

وبناء على هذا الفقه يكون الأنبياء والشهداء من الذين يصعقون، ولا يكونون داخلين في الاستثناء، وقد نقل عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد ابن جبير أن الأنبياء والشهداء من الذين استثناهم الله (¬1) ، وعزاه ابن حجر إلى البيهقي (¬2) ، فإن كان المراد استثناؤهم من الموت فإن هذا حق، وإن كان المراد استثناؤهم من الصعق الذي يصيب الأموات كما دل عليه حديث موسى فالأمر ليس كذلك. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأولى بالمسلم التوقف في تعيين الذين استثناهم الله، لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على المراد. قال القرطبي صاحب التذكرة: " قال شيخنا أبو العباس: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل " (¬3) . وقال ابن تيمية: " وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل ما استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه.. والنبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخْبَر بكل من استثنى الله، لم يمكننا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر الله به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، والله أعلم " (¬4) . ¬

(¬1) الروح لابن القيم: 50. (¬2) فتح الباري: (11/371) . (¬3) التذكرة: ص 167. (¬4) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/261) .

ونقل القرطبي عن الحليمي أنه أبى أن يكون المستثنون هم حملة العرش أو جبرائيل وميكائيل وملك الموت، أو الولدان والحور العين في الجنة، أو موسى، ثم بيَّن سر إنكاره لهذا فقال: " أما الأول، فإن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات ولا الأرض، لأن العرش فوق السماوات كلها، فكيف يكون حملته في السماوات. وأما جبرائيل وميكائيل وملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش، وإذا كان العرش فوق السماوات، لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات. وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور العين في الجنان، والجنان وإن كان بعضها أرفع من بعض، فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء، وصَرْفُه إلى موسى لا وجه له، لأنه قد مات بالحقيقة، فلا يموت عند نفخ الصور ثانية " (¬1) . ورد قول الذين قالوا المستثنون هم الأموات: " لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها، فلا معنى لاستثنائه منها، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بفرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم " (¬2) . والذي اختاره أن الغشية التي تصيب موسى ليست هي الصعقة التي تهلك الناس وتميتهم، وإنما هي صعقة تصيب الناس في الموقف بعد البعث، على أحد الاحتمالين عنده. ونقل القرطبي عن شيخه أحمد بن عمر أنه ذهب هذا المذهب، قال ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: ص 168. (¬2) التذكرة: ص168.

القرطبي: " قال شيخنا أحمد بن عمر: وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل، بما تقدم من ذكر موته. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر، حين تنشق السماوات والأرض فتستقل الأحاديث والآيات والله أعلم " (¬1) . وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى بأن الصعقة التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، هي صعقة تكون بعد البعث، وهي المراد بقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (¬2) [الطور: 45] . والله أعلم بالصواب. ¬

(¬1) التذكرة: ص168. (¬2) الروح: ص 52.

الفصل الثالث البعث والنشور

الفصل الثالث البَعث والنشور المَبحَث الأول التعريفُ بالبَعث وَالنشور المراد بالبعث المعاد الجسماني، وإحياء العباد في يومي المعاد، والنشور مرادف للبعث في المعنى، يقال: نشر الميت نشوراً إذا عاش بعد الموت، وأنشره الله أحياه. فإذا شاء الحق تبارك وتعالى إعادة العباد وإحياءهم أمر إسرافيل فنفخ في الصور فتعود الأرواح إلى الأجساد، ويقوم الناس لرب العالمين، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) [الزمر: 68] وقد حدثنا الحق - تبارك وتعالى - عن مشهد البعث العجيب الغريب فقال: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ - إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [يس: 51-53] . وقد جاءت الأحاديث مخبرة بأنه يسبق النفخة الثانية في الصور نزول ماء من

السماء، فتنبت منه أجساد العباد، ففي صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثم ينفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ". قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله، قال: فيصعق، ويصعق الناس. ثم يرسل الله - أو قال: ينزل الله - مطراً كأنه الطَّل أو الظِّلُّ، (نعمان أحد رواة الحديث هو الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " (¬1) . وإنبات الأجساد من التراب بعد إنزال الله ذلك الماء الذي ينبتها يماثل إنبات النبات من الأرض إذا نزل عليها الماء من السماء في الدنيا، ولذا فإن الله قد أكثر في كتابه من ضرب المثل للبعث والنشور بإحياء الأرض بالنبات غبَّ نزول الغيب، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 57] . وقال في موضع آخر: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) [فاطر: 9] . ولاحظ في كلا الموضعين قوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى) ، (كَذَلِكَ النُّشُورُ) ، فإنهما يدلان على المماثلة والمشابهة بين إعادة الأجسام بإنباتها من التراب بعد إنزال الماء قبيل النفخ في الصور، وبين إنبات النبات بعد نزول الماء من السماء. ونحن نعلم أن النبات يتكون من بذور صغيرة، تكون في الأرض ساكنة ¬

(¬1) صحيح مسلم: (4/2259) ، ورقمه: 2940.

هامدة، فإذا نزل عليها الماء تحركت الحياة فيها، وضربت بجذورها في الأرض، وبسقت بسوقها إلى السماء، فإذا هي نبتة مكتملة خضراء. والإنسان يتكون في اليوم الآخر من عظم صغير، عندما يصيبه الماء ينمو نمو البقل، هذا العظم هو عجب الذنب، وهو عظم الصلب المستدير الذي في أصل العجز، وأصل الذنب. ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس في الإنسان شيء إلا بَلي، إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة ". ولمسلم طرف في عجب الذنب، قال: " إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، فيه يركب يوم القيامة، قالوا: أي عَظْم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب ". وفي رواية له وللموطأ وأبي داود والنسائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب " (¬1) . وقد دلت النصوص الصحيحة أن أجساد الأنبياء لا يصيبها البلى والفناء الذي يصيب أجساد العباد، ففي الحديث الذي يرويه أبو داود، وصححه ابن خزيمة وغيره: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " (¬2) . ¬

(¬1) جامع الأصول: (10/421) ، ورقمه: 7941. (¬2) انظر فتح الباري: (6/488) .

البَعث خَلق جَديد يعيد الله العباد أنفسهم، ولكنهم يخلقون خلقاً مختلفاً شيئاً ما عما كانوا عليه في الحياة الدنيا، فمن ذلك أنهم لا يموتون مهما أصابهم البلاء (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم: 17] ، وفي الحديث الذي يرويه الحاكم بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: " يا بني أَوْدٍ، إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تعلمون المعاد إلى الله، ثم إلى الجنة أو النار، وإقامة لا ظعن فيه، وخلود لا موت، في أجساد لا تموت " ورواه الطبراني في ((الكبير)) و ((الأوسط)) بنحوه (¬1) . ومن ذلك إبصار العباد ما لم يكونوا يبصرون، فإنهم يبصرون في ذلك اليوم الملائكة والجن، وما الله به عليم، ومن ذلك أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتغوطون ولا يتبولون. وهذا لا يعني أن الذين يبعثون في يوم الدين خلق آخر غير الخلق الذين كانوا في الدنيا، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " النشأتان نوعان تحت جنس: يتفقان ويتماثلان ويتشابهان من وجه، ويفترقان ويتنوعان من وجه آخر، ولهذا جعل المعاد هو المبدأ، وجعله مثله أيضاً. فباعتبار اتفاق المبدأ والمعاد فهو هو، وباعتبار ما بين النشأتين من الفرق فهو مثله، وهكذا كل ما أعيد، فلفظ الإعادة يقتضي المبدأ والمعاد.. " (¬2) . ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/231) ، ورقم الحديث: 1668. (¬2) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (17/253) وقد أطال الشيخ رحمه الله تعالى في بيان المعنى الذي نقلناه عنه. فارجع إليه إن شئت المزيد من الإيضاح والبيان.

أول من تنشق عنه الأرض أول من يبعث وتنشق عنه الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع.. وأول مشفع " (¬1) . وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " استب رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى محمد على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده، فلطم اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال: لا تُخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق، أو كان ممن استثنى الله عز وجل ". وفي رواية لهما: " ... فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يبعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري: أحوسب بصعقة الطور، أم بعث قبلي؟ " (¬2) . ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم: (4/1782) ورقمه: 2278. (¬2) جامع الأصول: (8/513) ، ورقمه: (6308) .

حشر الخلائق جَميعاً إلى الموقف العظيم سمى الله يوم الدين بيوم الجمع، لأن الله يجمع العباد فيه جميعاً: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ) [هود: 103] ، ويستوي في هذا الجمع الأولون والآخرون (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) [الواقعة: 49-50] . وقدرة الله تحيط بالعباد، فالله لا يعجزه شيء، وحيثما هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواز الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، وإن أكلتهم الطيور الجارحة أو الحيوانات المفترسة، أو أسماك البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض، كل ذلك عند الله سواء: (أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 148] . وكما أن قدرة الله محيطة بعباده تأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم، فلا ينسى منهم أحد، ولا يضلُّ منهم أحد، ولا يشذُّ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى، وعَدَّهم عداً (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم: 93-95] ، (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف: 47] .

وهذه النصوص بعمومها تدل على حشر الخلق جميعاً الإنس والجن والملائكة، ولا حرج على من فقه منها أن الحشر يتناول البهائم أيضاً. وقد اختلف أهل العلم في حشر البهائم، فذهب ابن تيمية - رحمه الله - إلى أن ذلك كائن. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38] وقال تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير: 5] ، وقال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ) [الشورى: 29] ، وحرف (إذا) إنما يكون لما يأتي لا محالة (¬1) . وحكى القرطبي خلاف أهل العلم في حشر البهائم ورجح أن ذلك كائن للأخبار الصحيحة في ذلك، قال القرطبي: " واختلف الناس في حشر البهائم، وفي قصاص بعضها من بعض، فروي عن ابن عباس أن حشر البهائم موتها، وقاله الضحاك. وروي عن ابن عباس في رواية أخرى أن البهائم تحشر وتبعث، وقاله أبو ذر وأبو هريرة وعمرو بن العاص، والحسن البصري وغيرهم، وهو ¬

(¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/248) .

الصحيح، لقوله تعالى: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) ، (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام: 38] . قال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم، والطير، والدواب، وكل شيء، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ: 40] ونحوه " (¬1) . ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 273.

صِفَةُ حشر العبَاد يحشر العباد حفاة عراة غرلاً، أي: غير مختونين، ففي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً " ثم قرأ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (¬1) [الأنبياء: 104] . وعندما سمعت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً " قالت: يا رسول الله، الرجال والنساء جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: " يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض " متفق عليه (¬2) . وقد جاء في بعض النصوص أن كل إنسان يبعث في ثيابه التي مات فيها، فقد روى أبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها " وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الشيخ ناصر الدين فيه: وهو كما قالا (¬3) . وقد وفق البيهقي بين هذا الحديث وسابقه بثلاثة أوجه: ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (3/75) ، ورقم الحديث: 5535. (¬2) مشكاة المصابيح: (3/57) ، ورقم الحديث: 5536. (¬3) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/234) ، ورقم الحديث: 1671.

الأول: أنها تبلى بعد قيامهم من قبورهم، فإذا وافَوْا الموقف يكونون عراة، ثم يلبسون من ثياب الجنة. الثاني: أنه إذا كسي الأنبياء ثم الصديقون، ثم من بعدهم على مراتبهم فتكون كسوة كل إنسان من جنس ما يموت فيه، ثم إذا دخلوا الجنة لبسوا من ثياب الجنة. الثالث: أن المراد بالثياب ها هنا الأعمال، أي يبعث في أعماله التي مات فيها من خير أو شر، قال الله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 26] ، وقال: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر: 4] . واستشهد البيهقي على هذا الجواب الأخير بحديث الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يبعث كل عبد على ما مات عليه " (¬1) . وحديث جابر هذا رواه مسلم في صحيحه (¬2) ، ولا يفقه من أن العبد يبعث في ثيابه التي كُفِّنَ فيها أو مات فيها، وإنما يبعث على الحال التي مات عليها من الإيمان والكفر، واليقين والشك، كما يبعث على العمل الذي كان يعمله عند موته، يدلًُّ على هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أراد الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم " (¬3) . ¬

(¬1) النهاية لابن كثير: (1/288) . (¬2) رواه مسلم: (4/2206) ، ورقم الحديث: 2878. (¬3) صحيح مسلم (2/2206) ورقم الحديث: 2879.

فالذي يموت وهو محرم يبعث يوم القيامة ملبياً، ففي صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد عن عبد الله بن عباس قال: إن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته (¬1) ناقته وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تُمِسُّوه بطيب، ولا تخمروا رأسه (¬2) ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " (¬3) . والشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب، اللون لون الدم والريح ريح المسك. ومن هنا استحب تلقين الميت لا إله إلا الله، لعله يموت على التوحيد، ثم يبعث يوم القيامة ناطقاً بهذه الكلمة الطيبة. ¬

(¬1) أي أسقطته فكسرت عنقه. (¬2) أي لا تغطوا رأسه. (¬3) مشكاة المصابيح: (1/520) ، ورقم الحديث: 1637.

كِسَوة العبَاد في يَوم المعَاد ذكرنا فيما سبق أن الله يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، كما صحت بذلك الأحاديث، ثم يكسى العباد، فالصالحون يكسون الثياب الكريمة، والطالحون يسربلون بسرابيل القطران، ودروع الجرب، ونحوها من الملابس المنكرة الفظيعة. وأول من يكسى من عباد الله نبي الله إبراهيم خليل الرحمن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل " (¬1) . قال ابن حجر: " وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحو حديث الباب وزاد: " وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر " (¬2) . وذكر العلماء أن تقديم إبراهيم على غيره بالكسوة في يوم القيامة، لأنه لم يكن في الأولين والآخرين أخوف لله منه، فتعجل له الكسوة أماناً له ليطمئن قلبه، ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب الحشر، فتح الباري: (11/377) ، ورواه أيضاً في كتاب الأنبياء، انظر فتح الباري: (6/387) . (¬2) فتح الباري: (11/384) .

ويحتمل لأنه - كما جاء في الحديث - أول من لبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر وحفظاً لفرجه من أن يماسَّ مصلاه، ففعل ما أمر به، فجزي بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة، ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه، ونزعوا ثيابه على أعين الناس، كمن يفعل بمن يراد قتله، فجزي بكسوته في يوم القيامة أول الناس على رؤوس الأشهاد، وهذا أحسنها " (¬1) . ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 209.

الفصل الرابع أرض المحشر

الفصل الرابع أرض المحشر الأرض التي يحشر العباد عليها في يوم القيامة أرض أخرى غير هذه الأرض، قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48] . وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن صفة هذه الأرض الجديدة التي يكون عليها الحشر، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي " قال سهل أو غيره: " ليس فيها معلم لأحد " (¬1) . قال الخطابي: العفر: بياض ليس بناصع. وقال عياض: العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلاً. وقال ابن فارس: معنى عفراء خالصة البياض (¬2) . والنَقِيّ: فتح النون وكسر القاف، أي: الدقيق النقي من الغش والنخال (¬3) . والمعْلم: العلامة التي يُهتدى بها إلى الطريق، كالجبل والصخرة، أو ما ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب يقبض الله الأرض، فتح الباري: (11/372) . ومسلم في كتاب صفات المنافقين، باب البعث والنشور. (4/215) ورقم الحديث: 2790 والسياق للبخاري. (¬2) فتح الباري: (11/375) . (¬3) المصدر السابق.

يضعه الناس دالاً على الطرقات، أو على قسمة الأراضي. وقد جاءت نصوص كثيرة عن عدد منا لصحابة تفيد معنى الحديث الذي سقناه هنا ورواه صاحبا الصحيحين، فقد أخرج عبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله ابن مسعود في قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) [إبراهيم: 48] . قال: تبدل الأرض أرضاً كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة، ورجاله رجال الصحيح، وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوع. وقال: الموقوف أصح (¬1) . وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ: " أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة " ورجاله موثقون أيضاً (¬2) . وعند عبد بن حميد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال: بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى، وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها. وفي حديث الصور الطويل: " تبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات، فيبسطها ويسطحها، ويمدّها مدَّ الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدَّلة، في مثل مواضعهم من الأولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان على ظهرها " (¬3) . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يبدل من الأرض إنما هو صفاتها فحسب، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمرو الموقوف عليه، قال: " إذا كان يوم ¬

(¬1) فتح الباري: (11/375) . (¬2) فتح الباري: (11/375) . (¬3) فتح الباري: (11/375) .

القيامة مُدت الأرض مد الأديم، وحشر الخلائق ". ومن ذلك حديث جابر رفعه: تمدُّ الأرض مدّ الأديم، ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه ". ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه (¬1) . ومنها حديث ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) [إبراهيم: 48] ، قال: " يزاد فيها، وينقص منها، ويذهب آكامها وجبالها، وأوديتها، وشجرها، وتمد مد الأديم العكاظي " (¬2) . الوقت الذي تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات: أفادنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوقت الذي يتم فيه هذا التبديل هو وقت مرور الناس على الصراط أو قبل ذلك بقليل، ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ) [إبراهيم: 48] ، فأين يكون الناس يا رسول الله؟ فقال: على الصراط " (¬3) . وفي صحيح مسلم أيضاً عن ثوبان أن حبراً من أحبار اليهود سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم في الظلمة دون الجسر " (¬4) ، والمراد بالجسر الصراط. ¬

(¬1) فتح الباري: (11/376) . (¬2) فتح الباري: (11/376) . (¬3) صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب البعث والنشور، (4/2150) ورقمه (2791) . (¬4) صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، (1/252) ورقمه (315) .

الفصل الخامس المكذبون بالبعث والأدلة على أنه كائن

الفصل الخامس المكذبون بالبَعث وَالأدلّة على أنَّه كائن المَبحَث الأول المكذبون بالبَعث وَالنشور كذَّب كثير من الناس قديماً وحديثاً بالبعث والنشور، وبعض الذين قالوا بإثباته صَوَّروه على غير الصورة التي أخبرت بها الرسل. وقد ذكر القرآن قول المكذبين وذمهم وكفَّرهم وتهدَّدهم وتوعَّدهم، قال تعالى: (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ) [الرعد: 5] ، وقال: (وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ - وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنعام: 29-30] . وقال: (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا - قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا - أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الإسراء: 49-51] . والنصوص في ذلك كثيرة.

وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لبيان أنواع المكذبين بالبعث والنشور من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة ومنافقي هذه الأمة فقال: " الذين كفروا من اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة، ويزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرُّون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها. وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرُّون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط، وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بيَّن الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، وردّ على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك، بياناً تاماً غاية التمام والكمال. وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرّون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرّفون الكلام عن مواضعه، هذه أمثالٌ ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام، وطائفة ممن ضاهوهم: من كاتب، أو متطبب، أو متكلم، أو متصوف، كأصحاب رسائل " إخوان الصفا " وغيرهم، أو منافق، وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان " (¬1) . وذكر رحمه الله تعالى في موضع آخر: " أن باطنية الفلاسفة يفسرون ما وعد ¬

(¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: 4/313 بتصرف يسير.

الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها، ويتألم بها " (¬1) . وحقيقة قول هؤلاء أن الله لم يكن صادقاً في إخباره عن حقائق ما في المعاد، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سمى شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الصنف من المتفلسفة المخالف لما عليه المسلمون في أمر المعاد (بأهل التخييل) ، وقال فيهم: " فأهل التخييل " هم المتفلسفة ومن سلك سبلهم، من متكلم ومتصوف ومتفقه، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بيَّن به الحق، ولا هدى الخلق، ولا أوضح الحقائق " (¬2) . ويمكننا أن نصنف المكذبين بالبعث والنشور إلى ثلاثة أصناف: الأول: الملاحدة الذين أنكروا وجود الخالق، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية، ومنهم الشيوعيون في عصرنا. وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن خالق، فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية، ومنكرون لوجود الخالص أصلاً. ولا يحسن مناقشة هؤلاء في أمر المعاد، بل يناقشون في وجود الخالق ووحدانيته أولاً ثم يأتي إثبات المعاد بعد ذلك، لأن الإيمان بالمعاد فرع الإيمان بالله. الثاني: الذين يعترفون بوجود الخالق، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25] وهم القائلون فيما حكاه الله عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ - لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النمل: 67-68] . وهؤلاء يدَّعون أنهم يؤمنون بالله، ولكنهم يَدَّعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إماتتهم، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثال، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور، وأنه لا يعجزه شيء. ومن هؤلاء طائفة من اليهود يُسمون بالصادوقيين، يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بتوراة موسى، وهم يُكذبون بالبعث والنشور والجنة والنار. الثالث: الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية. ¬

(¬1) مجموع الفتاوي: 13/238. (¬2) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: 5/31.

المَبحَث الثاني أدلّة البَعث والنشُور الإيمان بالمعاد أوجبه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ودلا عليه دلالة قاطعة، والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال اليوم الآخر، وتفاصيل ما فيه، وتقرير ذلك بالأخبار الصادقة والأمثال المضروبة للاعتبار والإرشاد، وكما ذكر القرآن الأدلة عليه، رد على منكريه، وبيَّن كذبهم وافتراءَهم. والفطرة السليمة تدلُّ عليه وتهدي إليه، ولا صحة لما يزعمه الضالون من أن العقول تنفي وقوع البعث والنشور، فإن العقول لا تمنع وقوعه، والأنبياء لا يأتون بما تحيل العقول وقوعه، وإن جاؤوا بما يحيِّر العقول، ولذلك قال علماؤنا: الشرائع تأتي بمحارات العقول، لا بمحالات العقول. وسنذكر الأدلة المثبتة للبعث والنشور التي استخلصناها من الكتاب الكريم. أولاً: إخبار العليم الخبير بوقوع القيامة: أعظم الأدلة الدالة على وقوع المعاد إخبار الحق تبارك وتعالى بذلك، فمن آمن بالله، وصدَّق برسوله الذي أرسل، وكتابه الذي أنزل فلا مناص له من الإيمان بما أخبرنا به من البعث والنشور، والجزاء والحساب، والجنة والنار. وقد نَوَّع الحق تبارك وتعالى أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس وآكد في القلوب.

1- ففي بعض المواضع يخبرنا بوقوع ذلك اليوم إخباراً مؤكداً بـ ((إن)) ، أو بـ ((إنَّ واللام)) كقوله تعالى: (إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) [طه: 15] ، وقوله: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85] . وقوله: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ) [الأنعام: 134] . وقوله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) [المرسلات: 7] . 2- وفي مواضع أخرى يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه كقوله تعالى: (اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ) [النساء: 87] . ويقسم على تحقق ذلك بما شاء من مخلوقاته كقوله: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا - فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا - فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا - فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا - إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ - وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) [الذاريات: 1-6] . وقوله: (وَالطُّورِ- وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ- فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ- وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ- وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ - وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ - إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ - مَا لَهُ مِن دَافِعٍ) [الطور: 1-8] . 3- وفي بعض المواضع يأمر رسوله بالإقسام على وقوع البعث وتحققه، وذلك في معرض الردِّ على المكذبين به المنكرين له، كقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ: 3] . وقوله: (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) [يونس: 53] . وقوله: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) [التغابن: 7] . 4- وفي مواضع أخرى يذمُّ المكذبين بالمعاد، كقوله: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ

بِلِقَاء اللهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) [يونس: 45] . وقوله: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [الشورى: 18] . وقوله: (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ) [النمل: 66] . 5- وأحياناً يمدح المؤمنين بالمعاد (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ - رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ - رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 7-9] . وقوله: (الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 1-5] . وقوله: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) [البقرة: 177] . 6- وأحياناً يخبر أنه وعد صادق، وخبر لازم، وأجل لا شك فيه (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ) [هود: 103] . (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) [لقمان: 33] ، (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ: 29-30] ، (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [الزخرف: 83] .

وقوله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) [الذاريات: 5] . 7- وفي بعض الأحيان يخبر عن مجيئه واقترابه كقوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا -وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج: 6-7] . وقوله: (أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1] ، وقوله: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1] . 8- وفي مواضع أخرى يمدح نفسه تبارك وتعالى بإعادة الخلق بعد موتهم، ويذم الآلهة التي يعبدها المشركون بعدم قدرتها على الخلق وإعادته كقوله: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) [الفرقان: 3] ، وقوله: (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [النمل: 64] . 9- وبين في مواضع أخرى أن هذا الخلق وذاك البعث الذي يُعجز العباد ويذهلهم سهل يسير عليه: (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [لقمان: 28] ، وقال: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ - بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة: 3-4] . ثانياً: الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى: استدلَّ القرآن على الخلق الثاني بالخلق الأول، فنحن نشاهد في كلِّ يوم حياة جديدة تخلق: أطفال يولدون، وطيور تخرج من بيضها، وحيوانات تلدها

أمهاتها، وأسماك تملأ البحر والنهر، يرى الإنسان ذلك كله بأم عينيه، ثم ينكر أن يقع مثل ذلك مرة أخرى بعد أن يبيد الله هذه الحياة. إن الذين يطلبون دليلاً على البعث بعد الموت يغفلون عن أن خلقهم على هذا النحو أعظم دليل، فالقادر على خلقهم، قادر على إعادة خلقهم، وقد أكثر القرآن من الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى، وتذكير العباد المستبعدين لذلك بهذه الحقيقة (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا - أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم: 66-67] . ويذكرنا القرآن في موضع آخر بالخلق الأول للإنسان، فأبونا آدم خلقه الله من تراب، فالقادر على جعل التراب بشراً سوياً، لا يعجزه أن يعيده بشراً سوياً مرة أخرى بعد موته، ويُذَكِّر أيضاً بخلقنا نحن - ذرية آدم - فإنه خلقنا من سلالة من ماء مهين، تحوَّل هذا الماء فأصبح نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم تحولت إلى مضغة.. إلى أن نفخ فيها الروح، وجعلها إنساناً سوياً. فالقادر على هذا الخلق المشاهد المعلوم، قادر على إعادة الخلق، وإحياء الموتى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) [الحج: 5-7] .

وقد أمر الله عباده باليسر في الأرض، والنظر في كيفية بدأ الخلق ليستدلوا بذلك على قدرته على الإعادة (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [العنكبوت: 19-20] . وقال: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم: 27] . ثالثاً: القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه: قبيح في نظر البشر أن يُرمى بالعجز عن حمل الشيء الحقير من يستطيع حمل العظيم، ومثله إذا غلب إنسان رجلاً شديد البأس قوياً لا يقال له: إنك لا تستطيع أن تصرع هذا الهزيل الضعيف، ومن استطاع أن يبني قصراً لا يعجزه بناء بيت صغير. ولله المثل الأعلى، فإن من جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس، فكيف يقال للذي خلق السماوات والأرض أنت لا تستطيع أن تخلق ما دونها قال تعالى: (ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا) [الإسراء: 98-99] . وقال: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ

مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس: 81] . وقال: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف: 33] . وقال: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر: 57] . قال ابن تيمية بعد أن ساق هذه النصوص: " فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم، والقدرة عليه أبلغ - وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك " (¬1) . وقال شارح الطحاوية: " أخبر تعالى أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما، يحي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى " (¬2) . رابعاً: قدرته تبارك وتعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال: الذين يكذبون بالبعث يرون هلاك العباد، ثم فناءهم في التراب، فيظنون أن إعادتهم بعد ذلك مستحيلة (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة: 10] . والمراد بالضلال في الأرض تحلل أجسادهم، ثم اختلاطها بتراب الأرض، تقول: ضل السمن في الطعام إذا ذاب وإنماع فيه. ¬

(¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: 3/299. (¬2) شرح العقيدة الطحاوية: ص 461.

وقد بين الحق تبارك وتعالى في أكثر من موضع أن من تمام ألوهيته وربوبيته قدرته على تحويل الخلق من حال إلى حال، ولذا فإنه يميت ويُحيي، ويخلق ويفني، ويخرج الحي من الميت، والميت من الحي، (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام: 95-96] . من الحبة الجامدة الصماء يُخرج الله نبتة غضة خضراء تزهر وتثمر، ثم تعطي هذه النبتة الحية حبوباً جامدة ميتة، ومن الطيور الحية يخرج البيض الميت، ومن البيض الميت تخرج الطيور المتحركة المغردة التي تنطلق في أجواز الفضاء. إن تقلب العباد: موت فحياة، ثم حياة فموت، دليل عظم على قدرة الله تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 28] . الأدلة الثلاثة الأخيرة في موضع واحد في كتاب الله: وقد ذكر الحق تبارك وتعالى الأدلة الثلاثة السابقة في موضع واحد في كتابه في معرض الرد على مكذبي البعث فقال: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ - الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ - أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ - إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس: 78-83] .

والذي ضرب المثل أحد ملاحدة العرب، وكتب السنة تذكر أن هذا الكافر الملحد جاء بعظم بالي، ثم فتته، ثم نفخه، ثم قال للرسول صلى الله عليه وسلم: " يا محمد! أتزعم أن الله يبعث هذا؟ ". فأنزل الحق تبارك وتعالى هذه الآيات معيِّراً هذا الكافر بجهله وضلاله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس: 78] ، فإنه لو كان لبيباً عاقلاً لم يسأل هذا السؤال، لأن وجوده وخلقه في هذه الحياة يجيب على السؤال، وقد وضح النص هذا المعنى الذي أجمله في البداية فقال: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس: 79] . 1- " فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، إذ كل عاقل يعلم ضرورياً أن من قدر على هذه قدر على هذه. وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله: (وهو بكل خلقٍ عليم) [يسم: 79] . فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته، ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم، كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحي العظم وهي رميم؟ " (¬1) . 2- " ثمَّ أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر، يتضمن جواباً عن سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميماً عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً، فقال: (الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية: ص 46.

فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) [يس: 80] فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ولا يستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم. 3- ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم، على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدرُ وأقدرُ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل وقية أشدُّ اقتداراً، فقال: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم) [يس: 81] ، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما، وعظم شأنهما، وكبر أجسامها، وسعتهما، وعجيب خلقهما، أقدر عليه أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى " (¬1) . 4- ثم أكد تبارك وتعالى ذلك وبيَّنه ببيان آخر، وهو أن فعله ليس بمنزلة غيره، الذي يفعل بالآلات والكلفة، والنصب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بدَّ معه من آلة ومُعِين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكوِّنه نفس إرادته، وقوله للمكوَّن: (كُنْ) ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82] . ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده، فيتصرف فيه بفعله وقوله، (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (¬2) [يس: 83] . ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية: ص460. (¬2) راجع شرح العقيدة الطحاوية: ص461.

خامساً: إحياء بعض الأموات في هذه الحياة: شاهد بعض البشر في فترات مختلفة من التاريخ عودة الحياة إلى الجثث الهامدة، والعظام البالية، بل شاهدوا الحياة تدب في بعض الجماد، وقد حدثنا الله تبارك وتعالى عن شيء من هذه المعجزات الباهرة، فمن ذلك أن قوم موسى قالوا له: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55] فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، ثم بعثهم بعد موتهم (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 55-56] . وقتل بنو إسرائيل قتيلاً واتهم كل قبيل القبيل الآخر بقتله، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة، فذبحوها بعد أن تعنتوا في طلب صفاتها، ثم أمرهم نبيهم بعد ذبحها أن يضربوا القتيل بجزء منها، فأحياه الله وهم ينظرون، فأخبر عمن قتله، (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة: 73] . وأخبرنا عن الذين فروا من ديارهم وهم ألوف خشية الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) [البقرة: 243] . وحدثنا عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فتعجب من إحياء الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فلما سئل كم لبثت؟ ظن أنه لم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم، وبعد إحيائه أحيا الله له حماره وهو ينظر إلى قدرة الله كيف

تعيد الخلق: العظام تتشكل وتتكون أولاً ثم تكسى باللحم، ثم تنفخ الروح، أما طعامه الذي كان معه قبل أن يموت فقد بقي تلك الأزمان الطويلة سليماً، لم يفسد، ولم يتعفن، وتلك آية أخرى تدل على قدرة الله الباهرة: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 259] . وإبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، فكان هذا المشهد الذي حدثنا الحق تبارك وتعالى عنه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 260] . أمره الله أن يأخذ أربعة من الطيور فيذبحها، ثم يفرق أجزاءها على عدة جبال، ثم ناداها آمراً إياها بالاجتماع، فكان كل عضو يأتي ويقع في مكانه، فلما تكامل اجتماعها نفخ الله فيها الروح، وانطلقت محلقة في الفضاء. وعيسى عليه السلام كان يصنع من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وكان يحيي الموتى بإذن الله، فقد قال لقومه: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران: 49] .

وأصحاب الكهف ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاث مائة وتسع سنين ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة، (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) [الكهف: 12] ، (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ) [الكهف: 19] . (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف: 25] . وكانت آية موسى الكبرى عصا جامدة يلقيها على الأرض فتتحول - بقدرة الله - إلى ثعبان مبين (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ) [الشعراء: 32] ، وعندن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم ألقى موسى عصاه فإذا هي تبتلع تلك العصي والحبال على كثرتها (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ) [الشعراء: 45] . سادساً: ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات: وقد ضرب الله المثل لإعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية بإحيائه الأرض بعد موتها بالنبات (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم: 50] . وقال: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) [فاطر: 9] . وقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت: 39] . وقال: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف: 11] .

سابعاً: حكمة الله تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب: تقتضي حكمة الله وعدله أن يبعث الله عباده ليجزيهم بما قدموا، فالله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه به، فمن العباد من استقام على طاعة الله، وبذل نفسه وماله في سبيل ذلك. ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفيليق بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح ولا يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ - إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ) [القلم: 35-38] إن الكفرة الضالين هم الذين يظنون أن الكون خُلق عبثاً وباطلاً لا لحكمة، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولا بين مصير التقي والفاجر (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ- أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص: 27-28] .

الفصل السادس القيامة عند الأنبياء وفي كتب أهل الكتاب

الفصل السادس القيامَة عند الأنبيَاء وَفي كتُب أهل الكتاب المَبحَث الأول اتفاق جميع الأنبيَاء على الإخبَار بالمعَاد الإيمان بالقيامة والجنة والنار من أصول الإيمان التي يشترك الأنبياء جميعاً وأتباعُهم الصادقون في معرفتها والإيمان بها، والقرآن وهو كتاب الله المحفوظ الذي لم يغيَّر ولم يبدَّل دلالة قاطعة على أن الأنبياء جميعاً عرَّفوا أممهم بالقيامة، وبَشَّروهم بالجنة، وأنذروهم بالنار، ويدل على ذلك أمور: 1- أخبر القرآن عن جميع الأشقياء الكفار أهل النار أنهم يقرّون بأن رسلهم أنذترهم باليوم الآخر: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ - وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 8-10] . وقال: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) [الزمر: 71] . فالكفار جميعاً عندما يسألون عند ورودهم النار يقرون بأن رسلهم خوفتهم لقاء ذلك اليوم، ولكنهم كفروا وكذبوا.

وهذا الذي قررته الآيات السابقة بيَّنه الله في غير موضع من كتابه، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى أن مقتضى عدله وحكمته أن لا يعذب أحداً لم تبلغه الرسالة ولم تقم عليه الحجة (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] . (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165] . من أجل ذلك عمت الرسالة كل البشر، (وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ) [فاطر: 24] . 2- عندما أهبط الله آدم على الأرض عرفه بالبعث والمعاد (قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ - قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) [الأعراف: 24-25] . وعندما غضب الله على إبليس وطرده من رحمته طلب الإمهال إلى يوم البعث فأجاب الحق طلبه (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [ص: 79-81] . 3- وأول الرسل نوح عليه السلام حذر قومه يوم القيامة، وضرب لهم الأمثال الدالة على وقوعه وحدوثه، فقد قال لقومه: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) [النوح: 17-18] . 4- وأبو الأنبياء خليل الرحمن ذكر اليوم الآخر كثيراً، ففي دعائه ربه لمكة وأهلها قال: (رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم

بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 126] . وفي دعائه لنفسه وأبيه والمؤمنين قال: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) [إبراهيم: 41] . وفي محاجته قومه فيما يعبدون بين أحقية ربه بالعبادة، لأنه يطعم ويسقي، ويميت ويحيي، ويشفي المرضى، ويغفر الذنوب في يوم الدين (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء: 79-82] ، ثم دعا ربه سائلاً إياه دخول الجنة، وأن لا يخزيه في يوم الدين (وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ - وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ - وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ - يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 85-89] . 5- وجاء في مناجاة الله لموسى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى - فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) [طه: 14-16] . وجاء في محاورة موسى لفرعون: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه: 55] . 6- وهو أنذر قومه وخوفهم لقاء ربهم فكذبوا (وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا

وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ - وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ - أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ - إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون: 33-37] . 7- وشعيب قال لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت: 36] . 8- وجاء في دعاء يوسف ربه: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101] . 9- وبعض الرسل الذين حكى الله مقالتهم في كتابه يعرفون البعث والنشور، ويبشرون بالجنة، ويحذرون من النار، فذو القرنين عندما بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قوماً، فقال الله له: (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) [الكهف: 86-88] . ومؤمن آل فرعون كان موقناً بالبعث عارفاً به، ولا تختلف معرفته به عن معرفتنا، وقد حذر قومه من ذلك اليوم تحذيراً فيه تفصيل وبيان، ومما قاله

لهم: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ - يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [غافر: 32-33] . وقال أيضاً: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ - مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ - وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) [غافر: 39-41] . وقال: (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر: 43] . وسحرة فرعون عندما رأوا الآية الباهرة التي جاء بها موسى خروا ساجدين، وسبحوا مؤمنين، فتهددهم فرعون بالعذاب الأليم، فاعتصموا بالله ربهم، ولم يلتفتوا إلى تهديد أو وعيد، وأجابوا قائلين: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى - وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى) [طه: 73-76] .

المَبحَث الثاني نظرة في نصوص اليَوم الآخِر في كتب أهل الكتاب لا شك أن الكتب السماوية التي أنزلها الحق تبارك وتعالى كانت تزخر نصوصها بذكر اليوم الآخر، والتخويف منه، والتبشير بما أعده الله للمؤمنين به في جنات النعيم، والتحذير من النار وأهوال القيامة، إلا أن هذه الكتب طرأ عليها تحريف كثير، وذهب كثير من نصوصها التي تتعرض لليوم الآخر. 1- ففي التوراة التي تنسب إلى موسى لا نجد إلا نصاً واحداً يصرح بيوم القيامة، وهو في التوراة السامرية صريح للغاية، ولكنه في التوراة العبرية يحتمل معنيين، ففي سفر تثنية الاشتراع، الإصحاح الثاني والثلاثون (34-35) من التوراة السامرية: " أليس هو مجموعاً عندي مختوماً في خزائني، إلى يوم الانتقام والمكافأة، وقت تزل أقدامهم ". وجاء النص في التوراة العبرانية هكذا: " أليس ذلك مكنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني، لي النقمة والجزاء في وقت تزل أقدامهم ". فنص السامرية يدل على أن الفصل إنما يكون في يوم القيامة الذي سماه يوم الانتقام والمكافأة. أما نص العبرانية فإنه يجيز أن يكون الانتقام في الدنيا، ويجيز أن يكون في الآخرة، ولذلك فإن الصادوقيين من اليهود الذين لا يؤمنون إلا بتوراة موسى العبرية لا يؤمنون بالبعث والنشور، لعدم وجود دلالة تدل على البعث والنشور.

أما أسفار الأنبياء الأخرى في التوراة ففيها بعض النصوص التي تُصرِّح بالبعث والنشور، وكذلك الأناجيل. 2- ففي سفر دانيال: " كثيرون من الراقدين تحت التراب يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار، والازدراء الأبدي " (¬1) . 3- وفي سفر المزامير يذكر الحشر إلى النار فيقول: " مثل الغنم إلى النار يساقون، الموت يرعاهم، ويسودهم المستقيمون غداة، وصورتهم تبلى، والهاوية مسكن لهم " (¬2) . 4- وفي إنجيل لوقا إشارة إلى عذاب القبر، فقد جاء فيه: " ومات الغني ودفن، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب " (¬3) فالمقبور من أهل الفجور يكون في العذاب ويرى مقعده من النار، والهاوية هي النار. 5- وفي إنجيل متى " فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك، خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تلقى في النار الأبدية ولك يدان أو رجلان " (¬4) . ومن أكثر الكتب التي تحدثت عن الجنة والنار إنجيل برنابا، فقد تحدث عن أهل الجنة، وأنهم يأكلون ويشربون، ولكنهم لا يتبولون ولا يتغوطون، لأن ¬

(¬1) الإصحاح 12 من سفر دانيال. (¬2) الفقرة 5 من المزمور الخامس والخمسين. (¬3) الفقرة 22 من الإصحاح السادس من إنجيل لوقا. (¬4) الفقرة 8 من الإصحاح الثامن عشر من إنجيل متى.

طعامهم وشرابهم ليس فيه خبث ولا فساد، ولكن النصارى يكذبون بهذا الإنجيل الذي ظهر أخيراً في عصرنا هذا. وبعض اليهود يؤمنون بالبعث والنشور وهؤلاء يسمون بحزب الكتبة، والحزب الآخر وهم ((الصادوقيون)) لا يؤمنون بالبعث والخلود في الجنة والنار، وقد ذكر إنجيل ((مَتَّى)) أن الطائفة المكذبة بالقيامة جاؤوا إلى عيسى وجادلوه في القيامة: " في ذلك اليوم جاء إليه صادوقيون، الذين يقولون لا قيامة " (¬1) وأجاب عيسى عن سؤال أحد تلامذته القائل: " أيذهب جسدنا الذي لنا إلى الجنة؟ " فقال له عيسى عليه السلام: " احذر يا بطرس من أن تصير صدوقياً، فإن الصدوقيين يقولون: إن الجسد لا يقوم أيضاً، وإنه لا توجد ملائكة، لذلك حرم على جسدهم وروحهم الدخول في الجنة ". والنصارى يعتقدون أن الذي ينعم أو يعذب في القيامة هو الروح فحسب، وقال بقولهم بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام من الفلاسفة والفرق الباطنية الضالة. ¬

(¬1) فقرة 23 من الإصحاح 22 من إنجيل متى.

الفصل السابع أهوال يوم القيامة

الفصل السابع أهَوال يوم القيَامَة المَبحَث الأول الدلائل عَلى عظَم أهوال ذلك اليَوم يوم القيامة يوم عظيم أمره، شديد هوله، لا يلاقي العباد مثله، ويدل على عظم هوله أمور: الأول: وصفُ الله لذلك اليوم بالعظم، وحسبنا أن ربنا وصفه بذلك، ليكون أعظم مما نتصور، وأكبر مما نتخيل (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ - يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4-6] ، ووصفه في موضع آخر بالثقل، وفي موضع ثالث بالعسر، (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) [الدهر: 27] ، (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر: 9-10] . الثاني: الرعب والفزع الذي يصيب العباد في ذلك اليوم، فالمرضع التي تفدي وليدها بنفسها تذهل عنه في ذلك اليوم، والحامل تسقط حملها، والناس يكون حالهم كحال السكارى الذين فقدوا عقولهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ

شَدِيدٌ) [الحج: 1-2] . ولشدة الهول تشخص أبصار الظلمة في ذلك اليوم، فلا تطرف لشدة الرعب، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، ولشدة الخوف تصبح أفئدتهم خالية لا تعي شيئاً ولا تعقل شيئاً (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم: 42-43] . وترتفع قلوب الظالمين لشدة الهول إلى حناجرهم، فلا تخرج، ولا تستقر في مكانها (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) [غافر: 18] . ومعنى كاظمين، أي: ساكتين لا يتكلمون. ووصف في موضع آخر ما يصيب القلوب والأبصار في ذلك اليوم فقال: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37] ، وقال: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ - أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) [النازعات: 8-9] . وحسبك أن تعلم أن الوليد الذي لم يرتكب جرماً يشيب شعر رأسه لشدة ما يرى من أهوال (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا - السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) [المزمل: 17-18] . الثالث: انقطاع علائق الأنساب في يوم القيامة، كما قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) [المؤمنون: 101] ، فكل إنسان في ذلك

اليوم يهتم بنفسه، ولا يلتفت إلى غيره، بل إن الإنسان يفر من أحب الناس إليه، يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبَنيه، كما قال تعالى: (فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ - يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 33-37] . وقال في موضع آخر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) [لقمان: 33] ، وقال: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة: 48] . الرابع: استعداد الكفار في يوم الدين لبذل كل شيء في سبيل الخلاص من العذاب، فلو كانوا يملكون ما في الأرض لافتدوا به (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ) [يونس: 54] . بل لو كان للكافر ضعف ما في الأرض لافتدى به (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ) [الرعد: 18] ، بل هو على استعداد أن يبذل ما عنده ولو كان ملء الأرض ذهباً، وعلى احتمال أن كان الأمر كذلك، فإن الله لا يقبل منه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) [آل عمران: 91] . وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان

يقول: " يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك " (¬1) . ويصل الحال بالكافر في ذلك اليوم أن يتمنى لو دفع بأعز الناس عنده في النار لينجو هو من العذاب (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ - وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ - كَلَّا إِنَّهَا لَظَى) [المعارج: 11-15] . الخامس: ويدلك على هول ذلك اليوم وشدته: طوله، قال تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا - وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج: 4-7] . وسياق الآيات دلالة واضحة على أن المراد به يوم القيامة، وقد ثبت بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه يوم القيامة، وبذلك قال الحسن، والضحاك، وابن زيد (¬2) . ولطول ذلك اليوم يظن الناس في يوم المعاد أنهم لم يلبثوا في الحياة الدنيا إلا ساعة من نهار، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ) [يونس: 45] ، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: " يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة ويحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ..) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، فتح الباري: (11/400) . (¬2) النهاية لابن كثير: (1/323) .

كقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات: 46] . وقال تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) [طه: 104] ، وقال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [الروم: 55] ، وهذا دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة، كقوله: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ - قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون: 112-114] (¬1) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (3/505) .

بَعض معَالم أهَوال القيَامَة (الجزء الأول) يحدثنا القرآن عن أهوال ذلك اليوم التي تَشْدَه الناس، وتشدُّ أبصارهم، وتملك عليهم نفوسهم، وتزلزل قلوبهم. ومن أعظم تلك الأهوال ذلك الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها، والسماء ونجومها وشمسها وقمرها. يحدثنا ربنا أن الأرض تزلزل وتدكُّ، وأن الجبال تُسَيَّر وتنسف، والبحار تُفجّر وتُسجَّر، والسماء تتشقق وتمور، والشمس تُكوَّر وتذهب، والقمر يخسف، والنجوم تنكدر ويذهب ضوؤها، وينفرط عقدها. وسأذكر بعض النصوص التي تصور وقائع تلك الأهوال ثم أذكر ما يحدث لكل واحد من العوالم العظيمة في ذلك اليوم. المطلب الأول قبض الأرض وطي السماء يقبض الحق تبارك وتعالى الأرض بيده في يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه، كما قال تبارك وتعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] . وقد أخبرنا في موضع آخر عن كيفية طيه للسماوات فقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 104] . قال ابن كثير: " والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة، قاله علي بن أبي طلحة، والعوفي عنه، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد، واختاره ابن جرير، لأنه المعروف في اللغة، فعلى هذا فيكون معنى الكلام يوم تطوى السماء كطي السجل للكتاب، أي على الكتاب، بمعنى المكتوب " (¬1) . وقد جاءت الأحاديث الصحيحة دالة على مثل ما دلت عليه النصوص القرآنية، وهي ما يقوله الحق تبارك وتعالى بعد قبضه الأرض، وطيه السماء، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض " (¬2) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله - وفي رواية: يأخذهن بيده الأخرى - ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ " (¬3) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (4/602) . (¬2) مشكاة المصابيح: (3/53) ، ورقمه: 5522. (¬3) مشكاة المصابيح: (3/53) ، ورقمه: 5523.

وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] (¬1) . وهذا القبض للأرض والطي للسماوات يقع بعد أن يفني الله خلقه، وقيل: إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله عليها، واختاره أبو جعفر النحاس، قال: والقول الصحيح عن ابن مسعود، وليس هو مما يؤخذ بالقياس، ولا بتأويل. وقال القرطبي: " والقول الأول أظهر، لأن المقصود إظهار انفراده بالملك، عند انقطاع دعوى المدعين، وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، وكل جبار ومتكبر وملكه، وانقطعت نسبهم ودعاويهم، وهذا أظهر " (¬2) . المطلب الثاني دك الأرض ونسف الجبال يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن أرضنا الثابتة، وما عليها من جبال صم راسية تحمل في يوم القيامة عندما ينفخ في الصور فتدك دكة واحدة: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى: (لما خلقت بيديَّ) [ص: 75] ، فتح الباري: (13/393) . (¬2) تذكرة القرطبي: 172.

نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ - وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً - فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الحاقة: 13-15] ، (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر: 21] ، وعند ذلك تتحول هذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم، كما قال تعالى: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا) [المزمل: 14] ، أي تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء، والرمل المهيل: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده، يقال: أهلت الرمل أهيله هيلاً، إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه. وأخبر في موضع آخر أن الجبال تصبح كالعهن، والعهن هو الصوف، كما قال تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ) [المعارج: 9] ، وفي نص آخر مثلّها بالصوف المنفوش: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) [القارعة: 5] . ثم إن الحق تبارك وتعالى يزيل هذه الجبال عن مواضعها، ويسوّي الأرض حتى لا يكون فيها موضع مرتفع، ولا منخفض، وعبّر القرآن عن إزالة الجبال بتسييرها مرة، وبنسفها أخرى (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ) [التكوير: 3] ، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ: 20] . وقال في نَسْفِه لها: (وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ) [المرسلات: 10] . ثم بين الحق حال الأرض بعد تسيير الجبال ونسفها (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً) [الكهف: 47] ، أي ظاهرة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، كما قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا - فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا - لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه: 105-107] .

المطلب الثالث تفجير البحار وتسجيرها أما هذه البحار التي تغطي الجزء الأعظم من أرضنا، وتعيش في باطنها عوالم هائلة من الأحياء، وتتهادى فوقها السفن ذاهبة آيبة، فإنها تفجر في ذلك اليوم، وقد علمنا في هذا العصر الهول العظيم الذي يحدثه انفجار الذرات الصغيرة التي هي أصغر من ذرات الماء، فكيف إذا فجرت ذرات المياه في هذه البحار العظيمة، عند ذلك تسجر البحار، وتشتعل ناراً، ولك أن تتصور هذه البحار العظيمة الهائلة وقد أصبحت مادة قابلة للاشتعال، كيف يكون منظرها، واللهب يرتفع منها إلى أجواز الفضاء، قال تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) [الإنفطار: 3] ، وقال: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) [التكوير: 6] . وقد ذهب المفسرون قديماً إلى أن المراد بتفجير البحار، تشقق جوانبها وزوال ما بينها من الحواجز، واختلاط الماء العذب بالماء المالح، حتى تصير بحراً واحداً (¬1) ، وما ذكرناه أوضح وأقرب، فإن التفجير بالمعنى الذي ذكرناه مناسب للتسجير، والله أعلم بالصواب. المطلب الرابع موران السماء وانفطارها أما سماؤنا الجميلة الزرقاء التي ننظر إليها فتنشرح صدورنا، وتسر قلوبنا، فإنها تمور موراناً، وتضطرب اضطراباً عظيماً (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا) [الطور: 9] . ¬

(¬1) تفسير الألوسي: (30/63) .

ثم تنفطر، وتتشقق (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ) [الانفطار: 1] ، (إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ - وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 1-2] . وعند ذلك تصبح ضعيفة واهية، كالقصر العظيم، المتين البنيان، الراسخ الأركان، عندما تصيبه الزلازل، تراه بعد القوة أصبح واهياً ضعيفاً متشققاً، (وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) [الحاقة: 16] . أما لون السماء الأزرق الجميل فإنه يزول ويذهب، وتأخذ السماء في التلون في ذلك اليوم كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء، وتارة صفراء، وأخرى خضراء، ورابعة زرقاء، كما قال تعالى: (فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) [الرحمن: 37] ، وقد نقل عن ابن عباس أن السماء تكون في ذلك اليوم كالفرس الورد، والفرس الورد - كما يقول البغوي: تكون في الربيع صفراء، وفي الشتاء حمراء، فإذا اشتد البرد تغير لونها، وقال الحسن البصري في قوله: (وردةً كالدهان) أي تكون ألواناً (¬1) . بَعض معَالم أهَوال القيَامَة (الجزء الثاني) المطب الخامس تكوين الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم أما هذه الشمس التي نراها تشرق كل صباح، فتغمر أرضنا بالضياء، وتمدنا بالنور والطاقة التي لا غنى عنها لأبصارنا وأبداننا، وما يدب على الأرض من ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (6/494) .

أحياء، وما ينمو فيها من نبات، فإنها تجمع وتكوَّر، ويذهب ضوؤها، كما قال تعالى: (إذا الشمس كورت) [التكوير: 1] ، والتكوير عند العرب: جمع الشيء بعضه على بعض، ومنه تكوير العمامة، وجمع الثياب بعضها على بعض، وإذا جمع بعض الشمس على بعض، ذهب ضوؤها ورمى بها. أما القمر الذي نراه في أول كل شهر هلالاً، ثم يتكامل ويتنامى، حتى يصبح بدراً جميلاً بديعاً، يتغنى بجماله الشعراء، ويؤنس المسافرين حين يسيرون في الليل، فإنه يخسف ويذهب ضوؤه (فإذا برق البصر - وخسف القمر) [القيامة: 7-8] . أما تلك النجوم المتناثرة في القبة السماوية الزرقاء، فإن عقدها ينفرط، فتتناثر وتنكدر (وإذا الكواكب انتثرت) [الانفطار: 2] ، (وإذا النجوم انكدرت) [التكوير: 2] ، والانكدار، الانتثار، وأصله في لغة العرب: الانصباب (¬1) . المطلب السادس تفسير القرطبي للنصوص الواصفة لأهوال يوم القيامة قال القرطبي: " روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ: (إذا الشمس كورت) [التكوير: 1] ، (إذا السماء انفطرت) [الانفطار: 1] ، (إذا السماء انشقت) [الانشقاق: 1] . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (7/221) .

قال: هذا حديث حسن (¬1) . وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة، لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها، وتكور شمسها وانكدار نجومها، وتناثر كواكبها، إلى غير ذلك من أفزاعها وأهوالها، وخروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم، بعد نشر صحفهم، وقراءة كتبهم، وأخذها بأيمانهم وشمائلهم، أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه. قال الله تعالى: (إذا السماء انشقت) [الانشقاق: 1] . وقال (إذا السماء انفطرت) [الانفطار: 1] ، وقال: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ) [الفرقان: 25] ، فتراها واهية منفطرة متشققة، كقوله تعالى: (وفتحت أبواب السماء فكانت أبواباً) [النبأ: 19] ، ويكون الغمام سترة بين السماء والأرض، وقيل إن الباء بمعنى عن، أي: تشقق عن سحاب أبيض، ويقال: انشقاقها لما يخلص إليها من حر جهنم، وذلك إذا بطلت المياه، وبرزت النيران، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن، وتتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم، ورفعه. وقد قيل: إن السماء تتلون، فتصفر، ثم تحمر، أو تحمر، ثم تصفر، كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة، فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة، ثم إلى الغبرة، قاله الحليمي. وقوله تعالى: (إذا الشمس كورت) [التكوير: 1] ، قال ابن عباس رضي الله عنه: ¬

(¬1) حديث صحيح رواه الترمذي والحاكم وأحمد، انظر صحيح الجامع: (3/301) ورقم الحديث: 6191.

تكويرها إدخالها في العرش. وقيل: ذهاب صفوها، قاله الحسن وقتادة، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد. وقال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خثيم: كورت رمي بها، ومنه: كورته، فتكور،. أي: سقط. قلت: وأصل التكوير الجمع، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها، أي: لاثها، وجمعها، فهي تكور، ثم يمحو ضوءها ثم يرمى بها، والله أعلم. وقوله تعالى: (وإذا النجوم انكدرت) [التكوير: 2] ، أي: انتشرت، قيل: تتناثر من أيدي الملائكة، لأنهم يموتون، وفي الخبر أنها معلقة بين السماء والأرض بسلاسل بأيدي الملائكة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: انكدرت تغيرت، وأصل الانكدار الانصباب، فتسقط في البحار، فتصير معها نيراناً، إذا ذهبت المياه. وقوله: (وإذا الجبال سيرت) [التكوير: 3] ، هو مثل قوله: (ويوم نسير الجبال) [الكهف: 47] ، أي: تحول عن منزلة الحجارة، فتكون كثيباً مهيلاً، أي: رملاً سائلاً، وتكون كالعهن، وتكون هباء منبثاً، وتكون سراباً، مثل السراب الذي ليس بشيء. وقيل: إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم، كما تصير السماء من حرها كالمهل. قال الحليمي: وهذا والله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء والأرض، فإذا ارتفعت، وزيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء والأرض ما ذكر. وقوله: (وإذا العشار عطلت) [التكوير: 4] أي: عطلها أهلها، فلم تحلب من

الشغل بأنفسهم. والعشار: الإبل الحوامل، واحدها عشر، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعدما تضع، وإنما خص العشار بالذكر، لأنها أعز ما يكون على العرب، فأخبر أنها تعطل يوم القيامة. ومعناه أنهم إذا قاموا من قبورهم، وشاهد بعضهم بعضاً ورأوا الوحوش والدواب محشورة، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم، لم يعبؤوا بها، ولم يهمهم أمرها، ويحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملَّكهم إياها في الدنيا، وأهل العشار يرونها، فلا يجدون إليها سبيلاً. وقيل: العشار: السحاب، يعطل مما يكون فيه، وهو الماء، فلا يمطر. وقيل: العشار الديار، تعطل فلا تسكن. وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع، والقول الأول أشهر وعليه من الناس الأكثر. وقوله: (وإذا الوحوش حشرت) [التكوير: 5] أي: جمعت، والحشر الجمع، وقد تقدم. وقوله (وإذا البحار سجرت) [التكوير: 6] أي: أوقدت، وصارت ناراً. رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه. وقال قتادة: غار ماؤها، فذهب. وقال الحسن والضحاك: فاضت. قال ابن أبي زمنين: سجرت حقيقته ملئت، فيفضي بعضها إلى بعض، فتصير شيئاً واحداً. وهو معنى قول الحسن. ويقال: إن الشمس تلف، ثم تلقى في البحار، فمنها تحمى، وتنقلب ناراً. قال الحليمي: ويحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها، لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة، فإذا كورت، وألقيت في البحر، فصارت ناراً، ازدادت امتلاءً.

وقوله: (وإذا النفوس زوجت) [التكوير: 7] تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها: اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى، والمجوس بالمجوس، وكل من كان يعبد من دون الله شيئاً يلحق بعضهم ببعض، والمنافقون بالمنافقين، والمؤمنون بالمؤمنين. وقال عكرمة: المعنى تقرن بأجسادها، أي: ترد إليها، وقيل: يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان. يقرن المؤمنون بالحور العين، والكافرون بالشياطين. وقوله: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ) [التكوير: 8] يعني بنات الجاهلية، كانوا يدفنوهن أحياء، لخصلتين: إحداهما: كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به. الثانية: مخافة الحاجة والإملاق، وسؤال الموءودة على وجه التوبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لم ضربت؟ وما ذنبك؟ وقال الحسن: أراد الله أن يوبخ قاتلها، لأنها قتلت بغير ذنب. وبعضهم يقرأ: وإذا الموءودة سألت، تعلق الجارية بأبيها، فتقول: بأي ذنب قتلتني؟ وقيل: معنى سئلت، يسأل عنها كما قال: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34] . وقوله: (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) [التكوير: 10] أي: للحساب وسيأتي. وقوله: (وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ) [التكوير: 11] قيل: معناه طويت، كما قال الله تعالى: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء: 104] ، أي: كطي الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى (على) ، يقال: كشطت السقف، أي: قلعته، فكان

المعنى: قلعت، فطويت والله أعلم، والكشط والقشط سواء، وهو القلع، وقيل: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في الصحابة من اسمه سجل. وقوله: (وإذا الجحيم سعرت) [التكوير: 12] ، أي: أوقدت. وقوله: (وإذا الجنة أزلفت) [التكوير: 13] أي: قربت لأهلها، وأدنيت. (علمت نفس ما أحضرت) [التكوير: 14] أي: من عملها، وهو مثل قوله: (علمت نفس ما قدمت وأخرت) [الانفطار: 5] . ومما قيل في وصف أهوال ذلك اليوم شعراً (¬1) : مثِّل لنفسك أيها المغرور ××× يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت ××× حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ××× وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا البحار تفجرت من خوفها ××× ورأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الجبال تقلعت بأصولها ××× فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت ××× خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ××× وتقول للأملاك أين تسير وإذا تقاة المسلمين تزوجت ××× من حور عين زانهن شعور وإذا الموءودة سئلت عن شأنها ××× وبأي ذنب قتلها ميسور وإذا الجليل طوى السماء بيمينه ××× طي السجل كتابه المنشور ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: 214.

وإذا الصحائف نشرت فتطايرت ××× وتهتكت للمؤمنين ستور وإذا السماء تكشطت عن أهلها ××× ورأيت أفلاك السماء تدور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ××× فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت ××× لفتى على طول البلاء صبور وإذا الجنين بأمه متعلق ××× يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جنينه ××× كيف المصر على الذنوب دهور المطلب السابع المحاسبي يصور أهوال ذلك اليوم يقول الحارث المحاسبي رحمه الله واصفاً ما يقع في ذلك اليوم من أهوال: " حتى إذا تكاملت عدة الموتى، وخلت من سكانها الأرض والسماء، فصاروا خامدين بعد حركاتهم، فلا حس يسع، ولا شخص يُرى، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم. فتوهم كيف وقوع الصوت في مسامعك وعقلك، وتفهم بعقلك بأنك تدعى إلى العرض على الملك الأعلى، فطار فؤادك، وشاب رأسك للنداء، لأنها صيحة واحدة للعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء - فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك، قائماً على قدميك، شاخصاً ببصرك نحو النداء، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة، وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم. فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم، فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق، عراة

حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي، والخلائق مقبلون نحوه، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت، ساعٍ بالخشوع والذلة، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة، قد نزع الملك من ملوك الأرض، ولزمتهم الذلة والصغار، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله عز وجل في أرضه. ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطيئة أصابتها، فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور. وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكّسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار، وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء، واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور. حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها، واستووا جميعاً في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم، وطمست الشمس والقمر، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها. فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم، وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك، ثم تمزقت

وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة والملائكة قيام على أرجائها وهي حافات ما يتشقق ويتفطر، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة كما قال الجليل الكبير: (فكانت وردةً كالدهان) [الرحمن: 37] ، (يوم تكون السماء كالمهل - وتكون الجبال كالعهن) [المعارج: 8-9] . فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه. فتوهم تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم منكسين لذل العرض على الله عز وجل. فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم، ومسألتهم إياهم: أفيكم ربنا؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض: سبحان ربنا، ليس هو بيننا، ولكنه آتٍ من بعد، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذل يومهم. فتوهمهم، وقد تسربلوا بأجنحتهم، ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم، ثم كل شيء على ذلك وكذلك إلى السماء السابعة، كل أهل سماء مضعفين بالعدد، وعظم الأجسام، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً. حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين، ولا

ظِلَّ لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فمن بين مستظل بظل العرش، وبين مضحو بحر الشمس، قد صهرته بحرها، واشتد كربه وقلقه من وهجها، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت، فدفع بعضهم بعضاً، وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء , حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه، وبعضهم حقويه، وبعضهم إلى شحمه أذنيه، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه. عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل (وقال مرة: إن الكافر) ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام " [متفق عليه] . وعن عبد الله رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم، (وقال علي: من طول القيام. قالا جميعاً) حتى يقول: رب أرحني ولو إلى النار. وأنت لا محالة أحدهم، فتوهم نفسك راجعة لكربك وقد علاك العرق، وأطبق عليك الغم، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم. عن قتادة أو كعب، قال: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) [المطففين: 6] . قال: " يقومون مقدار ثلاثمائة عام، وقال سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة،

حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش، واحترقت أجوافهم من الجوع انصرف بهم إلى النار، فسقوا من عين آنية قد آن حرها، واشتد نفحها. فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به، كلَّم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم ووقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم، كلهم يقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل، وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها، وكذلك يقول الله عز وجل (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) [النحل: 111] . فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم، منفرد كل واحد منهم بنفسه، ينادي نفسي نفسي، فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي. فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله - عز وجل - وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل، كل ينادي: نفسي نفسي، شفقاً من شدة غضب ربه، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك، وبحزنك وبخوفك؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا من اشتغالهم لأنفسهم، أتوا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه، فأذن له، ثم خر لربه

ساجداً، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم (¬1) . ¬

(¬1) كتاب التوهم والأهوال للحارث بن أسد المحاسبي: ص5.

الفصل الثامن أحوال الناس في يوم القيامة

الفصل الثامن أحوال الناس في يوم القيامة تختلف أحوال الناس في ذلك اليوم اختلافاً بيناً، وسنعرض هنا لثلاثة: الكفار، وعصاة الموحدين، والأتقياء الصالحين. حال الكفار المطلب الأول ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم الذي يتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي تحدثنا عن مشاهد القيامة يرى الأهوال العظام والمصائب الكبار التي تنزل بالكفرة المجرمين في ذلك اليوم العظيم. وسنعرض في هذا المبحث بعض المشاهد التي يصفها القرآن الكريم. 1- قال تعالى مبيناً حال الكفار عند خروجهم من القبور: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج: 43-44] .

والأجداث هي القبور، والنص يصور سرعة خروجهم من القبور في ذلك اليوم منطلقين إلى مصدر الصوت كأنهم يسرعون إلى الأنصاب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنهم اليوم لا ينطلقون فرحين أشرين بطرين كما كان حالهم عندما كانوا يقصدون الأنصاب، بل هم أذلاء، أبصارهم خاشعة، والصغار يعلوهم، على النعت الذي كان يعدهم الله به في الدنيا. 2- وقال تعالى: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر: 6- 8] . وهذه الآية تنص على ما نصت عليه الآيات السابقة من خروجهم خاشعي الأبصار أذلاء، مسرعين إلى مصدر الصوت الذي يناديهم ويدعوهم، وتزيدنا بياناً بإعطائنا صورة حية لمشهد البعث والنشور، فحالهم في ذلك اليوم في حركتهم وانطلاقتهم وهم يخرجون مسرعين كحال الجراد المنتشر، ويفيدنا النص أيضاً اعتراف الكفار في ذلك اليوم بصعوبة موقفهم (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر: 8] . 3- ويفيدنا نص ثالث أن الكفار ينادون بالويل والثبور عندما ينفخ في الصور متسائلين عمن أقامهم من رقدتهم. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) [يس: 51-52] .

وقد كان أبو محكم الجسري يجتمع إليه إخوانه، وكان حكيماً، فإذا تلى الآية السابقة بكى، ثم قال: " إن القيامة ذهبت فظاعتها بأوهام العقول، أما والله لئن كان القوم في رقدة مثل ظاهر قولهم، لما دعوا بالويل عند أول وهلة من بعثهم، ولم يوقفوا بعد موقف عرض ولا مسألة إلا وقد عاينوا خطراً عظيماً، وحقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها، ولكن كانوا في طول الإقامة في البرزخ يألمون ويعذبون في قبورهم، وما دعوا بالويل عند انقطاع ذلك عنهم، إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه، ولولا أن الأمر على ذلك ما استصغر القوم ما كانوا منه، فسموه رقاداً، وإن في القرآن لدليلاً على ذلك: (فإذا جاءت الطامة الكبرى) [النازعات: 34] ، ثم يبكي حتى يبل لحيته " (¬1) . 4- ويضيف نص آخر ملامح جديدة إلى صورتهم حال بعثهم، فأبصارهم لشدة الهول شاخصة جاحظة، وأفئدتهم خالية إلا من الهول الذي يحيط بهم، قال تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم: 42-43] . يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله وأجزل له المثوبة - في تفسير هذه الآيات: "والرسول صلى الله عليه وسلم - لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون، ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون، ويسمع بوعيد الله، ثم لا يراه واقعاً بهم في الحياة الدنيا، فهذه الصيغة تكشف عن الأجل ¬

(¬1) النهاية لابن كثير: (1/274) .

المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة، التي لا إمهال بعدها، ولا فكاك منها، أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع، فتظل مبهوتة مذهولة، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك. ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول..، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء، ولا يلتفتون إلى شيء، رافعين رؤوسهم، لا عن إرادة، ولكنها مشدودة، لا يملكون لها حراكاً. يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب، فلا يطرف ولا يرتد إليهم، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية، لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه، أو يتذكرونه، فهي هواء خاوية. هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه، حيث يقفون في هذا الموقف، ويعانون هذا الرعب، الذي يرتسم من خلال هذه المقاطع الأربعة، مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) [إبراهيم: 42-43] . فالسرعة المهرولة المدفوعة، في الهيئة الشاخصة المكروهة المشدودة، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي من الإدراك.. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار " (¬1) . 5- ويصور القرآن الفزع الذي يسيطر على نفوس الكفار في يوم الموقف العظيم فيقول: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18] . ¬

(¬1) في ضلال القرآن: (4/2111) .

" والآزفة ... القريبة العاجلة ... هي القيامة، واللفظ يصورها كأنها زاحفة والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر، وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم، والكظم يكربهم، ويثقل على صدورهم، وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم، ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب " (¬1) . 6- وما كان هؤلاء في حكم الله مجرمين متمردين على خالقهم وإلههم، مستكبرين عن عبادته وطاعته - فإنه يؤتى بهم إلى ربهم وخالقهم مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران تغشى وجوههم النار، ويا لفظاعة حالهم، وعظم ما يلقون (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ) [إبراهيم: 48-50] . يقول الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآيات: " وتعاين الذين كفروا بالله، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ، يعني يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، (مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) [إبراهيم: 49] ، يقول: مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد، وهي الوثاق من غل وسلسلة، واحدها صفد " (¬2) . والسرابيل: هي القمص التي يلبسونها، والقطران: المادة التي تطلى بها الإبل إذا أصابها الجرب، وقيل: القطران النحاس. 7- وتدنو الشمس من رؤوس العباد في ذلك اليوم حتى لا يكون بينها وبينهم إلا ¬

(¬1) في ضلال القرآن: (6/3074) . (¬2) تفسير ابن جرير الطبري: (13/254) .

مقدار ميل واحد، ولوا أنهم مخلوقون خلقاً غير قابل للفناء لانصهروا وذابوا وتبخروا، ولكنهم بعد الموت لا يموتون. ويذهب عرقهم في الأرض حتى يرويها، ثم يرتفع فوق الأرض، ويأخذهم على قدر أعمالهم. ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل ". قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين. قال: " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه. ومنهم من يكون إلى ركبتيه. ومنهم من يكون إلى حقويه. ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً ". قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه (¬1) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) [المطففين: 6] ، قال: " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " (¬2) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب في صفة القيامة (4/2196) ، ورقمه: (2864) . (¬2) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب قول الله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون) [المطففين: 4] ، فتح الباري، (11/392) . ورواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في صفة يوم القيامة، (4/2196) ، ورقمه: 2862.

سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم " (¬1) . 8- وعندما يرى الكفار العذاب والهوان الذي يصيبهم ويصيب أمثالهم من الكفرة المشركين يأخذهم الحسرة والندم، ولكثرة حسرة العذاب سمى الله ذلك اليوم بيوم الحسرة (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون) [مريم: 39] . ولشدة تحسر الكفار وندمه على عدم اتباعه للرسول الذي بعثه إليه، واتباعه لأعداء الرسل، فإنه يعض على يديه (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27-29] . 9- وفي ذلك اليوم يوقن الكفار أن ذنبهم غير مغفور، وعذرهم غير مقبول، فييأسوا من رحمة الله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم: 12] . 10- ويتمنى الكفار في ذلك اليوم أن يهلكهم الله، ويجعلهم تراباً (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ) [النساء: 42] ، (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) [النبأ: 40] ، فما بالك بأقوام كانت مناياهم هي غاية المنى!! . ¬

(¬1) المصادر السابقة، والسياق للبخاري.

المطلب الثاني إحباط أعمالهم أعمال الكفار قسمان: قسم هو طغيان وبغي وإفساد في الأرض ونحو ذلك، فهذه أعمال باطلة فاسدة لا يرجو أصحابها من ورائها خيراً، ولا يتوقعون عليها ثواباً. وقد شبه القرآن هذه الأعمال بالظلمات التي يركب بعضها بعضاً: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور: 40] . والقسم الثاني: أعمال يظنون أنها تغني عنهم من الله شيئاً، كالصدقة والعتاق وصلة الأرحام والإنفاق في سبل الخير، وقد ضرب الله في كتابه لهذا النوع من الأعمال أمثلة. فشبهها في بعض المواضع بالسراب الذي يظنه رائيه ماء، ولكنه عندما يأتيه - وهو يؤمل أن يصل إليه فيروي غلته، ويذهب ظمأه - لا يجده شيئاً، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [النور: 39] . وشبهها في موضع آخر بالرياح الشديدة الباردة تهب على الزروع والثمار فتدمرها (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران: 117] .

والصر: البرد الشديد، وهذه الرياح الباردة هي الكفر والشرك التي تحرق أعمالهم الصالحة. وشبهها في موضع ثالث بالرماد الذي جاءته ريح عاصف فذرته في كل مكان، فكيف يستطيع صاحبه جمعه بعد تفرقه!! (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ) [إبراهيم: 18] . ولذلك فإن الله يجعل أعمال الكفار هباء منثوراً (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان: 23] . وهذا الفريق الذي يظن أنه على خير يفاجأ يوم القيامة بأن عمله باطل ضائع، ومن هؤلاء عباد اليهود والنصارى بعد البعثة النبوية، فإن فريقاً منهم يجهدون أنفسهم بالعبادة، وفعل الخيرات، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله تبارك وتعالى، وكذلك الذين انتسبوا إلى الإسلام، ولكنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وعبدوا غير الله، كل هؤلاء لا تنفعهم أعمالهم، ولا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) [الكهف: 103-106] . وقد سأل مصعب بن سعد أباه بن أبي وقاص عن الأخسرين أعمالاً، فقال: " هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى

فكفروا بالجنة، وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب " (¬1) . وإنما كان اليهود والنصارى من الأخسرين أعمالاً، لأن كثيراً منهم يظنون أنفسهم على الحق، ويجتهدون في العبادة، وحقيقة الأمر أنهم خاسرون، لأنهم يكفرون برسول الله الخاتم، وكتابه المنزل، مع كفرهم بكثير مما أنزل إليهم من ربهم، وإيمانهم بالمحرف من دينهم. فهذه الأعمال التي يظن الكفرة أنها نافعتهم في يوم الدين لا وزن لها ولا قيمة لها في ذلك اليوم لأنها قامت على غير أساس (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85] . والأساس هو الإسلام، فما لم يكن المرء مسلماً موحداً فعمله مردود، وسعيه موزور غير مشكور، روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " (¬2) . المطلب الثالث تخاصم أهل النار عندما يعلن الكفرة أعداء الله ما أعد لهم من العذاب، وما هم فيه من أهوال يمقتون أنفسهم كما يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا، بل تنقلب كل محبة لم تقم على أساس من الإيمان إلى عداء، قال تعالى: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة رقم: (18) فتح الباري: (8/425) . (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل الدنيا عذاباً، (1/196) ورقم الحديث: 214.

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67] ، وفي ذلك اليوم يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً، ويحاج بعضهم بعضاً، العابدون المعبودين، والأتباع السادة المتبوعين، والضعفاء المتكبرين، والإنسان قرينه، بل يخاصم الكافر أعضاءه. 1- أما مخاصمة العابدين المعبودين: ففي قوله تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ - فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ - قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [الشعراء: 91-99] إنهم يخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها، ويسوون بينها وبين الخالق، وقد خاب وخسر من رفع المخلوق إلى مرتبة الخالق، وكل من عبد من دون الله آلهة، فقد سوى بين الخالق والمخلوق، وهذا هو الظلم العظيم، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13] . أما الصالحون الأخيار الذين عبدوا وهم لا يعلمون، أو عبدوا بغير رضاهم كالملائكة وصالحي البشر، فإنهم يتبرؤون من عابديهم، ويكذبون زعم العابدين وافتراءهم، فإن الملائكة ما طلبت هذه العبادة، ولا رضيت بها، والذين طلبوها هم الجن، كي يضلوا البشر ويوبقوهم، فهؤلاء الضالون عبادون للجن لا للملائكة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ) [السبأ: 40-41] .

وعيسى ابن مريم يتبرأ في يوم الدين من الذين اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله (وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... ) [المائدة: 116-117] . هذا موقف جميع المعبودات التي لم ترض باتخاذها آلهة، تتبرأ من عابديها، وتكذبهم في دعواهم، وتقرُّ بعبوديتها لله ربها، (وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ - وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [النحل: 86-87] . وقال في موضع آخر: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ - فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ - هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) [يونس: 28-30] . 2- وأما تخاصم الأتباع مع قادة الضلال من أصحاب الفكر، والنظريات الضالة، والمبادئ المناقضة للإسلام، فقد ذكرها الله في موضع آخر فقال: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ - وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ - وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم

مَّسْئُولُونَ - مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ - بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ - وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ - قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ - قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ - فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ - فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ- فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ - إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ - إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات: 19-35] . وهذا المذكور في هذه الآيات هو تلاوم أهل النار في عرصات القيامة، فالأتباع يقولون لقادة الضلال: أنتم الذين كنتم تزينون لنا الباطل، وتغروننا بمخالفة الحق، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) [البقرة: 257] ، ولكن القادة ورجال الفكر والزعماء يرفضون هذا، ويقولون لهم: أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم فقد اخترتم الكفر، ولم يكن لنا من سلطان عليكم، إن طغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية. 3- أما مخاصمة الضعفاء للسادة من الملوك والأمراء وشيوخ العشائر الذين كانوا يتسلطون على العباد، ويشدُّ الضعفاء أزرهم، ويعينوهم على باطلهم بالنفس والمال فقد ذكرها الله تعالى في قوله: (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم: 21] . ولندع الداعية المفسر الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وأجزل له المثوبة يفسر لنا هذه الآيات الكريمة، ولنعش معه في الظلال.. (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا..) [إبراهيم: 21] الطغاة المكذبون، وأتباعهم من الضعفاء

المستذلين.. ومعهم الشيطان.. ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات.. برزوا (جميعاً) مكشوفين.. وهم مكشوفون لله دائماً، ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون لا يحجبهم حجاب، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق.. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار، وبدأ الحوار: (فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ) والضعفاء هم الضعفاء. هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة. ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله. والضعف ليس عذراً، بل هو الجريمة فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحرية - التي هي ميزته ومناط تكريمه - أو أن ينزل كارهاً. والقوة المادية - كائنة ما كانت - لا تملك أن تستبعد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال! من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في

أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان! إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان! إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان! إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء..، وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة!! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ) [إبراهيم: 21] . وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم؟! أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة، وتعريضهم إياهم للعذاب؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال! ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال: (قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم: 21] . وهو رد يبدو فيه البرم والضيق: (لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ) . فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد؟ إننا لم نهتد

ونضلكم. ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله. فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حساباً لقدرة القاهر الجبار. وإنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله.. والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه (إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء) [الأعراف: 28] .. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي، فيعلنوا لهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر. فقد حق العذاب، ولا راد له من صبر أو جزع، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى، وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله. لقد انتهى كل شيء، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص: (سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم: 21] . لقد قضي الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار.. وهنا نرى على المسرح عجباً.. نرى الشيطان.. هاتف الغواية، وحادي الغواة.. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان، أو مسوح الشيطان! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22] .

الله! الله! أما إن الشيطان حقاً لشيطان! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار.. إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور، وأغرى بالعصيان، وزين الكفر، وصدهم عن استماع الدعوة..، هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة، حيث لا يملكون أن يردوها عليه - وقد قضي الأمر - هو الذي يقول الآن، وبعد فوات الأوان: (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم: 22] . ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له، وليس له عليهم من سلطان، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم، فاستجابوا لدعوته الباطلة، وتركوا دعوة الحق من الله: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي) [إبراهيم: 22] . ثم يؤنبهم، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم، يؤنبهم على أن أطاعوه! (فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم) [إبراهيم: 22] . ثم يتخلى عنهم، وينفض يده منهم، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم، ووسوس لهم أن لا غالب لهم، فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ: (مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) [إبراهيم: 22] . وما بيننا من صلة ولا ولاء!

ثم يبرأ من إشراكهم به، ويكفر بهذا الإشراك: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ) [إبراهيم: 22] . ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22] . فيا للشيطان، ويالهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه، ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوهم (¬1) . وفي موضع آخر يذكر الله تخاصم الضعفاء والسادة المستكبرين فيقول: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [المؤمن: 47-48] . وهذه الآيات الكريمة تأتي بعد الإخبار بما كان من استعلاء فرعون من تذبيحه الأطفال، ومحاولته قتل موسى، ومحاورته ذلك المؤمن الذي واجه فرعون ودحض حجته وباطله، وكيف وقف الشعب موقف التابع الذي ينفذ رغبات الطاغية، فيقوم أفراده بالتذبيح والإيذاء والمطاردة، هؤلاء الذين كانوا في الدنيا أعواناً للظلمة المجرمين يعلمون في يوم القيامة فداحة الجريمة التي وقعوا فيها، ويقولون للسادة أمثال فرعون: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ) [المؤمن: 47] ، ولكن السادة لا يملكون لأنفسهم شيئاً، ولا يستطيعون نصر ¬

(¬1) في ضلال القرآن: 4/2095.

أنفسهم فيقولون: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [المؤمن: 48] . وهذا الموقف يدلنا على الجواب الذي يمكننا أن نواجه به المقولة الباطلة التي يرددها بعض الظلمة حيث يقولون لأتباعهم: اتبعوني، وأنا أتحمل وزركم إن كان عليكم وزر، فإن تحملهم مثل أوزار الذين يضلونهم، لا يمنع العذاب عن الذين اتبعوهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت: 12-13] . وقال في موضع آخر محدثاً عن مخاصمة الضعفاء للمستكبرين: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ - وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ: 31-33] . فالأتباع والضعفاء يتهمون سادتهم وزعمائهم قائلين لهم: أنتم الذين حلتم بيننا وبين الإيمان، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل إلينا من ربنا، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة، ويقولون لهم: أنتم المجرمون، كل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا، ولم يكن لنا عليكم من سلطان، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة: بل مكركم بنا في الليل والنهار أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب، فالمؤامرات والمؤتمرات، ووسائل الإعلان في مختلف العصور التي تصور

الحق باطلاً، والباطل حقاً، وما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم باطلة، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله، ونشرك به والحق أن الجميع خاطئون، وهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم. ويصف الحق هذا التخاصم بين أهل النار عند دخولهم النار فيقول: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ - جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ - هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ - وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ - هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ - قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ - وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ - أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ - إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص: 55-64] . فهؤلاء الذين كان بعضهم يرحب ببعض في الحياة الدنيا، ويوقِّر بعضهم بعضاً، يتحول حالهم في ذلك اليوم فيقول بعضهم لبعض: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ) [ص: 59-60] ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد من كانوا أحبابه في الدنيا من العذاب والآلام، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك في ذلك، كذلك يقول ربنا تبارك وتعالى. 4- ويقع الخصام في ذلك اليوم بين الكافر وقرينه الشيطان، قال تعالى: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ - أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ - مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ - الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ - قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ - قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ

وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ - مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [ق: 23-29] . 5- ويبلغ الأمر أشده والمخاصمة ذروتها عندما يخاصم المرء أعضاءه: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ - حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 19-21] . وهذا يكون من الكفار عندما يعاينون العذاب الشديد الذي أعده الله لهم، فيلجؤون إلى التكذيب والإنكار، ويزعمون أنهم كانوا صالحين، ويكذبون بشهادة الملائكة والمرسلين والصالحين الذين يشهدون عليهم، فعند ذلك يختم الله على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك يقولون لأعضائهم: " بعداً لكنَّ وسحقاً، عنكن كنت أجادل " (¬1) . أخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يلقى العبد ربه، فيقول الله: ألم أكرمك وأسودك وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع فيقول: بلى أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فقول: لا، فيقال: إني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فيقول له مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه انطقي، فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان، ¬

(¬1) هذا جزء من حديث رواه مسلم وغيره، انظر تفسير ابن كثير: (6/168) .

وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط عليه " (¬1) . وإن هذا الحوار الذي يجري بين العبد وجوارحه موضع عجب واستغراب، وقد أضحك هذا الموقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي يرويه مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك. فقال: " هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربه. يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: يقول: بلى. قال: فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني. قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام. قال: فيقول: بعداً لكنَّ وسحقاً، فعنكن كنت أناضل " (¬2) . 6- ويخاصم البدن في يوم القيامة الروح: قال ابن كثير: " وقد روى ابن منده في كتاب (الروح) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت. ويقول الجسد للروح: أنت أمرت، وأنت سولت. فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما، فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير، والآخر ضرير دخلا بستاناً. فقال المقعد للضرير: إني أرى ها هنا ثماراً، ولكن لا أصل إليها. ¬

(¬1) رواه مسلم في صحيحه: (4/2280) ورقمه: 2969. (¬2) رواه مسلم في صحيحه: (4/2280) ورقمه: 2969.

فقال له الضرير: اركبني فتناولها. فركبه فتناولها. فأيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما. فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما. يعني أن الجسد للروح كالمطية، وهو راكبه " (¬1) . 7- وفي ذلك الموقف يمقتون أنفسهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ) [المؤمن: 10] ، كما يمقتون كل الذين كانوا لهم أنصاراً وخلاناً في الدنيا، ويدعون عليهم، ويطلبون لهم المزيد من العذاب (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) [الأحزاب: 66-68] ، ولشدة حنقهم على من أضلهم يسألون الله أن يريهم الذين أضلوهم ليدوسوهم بأقدامهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت: 29] ، وعندما يدخلون النار ترتفع أصواتهم بلعن بعضهم بعضاً، ثم يتمنى بعضهم لبعض مزيداً من العذاب (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ) [الأعراف: 38] . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (6/92) .

حال عصاة المؤمنين (الجزء الأول) بعض المؤمنين قد يكون قارف في الدنيا ذنوباً توقعه في أهوال ومشقات وصعاب، وسنعرض في هذا المبحث لذكر بعض العصاة وما يصيبهم في ذلك اليوم من البلاء. المطلب الأول الذين لا يؤدون الزكاة من حقوق الله الكبرى الزكاة، وهي حق المال، والذين لا يؤدون زكاة أموالهم يعذبون بهذه الأموال في الموقف العظيم، وقد أخبرت النصوص أن عذابهم بها على وجوه: الأول: أن يمثل لصاحب المال ماله شجاعاً أقرع، له زبيبتان، فيطوق عنقه، ويأخذ بلهزمتي صاحبه، قائلاً له: أنا مالك، أنا كنزك، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه: يعني بشدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 180] " (¬1) . والشجاع الأقرع: الحية الذكر المتعمط شعر رأسه لكثر سمه، والزبيبتان نقطتان سودوان فوق عيني الحية. الثاني: أن يؤتى بالمال نفسه الذي منع زكاته، فإن كان من الذهب والفضة جعل صفائح من نار، ثم عذب به صاحبه، وإن كان المال حيواناً. إبلاً أو بقراً أو غنماً، أرسل على صاحبه فعذب به، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 34-35] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت عليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار ". قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: " ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاع قرقر (¬2) ، أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها (¬3) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار ". ¬

(¬1) البخاري. كتاب الزكاة. باب إثم مانع الزكاة. ورقمه: 1403. ورواه مسلم: 987 مطولاً. (¬2) بطح لها بقاع قرقر: بسط لها ومد لها بأرض مستوية. (¬3) قال النووي في ((شرح مسلم)) : قوله صلى الله عليه وسلم: " كلما مر عليه أولاها ردّ عليه أخراها " هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع. قال القاضي عياض: قالوا: هو تغيير وتصحيف، وصوابه ما جاء به في الحديث الآخر من رواية سهيل عن أبيه، وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر: " كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها " وبهذا ينتظم الكلام.

قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: " ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي فيها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء (¬1) ، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها (¬2) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (¬3) . المطلب الثاني المتكبرون الكبر جريمة كبرى في حكم الله وشرعه، والله يبغض أصحابها أشد البغض، وعندما يبعث الله العباد يحشر المتكبرون في صورة مهينة ذليلة، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة، في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان " (¬4) . والذر صغار النمل، وصغار النمل لا يعبأ به الناس، فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون. وكما يبغض الله المتكبرين يبغض أسماءهم التي كانوا يطلقونها على أنفسهم استكباراً واستعلاءً، وتصبح هذه الأسماء التي كانوا يفرحون عند سماعها أنكر الأسماء وأخبثها، وأغيظها على الله. ¬

(¬1) العقصاء: الملتوية القرون، والجلحاء: التي لا قرون لها. والعضباء: التي انكسر قرنها الداخل. (¬2) انظر التعليق (3) . (¬3) رواه مسلم في صحيحه، في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة، (2/680) ورقمه: 987، والحديث في الصحاح والسنن عن أكثر من صحابي، راجع جامع الأصول: 4/554. (¬4) مشكاة المصابيح: (2/635) ورقمه: 5112، وإسناده حسن كما قال محقق المشكاة.

روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أخنع اسم عند الله يوم القيامة، رجل تسمى ملك الأملاك " وزاد مسلم في رواية " لا مالك إلا الله عز وجل ". ورواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، وأغيظه عليه، رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله " (¬1) . قال القاضي عياض: أخنع: معناه أشد الأسماء صغاراً، وقال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء، كان من تسمى به أشد ذلاً (¬2) . المطلب الثالث ذنوب لا يكلم الله أصحابها ولا يزكيهم وردت نصوص كثيرة ترهب من ذنوب توعد الله من ارتكبها بأن لا يكلمه في يوم القيامة ولا يزكيه، وله عذاب أليم. فمن هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، وهم الأحبار والرهبان والعلماء الذين يكتمون ما عندهم من العلم إرضاءً لحاكم، أو تحقيقاً لمصلحة، أو طلباً لعرض دنيوي، ككتمان الأحبار والرهبان ما يعرفونه من كتبهم من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنكارهم لنبوته، مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. وقد قال الله في هؤلاء: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/619) ، ورقمه: 914. (¬2) فتح الباري: (10/589) .

وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة: 174-175] . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ) [البقرة: 174] . " وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم، لأنهم كتموا وقد علموا، فاستحقوا الغضب، فلا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، أي لا يثني عليهم، ولا يمدحهم، بل يعذبهم عذاباً أليماً " (¬1) . وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي، ورواه الحاكم بنحوه. وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وفي رواية لابن ماجة قال: " ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار " (¬2) . ومن الذين يغضب الله عليهم يوم القيامة، فلا يكلمهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه، ويشترون بأيمانهم ثمناً قليلاً، فيحلفون الأيمان الكاذبة تحقيقاً لكسب دنيوي تافه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 77] . وقد ساق ابن كثير أحاديث كثيرة تتعلق بهذه الآية: منها الحديث الذي رواه مسلم وأهل السنن وأحمد عن أبي ذر قال: قال ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (1/363) . (¬2) الترغيب والترهيب للحافظ المنذري: (1/97) .

رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم ". قلت: يا رسول الله، من هم؟ خسروا وخابوا. قال: وأعاده رسول الله ثلاث مرات. قال: (المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان) . ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله - عز وجل - وهو عليه غضبان ". ومنها ما رواه البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة له في السوق، فحلف بالله لقد أعطي فيها ما لم يعطه، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) [آل عمران: 77] . ومنها ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده، ورجل خلف على سلعته بعد العصر، يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً، فإن أعطاه وفى له، وإن لم يعطه لم يف له " وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬1) . وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعته: لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال ¬

(¬1) انظر هذه الأحاديث في تفسير ابن كثير: (2/60) .

امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك " (¬1) . ومن الذنوب التي توعد الله عليها بعدم تكليم صاحبها، وعدم نظره إليه، وترك تزكيته، غير ما تقدم، الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والعائل (أي الفقير) المستكبر، والعاق لوالديه، والمرأة المتشبهة بالرجال، والديوث، ومن أتى امرأته في دبرها، ومن جر ثوبه خيلاء. ففي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر " (¬2) . وفي مسند أحمد وسنن النسائي، ومستدرك الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث " (¬3) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " رواه في ((شرح السنة)) (¬4) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه بطراً " (¬5) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد. باب قول الله تعالى: (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة) [القيامة: 22] فتح الباري: (13/419) . (¬2) صحيح الجامع الصغير: (3/73) ، ورقمه: 3064. (¬3) صحيح الجامع الصغير: (3/74) ، ورقمه: 3066. (¬4) مشكاة المصابيح: (2/184) ورقم الحديث: (3194) ، وقال فيه محقق المشكاة: ورواه النسائي في (الكبرى) ، وهو حديث صحيح. (¬5) مشكاة المصابيح: (2/472) ورقمه: 4311.

وفيهما أيضاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " (¬1) . وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئاً تخيلاً لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (¬2) . المطلب الرابع الأثرياء المنعمون الذين يركنون إلى الدنيا، ويطمئنون إليها، ويكثرون من التمتع بنعيمها، يضيق عليهم في يوم القيامة، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يكثر شبعه في الدنيا، يطول جوعه يوم القيامة، ففي سنن الترمذي وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه: " كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة " (¬3) . كما أخبر أن أصحاب المال الكثير والمتاع الدنيوي الواسع يكونون أقل الناس أجراً في يوم القيامة، ما لم يكونوا قد بذلوا أموالهم في سبل الخيرات، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله تعالى خيراً، فنفح فيه بيمينه وشماله، وبين يديه ورائه، وعمل فيه خيراً " (¬4) . ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/472) ورقمه: 4312. (¬2) وإسناده صحيح كما قال محقق مشكاة المصابيح: (2/474) ورقم الحديث: (4332) . (¬3) ساق الشيخ ناصر الدين الألباني طرق الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحديث: (343) . (¬4) صحيح الجامع الصغير: (2/165) ، ورقمه: (1950) .

وقلة الحسنات تؤخرهم، وتجعل الآخرين يتقدمونهم، بعدما كانوا في الدنيا مقدميين، ففي سنن ابن ماجة عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا، وهكذا، وكسبه طيب " (¬1) . وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذين أثقلوا أنفسهم بالنعيم الدنيوي، والغنى والثراء لا يستطيعون أن يتجاوزوا في يوم القيامة العقبات والأهوال، ففي شعب الإيمان عن أم الدرداء قالت: قلت لأبي الدرداء: مالك لا تطلب كما يطلب فلان؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون " (¬2) . حال عصاة المؤمنين (الجزء الثاني) المطلب الخامس فضيحة الغادر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان " رواه مسلم (¬3) . والغادر: الذي يواعد على أمر، ولا يفي به، واللواء: الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له (¬4) . فالغادر ترفع له راية تسجل عليها غدرته، فيفضح بذلك يوم القيامة، ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/364) ، ورقمه: 1766. (¬2) مشكاة المصابيح: (2/607) ورقمه: (5204) . وعزاه في صحيح الجامع إلى الحاكم أيضاً انظر: صحيح الجامع (2/178) ورقمه: 1997. (¬3) صحيح مسلم، (3/1359) ورقمه: 1735، والحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم. (¬4) شرح النووي على مسلم: (11/42) .

وتجعل هذه الراية عند مؤخرته، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة " (¬1) . وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة كلما ارتفعت الراية التي يفضح بها في يوم الموقف العظيم، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة " (¬2) ، وأمير العامة هو الحاكم أو الخليفة، وكانت غدرته كذلك لأن ضرره يتعدى إلى خلق كثير، ولأن الحاكم أو الوالي يملك القوة والسلطان فلا حاجة به إلى الغدر. وقد جعل الله العقاب بهذا اللون من العقوبة على طريقة ما يعهده البشر ويفهمونه ألا ترى قول شاعرهم: أسمي ويحك هل سمعت بغدرة ××× رفع اللواء لنا بها في المجمع فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل ومواسم الحج، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته (¬3) . المطلب السادس الغلول الغلول هو الأخذ من الغنيمة على وجه الخفية، وهو ذنب يخفي تحته شيئاً من الطمع والأثرة، وقد توعد الله تبارك وتعالى الغال بفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وذلك لتحميله ما غله في ذلك اليوم (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ ¬

(¬1) صحيح مسلم: (3/1361) ، ورقم الحديث: 1738. (¬2) المصدر السابق. (¬3) التذكرة للقرطبي: 297.

يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [آل عمران: 161] . يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: " أي يأتي به حاملاً له على ظهره وعلى رقبته، معذباً بحمله وثقله، ومرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد " (¬1) . ومن الغلول غلول الحكام والموظفين والعمال والولاة من الأموال العامة، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يحمل الغالون يوم القيامة ما غلوه في أكثر من حديث، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره، ثم قال: " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (¬2) ، فيقول: يا رسول ¬

(¬1) تفسير القرطبي: (4/256) . (¬2) الصامت: الذهب والفضة.

الله، أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك " متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وهو أتم (¬1) . وأخرج الطبراني في ((معجمه الكبير)) ، والبيهقي في ((السنن)) والحميدي في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل عبادة بن الصامت على الصدقة، ثم قال له: " اتق الله يا أبا الوليد أن تأتي يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك، له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثؤاج " (¬2) . وقد ساق ابن كثير في تفسيره الأحاديث المرهبة من الغلول، ومنها أحاديث غلول العمال من الصدقات، وساق حديث أبي حميد الساعدي قال: " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: " ما بال العامل نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته. إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر " رواه البخاري ومسلم (¬3) . المطلب السابع غاصب الأرض عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " (¬4) . ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/401) . ورقم الحديث: 3995. (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/537) ، ورقمه: (758) . والحديث صحيح. (¬3) تفسير ابن كثير: (2/145) . (¬4) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، فتح الباري: (5/103) .

المطلب الثامن ذو الوجهين شر الناس يوم القيامة المتلون الذي لا يثبت على حال واحدة وموقف واحد، فيأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تجدون شرَّ الناس يوم القيامة ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه " (¬1) . ورد في بعض الأحاديث أن هذا الصنف من الناس يكون له لسان من نار يوم القيامة، فقد أخرج أبو داود واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد، والدارمي، وأبو يعلى وغيرهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له وجهان في الدنيا كان له لسان من نار يوم القيامة " (¬2) . المطلب التاسع الحاكم الذي يحتجب عن رعيته روى أبو داود وابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح عن أبي مريم الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ولي من أمور المسلمين شيئاً، فاحتجب دون خلتهم، وحاجتهم، وفقرهم، وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة، دون خلته، وحاجته، وفاقته، وفقره " (¬3) . ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/578) ، ورقمه: 4820. (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/584) ، ورقمه: (892) . (¬3) صحيح الجامع الصغير: (5/368) ، ورقم الحديث: 6471.

المطلب العاشر الذي يسأل وله ما يغنيه يبعث الذي كان يسأل الناس وله ما يغنيه، وفي وجهه خموش أو كدوش، فقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وغيرهم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل وله ما يغنيه، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه. قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: خمسون درهماً، أو قيمتها من الذهب " (¬1) . وفي مسند الإمام أحمد عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مسألة الغنى شين في وجهه يوم القيامة " (¬2) . المطلب الحادي عشر البصاق تجاه القبلة جهة القبلة محترمة مقدسة، ولذا فقد جاءت الأحاديث ناهية عن استقبال القبلة واستدبارها حال البول والغائط. ومما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم البصاق تجاه القبلة، وأخبرنا أن الذي يتنخم تجاه القبلة يأتي يوم القيامة ونخامته في وجهه، فقد روى البزار في مسنده، وابن حبان، وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال: " تبعث النخامة في القبلة يوم ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: ورقم الحديث: (499) . (¬2) صحيح الجامع الصغير: (5/208) ورقمه: 5747، وقال المحقق فيه: صحيح.

القيامة، وهي في وجه صاحبها " (¬1) . وروى أبو داود في ((سننه)) وابن حبان في ((صحيحه)) عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه "، وإسناده صحيح (¬2) . المطلب الثاني عشر من كذب في حلمه يعاقب الذي يكذب في حلمه يوم القيامة بأن يكلف بأن يعقد بين شعيرتين، والذي يستمع إلى قوم وهم كارهون يعاقب بأن يصب الآنك في أذنيه يوم القيامة، والآنك الرصاص. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تحلم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، أو يفرون منه، صب في أذنه الآنك يوم القيامة " (¬3) . ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (3/33) ورقمه: 2907، وقال الشيخ ناصر فيه: صحيح، وانظر كلام الشيخ ناصر الدين الألباني على الحديث في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) حديث رقم: 223. (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحديث: 222. (¬3) صحيح البخاري، كتاب تعبير الرؤيا، باب من كذب في حلمه، فتح الباري: (12/427) .

حال الأتقياء (الجزء الأول) المطلب الأول يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون صنف من عباد الله لا يفزعون عندما يفزع الناس، ولا يحزنون عندما يحزن الناس، أولئك هم أولياء الرحمن الذين آمنوا بالله، وعملوا بطاعة الله استعداداً لذلك اليوم، فيؤمنهم الله في ذلك اليوم، وعندما يبعثون من القبور تستقبلهم ملائكة الرحمن تهدئ من روعهم، وتطمئن قلوبهم (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 101-103] ، والفزع الأكبر، هو ما يصيب العباد عندما يبعثون من القبور، (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم: 42] . ففي ذلك اليوم ينادي منادي الرحمن أولياء الرحمن مطمئناً لهم (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ) [الزخرف: 68-69] وقال في موضع آخر: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ -

الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [يونس: 62-64] . والسر في هذا الأمن الذي يشمل الله به عباده الأتقياء، أن قلوبهم كانت في الدنيا غامرة بمخافة الله، فأقاموا ليلهم، وأظمؤوا نهارهم، واستعدوا ليوم الوقوف بين يدي الله، فقد حكى عنهم ربهم أنهم كانوا يقولوه: (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) [الإنسان: 10] ، ومن كان حاله كذلك فإن الله يقيه من شر ذلك اليوم ويؤمنه، (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا - وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 11-12] . وفي الحديث الذي يرويه أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي " (¬1) . وكلما كان العبد أكثر إخلاصاً لربه تبارك وتعالى كان أكثر أمناً في يوم القيامة، فالموحدون الذين لم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك، لهم الأمن التام يوم القيامة، يدلك على هذا جواب إبراهيم لقومه عندما خوفوه بأصنامهم، فأجابهم قائلاً: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 81-82] . ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/377) ، ورقمه: 742، وإسناده حسن.

المطلب الثاني الذين يظلهم الله في ظله عندما يكون الناس في الموقف العظيم تحت وهج الشمس القاسي، يذوقون من البلاء شيئاً تنوء بحمله الجبال الشم الراسيات - يكون فريق من الأخيار هانئين في ظل عرش الرحمن، لا يعانون الكربات التي يقاسي منها الآخرون. وهؤلاء هم أصحاب الهمم العالية، والعزائم الصادقة، الذين تمثلت فيهم عقيدة الإسلام، وقيمه الفاضلة , أو قاموا بأعمال جليلة، لها في مقياس الإسلام وزن كبير. فمن هؤلاء: الإمام العادل، الذي يملك القوة والسلطان، ولكنه لم يطغ، وأقام العدل بين العباد وفق سلطان الشرع الإلهي. ومنهم الشاب الذي نشأ في عبادة ربه، وألجم نفسه بلجام التقوى، وردع النفس والهوى، فعاش عمره طاهراً نقياً. ومنهم الذين يعمرون مساجد الله، يجدون في رحابها الأنس بالله ومناجاته، فلا يكادون يفارقونها حتى يحنوا إلى رحابها. ومن هؤلاء المتحابون في الله تبارك وتعالى، تجمعهم رابطة الأخوة فيه، ويجتمعون على البر والتقوى والصلاح، ويتفرقون على عمل صالح. ومنهم الذين تعرض لهم فتنة النساء، فيحول خوف الله بينهم وبين الوقوع في الفاحشة. ومنهم المنفق الذي يخلص في دينه لله، فيخفي الصدقة حتى عن نفسه.

ومنهم الذي تملأ مخافة الله قلبه، فتفيض عيناه من أجل ذلك وهو وحيد ليس معه أحد. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب ينشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " (¬1) . وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على إظلال الله للمتحابين فيه في ظل العرش في ذلك اليوم منها حديث أبي هريرة عند مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي " (¬2) . وفي معجم الطبراني الكبير ومسند أحمد، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المتحابين في الله في ظل العرش " (¬3) . وفي كتاب ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن عبادة ابن الصامت، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: " حقت محبتي على المتحابين، أظلهم في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظلي " (¬4) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الأذان، باب من جلس في المسجد، فتح الباري: (2/143) . ورواه مسلم: (2/715) ، ورقمه: (1031) والسياق للبخاري. (¬2) رواه مسلم: (4/1988) ، ورقمه: 2566. (¬3) صحيح الجامع الصغير: (2/161) ورقمه: 1933. (¬4) صحيح الجامع الصغير: (4/116) .

والإضلال في ظل العرش لي مقصوراً على السبعة المذكورين في الحديث، فقد جاءت النصوص كثيرة تدل على أن الله يظل غيرهم، وقد جمع ابن حجر العسقلاني الخصال التي يظل الله أصحابها في كتاب سماه: ((معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال)) (¬1) . ومن هذه الخصال إنظار المعسر أو الوضع عنه، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي اليسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أنظر معسراً أو وضع عنه، أظله الله في ظله " (¬2) . وفي مسند أحمد وسنن الدارمي بإسناد صحيح عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من نفس عن غريمه أو محا عنه، كان في ظل العرش يوم القيامة " (¬3) . المطلب الثالث الذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدون خلتهم من أعظم ما يفرج كربات العبد في يوم القيامة سعي العبد في الدنيا في فك كربات المكروبين، ومساعدة المحتاجين، والتيسير على المعسرين، وإقالة عثرات الزالين، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومنم يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " (¬4) . ¬

(¬1) فتح الباري: (2/144) . (¬2) صحيح مسلم: (4/2302) ، ورقمه: 3006. (¬3) صحيح الجامع الصغير: (4/364) ، ورقمه: 1452. (¬4) مشكاة المصابيح: (1/71) ورقم الحديث: 204.

وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة " (¬1) . وروى الدينوري في ((المجالسة)) والبيهقي في ((الشعب)) والضياء في ((المختارة)) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة " (¬2) . المطلب الرابع الذين ييسرون على المعسرين روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسراً تجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه " (¬3) . وروى النسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن رجلاً لم يعمل خيراً قط، وكان يداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله يتجاوز عنا. فلما هلك قال: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز، لعل الله أن يتجاوز عنا. قال الله: قد تجاوزت عنك " (¬4) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، فتح الباري: (5/97) . (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/218) ، ورقم الحديث: 1217. (¬3) مشكاة المصابيح: (2/108) ، ورقم الحديث: (2899) . (¬4) صحيح الجامع الصغير: (2/204) ، ورقم الحديث: 2073.

وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن حذيفة، وعقبة بن عامر، وأبي مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتى الله عز وجل بعبد من عباده آتاه الله مالاً، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ فقال: ما عملت من شيء يا رب، إلا إنك آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي أن أيسر على الموسر وأنظر المعسر. قال الله تعالى: أنا أحق بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي " (¬1) . المطلب الخامس الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا العادلون في يوم القيامة في مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " (¬2) . حال الأتقياء (الجزء الثاني) المطلب السادس الشهداء والمرابطون إذا فزع الناس في يوم القيامة فإن الشهيد لا يفزع، ففي سنن الترمذي وابن ماجة عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (1/92) ، ورقم الحديث: 124. (¬2) صحيح مسلم: (3/1458) ، ورقم الحديث: 1827.

من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه " (¬1) . والشاهد في الحديث أن الشهيد يأمن من الفزع الأكبر، وهو فزع يوم القيامة. ومثل الشهيد المرابط في سبيل الله، فإنه إذا مات وهو مرابط أمَّنه الله من الفزع الأكبر، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رباط يوم خير من صيام دهر، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغدي عليه برزقه، وريح عليه من الجنة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله " (¬2) . ومن إكرام الله للشهيد يوم القيامة أن الله يبعثه وجرحه يتفجر دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لا يُكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك " (¬3) . وروى الترمذي والنسائي وأبو داود بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من قاتل في سبيل الله فواق (¬4) ناقة، فقد وجبت له الجنة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله، أو نكب نكبة (¬5) ، فإنها تجيء يوم القيامة ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/358) ، ورقم الحديث: 3834، وقال فيه محقق المشكاة: إسناده صحيح. (¬2) صحيح الجامع الصغير: (3/171) ، ورقم الحديث: 3473. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب من يجرح في سبيل الله، فتح الباري: (6/20) . (¬4) الفواق: ما بين الحلبتين. (¬5) أي أصيب بنكبة، أي حادثة.

كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها المسك " (¬1) . قال ابن حجر: " قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى (¬2) . المطلب السابع الكاظمون الغيظ كثيرة هي المواقف العصيبة التي يصيب العبد فيها الأذى، وقد يكون مصدره قريب أو صديق أو محسن إليه، ولا شك أن الأذى مسموع أو المرئي أو المحسوس الذي يصيبنا يسبب لنا ألماً في أعماقنا، فتجيش نفوسنا بأنواع الانفعالات التي تدعونا إلى المواجهة الحادة، وضبط النفس في مثل هذه الأحوال لا يملكه إلا أفذاذ الرجال. إن الإسلام يعدُّ كظم الغيظ خلقاً إسلامياً راقياً يستحق صاحبه التكريم، فالجنة التي عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، وكظم الغيظ في مقدمة صفات المتقين (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133-134] . وفي يوم القيامة يدعو رب العزة من كظم غيظه على رؤوس الخلائق، ثم يخيره في أي الحور العين شاء، روى الترمذي وأبو داود عن سهل بن معاذ بن جبل ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/355) ، ورقم الحديث: 3825. (¬2) فتح الباري: (6/20) .

عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كظم غيظاً، وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور العين شاء " (¬1) . المطلب الثامن عتق الرقاب المسلمة من الأعمال الكريمة التي يتمكن صاحبها من اقتحام العقبات الكأداء في يوم القيامة، عتق الرقاب قال تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) [البلد: 11-13] . وقد ساق ابن كثير في تفسير هذه السورة النصوص الحديثية التي توضح هذه الآيات قال الإمام أحمد: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن أبي هند، عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، عن سعيد بن مرجانة، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب - أي عضو - منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج ". فقال علي بن الحسين: أأنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفاً، فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، وقد رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من طرق عن سعيد بن مرجانة به وعند مسلم أن هذا الغلام الذي ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/631) ، ورقمه 5088، وحسن الشيخ ناصر إسناده في صحيح الجامع (5/353) . ورقم الحديث فيه: 6398، وعزاه إلى أحمد والطبراني، وانظر رقم: 6394 في صحيح الجامع.

أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم. وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي نجيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما مسلم أعتق رجلاً مسلماً، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظماً من عظام محرره من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظماً من النار "، رواه ابن جرير، هكذا، وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه. وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية، حدثني بجير ابن سعد عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بنى مسجداً ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتاً في الجنة. ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ". وقال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا حريز عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عبسة: حدثنا حديثاً ليس فيه تزيد ولا نسيان. قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل " وروى أبو داود والنسائي بعضه. وقال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي قال: قلت له حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم قال: سمعته يقول: " من ولد له ثلاث أولاد

في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له كعدل رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها " وهذه أسانيد جيدة قوية، ولله الحمد. وقال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي، حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش الديلمي، قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان، فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته، فيزيد وينقص، قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل، فقال: " اعتقوا عنه، يعتق الله بكل عضو منه عضواً في النار ". وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة، عن الغريف بن عياش الديلمي، عن واثلة به. وقال أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن قيس الجذامي، عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار ". وحدثنا عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن قيساً الجذامي حدث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار " تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحي بن آدم وأبو أحمد، قالا: حدثنا عيسى ابن عبد الرحمن البجلي، من بني بجيلة، من بني سليم، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول

الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملاً يدخلني الجنة فقال: " لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة ". فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال: " لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك، فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من الخير " (¬1) . المطلب التاسع فضل المؤذنين من الذين يظهر فضلهم يوم القيامة المؤذنون، فهم أطول الناس أعناقاً في ذلك اليوم، روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة " (¬2) . وطول العنق جمال، ثم هو مناسب لما قاموا به من عمل حيث كانوا يبلغون الناس بأصواتهم كلمات الأذان التي تعلن التوحيد وتدعو للصلاة. والمؤذن يشهد له في ذلك اليوم كل شيء سمع صوته عندما كان يرفع صوته بالأذان في الدنيا، روى البخاري في صحيحه أن أبا سعيد الخدري قال لعبد الرحمن بن صعصعة: " إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذَّنت في الصلاة، فارفع بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " (¬3) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (7/295) . (¬2) صحيح مسلم: (4/290) ، ورقم الحديث: 387. (¬3) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الماهر بالقرآن.. ". فتح الباري: (13/518) .

المطب العاشر الذين يشيبون في الإسلام يكون الشيب نوراً لصاحبه إذا كان مسلماً في يوم القيامة، كما صحت بذلك الأحاديث، ففي سنن الترمذي والنسائي عن كعب بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " (¬1) . وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن حبان عن عمرو بن عبسة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة " (¬2) . وروى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة " (¬3) . وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " لا تنتفوا الشيب، فإنه نور يوم القيامة، من شاب شيبة في الإسلام كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة " رواه ابن حبان بإسناد حسن (¬4) . وروى ابن عدي والبيهقي في الشعب عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشيب نور في وجه المسلم، فمن شاء فلينتف نوره " (¬5) . ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (5/304) ورقم الحديث: 6183، وعلم عليه الشيخ ناصر بالصحة. (¬2) صحيح الجامع الصغير: (5/304) ورقم الحديث: 6184، والحديث صحيح كما قال محقق الكتاب. (¬3) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/247) ، ورقم الحديث: 1243. (¬4) المصدر السابق. (¬5) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/247) ، ورقم الحديث: 1244.

المطلب الحادي عشر فضل الوضوء الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وأقاموا الصلاة، وأتوا بالوضوء كما أمرهم نبيهم يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أمتي يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء " (¬1) . قال ابن حجر: " (غراً) جمع أغر، أي ذو غُرّة، وأصل الغرة لمعة ببيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغُرّاً منصوب على المفعولية ليُدعون أو على الحال. أي أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، وكانوا على هذه الصفة. وقوله: (محجلين) من التحجيل، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحِجل بكسر الحاء وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضاً النور " (¬2) . وهذه الغرة وذلك التحجيل تكون للمؤمن حلية في يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (¬3) . ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/247) ، ورقم الحديث: 1244. (¬2) فتح الباري: (1/236) . (¬3) مشكاة المصابيح: (1/96) ورقم الحديث: 291.

وبهذه الحلية النورانية تتميز هذه الأمة في يوم القيامة، وبها يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من بين الخلائق، لا فرق بين أصحابه وغيرهم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وودت أنا قد رأينا إخواننا ". قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: " أنتم أصحابي، إخواننا الذين لم يأتوا بعد ". فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: " أرأيت لو أن رجلاً له خير غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله. قال: " فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم (¬1) على الحوض " (¬2) . وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك ". فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: " هم غرٌّ محجلون من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم " (¬3) . ¬

(¬1) أي سابقهم. (¬2) مشكاة المصابيح: (1/98) ، ورقم الحديث: 298. (¬3) مشكاة المصابيح: (1/99) ، ورقم الحديث: 299.

الفصل التاسع الشفاعة

الفصل التاسع الشفاعة عندما يشتد البلاء بالناس في الموقف العظيم ويطول بحث العباد عن أصحاب المنازل العالية ليشفوا لهم عند ربهم، كي يأتي ربنا لفصل الحساب وتخليص الناس من كربات الموقف وأهواله، فيطلبون من أبيهم آدم أن يقوم بهذه المهمة الكبيرة، ويذكِّرونه بفضله وإكرام الله له، فيأبى منها، ويحيلهم إلى نوح أول رسول أرسله الله إلى البشر، الذي سماه الله عبداً شكوراً، فيأبى ويذكر ما كان منه من تقصير في بعض الأمور تجاه ربه ومولاه. وهكذا يحيلهم إلى من بعده من أولي العزم من الرسل، والآخر يدفعها إلى من بعده، حتى يأتوا الرسول الخاتم: محمد صلى الله عليه وسلم، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم مقاماً يحمده عليه الأولون والآخرون، وتظهر به منزلته العظيمة، ودرجته العالية، فيستأذن على ربه فيأذن له، ويحمده ويمجِّده، ويسأله في أمته، فيستجيب له، ذلك أن الله أعطى كل نبي دعوة في أمته لا ترد، وقد استعجل كل نبي تلك الدعوة في الدنيا، واختبأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته إلى ذلك الموقف الذي تحتاج فيه أمته إلى دعوته، فصلوات الله وسلامه عليه، فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، كما وصفه ربه، وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل نبي يسأل سؤالاً أو قال: لكل نبي دعوة دعاها لأمته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " (¬1) . ¬

(¬1) جامع الأصول: 10/475، ورقم الحديث: 8009.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لكل نبي دعوة دعا بها في أمته، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " (¬1) . وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجَّل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " (¬2) . وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " (¬3) . ¬

(¬1) جامع الأصول: 10/467، ورقم الحديث: 8010. (¬2) جامع الأصول: 10/476، ورقم الحديث: 8011. (¬3) جامع الأصول: 10/476، ورقم الحديث: 8012 وإسناده صحيح كما قال محقق الكتاب.

المبحث الأول أحاديث الشفاعة وقد جاءت أحاديث كثيرة تصف الشفاعة العظمى، وسنكتفي بإيراد ما جمعه ابن الأثير منها في جامع الأصول (¬1) . 1- روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن معبد بن هلال العنزي قال: " انطلقنا إلى أن بن مالك، وتشفَّعنا بثابتٍ، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه، وأجلس ثابتاً معه على سريره فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تُحدِّثهم حديث الشفاعة. فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لذريتك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيؤتى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه رُوح الله وكلمته، فيؤتى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد. فأوتى فأقول: أنا لها، ثم أنطلق فاستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها، ثم أخر لربنا ساجداً، ¬

(¬1) جامع الأصول: 10/477، وقد أبقينا تخريج محقق الكتاب على حاله في الهامش.

فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفَّع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فمن كان في قلبه حبة من برةٍ أو شعيرةٍ من إيمانٍ فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل. ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخرُّ له ساجداً، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفَّع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل. ثم أعود إلى ربي أحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ". هذا حديث أنس الذي أنبأنا به، فخرجنا من عنده، فلما كنا بظهر الجبَّان (¬1) ، قلنا: لو مِلنا إلى الحسن فسلَّمنا عليه وهو مستخفٍ في دار أبي خليفة؟ قال: فدخلنا عليه، فسلمنا عليه، قلنا: يا أبا سعيد، جئنا من عند أخيك أبي حمزة، فلم نسمع بمثل حديثٍ حدثناه في الشفاعة، قال: هيه، فحدَّثناه الحديث، فقال: هيه، قلنا: ما زادنا؟ قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة، وهو يومئذ جميع (¬2) ، ولقد ترك شيئاً ما أدري: أنسي الشيخ، أم كره أن يحدثكم فتتكلوا؟ قلنا له: حدثنا، فضحك، وقال: خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه. قال: " ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ¬

(¬1) الجبان، والجبانة: المقابر. (¬2) رجل جميع، أي: مجتمع الخلق قوي، لم يهرم، ولم يضعف.

ساجداً، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: فليس ذلك لك، أو قال: ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله "، قال فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك - أُراه قال: قبل عشرين سنة - وهو يومئذ جميع. وفي رواية قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك - وفي رواية: فيلهمون لذلك - فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا هذا؟ قال: فيأتون آدم، فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربَّه منها، ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. قال: فيأتون نوحاً، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربَّه منها، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم، وذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربَّه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله وأعطاه التوراة. قال: فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربَّه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله وكلمته، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً، عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيأتونني، فاستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله، فيقال: يا محمد، ارفع، قل يسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع، فيُحدّ لي حداً، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع يا محمد، قل يسمع،

سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحد لي حداً، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة. قال: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن، أو وجب عليه الخلود " أخرجه البخاري ومسلم. وأخرجه البخاري تعليقاً: عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحبس المؤمن يوم القيامة. وذكر نحوه، وفي آخره: ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن - أي أوجب عليه الخلود - ثم تلا هذه الآية: (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء: 79] ، قال: وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم ". زاد في رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برَّة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة ". قال يزيد بن زُريع: فلقيت شعبة، فحدثته بالحديث، فقال شعبة: حدثنا به قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، إلا أن شعبة جعل مكان ((ذُرَةً)) . قال يزيد: صحف فيها أبو بسطام، كذا في كتاب مسلم من رواية يزيد عن شعبة. قال البخاري: وقال أبان عن قتادة بنحوه. وفيه ((من إيمان)) مكان ((خير)) زاد في رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - في حديث سؤال المؤمنين

الشفاعة - " فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه " وللبخاري طرف منه عن حميد عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا ربِّ أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، فيدخلون، ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء. قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع النبي صلى الله عليه وسلم " (¬1) . 2- وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة (¬2) ، وقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون: مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم. فيأتونه، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا ¬

(¬1) رواه البخاري 13/395 -397 في التوحيد، باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، وباب قول الله تعالى: (لما خلقت بيدي) ، وباب قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليماً) وفي تفسير سورة البقرة، باب قول الله تعالى: " (وعلَّم آدم الأسماء كلها) ، وفي الرقاق، باب صفة الجنة والنار، ومسلم رقم 193 في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. (¬2) النهس: أخذ اللحم بمقدم الأسنان.

عند ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كان لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم، فيقولون: أنت نبي الله، وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات.. فذكرها، نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: أنت رسول الله، فضّلك برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد. فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم - وفي رواية: فيأتوني - فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من

أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، كما بين مكة وهجر - أو كما بين مكة وبصرى - وفي كتاب البخاري. كما بين مكة وحمير. وفي رواية قال: " وضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم، فتناول الذراع - وكانت أحب الشاة إليه - فنهس نهسة، فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم نهس أخرى، فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، فلما رأى أصحابه لا يسألونه، قال: ألا تقولون: كيفه؟ قالوا: كيفه يا رسول الله؟ قال: يقوم الناس لرب العالمين.. وساق الحديث بمعنى ما تقدم، وزاد في قصة إبراهيم، فقال: وذكروا قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم، بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم، وقال: والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة، لا أدري أي ذلك قال؟ ". أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، إلا أن في كتاب مسلم " نفسي نفسي " مرتين في قول كل نبي، والحميدي ذكر كما نقلناه، وفي رواية الترمذي " نفسي، نفسي، نفسي " ثلاثاً في الجميع (¬1) . 3- وروى مسلم عن حذيفة بن اليمان، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تُزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل ¬

(¬1) رواه البخاري: 6/264 و 265 في الأنبياء، باب قول الله عز وجل: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) ، وباب قوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) وفي تفسير سورة بني إسرائيل باب (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً) ، ومسلم رقم: 194 في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، والترمذي رقم: 2436في صفة القيامة، باب ما جاء في الشفاعة.

أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ ليست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال: فيقول إبراهيم: ليست بصاحب ذلك، إنما كنت خليلاً من وراءَ وراءَ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه تكليماً، قال: فيأتون موسى، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيؤذن له، وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق. قال: قلت: بأبي وأمي، أي شيء كالبرق، قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمرّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمطر الطير، وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط، فيقول: رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة، تأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس (¬1) في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعين (¬2) خريفا " (¬3) . 4- روي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ - آدم فمن سواه - إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، فقال: فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم، فيقولون: أنت أبونا آدم، فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: إني أذنت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحاً. فيأتون نوحاً، فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأُهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، ¬

(¬1) وفي بعض النسخ ومكردس. (¬2) وفي بعض النسخ: لسبعون، وكلاهما صحيح، وانظر ما قاله النووي في شرح مسلم. (¬3) صحيح مسلم، رقم: 195 في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة إلا ماحل (¬1) بها عن دين الله، ولكن ائتوا موسى، فيأتون موسى، فيقول: قد قتلت نفساً، ولكن ائتوا عيسى، فيأتون عيسى، فيقول: إني عُبدت من دون الله، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فانطلق معهم. قال ابن جدعان: قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله، قال: فآخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لي ويرحبون، فيقولون: مرحباً، فأخر ساجداً، فيلهمني الله من الثناء والحمد، فيقال لي: ارفع رأسك، سل تعط، واشفع تشفع، وقل يُسمع لقولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى: (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء: 79] قال سفيان: ليس عن أنس إلا هذه الكلمة " فآخُذُ بحلقة باب الجنة فأُقعْقِعُها " أخرجه الترمذي (¬2) . ¬

(¬1) المماحلة: المخاصمة والمجادلة. (¬2) سنن الترمذي، رقم: 3147 في التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو كما قال.

وجه الاستدلال بالأحاديث على الشفاعة العظمى الناظر في هذه الأحاديث يجد أن المؤمنين يرغبون إلى الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم كي يخلصوهم من الموقف العظيم، إلا أننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يشفع إنما يشفع في أمته. قال شارح الطحاوية بعد إيراده لبعض أحاديث الشفاعة التي سقناها: " والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس، ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار، وكأن مقصود السلف - في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح من الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث " (¬1) ثم ساق مضمون حديث الصور. وفي كلام محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي عدة أمور: 1- أنه أكد وجود هذا الإشكال في هذه الأحاديث، وممن ذكر هذا الإشكال ابن ¬

(¬1) شرح الطحاوية: ص 255.

حجر العسقلاني، ونقله عن الدراوردي، فإنه قال: " كأن راوي هذا الحديث ركب شيئاً على غير أصله، وذلك أن في أول ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط، وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار، ثم يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج " (¬1) قال ابن حجر بعد نقله كلام الدراوردي " وهو إشكال قويٌّ " (¬2) . 2- وقد أجاب شارح الطحاوية عن هذا الإشكال - كما نقلناه عنه - أن الذين نقلوا هذه النصوص قصَّروا في النقل، وسر هذا التقصير أنهم قصدوا الرد على الخوارج الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، وزعموا أن كل من دخل النار فإنه فيها خالد، واحتج على ما ذهب إليه بحديث الصور الذي يصرح فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع أولاً كي يأتي الحق للقضاء بين الناس، ثم يشفع مرة أخرى لدخول الجنة، ولو كان حديث الصور هذا صحيحاً لكان فيه حل لهذا الإشكال، ولكنه حديث ضعيف كما بينه الشيخ ناصر الدين الألباني في تحقيقه لأحاديث الطحاوية. ولعل ما ذهب إليه القاضي عياض وتابعه النووي وابن حجر وغيرهما عليه أكثر دقة وتوفيقاً مما قاله شارح الطحاوية، قال ابن حجر: " وقد أجاب عن هذا الإشكال عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله: " فيأتون محمداً، فيقوم ويؤذن له " أي في الشفاعة، وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر أولكم ¬

(¬1) فتح الباري: (11/437) . (¬2) فتح الباري: (11/438) .

كالبرق " الحديث، قال عياض: فبهذا يتصل الكلام، لأن الشفاعة التي لجأ إليه الناس فيها هي الإراحة من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج، وقد وقع في حديث أبي هريرة.. الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف، قال: وبهذا تجتمع متون الأحاديث، وتترتب معانيها " (¬1) . وقد زاد الحافظ ابن حجر هذه المسألة إيضاحاً، وأورد النصوص الدالة على أن في بعض الأحاديث شيئاً من الاختصار فقال: " قلت: فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه " حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكدوس في النار " فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضى بين الخلق، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك. وقد وقع ذلك صريحاً في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولاً. وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ: " إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد، فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم ". ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى " ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط، وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون ". ¬

(¬1) فتح الباري: (11/438) .

وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد " فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك؟ فأقول: يا رب عجل حسابهم " وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى " فأقول أنا لها، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد: أين محمد وأمته ". وتعرَّض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال: يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رؤوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها. قال ابن حجر: وهو احتمال بعيد، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه: " فيقول من كان بعيد شيئاً فليتبعه " بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا ". وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول: يا رب أمتي أمتي، " فيقال: أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب ". فقال: في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب ليحاسب، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى: " فأقول وعدتني الشفاعة، فشفعتني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله: وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة ". قلت: وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا

الموطن، ثم ينادي المنادي: ليتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضاً، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة بينهم ثم يدخلون الجنة " (¬1) . قلت: فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف، ومع ذلك لم يسنده، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحداً بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم. ¬

(¬1) فتح الباري: (11/438) .

الشفاعة المقبولة والشفاعة المرفوضة وأنواع الشفاعة المقبُولة دلت الأحاديث التي سقناها على نوعين من أنواع الشفاعة التي تقع في ذلك اليوم: الأول: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، الذي يرغب الأولون والآخرون فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليشفع إلى ربه كي يخلص العباد من أهوال المحشر. الثاني: الشفاعة في أهل الذنوب من الموحدين الذين دخلوا النار، وسيأتي الحديث عن هذا النوع في مبحث ((دخول الجنة)) من كتاب ((الجنة والنار)) إن شاء الله تعالى [وهي مذكوره في موقع الجنة والنار] . وبقي أنواع جاء ذكرها في الأحاديث نعرض لها هنا على وجه الاختصار: الأول والثاني: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. الرابع: الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب، ويمكن أن يستشهد لهذا بحديث عكاشة بن محصن حيث دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين

ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث في الصحيحين. الخامس: شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في تخفيف عذاب عمه أبي طالب، حيث يخرجه الله به إلى ضحضاح من نار يغطي قدميه يغلي لهما دماغه. السادس: شفاعته في الإذن للمؤمنين بدخول الجنة، وسيأتي الحديث عن هذا النوع في كتاب الجنة إن شاء الله تعالى (¬1) . والشفاعة في أهل الذنوب ليست خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فقد يشفع النبيون والشهداء والعلماء، وقد يشفع للمرء أعماله، ولكن رسولنا صلى الله عليه وسلم له النصيب الأوفر منها، وقد يشفع غيره أيضاً في رفع درجات المؤمنين، وبيقة الأنواع خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم. هذه هي أنواع الشفاعة التي تقع في يوم القيامة، أما الشفاعة المرفوضة فهي الشفاعة التي يتعامل بها الناس في الدنيا، حيث يشفع الشافع وإن لم يرض الذي شفع عنده، وقد يكره من شفع عنده على قبول شفاعة الشافعين لعظم منزلتها وقوتهم وبأسهم، وهذه هي الشفاعة التي يعتقدها المشركون والنصارى في آلهتهم، ويعتقدها المبتدعون من هذه الأمة في مشايخهم، وقد أكذب الله أصحابها، فلا أحد يشفع في ذلك اليوم إلا بإذن من الله، ولا يشفع إلا إذا رضي الله عن الشافع والمشفوع، قال تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) [البقرة: 255] وقال: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28] . ولذلك فإن والد إبراهيم لما مات كافراً فإن الله لا يقبل شفاعة خليله فيه في ¬

(¬1) انظر في هذه الموضوع شرح الطحاوية: 253.

ذلك اليوم. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه آزر في يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب، إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى، إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه، فيلقى في النار " (¬1) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) ورقمه: 3350. والذَّيخ: ذكر الصباغ، وقيل: لا يقال له ذيخ إلا كان كثير الشعر. ((فتح الباري)) شرح الحديث (4768) و (4769) .

الفصل العاشر الحساب والجزاء

الفصل العاشر الحساب والجزاء تمهيد: المراد بالحساب والجزاء: يراد بالحساب والجزاء أن يُوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في حياتهم الدنيا من إيمان وكفر، واستقامة وانحراف، وطاعة وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، وإيتاء العباد كتبهم بأيمانهم إن كانوا صالحين، وبشمالهم إن كانوا طالحين. ويشمل الحساب ما يقوله الله لعباده، وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود ووزن للأعمال. والحساب منه العسير، ومنه اليسير، ومنه التكريم، ومنه التوبيخ، والتبكيت، ومنه الفضل والصفح، ومتولي ذلك أكرم الأكرمين.

مشهد الحساب حدثنا ربنا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الزمر: 69] . وحسبنا أن نعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم والعدل قيوم السماوات والأرض ليتبين لنا عظم هذا المشهد وجلاله ومهابته، ولعل هذا الإشراق المنصوص عليه في الآية، إنما يكون عند مجيء الملك الجليل لفصل القضاء، قال تعالى: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) [البقرة: 210] . وهذا المجيء الله أعلم بكيفيته، نؤمن به ونعلم أنه حق، ولا نؤوِّله ولا نحرِّفه، ولا نكذب به، والآية تنصُّ على مجيء الملائكة، فهو موقف جليل تحضره ملائكة الرحمن بكتب الأعمال التي أحصت على الخلق أعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم، ليكون حجة على العباد، وهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] . ويجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسألون عن الأمانة التي حمَّلهم

الله إياها. وهي إبلاغ وحي الله إلى من أرسلوا إليه، ويشهدون على أقوامهم ما علموه منهم. ويقوم الأشهاد في ذلك اليوم العظيم فيشهدون على الخلائق بما كان منهم، والأشهاد هم الملائكة الذين كانوا يسجلون على المرء أعماله، ويشهد أيضاً الأنبياء والعلماء كما تشهد على العباد الأرض والسماء والليالي والأيام. ويؤتى بالعباد الذين عقد الحق محكمته العظيمة لمحاسبتهم، ويقامون صفوفاً للعرض على رب العباد (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا) [الكهف: 48] ، ويؤتى بالمجرمين منهم وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض - مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران، (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ - لِيَجْزِي اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [إبراهيم: 49-51] ، ولشدة الهول تجثوا الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب لعظم ما يشاهدون، وما هم فيه واقعون (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 28] . إنه مشهد جليل عظيم نسأل الله أن ينجينا فيه بفضله وَمَنِّهِ وكرمه.

هل يُسأل الكفَّار؟ ولماذا يُسألون؟ اختلف العلماء في الكفار: هل يحاسبون ويسألون؟ أم يأمر بهم إلى النار من غير سؤال، لأن أعمالهم باطلة حابطة فلا فائدة من السؤال والحساب؟ وإذا كانوا يحاسبون ويسألون فما فائدة حسابهم وسؤالهم؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم، فممن قال إنهم لا يحاسبون أبو بكر عبد العزيز، وأبو الحسن التميمي، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم، وممن قال: إنهم يحاسبون: أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد، وأبو سليمان الدمشقي، وأبو طالب " (¬1) . والصحيح أن الكفار محاسبون مسؤولون كما أن أعمالهم توزن، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص: 62] ، وقوله: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 65] ، وقوله: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ - وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ - فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ - نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة: 6-11] . وقوله: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ - ¬

(¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/305) .

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون: 103-105] ولا شك أن هذه النصوص في الكفار المشركين. أما لماذا يحاسبون وتوزن أعمالهم مع أن أعمالهم حابطة مردودة فلأمور: الأول: إقامة الحجة عليهم، وإظهار عدل الله فيهم، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، وهو صاحب العدل المطلق، ولذلك يسألهم ويحاسبهم، ويطلعهم على سجلاتهم التي حوت أعمالهم، ويظهر الميزان عظم سيئاتهم وشناعة أفعالهم (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47] ، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] . يقول القرطبي: " والباري - سبحانه وتعالى - يسأل الخلق في الدنيا والآخرة تقريراً لإقامة الحجة وإظهاراً للحكمة " (¬1) . الثاني: أن الله يحاسبهم لتوبيخهم وتقريعهم، يقول شيخ الإسلام: " يراد بالحساب عرض أعمال الكفار عليهم وتوبيخهم عليها، ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات، فإن أريد بالحساب المعنى الأول، فلا ريب أنهم محاسبون بهذا الاعتبار. وإن أريد به المعنى الثاني فإن قصد ذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 225.

يستحقون بها الجنة فهذا خطأ ظاهر " (¬1) . وهذا التأنيب والتقريع والتوبيخ ظاهر من نصوص كثيرة كقوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنعام: 30] . وقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ) [الأنعام: 130] ، وقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ) [الشعراء: 91-92] ، وقوله: (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ) [القصص: 64] . قال ابن كثير: " وأما الكفار فتوزن أعمالهم، وإن لم تكن لهم حسنات تنفعهم يقابل بهذا كفرهم، لإظهار شقائهم وفضيحتهم على رؤوس الخلائق " (¬2) . الثالث: أن الكفار مكلفون بأصول الشريعة كما هم مكلفون بفروعها، فيسألون عما قصروا فيه وخالفوا فيه الحق، يقول القرطبي: " وفي القرآن ما يدل على أنه مخاطبون بها (أي فروع الشريعة) مسؤولون عنها، محاسبون بها، مجزيون على الإخلال بها، لأن الله تعالى يقول: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا ¬

(¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/305) . (¬2) النهاية، لابن كثير: (2/35) .

يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6-7] ، فتوعدهم على منعهم الزكاة، وأخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ - قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر: 42-46] ، فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان والبعث وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأنهم مسؤولون عنها، مجزيون " (¬1) . الرابع: أن الكفار يتفاوتون في كفرهم وذنوبهم ومعاصيهم، ويحلون في النار بمقدار هذه الذنوب، فالنار دركات بعضها تحت بعض، كما أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، وكلما كان المرء أشد كفراً وضلالاً كلما كان أشد عذاباً، وبعض الكفرة يكون في الدرك الأسفل من النار، ومنهم المنافقون (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء: 145] . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " عقاب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلَّت سيئاته، ومن كان له حسنات خففت عنه العذاب، كما أن أبا طلب أخف عذاباً من أبي لهب.. فكان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخولهم الجنة " (¬2) . ويذكر القرطبي في وزن أعمال العباد وجهين: الأول: أنه يوضع في إحدى الكفتين كفره وسيئاته. ولا يجد الكافر حسنة توضع في الكفة الأخرى، فترجح كفة السيئات لكون كفة الحسنات فارغة. والثاني: أن حسنات الكافر من صلة رحم، وصدقة، ومواساة للناس توضع في كفة الحسنات، ولكن كفة السيئات ترجح بسبب كفره وشركه (¬3) ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 309. (¬2) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/305) . (¬3) تذكرة القرطبي: 312.

والوجه الأول هو الصحيح لأن الشرك يحبط العمل، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65] (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217] . وفي الحديث: " إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه " (¬1) . ولأنه قد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الكافر يطعم بحسنته في الدنيا فيوافى يوم القيامة وليس له حسنة، ففي صحيح مسلم، ومسند أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنته، يعطى بها في الدنيا (وفي رواية يثاب عليها الرزق في الدنيا) ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها " (¬2) . توجيه النصوص الدالة على أن الكفار لا يُسألون: فإن قيل: قررتم فيما سبق أن الكفار يسألون ويجادلون ويتكلمون ويعتذرون، فيكف تفعلون بالنصوص الدالة على خلاف ذلك، كقوله تعالى: (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78] ، وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن: 39] ، وقوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ - وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات: 35-36] ، ونحو ذلك من النصوص. ¬

(¬1) رواه النسائي في الجهاد عن أبي أمامة، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 52. (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/82) ورقمه: 53.

فنقول: ليس بين هذه النصوص وتلك تعارض، وقد وفق أهل العلم بينهما بوجوه عدة. الأول: أن الكفار لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، لم عملتم كذا وكذا؟ (¬1) وكذا يقال في تكليمهم واعتذارهم، أي لا يكلمهم الله بما يحبونه، بل يكلمهم كلام تقريع وتوبيخ (¬2) . الثاني: أنهم لا يسألون سؤال استفهام، لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم، وإنما يسألون سؤال تقرير، فيقال لهم: لم فعلتم كذا؟ قال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله حفظها عليهم وكتبتها عليهم الملائكة (¬3) . الثالث: أنهم يسألون في يوم القيامة في موطن دون موطن، قال القرطبي: " القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك " (¬4) . وقال السفاريني: " وقيل يسألون في موطن دون موطن رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.. فللناس يوم القيامة حالات، والآيات مخرجة باعتبار تلك الحالات، ومن ثَمَّ قال الإمام أحمد في أجوبته القرآنية: أول ما تبعث الخلائق على مقدار ستين سنة لا ينطقون، ولا يؤذن لهم في الاعتذار فيعتذرون، ثم يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون، فذلك قوله تعالى: (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا) [السجدة: 12] " (¬5) الآية، فإذا أذن لهم في الكلام ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: 286. (¬2) انظر: تذكرة القرطبي: 287. (¬3) لوامع الأنوار البهية: (2/174) . (¬4) تذكرة القرطبي: 286. (¬5) لوامع الأنوار البهية: (2/174) .

تكلموا، واختصموا، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 31] ، عند الحساب وإعطاء المظالم، ثم يقال لهم بعد ذلك: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ) [ق: 28] ، يعني في الدنيا، فإن العذاب مع هذا القول كائن " (¬1) . الرابع: قال القرطبي: " أن معنى قوله تعالى: (وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص: 78] ، سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين، أي إن الملائكة لا تحتاج إلى أن تسأل أحداً يوم القيامة أن يقال: ما دينك؟ وما كنت تصنع في الدنيا؟ حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه كان مؤمناً أو كان كافراً، لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور، ويكون المشركون سود الوجوه زرقاً مكروبين، فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار، وتميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم.. " (¬2) . ¬

(¬1) لوامع الأنوار البهية: (2/174) . (¬2) تذكرة القرطبي: 287.

القواعد التي يحاسب العباد على أساسها لو عذَّب الله جميع خلقه لم يكن ظالماً لهم، لأنهم عبيده، وملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء. ولكن الحق تبارك وتعالى يحاكم عباده محاكمة عادلة، لم تشهد البشرية لها مثيلاً من قبل، وقد بين لنا ربنا في كثير من النصوص جملة القواعد التي تقوم عليها المحاكمة والمحاسبة في ذلك اليوم. وسنذكر من ذلك ما ظهر لنا من تلك القواعد. 1- العدل التام الذي لا يشوبه ظلم: يُوَفِّي الحقُّ - عز وجل - عباده يوم القيامة أجورهم كاملة غير منقوصة، ولا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281] . وقال لقمان في وصيته لابنه معرفاً إياه بعدل الله: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان: 16] .

وقال الحق في موضع آخر: (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40] ، وقال: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء: 77] . وقال: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء: 124] . وقال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7-8] ، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى في هذه النصوص أنه يُوفِّي كل عبدٍ عمله، وأنه لا يضيع منه، ولا ينقص منه مقدار الذرة، وهي الهباءة التي في أشعة الشمس إذا دخلت من الطاق، ولا مقدار الفتيل ولا النقير، والفتيل هو الخيط الذي يكون في شق النواة، والنقير: النقرة الصغيرة التي تكون في ظهر النواة. 2- لا يؤخذ أحد بجريرة غيره: قاعدة الحساب والجزاء التي تمثل قمة العدل ومنتهاه أن الله يجازي العباد بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يحمل الحق تبارك وتعالى أحداً وزر غيره، كما قال تعالى: (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام: 164] . وهذا هو العدل الذي لا عدل فوقه، فالمهتدي يقطف ثمار هدايته، والضال ضلاله على نفسه، (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء: 15] .

وهذه القاعدة العظيمة إحدى الشرائع التي اتفقت الرسالات السماوية على تقريرها، قال تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى) [النجم: 36-41] . يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164] " أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذة بجرمها ومعاقبة بإثمها، وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى: (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) [الشرح: 2] ، وهو هنا الذنب،.. والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم، ذكره ابن عباس، وقيل: إنها نزلت رداً على العرب في الجاهلية من مؤاخذة الرجل بأبيه وابنه، وبجريرة حليفه " (¬1) . الذين يجمعون أثقالاً مع أثقالهم: قد يعارض بعض أهل العلم هذا الذي ذكرناه من أن الإنسان لا يحمل شيئاً من أوزار الآخرين بمثل قوله تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ) [العنكبوت: 13] ، وقوله: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل: 25] . وهذا الذي ذكروه موافق لما ذكرناه من النصوص، وليس بمعارض لها، ¬

(¬1) تفسير القرطبي: (4/157) .

فإن هذه النصوص تدل على أن الإنسان يتحمل إثم ما ارتكب من ذنوب، وإثم الذين أضلهم بقوله وفعله، كما أن دعاة الهدى ينالون أجر ما عملوه، ومثل أجر من اهتدى بهديهم، واستفاد بعلمهم، فإضلال هؤلاء لغيرهم هو فعل لهم يعاقبون عليه (¬1) . 3- إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال: من إعذار الله لخلقه، وعدله في عباده أن يطلعهم على ما قدموه من صالح أعمالهم وطالحها، حتى يحكموا على أنفسهم، فلا يكون لهم بعد ذلك عذر. قال تعالى: (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة: 105] ، وقال: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران: 30] ، وقال: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار: 5] ، وقال: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] . وإطلاع العباد على ما قدموه يكون بإعطائهم صحائف أعمالهم، وقراءتهم لها، فقد أخبرنا ربنا - تبارك وتعالى - أنه وكل بكل واحد منا ملكين يسجلان عليه صالح أعماله وطالحها، فإذا مات ختم على كتابه، فإذا كان يوم القيامة أعطى العبد كتابه، وقيل له: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً. ¬

(¬1) توسع أ. د. عمر الأشقر في بحث هذه المسألة في كتابه (مقاصد المكلفين) .

قال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا - اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13-14] . وهو كتاب شامل لجميع الأعمال كبيرها وصغيرها (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49] . 4- مضاعفة الحسنات دون السيئات: ومن رحمته أن يضاعف أجر الأعمال الصالحة (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [التغابن: 17] . وأقل ما تضاعف به الحسنة عشرة أضعاف (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160] . أما السيئة فلا تجزى إلا مثلها (وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) [الأنعام: 160] . وهذا مقتضى عدله تبارك وتعالى. وقد روى الحاكم في مستدركه، وأحمد في مسنده بإسناد حسن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: حدثنا الصادق المصدوق فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: " الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد.. والسيئة واحدة أو أغفرها، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها مغفرة " (¬1) . ¬

(¬1) سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحديث: 128.

ومن الأعمال التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تضاعف عشرة أضعاف قراءة القرآن، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي والدارمي بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول: (الم) حرف. ألف حرف. ولا حرف. وميم حرف " وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. غريب إسناداً (¬1) . وأخبرنا رسولنا صلوات الله وسلامه عليه أيضاً أن الذكر يضاعف عشرة أضعاف، ففي سنن الترمذي والنسائي وأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خصلتان - أو خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسيرٌ، ومن يعمل بهما قليل: يسبح الله في دبر كل صلاة عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده، قال: فلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وإذا أخذت مضجعك تسبحه وتكبره وتحمده مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة؟ قالوا: فكيف لا نحصيها؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينفتل، فلعله لا يفعل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام "، أخرجه الترمذي والنسائي. وفي رواية أبي داود بعد قوله: " في الميزان " الأولى، قال: " ويكبر أربعاً وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، فذلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده. قالوا: يا رسول الله، كيف هما يسيرٌ، ومن يعمل بهما قليل؟ قال: يأتي أحدكم ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (1/661) رقم الحديث: 2137.

الشيطان في منامه، فينومه قبل أن يقوله، ويأتيه في صلاته فيذكره حاجته قبل أن يقولها " (¬1) . وحدثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء الذي يرويه البخاري وغيره تردده صلى الله عليه وسلم بين ربه وموسى، حيث كان يشير عليه موسى في كل مرة أن يرجع إلى ربه، فيسأله أن يخفف عنه من الصلاة، حتى أصبحت خمساً بعد أن كانت خمسين.. قال في ختام ذلك: " قال الجبار تبارك وتعالى: إنه لا يبدل القول، كما فرضت عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشرة أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى. فقال: كيف فعلت؟ قال: خففت عنا، أعطانا بكل حسنة عشرة أمثالها ". وقد يضاعفها أكثر من ذلك، وقد تصل المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، وأكثر من ذلك، ومن ذلك أجر المنفق في سبيل الله، قال تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261] ، قال ابن كثير: هذا مثل ضربه الله لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. فقال: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة: 261] قال سعيد بن جبير: " يعني في طاعة الله ". وقال مكحول: يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك. وعن ابن عباس: الجهاد والحج يضعف الدرهم فيها إلى سبعمائة ضعف " (¬2) . وأورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية الحديث الذي يرويه مسلم والنسائي ¬

(¬1) جامع الأصول: (4/372) . رقم الحديث: 2148. (¬2) تفسير ابن كثير: (1/561) .

وأحمد عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتأتين يوم القيامة بسبعمائة مخطومة " هذا لفظ أحمد والنسائي. ولفظ مسلم: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله. هذه في سبيل الله، فقال: " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة " (¬1) . وأما الأعمال التي تضاعف أضعافاً لا تدخل تحت حصر، ولا يحصيها إلا الذي يجزى بها: الصوم، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: " إلا الصوم فإنه لي: وأنا أجزي به " (¬2) . والسر في كون الصائم يعطى من غير تقدير، أن الصوم من الصبر، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب، قال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10] ، قال القرطبي: " وقال أهل العلم: كل أجر يكال كيلاً، ويوزن وزناً إلا الصوم، فإنه يحثى ويغرف غرفا " (¬3) . ومن الصبر: الصبر على فجائع الدنيا وأحزانها وكربها التي يبتلي الله بها عباده (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة: 155-157] . وعندما يرى أهل العافية عظم أجر الصابرين يتمنون أن تكون جلودهم قرضت ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (1/562) . (¬2) مشكاة المصابيح: (1/613) ، ورقمه: 1959. وهو في صحيح مسلم، ورقمه: 1151 ورواه البخاري في مواضع: 1894، 1904، 5927. واللفظ لمسلم. (¬3) تفسير القرطبي: (15/240) .

بالمقاريض لينالوا أجر الصابرين، ففي سنن الترمذي عن جابر، ومعجم الطبراني عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليودَّن أهل العافية يوم القيامة، أن جلودهم قرضت بالمقاريض، مما يرون من ثواب أهل البلاء " (¬1) . ومن فضل الله تبارك وتعالى أن المؤمن الذي يهم بفعل الحسنة، ولكنه لا يفعلها تكتب له حسنة تامة، والذي يهم بفعل السيئة، ثم تدركه مخافة الله، فيتركها تكتب له حسنة تامة، ففي صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: " إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها، فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة " (¬2) . تبديل السيئات حسنات: وتبلغ رحمة الله بعباده وفضله عليهم أن يبدِّل سيئاتهم حسنات، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها. رجل يؤتى به يوم القيامة. فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا. فيقول نعم: لا يستطيع أن ينكر. وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه. ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (5/111) ، ورقم الحديث: 5360. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو سيئة، فتح الباري: (11/323) .

فيقال له: فإن لك مكانا كل سيئة حسنة. فيقول: رب، عملت أشياء لا أراها ها هنا ". فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه (¬1) . 5- إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين: أعظم الشهداء في يوم المعاد على العباد هو ربهم وخالقهم وفاطرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، قال تعالى: (وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس: 61] ، وقال: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) [النساء: 33] . ولكن الله يحب الإعذار على خلقه، فيبعث من مخلوقاته شهداء على المكذبين الجاحدين حتى لا يكون لهم عذر، وقد أشارت أكثر من آية إلى الشهداء الذين يشهدون على العباد، كقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51] ، وقوله تعالى: (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء) [الزمر: 69] . وأول من يشهد على الأمم رسلها، فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ، (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا) [النساء: 41] ، (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء) [النحل: 89] . ¬

(¬1) صحيح مسلم: (1/177) . ورقم الحديث: 190.

وقوله: (شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ) ، هم الرسل، لأن كل أمة رسولها منها، كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) [التوبة: 128] وقال تعالى: (وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) [القصص: 75] . وكما يشهدون على أممهم بالبلاغ يشهدون عليهم بالتكذيب، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 109] ، وقال: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ - فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) [الأعراف: 6-7] . قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى: " هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلوا إليهم، ... وقول الرسل: (لا علم لنا) قال مجاهد والحسن البصري والسدي: إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم.. وقال ابن عباس: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا، رواه ابن جرير ثم اختاره، ولا شك أنه قول حسن، وهو من باب التأدب مع الله عز وجل، أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا ما أجبنا، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه، وأنت العليم بكل شيء، المطلع على كل شيء، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا شيء " (¬1) . ثم إن الأمم تكذب رسلها، وتقول كل أمة ما جاءنا من نذير، فتأتي هذه الأمة: أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد للرسل بالبلاغ، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (2/676) .

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] . وقد أورد البخاري في صحيحه في كتاب التفسير الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدعى نوح يوم القيامة، لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: " هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله جل ذكره: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] " (¬1) . وقد أفاد ابن حجر أنه قد جاء الحديث عند أحمد والنسائي وابن ماجة بلفظ: " يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك. قال: فيقال لهم: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ .. " الحديث. وذكر ابن حجر أيضاً أن في بعض روايات الحديث زيادة: " فيقال ما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه " (¬2) . ومن الأشهاد الأرض والأيام والليالي، تشهد بما عمل فيها وعليها، ويشهد المال على صاحبه، وقد عقد القرطبي في تذكرته لهذا الموضوع باباً، وذكر فيه حديث الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ¬

(¬1) صحيح البخاري: (4487) ، كتاب التفسير: (8/171) . (¬2) فتح الباري: (8/172) .

الآية (يومئذٍ تحدث أخبارها) [الزلزلة: 4] . قال: " أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا، كذا وكذا، فهذه أخبارها ". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. ويشهد على العبد أيضاً ملائكة الرحمن الذين كانوا يسجلون عليه صالح أعماله وطالحها، كما قال تعالى: (وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق: 21] ، والسائق والشهيد الملكان اللذان كانا موكلين بتلك النفس. وتشهد الملائكة على العباد بما كانوا يعملون، (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ) [هود: 18] ، فإذا لج العبد في الخصومة، وكذب ربه، وكذب الشهود الذين شهدوا عليه، أقام الله عليه شاهداً منه، فتشهد على المرء أعضاؤه، وقد مضى بيان هذا.

ما يسأل عنه العباد يسأل العباد عن الإله الذي كانوا يعبدونه، وعن إجابتهم للمرسلين، وقد بينا ذلك فيما مضى. ويسألون عن أعمالهم التي عملوها، وعما تمتعوا به من النعيم في الحياة الدنيا، كما يسألون عن عهودهم ومواثيقهم، وعن أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم، وهذا ما سنبينه في هذا المبحث. 1- الكفر والشرك: أعظم ما يسأل عنه العباد هو كفرهم وشركهم، فيسألهم عن الشركاء والأنداء الذين كانوا يعبدونه من دون الله كما قال تعالى: (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ) [الشعراء: 92-93] ، (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص: 62] . ويسألون عن عبادتهم لغير الله من تقديم القرابين للآلهة التي كانوا يعبدونها، ونحر الذبائح باسمها (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ) [النحل: 56] .

ويسألون عن تكذيبهم للرسل: (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ - فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ) [القصص: 65-66] . 2- ما عمله في دنياه: يسأل المرء في يوم القيامة عن جميع أعماله التي عملها في الحياة الدنيا، كما قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ - عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92-93] . وقال: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف: 6] ، وفي سنن الترمذي عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ " (¬1) . وفي سنن الترمذي أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه، حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم " (¬2) . والذي يتأمل في مثل هذا الحديث يعلم السر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم إلى ¬

(¬1) سنن الترمذي: 2417. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وكذا رمز له الشيخ ناصر بالصحة في صحيح الجامع: (6/148) ، ورقمه: 7177 وهو في صحيح سنن الترمذي: 1970. (¬2) جامع الأصول: (10/437) ، ورقمه: 7970. وهو حديث حسن كما قال محقق جامع الأصول، وقد حسنه الشيخ ناصر في صحيح الجامع: (6/148) ، ورقمه: 7176. وهو في صحيح سنن الترمذي: 1969. ورقمه في سنن الترمذي: 2416.

التخفف من المال، فكلما كثر مال العبد كثر حسابه وطال، وكلما قل ماله خف حسابه وأسرع به إلى الجنة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين سنة، ففي صحيح مسلم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنا عنده، فقالوا: يا أبا محمد، إنا والله، ما نقدر على شيء، لا نفقة، ولا دابة، ولا متاع. فقال: ما شئتم إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسر الله لكم. وإن شئتم ذكرنا أمركم للسلطان. وإن شئتم صبرتم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء، يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً " (¬1) . 3- النعيم الذي يتمتع به: يسأل الله عباده في يوم القيامة عن النعيم الذي خولهم إياه في الدنيا، كما قال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8] . يعني بالنعيم شبع البطون، وبارد الماء، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم، وقال سعيد بن جبير: حتى عن شربة عسل. وقال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا. وقال الحسن البصري: من النعيم الغذاء والعشاء. وقال أبو قلابة: من النعيم أكل السمن والعسل بالخبز النقي. وعن ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار (¬2) . وهذا الذي فسروها به من باب التنوع في التفسير، فإن أصناف النعيم كثيرة ¬

(¬1) صحيح مسلم: (4/2285) . ورقمه: 2979. (¬2) تفسير ابن كثير: 7/364.

لا تعد ولا تحصى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) [إبراهيم: 34] ، وبعض أنواع النعيم من الضروريات وبعضها من الكماليات، والناس يتفاوتون في ذلك فيما بينهم، ويوجد في عصر مالا يجده أهل عصور أخرى، وفي بلد ما لا يجده أهل بلاد أخرى، وكل ذلك يسأل عنه العباد. روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك؟ ونروك من الماء البارد " (¬1) . وبعض الناس لا يستشعر النعم العظيمة التي وهبه الله إياها، فلا يدرك النعمة التي في شربة الماء، ولقمة الطعام، وفيما وهبه الله من مسكن وزوجة وأولاد، ويظن أن النعم تتمثل في القصور والبساتين والمراكب فحسب، فقد سأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم. فأنت من الأغنياء. قال فإن لي خادماً. قال: فأنت من الملوك (¬2) . وفي صحيح البخاري عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ " (¬3) ، ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، لا يقومون بواجبهما، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/656) ورقمه: (5196) ، وقال محقق المشكاة: إسناده صحيح. (¬2) صحيح مسلم: (4/2285) ورقم الحديث: 2979. (¬3) صحيح البخاري: 6412.

وفي مسند أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم " (¬1) . وفي بعض الأحاديث النبوية بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم عن صورة من صور السؤال عن النعيم الذي يواجه الله به عباده في ذلك اليوم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى (الرب) العبد فيقول: أي فُل (¬2) ، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ قال: فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فُل، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى. أي رب، فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول: فإني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك. فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع. فيقول: ههنا اذن (¬3) . قال: ثم يقال له: الآن نبعث عليك شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه، من ذا يشهد علي؟ فيختم الله على فيه. ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه. وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه " (¬4) . ¬

(¬1) مشكاة المصابيح: (2/676) ، ورقمه: 5290، وعزاه المحقق إلى ابن ماجة، وقال: إسناده صحيح. (¬2) فل، أي: يا فلان. (¬3) معناه قف: ههنا إذن. (¬4) رواه مسلم في صحيحه: (4/2280) ، ورقمه: 2968.

والسؤال عن النعيم سؤال عن شكر العبد لما أنعم الله به عليه، فإذا شكر فقد أدى حق النعمة، وإن أبى وكفر، أغضب عليه الله، ففي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها " (¬1) . 4- العهود والمواثيق: يسأل الله عباده عما عاهدوه عليه (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا) [الأحزاب: 15] ، وكل عهد مشروع بين العباد فإن الله سائل العبد عن الوفاء به (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 34] . 5- السمع والبصر والفؤاد: يسأل الله العباد عن جميع ما يقولونه، ولذلك حذرهم من القول بلا علم (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء: 36] ، قال قتادة: " لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله " (¬2) . قال ابن كثير: " ومضمون ما ذكروه في الآية أن الله نهى عن القول بغير ¬

(¬1) صحيح مسلم: 2734. (¬2) تفسير ابن كثير: (4/308) .

علم، بل بالظن، الذي هو التوهم والخيال. كما قال تعالى: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات: 12] . وفي الحديث: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث "، وفي سنن أبي داود بئس مطية الرجل: (زعموا) وفي الحديث الآخر: " إن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " وفي الصحيح: " من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل " (¬1) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: (4/308) .

أول ما يحاسب عليه العبد من أعماله أول ما يحاسب عليه العبد من حقوق الله تبارك وتعالى الصلاة، فإن صلحت أفلح ونجح وإلا خاب وخسر، ففي سنن الترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئاً. قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك " (¬1) . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، قال: يقول ربنا - عز وجل - لملائكته: انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها؟ فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً، قال: انظروا، هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع، قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال بعد ذلك " (¬2) . ¬

(¬1) جامع الأصول: (10/434) ، ورقمه: 7964، وعزاه في صحيح الجامع إلى الترمذي والنسائي وابن ماجة، وصححه. صحيح الجامع: (2/184) ، ورقمه: 2016. (¬2) جامع الأصول: (10/435) ، ورقمه: 7956، وعزاه الشيخ ناصر في صحيح الجامع إلى أبي داود وأحمد والنسائي والحاكم. وقال فيه: صحيح. صحيح الجامع: (2/352) ، ورقمه: 2568.

أنواع الحساب وأمثلة لهذه الأنواع المطلب الأول أنواع الحساب يتفاوت حساب العباد، فبعض العباد يكون حسابهم عسيراً وهؤلاء هم الكفرة المجرمون الذين أشركوا بالله ما لمن ينزل به سلطاناً، وتمردوا على شرع الله، وكذبوا بالرسل، وبعض عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب كثرة الذنوب وعظمها. وبعض العباد يدخلون الجنة بغير حساب، وهم فئة قليلة لا يجاوزون السبعين ألفاً، وهم الصفوة من هذه الأمة، والقمم الشامخة في الإيمان والتقى والصلاح والجهاد، وسيأتي ذكرهم وصفتهم عند الحديث عن أهل الجنة وبعض العباد يحاسبون حساباً يسيراً، وهؤلاء لا يناقشون الحساب، أي لا يدقق، ولا يحقق معهم، وإنما تعرض عليهم ذنوبهم ثم يتجاوز لهم عنها. وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ- فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الانشقاق: 7-8] ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ- فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الانشقاق: 7-8] ، فقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: " إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك " (¬1) . قال النووي في شرحه للحديث: " معنى نوقش الحساب: استقصي عليه. قال القاضي: وقوله: (عذب) له معنيان: أحدهما: أن نفس المناقشة وعرض الذنوب والتوقيف عليها هو التعذيب لما فيه من التوبيخ. والثاني: أنه مفض إلى العذاب بالنار ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: (هلك) مكان (عذب) هذا كلام القاضي. قال النووي: وهذا الثاني هو الصحيح، ومعناه أن التقصير غالب في العباد فمن استقصي عليه، ولم يسامح هلك، ودخل النار، ولكن الله تعالى يعفو ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء " (¬2) . ونقل ابن حجر عن القرطبي في معنى قوله: " إنما ذلك العرض " قال: " إن الحساب المذكور في الآية إنما هو أن تعرض أعمال المؤمن عليه حتى يعرف منَّة الله عليه في سترها عليه في الدنيا، وفي عفوه عنها في الآخرة " (¬3) . والمراد بالعرض - كما هو ظاهر من هذه الأحاديث - عرض ذنوب المؤمنين عليهم، كي يدركوا مدى نعمة الله عليهم في غفرانها لهم. ¬

(¬1) صحيح الجامع، كتاب الرقاق، باب من نوقش الحساب عذب، فتح الباري: (11/400) ، وصحيح مسلم: (4/2204) ، ورقمه: 2876، واللفظ للبخاري. (¬2) النووي على شرح مسلم: (17/208) . (¬3) فتح الباري: (11/402) .

المطلب الثاني أمثلة هذه الأنواع ورد في السنة النبوية مشاهد للمناقشة والعرض والمعاتبة التي تكون من الله لعباده، وسنسوق لكل واحد من هذه الأنواع الثلاثة مشهداً مما صح في السنة. 1- مناقشة المرائين: روى مسلم والترمذي والنسائي عن شفي بن ماتع الأصبحي رحمه الله أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: " من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا، قلت له: أسألك بحق وحق، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة، فمكثنا قليلاً، ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى، ثم أفاق ومسح عن وجهه، وقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خاراً على وجهه، فأسندته طويلاًً، ثم أفاق، فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء

الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك. ويؤتى بصحاب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك، حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى، يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقيل ذلك. ثم يؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ". قال الوليد أبو عثمان المدائني: فأخبرني عقبة بن مسلم: أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا. قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: " أنه كان سيافاً لمعاوية، فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هكذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديداً، حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ - أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [هود: 15-16] . أخرجه الترمذي. وفي رواية مسلم والنسائي عن سليمان بن يسار: قال: " تفرق الناس عن

أبي هريرة، فقال له ناتل أخو أهل الشام: أيها الشيخ حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأوتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنه تعلمت العلم ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه بنعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ". 2- عرض الرب ذنوب عبده عليه: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد: (هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18] (¬1) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب قوله تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) ، فتح الباري: (5/96) ، وصحيح مسلم: (4/2120) ، ورقمه: 2768.

قال القرطبي في قوله: " فيضع عليه كنفه " أي: ستره ولطفه وإكرامه، فيخاطب خطاب ملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول له: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله ممتناً عليه، ومظهراً فضله لديه: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، أي لم أفضحك بها فيها، وأنا أغفرها لك اليوم (¬1) . 3- معاتبة الرب عبده فيما وقع منه من تقصير: وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معاتبة الرب لعبده يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمتك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقتيك فلم تسقني؟ قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟ " (¬2) . ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 263. (¬2) مشكاة المصابيح: (1/486) ، ورقم الحديث: 1528.

إيتاء العباد كتبهم في ختام مشهد الحساب يعطى كل عبد كتابه المشتمل على سجل كامل لأعماله التي عملها في الحياة الدنيا وتختلف الطريقة التي يؤتى بها العباد كتبهم، فأما المؤمن فإنه يؤتى كتابه بيمينه من أمامه، فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله في الجنة مسروراً (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ - فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا - وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق: 7-9] ، وإذا اطلع المؤمن على ما تحويه صحيفته من التوحيد وصالح الأعمال سر واستبشر، وأعلن هذا السرور، ورفع به صوته، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ - في جنَّةٍ عَالِيَةٍ - قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ - كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 19-24] . وأما الكافر والمنافق وأهل الضلال فإنهم يؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعو الكافر بالويل والثبور، وعظائم الأمور (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ - فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا) [الانشقاق: 10-12] . (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ -

يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ - خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [الحاقة: 25-31] . وعندما يعطى العباد كتبهم يقال لهم: (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 29] .

تصوير القرطبي لمشهد الحساب قال القرطبي مصوراً مشهد الحساب: " فإذا بعث العباد من قبورهم إلى الموقف، وقاموا فيه ما شاء الله، حفاة عراة، وجاء وقت الحساب الذي يريد الله أن يحاسبهم فيه، أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأتوها، فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه، فأولئك هم السعداء، ومنهم من يؤتى كتابه بشماله أو وراء ظهره، وهم الأشقياء، فعند ذلك يقرأ كل كتاب به، وأنشدوا: مثل وقوفك يوم العرض عرياناً ××× مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهَّب من غيظ ومن حنق ××× على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل ××× فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته ××× إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي ××× امضوا بعبد عصا للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا ××× والمؤمنون بدار الخلد سكانا فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق: أين فلان بن فلان؟ هلم إلى العرض على الله تعالى. وقد وكلت الملائكة بأخذك، فقربتك إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك، إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذا قرع النداء قلبك، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، تخطى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد

رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيديهم، وقد طار قلبك، واشتد رعبك، لعلمك أين يراد بك. فتوهم نفسك، وأنت بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك، لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها! وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها! وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً! فيا حسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك. فأما من أوتي كتابه بيمينه، فعلم أنه من أهل الجنة، فيقول: هاؤم اقرأوا كتابية، وذلك حين يأذن الله، فيقرأ كتابه، فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعوا إليه، ويأمر به، ويكثر تبعه عليه، دعي باسمه واسم أبيه، فيتقدم حتى إذا دنى أخرج له كتاب أبيض، في باطنه السيئات، وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه، فإذا بلغ آخر الكتاب، وجد فيه: هذه سيئاتك، وقد غفرت لك، فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه، فيقرأ حسناته، فلا يزداد إلا فرحاً، حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجده فيه: هذه حسناتك، قد ضوعفت لك، فيبيض وجهه، ويؤتى بتاج، فيوضع على رأسه، ويكسى حلتين، ويحلى كل مفصل فيه، ويطول ستين ذراعاً، وهي قامة آدم. ويقال له: انطلق إلى أصحابك فبشرهم، وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فإذا أدبر قال: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ - إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ) . قال الله تعالى: (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [الحاقة: 19-21] ، أي مرضية، قد رضيها (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) ، في السماء (قُطُوفُهَا) ، ثمارها وعناقيدها (دَانِيَةٌ)

أدنيت منهم. فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: قد غمرتك كرامة الله، من أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان، ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) (¬1) أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إليه، ويأمر به، فيكثر تبعه عليه، ونودي باسمه واسم أبيه، فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود، بخط أسود، في باطنه الحسنات، وفي ظاهره السيئات، فبدأ بالحسنات فيقرؤها، ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب، وجد فيه: هذه حسناتك، وقد ردت عليك، فيسود وجهه، ويعلوه الحزن، ويقنط من الخير، ثم يقلب كتابه، فيقرأ سيئاته، فلا يزداد إلا حزناً، ولا يزداد وجهه إلا سواداً. فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك، وقد ضوعفت عليك، أي يضاعف عليه العذاب، ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل. قال: فيعظم في النار، وتزرق عيناه، ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران. ويقال له: انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) يعني الموت (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) فسره ابن عباس رضي الله عنهما: هلكت عني حجتي. قال الله تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي اجعلوه يصلى الجحيم (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) الله أعلم بأي ذراع. قال الحسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك. (فاسلكوه) ، قيل: يدخل عنقه فيها، ثم يجر بها، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب. فينادي أصحابه فيقول: هل تعرفوني؟ فيقولون: لا، ولكن قد نرى ما ¬

(¬1) الآيات التي استشهد بها المصنف في كلامه من سورة الحاقة: 19-32.

بك من الحزن. فمن أنت؟ فيقول: أنا فلان بن فلان، لكل إنسان منكم مثل هذا. وأما من أوتي كتابه وراء ظهره، تخلع كتفه اليسرى، فيجعل يده خلفه، فيأخذ بها كتابه. وقال مجاهد: يحول وجهه في موضع قفاه، فيقرأ كتابه كذلك. فتوهم نفسك إن كنت من السعداء، وقد خرجت على الخلائق مسرور الوجه، قد حل بك الكمال والحسن والجمال، كتابك في يمينك، أخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق: هذا فلان بن فلان، سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً. وأما إن كنت من أهل الشقاوة، فيسود وجهك، وتتخطى الخلائق كتابك في شمالك، أو من وراء ظهرك، تنادي بالويل والثبور، وملك آخذ بضبعيك ينادي على رؤوس الخلائق: ألا إن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً (¬1) . ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 255.

الفصل الحادي عشر اقتصاص المظالم بين الخلق

الفصل الحادي عشر اقتصاص المظالم بين الخلق يقتص الحكم العدل في يوم القيامة للمظلوم من ظالمه، حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة، حتى الحيوان يقتص لبعضه من بعض، فإذا انططحت شاتان إحداهما جلحاء لا قرون لها، والأخرى ذات قرون، فإنه يقتص لتلك من هذه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " (¬1) . والذي يعتدي على غيره بالضرب، يقتص منه بالضرب في يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري في ((الأدب المفرد)) والبيهقي في السنن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ضرب بسوط ظلماً، اقتص منه يوم القيامة " (¬2) . وفي معجم الطبراني الكبير عن عمار، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ضرب مملوكه ظالماً، أقيد منه يوم القيامة " وإسناده صحيح (¬3) . والذي يقذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد في يوم القيامة، إن كان كذاباً فيما رماه به، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: " من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال " (¬4) . ¬

(¬1) صحيح مسلم: (4/1997) ، ورقمه: (2582) . (¬2) صحيح الجامع الصغير: (5/319) ، ورقمه: 6250. (¬3) صحيح الجامع الصغير: (5/319) ، ورقمه: 6252. (¬4) صحيح مسلم: (3/1282) ، ورقمه: 1660.

المطلب الأول كيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة إذا كان يوم القيامة كانت ثروة الإنسان ورأس ماله حسناته، فإذا كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر ما ظلمهم، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته، فإنه يؤخذ من سيئاتهم فيطرح فوق ظهره. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " (¬1) . وهذا الذي يأخذ الناس حسناته، ثم يقذفون فوق ظهره بسيئاتهم هو المفلس، كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: " إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار " (¬2) . والمدين الذي مات، وللناس في ذمته أموال يأخذ أصحاب الأموال من حسناته بمقدار ما لهم عنده، ففي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن ابن عمر ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب من كانت له مظلمة عند الرجل، فتح الباري: (5/101) . (¬2) صحيح مسلم: (4/1997) ، ورقمه: 2581.

رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وعليه دينار أو درهم، قضى من حسناته، ليس ثم دينار ولا درهم " (¬1) . وإذا كانت بين العباد مظالم متبادلة اقتص لبعضهم من بعض، فإن تساوى ظلم كل واحد منهما للآخر كان كفافاً لا له ولا عليه، وإن بقي لبعضهم حقوق عند الآخرين أخذها. ففي سنن الترمذي عن عائشة، قالت: جاء رجل فقعد بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يكذبونني، ويخونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك، ولا عليك. وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم، اقتص لهم منك الفضل " فتنحى الرجل، وجعل يهتف ويبكى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما تقرأ قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47] " (¬2) . ولما كان هذا شأن الظلم فحري بالعباد الذين يخافون ذلك اليوم أن يتركوه ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (5/537) ، ورقم الحديث: 6432. (¬2) مشكاة المصابيح: (3/66) ، ورقمه: 5561، وأورده في صحيح الجامع: (6/327) ، ورقمه: 7895، وعزاه إلى أحمد والترمذي.

ويجتنبوه وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الظلم يكون ظلمات في يوم القيامة، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الظلم ظلمات يوم القيامة " (¬1) . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " (¬2) . المطلب الثاني عظم شأن الدماء من أعظم الأمور عند الله أن يسفك العباد بعضهم دم بعض في غير الطريق الذي شرعه الله تبارك وتعالى، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الترمذي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: يا رب، هذا قتلني: فيقول: لم قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك. فيقول: فإنها لي. ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: أي رب، إن هذا قتلني. فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان. فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه " (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب الظلم يوم القيامة، فتح الباري: (5/100) . (¬2) صحيح مسلم: (4/1969) ، ورقمه: 2578. (¬3) صحيح الجامع الصغير: (6/324) ، ورقم الحديث: 7885.

وفي السنن للترمذي، وأبي داود، وابن ماجة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماًَ، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ حتى يدنيه من العرش " (¬1) . ولعظم أمر الدماء فإنها تكون أول شيء يقضى فيه بين العباد. فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " (¬2) . قال ابن حجر في شرحه للحديث: " وفي الحديث عظم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعلام البنية الإنسانية غاية في ذلك " (¬3) . ولا تعارض بين هذا الحديث وحديث أن أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، قال ابن حجر العسقلاني: " ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة رفعه: " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته " الحديث أخرجه أصحاب السنن، لأن الأول محمول على ما يتعلق بمعاملات الخلق. والثاني: فيما يتعلق بعبادة الخالق. وقد جمع النسائي في روايته في حديث ابن مسعود بين الخبرين، ولفظه: " أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء " (¬4) . ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: (6/324) ، ورقم الحديث: 7887. (¬2) جامع الأصول: (10/436) ، ورقمه: 7968. (¬3) فتح الباري: (11/397) . (¬4) فتح الباري: (11/396) .

المطلب الثالث الاقتصاص للبهائم بعضها من بعض " يقضي الله بين خلقه: الجن والإنس والبهائم، وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء، حتى إذا لم يبق تبعة عند واحدة لأخرى قال الله: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت تراباً) [النبأ: 40] . هذا حديث أخرجه ابن جرير في تفسيره بإسناده إلى أبي هريرة يرفعه، وفي رواية أخرى أخرجها ابن جرير أيضاً عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يحشر الخلق كلهم، كل دابة وطائر وإنسان، يقول للبهائم والطير: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت تراباً) [النبأ: 40] ". وعن ابن جرير أيضاً عن عبد الله بن عمرو قال: " إذا كان يوم القيامة مد الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحش، ثم يحصل القصاص بين الدواب، يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب، قال لها: كوني تراباً، قال فعند ذلك يقول الكافر: (يا ليتني كنت تراباً) [النبأ: 40] ". وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ". وأخرج أحمد في مسنده بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله

عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقتص الخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء، وحتى الذَّرة من الذَّرة ". وفي المسند أيضاً عن أبي هريرة يرفعه: " ألا والذي نفسي بيده ليختصمن كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا ". وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنطحان، فقال: أبا ذر، هل تدري فيم تنطحان؟ قال: لا. قال: ولكن الله يدري، وسيقضي بينهما " (¬1) . كيف يقتص من البهائم وهي غير مكلفة؟ أشكل على كثير من أهل العلم هذا الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض، وقد وضح هذا النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال: " هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال والمجانين، ومن لم تبلغه دعوة. وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن والسنة، قال الله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) [التكوير: 5] ، وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا شرع، وجب حمله على ظاهره. قال العلماء: وليس من شرط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة والعقاب والثواب. وأما القصاص من القرناء الجلحاء فليس هو من قصاص التكليف، إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة، و (الجلحاء) بالمد هي الجماء التي لا قرن لها. والله أعلم ". قال الشيخ ناصر الدين الألباني بعد إيراده هذه الفقرة من كلام النووي: وذكر نحوه ابن مالك في (مبارق الأزهار) (2/293) مختصراً. ونقل عنه العلامة الشيخ علي القاري في (المرقاة) (4/761) أنه قال: " فإن قيل: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟ قلنا: إن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعله، والغرض منه إعلام أن الحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم ". قال القاري: " وهو وجه حسن، وتوجيه مستحسن، إلا أن التعبير عن الحكمة بـ (الغرض) وقع في غير موضعه. وجملة الأمر أن القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف؟ ". وعقب على هذا الشيخ ناصر قائلاً: " ومن المؤسف أن ترد كل هذه الأحاديث من بعض علماء الكلام بمجرد الرأي، وأعجب منه أن يجنح إليه العلامة الألوسي! فقال بعد أن ساق الحديث عن أبي هريرة من رواية مسلم ومن رواية أحمد بلفظ الترجمة عند تفسيره آية: (وإذا الوحوش حشرت) [التكوير: 5] في تفسيره: (روح المعاني) (9/3006) : " ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم ¬

(¬1) أورد الشيخ ناصر هذه الأحاديث، وتكلم على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث رقم: 1967.

كونه مكلفاً، ولا أهلاً لكرامة بوجه، وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش، وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحاً، لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام. وإلى هذا القول أميل، ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول، لأن لهم ما يصلح مستنداً في الجملة. والله تعالى أعلم ". قلت (الشيخ ناصر) : كذا قال - عفا الله عنا وعنه - وهو منه غريب جداً لأنه على خلاف ما نعرفه عنه في كتابه المذكور، من سلوك الجادة في تفسير آيات الكتاب على نهج السلف، دون تأويل أو تعطيل، فما الذي حمله هنا على أن يفسر الحديث على خلاف ما يدل عليه ظاهره، وأن يحمله على أنه كناية عن العدل التام، أليس هذا تكذيباً للحديث المصرح بأنه يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء، فيقول هو تبعاً لعلماء الكلام: إنه كناية! .. أي لا يقاد للشاة الجماء. وهذا كله يقال لو وقفنا بالنظر عند رواية مسلم المذكورة، أما إذا انتقلنا به إلى الروايات الآخرى كحديث الترجمة، وحديث أبي ذر وغيره، فإنها قاطعة في أن القصاص المذكور هو حقيقة وليس كناية، ورحم الله الإمام النووي، فقد أشار بقوله السابق: " وإذا ورد لفظ الشرع ولم يمنع من إجرائه على ظاهره عقل ولا

شرع وجب حمله على ظاهره ". قلت: أشار بهذا إلى رد التأويل المذكور، وبمثل هذا التأويل أنكر الفلاسفة وكثير من علماء الكلام كالمعتزلة وغيرهم رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وعلوه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة، ومجيئه تعالى يوم القيامة، وغير ذلك من آيات الصفات وأحاديثها. وبالجملة، فالقول بحشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض هو الصواب الذي لا يجوز غيره، فلا جرم أن ذهب إليه الجمهور كما ذكر الألوسي

نفسه في مكان آخر من ((تفسيره)) (9/281) ، وبه جزم الشوكاني في تفسير آية ((التكوير)) من تفسيره ((فتح القدير)) فقال: (5/377) . " الوحوش ما توحش من دواب البر، ومعنى (حشرت) بعثت، حتى يقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء " (¬1) . المطلب الرابع متى يقتص للمؤمنين بعضهم من بعض؟ في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا خلص المؤمنون من النار، حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نقوا وهذِّبوا، أذن لهم بدخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا " (¬2) . ¬

(¬1) سلسة الأحاديث الصحيحة، للشيخ ناصر الدين الألباني: حديث رقم 1927. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب قصاص المظالم، فتح الباري: (5/96) .

الفصل الثاني عشر الميزان

الفصل الثاني عشر الميزان المطلب الأول تعريفه في ختام ذلك اليوم ينصب الميزان لوزن أعمال العباد، يقول القرطبي: " وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها " (¬1) . وقد دلت النصوص على أن الميزان ميزان حقيقي، لا يقدر قدره إلا الله تعالى، فقد روى الحاكم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي. فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك " (¬2) . وهو ميزان دقيق لا يزيد ولا ينقص (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47] . ¬

(¬1) تذكرة القرطبي: 309. (¬2) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/656) . ورقم الحديث: 941.

وقد اختلف أهل العلم في وحدة الميزان وتعدده، فذهب بعضهم إلى أن لكل شخص ميزاناً، خاصاً، أو لكل عمل ميزاناً لقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) [الأنبياء: 47] . وذهب آخرون إلى أن الميزان واحد، وأن الجمع في الآية إنما هو باعتبار تعدد الأعمال أو الأشخاص. وقد رجح ابن حجر بعد حكايته للخلاف أن الميزان واحد، قال: " ولا يشكل بكثرة من يوزن عمله، لأن أحوال القيامة لا تكيف بأحوال الدنيا " (¬1) . وقال السافريني: " قال الحسن البصري: لكل واحد من المكلفين ميزان. قال بعضهم: الأظهر إثبات موازين يوم القيامة لا ميزان واحد، لقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ) ، وقوله: (فمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) [الأعراف: 8] . قال: وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان، ولأفعال الجوارح ميزان، ولما يتعلق بالقول ميزان. أورد هذا ابن عطية وقال: الناس على خلافه، وإنما لكل واحد وزن مختص به، والميزان واحد. وقال بعضهم إنما جمع الموازين في الآية الكريمة لكثرة من توزن أعمالهم. وهو حسن " (¬2) . المطلب الثاني الميزان عند أهل السنة الميزان عند أهل السنة ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد وخالف في هذا المعتزلة، وقلة قليلة من أهل السنة. ¬

(¬1) فتح الباري: (3/537) . (¬2) لوامع الأنوار البهية: (2/186) .

قال ابن حجر: " قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، وأنكرت المعتزلة الميزان، وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال، ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. وقال ابن فورك: أنكرت المعتزلة الميزان، بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها. قال: وقد روى بعض المتكلمين عن ابن عباس أن الله تعالى يقلب الأعراض أجساماً فيزنها. انتهى. وقد ذهب بعض السلف إلى أن الميزان بمعنى العدل والقضاء، وعزا الطبري القول بذلك إلى مجاهد. والراجح ما ذهب إليه الجمهور. وذكر الميزان عند الحسن فقال: له لسان وكفتان " (¬1) . وعزا القرطبي تفسير الميزان بالعدل إلى مجاهد والضحاك والأعمش (¬2) . ولعل هؤلاء العلماء فسروا الميزان بالعدل في مثل قوله تعالى: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ - أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ - وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) [الرحمن: 7-9] ، فالميزان في هذه الآية العدل، أمر الله عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم، أما الميزان الذي ينصب في يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث، وأنه ميزان حقيقي، وهو ظاهر القرآن (¬3) . ¬

(¬1) فتح الباري: (13/538) بتصرف يسير. (¬2) تذكرة القرطبي: 313. (¬3) النهاية لابن كثير: (2/34) .

وقد رد الإمام أحمد على من أنكر الميزان بأن الله تعالى ذكر الميزان في قوله: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) [الأنبياء: 47] . والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الميزان يوم القيامة، فمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم فقد رد على الله عز وجل (¬1) . وقد استدل شيخ الإسلام على أن الميزان غير العدل، وأنه ميزان حقيقي توزن به الأعمال بالكتاب والسنة، فقال: " الميزان: هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) [الأعراف: 8] ، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) [المؤمنون: 103] ، وقوله: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) [الأنبياء: 47] . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ". وقال عن ساقي عبد الله بن مسعود: " لهما في الميزان أثقل من أحد ". وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما في الرجل الذي يؤتى به، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيوضع في كفة، ويؤتى ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ". وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل، كموازين الدنيا. ¬

(¬1) فتح الباري: (13/538) .

وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب " (¬1) . وقد رد القرطبي على الذين أنكروا الميزان وأولوا النصوص الواردة فيه وحملوها على غير محملها قائلاً: " قال علماؤنا ولو جاز حمل الميزان على ما ذكروه، لجاز حمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان والأفراح، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، وهذا كله فاسد، لأنه رد لما جاء به الصادق، وفي الصحيحين فيعطى صحيفة حسناته، وقوله: فيخرج له بطاقة، وذلك يدل على الميزان الحقيقي، وأن الموزون صحف الأعمال كما بينا وبالله التوفيق " (¬2) . المطلب الثالث ما الذي يوزن في الميزان اختلف أهل العلم في الموزون في ذلك اليوم على أقوال: الأول: أن الذي يوزن في ذلك اليوم الأعمال نفسها، وأنها تجسم فتوضع في الميزان، ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " (¬3) . وقد دلت نصوص كثيرة على أن الأعمال تأتي في يوم القيامة في صورة الله ¬

(¬1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام: (4/302) . (¬2) التذكرة: 314. (¬3) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) ، فتح الباري: (13/537)

أعلم بها، فمن ذلك مجيء القرآن شافعاً لأصحابه في يوم القيامة، وأن البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن أصحابهما. ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه. اقرؤوا الزاهروين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيابتان (¬1) ، أو فرقان (¬2) من طير صواف تحاجان عن أصحابهما " (¬3) . وروى مسلم أيضاً عن النواس بن سمعان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو ظلتان بينهما شرق (¬4) ، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما " (¬5) . وهذا القول رجَّحه ابن حجر العسقلاني ونصره، فقال: " والصحيح أن الأعمال هي التي توزن، وقد أخرج أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق ". الثاني: أن الذي يوزن هو العامل نفسه، فقد دلَّت النصوص على أن العباد يوزنون في يوم القيامة، فيثقلون في الميزان أو يخفون بمقدار إيمانهم، لا بضخامة ¬

(¬1) الغيابة: أقل كثافة من الغمامة، وأقرب إلى رأس صحبها. (¬2) فرقان: طائفتان. (¬3) مشكاة المصابيح: (1/656) ورقم الحديث: 2120. (¬4) شرق، أي: ضوء ونور. (¬5) مشكاة المصابيح: (1/656) . ورقم الحديث: 2121.

أجسامهم، وكثرة ما عليهم من لحم ودهن، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105] " (¬1) . ويؤتى بالرجل النحيف الضعيف دقيق الساقين فإذا به يزن الجبال، روى أحمد في مسنده، عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، أنه كان رقيق الساقين، فجعلت الريح تلقيه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مم تضحكون؟ " قالوا: يا نبي الله من رقة ساقيه ". قال: " والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد ". قال ابن كثير: تفرد به أحمد وإسناده جيد قوي (¬2) . وما أحسن ما قال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه ××× وفي أثوابه أسد هرير ويعجبك الطرير فتبتليه ××× فيخلف ظنك الرجل الطرير الثالث: أن الذي يوزن إنما هو صحائف الأعمال. فقد روى الترمذي في ((سننه)) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاًَ؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا يا رب. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الكهف، فتح الباري: (8/426) . (¬2) النهاية لابن كثير: (2/29) .

فيقول الله تعالى: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم اليوم، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: فإنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء " (¬1) . وقد مال القرطبي إلى هذا القول، فقال: " والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف،.. قال ابن عمر: توزن صحائف الأعمال، وإذا ثبت هذا فالصحف أجسام، فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلاً على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار " (¬2) . وقال السافريني: " والحق أن الموزون صحائف الأعمال، وصححه ابن عبد البر والقرطبي وغيرهما، وصوبه الشيخ مرعي في (بهجته) ، وذهب إليه جمهور من المفسرين، وحكاه ابن عطية عن أبي المعالي.. " (¬3) . ولعل الحق أن الذي يوزن هو العامل وعمله وصحف أعماله، فقد دلت النصوص التي سقناها على أن كل واحد من هذه الثلاثة يوزن، ولم تنف النصوص المثبتة لوزن الواحد منها أن غيره لا يوزن، فيكون مقتضى الجمع بين النصوص إثبات الوزن للثلاثة المذكورة جميعها. وهذا ما رجحه الشيخ حافظ الحكمي فقال: " والذي استظهر من ¬

(¬1) جامع الأصول: (10/459) ، ورقمه: 7981، قال محقق الجامع: إسناده صحيح، ورواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم والبيهقي وغيرهم. (¬2) تذكرة القرطبي: 313. (¬3) لوامع الأنوار البهية: (2/187) .

النصوص - والله أعلم - أن العامل وعمله وصحيفة عمله - كل ذلك يوزن، لأن الأحاديث التي في بيان القرآن، قد وردت بكل ذلك، ولا منافاة بينها، ويدل كذلك ما رواه أحمد - رحمه الله تعالى - عن عبد الله بن عمرو في قصة صاحب البطاقة بلفظ: قال: قال رسول الله: " توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل، فيوضع في كفة، ويوضع ما أحصى عليه، فيمايل به الميزان. قال: فيبعث به إلى النار. قال: فإذا أدبر، إذا صائح من عند الرحمن - عز وجل - يقول: لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع مع الرجل في كفة، حتى يميل به الميزان ". فهذا يدل على أن العبد يوضع هو وحسناته وصحيفتها في كفة وسيئاته مع صحيفتها في الكفة الأخرى، وهذا غاية الجمع بين ما تفرق ذكره في سائر أحاديث الوزن، ولله الحمد والمنة " (¬1) . المطلب الرابع الأعمال التي تثقل في الميزان أثقل ما يوضع في ميزان العبد حسن الخلق، فعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أثقل شيء يوضع في ميزان العبد يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء ". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وروى أبو داود الفصل الأول (¬2) . ¬

(¬1) معارج القبول: (2/272) . (¬2) مشكاة المصابيح: (2/630) ، ورقم الحديث: 5081.

وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " (¬1) . وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن (أو تملأ) . ما بين السماء والأرض " (¬2) . وروى البخاري والنسائي وأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، كان شبعه وريه، وروثه، وبوله، حسنات في ميزانه يوم القيامة " (¬3) . ¬

(¬1) صحيح البخاري: 6682. وصحيح مسلم: 2694. (¬2) صحيح مسلم: (1/203) ، ورقم الحديث: 223. (¬3) صحيح الجامع الصغير: (5/229) ، ورقم الحديث: 5843. وانظره في صحيح البخاري برقم: 2853.

الفصل الثالث عشر الحوض

الفصل الثالث عشر الحوض يكرم الله عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في الموقف العظيم بإعطائه حوضاً واسع الأرجاء، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، يأتيه هذا الماء الطيب من نهر الكوثر، الذي أعطاه لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجنة، ترد عليه أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً. وقد اختلف أهل العلم في موضعه فذهب الغزالي والقرطبي إلى أنه يكون قبل المرور على الصراط في عرصات القيامة، واستدلوا على ذلك بأنه يؤخذ بعض وارديه إلى النار فلو كان بعد الصراط لما استطاعوا الوصول إليه (¬1) . واستظهر ابن حجر أن مذهب البخاري أن الحوض يكون بعد الصراط، لأن البخاري أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة، وأحاديث نصب الصراط " (¬2) . وما ذهب إليه القرطبي أرجح، وقد استعرض ابن حجر أدلة الفريقين في كتابه القيم: ((فتح الباري)) (¬3) . ¬

(¬1) انظر تذكرة القرطبي: 302. (¬2) انظر فتح الباري: (11/466) . (¬3) فتح الباري: (11/466) .

المبحث الأول الأحاديث الواردة فيه الأحاديث الواردة في الحوض متواترة، لا شك في تواترها عند أهل العلم بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رواها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من خمسين صحابياً، وقد ذكر ابن حجر أسماء رواة أحاديثه من الصحابة (¬1) . ونحن نسوق هنا بعض هذه الأحاديث التي أوردها الخطيب التبريزي في مشكاته (¬2) : 1- عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء (¬3) . ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منها فلا يظمأ أبداً ". متفق عليه. 2- وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن حوضي أبعد من أيلة (¬4) من عدن لهو أشدُّ بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه ". قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ؟ قال: " نعم لكم سيماء (¬5) ليست لأحد من الأمم، تردون علي غراً محجلين من أثر الضوء ". رواه مسلم. 3- وفي رواية له (¬6) عن أنس. قال: " ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء ". 4- وفي أخرى له عن ثوبان، قال: سئل عن شرابه. فقال: " أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل يغت (¬7) فيه ميزابان يُمدَّانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من وَرِق ". ¬

(¬1) فتح الباري: (11/468) . (¬2) مشكاة المصابيح: (3/68) . (¬3) أي مربع لا يزيد طوله عن عرضه شيئاً. (¬4) هي مدينة العقبة في الأردن. (¬5) السيماء: العلامة. (¬6) أي لمسلم. (¬7) يَغت، أي: يصُبَ ويسيل.

المبحث الثاني الذين يردون الحوض والذين يذادون عنه وردت أحاديث كثيرة بيَّن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يردون على حوضه، والذين يمنعون من الشرب منه، ونحن نذكر لك بعض ما أورده ابن الأثير منها في جامع الأصول (¬1) : 1- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إليَّ رجال منكم، حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني (¬2) ، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك؟ ". 2- ورويا أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم، ورفعوا إليّ، اختلجوا دوني، فلأقولن: أي رب، أصيحابي، أصيحابي، فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ". وفي رواية " ليردن عليَّ ناس من أمتي.. الحديث، وفي آخره: فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي " أخرجه البخاري ومسلم. 3- ورويا عن أبي حازم رحمه الله عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: ¬

(¬1) جامع الأصول: 1/468. (¬2) اختلجوا: أخذوا بسرعة.

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا فرطكم على الحوض، من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، قال أبو حازم: فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث، فقال: هكذا سمعت سهلاً يقول؟ فقلت: نعم، قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد، فيقول: فإنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي ". أخرجه البخاري ومسلم. 4- ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي - أو قال: من أمتي - فيحلَّؤُون (¬1) عن الحوض، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " وفي رواية ((فيجلون)) أخرجه البخاري ومسلم. وللبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما أنا قائم على الحوض، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم، فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى النار والله، فقلت: ما شأنهم؟ فقال: إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة أخرى، حتى عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم قد ارتدوا على أدبارهم، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم " (¬2) . ولمسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ترد عليَّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه، كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله تعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم، فلا يصلون، فأقول: يا رب، هؤلاء من أصحابي، فيجيء ¬

(¬1) يحلؤون، أي: يدفعون ويطردون. (¬2) همل النعم: الإبل الضالة. والمعنى أن الناجي منهم قليل.

ملك، وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟ ". وفي أخرى: " إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه، قالوا: يا رسول الله، أتعرفنا يومئذ؟ قال: نعم، لكما سيما (¬1) ليست ¬

(¬1) السيما: العلامة.

لأحد من الأمم، تردون علي غراً محجلين ". وقد أورد القرطبي في التذكرة بعض الأحاديث التي سقناها ثم قال: " قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين: فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه مالا يرضاه الله، ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون. وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ثم البعد قد يكون في حال، ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال، ولم يكن في العقائد، وعلى هذا يكون نور الوضوء يعرفون به، ثم يقال لهم: سحقاً، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر، ثم يكشف لهم الغطاء فيقال لهم: سحقاً سحقاً، ولا يخلد في النار إلا كل جاحد مبطل، ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " (¬1) . ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: ص 306.

الفصل الرابع عشر الحشر إلى دار القرار: الجنة أو النار

الفصل الرابع عشر الحشر إلى دار القرار: الجنَّة أو النار المبحث الأول يطلب من كل أمة أن تتبع الإله الذي كانت تعبده في ختام هذا اليوم يحشر العباد إما إلى الجنة وإما إلى النار، وهما المقرّ الأخير الذي يصير إليه العباد جميعاً، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من كل أمة في آخر ذلك اليوم أن تتبع الإله الذي كانت تعبده، فالذي كان يعبد الشمس يتبع الشمس، والذي كان يعبد القمر يتبع القمر، والذي كان يعبد الأصنام تصور لهم آلهتهم ثم تسير أمامهم ويتبعونها، والذين كانوا يعبدون فرعون يتبعونه، ثم إن هذه الآلهة الباطلة تتساقط في النار، ويتساقط عبادها وراءها في السعير، كما قال تعالى في فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 98] . ولا يبقى بعد ذلك إلا المؤمنون وبقايا أهل الكتاب، وفي المؤمنين المنافقون الذين كانوا معهم في الدنيا، فيأتيهم ربهم، فيقول لهم: ما تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيعرفونه بساقه عندما يكشفها لهم، وعند ذلك يخرون له سجوداً، إلا المنافقون فلا يستطيعون (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم: 42] ، ثم يتبع المؤمنون ربهم، وينصب الصراط ويعطى المؤمنون أنوارهم، ويسيرون على الصراط، ويطفأ نور المنافقين، ويقال لهم: ارجعوا

وراءكم فالتمسوا نوراً، ثم يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، ويمر العباد على الصراط مسرعين بقدر إيمانهم وأعمالهم الصالحة. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغبَّر (¬1) أهل الكتاب. فيدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيز ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد. فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا، فاسقنا. فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار. ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فيقال لهم: ما تبغون؟ فيقولون: عطشنا، يا ربنا فاسقنا، قال: فيشار إليهم: ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنهم سراب، يحطم بعضها بعضاً، فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة ن التي رأوه فيها، قال: فماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً (مرتين أو ثلاثاً) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب. فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم، ¬

(¬1) غبرهم: بقاياهم.

وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا. ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم. قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم " (¬1) . وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة في وصف المرور على الصراط، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وترسل الأمانة والرحم، فتقومان على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت: بأبي أنت وأمي، أي شيء كالبرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمرّ الريح، ثم كمرِّ الطير وشدِّ الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب، سلم سلم. حتى تعجز أعمال العباد، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً، قال: وعلى حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به. فمخدوش ناج، ومكدوس في النار " (¬2) . وروى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الورود، فقال: " نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا (¬3) انظر إلى ذلك فوق ¬

(¬1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، (1/167) ، ورقمه: (183) . (¬2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة، (1/187) ، ورقمه: (195) . (¬3) يقول ابن رجب في تعليقه على هذه اللفظة من الحديث: " أصل هذه اللفظة تصحيف من الراوي للفظ (كوم) ، فكتب عليه كذا وكذا لإشكال فهمه عليه، ثم كتب انظر إلى ذلك، يأمر الناظر فيه بالتروي والفكر في صحة لفظه، فأدخل ذلك كله في الرواية قديماً " التخويف من النار: ص 199، وقد ذكر أن الصواب كما جاء في المسند وكتاب السنة: " نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس، فتدعى الأمم بأوثانها.. ".

الناس، قال: فتدعى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبد، الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلى لهم يضحك. قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطى كل إنسان منهم، منافق أو مؤمن نوراً، ثم يتبعونه، وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك، تأخذ من شاء الله ثم يطفأ نور المنافقين، ثم ينجو المؤمنون أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء.. " (¬1) . وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في إجابته للصحابة عندما سألوه عن رؤيتهم الله: " هل تُضارُّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة: (1/175) ، ورقمه: (191) .

منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردلُ، ثم ينجوا.. " (¬1) . وقد دلت هذه النصوص الصحيحة الصريحة الواضحة على عدة أمور مهمة، فقد ذكرت حشر الكفار إلى النار، ومسير المؤمنين إلى الجنة على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين، كما أشارت في جملتها إلى معنى الورود على النار الذي نص الله عليه في قوله: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71] . وسنتناول هذه المباحث بشيء من التفصيل فيما يأتي. ¬

(¬1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، فتح الباري: (11/444) ورقمه: 806، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، (1/163) ورقم الحديث (182) ، واللفظ للبخاري.

حشر الكفار إلى النَّار جاءت نصوص كثيرة تصور لنا كيف يكون حشر الكفار إلى النار هم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها. 1- فمن ذلك أنهم يحشرون كقطعان الماشية جماعات جماعات، ينهرون نهراً غليظاً، ويصاح بهم من هنا وهناك، كما يفعل الراعي ببقره أو غنمه (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا) [الزمر: 71] ، (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور: 13] ، وقال: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [فصلت: 19] . ومعنى يوزعون أي يجمعون، تجمعهم الزبانية على آخرهم، كما يفعل البشر بالبهائم. 2- وأفادت النصوص أنهم يحشرون إلى النار على وجوههم، لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم، قال تعالى: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 34] . روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رجلاً قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: " أليس الذي أمشاه على رجليه في

الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " قال قتادة: بلى وعزة ربنا (¬1) . ومع حشرهم على هذه الصورة المنكرة على وجوههم فإنهم يحشرون عمياً لا يرون، وبكماً لا يتكلمون، وصماً لا يسمعون (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) [الإسراء: 97] . 3- ويزيد بلاءهم أنهم يحشرون مع آلهتهم الباطلة وأعوانهم وأتباعهم (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 22-23] . 4- وهم في هذا مغلوبون مقهورون أذلاء صاغرون (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 12] . 5- وقبل أن يصلوا إلى النار تصك مسامعهم أصواتها التي تملأ قلوبهم رعباً وهلعاً (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) [الفرقان: 12] . 6- وعندما يبلغون النار ويعاينون أهوالها يندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام: 27] ، ولكنهم لا يجدون من النار مفراً: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا) [الكهف: 53] . ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الحشر، فتح الباري: (11/377) ، ومسلم: (4/2161) ] ورقمه: (2806) . واللفظ لمسلم.

7- وعند ذلك يؤمرون بالدخول في النار وغضب الجبار أذلاء خاسرين (فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل: 29] ، ولا ينجو من النار من الجن والإنس إلا الأتقياء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا - ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا - ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا - وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا - ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 68-72] . يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات: " يقسم الله بنفسه وهو أعظم قسم وأجله أنهم سيحشرون بعد الموت، فهذا أمر مفروغ منه (فوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُم) [مريم: 68] ، ولن يكونوا وحدهم (لنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ) [مريم: 68] فهم والشياطين سواء، والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود.. وهنا يرسم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة، (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) [مريم: 68] ، وهي صورة رهيبة، وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها، ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها، وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع..، وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتواً وتجبراً: (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) [مريم: 69] ، وفي اللفظ تشديد، ليرسم بظله وجرسه

صورة لهذا الانتزاع، تتبعها صورة القذف في النار، وهي الحركة التي يكملها الخيال. وإن الله ليعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ أحد جزافاً من هذه الجموع التي لا تحصى، والتي أحصاها الله فرداً فرداً: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) [مريم: 70] ، فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين " (¬1) . وقد غيرت هذه الآية: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71] أحوال الصالحين، فأسهرت ليلهم، وعكرت عليهم صفو العيش، وحرمتهم الضحك، والتمتع بالشهوات، فقد ذكر ابن كثير أن أبا ميسرة كان إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا الله أنا واردوها، ولم نخبر أنا صادرون عنها. وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري، قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله، وقال ابن عباس لرجل يحاوره: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها، فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ (¬2) . ¬

(¬1) في ضلال القرآن: (4/2317) . (¬2) تفسير ابن كثير: (4/476) .

مرور المؤمنين على الصّراط وخلاص المؤمنين من المنافقين عندما يذهب بالكفرة الملحدين، والمشركين الضالين إلى دار البوار: جهنم يصلونها، وبئس القرار، يبقى في عرصات القيامة أتباع الرسل الموحدون، وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق، وتلقى عليهم الظلمة قبل الجسر كما في الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن عائشة قالت: سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: " هم في الظلمة دون الجسر ". يقول شارح الطحاوية (¬1) : " وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم ". روى البيهقي بسنده عن مسروق، عن عبد الله، قال: " يجمع الله الناس يوم القيامة " إلى أن قال: " فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره في إبهام قدمه، يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا أطفأ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، ويقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر ¬

(¬1) شرح الطحاوية: ص 470.

كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل، يرمل رملاً على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يد، وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون فإذا خلصوا، قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك، بعد أن أراناك، لقد أعطانا ما لم يعط أحد " (¬1) . وقد حدثنا تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط، فقال: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ - يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ - فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد: 12-15] . فالحق يخبر أن المؤمنين والمؤمنات الذين استناروا بهذا الدين العظيم في الدنيا، وعاشوا في ضوئه، يعطون في يوم القيامة نوراً يكشف لهم الطريق الموصلة إلى جنات النعيم، ويجنبهم العثرات والمزالق في طريق دحض مزلة، وهناك يبشرون بجنات النعيم، ويحرم المنافقون الذين كانوا يزعمون في الدنيا أنهم مع المؤمنين، وأنهم منهم، لكنهم في الحقيقة مفارقون لهم لا يهتدون ¬

(¬1) قال الشيخ ناصر في تخريجه لأحاديث شرح الطحاوية: (470) : (صحيح، وأخرجه الحاكم، وأظن أن البيهقي من طريقه رواه، وقال الحاكم: (صحيح على شرح الشيخين) ووافقه الذهبي وبين الشيخ أن أحد رواته فيه ضعف، ثم هو مدلس، لكنه توبع، وصرح بالتحديث، فالحديث صحيح.

بهداهم، ولا يسلكون سبيلهم من النور، كما حرموا أنفسهم في الدنيا من نور القرآن العظيم، فيطلب المنافقون من أهل الإيمان أن ينتظروهم ليستضيئوا بنورهم، وهناك يخدعون، كما كانوا يخدعون المؤمنين في الدنيا، ويقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، وبذلك يعود المنافقون إلى الوراء، ويتقدم المؤمنون إلى الأمام، فإذا تمايز الفريقان، ضرب الله بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويكون مصير المؤمنين والمؤمنات الجنة، ومصير المنافقين والمنافقات النار. وقد أخبر الحق أن دعاء المؤمنين عندما يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم هو (ربنا أتمم لنا نورنا) ، قال تعالى: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم: 8] . قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم: هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طُفئ " (¬1) . ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 7/61.

الذين يمرُّون على الصّراط هم المؤمنون دون المشركين دلت الأحاديث التي سقناها على أن الأمم الكافرة تتبع ما كانت تعبد من آلهة باطلة، فتسير تلك الآلهة بالعابدين، حتى تهوي بهم في النار، ثم يبقى بعد ذلك المؤمنون وفيهم المنافقون، وعصاة المؤمنين، وهؤلاء هم الذين ينصب لهم الصراط. ولم أر في كتب أهل العلم من تنبه إلى ما قررناه من أن الصراط إنما يكون للمؤمنين دون غيرهم من الكفرة المشركين والملحدين غير ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى، فإنه قال: في كتابه التخويف من النار: " واعلم أن الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون، فإنهم لا يمرون على الصراط، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط " (¬1) . وقد ساق بعض الأحاديث التي سقناها، ومنها حديث أبي سعيد الخدري الذي في الصحيحين، ثم قال: " فهذا الحديث صريح في أن كل من أظهر عبادة شيء سوى الله كالمسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنه يلحق بالمشركين في الوقوع في النار قبل نصب الصراط، إلا أن عباد الأصنام والشمس والقمر وغير ذلك من المشركين تتبع كل فرقة منهم ما كانت تعبد في الدنيا، فترد النار مع معبودها أولاً، وقد دل القرآن على هذا المعنى في قوله تعالى في شأن فرعون: ¬

(¬1) التخويف من النار: ص 187.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 98] ... وأما من عبد المسيح والعزير من أهل الكتاب، فإنهم يتخلفون مع أهل الملل المنتسبين إلى الأنبياء، ثم يردون النار بعد ذلك. وقد ورد في حديث آخر أن من كان يعبد المسيح يمثل له شيطان المسيح فيتبعونه، وكذلك من كان يعبد العزير، وفي حديث الصور أنه يمثل لهم ملك على صورة المسيح، وملك على صورة العزير، ولا يبقى بعد ذلك إلا من كان يعبد الله وحده في الظاهر سواء كان صادقاً أو منافقاً من هذه الأمة وغيرها، ثم يتميز المنافقون عن المؤمنين بامتناعهم عن السجود، وكذلك يمتازون عنهم بالنور الذي يقسم للمؤمنين " (¬1) . وهذا نظر سديد من قائله رحمه الله. ¬

(¬1) التخويف من النار: ص 188.

معنى ورُود النّار ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بورود النار المذكور في قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا) [مريم: 71] هو دخول النار، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه (¬1) ، وكان يستدل على ذلك بقول الله تعالى في فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود: 98] ، وبقوله: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم: 86] ، وقوله: (لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا) [الأنبياء: 99] ، وروى مسلم الأعور عن مجاهد: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71] قال: داخلها (¬2) . وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالورود هنا المرور على الصراط، يقول شارح الطحاوية: " واختلف المفسرون في المراد بالورود في قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71] ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72] . وفي ((الصحيح)) أنه صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة "، قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله، أليس الله يقول: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) [مريم: 71] . فقال: " ألم تسمعيه قال: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ¬

(¬1) التخويف من النار: ص 20. (¬2) التخويف من النار: ص 200.

وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72] . وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه، ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم. ولهذا قال تعالى: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا) [هود: 58] ، (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا) [هود: 66] . (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا) [هود: 94] ، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة، لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الوارد على النار، يمرون فوقها على الصراط، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور أن الورود هو الورود على الصراط " (¬1) . والحق أن الورود على النار ورودان: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك كما قال تعالى في شأن فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود: 98] ، أي بئس المدخل المدخول. والورود الثاني: ورود الموحدين، أي مرورهم على الصراط على النحو المذكور في الأحاديث. ¬

(¬1) شرح العقيدة الطحاوية: ص 471.

حقيقة الصّراط ومعتقد أهل السنة فيه قال السفاريني: " الصراط في اللغة الطريق الواضح. ومنه قول جرير: أمير المؤمنين على صراط ××× إذا اعوج الموارد مستقيم وفي الشرع جسر ممدود على متن جهنم، يرده الأولون والآخرون، فهو قنطرة بين الجنة والنار " (¬1) . وقد بين شارح الطحاوية معقتده في الصراط المذكور في الأحاديث فقال: " ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: " هم في الظلمة دون الجسر " (¬2) . وقد بيّن السفاريني رحمه الله تعالى - موقف الفرق من الصراط، وهل هو صراط مجازي أم حقيقي؟ ثم قرر مذهب أهل الحق الذي دلت عليه النصوص فيه، فقال: " اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً ممدوداً على متن جهنم، أحدّ من السيف وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي، وكثير من أتباعه زعماً ¬

(¬1) لوامع الأنوار البهية: (2/189) . (¬2) شرح الطحاوية: ص 469.

منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة، وإنما المراد طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) [محمد: 5] ، وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات: 23] ، ومنهم من حمله على الأدلة الواضحة والمباحات والأعمال الرديئة التي يسأل عنها ويؤاخذ بها، وكل هذا باطل وخرافات لوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء، أو الوقوف فيه، وقد أجاب صلى الله عليه وسلم عن سؤال حشر الكافر على وجهه بأن القدرة صالحة لذلك. وأنكر العلامة القرافي كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وسبقه إلى ذلك شيخه العز بن عبد السلام، والحق أن الصراط وردت به الأخبار الصحيحة وهو محمول على ظاهره بغير تأويل كما ثبت في الصحيحين والمسانيد والسنن الصحاح مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم يمر عليه جميع الخلائق، وهم في جوازه متفاوتون " (¬1) . وذكر القرطبي مذهب القائلين بمجازية الصراط، المؤولين للنصوص المصرحة به، فقال: " ذهب بعض من تكلم على أحاديث وصف الصراط بأنه أدق من الشعر، وأحدُّ من السيف أن ذلك راجع إلى يسره وعسره على قدر الطاعات والمعاصي، ولا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى، لخفائها وغموضها، وقد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي دقيق، فضرب المثل بدقة الشعر، فهذا من هذا الباب، ومعنى قوله: أحد من السيف أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى ¬

(¬1) لوامع الأنوار البهية: 2/192.

الملائكة في إجازة الناس على الصراط يكون في نفاذ حد السيف ومضيه إسراعاً منهم إلى طاعته وامتثاله، ولا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحده وقوة ضاربه في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد، وإما أن يقال: إن الصراط نفسه أحد من السيف وأدق من الشعر فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه، وأن فيه كلاليب وحسكاً، أي أن من يمر عليه يقطع على بطنه، ومنهم من يزل، ثم يقوم، وفيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه، وفي ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه مواطئ الأقدام، ومعلوم أن دقة الشعر لا يحتمل هذا كله (¬1) . ثم رد عليهم مقالتهم، فقال: " ما ذكره هذا القائل مردود بما ذكرنا من الأخبار وأن الإيمان يجب بذلك، وأن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن، فيجريه أو يمشيه، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة، ولا استحالة في ذلك للآثار المروية في ذلك، وبيانها بنقل الأئمة العدول، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور " (¬2) . ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: 332. (¬2) التذكرة للقرطبي: 333.

عظة المرور على الصّراط يقول القرطبي: " تفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط، مع ضعف حالك واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار، المانعة لك من المشي على بساط الأرض، فضلاً عن حدة الصراط. فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك، فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع قدمك الثاني، والخلائق بين يديك يزلون، ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون إلى جهة النار رؤوسهم وتعلوا أرجلهم فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه " (¬1) . وقال أيضاً: (¬2) " فتوهم نفسك - يا أخي - إذا صرت على الصراط، ونظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة، قد لظى سعيرها، وعلا لهيبها، وأنت تمشي أحياناً، وتزحف أخرى، قال: أبت نفسي تتوب فما احتيالي ××× إذا برز العباد لذي الجلالِ وقاموا من قبورهم سكارى ××× بأوزار كأمثال الجبال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا ××× فمنهم من يكب على الشمال ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي: 332. (¬2) التذكرة للقرطبي: 330.

ومنهم من يسر لدار عدن ××× تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي ××× غفرت لك الذنوب فلا تبالي وقال آخر: إذا مد الصراط على جحيم ××× تصول على العصاة وتستطيل فقوم في الجحيم لهم ثبور ××× وقوم في الجنان لهم مقيل وبان الحق وانكشف المغطى ××× وطال الويل واتصل العويل

§1/1