القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطعة من فواتح السور
إياس آل خطاب
القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطعة من فواتح السور
القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطّعة من فواتح السور دراسة في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن الكريم تأليف: إياس محمد حرب آل خطاب الطبعة الأولى 2011
دعاء
دعاء أللهمَّ إنْ كنتَ تعلم أن ما ذهبتُ إليه في هذا الكتاب من تأويلٍ لآياتِ كتابك فيه الخير للمسلمين ولطالبي هذا العلم الشريف فيسّره للظهور واكتب له القبول وإنْ كنتَ تعلم أنني انتصرتُ فيه لقولٍ أو لرأيٍ يخالف شرعك وصحيح فهم كتابك أو يوافق بدعةً في دينك فاصرفه عن الظهور واجعله نسياً منسياً.
بين يدي الكتاب
بين يدي الكتاب الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، الذي اشترط النصح لكل المسلمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ: فما من قارئ لكتاب الله - مسلم أو غير مسلم - إلا وتستوقفه تلك الحروف المقطّعة في بداية بعض السور، وما من باحث في تأويلها بين أقوال المفسرين وغيرهم من أصحاب الآراء والأقوال والادعاءات إلا ويستوقفه مطلق الظن بعلمها ومعرفة مقاصد الله جلَّ في علاه منها، فقد اختلف المفسرون قديمهم وحديثهم في تأويل هذه الحروف على مرِّ العصور، بل لقد كانت أقوالهم وآراؤهم متباينة أشدّ البَوْن بين أصل الحروف اللغوي كالقول بأنها حروف دلت على ذاتها، وبين منتهى العجز في فهمها كالقول بأنها من الأسرار وأنّ الله وحده هو العالم بمراده فيها. وهذا الكتاب سيغني الباحث - إن شاء الله - عن عناء البحث والاستقصاء لجمع تلك الآراء لمجرد الاطلاع عليها ومعرفة الصحيح من السقيم منها، أو لمعرفة تفسير الحروف وتأويلها على الوجه الصحيح، وبيان أوجه الإعجاز فيها، فقد ذكرت فيه - بحمد الله - ما يقنع الباحث عن هذا العلم، وشرحت فيه من حال التأويل المستحب للحروف، وما يَحسن فيه وما يقبح، وبيّنت فيه مسالك المتحدثين فيها على اختلاف أفهامهم وغاياتهم، وبيّنت الكثير من أوجه الإعجاز وما جاءت به الحروف من دلالات وإشارات ومضامين يعجز البشر عن مجرد التفكير بمثلها، وقد اعتمدت في تلخيصها وإيضاحها على الأقوال المعتبرة وما قارب الصواب منها بحسب الأصول والقواعد المتبعة في علوم القرآن وعلوم الحديث وإقرارات أهل العربية، وما يَحدّها من البلاغة وبيان الإفصاح في كتاب الله، بالإضافة لما تحصل عندي من معرفة بعلم التاريخ والآثار وما
يخص منها اللغات ومقارنتها، واتخذته مقروناً في بيان الوجوه الصحيحة من كل الآراء، مع إغفال الوجوه السقيمة منها بما تحصل عندي من استقراء وتأمل في غايات الذكر الحكيم، غير مُرجّح لرأي دون آخر ولا مُتّبع لمسلك دون سواه، إلّا ما دلّت عليه إشارة أو دلالة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو ما وافق فهماً صحيحاً لأثرٍ عن السلف من دون أي التباس. ولست أدعي فيما أكتب علماً لم يبلغه أحد، إنما هو بيان لوقفات مضيئة على ما ورد ذكره في القرآن من حروف، وما فيها من دلالات وإشارات تُبهر العقول وتُغذّي الروح، رغم أنها كانت على مر العصور موطن تأويل وبحث واختلاف، وكان مَبلغ علم المتبحر في غاياتها ودلالاتها أن يقول: هي من علم الله، أو هي من المتشابه في القرآن. وقد كانت بحق وما زالت كما قيل بأنها تلك الفواتح العظيمة التي تقرع آذان السامعين لتنقلهم من مراتب السمع الخالص إلى أفق التأمل بما تعجز القلوب عن إدراكه من أسرارٍ للبيان الإلهي. وقد بيّنت في هذا الكتاب أنها أتت للرد على مسالك المتكلمين فيها وفي القرآن بغير علم، وأنها ردت عن نفسها بأعجب ما يكون في الرد من إيجاز، وأدقه معرفة لكمائن النفوس، وأنها جمعت أقوال المفسرين بتكامل عجيب بما جاء فيها من أسرارٍ للنظم الإلهي الأوحد. ولم أغفل بحمد الله عن البيان والتفصيل والتأصيل لأسباب الخلاف الظاهر بين أقوال العلماء والمفسرين، قبل الحديث عن بيانها وتفصيل الأقوال فيها، وقبل بيان بعض دلالاتها وإشارات الإعجاز فيها. على أنني لم أرجع فيما بسطته من أسباب للخلاف والاتفاق في التأويل إلى كتابٍ مُؤلَّف أو قولٍ يروى، ولا وجدت ما ذكرته مجموعاً في مكان، وإنما عرفته بالاستقراء وتأمل كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وما نبّه أهل العلم على إثباته وما حذّروا من إتباعه. وهذا البيان وهذا التفصيل رأيته ضرورة حتمية، تلزمنا نحن المسلمين لتصفية ما علق في أذهاننا من الفهم السقيم لبعض الحقائق الناصعة، وما شابها من تغيير وتبديل؛ لننير بذلك طريق الفهم السليم لمكنونات الذكر الحكيم.
وقد اتبعت طريقاً في سرد الحقائق والشبه، اعتمدت فيه على تفصيلها أولاً، ثم بالرد على المبتدعين والحاقدين من غير احتجاج بما جاء في فواتح السور من دلالات ثانياً، وذلك ليأتي الرد من بابين: أولاهما الرد بكلام البشر على البشر، كما هو ردي عليهم، وثانيهما بفهم الدلالات وردّها عن نفسها بما نعجز نحن البشر عن مثله، ليُفرّق القارئ بين إعجاز البيان وما يقوله البشر من كلام، فلا يستعجلن أحد في الحكم على شيء قبل المقارنة بما يوافقه من دلالات وإشارات في كلام الله. هذا وأسأل من يقرأ في كتابي هذا العذر والصفح؛ إن رآني أقل منه منزلة في علم له علاقة أو منهج مُتَّبع هو فيه إمام، أو رأى ما لعله يثيره عليّ، لأنني سلكت في تأليف هذا الكتاب درباً لم أجد لي فيه مرشداً إلا ما زكّته النفس عن إيمان ويقين بعد البحث والاستقراء، ولست أدعي فيه السلامة من الخطأ، ولا العصمة من الزلل وأعترف بالتقصير. فقد كان أساس البحث فيه ما انقدح في نفسي من فهمٍ للحروف، فبحثت عنه بما آتاني الله من قوة في كتب السابقين وما سطّر المعاصرون، فلم أجد لما ذهبت إليه فيها قرين، ولم أجد كذلك أن ما ذهبت إليه قد خالف أصلاً من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو أصلاً من أصول أهل العلم في فهم النصوص، فعلمت أنه لا يحق لي كتمانه، كما لا يحق لي إطفاء شعلة من نور في طريق العلم، وأنني إن فعلت كنت مستحقّاً للجام لا أقوى على احتماله. ولما كان هذا المسلك من التأليف فيه ما فيه من سعة المطالب، ولا يكون إلا بشحذ الفكر وإعياء النظر، فيجب على المنصف إن كان من أهل العلم الصادقين، أن يعرض عما يجدني أشير إليه باختصار، أو أسهب فيما يدعوه للملل والانتظار، ولْيسارع في التجاوز عنه وعني، وليتذكر بأن الدين النصيحة، ولينتهي إن شاء بالذي ابتدأت به النصيحة فكانت لله أولاً ولْيكتب ما هو خير منه، أو ليأخذ منه ولْيَزد عليه ما شاء، لأكون ابتداءً سبباً في دفع العلماء
الصادقين لطلب المزيد، وأكون انتهاءً بحال تمنى الشافعي أن يكون فيه عندما قال: "بودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب - يعني كتبه - على ألا ينسب إليّ منه شيء" (¬1). ولْيُعلَم أنني ما كتبت هذا الكتاب إلا لوجه الله تعالى أولاً، ثم ليعلم الناس قارؤهم وكاتبهم أن تأويل القرآن للتوسع في بيان مقاصده بالتدبر والاستقراء ليس تاريخاً يحذو فيه المسلمون حذو أسلافهم الأولين، مرجحين لقول ولغيره منكرين، أو فنّاً يتساوى فيه المبتدعة مع أهل الحق وأهل السنة، ثم ليعلم الناس أن العلم ما هو إلّا "نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الإتباع، والفرار من الهوى والابتداع، وفّقنا الله وإياكم لطاعته." (¬2) ¬
الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام
الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام نعلم جميعاً نحن المسلمين بأن كتاب الله قد نزل بحروف عربية وكلمات عربية ونظم عربيّ، ومع ذلك فهو إلهيّ النسب إلهيّ المبدأ وإلهي المنهج، ولا يُحيط بأسرار إعجازه أحد، لا من العرب ولا من سواهم، إلّا ما شاء الله أن يعلموه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، لأنّ الله قد تعالى بهذا الكتاب - كما تعالى بكل صفاته - عما ينشأ في الأرض من كتب وغايات مبدئها إنساني ومنتهاها إنساني. وإن كان القرآن قد نزل بلغة العرب، فليس لأنها قادرة على استيعاب الوحي الإلهي دون غيرها من اللغات وقد نزل بسواها سابقاً، ولم تُكتبْ آياته بحروفها لكونها أشرف الحروف وأبدعها في البيان قبل التنزيل، بل نزل بلغة العرب لإتمام الرسالة كما أراد الله لها أن تكون عربية، وبما قدّر الله للبيان بأن يكون على لسان العرب. وقد كانت حروف البيان لمن نزل فيهم من أبسط الحروف وأقلها استعمالاً بين حروف البشر، بل وكان استعمالها عزيزاً بينهم، فأعزّها الله بعزّة قوله، وشرّفها بموافقتها منطوق وحيه، فلا فخر للعربية على سواها إلّا بهذا الكتاب وما سار على دربه ووافق شرعه من كِتابةٍ وانتهاجٍ. فكل نبي أُرسل بلغة قومه ليبيّن لهم تشريع العزيز الحكيم، كما أُنزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، على النبي العربي الأمي الأمين - صلى الله عليه وسلم -، وميّزهُ ربّ العِزّة عن غيره بأن كان آخر الكتب السماوية، ويحمل خاتمة الرسالات الإلهية، فكان للعربية من ذلك حسن الخاتمة، وشرف الإفصاح عن المرجع الأخير، بتقديرٍ من خالق البشر العالم الخبير بمواطن اختلاف ألسنة البشر والتقاء أفهامهم على آياته، فلا فضل لعربي على أعجمي ولو كان فخراً بلغته - وقد كُتبت بحروفها آيات القرآن - إلّا بالتقوى، وما في القرآن من تفضيل حسب دعوة الإتباع، لأن معاني القرآن واضحة بيّنة، ويتساوى في فهمها العربي مع غيره بعد ترجمتها، كما أن تدبر القرآن ليس مقصوراً على العرب دون سواهم، أما التأويل وفهم المقاصد بعد التدبر والتحقق والتأمل فهو العلم والحكمة، ويؤتيه الله من يشاء من عباده.
وهذه الحروف (ن، ق، ص، الم، كهيعص ... ) نزلت من مجمل القرآن، وتلذذنا نحن المسلمين بقراءتها وإن لم نعلم ما حملته من مقاصد على وجه اليقين، وليس مِنّا أحد إلّا ويعلم معناها على الأصل، وهو علم من لا يعلم إلا قراءتها، فنحن نعلم بأنها "حروف مقطّعة تنطق بأسماء الحروف لا مسمياتها، ونعلم أن لكل حرف اسماً، وله مسمى؛ فحين نقول أو نكتب كلمة "كتب"؛ فنحن نضع حروفاً هي الكاف والباء والتاء بجانب بعضها البعض، لتكون الكلمة كما ننطقها أو نقرؤها. ويقال عن ذلك إنها مسميات الحروف، أما أسماء الحروف؛ فهي "كاف" و"باء" و"تاء"." (¬1) أما البحث في تأويلها وبيان مقاصدها فنتفاوت فيه كما يتفاوت الناس في الفهم، ويختلف عليه العلماء كما تختلف آراؤهم على غيره من مواطن الخلاف، وكل رأي اتسق مع غاية الوحي وسبيله في الإفصاح كان على حق وكل ما خالفهما كان شاذاً وباطلاً. وقبل الخوض في بيان آراء العلماء في تأويل الحروف وتفصيلها، يجب الوقوف على ثلاثة أمور، لنعلم موطن الخلاف في تأويلها وبيان غاياتها، وهي: الأول: ذكر مسالك المتحدثين فيها، لنميز الخبيث من الطيب، ولنعطي كل ذي حق حقه، كل حسب غايته. الثاني: ذكر بعض الأسباب التي تدعوا لفهم القرآن، من غير النظر للخلاف القائم على تأويلها. الثالث: ذكر سبب الخلاف في تأويل الحروف، وبيان مسببات الخلاف على بيان المقاصد من كلام الله. ¬
الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور
الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور المسلك الأول: الذين داروا في فلك التأويل، فكانوا ممن لهم أجر أو أجران، وهم المفسرون بالأثر وأقوال أهل اللغة، وأوَّلوها على أكثر من عشرين قولاً بحسب ما أحصيتها، وبحسب من أحصاها من العلماء (¬1)، فقالوا عنها مثلاً: هي اسم من أسماء القرآن أو أسماء للسور، وقالوا: هي فواتح يفتتح الله بها القرآن، أو جُعلت فصلاً بين السور، وقالوا: هي حروف مقطّعة من أسماء أو أفعال، وهي قَسَم، وهي من حروف الهجاء لأسماء الله الحسنى، أو فيها اسم الله الأعظم، وهي حروف هجاء موضوع، وهي حروف تحمل في كل منها معنى مختلف، وهي سر القرآن ومما استأثر الله بعلمه، وهي حروف تدل على أصلها كحروف، وجُعلت فواتح لقرع الأسماع، أو هي من حروف المعجم أساس نظم القرآن، وهي إعجازٌ للعرب عن صياغة مثل القرآن بها، وهي إعجازٌ في النظم لكونها تُمثّل أنصاف صفات الحروف، وهي تنبيه لمغايرتها عُرف العرب، وهي ذات دلالة مباشرة على معنى، كتفسير (ألم) بـ (أنا الله أعلم)، وسآتي على ذكر هذه الأقوال لاحقاً بالتفصيل (في الفصل الثاني) من خلال بيان موافقتها أو مخالفتها لأصول التفسير والتأويل. هذا وإن تعددت الأقوال إلّا أنها تدور في فلك التأويل المستحب، والخلاف فيها كان من تعدد الآثار والروايات، وكثرة الضعيف منها عن الصحابة رضي الله عنهم، وابن عباس تحديداً، وقد احتجّ أصحاب تلك الآراء بهذه الروايات كلٌّ حسب ما يؤيد رأيه من روايات وإن كان فيها اضطراب واضح، وظنّوا بأنّ وقوفها على التابعين يعضدها في كثير من الأحيان وإن لم تصح عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. ¬
ويجب التنبيه هنا بأنّ الكثير من علماء الحديث وأهل التفسير قد تساهلوا في نقل الكثير من روايات التفسير في الآثار، كما تساهلوا في نسبة أقوال المتكلمين وأهل اللغة لمعرفة المصدر لكل قول، وذلك لما اقتضاه واقع الحال في التفسير، وجاء هذا التساهل لاعتبارات كثيرة، ذَكر منها أهل الحديث بأنه قد يُستأنس بهذه الأقوال لفهم المعاني، وهذا أمرٌ حاصل، ولكن الاحتجاج به باطل، فالتساهل له أسباب حميده وليس منها تفسير معاني القرآن بمجرد الخبر، والتساهل ليس بدليل على حجية ما نقلوه إن كان ضعيفاً أو فيه شبهة، وقد يُستأنس بهذه الأحاديث لبيان فهم قائليها، ولا يُحتج بها في التوقيع عن رب العالمين، ونقل مقاصد الشارع في آياته عن ظاهر اللفظ بدليل ظنيّ الثبوت أو ظنيّ التأويل، ونقول: "لا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» " (¬1). هذا إن كانت الروايات من المسند الضعيف أو ما فيه علة لم تبلغ به رد الحديث، وقد نقلها علماء التفسير والمحدثون وقالوا: العهدة على الراوي، أما أقوال العلماء والتابعين المشكوك في نسبتها إليهم فهي أولى بالتمحيص والتدقيق والردّ، لأنها الأكثر والأغلب، فما كان منها جميعاً من المسند الموضوع فهو داخل في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النَّار" (¬2)، والكذب على القرآن هو كذب على مُبلّغه وقائله، فلا نقول العهدة على الراوي، بل العهدة علينا إن أخذنا بها، وعلم الجرح والتعديل قادر على بيان الحكم الواجب اتباعه فيها. وقد كان هذا القول من أهم أسباب الخلاف في تفسير فواتح السور، وسبباً في تنازع الآراء عليها، ¬
وقد حاول بعض العلماء الجمع بين تلك الأقوال ولم يستطيعوا، لأنهم وجدوا في بعض الآثار تناقضاً في نفس الرواية أحياناً، فالأَولى أن يتم تنقيح الصحيح من الضعيف عند الحديث عن الشُبَه وما خفي تفسيره، ولا نكتفي بهذا بل نجتهد لمعرفة أصل المتن وما هو الحق فيه، لكي لا نرمي ما جاءنا من علم التابعين ومن تبعهم من رواة الحديث وأهل التفسير من العصور المفضلة، فهم أعلم وأتقى من أن نرد كلامهم بمجرد كلامنا. ولو تتبعنا أقوال الأئمة من المفسرين - أمثال ابن جرير الطبري - لوجدنا أكثرها من الروايات عن التابعين، وهؤلاء العلماء هم قدوتنا وطريقهم سبيلنا لفهم القرآن لا سواه، ولو وصلنا من العلم ما وصلنا ونقّحنا لهم ما نقّحنا وكان بيننا وبينهم من فضل لما كان إلا كفضل الرضيع على أمه، لأنهم ورّثونا المنهج في ابتغاء العلم وبيّنوا لنا طريق الحق، لذلك سنسير على دربهم في هذه الفواتح لنجد ما قيل فيها من أحاديث وآثار وآراء، فما كان منها صحيحاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضعناه موطن اليقين، وما كان منها عن الصحابة والتابعين وضعنا ضعيفه موطن الشك وصحيحه موطن الظن - لأسباب سأبينها - كما نضع الموضوع منه على رف النسيان. ولا ننسى ما لأهل العربية وفرسان الكلام من علم أتحفونا به، وما جاء في أقوالهم ومؤلفاتهم من بيان وإفهام، فلا نكتفي بإيراد كلامهم، بل نجتهد في معرفة الأصل فيه ونسبته لقائله، فمعرفة الإسناد في اللغة لا تقل أهمية عن معرفته في الأثر، لأن كلام العرب هو الشاهد على فهم كلام الله. المسلك الثاني: الذين شذّوا وأنزلوا كتاب الله منزلة العلم بالتجريب ولو بحسن نية، كمن جعل من هذه الحروف خبيئة في علم الحساب، أو من قال هي حروف من حساب الجمَّل؛ وهذا عليه الوزر، وهو كما قال الشوكاني: "وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذٍ إلا أحد أمرين: الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه، والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه، والصدّ عنه، والتنكُّب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به، ويضعون حماقات
أنظارهم، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح، والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئاً من هذا، فغير ملوم أن يقول بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده." (¬1) وقد اعتمد بعض الذين تحدثوا فيها برأيهم هذا، على بعض الآثار التي ذَكرت محاولات اليهود لفهم هذه الحروف زمن التنزيل، وكلها آثارٌ ضعيفة (¬2)، ولا يحتج بها حتى لو كانت صحيحة، فكيف نقتدي باليهود لفهم كلام الله؟! وقد كفروا بكلامه قبل التنزيل وبعده بناءً على فهمهم وتأويلهم، فهؤلاء ليسوا معذورين، إذ الجهل بأصول الحديث لا يُعتبر مُسوغاً للخوض في القرآن. ولنا كل العبرة في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر، فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: "أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا إتّباعي" (¬3)، وفي رواية "ولكني أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً." (¬4) المسلك الثالث: الذين أرادوا إعطاء تفسير لها بغض النظر عن الوسيلة، إما طلباً للشهرة أو دفاعاً عن القرآن، وكأنها نقيصة في كتاب الله، فرموا القرآن من حيث لا يعلمون بالنقص والتحريف، فكان منهم من إدّعى وجود أمثال للحروف المقطّعة في بعض ألسنة العرب، وأنها كانت معروفة لديهم، وأنها من باب الاختصار للكلام، وأن أصحاب هذا اللسان قد اندثروا واندثرت معهم معاني الحروف، وهذا ما لا دليل عليه من التاريخ والآثار، ولا حتى من ¬
قصص الإخباريين، فضلاً عن أنه رمْيٌ لكتاب الله بما لا يليق من دعوى عدم الحفظ. كما أن منهم من إدّعى وجود تفسير لها في لغات الأمم المندثرة من غير العرب، وأنها نزلت كرموز، ولها معاني في اللغات الأخرى، كما قام أحدهم بنقل الحروف إلى اللغة الهيروغليفية (¬1)، وقام بابتداع تفسير لها، وكأنه لم يقرأ {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مَبِينٍ} فجعلها (بخط مصريّ مُبهم ومُشفّر). وهؤلاء كلهم سائرون في درب مظلم، لا مرشد لهم فيه ولا مُعين، وكلامهم لا يرقى لمراتب النقد العلمي، فالهيروغليفية نوع من خطوط المصريين القدماء وليست بلغة يقوم على فهمها واستدراك معانيها علماء اللغات واللسانيات، والقائلون بهذا القول مُدَّعون لعلمٍ وهو منهم براء، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وكأن الناس قبلهم لم يفقهوا أصول هذا العلم، فقد كان العرب والمسلمون على دراية بهذا العلم قبل قرابة ألف سنة، وقد فعلوا بلغات العالم القديمة المندثرة ما فعله علماء العصر الحديث، بمحاولة فك رموز اللغات المندثرة، وتفسير معانيها، بل وإيجاد ألفاظها. (¬2) ولو كان عند الناس شكٌ فضلاً عن العلماء بأن في هذه الرموز تشابهاً، لوَصَلَنا منهم خبر، بل لما كانت هذه اللغات قد اندثرت أصلاً لمجرد ذكر بعض رموزها في ¬
القرآن. فهؤلاء إذن هم الطبقة الأدنى من المتقولين على القرآن، لاشتغالهم بالحروف فقط، وقولهم ساقط يميزه الساذج، ولو أن أحدهم قد رأى في الآثار الضعيفة والموضوعة مسوّغاً لفعله فهو آثم، فالجهل بأصول الحديث لا يُعتبر مسوغاً للطعن في القرآن، وقد صدق فيهم قول الإمام أبي حنيفة: "من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالجدال تزندق، ومن طلب غريب الحديث كُذّب." (¬1) لأن علامة الكذب غرابة المذهب، حتى لو كان سائغاً في عقل صاحبه وله وجهٌ صحيحٌ برأيه، "والفرق بعيد بين علم يُورِد منه المؤلف إشباعاً لكتاب، وبين كتاب يُفرده إشباعاً للعلم نفسه." (¬2) المسلك الرابع: الذين أنزلوا القرآن مراتب كتب التاريخ، وقاسوه بغيره من إرث الأمم، وكأنه حجر رشيد (¬3) واعتبروا هذه الحروف كأي رموز غريبة لا تُفهم إلا بفهم اللغات الدارجة أيام التنزيل، وأنّ هذا الكتاب الأوحد خاضع لأبجدياتها، وهذا هو التحريف، وهو كفر بالإجماع، (¬4) "ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر" (¬5)، وهؤلاء هم الطبقة الأعلى من المتقولين على القرآن، وهم العدو المبين، لاشتغالهم به كله وحجتهم كانت هذه الحروف. فكان منهم مثلاً من عمد إلى قراءة الرسم القرآني دون أي تغيير قراءة سريانية، وزاد عليه بتغيير نقاط الحروف، لإيجاد كلمات ¬
مشابهة بعد التغيير في اللغة السريانية! (¬1) ظلمات بعضها فوق بعض، وكأن ألسنة العرب ولغتهم قد انقرضت لعدة قرون، حتى أتوا هم وأحيوها، أو كأنهم وجدوا هذا الكتاب وسور القرآن في بعض الحفائر والكهوف، ولم تتناقله الأجيال تباعاً رسماً ولفظاً، وهم يعلمون بأن القرآن كان وما زال التلقي له قراءةً وكتابةً ولفظاً بسلاسل هي أشدّ من الحديد، فأسانيد القراءات وطبقات القراء وتراجمهم موثّقة في مئات الكتب، كما هو رسم القرآن وكتابة حروفه، ولا يسعهم قياسه على أي كتاب آخر؛ لأن التلقي لهذا الكتاب أيضاً لم يقتصر على القراءة والكتابة واللفظ، بل زاد عليه بنقل مواضع السكون والسكوت بين الكلمات، وأحكامها في آخر الآيات أيضاً، حتى أن علماء المسلمين من المتخصصين في القراءات قد ألّفوا أكثر من خمسين كتاباً في الوقف والابتداء فقط قبل نهاية القرن الرابع الهجري، ولم يقف النقل للقرآن عند حركة الشفاه في سياق اللفظ، بل تعداه لما هو أعجب وأعظم من أن يفهمه الحاقدون، وهو نقل حركة الفم من غير كلام، كما ثبت من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ .. الآيات} [القيامة: 19 - 16] "قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جمعه لك في ¬
صدرك وتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال: فاستمع له وأنصت، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزّ وجلّ". (¬1) فمجال بحثهم هذا بعيد عن القرآن من وجوه عدّة، أيسرها في الذكر: أنه نزل بلسان عربي وصوت عربي، وهو القرآن قبل الكتابة {لِسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مَبِينٌ} [النحل: 103] وكل ما سوى لسانهم وصوتهم وما لا يفهموه كان أعجمياً بعرفهم، قال الشنقيطي: "واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة: فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما" (¬2) ولم نسمع أن العرب قالوا فيما سمعوه من القرآن «ما معنى هذا؟» وبناءً عليه فإن أصحاب هذا الرأي جاهلون تماماً بما لدينا من علوم خاصة، هي من أعجب العلوم وأشرفها لتلقي القرآن وتجويده ورسمه، وذِكْر أصول اللفظ فيه، وتنوع قراءاته على ألسنة العرب. وإن قال قائل: هم معذورون لجهلهم بعلوم المسلمين الخاصة، قلت: بل إنّ هذا القول لا يقوله إلا مدلس على البشر، وكاذب على التاريخ مزور للآثار، واستغلالهم لعلم مقارنة اللغات مفضوح غير مستور، لأن هذه العلوم حيادية تجريدية، وهي قادرة على إظهار الزيف بنفسها، ومن يقرأ في هذه العلوم وينتهج فيها المبادئ الأساسية من المنهج العلمي، لن يجد دليلاً واحداً على أن أصل الكتابة العربية كان من لغة شقيقة. وهنا تفصيل لم يتنبه إليه الكثيرون، بأنّ هناك فرقاً بين اللغة (نظام ¬
يتحقق به الكلام) والكتابة (نظام تتحقق به الحروف) والخط (نظام يتحقق به رسم الحروف)، وعليه فجلُّ ما يجد الباحث وما يستقر عليه من رأي، أن اللغة العربية لغة سامية، كالأكادية والآرامية والعبرية، وكانت الكتابة فيها عربية جنوبية وعربية شمالية، نسبة إلى جزيرة العرب، وأن الكتابة بالحروف العربية الشمالية النبطية للغة العربية هو أقرب الاحتمالات لأصل الحروف المستعملة في الكتابة زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبل بعثته بفترة طويلة، وهو ما أثبته علم الآثار باكتشاف (نقش النمارة) (¬1) وغيره من النقوش، "وعلى الرغم من أن العربية الشمالية آخر اللغات السامية تدويناً إلا أنها احتفظت بجل خصائص اللغة السامية الأم، كالإعراب الذي اختفى من كل اللغات السامية باستثناء الأكادية. واللغة السامية الأم هي لغة فرضية تُوُصل إليها بعلم اللغة المقارن (أي مقارنة الساميات ببعضها). ويُعلل ذلك بسبب العزلة النسبية التي عاشتها القبائل العربية التي بقيت في الجزيرة العربية بينما تأثرت لغة القبائل السامية المهاجرة باللغات الأخرى غير السامية التي اتصلت بها وأخذت منها وأعطتها، الشيء الذي أدى إلى حدوث تغيرات لغوية أبعدتها من الأصل السامي وهذا ما وقع للأكادية والعبرية والحبشية وغيرها." (¬2) فهذه اللغات السامية ومنها الآرامية - وهي اللغة الأم للسريانية والكلدانية - كانت نشيطة قبل الإسلام، "وظلت الآرامية نشيطة حتى جاء الفتح الإسلامي فأخذ يسري إليها الضعف لاتصال أهلها بالعرب، وهكذا تغلبت عليها العربية في القرن العاشر وبقيت الآرامية لغة دينية مقرها الكنيسة تقام بها الصلوات .. وما زالت مستعملة في كنائس السريان والكلدان والموارنة إلى اليوم" (¬3)، والأعجب من هذا أنه كان عند السريان كتابة تدعى بالقلم الكرشوني، وهي كتابة العربية بالأحرف السريانية (¬4)، وهي معروفة إلى الآن، فكأن هؤلاء قد نسبوا الجد إلى أحفاد أحفاده بزعمهم. أما الخطوط العربية وغيرها فهي من الفنون، وليست حكراً على أحد، وقد يستعمل العرب خطوط السريان أو العكس، كما يستعمل العرب الخطوط الفارسية والعكس، وهو حاصل ومتَّبع إلى الآن من تشارك الكتابات في الخطوط، ومن الحق أن يقال بأن العلم ليس فيه انحياز لمذهب أو دين، وهو واقع ملموس، ولكنّ ما قالوه لا يكون إلا إتباعاً لآراء الرهبان والأحبار، وَانْحِيَازاً للطعن في القرآن والإسلام فقط، وبما أن أساس هذا العلم هو المقارنة بين الشبيهين، فأين قرآنهم السرياني؟ وأين نسختهم النقدية؟ حتى لو كانت هذه النسخة سورة واحدة من القرآن من أصغرها لأكبرها، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فأعطونا دليلاً تاريخياً واحداً ولو أصغر من حجر رشيد، على إيجاد المترادفات والاقتباسات، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فأعلمونا بكيفية المعالجة لما خالف لفظه رسمه في كلام العرب وأين ستجدونه؟ هيهات، فهم داخلون في قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) فصلت}. أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي؟ (¬5) وعليه فهذا المسلك باطل لما سبق و"لقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مَبِينٍ} فلا يحمل على ما ليس ¬
الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن
في لغتهم." (¬1) لا من كلامٍ ولا من حروف، وهم يعلمون هذا علم اليقين، ولكن الغاية الباطنة هي تسفيه المسلمين وتحقيرهم؛ ليُخفوا ما في عقائدهم ودياناتهم من خزعبلات وتخريف يعلمه الجاهل بأيٍّ من هذه العلوم، وكلامهم ما هو إلا هروب من حسرتهم على فقر دياناتهم وضيق معتقداتهم وضعف وسائل التنصير لديهم. المسلك الخامس: من كذّب القرآن من قبل أن يقرأها، وتحدث بها على أساس النقص بالقرآن لا الحديث عنها، وهم جهلة الكفرة، والغاية من كلامهم واضحة ولا تخفى على الأطفال، وهي كغاية التوفير مع العدم، فلا نقول لهم إلا ما قاله تعالى للرد على المشركين في ذات المسألة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88]. الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن وهما سببان، الأول: سبب خفي ظننت أنه ما من أحد تنبه إليه، وسأقوم بتفصيله لبيان فائدته، والثاني: سبب ظاهر تنبه إليه الكثيرون، وقامت عليه تفاسير، وسأقوم بذكره وتفصيله للإشارة على أهميته في تأويل حروف الفواتح. السبب الأول: تفصيل القرآن في الذكر لفهم الآيات مع عدم تقييد القرآن به وتفصيل القرآن في الذكر هو تقسيم ما فيه من سرد للآيات على ثلاثة أقسام: ذكر ما كان، وذكر ما سيكون، وذكر ما يجب أن يكون، أو بمعنىً آخر: ذكر أخبار من سبق، وذكر الغيبيات، وتشريع الأحكام، وكلها لغاية واحدة وهي التوحيد، وهو تقسيم دل عليه العقل ¬
والنقل؛ فالزمن له ماض وحاضر ومستقبل، كذلك الكلام له ماض وحاضر ومستقبل، وهذا التفصيل هو الأساس لنشأة اللغات، - بحسب علم البشر التجريبي - وهذا التقسيم ظاهر في القرآن بالاستقراء، وظاهر بصورة خاصة في أول سورة نزلت من سور الفواتح، وهي سورة القلم. ولكن هل يكون كلام الله مشابها لغيره من الكلام في أصله وتفصيله؟ ولم يأت بما هو أصيل لا تفصيل له! فلنقرأ سورة القلم لنعلم الحق، فهذه السورة قد ابتدأت بالقسم بحرف النون أداة الكلام، وبالقلم أداة الكتابة، وبما يسطرون وهو النظم المعجز، أقسم الله بها جميعاً على نفي صفة الجنون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ورفعت من قدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه أحسن الأوصاف، وبعدها يُظْهر الله الذنب العظيم لمن رد كلام الخالق، ووصف القرآن بأنه من أساطير الأولين، وأن ما ورد فيه ما هو إلا روايات، وهذا الوصف بدوره ينفي التشريع وبيان الحق بحكم الله الظاهر في كتابه العزيز، وينفي أن ذكر الغيب بما فيه من حديث عن الآخرة والبعث والجنة والنار ضرورة عقدية، والإيمان به هو طريق السلامة. فكان رد القرآن صريحاً بوصف القائل بما يستحق من صفات، وتوعده الله بعدها بأن (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، وهنا إشارة وتأكيد بأن في القرآن قصص وذكر لأخبار الأولين، ولكنها ليست مأخوذة مما سطر الأولون، وليست أقاويل على أي اعتبار، بل هي من كلام الله في كتابه العزيز إخباراً لنا، إما بما لم تذكره الكتب السابقة فيكون من الغيبيات المستحيلة على البشر، أو ذكرته الكتب السابقة على وجه غير صحيح بعد تحريفها وجاء القرآن ببيانه على الوجه الأمثل، فقد تتشابه القصص، ولكن الله يميز كلامه عن غيره بطرق كثيرة، لتكون عبرة لمن يعتبر. وبعد هذا تدور الآيات في السورة على هذا الهدف العظيم، وهو التأكيد على هذا التفصيل والتقريع على من أنكره، فبعد الوعد والوعيد يشبِّه الله حال الكافرين بأصحاب الجنة، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} والقارئ في التفاسير، يلتبس عليه الحال في التشبيه بين الكافرين وأصحاب الجنة، وهو الرابط لمعرفة هدف السورة، وهو الرد على من قال عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه مجنون وأن القرآن من أساطير الأولين، فنفى بذلك التشريع وعلم الغيب عنه، وفهم الرد سيأتي من فهم وجه الشبه بينهم بناءً على ما يلي: أولاً: تم ذكر التشبيه في سياق الرد على من وصف القرآن بأنه من أساطير الأولين لما احتواه من قصصهم. ثانياً: تم التأكيد على أن القرآن فيه ذكرٌ للأولين، وهذا لاستخلاص العبر، وليس لمجرد الذكر كما في كتب القصص، وجاء التأكيد بإيراد قصه أهل الجنة وتشبيه حال بلواهم بحال بلوى الكافرين. ثالثاً: ذكر واقع الكافرين وأنهم اعتبروا القرآن ذكراً لقصصٍ ليس فيها الأمر بأحكام الله وشرعه ووجوب إتباعه، وأصرّوا واستكبروا، وأصحاب الجنة أخذوا فعل أبيهم من توزيع الصدقة على الفقراء والمساكين وقسمة الحق فيما رزقه الله لا لمصلحة دنيوية، بل لنيل رضا الله في الآخرة ولتطهير نفسه؛ أخذوا هذا كله كرواية وقصة لمن سبقهم، وأنْ ليس فيها من حكم بالحق ولا
تشريع من الله، وما كانت في نظرهم إلا خسارة في المنتج طمعاً بما هو في علم الغيب، فكلهم قد أنكروا تشريع الله وحكمه بقولهم، وكلهم أنكروا الغيب بفعلهم. رابعاً: كلا الطرفين عذبه الله بنوع من عذاب الدنيا، فأصحاب الجنة كان عذابهم بخسارة المال وانعدام الربح، وليس هذا من عذاب الآخرة بشيء، والكافر ذو المال والبنين المدّعي بأن القرآن من أساطير الأولين قال فيه تعالى {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} قال ابن جرير: "سنبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفوه، فلا يخفى عليهم، كما لا تخفي السمة على الخرطوم." (¬1) ورغم اختلاف التأويل في معناها إلا أنها ليست من عذاب الآخرة بشيء. {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلًعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} هذا لأصحاب الجنة، أما عذاب المشركين فهو {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)} هذا عذاب الكافرين ومن كذّب بالقرآن. خامساً: كلاهما تم تذكيره بالله وبحكمه من قِبَل أفضلهم وأوسطهم، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان منذر القوم ومذكرهم بالله، وهو أوسط القوم على الإطلاق - وكان القسم ببداية السورة على صدقه وخلقه العظيم - وأصحاب الجنة {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)}. سادساً: كلاهما أقسم على باطل، فأصحاب الجنة أقسموا على معصية الله بقطف الثمر وحرمان المساكين من نصيبهم، كما أن الكافر المهين قد تم وصفه بـ (حلّافٍ مهين)، "وذلك أن ¬
الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها." (¬1) وهذا القسم مخالف لشرع الله، ولذلك وجبت عليهم العقوبة، ولو لم يكن من تشريع أو عقوبة، فلن يضيرهم هذا الفعل العظيم. وبعد هذا كله تم التأكيد على ذكر التشريع في الكتاب الإلهي {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)} وهو سؤال تحقير لهم، بكيفية حكمهم على الأمور من جهة وسؤال تنبيه وإشارة على أن التشريع لا يُترك لأمثالهم، فقد وُجد التحكيم والتشريع في القرآن وجاء القرآن لبيانه، إضافة لذكر الأولين، وبعدها خوّفهم الله من الآخرة ومن الحساب، بوصف دقيق لبعض وقفات الآخرة بقوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)} وهي إشارة بأن هذا القرآن يذكر الآخرة، ويتحدث عن الغيب مما لا يعقلون، ولن يجدوه في كتاب آخر، أي بالمحصلة هذا كتاب الله المعجز فيه ذكر القصص وفيه التشريع وفيه علم الغيب، وليس كمثله كتاب قط، ولذلك نجد في آخر آية من السورة قوله تعالى {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} أي لزاماً عليكم التصديق بأنه يحوي أقسام الذكر الثلاثة، وأن من أنكر إحداها سيكون حاله كحال طرفي التشبيه، أصحاب الجنة والكافرين، وله من الوعيد ما لهم. فهذا التفصيل فيه الحق، بل والإيمان به ضمنيّاً ضرورة، وقد جاء في القرآن واضحاً في بعض سوره وآياته، ومنها ما جاء بالإشارة في آية واحدة كما في سورة آل عمران بقوله تعالى {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} وقبل ذكر قصة مريم البتول، وكلام الملائكة لها، وذكر قصة زكريا، ودعائه لله وكفالته لمريم، وذكر قصة امرأة عمران ونذرها لما في بطنها لله، واصطفاء الله ¬
للصالحين من عباده آدم ونوح وإبراهيم وآل عمران، قبل ذلك كله جاء الأمر بإتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} وقبله قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} وكان قبله أيضاً إشارة للإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذكر الجزاء والعقاب والحساب يوم القيامة، وكل هذا من ذكر الغيب، كما في قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} وكله يدور في فلك القصص والغيب والتشريع، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188] والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرو قصص الأوّلين وأخبارهم من عند نفسه أو مما سمعه من كلام السابقين، فقد جاء بالحق من قصصهم بتتابع بليغ، وجاء بما لا باطل فيه، ولم يكن بين الأوّلين ليعرف أخبارهم جميعاً، ولم يكن كذلك بينهم ليعلم أحكامهم، ويتعلم منها شرع الله بما يختصمون ويحكمون به، بل أخبر بما كان من أحوالهم والغاية من اصطفاء الله لهم بالنبوة، وهي عبادة الله ونشر الشرائع السماوية، فأحياها الله على لسانه، وهذا دليل على أنه لا يقص القصص لأجل القصص، وما شرع محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا كشرع الأنبياء قبله، وما نزلت جميعاً إلا لذات الغاية (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). وهنا إشارة على إعجاز المتكلمين في نبوته "وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطاباً لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين؛ يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم
يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟ " (¬1) ولو جالس أحدهم وسمع منه لادّعى النبوة من سمع منه، ولو كان ما يتلوا مما عرفوا أو قالوا، لأحيوه هم ولم يكتموه، وأماتوا بكتمانهم ذكر الأنبياء وشرعهم، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاطبه الله بأن "لا وجه لك إلى علم ذلك إلا بالكون معهم إذ ذاك، أو أخذ ذلك عن أهل الكتاب، أو بوحي منا؛ ومن الواضح الجلي أن بعد نسبتك إلى التعلم من البشر كبعد نسبتك إلى الحضور بينهم في ذلك الوقت، لشهرتك بالنشأة أمياً مباعداً للعلم والعلماء حتى ما يتفاخر به قومك من السجع ومعاناة الصوغ لفنون الكلام على الوجوه الفائقة، فانحصر إخبارك بذلك في الوحي منا" (¬2)، ولذلك جاء بعد هذه الآية ذكر عيسى عليه السلام وقوله تعالى {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} فكلها جاءت للغاية ذاتها، وكلها جاءت بشرع الله أو لإحياء شرع الله وتطبيق حكم الله في الناس. ولكن بناءً على هذا التفصيل، أين نضع الآيات التي قامت الحجة بها على المشركين وأعداء الدين برد شبهاتهم؟ وأين نضع الآيات المشتملة على ضرب الأمثال، والتي دعت للتدبر في خلق الله؟ ونحن نعلم بأن الحروف المقطّعة لم تأت كخبر، ولم تأت كأمر ظاهر، ولم تأت بشيء من الغيب! فما هي بحسب هذا التفصيل؟ أهي سر من أسرار التشريع وما لا نستطيع تطبيقه لعدم فهمنا إياه؟ أم خبيئة في علم الغيب لن نعرفها إلا بعد البعث؟ أم فيها خبر عن الأمم السابقة وجاءت بلغاتهم وما اندثر من علومهم؟ ¬
والجواب هو: أن هذا التفصيل فيه الحق والبيان، ولكن تقييد القرآن به باطل، ومن أخذ به واكتفى حكم على القرآن بمشابهة كلام البشر، وحكم على نفسه بعدم فهم القرآن كما ينبغي، وما هذا التقييد إلا نتاج حديث ضعيف آمن به بعض كبار المفسرين فضلاً عن طلبة العلم، وهو ما ذكره القرطبي في تفسيره "عن علي رضي الله عنه وخرجه الترمذي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم. قلت يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ... (إلى آخر الحديث) " (¬1) فهذا تقييد للقرآن، فإن كان الحق كله في هذا التفصيل، فأين نفصل الردود على شبه المشركين في القرآن؟ والتي جاءت في أغلب السور المبتدئة بالفواتح (ومعظمها مكيّ كما نعلم) وهي مما إمتاز به القرآن عن غيره من الكتب، فهل من كتاب في الدنيا يدعو صاحبه لإيجاد نقص فيه ويتحدى الناس جَمِيعًا بإقامة الحجج والبراهين؟ ولو كان بشرياً لاقتصر على هذا التفصيل فقط! فهذا التفصيل وإن كان فيه حق، واتباعه طريق سليم لفهم الآيات، إلا أن تقييد القرآن به كان سبباً لبعد الناس عن فهم القرآن، والأخذ به سبب لفهم القرآن إن أخذنا التفصيل كما فعلنا فيما هو ظاهر في سورة القلم. ولهذا ¬
تجد من علماء اللغة وأهل البلاغة من يفصّل القرآن بهذا التفصيل من غير تقييد فيقول: "إن استقراء القرآن وهو شريعة وأخبار وآداب، هو بعض أدلة إعجازه، بل أقواها، بل دليل الزمن المنسحب على الزمن" (¬1)، فجمع القائل آيات الردود والإعجاز وضرب الأمثال مع الغيبيات، وسماها آداب القرآن لأن غايتها تأديب البشر، وهذا هو الحق الأبلج. ولكن ما وجه الدلالة على فهم الفواتح إن أخذنا بهذا التفصيل أم لا؟ أقول وجه الدلالة هو معرفة السبب لعدم رد المشركين على هذه الفواتح، فقد ردوا على ما جاء فيه من قصص كما في قوله تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] "نزلت في النضر بن الحارث، كان خرج إلى الحيرة في التجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكسرى وقيصر، فلما قص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار من مضى قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا. وكان هذا وقاحة وكذباً." (¬2) وقاموا بالرد على التشريع، كما سبق في سورة القلم، وما في أحكامهم على بني هاشم وغيرها من الأحكام كثير، وردّوا على الغيب بتكذيب البعث وغيره، ولكنهم لم يردوا بشيء على الإعجاز في نظم القرآن وما جاء فيه من حجج عليهم، وهذه الحروف ما هي إلا ردّ على شبهة، وإعجاز بإقامة الحجة، كما في سياق سورها وما تضمنته أوائل السور المفتتحة بها، وأغلب الأقوال في هذه الفواتح تفيد بأنها من باب إقامة الحجة، ولو اختلفت الآراء لعدم معرفة الشبهة، فليس لأحد أن يسقط حقيقة القول بأن الغاية في ضرب الأمثال وما فيها من أسرار للنظم الإلهي هو الدلالة على إبطال الحجة، فإعجاز ¬
القرآن في نظمه واختيار كلماته ومعانيه جاء لإقامة الحجة، ولإخراس المشركين ومن سار على دربهم إلى أبد الآبدين، كما هو الحال في إعجاز الفواتح وغيرها من آيات بالنظم الإلهي. السبب الثاني: معرفة المقصود من التأويل وتمييزه عن التفسير نعلم جَمِيعًا علم اليقين بأن القرآن نزل منجّماً على فترات، وكان ذو شقين عظيمين بحسب الفترات، فمنه مكّي ومنه مدني، ولا خلاف على هذا بين أهل الإسلام، ومن باب آخر نعلم علم اليقين أن المكي نزل في أهل قريش، ولم يكونوا بحاجة لتفسير المعاني وقد نزل بلغتهم، ولولا هذه الحقيقة لما اعتبر نظم القرآن معجزاً وقد نزل بلسانهم، ولكنهم بنص القرآن لم يؤمنوا {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] (¬1) أي لم يؤمنوا بالغيب وما فيه من إلزام للبعث، وما يليه من جزاء وعقاب ورحمة، ولم يفعلوا بالتالي ما أمر الله من تشريع وما فيه من الهدى، ولم يعتبروا بما جاء في القرآن من أخبار السابقين وما فيه من الموعظة، وهذا هو ما لم يحيطوا بعلمه، وكذبوه ولم يروا بعدُ ما يؤول إليه أمر القرآن من نصر للمؤمنين وخسران للكافرين، كما هي سنة الله في الذين خلوا من قبل. وجاء التأويل هنا بالمعنى اللغوي له (من آل الشيءُ يَؤُول إِلى كذا أَي رَجَع وصار إِليه) (¬2)، ومعناها كقوله تعالى (ولتعلمن نبأه بعد حين) ولم يأت التأويل هنا بمعنى ¬
التفسير، ولو كان كذلك لما كان القرآن حجة على الكافرين إن لم يفهموه ولم يسألوا عن معانيه، بل هم أقدر الناس على فهم المعاني وتمييز البليغ من القول، وقد وصفوه بأروع الوصف كما جاء ذلك في كتب السيرة والسنة، من ذلك ما قاله ابن عباس: "إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً! قال: لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فوالله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر (يؤثر يأثره عن غيره)، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}." (¬1) وزاد البيهقي "عن عكرمة قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: اقرأ عليّ، فقرأ عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] قال: أعد، فأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر." (¬2) فلا يعقل أن يأتي معنى التأويل هنا ¬
بالتفسير وإعطاء المعاني «ولما يأتهم تأويله» أي لم يعلموا بعد بما يؤول إليه ما نزل من الكتاب عليهم. أما المدني فنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه من أصحاب في عصر بناء المجتمع الإسلامي بالتشريع الإلهي، لتنظيم العلاقات بين البشر وخالقهم من جهة، وبين البشر أنفسهم من جهة أخرى. فكان التأويل بينهم كما جاء في الآثار: "عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"يتأوّل القرآن" (¬1)، قال صاحب اللسان عن بيان الحديث: "تعني أَنه مأْخوذ من قوله تعالى: فسبح بحمد ربك واستغفره" (¬2)، وعنها رضي الله عنها: "أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال إنها تأولت كما تأول عثمان" (¬3)، قال في اللسان: "قوله «قال تأولت إلخ» كذا بالأصل. وفي الأساس: وتأملته فتأولت فيه الخير أي توسعته وتحرَّيته كما تأَوَّل عثمانُ؛ أَراد بتأْويل عثمان ما روي عنه أَنه أَتَمَّ الصلاة بمكة في الحج، وذلك أَنه نوى الإِقامة بها." (¬4) فالتأويل عندهم كان ما دل عليه القرآن، وبعرفهم هو التطبيق والتوسع في فهم المقاصد، وهو ما أتى الأمر به على الوجوب بقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي اتبع ما يقوله القرآن، وجاء في هذا المعنى: "عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: إتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعملون ¬
فيما أنزل القرآن." (¬1) ومنه دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس "اللهم علمه الكتاب" (¬2) أو "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" (¬3)، ويظهر فيه هذا المعنى للعلم بالكتاب أو التأويل، أي التوسع في فقه القرآن، والقدرة على فهم المقاصد المتعددة في ظاهر الآيات، ليبيّن للناس منهج القرآن بما أُنزل لأجله. ويبينه أيضاً ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تقديمه لابن عباس، وتعجب الصحابة من تقديمه وهو صغير السن، فسأل الحاضرين قبل سؤال ابن عباس عن سورة الفتح {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فما قال فيها أحد إلا ما دل عليه الظاهر وهو الحق، وقال ابن عباس: "هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له، قال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم." (¬4) أما الذين أسلموا في العهد المدني ولم يعلموا بتفصيل التنزيل، وأخذوا العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقد احتاجوا لمعرفة الوقائع وما تدل عليه الآيات ببيانها على الوجه الأمثل، ليتم العلم بها ومن ثم ¬
العمل بها، وبيان التنزيل أمر واجب على الصحابة بل (من كتم علماً مما علمه الله ألجمه الله بلجام من نار بما كتم) كما قال - صلى الله عليه وسلم -، وعليه يتميز الصحابة فيما بينهم في البيان والتأويل وما حازوا عليه من علم بالكتاب الشريف، وكلٌّ له أجر بما يبين للناس من أمر دينهم ودنياهم كما أمر الله ورسوله. "قال أَبو منصور: يقال أُلْتُ الشيءَ أُؤَوِّلهُ إِذا جمعته وأَصلحته فكان التأْويل جمع معاني أَلفاظ أَشكَلَت بلفظ واضح لا إشكال فيه"، وفيه "قال الليث: التأَوُّل والتأْويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه ولا يصح إِلاّ ببيان غير لفظه؛ وأَنشد: نحن ضَرَبْناكم على تنزيله، فاليَوْمَ نَضْرِبْكُم على تَأْويلِه." (¬1) وهذا مأخوذ من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخبراً عن علي (سيقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله) وقد قاتل الخوارج على تأويل القرآن، حيث أخذوا بعض الآيات على ظاهر اللفظ بفهمهم السقيم، وقد انتدب علي رضي الله عنه عبد الله ابن عباس ليناظرهم ويبيّن لهم الحق في التأويل والتفسير. وبذلك فقد اشترطوا للتفسير أن يكون هناك إشكال في المعنى، إن تم أخذه على ظاهر اللفظ، كما هو الحال في الترجمة، أما إن لم يكن من إشكال، فالحق هو الأخذ بظاهر اللفظ، وفيه القصد يكون من غير طلب للتأويل، أما التأويل فقد اشتمل على التفسير ولم يقتصر على ما فيه من بيان المعاني والقصد منها، بل زاد عليه ببيان المقاصد الخفية المتنوعة بحسب ما في القرآن من جوامع الكلم وجوامع المعاني، وإعطاء الدلالات والإشارات لبيان أسرار النظم والإعجاز، فاجتمع التأويل والتفسير فيهم لوجوب البيان في بعض الأحيان. ¬
وخلف من بعدهم خلف جعلوا وصف الكلمات ومعانيها غاية الخطاب في القرآن، وخلطوا التأويل بالتفسير، بل كان التأويل والمعنى والتفسير عندهم واحد، فقاسوا الناس على ما رأوه من مقاصد، وكأنها المعاني الظاهرة، وأقاموا بها الحجة على مخالفيهم، وأخذوا مما ذكر لهم من تأويل الصحابة ومن نقل عنهم - وإن كان بالإشارة- مسوغاً للقول في القرآن كل حسب رأيه، ومنهم الصادقون ومنهم الفاسقون، وقاس بعضهم القرآن بالرأي، وأدخلوا فيه علم الكلام ليثبتوا ما قالوا من مقاصد، فكان التأويل بينهم ما جاء في اللسان "المراد بالتأْويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأَصلي إِلى ما يَحتاج إِلى دليل لولاه ما تُرِك ظاهرُ اللفظ" (¬1)، فاقتصر التأويل عندهم على تفسير الكلام بمعانيه، لنقل ظاهر اللفظ عن وضعه من غير النظر لحقيقة الإشكال في الظاهر، وعدم الرجوع للدليل في حصول الإشكال كما طالبوا هم لرفعه. وبناءً على هذا التفصيل نعود لأصل الخلاف على كلمة التأويل بين المفسرين في تفسير قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، لنعلم الحق ونتبعه، فالقرآن ينزل في العهد المدني بسورة آل عمران، مخاطباً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن حاز علمهم فكان راسخاً فيه، فيقول هو الذي أنزل هذا الكتاب عليك، وهو من قال هذا الكلام وهو أعلم بما يقول، وقد علمنا أن ما نزل من الكتاب في حينه كان يشمل ما نزل في مكة لإقامة الحجة على المشركين، ويشمل ما نزل وينزل من أنباء السابقين وتشريع للمسلمين، ويشمل ما جاء من ذكر للغيب بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب ¬
بشر، وهذا يلزم أن يأتي فيه آيات محكمات المعنى والدلالة، وذلك إما لإقامة الحجة على المشركين أو لما فيه التشريع للمسلمين، كقوله تعالى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] وفيه ما يلزم مقاصد التشريع من أمر ونهي وبيان للثواب والعقاب والترغيب والترهيب، أو ما فيه العبرة بما حل بالسابقين كقوله تعالى {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) الحجر} وهي تمثل معظم القرآن بالقول هنَّ أم الكتاب، ومنه آيات متشابهات المعنى، لضرورة القياس والتشبيه بما رأت العين أو سمعت الأذن، كوصف الجنة والنار، ووصف بداية الخلق، ووصف أفعال الله جلّ في علاه، وهذا لإقامة الحجة على الناس بإفهامهم، وخير طريق للإفهام هو ضرب المثال كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] فتجد في تفسيرها وما جاء في معانيها كغيرها من الآيات المتشابهة ما افترق عليه كثير من المسلمين، وتميزت بها فرق المتكلمين على قول دون سواه، وكل هذا لمعرفة المعنى الحقيقي لها، ونسوا أنها تحمل المعاني، والغاية وما يلغون فيه هو المقاصد، وأنها جاءت من وصف الخالق لما غاب عن إدراك البشر وفاق مداركهم، وهذا ما تمت الإشارة إليه بقوله تعالى {وأخر متشابهات}، بأن الذين في قلوبهم زيغ (وهو الميل عن الحق لما سواه من أنواع الباطل - كالهوى والشك وإتباع الرجال -) يتتبعون المتشابه من القرآن للكلام فيه فقط، وقد عُلم السبب من فعلهم -وهو الزيغ- والغاية هي خلق الفتنة أو إثرائها أو إتباعها في الباطن، وبيان المعاني لا المقاصد بتأويل هذه الآيات في الظاهر استناداً على الأمر بتدبر القرآن، والدليل على زيفهم هو جعلهم هذه المعاني دليلاً على صدق المؤمنين، وقد
جاء الحديث مبيناً لها "عن عائشة قالت: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} إلى قوله: {وما يذَّكر إلا أولوا الألباب}، فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" (¬1)، ولذلك لم يسأل الصحابة عن المتشابه كما سأل عنها الناس بعدهم، والأهم من هذا أنهم لم يسألوا عن المحكم المفهوم لأنه نزل بلغتهم، فمقاصد الشرع واضحة فيه، وليس فيها التأويل على فهمنا بل فيها التأويل على فهمهم، فالمتشابه عندهم لا يدل على فعل هم مطالبون به إلا القصد منه، وهو الإيمان بالله، وهو القصد العام للرسالة، ومن ثم التبليغ، والمحكم يدل على فعل مباشر هم مطالبون به، وهو العمل وما دارت مقاصد الشرع عليه، ومن ثم التبليغ به. "فمن قال: إن التأويل بمعنى التفسير وقف على قوله: (والراسخون في العلم) أي أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ببيان معناه لغة وشرح ألفاظه، ومن قال: إن التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه الكلام وقف على قوله (إلا الله) بمعنى أنه لا يعرف حقيقة ما يؤول إليه المتشابه إلا الله تعالى." (¬2) والحق فيها الوقف على (إلا الله) ولكن البعض من أهل هذا الرأي أخذوا هذا الحق مسوغاً للقول بأن في القرآن ما لا يكون مفهوماً للخلق، أو أن في القرآن أسراراً في المعاني، كما أن البعض من أهل الرأي الأول سوّغوا وجود ما لا معنى له في القرآن، كما قالوا عن الحروف المقطّعة، وما قاله البعض من الطرفين هو الباطل، فلا يكون في كتاب الله ما لا معنى له، وحاشا لله أن يكون في كلامه شيء بلا معنى، فالمعاني ظاهرة في كل حرف من القرآن، والمقاصد تتنقل بين المقاصد الظاهرة والمقاصد التي يعلمها الراسخون في العلم، وتأويل القرآن جملة واحدة لا يعلمه إلا الله على الحقيقة، وفي هذا يقول الآمدي:"من قال بجواز ¬
التكليف بما لا يطاق جوز أن يكون في القرآن ما له معنى وإن لم يكن معلوماً للمخاطب ولا له بيان ولا كذلك فيما لا معنى له أصلاً لكونه هذياناً ومن لم يجوز التكليف بما لا يطاق منع من ذلك لكونه تكليفاً بما لا يطاق ولما فيه من إخراج القرآن عن كونه بياناً للناس ضرورة كونه غير مفهوم وهو خلاف قوله تعالى: {هذا بيان للناس آل عمران 138} " (¬1) ولا ننسى فمن المحكم ما لم يسأل عنه الصحابة في ظاهر آيات الأحكام، فآمنوا به وعملوا به ثم بلّغوه، ومنه ما غاب عن أذهان بعض الصحابة كالقصد من سورة الفتح، وعلمه ابن عباس وغيره، فآمنوا به وعملوا به ثم بلغوه جميعاً، وكذلك فعلوا في آيات المتشابه من تبليغها وقراءتها وكتابتها، وليس وصفها أو التعبير عنها بكلمات لكونها تحمل إشكالاً لا يزيله إلا كلمات البشر، وقد علموا أن جُلّ ما تحمله من معاني هي ما ذَكَرَتْه بالتشبيه لما يراه البشر، والقصد منها الإيمان بالله والدعوة للتبليغ، وهو ما ذهب إليه من سار على درب الصحابة ومن تبعهم، ولم يقولوا فيها قولاً غير ما جاء فيها، لأن معناها على الحقيقة الملموسة والمرئية والمسموعة لا يعلمه إلا الله، وقد جاء في الآية هنا بيان من الله بأن الجدال فيها لغرض التأويل باطل، لأن الله وحده يعلم ما تدل وتعنيه على الحقيقة. وما لوثة علم الكلام التي أصابت الكثير من المسلمين بعد عصر الصحابة والتابعين إلا تَفْسِيرًا عملياً لهذه الآية، فقد كان همهم إخراج كلام الله بما لا يناقض أصول علم الكلام، أو محاولة تفسير المتشابه بكلمات لها دلالات حقيقية، ووصفٌ للغيب بلسان البشر ومنطقهم، ولذلك يقول الراسخون في العلم ممن تبع الصحابة والتابعين وتنبه لهذا: آمنا بها كما جاءت من غير تأويل وتفسير مُحْدَث على تأويل وتفسير السلف لها، وقد أتى التأويل في الآية هنا بمعنى ما ¬
يدل عليه القرآن كله من دلالات وإشارات ومعاني للكلمات، وما فيها من مقاصد للشرع، وهو المستحيل علمه على بني البشر. وبناءً على هذا التفصيل نجد الفرق بين التفسير والتأويل ظاهراً، ولبيان الفرق نضع قاعدة لكي لا نحيد عن الصواب: أما التفسير فهو بيان المعاني وكشف المراد عن اللفظ المشكل لإيضاح مبانيه، والحجة فيه هم أهل اللغة العربية، وأهل البيان، وما هو مقرر عندهم من النحو والتصريف، (¬1) أما التأويل فهو ردّ أَحد المحتملين إلى ما يطابق التفسير، ثم التوسع في فهم المقاصد، بضوابط الأصول المقررة في علم الحديث والفقه وعلوم القرآن. (¬2) وبالنظر للحروف المقطّعة في فواتح السور، وكونها لم تأت لإعجاز البشر فيما شرع الله لهم، ولا هي من الرموز الدالة على خبر، ولا هي من إعجاز البشر على فهم الغيب وأسرار الكون وعلومه المدفونة، لم يتأوّلها الصحابة ممن عاصر العهد المكي والمدني بمفهوم التأويل عندنا بل بمفهومه عندهم، وهو العمل بما جاء فيها: بقراءتها وتبليغها وكتابتها كما هي، وكانوا بذلك (كتبة الوحي) وقد "كانوا إذا اقترأوا عشر آيات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينتقلوا إلى غيرها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل." (¬3) ولم يصلنا أنهم سألوا عن معناها أو تحدثوا فيها، وهذا إما ¬
لعلمهم بأنها من المحكم وجاءت لتقرأ وتكتب، وهي مفهومة عندهم، ووجه الإعجاز فيها من وجه الإعجاز في نظم القرآن كله، أو أنهم علموا أن بها أَسْرَارًا ولم يعرفوها ولم يسألوا عنها لأنها من المتشابه، وهذا بعيد كل البعد لأنها تكررت في تسع وعشرين موضعاً، وليست تشابه غيرها من الكلمات في المعاني، بل لم يكن الخطاب بمثلها في العرب قبل القرآن لنقول إنها من المتشابه أصلاً، وعليه فقول بعض المفسرين هي من المتشابه أو من متشابه المتشابه فيه نظر وهو قول بعيد (¬1)، فهي من المحكم بل من محكم المحكم، وإن كنا نجد فيمن تبع كتبة الوحي وصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن أسلم أو وُلد بعدهم وعاصروا الصحابة ولم تكن لهم يد في كتابة القرآن الأولى، من كانوا يتأولون الحروف ببيان ما فيها من مقاصد ودلالات، فهذا كله من التأويل المستحب بل هو من فقه الكتاب ومما هم مطالبون به لنشر العلم، لكونهم السبيل الوحيد أمام من تبعهم لبيان التأويل بعد التفسير كل حسب علمه، وما كان ذلك إلا للتوسع في بيان المقاصد، وهو ما سار عليه من تبعهم وأخذ العلم عنهم ولم يعاصر العهد المدني، فكانوا تابعين للصحابة بإحسان رضي الله عنهم ونقلوا عنهم كل ما سمعوه منهم. (¬2) وهذا كله ليس بدليل على تفسيرها بل هو التوسع في تأويلها لبيان المقاصد، وقد ظن البعض من الذين أتوا بعدهم أنها بلا معنى لمخالفتها المعروف من الكلام البشري، مما ألزم المتكلمين والكثير من أهل العلم على رد هذا القول، وإبطال حجة من قال بأن فواتح السور لا تأويل لها على الحقيقة، فقال المتكلمون: "لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق، واحتجوا ¬
عليه بآيات منها: قوله تبارك وتعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] بالتدَّبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم، فكيف يأمر بالتدبّر فيه" (¬1)، وقد أخذ المتكلمون هذه الحجج الصحيحة - وهي الحق الأبلج - مسوغاً للقول في تفسير الحروف بما طاب لهم ظلماً وعدواناً على القرآن، واحتجّوا على القرآن بجهلهم، ويا ليتهم تدبروا القرآن - وهي حجتهم - لبيان ما فيه لرد الشبهة عنه، أما نحن فنتبع ما سار عليه أهل العلم، ونقول بل كل حرف في كتاب الله لا بد أن يكون له معنى، ونزيد عليه بأنه لا بد لكل حرف في كتاب الله أن يكون فيه دلالة أو إشارة أو مقصد، بل ولا تختلف إحدى الإشارات أو الدلالات أو المقاصد مع بعضها، وهي على نسق واحد بلا اختلاف، كما هو الحال في هذه الفواتح، وتسويغهم للقول في التأويل برأيهم كان لجهلهم بأن كتاب الله لا بد وله تفسير نعلمه علم اليقين لما يقتضيه من بيان المعاني، أما تأويله فمنه تأويل يعلمه الناس ومنه تأويل لا يعلمه إلا الله، والله يعطي الحكمة من يشاء، فالتفسير حاصل مع ظاهر اللفظ لا محالة. لذلك السبب نجد التفاسير قد امتلأت أقوالاً عن فواتح السور، فمنهم من يقول فيها برأيه، ومنهم من يقول فيها ما قاله الصحابة فيما وصله من غير تحقق ولم يزد عليه إتباعاً للسلف الصالح، ومنهم من تأمل وتدبر وقال فيها ما رآه في كلام العرب من نحوهم وصرفهم وما ظهر فيها، وهو من الحق في تدبر القرآن لبيان مقاصده للناس، ومنهم من زاد وأنزله منزلة كلام الناس ¬
الباب الثالث: سبب الخلاف في تأويل الحروف ومسببات الخلاف
وأشعارهم وهذا هو الباطل بعينه، كما أن قياسه على علوم البشر باطل لا شك فيه، لأن الحروف لم تشتمل على تشريع أو نقل خبر أو إعلام بغيب، وبذلك علم المتكلمون فيها من غير علم أن بها إعجازاً لما في نظم القرآن كله من إعجاز ولم يجدوه، فكانوا من إحدى الفرقتين "إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه والمخاطب به." (¬1) الباب الثالث: سبب الخلاف في تأويل الحروف ومسببات الخلاف أما سبب الخلاف في تأويل الحروف فهو سبب أصيل، وتفترق مسبباته على ثلاث، أما السبب الأصيل: فهو التساهل في نقل المعاني الظاهرة لعبارة النص أو اللفظ عن وضعها الأصلي بدليل ظني الثبوت أو بدليل لا حجة فيه على المعاني وإن كانت فيه دلالة على سعة المقاصد في كتاب الله، وهذا ما يلزم التأويل لا التفسير، "ونحن لا ننكر إزالة للنص عن ظاهره وعمومه ببرهان من نص آخر أو إجماع متيقن أو ضرورة حس وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن ظاهره وعمومه بالدعوى فهذا هو الباطل الذي لا يحل في دين ولا يصح في إمكان العقل" (¬2)، كما لا نقبل بأن يقال في النصوص ما هو أدنى من ظاهرها، بالقول إنه لا معنى لها، فهذا من الزلل، وهو من أخطاء القائلين بمطلق الظاهر من غير فهم، وهو إنكار للقياس الصحيح المتفق عليه بين البشر لا المسلمين فقط، "وسبب هذا الخطأ حَصْرهم الدلالةَ في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه ¬
وإشارته وعُرْفِه عند المخاطبين." (¬1) وكلا الطرفين من تساهل في نقل الظاهر ومن قال بمطلق الظاهر قد أنكروا الظاهر ونفوه، "فأين لهم العلم من أن الله تعالى لم يرد ظاهره؟ هل عندهم علم من أن الله لم يرد ظاهر ما أضافه لنفسه؟! والله تعالى يقول عن القرآن: إنه نزل بلسان عربي مبين، فعلينا أن نأخذ بدلالة هذا اللفظ حسب مقتضى هذا اللسان العربي المبين، فمن أين لنا أن يكون الله تعالى لم يرد ظاهر اللفظ؟! فالقول بنفي ظاهر النص قول على الله بغير علم." (¬2) ومن إدعى بأن في ظاهر الحروف إشكالاً وبه وجب القول بنقل المعنى الظاهر فيها عن وضعه سواء بدليل أو من غير دليل للحاجة فنقول له: "فأي معنى فاسد يلزم من ظاهر النص حتى يقال: إنه غير مراد؟! " (¬3) وهل يقاس القرآن على جهل الناس بمقاصده؟! فالمعاني فيها ما دلت ألفاظها عليها، وهي من حروف الهجاء ومن حروف الكتابة العربية المعروفة عند العرب، قالها رب العزة تكريماً لها فرفع شأنها لموافقتها المكتوب والملفوظ من كلامه، كما رفع شأن اللغة العربية لموافقة ألفاظها تنزيل كلامه، وقد كانت هذه الحروف محصورة على استعمال النذر اليسير من العرب في زمن التنزيل، كما كانت لغة العرب محصورة على عرب الجزيرة، وهذا هو الأصل فيها، أما المقاصد منها فلا تظهر إلا بالتدبر في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة ومن تبعهم بإحسان من العلماء، وإن ثبت فيها ما هو دليل قطعي على المعاني؛ فيتعين علينا إثباتُ ما فيه كدليل قطعي دون ما ثبت من الظاهر، وإن لم يثبت في الكتاب والسنة وأقوال السلف وأهل العربية مما فيه الحجة على المعاني؛ أثبتنا ما دل عليه الظاهر ولا نجتهد في بيان معانيه، فالاجتهاد فيه غير معتبر، بل الاجتهاد فيه خطأ لمصادمته ظاهر النص، والاجتهاد في بيان المقاصد لا يكون ¬
مع التكلف بتحميل القرآن ما لا يحتمل، وكأن فهم الحروف أمر مستحيل كفهم الرموز الغريبة، فالله جلّت قدرته لم يجعل ظاهر اللفظ في كلامه شيئاً مستحيلاً على فهم الناس ثم يأمرهم بالتدبر فيه، ويميز بعضهم عن بعض كل حسب قدرته على التأويل. ولا نقول هذا لنريح أنفسنا من عناء البحث، بل نبذل أقصى الجهد ولا نكتفي بمجرد التقليد وترديد القول (الله أعلم بمرادها) فنحن نعلم بأن الله أعلم، وقد شقينا إن لم نعلم بأن الله أعلم - كما قال عمر بن الخطاب (¬1) - فنحن في أمسّ الحاجة للمعرفة وقد كثرت شبهات وأقاويل أعداء الدين في هذه الحروف، ورحم الله ابن تيمية عندما قال: "إن الطالب الذكي يَضيق صدرُه بأسْرِ التقليد، ويُحِبُّ أن يخرج إلى بُحْبُوحة العلم، فلا تقنَع نفسُه ويَرضَى عقلُه إلّا بالوقوفِ على التأويل، وهو بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرفَ التأويل اطمأنّ قلبُه وانشرحَ صدرُه ورَضِيَ عقلُه." (¬2) هذا هو السبب الأصيل للخلاف عليها، أما مسبباته فمنها ظاهر معلوم ومنها غير ظاهر ولم يتطرق إليه كثير من المفسرين وهي: المسبب الأول: كثرة الروايات الضعيفة والموضوعة في تأويل الحروف وهو من الأسباب الرئيسة، فقد تساهل الكثير من المفسرين بنقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأَصلي لمجرد دليل ظني ¬
الثبوت، سواء كان حديثاً موضوعاً أو ضعيف السند أو ضعيف المتن، أو حديثاً صحيح السند مع علة فيه ومضطرب المتن، وكثرة الروايات فيها كانت بسبب تأخر تدوين علم التفسير للنصف الثاني من القرن الثالث الهجري، هذا وإن كان التأخير مُبرَّراً بل هو الحق الأبلج، وسببه ظاهر بتاريخ ما وصلنا من كتب عنيت بالتفسير، وما جاءنا من أحاديث تدل عليه، وما نقله العلماء المحققون مثل الخطيب البغدادي عندما أورد قول الإمام أحمد: "ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير." (¬1) وبيّن أن هذا القول كان لانعدام الكتب الأصيلة المختصة بالتفسير والسير والملاحم في زمان الإمام أحمد (توفي 241هـ) ولم يكن من التفاسير إلا لمن لا يوثق به كالكلبي ومقاتل- وكلاهما كذاب - فكان لهذا التأخير أسباب كما كانت له نتائج أما الأسباب فمنها: الأول: أنّ التفسير والمغازي والسير "الغالب عليها المراسيل" (¬2)، وهي من كلام الصحابة، وقد تأخر تدوينها عن تدوين أحاديث الأحكام من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة لأن تدوين تلك الأحاديث كان أولى، كما أن تدوين القرآن كان أولى في القرن الأول، فبدأ التدوين لآثار التفسير والسير في النصف الثاني من القرن الثالث، وقيض الله لهذه العلوم من قام بها حق القيام من أمثال ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر (¬3)، فجاءت تفاسيرهم غنية بالأسانيد، كما هو الحال في كتب الحديث عامة، ولكنها لم تلق العناية كما في كتب الحديث، لاشتغال علماء ¬
الحديث بكتب الحديث وآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكون التفاسير أغلبها من كلام الصحابة، والمعلوم أن الغالب عليها كان التساهل في النقل لا التشديد. الثاني: إنّ مرويات التفسير والسير والملاحم الأساسية قد شملها علم الحديث، ولم تفرد في كتب خاصة، مما جعل فكرة الجمع في كتب مختصة مسألة أسهل عند طلبها، فلم تكن بذات الأهمية لجمع أحاديث الأحكام، لكونها جزءاً منها. هذا مع اعتقاد المسلمين السليم بأن بيان القرآن مما تعهد الله به، وليس موقوفاً على احتمال صدق أحدهم أو حفظه من البشر، ومرويات التفسير "الذي يمكن معرفة الصحيح منه، فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد، فكثيرًا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مستنده النقل، وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل، فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره." (¬1) الثالث: إنّ مرويات الصحابة في التفسير قد امتازت بتعدد الروايات واختلاف الكلمات والإضافات ونقل الكلام بحسب فهم السامع وليس بضابط المتن كما في الأحاديث، لكون الصحابة لم يفسروا من كتاب ولم يسمحوا بالكتابة عنهم في أغلب الأحيان (¬2)، وقد يقولون ¬
شيئاً في مجلس ويقولون غيره مما لا يناقضه في مجلس آخر بحسب السؤال، فينقل عنهم هذا وذاك، بفهم من نقل هذا ومن نقل ذاك، والرابط بينهما فهم الصحابي وليس فهم الناقل ومن كتب عنهم، ولا سبيل للوصول لهذا الرابط إلا بجهد أكبر، مما صعّب المهمة على علماء الحديث عند البدء بجمع مرويّ التفاسير. الرابع: إنّ نصوص الأحكام يراعى فيها تصحيح وتضعيف المتن كما يراعى فيها تصحيح وتضعيف السند، ومن أراد الحكم على متن فعليه العلم بأصوله من استقراء ودقيق اختصاص، كما هو الحال في أصول التفسير، ومن لم يحكم على مرويات التفاسير بضابط المتن في علم الحديث، اكتفى بتدوين الكلام مع اختلافه؛ لذلك أتى في آثار الصحابة المنقولة ما كان فيه اضطراب واختلاف كبير في المتن. أما ما تسبب به تأخر التدوين وما نتج عنه من زيادة في المرويات الضعيفة فهو ظاهر في العديد من الأمور: الأول: وهو الأهم أن رواية المحدِّثين كانت تعتمد على السماع أكثر من الكتابة، بينما أصبحت رواية المفسرين تعتمد على الكتب أكثر من كلام المحدثين لطول العهد، وعلم الجرح والتعديل تكفل بمعرفة أحوال المحدثين لا أحوال الكاتبين، وإن كان المحققون قد ذكروا بعض المشهورين من الكتبة وبيّنوا أحوالهم، لما اشتُهر عنهم من أحوال دعت لبيان حالهم، ولكن لا سبيل لحصر الأوراق وما كُتب في مجالس التفسير، إذ أكثر روادها من عوام المسلمين. كما أن الكتب يقع عليها التحريف والتصحيف، ولا مجال لمعرفة الصحيح منها في كثير من الأحيان، لعدم القدرة على معرفة خطوط الكاتبين وإضافاتهم، أما خطوط المحدثين فقد كانت محفوظة في
المكتبات، أو يوجد من هو خبير بها ويستطيع تمييزها عن غيرها من الحواشي (¬1)، لذلك لم يكن من سبيل لمعرفة الكثير مما روي بخطوط الناس، وقد قال الإمام أحمد: "ومَنْ يَعْرَى من الخطأ والتصحيف؟ " (¬2) وهذا عند المحدثين، فكيف بمن كتب ولم يكن محدثا، وكيف بمن كتب عمن كتب، ناهيك عما يلحق الصحف من تخريب وتبديل، لطول العهد وتأخر التحقيق فيها، ومثالاً عليها ما يرويه عبد الله بن صالح كاتب الليث عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي طلحة هو صاحب صحيفة الوالبي المذكورة في كتب أهل الحديث والتفسير، والتي حدّث عنها ¬
الطبري وغيره من المفسرين رغم ما قيل فيها، وقد شكك فيها البعض واحتج بها البعض، والصواب أنّه لا يحتج بها وإن كان فيها خيرٌ. (¬1) الثاني: أنّ حب الناس لسماع ما هو غريب، وطلبهم للمزيد في تأويل القرآن، كان من أهم الأسباب لكثرة المرويات الموضوعة مع قلة الصحيح المدون، وهذا واضح في كتب المحققين عند ذكرهم أسباب الكذب في الحديث بشكل عام وفي التفسير بشكل خاص، مما أدى لظهور بعض المفسرين المحِبّين للشهرة، المتخذين للكذب والادعاء بمعرفة التفسير طريقاً لهم، فكذبوا بالرواية عن الصحابة، ومثالاً عليها ما أورده الخطيب البغدادي "أنّ مقاتل بن سليمان، جاءه إنسان فقال له: إن إنساناً سألني ما لون كلب أصحاب الكهف فلم أدر ما أقول له قال: فقال له مقاتل: ألا قلت هو أبقع فلو قلت لم تجد أحداً يرد عليك"، وأورد بعدها قول نعيم بن حماد "أول ما ظهر من مقاتل الكذب هذا" (¬2)، وكذلك ما كان من أمر محمد بن السائب الكلبي، فلا تصح روايته، بل "ما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتب." (¬3) وقد تأثر بعض المفسرين بكلام هذا الكذاب وغيره، مع علمهم بحال القوم، ولكنهم وجدوا في بعض كلامهم ما هو خير ولم يتنبهوا لما وراءه. الثالث: ظهور بعض المفسرين من الذين تصدوا لتفسير القرآن كاملاً، وهم ثقات، ولكنهم سمعوا تفسير بعض الآيات من التابعين وما نقلوه عن الصحابة، وسمعوا ما روي من ¬
الإسرائيليات، وسمعوا ما قيل من هنا وهناك، فجمعوا ما طاب وما خاب من الأقوال، وفسروا القرآن كاملاً وخلطوا الحابل بالنابل، وروى عنهم خلق كثير منهم الصادقون ومنهم الكاذبون، وكُتب عنهم ما لا سبيل لمعرفة أصله، فكانوا موطن شك عند علماء الحديث لما روي عنهم في التفسير، لا بما حدثوا به الثقات، فأمسك البعض عن مجمل الرواية عنهم، وروى البعض عنهم على خلاف ظاهر، ومن هؤلاء إسماعيل السدي (127هـ) (¬1)، فأبلغ ما تصل إليه مروياته وقوفها عليه، فإن كان فيها خيراً أخذنا به، وإن كان فيها باطلاً رددناه، وخير ميزان للرجال ما ¬
زال قائماً بيننا وهو كتاب الله وسنة نبيه، فما وافقه أخذنا به وما شذ عنه رميناه، وإن كنا لا نردّ ما جاء عن أهل الكتاب لذات الغاية، فما روي عن السدي أولى، وإن كان كلامه لا حجة فيه البتة. الرابع: إنّ فترة ما قبل التدوين كانت مرتعاً خصباً لأعداء الدين من اليهود والمجوس والطامعين لهدم هذا الدين العظيم، وكان نشر المرويات في تفسير القرآن من إسرائيليات وموضوعات لتحريف معاني القرآن من أدق أساليبهم، بعدما تيقنوا عدم قدرتهم على تحريف القرآن نفسه، وهذه المرويات ظاهرة في التفاسير، إلا من رحم ربي، ولم يتنبه إليها الكثير، بل نقل الكثير منهم بعض هذه المرويات وإن كانت من مُحدّث مشكوك في أمره، خوفاً من ضياع المعلومة، واكتفوا بوجود سند لهذه المرويات، فكانت سبباً لنقل ظاهر النص في القرآن عند الكثير من المفسرين، لأنها الدليل الوحيد الوارد في بعض الآيات، واعتبروها مما يستأنس به، وحاشا لله أن يستأنس بغير كلامه لبيان معانيه وهو الحق الأبلج. ومثالا عليه ما جاء في الإسرائيليات عن تفسير الحروف وأنها حُروف من حساب الجُمّل وهي مرويات مكذوبة. (¬1) الخامس: إنّ فترة ما قبل التدوين كانت ساحة سياسية وفكرية للكثير من الطوائف المارقة والفرق الضالة بما أصابها من لوثات فلاسفة اليونان، وهو العجب العجاب، بأن أثّرت حضارة ميتة على أعظم الحضارات، وأثّرت كتب كانت ميتة فأحياها الناس على فهم أعظم الكتب على وجه الأرض، فحاول الكثير منهم نشر الشبهات للانتصار لقوله، بل وكَذَب بعضهم على كبار المفسرين، وأرادوا الانتصار لمفهوم تقييد القرآن، وهو السبب الأكبر للبعد عن فهم القرآن، وكانت فكرتهم عن التقييد من أثر القول بأن إعجاز القرآن كان إعجازاً للمشركين وليس ¬
إعجازاً لمن بعدهم، فساووا بين القرآن وغيره من الكتب، واعتبروا ما فيه من باب السرد، فانتصروا لأي رواية في التفسير تقوّي مذهبهم، ولو كانت ضعيفة أو موضوعة، ومن هذا ما روي عن بعض العلماء في تفسير الحروف المقطّعة بأنها أسماء للسور، وتبعه الكثير من أهل الكلام انتصاراً لقولهم بأن ليس في القرآن ما لا معنى له، وللرد على من قال بأن القرآن ليس عربياً خالصاً (¬1)، وهي أقوال ساقطة رد عليها كثير من العلماء، فالغاية سليمة والطريق سقيمة. السادس: إنّ فترة ما قبل التدوين وخاصة فترة التابعين امتازت بظهور عدد من المفسرين الثقات الأئمة، من الذين أخذوا العلم عن الصحابة أو كبار التابعين وسمعوا التفسير منهم، وحدثوا عنهم ما سمعوه من أحاديث، فظن الناس أنهم أخذوا التفسير كله عن الصحابة، وليس الأمر كما ظنوا، فهم يفسرون مجمل القرآن برأيهم وما رجح عندهم من إسرائيليات وأخبار، والبعض مما يفسرون به سمعوه من الصحابة، فكان هذا سبباً لرفع أسانيدهم عند بعض المخبرين الكذبة بغية الشهرة، أو سبباً للاختلاف عند من وهم من المحدثين بأنها من كلام الصحابة أو التابعين، فتجدهم يروون عن هذا مرة وعن ذاك مرة، من ذلك ما جاء من قول ابن عباس في (يس) أي ¬
يا إنسان بالحبشية، (¬1) و (طه) يا رجل بالنبطية، (¬2) أو بالسريانية، (¬3) فهذه آثار موضوعة وهالكة، وابن عباس بريء منها، وإن كانت من أقوال قتادة وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك، وهو قول مرجوح، والوجه الصحيح من هذا الرأي بعيد عن التفسير، وسآتي على تفصيله لاحقاً، ومن هؤلاء أيضاً من لم يسمع من ابن عباس أصلاً، وذاع صيته فنسبت أقواله لابن عباس. وعليه فالقاعدة هنا، حدّث المفسرون عن القرون الفضلى ولا حرج عليهم، فالحجة ليست فيما نقلوه لأن المفسرين "قد احتجوا في التفسير بقوم لم يحتجوا بهم في مسند الأحاديث المتعلقة بالأحكام وذلك لسوء حفظهم الحديث وشغلهم بالتفسير" (¬4)، والحجة في صريح القرآن وما صح من السنة فيما نقلوه، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتأويل لا يصح إلا ضمن الضوابط المنصوص عليها في أصول التفسير، وأهمها ألّا يضرب التأويل كلام الله بعضه ببعض، أو بكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يوافق ما بيّنه لنا أهل العربية من أصول، وألّا يخالف ما هو حقيقة دل عليها العقل بما لا يترك مجالاً للشك لقوله تعالى (أفلا تعقلون)، وألّا نحمل كلمات الله على شيء مظنون سواء في كتب المفسرين أو في أي علم من العلوم. المسبب الثاني: وهو اقتصار علم أسباب النزول على الآثار والتساهل فيها، وما أورثه حصر هذا العلم في كتب عنيت بذكر أسباب النزول من بُعْدٍ عن تدبر القرآن، وقد اعتبرها بعض العلماء أقرب الطرق لفهم الآيات حتى قالوا فيها: "هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في ¬
هذا العلم بالنار." (¬1) وهذا الكلام فيه ما هو حق لكون واقع التنزيل ركن أساسي في فهم التنزيل، وفيه ما هو وهم وباطل، وهو ذات الوهم الذي دفع بعض العلماء لعدم تفسير بعض الآيات إلا بعد الرجوع لسبب التنزيل فيما ورد من آثار، مخافة أن يكون تفسيره مخالفاً لواقع التنزيل، وأنا على يقين بأن هذا هو الحق في نظر الكثيرين، ولا أقصد بكلامي من شذّ في تفسير بعض الآيات بأن جعلها لذات الموقف المذكور في أسباب التنزيل، والذي حدا بأهل العلم من الأصوليين بوضع قاعدة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) فهذا الكلام مفروغ منه، وليس من سبب يدعونا للخوض فيه، "فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا، فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين" (¬2)، أما كلامي فهو عن الوهم الذي بدأ بالقول إنه لا يحل القول في أسباب النزول إلا بالرواية والسماع، وانتهى بالقول في امتناع معرفة التفسير إلا بالوقوف على ما أوردوه من أسباب للتنزيل، وفي حال انعدام وجود الأثر الصحيح يؤخذ بالضعيف بكل تهاون، وهذا الفعل وهم وباطل لعدة أسباب: الأول: إنّ الفهم بأن أسباب التنزيل انحصرت فيما جاء في الآثار وأقوال الصحابة ينفي ذكر السبب وإن كان ظَاهِرًا في القرآن، وعليه يجب رد السبب إن جاء بخلاف ما ذكره القرآن ولو ضمنياً بأنه السبب، وذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن أولى بالإجماع. ¬
الثاني: هو ذات السبب الذي نص على الأخذ بما ورد في القرآن أولاً والسنة ثانياً، وهو ذات السبب الذي ردّ فيه علماء الحديث متن الحديث وإن صح سنده لأسباب منها: إن خالف صريح ما دل عليه القرآن. الثالث: إن تعذر فهم الكلام بشكل عام إلا ببيان السبب فسيكون السبب قرينة للكلام، وليس من الحكمة تركه إلا ببيانه ولو ضمنيّاً، لكونه نقص في دلالات الكلام، وحاشا لله أن يكون كلامه فيه نقص، فلو امتنعت معرفة التفسير للسور أو الآيات إلا بذكر السبب، فسيكون مذكوراً في سياق النظم لا محالة. وعليه "إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، يعني السنة" (¬1) الرابع: إنّ أسباب التنزيل اسم لعلم من علوم التفسير، وجاء اسمه اختصاراً لبيان واقع الحال عند التنزيل بآثار الصحابة، ولا يجب تأكيد السبب في نزول القرآن إن كان أثراً - ولو صح سنده - باعتباره سبباً لكلام الله، ونستقي بذلك منه الحكمة المطلقة لكلام الله، بل يجب النظر إليه على حقيقته كبيان لواقع الحال، كما اعتبرها أهل الحديث شهادة من الصحابي وليس نقلاً للكلام، وذلك لفهم القرآن كما فهمه الصحابة في واقعهم، ولدرء صرف الانتباه عن السبب الحقيقي المذكور في القرآن ولو كان ضمنياً. وهذا ما كان عليه الصحابة أنفسهم "فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمة أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن." (¬2) الخامس: إنّ أسباب النزول تابعة لتنزيل القرآن، وهو كما قال أهل العلم "على قسمين: قسم نزل ابتداءً، وقسم نزل عقب واقعة أو سؤال." (¬3) ومعلوم أن معرفة الواقعة والسؤال هو ما اصطلح عليه بأسباب التنزيل، وهو كما "قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب." (¬4) وفيه فوائد جمة ذكر منها السيوطي: "معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم. وإن اللفظ قد يكون عاماً ويقوم الدليل على تخصيصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع وجاء الإجماع على هذه الفائدة، والوقوف على المعنى وإزالة الإشكال" (¬5). وهذا مما لا ينكره أحد، بل هو مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة وعلماء الأصول، ولكن ما ننكره هو ¬
تقييد آيات الرحمن، وخاصة فيما نزل من القرآن ابتداءً، بسبب يورث تخصيص الكلام وإخراجه من عموم البيان (وما هو إلا ذكر للعالمين)، فما جاء في كتب أسباب النزول هو من السنة الواجب إتباعها في شؤون الدين كلها إن صحّت، ولكن هذه الكتب لم تأت بزيادة إلا بتقييد كلام الله بأسباب ظاهرة مجموعة في كتاب طلباً لابتداع علم جليل جديد، من غير إشباع للعلم نفسه، ولم تكن الأسباب المذكورة فيها إلا وصفاً للحال الذي نزلت فيه بعض آيات القرآن، ومنها ما هو شهادة حق ومنها ما هو وصف لواقعة معينة ليس فيها تأويل للآيات والسور، ومنها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف وموضوع، فكان جمعها على هذه الطريقة سبباً لفهم القرآن وكأنه كلام مبهم، لا سبباً في تنزيله والتوسع في بيان مقاصده. ولبيان هذا السبب أورد بعض الأمثلة على احتجاج من قال بأن أسباب التنزيل من الآثار قد تكون الطريق الوحيدة لفهم الآيات، ومنها قولهم بأنه "قد أشكل على مروان بن الحكم معنى قوله تعالى "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا" الآية وقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون، حتى بين له ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه. أخرجه الشيخان." (¬1) فأقول: لماذا أشكل عليه فهمها ولم يشكل على غيره؟ والسبب هو الأخذ بعموم اللفظ في سياقٍ واضح كالشمس، وقد أخذ بداية الآية وكأنه خطاب منفصل عما قبله، وما كان كلام ابن عباس رضي الله عنه إلّا بياناً لما جاء في الآية التي قبلها، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ¬
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) آل عمران} فالسبب فيها واضح، وهو أن من أهل الكتاب (وكلمة من جاءت ضمنياَ من الآية التي قبلها أيضاً) أخلّوا بميثاق الله وما فيه من إلزام بعدم كتمان ما أنزل وعدم التقصير في بيانه للناس، ففعلوا العكس لغاية دنيوية وكأنهم اعتبروه ثمناً لسلعة، وهنا تشبيه بليغ لا يقوله إلا الخالق، وهو تنزيه كلامه عن كونه سلعة، ولم يقل باعوه وهو المتبادر للذهن، بل جعله الثمن وقال اشتروا به متاع الدنيا وجعل متاع الدنيا هو السلعة، وساءت السلعة إن قورنت بثمنها، فهو الخسران الحقيقي، وهم بفعلهم هذا أخذوا ما في الدنيا ونسوا ما عند الله من ثواب وعقاب، وقد حق عليهم العذاب لا محالة. وقد جاء النظم متسلسلاً بقوله تعالى لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي ما فعلوا من إخلال بالمواثيق، بكتمان الحق أو ببيانه على غير الوجه الصحيح، وكأنه شيء عظيم يدعوهم للفرح، وفوق هذا يحبون أن يكونوا من المحمودين بين الناس ومن المعظمين عندهم، فكانت العاقبة بأن لهم عذاباً أليماً ليسوا بناجين منه. وهذا المعنى مأخوذ من السياق، ولا يخفى على أحد، ولن يخفى على ابن عباس وهو ترجمان القرآن، ولن يخفى كذلك على مروان بن الحكم أيضاً! فهذا النص فيه خلل لا محاله، ولكون الخلل لا يكون إلا في السند أو المتن، فالسند في الصحيحين كما ذكر، والمتن كلام ابن عباس ترجمان القرآن، والسؤال فيه من مروان بن الحكم وهو الأمير الفقيه المحدث! ومن عاد لأصل الحديث وجد الخلل (وأعني بالخلل فيما ذكره المحتج وليس في أصل الحديث) بنص الحديث: "أن مروان قال: اذهب يا رافع - لبوابهِ- إلى ابن عباس، فقل لئن كان كل امرئ منَّا فَرح بما أتَى وأحب أن يحمد بما لم يفعل -معَذَّبًا، لنُعَذبن أجمعون؟ فقال ابن عباس: وما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} وتلا ابن عباس: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكتموه وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه." (¬1) فالخلل واضح بيّن، أما في المتن فهو عدم ذكر استغراب ابن عباس بقوله وما لكم وهذه؟ إنما نزلت في أهل الكتاب. وأن ابن عباس تلا الآية التي قبلها، ومن ثم تلا الآية المعنية، ومن ثم قال فيها بَيَانًا. وأما في السند، فهو زيادة (أشكل على مروان) من غير ذكر سبب الإشكال، وهذا الحديث جاء فيه بأن مروان قال: (اذهب يا رافع -لبوابهِ- إلى ابن عباس) وهذا بيان بأن السؤال لم يكن من مروان طلباً للعلم، فهو سؤال من فقيه حاكم لفقيه عالم، ولو كان لطلب العلم لذهب بنفسه، لأن الحادثة وقعت وهو أمير وله بوّاب، فإن لم يكن السؤال لطلب العلم، فماذا سيكون إلا لغاية في نفس مروان، ويبين هذه الغاية ما رواه الطحاوي في مشكل الآثار بسند صحيح كالشمس عن رافع بن خديج أن مروان سأله عن تأويل الآية وهو أمير على المدينة، ¬
فقال إنها نزلت في المنافقين، وقال رافع كأن مروان أنكر هذا القول، وشهد زيد بن ثابت على صدق ما يقول، وقولهما وافق ما رواه الشيخان أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - " أنّ رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية" وحديث ابن عباس كان رواية لمن سمع بالقصة من أحد الحضور عند ابن عباس، فقال بأن مروان أرسل بوابهُ لابن عباس ليتبين منه حال الإشكال الحاصل من قول رافع بن خديج، لأن قوله يخالف الظاهر من السياق، فجاء جواب ابن عباس من دون علمه بما دار في مجلس مروان، وجاء جوابه بأجود ما يكون، وقد يظن القارئ أن كلام ابن عباس كان فيه بيان لسبب النزول الصحيح، وإنكار لغيره وليس كذلك، بل بيان السبب كان بذكر الآية التي قبلها، واستغرابه من تأويلها على عموم اللفظ لكل من فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل، أما قوله سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتموه هو التفسير بضرب المثل على إصرارهم كتمان العلم حتى أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يعلمون بأنه رسول الله وفعلهم هو الطغيان بعينه، وفي كلامه رضي الله عنه تفسير التأكيد من قوله تعالى {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. والدليل الدامغ على أنّه ضرب للمثل وأنه لم يقصد سبب النزول الصحيح، قول أبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت ورافع بن خديج، ليس هذا فحسب، بل هنا ما هو أبلغ، وهو بيان واقع التنزيل فيما نقلوه كلهم لبيان الواقع، وما فيه من فعل لأهل الكتاب وللمنافقين في وقت التنزيل لهذه الآيات، وكلامهم -رضي الله عنهم- يُظهر الحق في وجوب الأخذ بالتوسع في بيان المقاصد، وأن أهل الكتاب هم سلف المنافقين وحالهم واحد فيما يفعلون، والعذاب لا يحق إلا عليهم، وإن كان فيها النهي عن النفاق العملي أيّاً كان، فهو من التوسع في بيان المقاصد، فمن كره فعل
أهل الكتاب وما طابق حالهم فيه حال المنافقين كان على صواب، قال ابن رجب الحنبلي: "ومِنْ أعظم خِصال النفاق العملي: أنْ يعملَ الإنسان عملاً، ويُظهرَ أنَّه قصد به الخيرَ، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيِّئٍ، فيتمّ له ذلك، ويتوصَّل بهذه الخديعةِ إلى غرضه، ويفرح بمكره وخِداعه وحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيِّئِ الذي أبطنه، وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود" (¬1)، ففعلهم وخلقهم مكروه وإن لم يكن في الإيمان، ومن ذلك ما روي أنه "كان شاب يمشي مع الأحنف بن قيس فمر بمنزله فعرض عليه الشاب فقال: يا ابن أخي لعلك من العارضين قال: يا أبا بحر وما العارضون؟ قال: «الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، يا ابن أخي إذا عرض لك الحق فاقصد واله عما سوى ذلك» " (¬2). وهذا من التوسع في التأويل لا التفسير، فلا حجة بقول الصحابة "نزلت في كذا"، وقد جاءت منهم -رضي الله عنهم- إما لبيان واقع التنزيل لكلام الله لنفهمه بذات الطريقة التي فهموه بها، أو كانت لضرب المثال كما سبق، ومعلوم أن قول الصحابي في بيان الواقع شهادة لا رواية، ولذلك رفع شأنها بعض علماء الحديث عما هو مسند إليهم من روايات موقوفة، ولو كان غير ذلك فكيف بجمع أسباب التنزيل مع بعضها إن اختلف السبب في نفس الآية، وهو كما قال ابن تيمية: "فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال." (¬3) ومن الآيات التي احتجوا بها أيضاً قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا .. الآية 93 المائدة} وقول من احتج بها على أن الخمر مباحة وأنهم لو علموا سبب ¬
النزول لما قالوا ذلك، وهو أن أناساً قالوا لما حرمت الخمر كيف بمن قتلوا في سبيل الله وماتوا وكانوا يشربون الخمر وهي رجس فنزلت الآية، وأقول لو قرأوا القرآن لما احتجوا بها، وبيان القول فيها جاء كحادثة فردية، والاحتجاج بها كالاحتجاج بقوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا .. الآية 29 البقرة} والخمر ولحم الخنزير ومحارم الإنسان مما خلق الله. وهذا كله في الآيات فقط، فكيف بسورة كاملة؟ فيقول البعض إن سبب نزولها كذا، ويورد أسباب نزول آيات منها أو آية واحدة منها، هذا إن كان سبب النزول قد جاء لإيضاح واقعة بعينها ويحتمل الصحة والضعف، فكيف بسورة قد ذُكر السبب فيها؟ ماذا ستكون فائدة ذكر سبب النزول بأثر ليس له علاقة إلا صرف النظر عن السبب الحقيقي لفهم النص كما نزل وهو الغاية من تدبر القرآن. وأبلغ حجة للقائلين بأن أسباب التنزيل من الآثار قد تكون الطريق الوحيدة لفهم الآيات هو ذكر حادثة الإفك، وما نزل في عائشة رضي الله عنها، وهي حجة عليهم، بل وأبلغ الحجج على رد هذا الفهم عليهم، فقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] نزل في واقعة الإفك وبرّأ الله عائشة مما رماها به المنافق ابن سلول، ومن تبعه من الصحابة رضوان الله عليهم، والإفك هو "الكَذِب ورَجُل أفَّاك أي كَذَّاب" (¬1)، وعائشة رضي الله عنها بريئة بمجمل القرآن لا بخصوص هذه الآية، كيف لا وهي أمٌّ للمؤمنين بنص القرآن {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي ¬
الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] وقد جاءت مع أمهات المؤمنين في الخطاب الإلهي ابتداءً تكريماً لهنّ {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الآية 59 الأحزاب} هذه البراءة والطهارة الأولى أما الثانية ففي قوله تعالى بعد آية الإفك في سورة النور {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)} ويكفيها طيباً أن تكون زوجاً لأطيب البشر لتكون خير المحصنات المبرّءات، ثالثاً إن المتتبع لآيات القرآن وقصص الأنبياء يعلم أن في القرآن قاعدة لبيان طهارة أهل الأنبياء جميعاً، أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم، وهذا معلوم بالاستقراء، فالتكرار في (إلا امرأته) و (إلا عجوزاً في الغابرين) في قصة لوط عليه السلام واستثنائها وزوجة نوح من بين أزواج الأنبياء بقوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شيئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] ما كان إلا لبيان القاعدة الأصيلة في أن أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم من المصطفين الأخيار، وهم خير الأهل لخير البشر، لكونهم عاشوا في بيوت نزل فيها الوحي، إلا اثنتين شذتا عن القاعدة كما شذت امرأة فرعون عن قاعدة أهل الفجور والطغيان، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] فأزواج الأنبياء وأمهاتهم وبناتهم طاهرات، وخير الأنبياء وخير البيوت بيت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأزواجه خير الزوجات، كما أن خير الأمهات مريم عليها السلام وخير البنات فاطمة، وعليه فلن يرضى مسلم أو صاحب مروءة بأن يتكلم أحد في عرضه، فكيف بأمهاتنا؟ وكيف بخير الأمهات وأشرف النساء المحصنات؟ هذا هو الإفك "وأفكته عن الأمر: صرفته عنه بالكذب
والباطل." (¬1) والقصد من الكذب المذكور هو صرف الناس عن أمر الدين، وهو هنا بالطعن في عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعرض صاحبه أبي بكر الصديق بحسب الآثار، والآية نزلت في هذه الواقعة فدلت عليها وكان النص أعم، فكان ما قيل في عائشة مثله كمثل الكذب الصارف عن طريق الله، ولو قرأ الآية أحد من المسلمين من غير علم بحادثة الإفك لفهم المقصود من الآية، فالله يقول {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي أن الذين يكذبون في الأمور العظيمة من أمور الدين لتكون سبباً لصرف المسلمين عن دينهم وصرف للناس عن دين الإسلام هم في ظاهر الأمر من المسلمين، فمنهم منافق في الباطن ومنهم فاسق في الظاهر، ومنهم من جره القول كحال أهل الجاهلية، فهم عصبة، وما جمع بينهم غير العصبية للرأي أو للهوى، ولم يجمع بينهم عقيدة مناقضة لدين الإسلام فيكونوا من غير المسلمين على الإطلاق لذلك {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فهذا الكذب الذي يقولون في ظاهره الشر للمسلمين، كونه ينشر الفرقة ويبعد الناس عن دين الله، ولكنه في حقيقة الأمر خير لكم لأن فيه طهارة للمسلمين، وتنقية وتفريق بين الإيمان والنفاق، بل قد يكون السبب في دفع البعض من الصادقين لتمييز الحق من الباطل في الشبهات، فيكون فيه العلم كما ينبغي، وبالتالي يكون فيه بيان الحق للمسلمين وغيرهم، لتتم به دعوة الإسلام، وهو ما حصل ويحصل على الدوام في أمور المسلمين، وليس علم الكلام من هذا ببعيد، فما قالوا به في الحقائق من دين الإسلام إلا إفك أفكه البعض لغاية دنيئة، ومشى فيه البعض من المسلمين حتى ظن الناس أن الدين قد افترق، وأن الدين فيه ما يناقض العقل، وأن الله لا يتصف بصفات الكمال (تبارك الله أحسن الخالقين)، فما كان إلا أن أظهر الله الحق وميَّزه عن غيره، وزاد المسلمين به علماً فوق علمهم بأن برز فيهم من يذبّ عن ¬
دين الله باللسان والقلم، بل وكان من أبواب الدفع عن دين الله أمام الفلاسفة والمنطقيين الكفرة وكان فيه خير عظيم، فقد تميّز الحق عن الباطل بما لا يخفى على المسلم ولا يخفى على من كان قلبه طاهراً بالإيمان، فكان القول هنا أما أنتم يا مؤمنون فلكم في هذا الخير، وأما العصبة الكاذبة {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} كلٌّ حسب نيته، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمبتدع لهذا القول ومن تولى إظهار معظم الكذب بابتداع القول فيه له عذاب عظيم عند الله، إذ لولا البدعة في القول لما حصل منه شيء. ورحم الله القاضي أبو بكر الباقلاني لسان الأمة وسيف السنة المتكلم على لسان أهل الحديث، فقد أوّل الآية بعمله لا بقوله، فقد تعلّم علم الكلام وبرع فيه ليذبّ عن كتاب الله وسنة نبيه بأحسن الأقوال فكان خيراً للأمة، فأقام الحجج على المبتدعة والفلاسفة وعلماء الكلام من المسلمين، وحاجَّ أئمة الكفر في زمانه من زنادقة وملوك، وقد ظن الكثير أن علم الكلام شر محض وليس فيه خير، وعندما سأله ملك الروم عن قصة عائشة وما قيل فيها، قاسها بغيرها من النساء الآتي طهرهن الله فقال (¬1): (هما اثنتان في التاريخ قيل فيهما ما قيل، زوج نبينا ومريم ابنة عمران فأما زوج نبينا فلم تلد، وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها وكل قد برأها الله مما رُمِيَت بِهِ فانقطع كلام الملك ولم يعرف ما يقول). ومن رمى عائشة من الذين يدّعون الإسلام ولم يأخذوا بأيّ من أحاديث البراءة، كان القرآن حجة عليهم وحده، بقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} في أول السورة ونحن نقول هاتوا بشاهد واحد على رميكم أعز وأشرف المحصنات يا فاسقين. المسبب الثالث: ما جاء في الإسرائيليات من خفايا وما أورثته من تحريف لمعاني القرآن قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "بلّغُوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَجَ، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأْ مقعده من النار" (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" (¬3)، وقد تكلم العلماء في هذا الباب وقالوا فيه الكثير، ومنهم من أفرد الكلام عنه بكتاب مفرد، وذكر فيه آثار الإسرائيليات في كتب التفسير مما يغني عن التفصيل فيه، ولكنني أقصد قسماً مما فصّله العلماء فيها وظنّوا فيه الخير، ويظهره ما نقل ابن كثير بياناً للحديث الأول: "هذه الأحاديث الإسرائيلية تُذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد. فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحتَه مما بأيدينا مما نشهدُ له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبَه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمِنُ به ولا نكذّبه، وتجوزُ حكايتُه لما تقدّم." (¬4) وهذا تفصيل نظريّ، وإن كان فيه حق، ولا أقصد الطعن فيه وإنما أقصد الإشارة إلى تطبيقه في كتب المفسرين، وخاصة ما كان من القسم الأخير، وهو ما رواه المفسرون واعتمدوا عليه وقال فيه ابن كثير: "وغالبُ ذلك مما لا فائدة فيه تعودُ إلى أمرٍ ¬
دينيّ. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلافٌ بسبب ذلك." وأقول بل منه ما جاء فيه من خفايا في بعض الأقوال أثّرت على فهم المفسرين وعلماء الكلام، ونقلت ظاهر المعنى في كلام الله من غير انتباه، وهو ما دخل في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "من كذب عليَّ متعمدا" لورود الأمر بالتبليغ عنه - صلى الله عليه وسلم - ولو بآية، فالصحيح من الإسرائيليات إن رويناه للتفسير كنا متهوكين كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب، وهو كالثاني إن رويناه لا يكون إلا من باب الحجة عليهم، وليس لبيان القرآن وتفسيره، والثالث أخطرها وأشدها وخاصة إن خلطناه بأقوال الصحابة والمفسرين، وهذا هو السبب الظاهر لكثرة المرويات الإسرائيلية في التفاسير وأن "من العلماء من اختصر الأسانيد، ونقلوا الأقوال المأثورة عن المفسرين من أسلافهم دون أن يسندوها لقائليها، فدخل الوضع في التفسير والتبس الصحيح بالعليل وكان هذا مبدأ ظهور الوضع في التفسير وتطرق الروايات الإسرائيلية إليه" (¬1)، فأحاديث بني إسرائيل وأقاويلهم لا تنفعنا ولا تضرنا نحن المسلمين، ونقلُ أحاديثهم قد يكون فيه فائدة لم نعلمها بعد، وقد يكون فيه علم لا علاقة له بالدين، كعلم الأنساب والتاريخ والملاحم، وإن كان فيه من الغث ما فيه، ولكننا نملك العقل والميزان ونستطيع التمييز بين الحق والباطل، ¬
ويدخل في هذا الميزان كل آية من كتاب الله أو أثر عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - نحن مأمورون بروايته، ومثالاً عليها جميعاً ما قالوه عن سليمان عليه السلام بأنه كفر، بل وقالوا عنه ساحر (¬1)، فهذا يبين لنا عقيدتهم الفاسدة، ويعطينا دلالة على قول الله (وما كفر سليمان) رداً عليهم، للتوسع في بيان المقاصد لا لحاجة كتاب الله إلى كلامهم الغث، وزعمهم بأن داود لم يكن نبيّاً وإنما ملك مظفر، يوضح لنا عقيدتهم في داود وأسباب كذبهم عليه، أما ما ذكر عندهم من أحاديث يعقوب عليه السلام وأبنائه في قصة يوسف (¬2) وذكر قصة موسى وهارون وما كان بينهم وبين فرعون (¬3) فلا نقول كذبوا فيه كله، ولا نقول صدقوا، فقد وافق قولهم ما جاء في القرآن من قصص في نواحي كثيرة، وخالفها في أخرى، والقرآن لم يذكر شيئاً من أحاديثهم في بعضها، فلا نكذبهم وقد يكونون على حق، ولا نصدقهم فنثبت للتاريخ ونظلمه بما ليس منه، ولا حرج في تناقل هذا الأخبار لكونها لا تضيف ولا تنقص من ديننا بشيء، ولكن بعيدا عن تفسير القرآن بكل محتوياتها، فالقاعدة الأولى والأخيرة والتفصيل الفعلي والتطبيقي هو أن القرآن لا يفسر وتعطى معانيه بناء على الإسرائيليات بكل ما حوته من صحيح وسقيم، وما لا علم لنا به، لعدم حاجة القرآن إليه أصلاً، ولكونه تهوك كما قال - صلى الله عليه وسلم -. ومثالاً عليه ما جاء في قصة يوسف، فقد ذكروا ¬
ما كان من أمره ببعض الزيادة أو النقص والتغيير فقالوا مثلاً إن صاحب الملك كان من أهل مصر وهو الفرعون (¬1) - مع العلم أن كلمة فرعون لم ترد في تاريخ مصر القديمة، وهذا دليل على أنها صفة من أقوام آخرين، ومنهم بني إسرائيل - والقرآن يقول هو الملك، وفيه إشارة على أن الملك زمن يوسف لم يكن من أهل مصر، بل كان من قوم آخرين، وهو ما نص عليه التاريخ من أن الهكسوس حكموا مصر في ذلك التاريخ (¬2)، فنكذبهم بما قال القرآن بظاهر النص كعقيدة، وبما علمناه من التاريخ المثبت كحقيقة، ولا نكذبهم فيما أوردوه من تفاصيل، إلا ما خالف نصاً أو علماً وصلنا بطريق سليم، وكذلك قصة فرعون مع موسى وما كان فيها من تفاصيل، فقد بيّن القرآن هذه القصة بأروع ما يكون، حتى كانت أكثر القصص تكراراً في القرآن مما يلزمنا بعدم أخذ الزيادات والخرافات من بني إسرائيل، وقد جاء في كلامهم أنهم لم يؤمنوا بموت فرعون إلا بعد طلبهم رؤية جثته، فألقاها البحر على هضبة، فما لنا وهذا الكلام؟ أفيه من فائدة ترجى بعدما كرر القرآن قصة موسى وفرعون حتى صارت محفورة في قلوبنا، والطامة أن البعض فسر عليها قوله تعالى {الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ... الآية 92 يونس} فالعلم والقرآن حكموا بأن جثة فرعون نجت بعد غرقه، فالقرآن يقول إن الله نجّى جثة فرعون بعد موته لتكون عبره لمن خلفه واكتفى، وفيه الكفاية للمسلمين ولا نزيد، والعلم يقول بأن الفراعنة هم أهل التحنيط وسادته، وأن جثث الفراعنة قد حفظت ليومنا هذا على اليقين من علم الآثار والتاريخ، وهي ظاهرة للعيان، فأي فائدة من خرافات بني إسرائيل وذكرها إن كانت تفسر القرآن، وقد نزل القرآن لتكذيبهم ولبيان الحق فيهم. ¬
وفساد التأويل بسبب الإسرائيليات ظاهر في السور المشتملة على الحروف المقطّعة، بل في مفاصل تأويل الحروف وما فيها من إشارات، ومنها ما ذكره المفسرون في تفسير قصة داود عليه السلام مع الخصمين في سورة (ص)، وهي من مفاصل البيان لما في الحروف من مقاصد وما فيها من دلالات وإشارات، وما ذكروه هو الظلم بعينه لنبي الله داود عليه السلام، وتحريف لما جاء به القرآن من معاني، لا لبيان معانيه، حتى حُملت آيات القرآن على ما ورد في الإسرائيليات، وأبعدت أنظار المفسرين فضلاً عن عوام المسلمين، فقال بعضهم إن النعجة في قصة داود أريد بها المرأة، وأن العرب كانوا يفعلون ذلك في كلامهم! و"إن داود قال: يا رب قد أعطيت إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الذكر ما لوددت أنك أعطيتني مثله، قال الله: إني ابتُليتهم بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتُليتك بمثل ما ابتُليتهم به، وأعطيتك كما أعطيتهم، قال: نعم، قال له: فاعمل حتى أرى بلاءك; فكان ما شاء الله أن يكون، وطال ذلك عليه، فكاد أن ينساه; فبينا هو في محرابه، إذ وقعت عليه حمامة من ذهب فأراد أن يأخذها، فطارت إلى كوّة المحراب، فذهب ليأخذها، فطارت، فاطلع من الكوّة، فرأى امرأة تغتسل، فنزل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من المحراب، فأرسل إليها فجاءته، فسألها عن زوجها وعن شأنها، فأخبرته أن زوجها غائب، فكتب إلى أمير تلك السَّرية أن يُؤَمِّره على السرايا ليهلك زوجها، ففعل، فكان يُصاب أصحابه وينجو، وربما نُصروا، وإن الله عزّ وجلّ لما رأى الذي وقع فيه داود، أراد أن يستنقذه; فبينما داود ذات يوم في محرابه، إذ تسوّر عليه الخصمان من قبل وجهه; فلما رآهما وهو يقرأ فزع وسكت، وقال: لقد استضعفت في ملكي حتى إن الناس يتسوّرون عليّ محرابي، قالا له: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ولم يكن لنا بد من أن نأتيك، فاسمع منا; قال أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أنثى {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} يريد أن يتمم بها مئة، ويتركني ليس لي شيء {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قال: إن دعوت ودعا كان أكثر، وإن
بطشت وبطش كان أشد مني، فذلك قوله {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قال له داود: أنت كنت أحوج إلى نعجتك منه {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} .. إلى قوله {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ونسي نفسه - صلى الله عليه وسلم -، فنظر الملكان أحدهما إلى الآخر حين قال ذلك، فتبسم أحدهما إلى الآخر، فرآه داود وظن أنما فتن {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أربعين ليلة، حتى نبتت الخُضرة من دموع عينيه، ثم شدّد الله له ملكه." (¬1) فانظر ما حملوا كلام الله عليه من افتراء وقدح في الأنبياء، والكذب فيها والتفصيل على ما ورد في القرآن واضح، وأثر الصناعة فيها واضح. ومنهم من شق عليه تصديق القصة فقال إن الرجل كان خطيب المرأة وليس زوجها! وكأن القرآن نزل مكمّلاً للعهد القديم والجديد عند أهل الكتاب، فما استطعنا تفسيره واستقراء معانيه إلا بالرجوع إلى قصص كتبهم، ونسى علماؤنا الكرام (¬2) أن اليهود لم يعترفوا بنبوة داود أصلاً، ¬
واعتبروه ملكاً ومؤسساً لدولتهم، كما هو ظاهر للعيان في وقتنا هذا (¬1)، فلا ينزهون أنفسهم - وهم حملة راية داود - عن قتل الأطفال والنساء والعجزة فضلاً عن تعاليهم على البشر جميعاً، وداودهم المكذوب في كتبهم لا يزيد عنهم في خلق أو دين، فما هو الحق في تأويل هذه الآيات، أهو داودنا وسلف نبينا أم داودهم وسلفهم؟ أنزلت هذه الآية لتأكيد أقوال اليهود فيه، أم نزلت بما دلت عليه كلمات رب العزة من غير زيادة أو نقصان؟ والأنكى من ذلك من أشربوا القصة بما حوته وبدأوا بالجدال في قول الملكين فقالوا هل يأمر الله الملائكة بقول الكذب؟ وزادوا عليه بتفصيل القول في كذب الملائكة بأنه للضرورة وغيره من الكلام السقيم، فقلبوا بقولهم كلام الله وما دل عليه، ووقعوا فيما جاءت الآية للرد عليه – كما سأبين -، فإن كان داود عليه السلام والذي له زلفى وحسن مآب عند ربه أذنب بظنه نعاج القوم في قولهم من نعاجنا، فحكم ظلماً فغفر الله له، فما حال الذين لا زلفى لهم ولا حسن مآب وظنوها من نعاجنا وكذّبوا الملائكة وقالوا على الله ما لا يليق، فكانوا هم من حرّف كلام الله عن مقاصده، فحسبنا الله ونعم الوكيل. ¬
الفصل الثاني: الحروف المقطعة بين التفسير والتأويل
الفصل الثاني: الحروف المقطّعة بين التفسير والتأويل وبعد بيان الأسباب في الخلاف على تأويل الحروف وتفسيرها بين المفسرين، وبيان الفرق بين التأويل والتفسير، نعود للأقوال فيها، لا لترجيح أحدها على الآخر، أو لبيان معناها ومقاصدها وبالتالي الركون إليها، بل لنفصل الأقوال ونبين الوجوه السليمة في كل منها، لإيجاد علامات ودلالات على وضوح الطريق المتبع في تأويلها، ولن نتتبع كل الأقوال ما شذ منها وما دار في فلك التأويل، لعدم الحاجة لبيان ما قد بيّناه سابقاً من شذوذ بعض الأقوال، فنقتصر على ذكر المشهور من الأقوال المعروفة في عموم الحديث عنها، وما هو خاص ببعضها. ولو تتبعنا أقوال علماء التفسير بالأثر في الحروف، لوجدنا أغلبها من تأثير الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وإن كانوا قد استدلوا بأدلة لغوية وعقليه في بعض الأحيان فلن نأبه بما استدلوا به، لأن الغاية من ذكرها هنا ليست الرد أو الانتصار لرأي دون آخر، بل الغاية تقرير الصواب والحق، وما كان من أدلة وردود سيأتي ذكرها في مكان الاستشهاد الصحيح بحسب الفائدة المرجوة منها. وبعد التحقق من آراء العلماء لا يبقى ما يعتد به لتفصيل القول في الحروف بمجملها بين التأويل والتفسير إلا اثنين في تفسيرها وتسعة في تأويلها كما سأوضح في الأبواب الثلاثة التالية: الباب الأول: حصر الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة الباب الثاني: حصر الأقوال في تأويل الحروف المقطّعة الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح الباب الأول: حصر الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة أما في التفسير، وبيان المعاني فهي بين قولين: الأول: إنها أسماء للسور، وهو قول علماء الكلام، (¬1) هرباً من بساطة المعاني الظاهرة في الحروف بفهمهم، وطلباً للمزيد من معاني القرآن. وقولهم بأنها أسماء للسور كتفسير ليس فيه حجة، لمخالفته إجماع الصحابة على تسمية السور في المصحف، ولمخالفة أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذكر أسماء السور، كالبقرة وآل عمران، "هذا وإن القول بأنها أسماء السور يخرجها ما ليس في لغة العرب، لأن التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستكره عندهم ويؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، ويستدعي تأخر الجزء عن الكل من حيث أن الاسم متأخر عن المسمى بالرتبة." (¬2) قال سيبويه: "وأمَّا حم فلا ينصرف، جعلته اسماً لسورة أو أضفته إليه، لأنَّهم أنزلوه بمنزلة اسم أعجمي، نحو: هابيل وقابيل ... وكذلك: طاسين، وياسين. واعلم أنه لا يجيء في كلامهم على بناء: حاميم وياسين، وإن أردت في هذا الحكاية تركته وقفاً على حاله. وقد قرأ بعضهم: ¬
"ياسين والقرآن"، و "قاف والقرآن". فمن قال هذا فكأنّه جعله اسما أعجميّاً، ثم قال: أذكر ياسين. وأمّا صاد فلا تحتاج إلى أن تجعله اسماً أعجميّاً، لأنَّ هذا البناء والوزن من كلامهم، ولكنَّه يجوز أن يكون اسماً للسُّورة فلا تصرفه ... وأما كهيعص والمر فلا يكنَّ إلاَّ حكاية ... ولا يجوز أن تصل خمسة أحرف فتجعلهنّ اسماً واحداً." (¬1) وعليه فالسؤال هنا: هل في آيات القرآن اسم أعجمي ومبهم من خمس مقاطع! والله يقول {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}؟ والجواب هو لا، وأنّ هذا القول ساقط ولا حجة فيه، قال الأخفش: "لأنّ {الم} و {طسم} و {كهيعص} ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطّعة." (¬2) وإن سمّى الصحابة بعض السور من ذوات الحرف الواحد (ص، ق) أو ذوات الحرفين (يس، طه) ولم يسموا طس وهي في حكمها فعلى إجماعهم، قال الفرّاء: "ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل "طا سين ميم" لأنها لا تشبه الأسماء، و"طس" تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل "الم" و "المر" ونحوهما." (¬3) الثاني: ما عليه الجمهور وما قاله أهل العربية من النحويين، وما اجتمعت عليه أقوال التابعين والمحققين وأهل النحو وأهل البلاغة وعلماء اللغة، كتفسير لها قبل ذكر الحكمة من ورودها أو تأويلها، بأنها تدل على معناها بذاتها، وهو الظاهر منها "فجمهور المفسرين على أنها حروف مركبة ومفردة" (¬4)، وإن كانت في سياق القسم كانت مقسماً به لإعلاء شأنها (¬5)، قال الأخفش: "إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها لأنها مبادئ كتبه المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى" (¬6)، وهذا ما أطبق عليه القاصي والداني بأنها حروف مقطّعه كما دلت على ذاتها، وهو الظاهر من حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) (¬7) "وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطّعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره" (¬8)، وإن قلنا بأن عليه الإجماع لكنا على صواب، لأن القائلين بأنها أسماء للسور وغيرهم، لم يقولوا فيها إلا بعد تيقنهم بأن هذا تفسير تلك الحروف المقطّعة في فواتح السور، لأنه الظاهر الأول بفهمهم، وهذا ما عليه المسلمين بجميع طوائفهم واختلاف نطقهم على مر ¬
الباب الثاني: حصر الأقوال في تأويل الحروف المقطعة
السنين منذ بداية التنزيل، وهو على قراءة الجمهور وما تواتر من قراءات للقرآن بالوقف عليها ساكنة، ومن غير تحريك لآخر حرف فيها عند الوصل، وفي هذا يقول المبرد: "وفواتح السور كذلك على الوقف؛ لأنها حروف نهج، نحو الم، المر، حم، طس. ولولا أنها على الوقف لم يجتمع ساكنان. فإذا جعلت شيئاً منها اسماً أعربت." (¬1) والذين حركوا بعض الفواتح وليس كلها كانت قراءتهم شاذة بالاتفاق. وكل ما زاد عن هذين القولين من أقوال وآراء تكون من باب التأويل والتوسع في بيان المقاصد، وسأفصله فيما يلي. الباب الثاني: حصر الأقوال في تأويل الحروف المقطّعة أما الأقوال في التأويل والتوسع في بيان المقاصد فهي بين تسعة أقوال: (¬2) الأول: إنها سر القرآن ومما استأثر الله بعلمه، فتجد ما يرويه بعض المفسرين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في تفسير الحروف المقطّعة: هي مما استأثر الله بعلمه أو أنها سر القرآن. وهذا مما لا يصح وليس له سند، وقد اكتفى بعض المفسرين بذكره، وزاد البعض بجمع الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي- رضي الله عنهم- على هذا القول من غير سند ¬
أيضاً (¬1)، وقيل إنه قول الشعبي والثوري والسند إليهم مفقود (¬2)، ولو صح القول عنهم فالوجه الصحيح فيه يكون بمنزلة القول (الله أعلم بتأويلها) والسر في نظم القرآن لا في معانيه. الثاني: إنها حروف مقطّعة من أسماء وأفعال وكل حرف منها يؤدي عن معنى، وذلك تبعاً لما يروى عن ابن عباس في تأويل (الم) أي أنا الله اعلم، وفي (الر) أنا الله أرى، وفي (المص) أنا الله أفصّل، (¬3) وهذا الأثر ضعيف، لعلّة في السند وعلّة في المتن، ولا يُحتجّ به وإن كثر ذاكريه من ¬
المفسرين، "ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها" (¬1)، فيسقط قول من ادعى هذا وإن كان فيه وجه صحيح، لأن رواة الحديث ضعاف الحفظ وليسوا بمتهمين، وأغلب الظن أنهم نقلوا تعليقاً أو حاشية من كلام التابعين، لأن التابعين لم يكتبوا عن ابن عباس أصلاً، والتعليق بمجمله من غير نقص جاء لتأويل الحروف لا للدلالة على معناها، ومن قال بهذا الوجه فقد جعل هذا القول من باب تأويل الحروف، وأورد الحكمة منها متضمنة هذا اللفظ وإن كان فيه نقص أو ضياع في النص. الثالث: إنها أسماء للقرآن كالفرقان والكتاب، وهذا تبع لقول قتادة إن (ألم، وطس وطسم) "اسم من أسماء القرآن" (¬2)، وهذا من الفهم السقيم للروايات الناقصة، فقد روي عن قتادة - بسند أصح - قوله بأنها "اسم من أسماء القرآن، أقسم به ربك" والقصد منه: أسماء هذه الحروف من مجمل أسماء القرآن، شرفها الله وأقسم بها، فكانت من الأسماء المذكورة فيه، وهو داخل في القول بأنها حروف مقطّعة، كما نقول اقرأ (يس) ونعني بها اسماً للسورة، ولا نقصد أن هذه الحروف كلها أسماء للسور على الإطلاق، أو نقول اقرأها ياسين (بالفتح) ونعني به اقرأها كالاسم لبيان الصواب من الإعراب فيها، وفي هذا قال ابن حجر: "عن قتادة قال: حم اسم من أسماء القرآن. وقال ابن التين: لعله يريد على قراءة عيسى بن عمر بفتح الحاء والميم الثانية ¬
من ميم، ويحتمل أن يكون عيسى فتح لالتقاء الساكنين. قلت (أي ابن حجر): والشاهد الذي أنشد يوافق قراءة عيسى وقال الطبري: الصواب من القراءة عندنا في جميع حروف فواتح السور السكون لأنها حروف هجاء لا أسماء مسميات." (¬1) الرابع: أنها من أسماء الله أو اسم الله الأعظم، تبعاً لما يروى عن ابن عباس بأنها قسم ومن أسماء الله، (¬2) ولما يروى عنه أيضاً وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - بأنه اسم الله الأعظم (¬3)، ¬
وحديث علي - رضي الله عنه - أنه قال يا كهيعص اغفر لي. (¬1) وهذه الآثار ضعيفة ولا حجة فيها على المعاني، ليسقط قول من ادعى بأنها من أسماء الله أو من ادّعى بأن فيها من علم الغيب شيء، وتساهل في تسمية رب العباد بما لم ينص عليه وبحروف مقطّعة، فأسماء الله وصفاته من أدق معالم التصديق والانقياد في عقيدة المسلم، ولا تهاون فيها، فقولهم مردود لأن أي من الفواتح "ليس بمذكور في أسماء الله المعدودة، ولأن أسماءه تقدست ما منها شيء إلا وهو صفة مفصحة عن ثناءٍ وتمجيد، وحم (مثلاً) ليس إلا اسمي حرفين من حروف المعجم، فلا معنى تحته يصلح لأن يكون به تلك المثابة" (¬2)، ويوهن هذا الفهم زيادة على وهن أسانيد مروياته، ما في الروايات من اختلاف في نقل ألفاظها. أما أقوال ابن عباس في (كهيعص) قال: كبير يعني ¬
بالكبير: الكاف من (كهيعص) (¬1) أو"كاف هاد أمين عزيز صادق" (¬2)، وما في مقامها من ذكر لأسماء الله فهي صحيحة بمجموعها لا برواية دون أخرى، وكثرة الروايات واختلاف المتن من سند لآخر لا حجة فيه بمجموعها على المعاني المباشرة للحروف وإن كانت صحيحة، لأنها متناقضة ولا تتفق في الأسماء - حتى في نفس الرواية - والحجة فيها مبنية على الوجه الصحيح المقصود من مجملها وهو القول التالي. الخامس: إنها حروف من هجاء أسماء الله، وهو الوجه الصحيح من القول السابق لتأويل الحروف، أي أنها ذات الحروف المنطوقة في أسماء الله، وكفاها شرفاً. وهذا الوجه يعضده مجموع ما روي عن ابن عباس في (كهيعص) وما جاء عنه وعن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: أما "ألم" فهو حَرف اشتُقَّ من حروف هجاء أسماء الله جلّ ثناؤه." (¬1) وإن كان ضعيفاً، أي أنها ذات الحروف المنطوقة في أسمائه، ويبينه ما روي ابن عباس "في قوله: الم وحم ون، قال: اسم مُقطَّع" (¬2) أو " (الر) (حم) (ن) حروف الرحمن مقطّعة"، والحجة فيها ليست على ¬
التأويل بل على المعاني الظاهرة وأنها حروف مقطّعة وهو قول الجمهور، والمتن لم يزد عن المكتوب في القرآن شيئاً، لأنه كان بياناً للمكتوب، فكل الحروف المقطّعة من مفردها إلى خمستها أخذت حكم الأسماء المقطّعة في الكتابة، فهذا حكمها لا تأويلها وليست بدليل على قول من ادعى بأنها أسماء مقطّعة ويجب أن نجمعها لنفهمها. ولا ننسى بأنها كانت في زمانهم حروف معجمة (مبهمة) من غير تنقيط، وخير بيان لها هو بذكر أشرف الأسماء الظاهرة فيها، ويدل عليه ما جاء في الروايات من قوله في كهيعص هذا الحرف من ذاك الاسم، باختلاف الاسم مع الاتفاق على ذكر الحرف فيه، وهو ذات المعنى في الظاهر كما أسلفت، ويتماشى مع قولهم بأنها اسم، أي تقرأ كالاسم ولا تصرف، وكل هذا لبيان القراءة ومطابقتها مع الكتابة في القرآن، وفي هذا القول إشارة عظيمة سآتي على ذكرها عند الكلام عن دلالات الإعجاز. السادس: ما قاله التابعون بأنها فواتح يفتتح الله بها القرآن (¬1)، وزاد بعضهم بأنها فواتح لقرع الأسماع وتنبيه لمغايرتها عرف العرب، (¬2) ويخرج من هذا القول من قال بأن هذه الفواتح علامة ¬
انقطاع بين السور، وعلامة ابتداء لسورة أخرى كما كان العرب يقولون في بداية أشعارهم (بل) و (لا بل)، فهذا الاستدلال باطل، وقد قال به من ردّ على القائلين بأن هذه الحروف إن كانت فواتح فهي بلا معنى، فاستشهدوا بفواتح الشعر وبغيرها من الشواهد كما قال الأخفش بعد ذكر الشواهد: "فهذا يدل على أن الوجه الأول (أي أنها فواتح) لا يكون إلا وله معنى. لأنه يريد معنى الحروف" (¬1)، فلا نحمل التابعين ما لم يقولوا، فقد قالوا بأن الحروف التي هي فواتح السّور حروفٌ يستفتحُ الله بها كلامه، ولم يزيدوا ولم يشرحوا بأكثر من ذلك (¬2). ومن قال بهذا القول فلا بد له من تفسيرها كحروف مقطّعة كما فعل قطرب والأخفش، وقد سبق قولهم بأنها حروف مقطّعة لا أسماء للسور، وكذلك فعل النحاس - وهو اختياره- فقال: "ثم يتأوله أهل النظر، على ما يوجبه المعنى"، وفي هذا القول وجه حسن سآتي على ذكره لاحقاً. السابع: ما قاله أهل البلاغة بأن فيها إعجازاً في النظم لكونها بالمجموع تمثل نصف حروف الهجاء، وتحتوي على أنصاف صفات الحروف للدلالة على باقي الحروف، (¬3) وعدم الحجة في هذا القول أنّ فيه إلزاماً لسماعها بعد جمعها، وهذا بعيد عن إقامة الحجة على سامعيها الأوائل، ¬
ومن قال به وجب عليه الاعتراف بتفسيرها كحروف، إذ هو وجه الإعجاز فيها عنده، وهذا القول فيه وجه حسن على الدلالة في نظم الحروف كما سأبين عند الحديث عن الإعجاز في دلالات الحروف. الثامن: ما قاله المحققون بأنها من حروف المعجم أساس نظم القرآن، وجاءت إعجازاً للعرب عن صياغة مثله بها (¬1)، وهو كما قال قطرب: "هي إشارة إلى حروف المعجم، كأنه يقول للعرب: إنما تحديتكم بنظم من هذه الحروف التي عرفتم" (¬2)، وهذا التحدي المزعوم في كلام المحققين قد أتى في القرآن ظاهراً بالنص، فلا يكون التحدي بذكر الحروف فقط، ومن قال بهذا الرأي فقد فسّرها كحروف، وهو ما اختاره ابن كثير وجمع غفير من المحققين، وفي قولهم هذا وجه حسن سآتي على ذكره عند الحديث عن تأويل الحروف وما فيها من دلالات على الإعجاز في النظم. التاسع: الوجه الصحيح من هذه الأقوال ومما جاء في الآثار وقفاً على التابعين أو نقلاً عن ابن عباس وغيره من الصحابة، بصورة مكملة لبعضها، وتتماشى مع المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتناسق مع نظم القرآن وما فيه من إشارات ودلالات على الإعجاز كما يليق به ككتاب منزل من الله، لا كما جاء في كثير من الروايات من تناقض بين بعضها من جهة، وبينها وبين أقوال أهل العربية من جهة أخرى، وهذا الوجه الصحيح يشتمل على أقوالهم جميعاً من غير تناقض، ومن غير مخالفة للمعقول والمنقول الصحيح، ولا سبيل لمعرفة هذا الوجه إلا بالاستقراء وتدبر القرآن، ¬
الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح
وليس بجمعها، إذ ليس في أي من الأقوال حجة قوية على استخلاص المقاصد وتفردها بما في الفواتح من حكمة، ولا تقوم إحداها إلا بعضد الأخرى أو ضدها، كما أن أقوال أهل العربية ليس في أي منها حجة، لمخالفة الحروف أصل المعروف من كلام العرب - وهم من أقر بهذا - وإن كانت هذه الفواتح كما نعلم من حروف العرب، وأهل العربية حجة في بيان أصول النحو والصرف والبلاغة وأصول البيان، لكنهم ليسوا بحجة في تأويل كلام الله إذا لم يوافقوا هذه الأصول. كيف لا وقد جاءت هذه الحروف بنظم لم يأت به أحد ولم يقله إلا الواحد الأحد، ولم يكن هذا النظم للمخالفة أو لإعجاز الناس عن فهمها، بل لأن فيها بَيَاناً لم ينسبه أحد لنفسه من قبل ومن بعد - كما سيظهر لنا إن شاء الله - أما غير هذه الأقوال فلا حجة فيه البتة لعدم ثبوت الدليل القاطع والفكرة الواضحة ممن يعتد بقوله. الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح أما الأقوال فيما خص بعض هذه الفواتح كقول ابن عباس -رضي الله عنه- عن (ن والقلم وما يسطرون): النون هي الدواة (¬1)، أو النون هو الحوت (¬2)، فهذه آثار ضعيفة وهالكة ولا حجة ¬
فيها، وإن كانت تروى عن بعض التابعين، فقد صح عن قتادة والحسن البصري قولهم هي الدواة، وقولهم له وجه صحيح، ولكنه بعيد عن تأويل الحروف، وهو من باب البيان لتتابع المعاني في النظم، وتتابع القسم على أكثر من مقسم به، وسآتي على ذكره عند الكلام عن الإعجاز في النظم. أما قول ابن عباس في (طه) و (يس) هي بمعني يا رجل بالنبطية أو السريانية
أو الحبشية فموضوعة وقد سبق ذكرها، وقد ثبت أنها من أقوال بعض التابعين، فقد روي عن عكرمة أنّه قال (طه) هي كقولك يا رجل بالنبطية، وفي رواية عنه أنها بالحبشية، وفي رواية عنه أيضاً أنها بمعنى يا رجل فقط (¬1). وروي عن الضحاك أنّه قال هي بالنبطية وفي رواية عنه أنها يا رجل فقط، (¬2) وروي عن قتادة قوله أنها بالسريانية، وفي رواية أنها يا رجل فقط. (¬3) وروي عن سعيد بن جبير أنّه قال هي بالنبطية، وفي رواية أنها بالسريانية، (¬4) ويروى عن عكرمة أيضاً أنّه قال في (يس) هي يا إنسان (¬5). وقد تحدث في هذه الروايات بعض العلماء، ولم يرجحوا إحداها على الأخرى، لما فيها من اختلاف لا يخفى على الأطفال، فهذه الروايات صارت بحاجة هي للتأويل ولم تكن بحال من الأحوال من البيان أو التفسير، لذلك اكتفى البعض من أهل التفسير بردها جميعا والقول بأن طه ويس حروف من حروف الهجاء وليست باسم ولا نداء، وهو الظاهر من الحروف والأصل فيها، وما لا ينقله عن ظاهره قول من لا حجة في كلامه. وعدم الخوض في هذه الروايات كان للبعد عن الريبة، وإتباعا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أردنا الجمع بينها ¬
وبين التأويل في هذه الأقوال، وإيجاد تأويل لها وليس ما حملته من تأويل، فنقول: إن أغلب الروايات عنهم تقول إنها كقولك يا رجل، وزادوا بأنها بالنبطية أو بالسريانية أو بالحبشية في (طه)، ويا إنسان في (يس)، ولو حملناها على المعنى فلن يستقيم التأويل لأربعة أسباب، الأول: أنها لا تعني يا رجل لا بالسريانية ولا بالحبشية ولا بغيرها من اللغات، فرجل بالسريانية مثلا (جبرا)، وكذلك بالحبشية لا تعني يا رجل، ولا بالنبطية كما سيأتي، والثاني: أنها لو كانت اسماً أو نداءً لما سكت عليهما - أي يس وطه - وهو جائز عند الجمهور، ومعلوم أن النداء لا يوقف فيه على المنادى أما القسم فيوقف عليه، والثالث: ما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن (¬1) أنّه لا ينبغي أن يكون اسماً؛ لأنه ساكن ولو كان اسما لدخله إعراب، والسكون قراءة الجمهور أيضاً، بل هو المحفوظ في المصاحف اليوم، أما الرابع: فإن علماء العربية قالوا بأن من قرأ طه بالكسر كما عند الكوفيين، ألزمه بأن يفسرها كحروف، أما من قرأ بالفتح فجاز له أن يقول هي بمعنى يا رجل، وهؤلاء التابعين من سكان الكوفة والبصرة! وقراءة البصريين والكوفيين بالكسر لا بالفتح، فإن قلنا بأنهم قصدوا تفسير الحروف رميناهم بالكذب، لأنها لا تعني يا رجل بأي من هذه اللغات، ولأنهم خالفوا أنفسهم فيما ثبت عنهم، فمرة قالوا هي بلغة كذا ومرة بأخرى وهم أئمة ومنارات للعلم، وهم ثقات عند أئمة الحديث، فيبقى أنهم قصدوا أمراً من اثنين لا ثالث لهما: الأول: إنهم قصدوا بقولهم بيان القراءة في طه ويس، كأنك تقول طا ها يا رجل، لبيان حذف الهمزة، أو يا سين من يا إنسان، وليس من هاء يا رجل بالكسر أو يائس بثبوت الهمزة على الصحيح من هاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نساء وهاءِ يا رجل وهاءِ يا امرأة بهمزة مكسورة، وهي قراءة الجمهور بفتح الطاء والهاء، وهذا بعيد لأنهم من أهل العراق، ومن سكان الكوفة والبصرة، وقراءة البصريين والكوفيين بالكسر لا بالفتح على المشهور بينهم، والفتح فيهما (أي طه ويس) قراءة نافع إمام القرّاء المدني برواية قالون قارئ المدينة، وقراءة القاضي ابن كثير المكي وعنه البزي إمام الحرم المكي وقنبل المكي، وقراءة الإمام القاضي عبد الله بن عامر الشامي وعنه الإمام المحدث هشام بن عمار الدمشقي وإمام جامع دمشق ابن ذكوان الدمشقي، وهي إحدى قراءتي عاصم ابن أبي النجود الكوفي من رواية حفص نزيل مكة عنه، أما قراءة ورش القيرواني مقرئ الديار المصرية ونزيل المدينة عن نافع فكانت بفتح الأولى وكسر الثانية وهي بموافقة نافع لا قراءته. الثاني: إنهم قصدوا بيان القراءة بلهجة النبط، والنبط هم كما قال ابن حجر: " أهل الفلاحة من الأعاجم؛ وكانت أماكنهم بسواد العراق والبطائح، وأكثر ما يطلق على أهل الفلاحة، ولهم فيها معارف اختصوا بها، وقد جمع أحمد بن وحشية في "كتاب الفلاحة" من ذلك أشياء عجيبة" (¬2)، وابن وحشية "كلدانيّ الأصل، نبطيّ. من أهل قسين (كورة من نواحي الكوفة) " (¬3)، وهو منهم وقام بنقل علومهم من الكلدانية للعربية، وهم غير العرب الأنباط سكان البتراء وأصحاب الحروف النبطية، ولغة السريان والكلدان تجمعها صفة "اللهجات الآرامية"، وتجمّعاتهم كانت في العراق وبلاد الشام، فالكلدانية لهجة محكية في نينوى والموصول وبغداد والبصرة في العراق، والسريانية محكية في بعض أجزاء العراق، وفي بعض المدن في بلاد الشام، وإذا نظرنا لهؤلاء الأئمة وجدناهم إما من سكان العراق، وإما من أهلها، فالضحاك كان ¬
يسكن ويحدث في الكوفة، وعكرمة مولى عبد الله ابن عباس أصله من البربر من أهل المغرب، كان لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لعبد الله بن عباس حين جاء والياً على البصرة، وسعيد بن جبير كان يحدث في الكوفة، ولما ذهب لأصبهان لم يحدث فيها، وعندما عاد للكوفة حدث من جديد، وقتادة بصري الأصل ومن أهل البصرة، والحسن البصري أيضاً، (¬1) واللهجة المقصودة كانت كما تقول ها يا رجل بكسر الهاء، ويقصد منها النداء، واستعملوها في التقريب لوضوح الإمالة فيها، كما في بعض اللهجات العربية العامية الآن في قولهم "هي يا رجل" بكسر الهاء، وهي واضحة في قولك يا رجل باللغة الحبشية بشقيها الأمهري والتقراي، فالأمهري يقول (أتّا سويّي = يا رجل بالمبالغة في إيضاح الكسر) والتقراي يقول (أتّا سبعاي= يا رجل مع إمالة الألف) واللغة الأمهرية الحبشية هي لغة أثيوبيا اليوم ولغة الحبشة قديماً، وتكتب بخط مشتق من خط المسند الحميري المعروف، ولو أردت كتابتها بالحروف العربية لما استقامت إلا ببيان اللفظ، إما بالنطق أو بضرب مثال من لهجة سائدة، وكذلك الإمالة في طه، وقد "قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء، وبكسرهما حمزة والكسائي وأبو بكر، والباقون بفتحهما." (¬2) وأبو عمرو النحوي المقرئ بصري، وعنه أبو عمر الدوري من العراق، والسوسي من الرقة في العراق، وحمزة الكوفي وعنه خلف وخلاد الكوفيين، والكسائي كوفي وعنه الليث أبو الحارث البغدادي والدوري أيضاً، وأبو بكر هو شعبة الكوفي عن أبي بكر عاصم بن أبي النجود شيخ القراء الكوفي أيضاً، ورواية شعبة عن عاصم هي المعتبرة والمشهورة عن عاصم عند العلماء المتقدمين، والموافِقة لقراءة الكوفيين عموماً، وهي قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود بالكسر، أما قراءة حفص الكوفي نزيل مكة ومقرئ الكثير من الديار فهي قراءة عاصم عن عبد ¬
الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب بالفتح جميعاً، ولم تكن مشهورة عن عاصم لا في العراق ولا في الكوفة أو البصرة، (¬1) إذن فأهل الكوفة يقرأون طه بالكسر في الحرفين، وأهل البصرة يقرأون بالكسر في الهاء، ولا سبيل لبيان تلك القراءة إلا ببيان اللفظ باستعمال أقرب اللهجات المشهورة بالإمالة إليهم، وهي لهجة النبط أو السريان في وقتهم، لأن الإمالة واضحة فيها. وهذا هو الراجح وما أرادوه رضي الله عنهم، وما يتوافق مع قول أهل العربية وواقع القراءة عندهم، ومعلوم أن كثيراً من العلماء أنكروا شيئاً من قراءة الكوفيين، كقراءة حمزة والكسائي، لما فيها من إفراط في الإدغام والإمالة، بل لأنها امتازت بها، وكذلك أنكر كثير من أهل العربية الإمالة في (طه)، "قال النحاس: لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين: الأولى أنّه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة" (¬2)، ولا ننسى بأن هؤلاء الأئمة كانوا يبلغون الحديث والقرآن وما فيه من قراءات، وكان في وقتهم من لا علم له بالعربية ونحوها، ولا سبيل لبيان ألسنة العرب لهم إلا بالتوضيح والتشبيه، والله أعلم. ولبيان ذلك بالمثال أقول: لنفرض أن أحد التابعين يُبلّغ قراءة القرآن بما يوافق قراءة حمزة، وكان في إحدى المدن في جنوب بلاد الشام وشمال الجزيرة العربية، وأراد توضيح الإشمام في الزاي عند قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] أو قوله تعالى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] أو قوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 37] لقال: هي كقولك "الزراعة" بلغة الفلاحين، لأنهم في تلك المنطقة يقولونها بالإشمام التام لا ¬
هي زاي ولا هي صاد، وكتب الناس عنه ما قال "هي كقولك الزراعة بلغة النبط" أتكون بأي حال من الأحوال تفسيرا للصراط، وأصدق، وهم المصيطرون؟ كلها على زرع وزراعة؟ والكثير من الأمثلة التي لا حصر لها. ومن قال بأن معناها يا رجل، وهي بلغة بني عك أو بني عكل أو بني طيء من قبائل العرب، ونسب إليهم شعراً فقد شذّ ووهم، ولا حجة في كلامه أو شعره، والسند في الكلام كالسند في الشعر، وخاصة ما كان من شعر الشواهد (¬1)، وبعد هذا التحقيق يسقط ويهلك قول من ادعى بأن الحروف تدل على معاني مباشرة، كما في بعض الروايات من أكاذيب قالها أصحابها ليشتهروا بها، أو مما كان في بعضها من أوهام الرواة أو أقوال منسوبة للمفسرين من تابعين وأتباعهم برأيهم وبحسب قصدهم لا بفهم الرواة. وقد كثرت الروايات في الحروف المقطّعة لأنه لم يكن فيها تأويل معتبر ومنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، فنقل الرواة كل ما جاء فيها من روايات تبين وجوه القراءة ووجوه الكتابة، ظنّاً منهم أنها تفيد التأويل، وخاصة هذه الروايات في نسبة الحروف للغات أخرى، وما كان منها منسوب لابن عباس، وقد نقل هذه الروايات بعض المفسرين القدماء مثل ابن جرير الطبري وابن ابي حاتم الرازي، فحدثوا بها خوفاً من فقدان المعلومة وإن كانت ضعيفة، ولم يجدوا فيها بأسا لأنهم قاسوا السند على ما صح عن التابعين، وقاسوا المتن على ما صح في غيرها من الكلمات المعرّبة المعروفة من اللغات الأخرى في القرآن، ونقل عن هؤلاء الكثير من المفسرين المتأخرين كالقرطبي وابن كثير وغيرهم، ¬
وقد تنبه لهذه الأخطاء علماء اللغات من أهل الكفر، فجعلوها مدخلا للطعن في القرآن، والمحزن أن يتبعها البعض من أهل الإسلام من غير تحقيق وتمحيص في الآثار وعلوم القرآن طلبا لما وراء المجهول من تخرّصات وأوهام، ليشتهروا بها أو ليَظهروا مظهر المدافع عن القرآن، فساء ما كانوا يفعلون، ولو كان في هذه الروايات ما تطمئن إليه النفس لما وجدنا علماء التفسير حائرين - وهم من روى هذه الآثار - في تفسير ذات الحرف أو الحروف، ولو كانوا على يقين من صحة الأحاديث المروية عن ابن عباس أو غيره في هذا الباب لما تركوها ليذكروا حديثاً ضعيفاً آخر أو موضوعاً طلباً للمزيد، وبالتالي قالوا كما قال ابن جرير إنّ لكل واحدة منها وجه صحيح والله أعلم، فتنبه لهذا، ومن أراد التأمل فيها فليقرأ من التفاسير ما اقتصر على الصحيح من روايات الصحابة والتابعين وقلّت فيه الروايات الضعيفة، ومن أراد البحث والتمحيص فليقرأ كتب المفسرين الأوائل وما جاء فيها من آثار مع الرجوع لكتب أهل الحديث أو ما اقتصر منها على أسانيد المفسرين وتحقيقها. ويتبين لنا بعد هذا التحقيق أيضاً، بأن كل علم من علوم القرآن أو علوم الحديث كان له رجاله وفرسانه، وقد يعيب أحد الطرفين على الآخر بعدم الدراية في علمه، كما عاب أهل الحديث وأهل العربية على بعض القراء كالإمام نافع لعدم درايته بالعربية ونحوها وبعلم الحديث وروايته، وهو إمام وقراءته سنه كما قال عنه الإمام مالك، وما وجدناه هنا يعيب على بعض أهل الحديث عدم درايتهم بعلم القراءات أيضاً، بإيراد هذه الروايات مع اختلافها في أبواب التفسير وهي ليست من التفسير كما فعل الإمام أبو بكر ابن أبي شيبة، وقد كان بحراً من بحور العلم، وبه يضرب المثل في قوة الحفظ كما قال عنه الذهبي، وفيه قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "انتهى الحديث إلى أربعة: إلى أبى بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي
الباب الرابع: بيان الشبهة في محاولة الجمع بين الأقوال
ابن المديني، فأبو بكر أسردهم له، وأحمد أفقهم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعلي أعلمهم به." (¬1) وهذا الخطأ ليس بنقيصة في حقه ولا في حق غيره، لأن الغاية عندهم كانت أسمى وأعظم، وهي نقل المعلومة إلينا كما سمعوها من غير زيادة أو نقصان أو حتى تغيير، سواء كانوا من أهل القراءات أو من أهل الحديث وأهل اللغة، ومنهم من كان مقرئاً ومحدثاً وإماماً، وكان يحكم على القراءات وهو عالم بالرجال فصيح اللسان، ومنهم من كان من فرسان علم دون سواه ولا يشق له غبار فيه، وهي بالتالي علوم يكمل بعضها بعضاً، ولا ينقض بعضها بعضاً بأي حال من الأحوال، ليستبين لنا أن شرط التأويل السابق الذي شرطه العلماء بأن يوافق التأويل مجمل القرآن وعلومه، كما يوافق الحديث وعلومه، هو شرط صحيح كما هو شرط الموافقة لما تبين وصح من علوم العربية وأصولها، ولا يكون هذا الشرط على إطلاقه بأن يكون المفسر عالماً بكل هذه العلوم فهذا من المستحيلات، وما لا يدرك بعمر واحد، ولكن المراعاة والموافقة هي المشروطة بينها. الباب الرابع: بيان الشبهة في محاولة الجمع بين الأقوال أما من قال بأن هذه الحروف تحمل في معانيها من كل قول من الأقوال السابقة شيئاً، وأن هذه الأقوال بمجموعها تدل على المعاني الواسعة للحروف، فهذا وهم، وهو من عدم التفريق بين التفسير والتأويل، وهذا الخلط هو المنبع الأساسي لشبهة لغوية وأخت لها فقهية، أما اللغوية فقد كانت خفيه، وأتت متأخرة نظراً لتأخر ظهور المدرسة الرمزية في الفنون والآداب، والتي يقاس المتمكن فيها على بعد المسافة أو قربها من المعاني المباشرة لكلمات نصوصه أو منتجاته الفنية، والشبهة هي قول بعض المتّبعين للرمزية المبهمة أو بعض المشككين في الرمزية، أن الكلمات لا ¬
تحمل المعاني وإنما السياق من يفعل، واستدل أصحاب هذه الشبهة بكلمات كثيرة منها قوله تعالى في سورة (ص) {وظن داوود}، فقالوا جاءت ظن بمعنى علم وأيقن، وهذا من سوء فهمهم لمقاصد القرآن - وهذه الآية من مفاصل البيان لما في الحروف المقطّعة من تأويل وإيضاح للمقاصد، كما سيظهر عند الحديث عن إشارات الإعجاز فيها - فالظن هو "التَّرَدُّدُ الراجِحُ بين طَرَفَي الاعْتِقَادِ الغيرِ الجازِمِ" (¬1)، و"يدلُّ على معنيينِ مختلفين: يقين وشكّ" (¬2)، "إلّاَ أَنه ليس بيقينِ عِيانٍ، إنما هو يقينُ تَدَبُّرٍ، فأَما يقين العِيَانِ فلا يقال فيه إلاَّ علم" (¬3)، وقد جاءت المعاني الثلاث: الشك والظن واليقين في نفس السورة وفي نفس السياق بقوله تعالى (بل هم في شك من ذكري) وبعدها بآيات في سياق الرد عليهم جاءت (وظن داوود) فإن نظرت بعين التدبر وجدت أن (بل) من الله تفيد اليقين والعلم التام، و (هم في شك) تفيد الريب والاتهام، وهو نقيض اليقين التام، والظن بينهما وهو إلى اليقين أقرب. وكذلك كل كلمة في اللغة تحمل معنى أوحد بذاتها تدل عليه بظاهرها، منفردة به عن سواها كما هو الحال في هذه الحروف، لأنه بانعدام هذه الحال تختلط الوظائف اللغوية للكلمات، مما يسبب نقل معنى النص المحتوي على الكلمة ليكون محتوياً على رمز مبهم، وبالتالي نقر بوجود الإبهام والإعجام في القرآن إن قسناه على غيره من النصوص، وذلك لانعدام الرابط بين المدلول اللغوي وأداة الكلام المستعملة، ولا أعني مطلق الرمز وما بنيت عليه الرمزية، فهي مذهب واسع وبحر زاخر لا مجال للخوض فيه هنا، ولكنني أقول: حتى أرباب الرمزية في النصوص النثرية والشعرية لم يجيزوا استعمال الرمز اللغوي منفصلاً عن دلالته اللغوية بشكل تام، وإن حسنوا بعد المسافة الدلالية للرمز عن المعنى ¬
المباشر، لأن الانفصال يفقد السياق عنصر المعرفة ويذهب به إلى الإبهام التام، وهو ما لا سبيل لمعرفته إلا بكونك القائل، وهذا نقيض الرمزية أصلاً، إذ هي في الأساس قامت على الإيحاء بما لا تستطيع المعاني المباشرة ولا التراكيب التقليدية أن توصله من المخاطب إلى القارئ والسامع، ولو لم تكن هناك علاقة بين المعنى والدلالة لجاز لنا استعمال الكلمات اليونانية في نص نخاطب به العرب، ولو جاز لنا ذلك وقال البعض بجوازه لقلنا هو رأيكم ولكن لا حجة لكم على المخاطبين إن لم يفهموا، بل أنتم ملومون، لأنكم قصدتم الإعجام والتعمية والإبهام، فرموزكم تستعمل في الفنون، ونقرها نحن في الأحلام لا في البيان والأحكام وما تقتضيه من إيضاح وإفصاح وإفهام، ولو كان جبران خليل جبران أو بودلير (الشاعر الفرنسي رائد الرمزية في العصر الحديث) نذير قوم لما قالا بيتاً فيه الربيع والحزن، وقصدا بهما النصر والهزيمة، ليس لاستحالته رمزياً ولكن لأن الكلمات تحكمها المقاصد الفعلية من الكلام، ويُظهر صدق غايتها وسوية قائلها السياق، والسوي ينأى بنفسه عن السفاهة والكذب الظاهر. ولهذا السبب أنكر كثير من العلماء القول بالرمزية في القرآن، لأنها تعبّر عن مذهب فكري ومدرسة أدبية لا حدود لها، بل هي تمتاز باللّا محدودية في طرح الأفكار والحواس بعبارات غامضة، ولولا الغموض فيها لما كانت رمزية، والحق والصواب أن الرمزية على إطلاقها ليست في القرآن، فإن كان لها ضوابط وقصدنا بها الكناية أو التعريض بالإشارة فهي من ميّزات الوحي الإلهي، ولولا هذه الحقيقة لما أمرنا رب العزة بالتأمل والتدبر في آياته، ومن قال بأن القرآن ليس فيه رمزية بهذا المعنى فقد جهل، والعبرة بالمسميات والمصطلحات، وهي ترتبط كما يقول مؤلف كتاب "دليل الناقد الأدبي" بتفسير وتقويم المصطلح قبل إطلاقه، أو "وضع المصطلح في سياقه الثقافي والتاريخي؛ أي تأطيره ضمن حدوده الدلاليّة التي نشأ فيها لكي تتمّ الإفادة منه بوعي بما نشأ للدلالة عليه. وهذا الجانب مغفل، أو شبه مغفل، في الكتب المشابهة سواء العربيّة أو الغربيّة، العربيّة لأنّ أكثر الباحثين العرب يرى أنّ قصارى ما يمكن للباحث العربي أن يفعله هو أن ينقل ويجيد النقل. فتقويم الأعمال التي تترجم أو تعيد تقديم المفاهيم والنظريّات والعلوم المختلفة يقاس عادة بمعيار الدقّة ومدى الانضباط وليس الاستقلال الحضاري أو الثقافي الذي يعرِّف ويقوِّم في الوقت نفسه." (¬1) فالرمزية بمعنى الكناية والتعريض ركن أساسي في فقه الأصول وسعته، ومن شذ في إطلاقها - أي الكناية والتعريض - ظهرت عنده الشبهة الفقهية، وهي الشبهة الثانية، فقد كانت بسبب الأولى وظهرت قبل ظهورها الفعلي، وهي قولهم بجواز استعمال اللفظ المشترك بجميع معانيه، من غير التفصيل بين المعاني الحقيقية والمجازية، وذهبوا للعمل بها جميعا كمعاني حقيقية، وقد استدل بعض الأصوليين على استعمال اللفظ المشترك بجميع معانيه بآيات منها قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فقالوا إن الصلاة من الله ثناء ورحمة، ومن الملائكة استغفار، وهذا قول هالك، فالصلاة ثناء على الأصل كما في معناها اللغوي كتفسير، وليس فيها تأويل يصح ولا تفصيل موزون من غير دليل، فنقل الظاهر بحاجة إلى قرينة أو دليل، وهو معدوم، إلّا إن كان الدليل هو محض الرأي أو سعة الخيال كما هو الحال في الرمزية الشعرية، وهذا كله من عدم التفريق بين التفسير والتأويل. (¬2) "ولهذا قيل: الإشارة من العبارة بمنزلة الكناية والتعريض من التصريح أو بمنزلة المشكل من الواضح، فمنه ما يكون موجباً للعلم قطعاً بمنزلة الثابت بالعبارة، ومنه ما لا يكون موجباً للعلم وذلك عند اشتراك معنى الحقيقة والمجاز في الاحتمال مرادا بالكلام. ومن ذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ... الآية 15 الأحقاف} ¬
فالثابت بالعبارة ظهور المنة للوالدة على الولد لأنّ السياق يدل على ذلك، والثابت بالإشارة أن أدنى مدة الحمل ستة أشهر، فقد ثبت بنص آخر أن مدة الفصال حولين كما قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ... الآية 14 لقمان} فإنما يبقى للحمل ستة أشهر، ولهذا خفي ذلك على أكثر الصحابة رضي الله عنهم واختص بفهمه ابن عباس رضي الله عنهما فلما ذكر لهم ذلك قبلوا منه واستحسنوا قوله" (¬1). وعليه فالكناية والتعريض ثابتة بالإشارة من ظاهر النص ومراده به، ولكن ظاهر النص لم يأت لها بسياقه، وصلى الله وبارك على نبيه وآله وصحبه ورحم علماء الأمة وتغمدنا بفضله وكرمه وأرشدنا سواء الصراط. ¬
الفصل الثالث: إشارات الإعجاز في فواتح السور
الفصل الثالث: إشارات الإعجاز في فواتح السور إن المتمعن في التفاسير وفي أقوال أهل اللغة يصير في حيرة من مضمون الحروف ومعناها وما جاء فيها من دلالات وإشارات في تأويلها، سواء كانت على أصلها أو حملت ما هو أكثر من معانيها الثابتة، وأقول إن حقيقة البيان لا تعرف إلا بإتباع الطريق الصحيح في التأويل لأي آية في كتاب الله، وهو أن نأخذ بما جاء في تأويلها مما ورد في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة رضوان الله عليهم وكلام التابعين وما جاء في كلام العرب، مراعين لواقع المخاطبين من خلال ما ذكره القرآن وذكرته الأحاديث وآثار الصحابة الكرام وما تحصل لدينا من علم بالتاريخ والآثار، لفهم واقع التنزيل وحال المتلقين كما هو، وهذا هو الحق في التأويل، أما ما كان فيه اختلاف واضطراب من أقوال التابعين ومروياتهم عن الصحابة فالمرجع فيه إلى الميزان الحق، بكفّتيه صحيح النقل وصحيح لغة العرب لنضمن البيان الصحيح، بعكس من شذ عن الطريق في تأويلها، مع الأخذ بأسباب الخلاف المذكورة سابقاً لفهم القرآن. وبما أننا قررنا بأنها من آيات المحكم لما فيها من مخالفة للمعروف من كلام العرب، ولانتفاء التشابه بينها وبين غيرها من الكلمات، ولانتفاء وجود الإشكال في فهم ظاهرها بحسب ما بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي أنها حروف، وتدل على مسميات الحروف أو حروف الكتابة، وكان تفصيلها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - "تنبيهاً على أن المعتبر في عدد الحسنات: الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر" (¬1)، ولا يكون الهجاء إلا لبيان الحروف أو لتعليم الكتابة، "ولذلك حين تريد أن تختبر واحداً في القراءة والكتابة تقول له: تهج حروف الكلمة التي تكتبها، فإن نطق أسماء الحروف؛ ¬
عرفنا أنه يجيد القراءة والكتابة." (¬1) ولأنها من المحكم سيكون بيان المقاصد فيها محكوماً بأصول التفسير وعلوم القرآن وأصول علم الحديث، وهذا ما تتبعناه سابقا لبيان الحق في معناها وتفصيل الأقوال في تأويلها بحسب الآراء، ويبقى أن نعتبر المقاصد فيها وكأنها بيان للأحكام الواردة في ظاهر النص، دون قياس أو محض رأي، لأن القياس مع الفارق باطل فكيف بانعدام الشبه، والقول بالرأي مخالف لكل الأصول السابقة. وعليه فهذه المقاصد لا تثبت إلا من أربعة وجوه كما قرر أهل الأصول في الأحكام الثابتة بظاهر النص (¬2)، وهي: الثابت بعبارة النص، والثابت بإشارته، والثابت بدلالته، والثابت بمقتضاه. ولبيان هذه الأصول نضرب مثالاً عظيماً من آيات الأحكام الظاهرة في تأديب المسلمين وتنظيم أحوالهم، وهو قوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] فمن الثابت بعبارة النص أو ظاهره هو النهي عن التأفف للوالدين، والنهي عن نهرهما من باب التحريم، والأمر بمخاطبتهم بأحسن الأقوال وأكرمها، والثابت بالإشارة هو تحريم ما بين التأفف (وهو لفظ معلوم وكل ما قام في مقامه من الألفاظ) والنهر (وهو المبالغة في الزجر) بألفاظ شائنة، أو صوت مرتفع سواء كانت استعلاءً أو سبّاً أو استهزاءً أو حتى غمزاً ولمزاً، فلو أنك رأيت من يسب أباه فأشرت بقولك له (فلا تقل لهما أف) لأقمت عليه الحجة، ولما رد عليك إلا إن كان عاصياً لأوامر الله، فتكون بذلك قد أشرت إلى ما أشار الله له في سياق كلامه مع أن اللفظ لم يأت لأجله. ولكنك إن رأيت من يضرب أمه مثلا فلن تقول له (ولا تقل لهما أف) ¬
وتشير بها على حرمة هذا الفعل، بل ستقول له حرام عليك ألم تسمع قوله تعالى (ولا تقل لهما أف) لأن الضرب فعل والتأفف والنهر قول، والإشارة تصلح مع تشابه السبب، أما مع الاختلاف فيكون معه الدليل والاستدلال، وقد استدللت بقوله تعالى على حرمة التأفف والنهر بما يلزم تحريم الضرب وهو الثابت بدلالة النص، ونحن نعلم بمجرد اللفظ أن الله أراد تحريم الضرب، فنهى عما هو أبسط الأفعال والأقوال، ولو رد عليك لكان عاصياً لأوامر الله الظاهرة، لأنه لا مجال لسوء الفهم هنا البتة، أما الثابت بمقتضى هذا النص فهو أن الفاعل لهذا الفعل عاق، وخُلقه غير محمود ودينه ناقص لا يُرتَضى، ولو أن أهل الحديث ردوا حديث العاق لوالديه لكانوا على الحق، وإن لم يفعلوا لكانوا على الباطل، ولو أن أحداً سأل عن رجل عاقّ تقدم لخطبة امرأة ولا يعلمه إيّانا؛ فأجبناه بأن دينه وخلقه لا يُرتَضى، لكنا صادقين مأجورين، ولو أجبناه بغير ذلك لكنا كاتمين للحق آثمين، ومن ذلك ما ذكره الصلاح الصفدي في الوافي بالوفيات (¬1) من ترجمة عبد القوي نجم الدين الأموي الأسنائي (686هـ) وهو فقيه فاضل، عندما تولى الخطابة والصلاة كاد له بنو السديد، فأحضروا من شهد على أبيه أنه قال عنه إنه عاق له، فأُوقِف عن الخطابة، واستقرت الخطابة لأحمد بن السديد، وعندما كان نجم الدين يصلي لا يصلي خلفه أحد، ولو لم يكن العقوق طاعناً في الدين لما سمعنا بهذا الخبر وغيره. هذا وقد تخفى بعض الإشارات والدلالات على فقيه وتظهر عند آخر بحسب العلم الذي آتاه الله إياه، ومنها كما أسلفنا بالذكر ما كان من قصة علي وابن عباس، وكيف علموا أن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر تامة لربط الدلالات والإشارات بآيات ذات صلة، وإن لم يأت السياق ¬
بالإشارة إليه صراحة، فالبحث والاستقراء هو المعتبر في التأويل، والموافقة أو عدمها لمجمل القرآن والسنة هي الحكم، من غير قياس ولا مجرد رأي. أما المقاصد الثابتة في الحروف المقطّعة فلا بد أن تتوافق مع هذه الأصول، وهي كما أسلفت من المحكم ومن محكم المحكم (¬1)، وسأبينها بناء على هذا التفصيل: بأن المقاصد الثابتة بعبارة النص تمثل المعنى الذي أوردناه، وهو ما جاء النص لإثباته دون سواه من معاني، والمقاصد الواقعة بالإشارة في هذه الحروف ونعتبرها هنا إشارة على شيء في نفس المخاطَب وهم المشركين العرب زمن التنزيل، لكون الإشارة والإيماءة لا تكون إلا للأمر بشيئ أو للنهي عن فعل أو قول معلوم لدى المخاطب، أما المقاصد الثابتة بدلالة الحروف فنعتبرها دليلاً على شيء له علاقة بكينونة الحروف وأصلها وغاية ذكرها عند القائل جل في علاه، لكون الدليل هو "إبانة الشيء بأمارة تتعلمها" (¬2)، وهي من الله إبانة لشيء بأمارة ذكرها كما هي على هذه الهيئة، موصولة الحروف في الكتابة كالكلمات، ومقطّعة في اللفظ كحروف الهجاء، لنتعلم هذا الشيء المراد وهو الدليل، وأخيرا المقاصد الثابتة بمقتضى ذكر الحروف فنعتبره المضمون من ذكرها، والمضمون من توزيعها في القرآن وورودها في أوائل السور وعددها، ومثل ذلك من مقتضى الذكر، وكل أمر قد قضاه الله في هذا الكتاب محكم ومعجز في نظمه ومقاصده، "كما نقول ¬
الباب الأول: معرفة واقع التنزيل
قضيت هذه الدار إذا عملتها وأحكمت عملها" (¬1)، وكل ما اقتضاه البناء فهو من جملة الإحكام والتمام. ولكن قبل الخوض فيها يجب علينا أن نتيقن بأن الثابت بعبارة النص وهو ما جاء السياق لأجله، هو المعنى الذي قلناه في هذه الحروف وهو الأصل والتفسير الحق، قبل الانتقال لتأمل هذا النص ابتغاء تأويله وبيان مقاصده، ونبدأ ببيان المقاصد الواقعة بالإشارة في ذكر هذه الحروف بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة ولا نقصان وربطه مع الإشارات في الآيات التالية لها في السور، لتتوضح الإشارة بتناسقها مع سواها، فتتم بمجموعها البلاغة المعهودة في كلام الله ويظهر فيها الإعجاز كما هو الحال في آيات القرآن كله. الباب الأول: معرفة واقع التنزيل لمعرفة هذه الإشارة يجب الوقوف على واقع العرب المتلقين عند نزول الحروف، وذلك بالرجوع لما ورد في القرآن لوصف حقيقة واقعهم، ولما وصلنا من مرويات وما تحصل لنا من علم بالتاريخ والآثار، مع التدقيق على كل ما له صلة بالقرآن والكتابة بشكل خاص، لكون الحروف على أصلها دالّةٌ على الكتابة والكتاب. وأهم صفة لهم تظهر واقعهم في زمن الخطاب هي الأمية كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] وقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنَّا أمَّة أمِّيَّة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين" (¬2)، فهذا وصف ¬
حال، لنفهم الذكر كما فهمه العرب المخاطبون. والأمّيّ كما يقول في لسان العرب: "الذي لا يَكْتُبُ، قال الزجاج: الأُمِّيُّ الذي على خِلْقَة الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتاب فهو على جِبِلَّتِه، وفي التنزيل العزيز: ومنهم أُمِّيُّون لا يَعلَمون الكتابَ إلاّ أَمَانِيَّ؛ قال أَبو إسحق: معنى الأُمِّيّ المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه أي لا يَكتُبُ، فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ، لأن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه أي على ما وَلَدَته أُمُّهُ عليه ... وفي الحديث: إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُب ولا نَحْسُب؛ أَراد أَنهم على أَصل ولادة أُمِّهم لم يَتَعَلَّموا الكِتابة والحِساب، فهم على جِبِلَّتِهم الأُولى. وفي الحديث: بُعِثتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيَّة؛ قيل للعرب الأُمِّيُّون لأن الكِتابة كانت فيهم عَزِيزة أَو عَديمة؛ ومنه قوله: بَعَثَ في الأُمِّيِّين رسولاً منهم." (¬1)، فالأمّيّ " في كلام العرب: الذي لا يحسن الكتابة. وقال بعضهم: هو الذي لا يعرف الكتابة ولا القراءة." (¬2) وقد علمنا بأن لهذا الأمّيّ حالات - وكلهم فصيح بلسان القوم- أمّي لا يعرف الكتابة، وأمّي بالنسب لأهل الأمّية، "فقيل نسبة إلى الأم لأن الكتابة مكتسبة فهو على ما ولدته أمه من الجهل بالكتابة وقيل نسبة إلى أمة العرب لأنه كان أكثرهم أميين." (¬3) وهنا يلزمنا ذكر حقيقة مهمة، وهي: أنه ما من أمة من الأمم غير العرب في ذلك الزمان، إلا وكانوا من أهل الكتب والكتابة، وهذه حقيقة ثابتة من ناحية النقل في كتب السير وعلم الآثار والتاريخ الحديث، فالفُرس لهم كتب والروم لهم، وأهل الكتاب (اليهود والنصارى) لهم، وأهل مصر وأهل الهند والسند لهم، حتى من سبقهم من العرب كالحميريين والثموديين وقوم عاد والأنباط، ومن سبقهم من غير العرب كالصينيين واليونانيين ¬
والمصريين والفينيقيين وأهل بابل من السومريين، إلّا عرب الجزيرة في ذلك الزمان. وقد وصَلنا ما كتبته تلك الأمم، سواء ما كان على الشواهد أو ما حُفظ في الكتب وما نقش على الجدران، لنعلم واقع العرب في ذلك الزمان، ولم يقتصر الأمر على الأمية، بل كان علم الكتابة فيهم وضيع وعديم لا يكاد يذكر، لا كما كان في الأمم حولهم، وهذا ما أثبته العرب أنفسهم وأثبته علم الآثار، فتكاد لا تجد من آثار عرب الجزيرة ما يتعدى أصابع اليد من نقوش، والهدف من البحث عنها أصلاً ما كان إلا لإثبات أصل الحروف العربية الحالية، بل وتجد في كتب علماء المسلمين من النسّابة ذكر من كان يعرف الكتابة بين العرب بالاسم! وكيف تعلموه وأين تعلموه. فأي واقع هم فيه؟ هذا من باب، ومن باب آخر كانوا أفصح الناس لساناً، لما كان في لغتهم من أصول ليست في غيرها من لغات الأمم من تصريف وإعراب وأساليب في البيان والتصوير، فكانت لغتهم أوْلى اللغات بحمل كتاب الله لهذا السبب ولأسباب عديدة، منها مثلا "أن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: {وإما تخافَنَّ مِن قوم خِيانةً فانْبذْ إليهم عَلَى سواء} [الأنفال: 58] لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: (إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء) " (¬1)، والبلاغة في الشعر عندهم كانت مقياساً للشرف، كمقياس العلم في الأمم الأخرى، وفي هذا قال الجاحظ: "وليس في الأرض أمّةٌ بها طِرْق أَوْ لها مُسْكَة، ولا جيلٌ لهم قبضٌ وبسْط، إلاّ ولهم خطّ، فأمّا أصحاب الملك والمملكة، والسلطانِ والجِباية، والدِّيانة والعبادة، فهناك الكتابُ المتقَن، ¬
والحساب المحكَم، ولا يخرج الخطُّ من الجزْم والمسنَد المنمنم والسمون كيف كان ... فكلُّ أمّةٍ تعتمدُ في استبقاءِ مآثرها، وتحصين مناقبها، على ضربٍ من الضروب، وشكل من الأشكال ... وكانت العربُ في جاهليَّتها تحتال في تخليدها، بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون، والكلام المقفَّى، وكان ذلك هو ديوانها، وعلى أنّ الشعرَ يُفيد فضيلةَ البيانِ، على الشاعر الراغب، والمادح، وفضيلةَ المأثُرة، على السيِّد المرغوبِ إليه، والممدوحِ به ... فقال بعض من حضر: كُتُبُ الحكماءِ وَما دَوَّنت العلماءُ من صنوف البلاغات والصِّناعات، والآداب والأرفاق، من القرون السابقة والأمم الخالية، ومن له بقيَّة ومن لا بقيّة له، أبقى ذكراً وأرفعُ قدراً وأكثر ردّاً، لأنَّ الحكمةَ أنفعُ لمن ورثها، من جهة الانتفاع بها، وأحسنُ في الأحدوثة، لمن أحبَّ الذكر الجميل .. والكتبُ بذلك أولى من بُنيان الحجارة وحِيطان المدَر؛ لأنَّ من شأن الملوك أن يطمِسوا على آثار مَن قبلَهمُ، وأن يُميتوا ذكرَ أعدائهم." (¬1) ويقول الخفاجي: "لم يكونوا أهل تعليم ودرس، ولا أصحاب كتب وصحف، ولا يعرفون كيف التأديب والرياضة، ولا يعلمون وجه اقتباس العلم والرواية. وفي كلامهم من الحكم العجيبة، والأمثال الغريبة، والحث على محاسن الأخلاق، والأمر بجميل الأفعال، ما إذا تأملته غض عندك ما يروى عن حكماء اليونانيين." (¬2) بذلك يكون إعجازهم بالنظم في مهد ما يفتخرون به ويقيسون عليه بلاغة القول ونظم الكلام، كما في إعجازهم بحفظ القرآن في صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس بشعر يوزن وقد "كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك" (¬3)، ومن هنا نعلم لماذا نزه الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن نظم الشعر بقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ .. الآية 69 يس} فقد "كان رسول الله صلى عليه وسلم لا ¬
يقول الشعر ولا يزنه" (¬1)، ونظم الشعر ووزنه وحفظه ليس نقيصة بل هو صنعة القوم وفخرهم، وكذلك ما سبق في قوله - صلى الله عليه وسلم - "نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب"، فليست بفخر، بل هي وصف حال، لنفهم الذكر كما فهموه. (لطيفة: "روي أن المأمون قال لأبي علي المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن. فقال: يا أمير المؤمنين، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكتب ولا يقيم الشعر. فقال له: سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعاً وهو الجهل، يا جاهل! إن ذلك كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لنفي الظنة عنه، لا لعيب في الشعر والكتابة." (¬2)) والبلاغة في اللغة العربية معلومة علم اليقين لما وصلنا من أشعار العرب، وما فيها من بلاغة قبل الإسلام وبعده وما ورثناه نحن منهم، أما انحطاط كتابة اللغة، وانحطاط حروفها قبل الإسلام، فمعلوم علم اليقين لما توصل إليه علم التاريخ ومقارنة اللغات، من قلة الشواهد التاريخية للغة العربية وانعدام الكتب عندهم، وما كانت عليه حروفهم الكتابية (لا الصوتية) من إبهام وما كانوا يصفونها به، فقد سميت حروف الكتابة عندهم بحروف المعجم، ومعجم من عجم، "العُجْمُ والعَجَمُ: خِلافُ العُرْبِ والعَرَبِ" (¬3)، "وأعرب الرجل: أفصح القول والكلام" (¬4)، وفي ¬
ذلك يقول الخفاجي: "أما قولهم للحروف التي في لغة العرب حروف المعجم، فليس بصفة للحروف، لأن ذلك يفسد من وجهين؛ أحدهما: امتناع وصف النكرة بالمعرفة، والثاني: إضافة الموصوف إلى صفته، والصفة عند النحويين هي الموصوف في المعنى، ومحال أن يضاف الشيء إلى نفسه" وبين أن المعجم لا يأتي بمنزلة الإعجام "لأنه ليس معناه حروف الكلام المعجم، ولا حروف اللفظ المعجم ... بل يجوز أن يكون التقدير: حروف الخط المعجم؛ لأن الخط العربي فيه أشكال متفقة لحروف مختلفة عجم بعضها دون بعض ليزول اللبس. وقد يتفق في غيرها من الخطوط أن تختلف أشكال الحروف فلا يحتاج إلى النقط؛ فوصف الخط العربي بأنه معجم لهذه العلة. وقيل: حروف المعجم، أي حروف الخط المعجم كما يقال: حروف العربي؛ أي حروف الخط العربي." (¬1) فالإعجام عكس الإعراب والإبانة والإيضاح، ويطلق على ما لا يفصح ولا يبين القول، كوصفهم لكل من لم يتحدث بلسانهم أعجميّ، والحروف معجمة لأنها مبهمة عند قارئها، فلا تعرف النون من الباء ولا الدال من الذال مثلاً، وهي لا تماثل الحروف الصوتية، واختلف في عددها بين خمسة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر، والصحيح عندي أنها خمسة عشر للشواهد التاريخية، ولو لم تكن مهملة ومعجمة لما اختلفنا على عددها. ¬
الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص
الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص ما سبق هو واقع التنزيل لأول السور المفتتحة بالحروف المقطّعة، ومنها هذه السور (القلم، ق، ص) وهذه السور مكية بالإجماع، وكانت سورة القلم (ن) من أول ما نزل من القرآن وأول ما نزل من فواتح السور، وكلها أتت على نسق واحد في واقع التنزيل، وهو أن المشركين نعتوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكرم ذكره بالكذب والسحر والكهانة والجنون، وقد أتى نعتهم هذا بعد إعجازهم بنظم القرآن وبيانه وحفظه، فجاءت هذه السور بالقسم الإلهي أن رسول - صلى الله عليه وسلم - صادق، وجاء الرد أولاً في (ن) بأنه ليس بمجنون، فالمجنون لا يجمع هذه العلوم في صدره من غير معرفة بعلم الكتابة وعلم الحروف، حتى الشعر لا يعرفه، وهو من أساليب نقل العلوم. فلن يعلم ما جاء في ذكر الأولين والآخرين وما يصلح للحكم والتشريع إلا من باب واحد، وهو السماء والوحي من خالق العباد، الخبير بما أنعم على البشر من حروف ولغات وأسباب لتحصيل العلوم، وهنا نزل قوله تعالى {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)} فقد جاءت هذه السورة للرد على قولهم مجنون، وقالوا عنه مجنون لأنه ادعى القدرة إصلاح البشر جميعاً بما يقرأ من آيات، وقال بأنه أُرسل للناس كافة وليس لهم فقط، وأن الكتاب الذي أُنزل عليه فيه علم الأولين والآخرين وفيه شرع الله لأهل الأرض أجمعين، فهذا هو سبب التنزيل الظاهر في الآيات، وجاء في آخر السورة {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)} أي مع إعجابهم بك واستغرابهم بما لا يطيقه بشر، وما لا يمكن لرجل أن يفعله حتى كادوا ليوقعوك أرضاً من عيونهم ومن نظراتهم، هم يقولون بل هو مجنون! أوَمَا علموا أنها رسالة لجميع الأمم؟ وهي عزّ وفخر لهم لكونها بلغتهم؟ فامض يا محمد بالرسالة ولسوف يرون بأعينهم ما تؤول له الأمور.
وكذلك جاءت سورة ق {ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} فقد نزلت لاستغرابهم بأن الرسول منهم فكذبوه وأظهروا كفرهم بالبعث، مع إيمانهم بأن الخالق هو الله، وهذا ظاهر في قوله تعالى بعد ضربه المثل بالأقوام التي كفرت {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} أي أعجزنا عن ابتداء الخلق من العدم لنعجز عن خلقه مما وجد، وجاء في آخر السورة {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} تأكيدا من الله أن الإيمان بالبعث لا يُجبر الناس عليه، وإن كانت الحجة فيه دامغة كما جاءت، فهو في قرارة النفوس ولا مجبر للنفوس إلا الله، ورسول الله بشر ليس بيده الإيمان والكفر، وجاءت هنا إشارة عظيمة على خفايا النفوس، لأن ما جاء على لسان الكافرين لم يكن السبب الحقيقي في تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل هو عجبهم بأن يكون رسول الله من البشر، فتوعد الله الكافرين بما قالوا وزعموا وظنوا، وأمر الرسول بالتذكير لمن آمن بالبعث وأيقن بأن الله محي الموتى بقوله {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} وهذا الأمر جاء لإحقاق الغاية من نزول السورة، وهي ذكّر بالقرآن من يخاف وعيدي وأكمل الرسالة ليعلم الكافرون بأن الله يصطفي من عباده رسلاً، وأنه متمم أمره على لسانك، وهو وحده الجبار الذي بيده نفوس البشر. وما محمد - صلى الله عليه وسلم - وما في نفسه إلا من عظيم جبروت الله في بشره، بأن جعل من أنفسهم رجلاً هو كالرجال من البشر ولكنه على خلق عظيم، وله نفس طاهرة مطمئنة بأمر الله، وهو قادر على حمل رسالة الله للبشر جميعاً. ولكنهم أصرّوا واستكبروا وكانوا في عزة وشقاق، فقذفوا الرسول بأبشع الأقوال ووصفوه بما لا
يليق به، وأصروا على نكران الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه منهم فجاءت قاصمة الظهور في سورة ص {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (6)} وهي القاصمة لظهور المشركين لأن فيها نقض الحجج جميعها مما يدعون، فقد جاءتهم الرسالة على لسان نبي عربي من بني جلدتهم، فأنكروا وتعنتوا بأن يكون رسولاً منهم - والله قادر على أن يبعث مَلَكاً أو أن يبعث معه ملك - وكل هذا الإنكار والتعنت منهم وهو يحمل البرهان الساطع على صدق رسالته، والدليل الواضح على أنها ليست اختراعاً من نفسه، ولا هي خديعة لهم طمعاً بأيٍّ من أغراض الدنيا ومتاعها. وما يدعوهم به من قرآن يأسر القلوب بأسلوبه، ويطهرهم بما يحمله من معاني، ويدعوهم إلى محاسن الأخلاق، ويذكر السماء وما فيها، والأرض وما عليها، والنفس البشرية وما حوته من أسرار، بل ولا يقولون قولاً بينهم أو في أنفسهم إلا وجاءهم به، مع هذا كله أخذتهم العزة بالإثم، وقالوا ما هذا إلّا سحر، وإن لم يكن مما سمعناه أو عرفناه عن السحر، فكيف نؤمن بك ونعادي الأمم كلها فيكون هلاكنا، وكيف نؤمن لك وما أنت إلا واحد منا، وما تريد إلّا أن تسحرنا بهذا الكلام، أمّا ما نريده نحن فهو ما نحن عليه، وما وجدنا آباءنا عليه من تعدد الآلهة، وسنصبر عليه لأنه الحق، والدليل بزعهمم أنّه حتى النصارى عبدوا آلهة متعددة ولم يوحدوها وهم أهل كتاب، وما هذا إلا سحر بحسب تحليلهم وإن لم يرَوا له مثيلاً، وكأنه بدعة من السحر لم يكن لها مثيل قبل ذلك. فشاقوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأقوالهم وناصبوه العداء، والسبب الظاهر في كلامهم أنهم أنكروا أن يكون الرسول منهم فقط، كما يظهر من قولهم {أَؤُنزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} فجاء الرد على تعنت المشركين وشقاقهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وما قالوه فيه وما دعوا أنفسهم
إليه، وجاءت لإبطال حججهم وبيانها، فضربت الأمثال العظيمة لرد الحجج الباطنة في نفوسهم والظاهرة على ألسنتهم، وأهمها العجب من كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم كما قال تعالى {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4] {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8]، وجاء الرد عليها ظاهرا ومتضمناً للإشارة على رد شبهة تعدد الآلهة من وجهين، والإشارة على وجه واحد لرد شبهة السحر، ومهد للرد على حجة الوراثة في دين الآباء، والدعوة للصبر عليه، وكل رد مهد لما بعده بأروع ما يكون من بلاغة وتسلسل في النظم، فكيف جاء الرد على هذه الحجج وإبطالها؟ لنعرف التشابه بين الإشارات فيها مجتمعة والإشارة المبتغاة لتأويل الحروف. الحجة الأولى: جاءت قصة نبي الله داود مع الخصم قبل الحديث عن سليمان وما ورث من ملك، فقال تعالى {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25) ص} فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر - كما كان في السور قبلها- وأمره بذكر قصة داود، وكيف سخر الله الجبال تسبح بتسبيحه، والطير تحشر له، وقد شدّ الله ملكه وأعطاه الحكمة فوق الملك، وأعطاه البلاغة في القول، فتمت له أسباب الحكم والقضاء في الأرض، والشاهد في ذكر هذه النعم هو موطن الفتنة فيها، والاستشهاد به هو الدليل على بطلان الحجة،
فما هو موطن الفتنة؟ هو نبأ الخصم إذ تسوّروا محراب داود، وهم من الملائكة، وهذا ظاهر في قولهم (لا تخف) كما قالت الملائكة لإبراهيم (لا تخف) وفيه البيان بأن حالهم ليس من حال البشر، كما في حال المرسلين لإبراهيم عليه السلام من عدم الأكل وغرابة الهيئة، وحالهم هنا هو القدرة على الظهور من الأسوار واختراقها، وهو سبب الخوف. وتأكيداً على أنّهم من الملائكة قولهم "فاحكم بيننا بالعدل ولا تشطط"، فلا يأمر الناسُ ملِكاً سُخّرت له الجبال والطير وعُرف عنه الحكمة والبلاغة بقولهم (لا تمل أو لا تجر وتتجاوز عن الحق) (¬1)، فلا يقولها إلا من كان في وجوده مهابة، قال النحاس: "ولا اختلاف بين أهل التفسير أنه يراد به (أي بالخصم) ههنا ملكان" (¬2)، وأقول لم يخالف إلا من أخذ الآية على ظاهرها، ولم يفهم المقصود منها، فأوكل أمر علمها إلى الله ولم يتأوّلها (¬3). ومن ثم طرحوا عليه المسألة، وفيها موطن الفتنة، وهي مسألة بسيطة لو طرحت على أي عاقل لأفاد بأنها من الظلم والجور، ولَحَكم فيها بما حكم به داود وهو النبي والملك العادل الحكيم البليغ، فهذا له تسع وتسعون نعجة وهذا له نعجة واحدة، أو كان لغيره تسع وتسعون بقرة أو مثقالاً أو صاعاً من شيء، ولغيره بقرة أو مثقالاً أو صاعاً من ذات الشيء، فكيف يستقيم إجبار صاحب القليل على ترك الواحد لمن له تسع وتسعون، فالهوى فيها ظاهر ظهور الشمس وحكمه فيها هو عين الحق، ولكنه ليس الحق فيمن سأل، فالسائل ملَك من الملائكة، والخصمان من أهل السماء، وداود ملك في الأرض، وحاكم على أهل الأرض من البشر، فكيف يحكم بين من لا يعلم أحوالهم وما هي نعاجهم، ولو تشابهت الكلمات فلن تتشابه الأفهام والأحوال، فالخصم من أهل السماء والقاضي من أهل الأرض، وحكمه فيهم لا يصح ولو كان بأبسط القضايا المعروفة على الأرض، ولو حكم أهل السماء وأهل الأرض على بعض؛ لما أستخلف الله بني آدم في الأرض، فقد حكمت الملائكة وقالوا ¬
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ... الآية 30 البقرة} فالحكم لا يكون إلا بما أمر الله وما قرر من أحوال، لعلمه بما تختص به بعض المخلوقات عن بعض، كما رد الله على قول الملائكة تمام الآية {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، والشاهد في القصة أن رسول الله إلى البشر لو لم يكن منهم لبغى عليهم، حتى لو كان من الملائكة، لعدم معرفته بحالهم وما يصلح للحكم بينهم، كما أن داود ظلم في حكمه بين الملائكة لذات السبب، فكيف تعجبون بأن الرسول منكم وهي رحمة من الله، ولو جعله الله مَلَكا لقضي عليكم من جهتين، سواء أردتم ذلك أم أراد الله ذلك، فإذا أردتم ذلك لقضى عليكم بالحكم في أبسط المعاصي، كما قضى الملائكة في أبيكم آدم، وإذا أراد الله أن يكون ملَك فسيكون مبعوثاً من الله لإنفاذ حكمه، كما هو الحال في الأمم قبلكم، وهو ما جاء في قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] ولو أردتم أن يكون ملَك ويحكم بحكم البشر، لكان على هيئة البشر لاستحالة رؤيته على هيئته، ولعدتم لِما تقولون مهما كانت أحكامه كما في قوله تعالى بعدها {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} ولكن داود عليه السلام لم يحكم فقط، بل أعطاهم الحكمة ليهديهم سواء الصراط، فبين لهم سبب الخلاف بقوله إن سنة الله في الخلطاء أن يبغي بعضهم على بعض في أكثر الأحيان، إلا من آمن منهم وعمل الصالحات، وهم القلة، ولكن الباغون هم الأكثر، وقياسه هنا كان بين الخلطاء في الأرض والخلطاء في السماء وهو القياس الخاطئ، وليس الخطأ في الحكمة، ولوضوح الفكرة في موطن الفتنة تنبه داود عليه السلام لها بعد إصداره للحكم. ولبيان ذلك نقول لو كانت الرواية عن قاض عادل تفاجأ بوجود شخصين في صدر بيته في ساعات الليل أو في وقت راحته، فخاف منهما لصعوبة الموقف، فبادراه بالقول لا تخف إنما أتيناك نسألك في مسألة لتقضي بيننا، هذا يملك أرضاً مساحتها آلاف الأمتار، ولي بجانبها مئة متر، ويريد أخذها مني، فماذا سيقول؟ من المؤكد أنه سيجيب على سؤالهم، ولكن ستبقى في نفسه حيرة من أمرهم وأمر سؤالهم، فإن ذهبوا ورضوا بحكمه، علم أنهم سفهاء، وإن لم يرضوا بحكمه علم أن من وراء السؤال فتنة، إما أنّهم جاءوا يقصدون الشر أو كانوا يستنطقونه بهذا الحكم لغاية في
نفوسهم، وكذا الأمر في قصة داود، وقد علم أن السائلين ابتداءً ليسوا بسفهاء، لأنهم ليسوا من البشر، وما أتوا إلا لعظيم، وعلم أنهم لا يكذبون لأنهم لو كانوا كاذبين لما كانوا من الملائكة بل كانوا من الشياطين، وهم إذ صدقوه وأظهروا عدم قصدهم الشر بقولهم (لا تخف) فهي الفتنة لاستنطاق الحكم منه، فعلم أن النعاج والسائل عنها أعلم من المسئول، وليست المسألة بهذه البساطة، وهنا ظن داود بعد انتهاء الحديث بينهم أنما يريد الله أن يختبره (¬1)، والظن هنا فعل نفسي بين اليقين والشك، وهو أقرب إلى ليقين لتوافر المسببات الداعية له (¬2)، والظن لا يُبنى إلّا على ظن، ولا يبنى على يقين أو محض شك (¬3)، كما أن ظنّ داود مبني على ظنّه القدرة على الحكم بين هذين الخصمين، وتقديرها هنا وظن داود أنها فتنة كما ظن أنّه قادر على الحكم بين الخصمين، فخر لله ساجداً واستغفر ربه ورجع إليه يطلب منه المغفرة، فغفر له؛ لأنه لم يخالف أمر الله في الحكم بالعدل، بل هو لم يتبع ما بين الله له من أسباب الحكم بالعدل، وهي مسببات الحكم باليقين، وقد بيّن الله هذه الأسباب بعدها كما ذكّر بها داود عليه السلام بقوله تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} فهو خليفة في الأرض لا في السماء {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} فحكمه بين الناس لا بين غيرهم من المخلوقات كالملائكة، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إشارة بأن داود لم يحكم بالهوى قطعاً حتى وإن جانب الصواب، لأن الحكم بالهوى يقضي البقاء على ما يهوى الحاكم، أما داود فقد خر من فوره ساجداً طلباً للعفو، ولذلك غفر الله له فيما ابتلاه، ولو حكم بالهوى لحكم لصاحب التسع والتسعين، لعلمه بأنه الأقوى بينهم، وداود أضعف منهما، والوقوف مع القوي فيه عزّ وقوة، وهو لم يأخذ بهذه ¬
الأسباب فخرج حكمه مجانباً للعدل، وبعد ذلك جاءت {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} وفيها توعد الله من يحكم بالهوى أن له عذابا شديدا. فهذه قصة داود وهو أحكم ملوك الأرض مُلكاً وأوسعهم حكمة وأعدلهم جميعا، وهو النبي الملك لم يحكم بالعدل في أهل السماء، لأنه ليس منهم، وهذا السبب هو نقض حجة المشركين في تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه منهم، فأي حجة لهم بعد هذا البيان. وجاء في وسط السورة {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)} وذكر بعدها قصة خلق آدم واستعلاء إبليس، وكلها إشارات بذات النظم المتناسق. الحجة الثانية: وهي قولهم كذّاب، وجاءت الإشارة على هذه الحجة وردها في حال الخصم وهم من الملائكة، ولفهم هذه الإشارة لنفرض أن اثنين من أهل مدينة حضرية علم الناس بأنها مكان يستحيل فيه عيش الأغنام لما عرف من حالها، وكانت لهم هيبة، وعلمنا بأن أهل تلك المدينة عُرفوا بطيب الأخلاق وحسن المعاملة فيما بينهم وبين الناس، ولم يقل أحد فيهم يوماً بسوء، فقال أحدهما في مجلس بمدينة أخرى: إن عندي مئة نعجة، بلغة الجالسين لا بلغته، لعدم معرفة الجالسين بلغته، فماذا سيتبادر لذهن الجالسين؟ أما السفهاء ومن لا يقْدر الناس قدرهم فسيهزأون به ويظنونه مدعياً كذاباً، وأما غيرهم فسيعلمون أنّه صادق، ويلتمسون لكلامه معنى، إما أنه يملكها في مكان يصلح لها أو أنّه قصد بالنعجة شيئاً آخر أو أنه يملكها بمدينته ولا يعرفون كيفية حفظها، وفي قصه داود كانت لديه خيارات، الأول: هو تكذيبهم، ولم يكن ليفعله أو ليظنه لحالهم ولمعرفته بأن أهل السماء لا يكذبون، والثاني: هو تصديقهم من غير سؤالهم عنها وفيه رفع لشأنهم واحترامهم، والثالث: هو تصديقهم مع سؤالهم عن حال نعاجهم وما هي على الحقيقة وهذا إن حصل ففيه التقليل من شأنهم، لأنهم سألوه عن مسألة ولم يقصّوا عليه خبراً، فاختار الثانية لحكمته، وكان ينبغي أن يقول علمها عند ربي وما أوتيت من العلم والملك إلا
قليلاً. والإشارة هنا في اختيار داود للثانية، وهي دلالة على أن السفهاء هم فقط من يكذّبون أهل الصلاح والتقوى، ويظنون بهم ظن السوء، وأهل الحكمة يصدّقون من عُرف بالصدق حتى سمي الصدوق بينهم، أو يصدقوه حتى يتبين لهم ما يقول من الحق، وبذلك جاء التقريع للمشركين. وفي هذا يقول ان خلدون: "ولا تنكرنَّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله، فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات ... وليس ذلك من الصواب، فإن أحوال الوجود والعمران متفاوتة، ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلها فيها ... فليرجع الإنسان إلى أصوله، وليكن مهيمناً على نفسه، ومميزاً بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته. فما دخل في نطاق الإمكان قبله، وما خرج عنه رفضه." (¬1) الحجة الثالثة: وهي القول بتعدد الآلهة، وقد جاءت الإشارة عليها من وجهين، الأول في قول داود بأن الخلطاء يبغي بعضهم على بعض، وهذا إن تشابهت أحوالهم، وكذلك الآلهة إن كانوا خالقين كلهم، وزعم كل منهم بأنه المستحق لعبودية الآخر، كما هو الحال عند البشر المخاطبين، فهم من الخلطاء وتتشابه أحوالهم، وبالتالي سيبغي بعضهم على بعض، وسيستعلي أحدهم على الآخر، وهو مذكور بالنص في قوله تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] واختار داود كلمة الخلطاء ولم يقل الناس، لأنه قد أوتي الملك والحكمة وعلّمه الله مما يشاء كما جاء في سورة البقرة بقوله تعالى {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} وجاءت الإشارة للوجه الثاني بما حكم به داود وما يقتضيه الملك ¬
والحكم من رحمة الحاكم بالمحكوم قبل العدل، ولو لم يرحم الحاكم لفسدت أحوال المحكوم، كما أنه لو كان في الأرض إله وفي السماء إله، وحكم كل إله على الآخر ومن تبعه، فسيحكم من غير رحمة لإثبات وجود ولاستفراده بالحكم، مما يؤدي لفساد الأحوال في السماء والأرض كما في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الانبياء: 22]. الحجة الرابعة: وهي ما وجدوا آباءهم عليه، والزعم بأنهم أحق بالإتباع، وهذا ما يريدون بالنهاية، وجاء الرد ضِمْنِيًّا عليها من ثلاثة وجوه، الأول بكلمة (واذكر) لقصص الأنبياء داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذا الكفل - عليهم السلام - وكأنه يقول هؤلاء سلفك، أما سلفهم فهم قوم نوح وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة - وقد ذكرهم قبل الأمر بذكر الأنبياء - فلينظروا من أحق بأن يُتّبع، أهم الصالحون أم الهالكون، والوجه الثاني بذكر سليمان عليه السلام وذكر قصة أبيه داود عليه السلام، ولإيضاح هذا الوجه، لنفرض أن رجلاً قام في قومه وهم أهل تجارة، فقال لهم إنني أدعوكم لإتباع نظام تجاري يضمن لكم أن تكونوا سادة الأمم وأغناهم جميعاً، فافعلوا كذا وكذا، فقالوا له بل ما نحن عليه أفضل وأجدى مما تقول، وقد ورثنا هذه التجارة عن آبائنا وهم أهل تجارة كابراً عن كابر، فقال لهم يا قوم أنا لا أخترع هذا النظام، فقد اتّبَعتهُ أمم من قبلكم فسادوا على من سواهم، وجمعوا ما لم تجمعه أمة من الأمم، وأنتم تعرفونهم وسمعتم بهم ولم تعلموا بعد ما هو نظامهم، وأنا أقول لكم إن هذا هو نظامهم خالص لكم من غير تعب، وكذلك ذكر قصة داود وسليمان وهم من حكموا الأرض بكلمة لا إله إلا الله، وكان لهم ما لم يكن لأمة من الأمم، أما الوجه الثالث فهو بذكر الوراثة من داود لسليمان عليهما السلام، ولإيضاح هذا الوجه لنفرض أن اثنين من التجار ورَّثوا أبناءهم كل ما تعلق من تجارتهم من أموال وأفكار وطرق، فورث أبناء
الأول مالاً وفيراً ومجداً في الأسواق، وكان له أساليب في التجارة، ولم يكن لأبنائه علم بها ولا دراية، وورث أبناء الآخر ديوناً في أعناقهم وسمعة سيئة، وكانت لأبيهم أساليب في التجارة أيضاً، ولم يكن لهم من علم ولا دراية بها كما كان أبناء الأول، فمن منهما - وأعني التجار - أحق بأن يُتّبع في مسلكه؟ أيعقل أن يكون الثاني؟ فجاء ذكر الوراثة في الملك والحكمة والنبوة لسليمان من أبيه داود، وقد ورث منه الخير كله، والتقريع هنا بالسؤال لهم: أفي آبائكم من هو كداود أيها المشركون؟ أورثتم عن آبائكم مُلكاً ذاع صيته بين الأمم؟ أورثتم عنهم الحكمة حتى جاء القاصي والداني ليسألكم ويتقاضى عندكم؟ أورثتم عنهم مكارم الأخلاق وهذا حالكم؟ أورثتم عنهم الصلة بين الله والبشر كما ورث سليمان من أبيه، فكان حقاً عليه أن يتبعه؟ ولكن ما حالهم بخاف عليهم، وما حال آبائهم بخاف عليهم أيضاً، فلم يكن بينهم من نبي كما يعلمون، فالوراثة في المسلك والدين تكون للأخيار ومن في آثارهم دعوة لسيادة الأمم بالحق والفوز بما عند الله، وهي إشارة أيضاً على أن الوراثة في الملك والنبوة لا تكون إلا لمن شاء الله أن تكون فيه، وقد شاء الله أن يكون الحكم في يد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتنبهوا يا جاهلين فإن الله متمم ما أراد لا محالة {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}. الحجة الخامسة: وهي حجة السحر والكهانة، فبعد الإشارة على وجه منها في قصة داود، وهو قول الملكين (لا تخف)، وفيه الإشارة على أنّهم لو كانوا شياطين لما أمروا بالمعروف بتهدئة فزعه، ولو كانوا شياطين لاستغلوا فزع داود لأخذ ما يريدون، فالشياطين تتبع الزلات وما يوجبها، والخوف من أكثر ما يوجب الزلات، والله لا يؤاخذ عبداً قال كلاماً وهو خائف، ولو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساحراً ويتبع الشياطين لفعل ما تفعل الشياطين وسلك مسلكها من غير نظر للغاية في دعوته، وقد رد الله عليهم الحجة بذكر قصة سليمان عليه السلام، وذكر ما وهبه له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه سخر له الريح تجري بأمره، وسخر الشياطين تعمل
بأمره، ووجه الدلالة في ذكرها هو البيان بأن السحر وإن كان شأنه عظيماً كما يعتقدون إلا أنّ له حدوداً، وحدوده المعلومة في أيدي أهل السحر من شياطين الإنس والجن (السحرة والمردة)، ومردة الشياطين قد حكمهم سليمان كما حكم الإنس بإذن الله، لأنه مرسل من خالق الإنس والجن وخالق الحدود بينهم، ورسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من سليمان وغيره من المرسلين، فهو خاتمهم، وكفاه هذا فخراً عن كونه حاكماً على الإنس والجن، وهو ليس برسول قوم دون سواهم، فكيف ترمونه بالسحر والسحر له حدود معلومة، وما تجدوه من أمره لا حدود له كما تعلمون، ولم تستطيعوا تقديره حتى. وفي آخر السورة قال تعالى {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} تأكيد من الله لإبطال حجتهم بأنه لو كان ساحراً يا سفهاء لكان كغيره من السحرة، ولطلب على سحره الأجر بما هو متاع في الدنيا، ولم يكن ليعاني كما هو الآن، ولو كان يتكلف على نفسه أو يكلفه غيره بطلب مادي، لكانت لديه غاية دنيوية، كما هي عند السحرة كلهم بلا استثناء، وكما هو الحال عند الكهنة بأن يكونوا مكلفين دائماً بالتكهن ويطلبون عليه المتاع، ولكنه رسول الله للناس جميعاً، والرسالة الإلهية تستحق المعاناة، وتستحق التضحية، ولسوف ترون بأم أعينكم كيف يكون من أمر هذا الدين. الحجة السادسة: وهي قولهم اصبروا على آلهتكم إن هذا شيء يراد، أي إن هذا هو الحق فاصبروا عليه، وجاء الرد عليه من وجهين، الأول في قوله تعالى قبل ذكر الأنبياء (اصبر على ما يقولون) أي اصبر على هذا الأذى من أقوالهم وهذه المحنة من أفعالهم، وفيه بيان بأن الصبر يكون على الأذى وما فيه من المشقة، وليس على الراحة والعيش الرغيد، أما الثاني فبذكر قصة أيوب عليه السلام، وما كان بهِ من أَذَى في جسده، وما في عيشه من عذاب، فصبر واحتسب عند الله، ودعا الله أن يخفف عنه بعد طول صبره، فجعل الله فيما جاوره من ماء شفاءً لمرضه، وردّ
الباب الثالث: إشارة الإعجاز في الحروف وموافقتها لمجمل الإشارات
عليه ما شاء من أسباب العيش الكريم، فكان التأكيد هنا على أن الصبر لا يكون إلا في الشدائد، ولا يكون في النعيم كما كان من حال المشركين، فقولهم اصبروا على آلهتكم لا معنى له، ولا يستقيم عقلاً، ولا يقوله إلا سفيه جاهل، وكأنك سألت رجلاً أنعم الله عليه بشتى النعم عن حاله فرد عليك بأنه صابر، وسيصبر على هذا الحال. الباب الثالث: إشارة الإعجاز في الحروف وموافقتها لمجمل الإشارات وبعد استقراء الحجج والإشارات نسأل أنفسنا: هل هذه هي الشبهات كلها؟ أم بقيت شبهة لم نتطرق إليها، ولم يأت الرد عليها في سياق السورة؟ وأقول: بل بقيت شبهة عند المشركين ذكرت في قوله تعالى {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] وهي الشك في ذكر الله. فكيف شكوا بذكر الله؟ والشك بالكلام أو الرسالة بشكل عام لا يكون إلا في ثلاثة: شك في أصله أو في محتواه أو في غايته. فهل شكوا بهذا الكلام لكونه لا يليق بأن يكون من عند الله؟ وبالتالي شكّوا بصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذا مستحيل لقوله تعالى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فقد قرر الله بأنهم موقنون به، بل وعجبوا أيضاً، والعجب يأتي بعد اليقين لا بعد الشك، ولا حتى بعد الظن - وهو الأقرب لليقين - إذن فهل شكهم كان في ذات الكلام بما يحتوي من قصص وغيب وتشريع؟ ولو فرضنا ذلك لكان الرد عليه قد تحصل، لأن الردود دارت حول هذه المفاهيم، ولم تبين الآيات موطن الشك، وهذا بعيد لعدم ترابطه مع البيان، يبقى أنهم شكّوا بأن كلام الله لن يصل لما وعدهم به قائله؟ ولذلك كفروا به، وهذا أقرب للسياق لأنه يتناسب ويتناسق مع الرد في نهاية السورة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} ويتناسب أيضاً مع ما يشبه هذا الرد في أواخر السور الأخرى وهو الأقرب للعقل، ولكن ما هو سبب شكهم؟ وما علاقته بكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم (وهم الأميون كما في واقع حالهم)؟ وإن أقررنا بهذا، فلا بد من وجود الرد
على هذه الشبهة في ذات السورة، حتى وإن لم نثبت موطن الشك في ذات السورة، إذ لا بد من وجود قرينة أو دليل عليه في القرآن، أما الرد على الشبهة فلا بد أن يكون في ذات السورة، لأنه كان رداً على شبهة واقعة، ولا يعقل ذكرها من غير الرد عليها، فأين وقع ذكر الشك في كلام الله أو الشك في كتابه في القرآن؟ نجده في قوله تعالى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: 45] وجاء في سياق الرد على المشركين لتشابه حالهم مع حال بني إسرائيل في شكهم من الذكر، وقد جاء هذا التشبيه بسبب قول المشركين "لو كان هذا الكتاب أعجمياً لا عربياً! " إذن موطن الشك له علاقة واضحة بكونهم عرباً وأمّيين، وأن الرسول منهم كما سبق، وهذه الآية من سورة فصلت، وهي من سور الفواتح وهي مكية أيضاً، وابتدأت بقوله تعالى {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} وقد نزلت على الأغلب بعد سورة (ص) مباشرة لتفصل القول المبين، وأشارت لكون القرآن عربي بمجمله - لغته وكتابته - وسُمّيت فصلت لا لرد طلب سخيف من المشركين لكي ينزل القرآن بلغة أخرى لا يفهمونها!! بل جاءت لتفصّل القول في شبهة هي من أعظم الشبه على الإطلاق، فقد تجلى في هذه الشبهة مكر المشركين من العرب في ذلك الزمان، ليس هذا وحسب، فقد جاء فيها ذكر دلالة عجيبة لم يذكرها أحد لا في السير ولا في التاريخ، وأتت بقوله تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ الآية 44 فصلت} ولم يتنبه لما وراءها أحد (¬1)، فهذه الآية لم تأت لرد الطلب بجعل القرآن أَعْجَمِيًّا للتعجيز أو للمماثلة بما سبق من الكتب السماوية، ولم يكن تعنتاً كما قيل فيها، فرب العزة رد عليهم تعنتهم بالكثير من الآيات كقوله تعالى {بل ¬
الذين كفروا في عزة وشقاق} وغيرها من آيات الوعيد، وطلبهم هذا بجعل الكتاب أعجميّا لا يُعقل أن يكون من فراغ، لأنهم طلبوا تغيير لغة الخطاب، وإذا قلنا بأن السبب هو الشك بالذكر، وهو موطن الشبهة، فلا بد أن يكون في الغاية من الذكر أو تأويله (أي ما يؤول إليه) - لا في محتواه وأصله كما فصلت سابقاً - وهذا الشك له سبب من اثنين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا محتقرين للغتهم ولا يفهمونها حق الفهم كما هو الحال في الأمم الضعيفة ذوات اللغات المنحطة في هذا الزمان، ويسعون لتغيير لغتهم، وبالتالي لا يريدونه بهذه اللغة الوضيعة ليفهموه حق الفهم، أو أنهم كانوا يحترمون لغتهم ويجلونها، ولكنهم لا يؤمنون بمقدرتها على احتواء كتاب من الله. وهنا نقف، لاستحالة الأول لكونهم كانوا يفتخرون بلسانهم الفصيح الوحيد ويسمون أي صوت غريب أعجمي، ولا نستطيع التعميم في الثاني، بل ويلزمنا فيه التفصيل والتدقيق بأمرين: الأول: إن كان هذا الكتاب للعرب خاصة فلن يستقيم لنا أحد السببين لاستحالة هذا الطلب. الثاني: إن اللغة يُقصد بها اللفظ والكتابة، وبما أننا نتحدث عن كتاب فالكتابة موطن الشك. وعليه نأخذ من كل أمر ما صح من احتمالاته، فيبقى أنهم شكوا في لغة الكتاب إما لكونه للناس كافة ولجميع الأمم، وجاء عربياً بلغتهم، وهم من الأمم الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة، أو أنهم شكوا بقدرتهم على كتابة هذا الكتاب العظيم، أو الاثنين معا، فطلبوا ذلك لعلمهم بأنهم ليسوا من أهل الكتابة والعلم - وقد امتازت الأمم غيرهم بالكتابة - ولم يعتادوا على وجود الكتب بلغتهم، فلن يكون لهذا الكتاب شأن بين الأمم بفهمهم، وبالتالي هم يشكون في قدرة كتابتهم على احتواء هذا الكلام العظيم لنشره بين الأمم، ولكن لو صحّ استنتاجنا للزمنا القول بأنهم قد علموا أن شأن هذا الكلام عظيم، وأيقنوا بأنه لا يستقيم نزوله بهذه البلاغة ليُكتب
بحروف لم تجمع يوماً كتاباً ذا شأن فضلاً عن أي كتاب عادي، وبالمحصلة يبقى أنهم كانوا في شك من كتابتهم لما كان فيها من ضعف، ولا تكاد تقارن بلغات الأمم حولهم، ولشكهم في كتابتهم وعجزها عن احتواء كتاب جامع تكون فيه الرسالة للأمم كلها، ولكن هل هذا يستقيم وهم قد كفروا به أصلاً وهو عربي اللغة وقد فهموه؟ فكيف يستقيم طلبهم لتغيير ما قد كفروا به، والسبب في شكهم يشترط تعظيمهم لهذا الكتاب! وعلى هذا الطلب لو غير الله الكتاب للغة أخرى لقالوا: كتاب أعجمي ورسول عربي! كأبسط كلمة ممكنة عند الكافر به، أو سيقولون هذا كلام أعجمي ونحن عرب لا نفهمه، وهذا ما جاءت الآية بتقريره (¬1)، ولو أُنزل ما هو جديد بلغة أخرى، وبقي القديم على حاله بالعربية سيكون ردهم: أيعقل أن يكون كتاب منه ما نزل عربي ومنه ما ينزل أعجمي فيكون مختلطاً وفيه اختلاف، بالتالي سؤالهم ليس للإيمان بالقرآن على كل الوجوه، بل هو شبهة، وهذا ديدنهم، قال الزمخشري: "كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} " (¬2) وأقول نعم، ولكن هذه ليست من التعنت، لأن التعنت لا يكون مع الشبهة بل يكون بعد الحجة، كقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وهذه الشبهة فيها المكيدة، وسؤالهم جاء من ذات الباب الذي علموا أنه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يعرفه بكونه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، وأغلب الظن أنهم قالوا بما معناه (يا محمد إن كان كتابك أُنزل للأمم جميعاً، فلماذا لا ¬
يكون بلغة مشهورة أُشبعت كتابة، فيكون بذلك ذكر للعالمين بحق، ونحن أعلم بالكتابة منك، وحروفنا ليست بشيء بين حروف الأمم الأخرى، ولن تحتمل هذا الكلام البليغ العجيب، لأنها لم تحتمل كتاباً عادياً من قبل لتحتمل كتابك البليغ، وإن كنا نحن العرب لا نعرف الكثير عن حروفنا وتُعجم علينا فكيف بالأمم غيرنا، ونحن أيضاً أعلم منك بأحوال الأمم، لأننا نجول الأرض للتجارة والسياحة، ونشك في قدرة كتابتنا وحروفنا أن تصل لحد التعليم عند تلك الأمم، فكلهم قد برعوا بحروفهم وامتلأت مكتباتهم بالكتب) وبيّن الله هذه الشبهة بكلمة "ولو جعلناه" من الآية، أي إشارة على ما تضمرون، ولم يكن الرد فيها، بل بينت الغاية من كلامهم، والدليل أنه أمر الرسول بعد بيان الشبهة بقوله تعالى في تمام الآية {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ولم يأمره في بداية الآية لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمّي ولا يعرف اللغات ولا الحروف، وأمره بالصبر مجازا كما قال ابن جرير: "يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم، كما صبر أولو العزم من الرسل، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} " (¬1)، وهذه الإشارة التي فهمها الطبري هي ذات الإشارة في آخر سورة القلم وسورة ق وسورة ص، ولعلمنا بأن اللغة تحتوي الألفاظ والكتابة، ولكون هذه الشبهة تحتوي ما لا يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم الكتابة، كما لا يعرف الفرق بين العربية والأعجمية فيها، فكيف تم الرد عليها من جميع وجوهها من غير أن يعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم الكتابة والحروف؟ وقد علمنا أنها غايتهم، لينزل في هذا القرآن ما هو إرشاد لعلم الكتابة العربية دون سواها، وبذلك سيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم بها، وستنتفي بنزولها معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). ¬
أقول لقد نزل الرد بقوله تعالى (ص) وأتبعها بالبيان بـ (حم) وكل حرف من الحروف المقطّعة كما دلت ألفاظها على أصلها، وهي الحروف الكتابية المعجمة، أي (أنا الله أعلم بلغات البشر وألسنتهم، أنا الله المبدئ للغاتهم والمفصّل لاختلافها، أنا الله الخبير بما يصلح من لغاتهم لتحمل كلامي ومقاصدي، أنا الله أرى ما في نفوسكم من كيد وتدبير أقول هذه الحروف، لتنزل بحكم الأسماء معرَّفة في كتابي المحكم، وجزءاً من كلامي المفصّل، لأرفع شأنها، ولأجعلها آيات للناس، أنا الله قد اخترتها لعلمي بها لا لجهلكم بها، وسأتمم على عبدي ورسولي نعمة الرسالة من غير نقص لما أعجزتكم به، ولتعلمنّ نبأ هذا الكتاب الذي فصّلت وأحكمت مكتوباً بهذه الحروف بعد حين)، إذن فهي موطن الشك عندهم لا في لغتهم ولسانهم على العموم، وشبهة شكهم في ذكر الله هي من باب الشك في قدرة لغتهم بحروفها لا بألفاظها على حمل كتاب الله، وهي شبهة قديمة باطنة في نفوس المشركين منذ بداية التنزيل، وزاد شكهم عند تنزيلها في أوائل السور كسورة القلم، ويظهر شكهم فيها هنا لأنهم أظهروه في كلامهم، ودلت عليه شبهتهم، فكشفها الله وأبطلها برده أنّه الأعلم بما هو الأصلح والأبقى، وهذه الحروف التي قالها الله وإن كانت أسماء لحروف بسيطة معجمة الكتابة في الأصل، ونكرات قبل قوله (¬1)، فقد رفع الإعجام والإبهام عنها بمجرد قوله جلّ في علاه، ومعلوم أن الحروف القديمة إذا كُتبت أُعجمت، وإذا قُرأت كانت هجاء، فهي حروف هجاء في كتاب الله لا حروف معجم (¬2)، لأن العبرة في كتاب الله باللفظ ابتداءً لا بالكتابة، فصارت هذه الحروف المعجمة حروفاً من نور، أنارت درب العلم للمسلمين، وكانت مما اختاره الله لحمل كلامه في الكتاب الموعود، وهو الحكيم العالم بإحكام الكلام، والخبير بما يكون من تفصيله، كما في قوله تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] فهو الخبير بألسنة الناس وعلوم كتابتهم. ولكن المشركين بعد هذا البيان وفضح أسرار نفوسهم لم يؤمنوا، وقال الله بعدها {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الاعراف: 179]. وسيظهر لنا إن شاء الله تعنتهم في هذه الحروف، كما هو حالهم دائماً، وذلك عند الحديث عن بيان دلالات الإعجاز فيها على أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وبحسب واقعهم فقد كان فيهم ثلاثة رجال هم أعتى المشركين في المكر والخديعة، ومن تتبع القرآن وأقوال المفسرين يجد ذكرهم متكرراً عند أغلب الشبه، وخاصة ما تعلق بالقرآن، وهم: النضر بن الحارث، (¬3) والوليد بن المغيرة، (¬4) وعتبة بن ربيعة، (¬5) وهم أعلم العرب في الكلام وما سواه من علوم، وكانوا من المكثرين للتنقل في بلاد العجم للتجارة والسياحة والتنعم، وما أظن هذه الشبهة إلا من صنيعهم، ويصدّق هذا الظن ما جاء في السير أنّه لما قرأ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على ¬
عتبة بن ربيعة {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) فصلت} ورجع لقومه فسألوه: "ما وراءك - قال: ورائي أنّي سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به، قالوا: سحرك والله بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم." (¬1) وفي رواية "فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته" (¬2)، وفي رواية "وما دريت ما أردّ عليه." (¬3) وفي رواية "ما فهمت شيئاً مما قال" (¬4)، وأنكر عليه قومه عدم فهمه وقد سمع كلاماً عربياً، ولكنها حجة الكاذب المصدوم، وقالها لأنه لا يستطيع الحديث وأراد أن يختلي بنفسه كما جاء في نفس الرواية "لم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم"، وصدق الله إذ يقول بعدها (هو عليهم عمى)، إذن هذه هي الإشارة على السبب الذي منع المشركين من الرد، وتكمن في عجز هذا الخبيث وأصحابه عن الرد. ومما يتناسق مع هذا المقصد ومع هذه الإشارة في الحروف قوله تعالى في سورة أخرى {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا ¬
إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) غافر} "قال قتادة: أسفارهم فيها ومجيئهم وذهابهم." (¬1) وهي ظاهرة بيّنة، لتثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتحذيره، بألّا يخدعونك بأقوالهم ويحتجوا عليك بأنهم أكثر سفراً في البلاد، وأنهم أعرف بأحوال الناس، (¬2) وقد تتابع هذا البيان بذوات حم، ومن تتبع السور السبعة ذوات (حم) وتسمى (آل حاميم) علم أنها نزلت كالحمم على رؤوس المشركين وقلوبهم، وكان بها نصراً معنوياً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتأييداً له بفضح أسرارهم، وبالذات سورة فصلت، والتي حوت بيان هذه الشبهة، حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تعظيمه لهن جعل من (حم) شعارا للنصر المعنوي في أحلك المواقف، بقوله - صلى الله عليه وسلم - (إن بيّتكم العدو فليكن شعاركم: حم لا ينصرون) (¬3)، وفيه إشارة لبعض الآيات التي ورد فيها (لا ينصرون) وأولها {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) حم فصلت} وآية {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) الم آل عمران} وآية {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) طسم القصص} وكل هذه الآيات من سور الفواتح. ¬
وكون الحروف المقطّعة شعار هو فهم بعض التابعين، ومن قال من العلماء هي افتتاح كلام، كأبي عبيدة معمر بن المثنى عندما قال عنها: "افتتاح، مبتدأ كلام، شعار للسورة" (¬1)، وهو الوجه الصحيح للقول بأنها أسماء للسور، فالأسماء والشعار حكمها واحد في اللغة. وكذلك الوجه الصحيح للقول بأنها أسماء اختص القرآن بها، وكذلك أسماء اختص بذكرها رب العزة والجلالة، وليست أسماء للقرآن أو لله تحت أي اعتبار، قال الزمخشري: "ولبني فلان شعار: نداءً يعرفون به" (¬2)، وهذه الحروف اختص بها القرآن واختص بها المسلمون، ومن هذا الفهم قول شريح بن أوفى العبسي بعدما قتل محمد بن طلحة في وقعة الجمل، وكان ابن طلحة يقاتل حزب علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم جميعا - يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلا تَلا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ (¬3) ¬
أي يذكرني بأن حم هي شعار النصر، وأنه من أهلها، وعدوهم لا ينصرون بقوله "حم لا ينصرون"، وهي شعار النصر على المشركين، وما نحن بمشركين ولا سلاحنا بسلاح سوء، وهذا الرمح شاجر أي مختلف عليه، ولا خلاص له منه، من قول لبيد فأَصْبَحْتَ أَنَّى تأْتِها تَبْتَئِسْ بها كِلا مَرْكَبَيها، تحتَ رِجْلِكَ، شاجِرُ قال في اللسان: "والشاجر المختلف" (¬1)، وقال الخليل بن أحمد: "وقد شَجَرَ بينهم أمرٌ وخصُومةٌ أي اختلط واختلف، واشتَجَرَ بينهم. وتَشاجَرَ القومُ: تنازعوا واختلفوا. ويقال: سُمِّيَ الشَّجَر لاختلاف أغصانِه ودخولِ بعضها في بعضٍ، واشتقَّ من (تشاجر القوم) " (¬2)، قال ابن قتيبة في شرح البيت: "يقول من حيث أتيتها (أي الناقة) لزمك بأسها وشاجر ناب بك" (¬3)، والمراد من الوصف كما قال البطليوسي: "إنك ركبت أمراً، لا خلاص لك منه" (¬4)، ويقول شريح بعدها: فهلا تلا وتدبر ذوات حم قبل التقدم والاستبسال في قتال إخوته، ليعلم ما هي وفيمن نزلت، ¬
ويعلم أنها ليست شعاراً للنصر على أولياء الله وأهل الحق، وعلى منوالها قال أبو المغيرة ابن عم ابن حزم في رده عليه بعد أن ذمه: وغاصب حقٍّ أوبقته المقادر ... يذكّرني حاميم والرمح شاجر غدا يستعير الفخر من خيم خصمه ... ويجهل أنّ الحقّ أبلج ظاهر ألم تتعلّم يا أخا الظّلم أنّني ... برغمك ناهٍ منذ عشرٍ وآمر (¬1) ولذلك أعربوا حاميم إعراب ما لا ينصرف لأنها شعار، والشعار أو العنوان كاسم السورة لا ينصرف، لذلك "قال أبو عبيد: هكذا يقول المحدثون لا ينصرون بالنون، وإعرابها لا ينصروا" (¬2)، وهذا لأنها شعار ولو كانت جملة لكان إعرابها كما قال، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أفصح من نطق بالعربية، ومن استدل بهذا البيت على أنه جعل حم اسماً للسورة فقد وهم، فأي سورة من ذوات حم قصد وهي سبع سور، ومن قال إن محمداً بن طلحة كان يناشد من يحمل عليه بحاميم، فقد وهم أيضاً فهذا صنيع الجبان، وليس لقاتله أن يفخر بقتله إن كان كذلك، أما قائل هذا البيت فقد تفاخر بقتله صنديداً شجاعاً يتغنى بشعار النصر على أعدائه، وقد ذكر ابن الأثير أن التقدم كان بإمساك خطام الجمل الذي عليه عائشة - رضي الله عنها - وقُتل كثير ممن تقدم وأمسك به، وكان ممن أخذ بخطام الجمل محمد بن طلحة، "فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل عليه، وقال: حاميم لا ينصرون، واجتمع عليه نفر، كلهم ادعى قتله" (¬3)، وهو من سمّاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - محمداً على اسمه، (¬4) وأبوه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن المشهورين في الشجاعة والاستبسال، وقد شلت يده يوم أحد من دفاعه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وابنه إبراهيم بن محمد بن طلحة كان يلقب بأسد الحجاز (¬6)، ومن كان مثل محمد بن طلحة، لا يكون بحال كما صوره بزعمهم. ويروى عن ابن مسعود أنّه قال: "إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن" (¬7)، أي" أُعْجَب بهنَّ وأَسْتَلِذ قراءتهن وأتتبَّع محاسنهنَّ" (¬8)، وقال أيضاً: "آل حم ديباج القرآن" (¬9)، وقد أتى فيها إشارة وبيان لسبب عجز وإعجاز المشركين العرب عن الرد، وهم أهل هذه الحروف وأهل الفصاحة بنطقها وفنون نظمها، مع العلم بأنهم حاولوا جاهدين إيجاد ¬
عيب أو نقص في النصوص التي خاطبتهم، وهم أقدر الناس على الإطلاق لفهم وتمحيص هذه النصوص، وقد وصلنا الكثير من الآثار الدالة على محاولتهم فهم المقاصد والتأمل بالكلام، كما وصلتنا ردودهم الفصيحة وألفاظهم المسيئة، من أولها: (رد أبي لهب حيث رد الله عليه بـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، إلى آخرها: وهو قولهم (أخ كريم وابن أخ كريم) (¬1)، ولم يَرِد ولو بنص ضعيف تعليق واحد منهم على هذه الحروف المقطّعة، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل وبكل وضوح على علمهم بمغزاها، وهو أن هذه الحروف نزلت كشعار لبعض السور، لتعظيم السطر بها ولتنظيم الكتابة في القرآن، وبها ستخلّد لغة العرب، وسيكون لها ما كان لغيرها من لغات الأمم الأخرى من الشهرة والعظمة، بل أكبر وأجل، بأن سيكون لهم كتاب كما للأمم قبلهم كتب، مكتوب بلغتهم الفصيحة التي يتغنون بها في أشعارهم، وهم أعرف الناس بما سيكون عليه هذا الكتاب إن تمّت العناية به، وعلى يقين بأن لغتهم هي الأجدر بين اللغات لتسطر بها الكتب، مع وضاعة علم الكتابة عندهم. فهي تمثل دعوة لهم ترغيباً في كتابة كلام الله، كما جاء ترغيبهم بالإيمان بكلام الله لنزوله بلغتهم في ذات السورة (بلسان عربي مبين) أي لسان بليغ يبيّن للأمم جميعاً ما أراد الله. هذا كله مع علمهم بأن الغاية من القرآن لم تكن لإبداع كتاب أو الحفاظ على لغة من بين اللغات، فلو طرح أحدهم في ذلك الزمان تأليف كتاب لتخليد لغة العرب وأشعارهم، لأجلوه أعظم إجلال، ورفعوا منزلته بينهم، وهذا ما يحصل في الأمم عموماً من تخليد أهل الكتب وأهل العلم، لكن الغاية من القرآن أعظم وأجل، وهي عبادة الله وحده وإنفاذ تشريعه بين الناس، والحفاظ على ما أنزل من أحكام، وبناءً على هذا الحفظ ألزم القرآن حفظ لغة الخطاب، بما فيها من لفظ وكتابة ومعنى، وقد علم المشركون أنهم إن آمنوا بالغاية تحصلت لهم الوسيلة، وهذا كله مع معرفتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأمّيّته، وبما أنه قال هذه الحروف بأسمائها دون ألفاظها و"التعبير عن الحروف بأسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة " (¬2)، فهي دلالة على أنها ليست من نفسه، بل هي ليست مجالاً للنقاش معه، إذ هي بالمحصلة ليست لهم أو ليس لهم خيرها، إلا إن اتبعوا ناطقها، لكونها خاصة بمن سيكتب القرآن، وبها سيكون المتبعون لها أهل كتابة، وهم ليسو كذلك في الأصل بل هم أميون، فكانت إعجازاً لهم عن الكلام فيها. وإن قال قائل بعد هذا البيان (لا بل لم يفهموها) نقول له ما ذكره الرازي على الاحتجاج بالمعقول في هذه الحروف "من وجوه: أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة اليونانية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها: إن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها: إن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به" (¬3)، وفي كلام العرب: "وكلُّ مَنْ لم يُفْصح بشيء فقد أَعْجَمه. اسْتَعْجم عليه الكلامُ: اسْتَبْهَم" (¬4)، وقد جاء بعضها قبل الرد في سورة فصلت على طلبهم بإعجام القرآن ¬
كما في سورة القلم، فكيف تأتي بالإعجام ابتداءً، ويردّ الله بعدها في سورة بقوله تعالى {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وبيّن شبهتهم بقوله تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فهي إذن ذات دلالات لا مجال لنفيها، ومن إدّعى بأن فيها خبيئة فقد رمى القرآن بالإعجام. وتماشياً مع من إدّعى بأنهم لم يفهموها، أو قال فهموها على غير هذا الوجه أقول: عرفنا بأنهم أميون بنص الكتاب والسنة وعلوم التاريخ والآثار، والسؤال هنا: ماذا سيفهم الأمي لأول وهلة عند سماعه هذه الحروف بأسمائها (نون، قاف، صاد، حا ميم)؟ أو ما هو المغزى من ذكرها؟ هل أنها من أسماء سور ذلك الكتاب الموعود، والذي لا زيغ فيه ولا باطل؟ أم يلزمهم عدها وقسمتها على سبعة ليعرفوا ما بها من دلالات حسابية، وهم لا يعرفون الحساب أصلاً؟ وكما أسلفت فإن لهذا الأمّيّ حالات، وكلهم فصيح بلسان القوم، أمّي لا يعرف الكتابة، وأمّي بالنسب لأهل الأمّية. أما الأول منهم فلن ينطق ببنت شفة، لكونه جاهلاً بها وبأصول الكتابة فليس له أن يتكلم أصلاً، وكأن هذه الحروف قد أخرسته وأعجزته عن مجرد الحديث العابر فيها، وزيادة عليه إن سماعها يعد تقريعاً له ولقومه على جهلهم بالكتابة وعلوم الكتب (¬1)، إلّا إن اتبعوا قائلها، فإما أن يقول آمنت أو يقول كفرت، هذا إن كان جاهلاً لا يقرأ ولا يكتب، وهم الغالبية من أهل الجاهلية، فكيف بمن كان عارفاً بالقراءة والكتابة وبارعاً في نظم الكلام، وعارفاً بقوانين الكلام ¬
الفصيح؟ وهو الحال الثاني، وهو من قرأ وكتب وقومه موسومين بالأمّية، هل كان سيفهم أنها علامات على بدء السور؟ أو أنها "إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه" (¬1)، وليس الإتيان هنا بما يدانيه بالكتابة، بل بمجرد النظم، وهل مثل هذا التحدي يأتي بهجاء الحروف؟ أم أن مثل هذا التحدي جاء صريحاً في الكثير من آيات التحدي كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) البقرة} " {شُهَدَاءَكُمْ} أعوانكم أي: قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك، وقال مجاهد: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} قال: ناس يشهدون به يعني: حكام الفصحاء" (¬2)، فالحاصل إذن أنهم فهموا مغزاها، وإن لم يعلموا ما ستؤول إليه هذه الحروف، والعلم بالشيء فرع عن تصوره، وعلمها وتأويلها (أي الحروف) آت بعد إتباع قائلها وتسطير ما يقول، ليتم بذلك الكتاب الموعود. فعلموا جميعاً أن فيها خيراً إن انتشر دين الإسلام، فهي من حروف لغتهم، وسيكون هذا الكتاب الموعود أول كتاب بحروف عربية على لسانهم، فهل يستقيم أن ينكروها وينكروا لفظها، وهي تدعوا للخط بحرف العرب ولسانهم. لذلك قال عتبة لأهل قريش: "خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به"، هذا وإن جاء القرآن بمدح اللغة العربية ورفع ¬
شأن اللسان العربي في مواضع كثيرة، ولكنها (أي الحروف) صريحة بأن ذلك الكتاب الموعود، والمرسل للناس كافة ولجميع الأمم سيكون بحروف عربية على لسانهم، قال ابن الرومية (¬1): كذا قضى الله للأقلام مذْ بُرِيَتْ ... أن السيوف لها مذ أُرْهِفَت خَدَمُ وقد قيل "الخط لليد لسان، وللخَلَدِ تَرجمان، فرداءَته زَمَانة الأدب، وجودته تبلغ بصاحبه شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي مَنّ الله بها على عباده فقال جلّ ثناؤه: {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَم} " (¬2) ولكن قد علمنا بأن المشركين كانوا يجحدون بآيات الله البينة بعد إقامة الحجة عليهم، فأين تعنّتهم؟ وما هو سبب سكوت الصحابة عنها؟ حتى إن علموا أن تأويلها لا يكون إلا بكتابتها على ما فيها من دلائل للكتابة، وقد علمنا أن الأمر بالقراءة كان في أول آي التنزيل بقوله تعالى (إقرأ) ولم يأت الأمر بالكتابة ظاهراً، وأتى بذكر هذه الحروف وما بعدها مباشرة من ذكرٍ للكتاب وسطر للكتب. (¬3) ونعلم أنّه نزل من هذه الحروف في الزهراوين (البقرة وآل عمران) وهما مدنيتان، لتكتمل الرسالة وتمنع الاعتقاد بأنها كانت للرد على المشركين فقط، بل فيها علم الكتابة المقرون بالقرآن، ونعلم أن في هذا دليلاً على إعجاز الله للخلق ببقاء معجزة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ¬
وهي الأمية، فلم يتكلم فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بظاهرها ومعناها، ولم يتأولها، لأن عدم تأويلها كان إحدى دلائل الإعجاز على صدقه، أما تعنت المشركين وعدم حديث الصحابة عنها فسيظهر في بيان حقيقة الإعجاز لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمي ويقرأ هذه الحروف، وسيظهر في بيان الآية التي حملت تلك المعاني في فواتح السور كما سأبين في نهاية الكتاب إن شاء الله لتبقى محفورة في أذهاننا، لأن الصورة لا تكتمل إلا بعد اكتمال أركانها، ومن هذه الأركان بيان الإعجاز في نظم هذه الحروف وما حملته من علم. فهذه الآيات إذن ظاهرة بينة، إلا ما تعذر فهمه من كلمات، وبفهم الآيات نفهم السور وأسباب نزولها، ولو قرأنا أسباب النزول كما أوردها من جعلها المفتاح لفهم الآيات لما أفادت بشيء في التفسير- هذا مع الإقرار بفائدتها كآثار تدل على علم عظيم كما تدل عليه كل الأحاديث- وقد قالوا في أسباب تنزيل سورة القلم (ن): "عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك أنزل الله عز وجل {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ} (¬1). قوله عز وجل {وَإِن يَكادُ الَّذينَ كَفَروا} الآية: نزلت حين أراد الكفار أن يعينوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش، فقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه، وكانت العين في بني أسد، حتى إن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعينها ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا ¬
بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به النعم فيقول: ما رعى اليوم إبل ولا غنم أحسن من هذه، فما تذهب إلا قريباً حتى يسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله تعالى نبيه وأنزل هذه الآية." (¬1) أقول: إن قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الأولى، لم يأت لبيان سبب تنزيل هذه الآية، بل جاء كأنها تقول (لذلك قال الله وإنك لعلى خلق عظيم) وهو ما بيّنته روايات الحديث الصحيحة "عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أمّ المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن: {وإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} " (¬2)، وهو حديث عظيم له دلالات عظيمة، وليس فيه ذكر سبب التنزيل على اليقين، وقد ذكره العلماء في أوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير البشر وخير الأنبياء والرسل؛ لنعلم ما كان عليه نبينا وأنه أحسن الناس خُلقاً، (¬3) وأما الثانية فلم تكن سبباً في التنزيل، فقد جاءت لتفسير كلمة "ليزلقونك"، وقد تكلم فيها علماء التفسير بما لا مجال لذكره هنا، ومعناها اللغوي أفاد بما أفادته الرواية، وبيان سبب ذكر هذه الكلمة في هذا السياق لا يعمم على الآية، وقد جاء بعدها (ويقولون إنه لمجنون) وهو السبب الرئيسي، مع العلم أن هذه الرواية أفادت بالكثير من العلم، بأن العين حق، وأن الحذر منها واجب، وأن المشركين لم يتركوا طريقاً لمنع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من إتمام رسالته إلا وسلكوه، وغير هذا من الفوائد العظيمة، ولكنها لا تكون سببا لفهم هذه الآية، وأنها نزلت لتعصم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو - المعصوم أصلاً-، فسياق الآية والسورة لا يشير إليه على أي حال من الأحوال، وجل ما يستفاد منها في فهم التفسير أنها نزلت لوصف حالهم من شدة حقدهم عليه - صلى الله عليه وسلم -. وغير هذه الآيات والسور كثير، والأدلة على أن الكتب التي عنيت بأسباب التنزيل احتوت علماً شريفاً بمضمونها، ولكن أسلوب السرد فيها كان محدثاً، والواجب رده لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (¬4)، فلا نقول سبب تنزيل هذه الآية أو السورة كذا بالرجوع لهذه الكتب وكأنها معجم ما استعجم من واقع نزول القرآن، بل نأخذ ما جاء في تأويل الآيات والسور مما ورد في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وما جاء في كلام العرب، مراعين لواقع المخاطبين من خلال ما ذكر فيها جميعاً لفهم واقع التنزيل وحال المتلقين، وهذا هو الحق في التأويل. وإن كان الإمام أحمد قد قال: "ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير" فنحن نقول: إن كتب أسباب التنزيل ما زالت من غير أصول، يسّر الله لها من يعطيها حقها. والأعجب من حصر الأفهام بأسباب ضعيفة السند والمتن ما تجده في قول أحدهم إن قوله تعالى من {اصبر على مَا يَقُولُونَ} - إلى قوله - {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} منسوخ بالأمر بالقتال، (¬5) ونسي ¬
أن كلام الحي القيوم لا ينسخه كلام البشر، ونسي أن الكفر والشرك والإلحاد ألوان، وما أحوجنا في هذه الأيام لفهم هذه الآيات، إذ صار مذهب الإلحاد علمياً وعقلياً بزعمهم، فإن قال الله لنبيه اصبر قبل قتالهم، فقد صبر بعد قتالهم ولم يقل ما قالوه. هذا وقد أسهبت في بيان الحجج وردها بما ينبغي من القول، ولم أقتصر على ذكر الدلالات والحجج لسبب واحد، وهو أنك إن أردت إقناع أمة من الأمم بوجود كنز في بحرهم، فعليك إخراج بعضه أمام أعينهم وتحت ناظرهم، ولا تقتصر على الإشارة إليه.
الفصل الرابع: دلالات الإعجاز في فواتح السور
الفصل الرابع: دلالات الإعجاز في فواتح السور لقد تجلى حفظ القرآن عبر العصور، ولم يمسسه ما مس غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء من تحريف وتبديل، وهذه الحقيقة من اليقينيّات المسلم بها في دين الإسلام، وما من مسلم يقرأ القرآن إلا وعنده اليقين التام بأنه يقرأ ما كُتب من الذكر بعد تنزيله على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويتلفظ بذات الكلمات التي استقرت في قلبه الشريف، وما من قارئ لكتاب الله - مسلم أو غيره - إلا وفي نفسه الإجلال من كيفية الإعجاز في حفظ القرآن على مدى الأزمان وإلى أبد الآبدين في الصدور والسطور، فقد نزل القرآن مؤيداً بحفظ الله على لسان العرب، وعلى قلب خاتم الأنبياء والمرسلين وخير البشر أجمعين محمد النبي العربي الأمين، ولم يأت الأمر فيه صراحة للنبي بكتابته وتأليفه، بل أمرَه بقراءته من حفظه كما في قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ومن ثم تبليغه للناس كما في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ .. الآية 67 المائدة} ولم يكن لهذا النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - من علم بالكتابة والقراءة للحروف، كآية باقية من الله لإعجاز البشر، ولذات السبب لم يضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسُساً وقواعد لكتابة القرآن الكريم، ولم يشرف على تأليفه في كتاب مفرد بنفسه، ولم يأمر بذلك أيضاً، واكتفى بأمر الصحابة بكتابته ونشره بين الأمم، فلم يكن له القدرة على تدقيق الكتابة ولا العلم بما يصلح من حروف وسطور لكتابة الألفاظ، ولا حتى الفرق بينها وبين سواها من لغات الأمم، وكان موقناً بحفظ القرآن في السطور كما تعهد ربه بحفظه في الصدور، مؤمناً بقوله جل في علاه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، ولذلك رد أبو بكر رضي الله عنه على عمر عندما قال له: أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقال:" كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬1)، فكان القرآن بذلك متعالياً على البشر جميعاً، ومنهم العرب أصحاب هذه الحروف، لكي لا ينسبوه لأنفسهم تأليفاً ونظماً، فلو أن القائل لم يكن له الأمر من قبل ومن بعد، لجاء فيه الأمر صراحة بالكتابة على حروفهم، وجاء فيه إصلاح ما فيها من عيوب لا تخفى على أهل ذلك الزمان أو هذا الزمان، ليتم بذلك تنظيم الكتابة لأعظم كتاب كتبه البشر بأيديهم، ولو أتى الأمر بكتابته فسيكون شرعاً متبعاً ولا سبيل لمخالفته، بل ستنتفي بذلك معجزة الأمية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يقابلها من ضد الأضداد، فسيكون أعلم الناس بها، لأن في لسانه بيان مقاصد الشرع، وليس بين الناس من هو أعلم بالشرع منه، وسيكون أعلم أهل الأرض بالكتابة وعلومها. إذن كيف يتم العهد بالحفظ في الصدور إن لم يحفظ في السطور كما أمر الشارع أن يكون؟ هل تُرك الأمر لمن يكتب الوحي، كلٌّ على ما يرى من أسس الكتابة؟ أم نزل في هذا القرآن ما يُلزم الكاتب إتباعه وعدم مخالفته؟ وكيف يتم بيان هذا الكتاب لباقي الأمم باللفظ والكتابة وهم لا يعرفون ألفاظنا وحروفنا؟ هل ترك التفصيل فيها للمبلّغين بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلٌّ على ما يرى من أساليب البيان؟ أم ألزم القرآن أتباعه بقواعد للبيان الذي لا لبس فيه؟ وإن كان هذا الأمر قد أتى ولم يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف نقله إلى البشر ولم يبينه بجملة واضحة بينه؟ أقول: انظر ¬
لفواتح السور وستعلم أين جاء الأمر بالكتابة وعلى أي حرف، وكيف ألزم الناس على اتباع أشرف الأسس في الكتابة، وأبلغ الطرق في التبليغ والبيان، فكانت هي القواعد البينة، وكان تأويل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بما آتاه الله من تأويل لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فأمر - صلى الله عليه وسلم - بتلاوتها كما جاء الأمر للقرآن كله بقوله (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله عشر حسنات) وأمر بكتابتها - كما هو الأمر للقرآن كله - على هيئة المسميات بقوله (لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي أن الحرف يمثل كلمة واحدة، وفي هذا النص حث على التدبر فيها وإن لم نعلم تأويلها، فكانت تحوي ما هو أبلغ مما حمل غيرها من المعاني. وقد علمنا أنه جاء فيها أبلغ الردود على أدق الشبهات الباطنة في قلوب العرب في ذلك الزمان - كما هي في هذا الزمان - وزاد على ذلك بأن جاء فيها من الدلالات المعجزة للبشر، لاتباع ما جاء فيها من غير مجال للحيد عنه من دون أدنى تصريح، وأعطت أبلغ الإشارات على أسباب حفظ القرآن بالسطور، لتتم الغاية من حفظ معانيه وألفاظه كما نزلت من غير زيادة أو نقصان، ولم تقتصر على ذكرها من غير إعجازٍ لقدرة البشر عن الإتيان بمثلها، فكان فيها إعجازا للعرب في دقة معانيها وبيان الغاية منها، كما في القرآن من إعجاز في نظمه وبلاغته ودلالات معانيه، ولو لم يعجز المشركون العرب عن الرد عليها، لما عجز علماء العربية عن تأويل معانيها بما يتوافق مع سمو الإعجاز الإلهي في نظم القرآن، ليعلم البشر كلهم بأن هذا الكتاب يحوي كلام الله، وهو عربي اللغة من جهة، وإلهي المبدأ والمنتهى بإعجازه العرب من جهة أخرى. والسؤال هنا: كيف كان لذكر الحروف المقطّعة في فواتح السور أثر وسبب في حفظ القرآن وحمايته من التحريف؟
والجواب هو: إنها حملت في طياتها دلالات إعجاز عجيبة، كانت كالقواعد المتينة لحفظ القرآن من التحريف، وهذه الدلالات تعلقت بذكر الحروف على هذا الوجه، وكيفية ورودها على هذه الهيئة، وهذه الدلالات تتفق بنسق عجيب مع الغاية والقصد من ذكرها، باعتبارها الأحكام الثابتة بدلالة النص، وهي الثابتة "بمعنى النظم لغة لا استنباطاً بالرأي، لأن للنظم صورة معلومة ومعنى هو المقصود به" (¬1)، وهذه الدلالات تتفق مع إشارات الإعجاز المذكورة سابقاً، من غير قياس على ما يزيد عن كتابة وهجاء الحروف في اللغة العربية، ولا أقصد بالإعجاز هنا أنه كالإنبهار من عظيم المعاني، كما يتخيلها البعض في هذا الزمان، بل الإعجاز هنا على أصله، وهو نقيض الحزم وعدم القدرة والضعف (¬2)، فهذه الحروف قد أعجزت متبعيها على مخالفة ما فيها من دلالات، وكانت بمثابة الأسس والقواعد لتنظيم الكتابة، وإن نظرنا للأسلوب العلمي في العصر الحديث لكتابة البحوث والمراجع العلمية، نجد المؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث المتطورة تضع أسساً وقواعد للكتابة، لما تراه من حق لها في تنظيم الكتب المنسوبة إليها، ولضمان جودتها المرتبطة بسمعة المؤسسة، وأي باحث مهما علا شأنه محكوم بهذه القواعد المنصوص عليها من أعلى جهة رقابية في المؤسسة، وفهم دلالات الحروف المقطّعة في فواتح السور يبدأ من هذه النقطة، أي أن نعتبرها تأصيل وتنظيم لكتابة القرآن الكريم بالسطر، وذلك لأهمية كتابته وضرورة تبليغه باللفظ والكتابة معاً، قبل اعتبار ما جاء فيها من إعجاز في مضمون ذكرها. ¬
الباب الأول: دلالات الإعجاز وأوجه التوافق مع فهم القرآن بحسب أصول التفسير
الباب الأول: دلالات الإعجاز وأوجه التوافق مع فهم القرآن بحسب أصول التفسير هذه الدلالات ترتبط مع إشارات الإعجاز في الحروف المقطّعة، وترتبط مع فهم القرآن بالقرآن والسنة، ومع فهم السلف الصالح وما في أصول التفسير من قواعد، من عدة وجوه أُبَيُّنها فيما يلي: الوجه الأول: أن أول ما نزل من فواتح السور {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} وهي كما قال مجاهد وقتادة: يعني: وما يكتبون (¬1)، وقد استدل علماء اللغة بهذه الآية على أن الرسم العثماني للقرآن توقيفي، ولا يجوز مخالفته بحرف واحد، ولسنا بصدد البحث في استدلالهم هنا، بقدر ما نستشهد بذكر السطر والكتابة بعد الحروف كما فعل أهل العربية، هذا أولاً، ولكون الثابت بدلالة النص موقوف على ما ثبت بمعاني النظم ثانياً، وهي الحروف الكتابية. الوجه الثاني: أنه داخل في بيان القرآن كما في قوله تعالى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة} والقارئ لكتاب الله يجد في هذه الآيات تعهدا من الله بأمرين، هما: جمع التنزيل، وجعله قرآناً ليقرأه الناس إلى أبد الآبدين. وجمعه يكون في صدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} "قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه،." (¬2) وجعله قرآناً يكون بتأليفه كما "قال قتادة في قوله نعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا ¬
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} يقول حفظه وتأليفه" (¬1). والدليل على هذا الفهم ما تبعه من أمر {َفإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} كما قال ابن عباس: فاستمع له وأنصت (¬2)، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال الزجاج: المعنى علينا أن ننزله عليك قرآناً عربياً فيه بيان للناس. وقيل المعنى: إن علينا أن نبينه بلسانك." (¬3) فكتابة القرآن في سطور وصفحات وجعله كتاباً كاملاً من غير نقص من ضمن ما أخذ الله على نفسه جل في علاه، وداخل في حفظه تعالى بقوله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. الوجه الثالث: أنّ فواتح السور لم تذكر في القرآن إلا وجاء بعدها إشارة على الإعجاز والنصر، وجاءت كلمة القرآن بعدها بلفظ الكتاب أو ما يفيد الكتابة للتنزيل، قال ابن كثير: "ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2 - 1]. {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران:3 - 1]. {المص * كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2 - 1]. {الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1]. {الم * تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2 - 1]. {حم * تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 2 - 1]. {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3 - 1]، وغير ¬
ذلك من الآيات .... " (¬1) ودلل عليه الباقلاني في إعجاز القرآن وقال بأن سياقها "مبني على لزوم حجة القرآن، والتنبيه على معجزته" (¬2)، وحجة القرآن قائمة بنظمه ولغته، وبما أن القلم أحد اللسانين، فالإعجاز في القرآن حاصل بكل محتواه، "والكتاب مصدر، وهو بمعنى المكتوب." (¬3) الوجه الرابع: إنّ الاتفاق حاصل على أنها حروف، وقد بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله "ألف حرف ولام حرف وميم حرف"، وكما تقدم في بيان الحديث أن الظاهر منه هو تفسير الحروف بنفسها، ثم الدلالة على مسميات الحروف (وهي الحروف الكتابية)، إذ لو لم تكن الدلالة عليها لكان في الألف وحدها خمسون حسنة، وهذا مناف للحديث، كذلك لم يقل أحد بأنها كلمات لإجماع الأمة على لفظها كحروف، والحرف في أصله اللغوي هو الحد والطرف والجانب، "فسميت حروف الكلام حروفاً لأنها طرف الكلام وحَدُّهُ ومنتهاه، إذ كان مبدأ الكلام من نفس المتكلم ومنتهاهُ حَدُّه وحرفه القائم بشفتيه ولسانه ولهذا قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) البلد} فلفظ الحرف يراد به هذا وهذا وهذا. ثم إذا كتب الكلام في المصحف سموا ذلك حرفاً فيراد بالحرف الشكل المخصوص، ولكلامه شكل مخصوص هي خطوطهم التي يكتبون بها كلامهم ويراد به المادة ويراد به مجموعهما، وهذه الحروف المكتوبة تطابق الحروف المنطوقة وتبينها وتدل عليها فسميت بأسمائها إذ كان الإنسان يكتب اللفظ بقلمه" (¬4)، فمطلق اللفظ بالحروف يقصد به الحروف الكتابية وليس الصوتية، ثم يدل اللفظ علي تطابقهما، وهو ما أثبته علم اللغات في أصل الحروف وبداية استعمالها، ولذلك كانت العرب تقول: لم ينطق ببنت شفة ولم أسمع منه شيئاً، ولم يقولوا لم ينطق بحرف، فالحرف عندهم كان كلمة مبهمة إن كانت وحدها ولا بد من إضافتها لشيء، فتجد من الصحابة بعد نزول القرآن من يقول: لم أسمع منه حرفاً من القرآن، كما يقولون أيضاً: يقرأ القرآن على حرف قريش، لأنها إن أضيفت للقرآن كانت للتعريف والدلالة على قراءة الحرف المكتوب، وإن أضيفت لقبيلة كانت تدل على اللفظ الخاص بلهجة القبيلة. الوجه الخامس: إنّ الحروف كُتبت على صورة المسميات وليس على صورة أسمائها كما في اللفظ، هذا وإن كان في لفظ بعضها إشكال عند بعض الناس من غير العارفين باللغة، فقالوا لم قلنا طا يا ولم نقل طاء ياء كما في (طه، يس) وهي أسماؤها، فنقول فيها همزة مخففة، وهذا "هو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت." (¬5) فكتابتها إذن على هذه الهيئة مما اتفق عليه الجميع. وأي قارئ في علم اللغات يعلم بأن الكتابة ابتدأت برسم الأشياء للدلالة على أسمائها، كما هو ظاهر في رسوم القدماء على جدران الكهوف من حيوانات ومعدات ورحلات للصيد، ومن ثم تطورت برسم الأشياء للدلالة على الكلمات أو الألفاظ، كما هو الحال في الكتابة التصويرية، فيرسمون مربعاً للدلالة على البيت مثلاً أو أفعى للدلالة على الشر، وبعدها تطورت لرسم الرموز الدالة على الألفاظ، كما كان عند البابليين باستعمال الرسم المسماري الأول، ثم تطورت باختزال الكلمات لرسم الرموز بأطراف الأقلام للدلالة على الحروف الصوتية الخالصة ومواقع النطق في الفم، أو للإشارة على اللفظ المجرد، كما في الحروف المسمارية المتطورة عند البابليين، وهو الظاهر في حروف المصريين القدماء، فيرسمون البوم دلالة ¬
على حرف قريب من الواو في العربية مثلاً، ومن هنا انطلقت الكتابة بالحروف أو الرموز، فأصل الحرف هو ما دل على لفظ معين، واكتسب به الحرف اسماً له، فنكتب (ب) لتدل على خروج الصوت من الفم باستعمال الشفتين وذلك بإطباقهما مع التشديد في الإطباق وكأنهما تغرسان ببعض حتى ينقطع النفس ليتكون الصوت داخل الفم حابساً إياه عند باب الفم مما يلزم اضطراب المخرج لسماعه مع خروج النفس، ويلفظ بحسب ما قبله وما بعده من حروف (بِه بَه بُه) ونطلق على هذا الحرف اسم (باء). ويكتب هذا الحرف على صورته إن جاء في كتابة الكلمات، وعلى صورة اسمه إن جاءت لذكر الحرف بذاته، وقد سميت هذه الحروف بحروف الهجاء، ومن ثم جاء اختراع الأبجديات عند الفينيقيين، ونقلوها لليونانيين وغيرهم من الأمم، ووصفت بحروف المباني التي يبنى عليها رسم الكلام. وفي فواتح السور كتبت الحروف على صورة لفظها (الم) ولم تكتب بأسمائها (الف لام ميم) كما هو الحال في الأبجدية، وتلفظ بحسب أسمائها لا على هيئة لفظها فنقول (ألف لام ميم) ولا نقول (ألم من الألم) فغايرت بذلك المعهود في الكتابة، للدلالة على شيء خاص في كتابة هذا الكتاب، وهذا الشيء هو الدليل على الاختلاف بين هذا الكتاب وغيره من الكتب، والاختلاف بين قواعد الكتابة فيه وغيره من الكتب، ونحن نعلم بأن الحروف لا تلفظ بأسمائها إلا للتعليم، والتعليم فيها إن كان مقصوداً فلا يحمل على ألفاظها، بل على كتابتها كونه الأبلغ في الدلالة وما يتناسب مع الوحي الإلهي. (فائدة: في لفظ الحروف العربية "إن قيل: لم قالوا: ها يا، ولم يقولوا في الكاف: كا، وفي العين: عا، وفي الصاد: ص، لتتفق المباني كما اتفقت العلل؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال: حروف المعجم التسعة والعشرون تجري مجرى الرسالة والخطبة، فيستقبحون فيها اتفاق
الألفاظ واستواء الأوزان، كما يستقبحون ذلك في خطبهم ورسائلهم، فيغيِّرون بعض الكِلَم ليختلف الوزن وتتغيَّر المباني، فيكون ذلك أعذب على الألسن وأحلى في الأسماع." (¬1)) الوجه السادس: إنّ علماء البلاغة ذكروا في معرض تفصيلهم لهذه الحروف أنها تمثل نصف الحروف العربية، كما قال الباقلاني في إعجاز القرآن: "وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم." (¬2)، وهذه ليست الغاية والقصد، بل إشارة على أن الحروف في أصلها مثلت كتابة صوت الإنسان أو ما اصطلح عليه بالصوتات، وكلنا يعلم بأن الأبجدية العربية فيها ثمانية وعشرون حرفاً من غير (لا) وتمثل الحروف الصوتية للسان العرب، وكانت قبل التنقيط كما في أصلها تمثل صوتات العرب من غير دلالة على التغيير في لفظها، ومن غير تغيير في حدة الصوتة التابعة لها عند الكتابة، أما في القراءة فتتبع التغيير في حدة الصوت، أو بالأحرى كانت هناك حروف كتابية وتسمى الحروف المعجمة (أي المبهمة) وحروف صوتية وتسمى حروف الهجاء (أي حروف القراءة) (¬3)، ولذلك كانت تكتب الباء والتاء والثاء والنون و (الياء في وسط الكلمة) برسم واحد وحرف كتابي مبهم واحد، ويتغير مع شدة الصوْتَه ليمثل هذه الحروف الصوتية عند القراءة، وكذلك الجيم والحاء والخاء. ومن بحث في أصل الكتابة العربية يجد اختلافاً واضحاً بين الحروف وأصلها في الحروف ¬
النبطية، فأقدم نص جمع بين الحروف الأبجدية كان محتوياً على اثنين وعشرين حرفاً كتابياً، منها خمسة عشر حرفاً مختلفاً فقط (¬1)، وتمثل بمجملها الحروف الصوتية الثمانية والعشرين، بينما نجد اليوم سبعة عشر حرفاً مختلفاً إن ألغينا التنقيط، وهذا الاختلاف حاصل للفرض بأن الكتابة العربية أصلها من أبجدية وليست من حروف كتابية كما هو الأصل، والحقيقة أن الأبجدية العربية قد وضعت بعد الإسلام، فصارت تماثل غيرها كالحميرية، ولبيان الفكرة نعود للنقوش العربية في صدر الإسلام وما قبل الإسلام، فنجد الحروف في كتابتها خمسة عشر حرفاً لا سبعة عشر، لأن (د ذ ر ز) كانت تكتب بحرف كتابي مبهم واحد، كما هو الحال في غيرها من الحروف المتشابه، وعليه يكون الأصل فيها واحد (¬2)، وبالرجوع لحروف الفواتح نجدها أربعة عشر حرفاً، ومع الواو تكون خمسة عشر، والواو ذكرت مباشرة بعدها في بعض الأحيان وأفادت القسم أو العطف، ولا أقول إنها من ذات الحروف بل أقول بأن ذكرها بعدها أغنى عن ذكرها فيما بينها، ولم تذكر بينها لعدة أسباب: أولها أن الواو من أكثر الحروف حملاً للمعاني (¬3)، والثاني أن الواو من الحروف المفصولة عما بعدها وتكتب تحت السطر في كل أحوالها (ر ز د ذ و)، وقد ذكرت الراء عوضاً عنها جميعاً، والثالث أن الواو هو الحرف الوحيد من ضمن حروف العلة الذي يكتب بلا لفظ، كما في "عمرو" أو كما كانت تكتب "سعد" في العصر الجاهلي "سعدو"، هذا هو الدليل التاريخي بما جاء به علم الآثار، وما يتفق مع الأصل اللغوي المطابق، وهو اتفاق العلماء على ما قاله الباقلاني بأنها تشتمل على أنصاف صفات الحروف، وفصّله الزمخشري بقوله: "بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. . . فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته." (¬4) وهي إشارة على أن الحروف الكتابية كانت تماثل أنصاف حروف الصوت، وتدل عليها كلها بتغيير نبرة الصوت، وإن كانوا استدلوا بهذا القول على ما جاء فيها من إعجاز ¬
في النظم، فسآتي على تفصيل القول فيه عند الكلام على وجه الإعجاز في النظم إن شاء الله، وهذا كله يتوافق مع عدد مخارج الحروف على الصحيح بأنها خمسة عشر مخرجاً. فهذه الوجوه تدل على أن في ذكر الحروف دلالات تخص الكتابة، بل تدل على أسس وقواعد الكتابة في القرآن، وإن قال قائل إن أسس الكتابة والتوثيق لم تعرف إلا في العصر الحديث مع انتشار واختلاف المؤسسات العلمية فهو جاهل، لأنها كانت وما زالت أساساً من أسس النظم في الكلام والكتابة، وهي الدليل الأول على جودة الكتاب وعلم الكاتب، وهو ظاهر في أقدم الكتب التاريخية اليونانية، وظاهر في كتب الإسلام الأولى، فهذا كتاب الصحيح للإمام البخاري، تجد من الناس من يستشهد بتنظيم أبوابه بل بذكر الحديث في باب معين على فقه الإمام البخاري رحمه الله، وهذا الزمخشري البليغ الشهير يقول في بداية كتاب أساس البلاغة: "وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف التمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنفير عنها إلى الإيجاف والإيضاع؛ وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه" (¬1)، وغيره من الأمثلة التي لا حصر لها من كتب السلف والخلف. وعلى ما سبق ولعلمنا بأن كل كلمة في الدنيا وفي أي لغة كانت لها أحكام: كيف تلفظ، وكيف تكتب، وما هو معناها، وما هو موقعها في نظم الكلام، وأساس ذلك كله لغة الكلمة، نستعين بالله على البيان ونقول: ¬
الباب الثاني: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على لغة القرآن
الباب الثاني: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على لغة القرآن كان لذكر حروف المعجم القديمة دلالة عظيمة على حفظ القرآن بلغته وهي: أن ذكر الحروف ولفظها بأسمائها مفصولة، برغم كتابتها على هيئة الكلمات موصولة، كانت مانعة للترجمة، وهذا ما أعطى للمسلمين دلالة واضحة، وبينة ظاهرة على منع الترجمة بإعجازهم لا بأمرهم، فقد أتى المنع بالدلالة لا بالتصريح على أنه "لا ترجمة للقرآن" بالمعنى الحرفي، إذ كانت هذه الحروف مكتوبة على هيئة الكلمات، ولها حكم الكلمة في كتابة حروفها، أما لفظها فعائد على ذكر أسمائها، وهي أصل اللغات وما لا ترجمة له حرفياً، وبالرجوع لعلم الحديث والأثر لا نجد أثراً واحداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه يفيد بمنع الترجمة، ولكننا نجد الإجماع على تحريم ترجمة القرآن ترجمة حرفية! ولو سألنا: ما هو دليل الجمهور قياساً على ما يتعلق بعلوم القرآن؟ سيكون الجواب: ليس هناك دليل صريح بهذا، إلا المانع من الترجمة، وهي الحروف المقطّعة. فكيف تتم ترجمة الحروف المعجمة في أوائل السور وقد أنزلها الله حروفاً عربية، مقروءة (بلسان عربي مبين) ونحولها (نحرفها) لغير العربية، لندخل في مجال التحريف، وهو كفر كما أسلفت. هذا وإن كان من الواجب ترجمة القرآن بالمعنى، وهو من باب التبليغ كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ... الآية 67 المائدة} وهو ما سار عليه السلف والخلف، وهو من باب التفسير، إذ لا يعقل نشر رسالة الإسلام من غير نقل للمعانى لغير الناطقين بالعربية، فهي من البديهيات، ومن أنكرها فكأنما أنكر تفسير القرآن وضرب القرآن بعضه ببعض، وجعله خاص بالعرب دون سواهم. ولعل قائلاً يقول: إن العلماء قد استدلوا على عدم جواز الترجمة بناءً على الكثير من كلمات القرآن وآياته، وذلك بعدم إمكانية تحويلها للغة أخرى، مثل كلمة الواقعة في {إذا وقعت الواقعة}، ويدمغه في قوله تعالى {بل نَقِذِفُ بالْحَقِّ على الباطل فيَدْمَغُه فإذا هو زاهقٌ} وإغلال اليد إلى العنق وبسطها في قوله تعالى
{ولا تَجْعَل يدك مغلولةً إلى عنُقك ولا تبسُطها كلَّ البسْط} فأقول: إن هذا الاستدلال حاصل وقائم في وجوب أخذ الحيطة والعناية عند ترجمة القرآن بالمعنى، وليس بدليل صريح على منع الترجمة، فأي كلمة وردت في القرآن لها معنى، وحاشا لله أن يكون بعض كلامه بلا معنى، وهو دليل قابل للنقاش، وليس بمانع ولا هو بدليل صريح، ولو فرضنا بأنّه مانع لما ترجمت الكتب أصلا، وفي هذا يقول الجاحظ "إنَّ التَّرجُمان لا يؤدِّي أبداً ما قال الحكيمُ، على خصائِص معانيه، وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته، وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أَنْ يوفيها حقوقها" (¬1)، ولكننا نرى بأن العلوم قد انتقلت من لغات إلى أخواتها كما من العربية إلى غيرها، والعكس أيضاً، ولولا هذه الحقيقة لما كان لتتابع الحضارات من معنى. وقد استدل بعضهم بالإشارة للغة القرآن في الكثير من الآيات، كقوله تعالى (بلسان عربي مبين) وهذا من تعظيم لغة القرآن ورفع لشأن لغته، وليس فيه صريح المنع على نقل ألفاظه لغير العربية، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) إبراهيم} ولم تكن كتب السابقين ممنوعة من الترجمة، وإن كانت من عند الله بالاتفاق، وإن قالوا إن تحريم الترجمة من باب تحريم احتمال الاختلاف في معنى الكلام في اللغات الأخرى، أقول: إن هذا الاختلاف حاصل من غير ترجمة، وهو من حكمة رب العالمين، لا مما منع الناس عنه بل "إن وجود الاقتران أو الاشتراك اللفظي هو سبب ضلال الفرق في معرفة الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى خاطبنا ووصف نفسه بكلامنا ولغتنا" (¬2)، وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إخباراً عن علي: "إن منكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله" (¬3). وبالرجوع لعلم مقارنة اللغات، عندما نقرأ في أصل اللغات والحروف وما قالوه من محاولات للمقارنة بين اللغات الحالية وأقدم لغة معروفة، وهي السومرية (الحرف المسماري)، نجد أن أصل الحروف مختلف وإن تشابهت بعض الكلمات وألفاظها مع بعض اللغات، مما استدعي أصحاب لغة ما بنسب لغتهم إلى أصل اللغات، حتى لو كان التشابه في كلمة أو كلمتين، فترجمة ونقل الكلمات ممكن وحاصل، كيف لا وقد تتشابه بعض الكلمات مع بعضها في اللفظ والمعنى. هذا وإن كان الاختلاف في المعنى المترجم قابل للنقاش والاتفاق، ولكن ترجمة الحروف أو اسم الحرف أمر مستحيل، فالأصل في فهم اللغات المندثرة هو فك رموز اللغة وهي الحروف، بمقارنة محتويات الكلمات منها مع لغة أخرى معاصرة لها، وحروف لغة ما رموز في غيرها، ولولا هذه الحقيقة لما تم فهم اللغات المندثرة مثل السومرية والهيروغليفية، فالاختلاف كائن في الحرف إذ هو أصل اللغة، والتشابه واجب في الكلمات والمعاني، إذ هي مقصد الكلام وغاية اللغة بل هو أساس الكلام. وفي تعريف الكلمة كجزء من أجزاء الكلام قال أهل العربية: "الكلمة قول مفرد مستقل وكذا منوي معه على الصحيح" (¬4)، "وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة" (¬5)، والفرق بينهما كما قال أبو عمرو الداني: "إن الكلمة هي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات، والحرف هو الشبهة وحدها" (¬6) لأنه ¬
الباب الثالث: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على الكتابة بالحروف العربية
الأساس في بناءِ الكلمة، ولو كانت ترجمة الحروف ممكنة لتكلم الناس بلغة واحدة، وهيهات، فهو العجز البشري عن خلق ما جبلت عليه الشعوب من لغات وألوان، كما في قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) الروم} ونظرة سريعة على علم الرياضيات وترجمته، نجد النظريات والفرضيات هي ذاتها في كل اللغات بعد الترجمة، والاختلاف حاصل فقط في الرموز الموضوعة داخل المعادلات، ولن يفهمها الباحث إلا ببيان معناها وما تدل عليه كلّ حسب لغته. وعليه أقول جَازِمًا: إن هذه الحروف الواردة في فواتح السور لا تحمل المعاني فقط، بل تحمل دلائل إعجاز عظيمة، وأول دليل لها هو منع ترجمة القرآن لاستحالة ترجمة الحروف إن اقتصرت على أصل المعاني الموجودة فيها كحروف، أو إن كانت على ظاهرها لا تحمل إلا معاني الحروف الكتابية. فإن قلت لماذا لا يستقيم ترجمة الحروف بلفظها كما لو ترجمنا (الم) بما يقابلها في اللغات الأخرى من حروف، فأقول إذن كتبناها مع إسقاط ما فيها من معاني على أصلها أولاً، كما نكون قد كتبناها على صورة أسمائها وبلغة أخرى، ولم نكتبها على صورة لفظها ومسمياتها كما جاءت ثانياً، وبه نكون قد أوقعنا اللبس في الكلمات المستحدثة ثالثاً، مما يلزم بوجود كلمات لا معاني لها في القرآن، أو لها معاني أخرى مباشرة بلغة أخرى، وهذا هو التحريف بعينه. الباب الثالث: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على الكتابة بالحروف العربية لقد كان لذكر الحروف المقطّعة إشارة عظيمة على فهم مغزاها عند أهل الجاهلية كما أسلفت، وبالتالي معناها عند أهل الكتابة ومن أسلم منهم، وللوقوف على بعض مكنوناتها وجب علينا ردها إلى أصلها، وليس أصلها هنا من ناحية اللغة بل أصلها عند بداية تشريفها لنا بالنزول، فهذه الحروف قد قدسها الله بمجرد ذكرها، وإن كانت قبل التنزيل من الحروف المهملة بين حروف الأمم، وهي من حروف البشر أولاً وأخيراً. فلنتأمل أولاً في كتابة القرآن ككتاب، لنستقي تلك النفحات النورانية المتمثلة بتقديس هذه الحروف، وثانيا بتعريف الكتاب بشكل عام مع أخذ الفائدة من كل تعريف موجود، قال في اللسان: "الكِتابُ: معروف، والجمع كُتُبٌ
وكُتْبٌ. كَتَبَ الشيءَ يَكْتُبه كَتْباً وكِتاباً وكِتابةً، وكَتَّبَه: خَطَّه؛" وهذه تفيدنا بأن الكتاب هو ذاته المخطوط والمسطور على أي شيء يكتب عليه، "والكِتابُ اسم لما كُتب مَجْمُوعاً؛" وهذه تفيدنا بأنه مجموع في كتله واحدة "والكِتابُ مصدر؛ والكِتابةُ لِمَنْ تكونُ له صِناعةً، مثل الصِّياغةِ والخِياطةِ. والكِتابُ ما كُتِبَ فيه." (¬1) وهذه تفيدنا بأن كاتبه يجب عليه أن يكون من أهل الكتابة، وفي مقاييس اللغة عن كتب: "الكاف والتاء والباء أصلٌ صحيح واحد يدلُّ على جمع شيءٍ إلى شيءٍ. من ذلك الكِتَابُ والكتابة." أي جمع ما كتب، هذا ما قالته العرب، أما ما قالته الأمم غير العرب في علم المكتبات لمعنى الكتاب، فقد عرفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) بأنه: مطبوع غير دوري عدد صفحاته لا تقل عن 49 صفحة باستثناء أوراق التغليف، منشور في أي بلد ويعالج أحد موضوعات المعرفة البشرية ومتاح لكل الناس. مما يفيد جمعاً على ما سبق من كلام العرب، أن الكتاب محكوم بما كتب مجموعاً في كتلة واحدة لا تقل عن 49 صفحة، وكاتبه لا بد أن يكون من أهل صناعة الكتابة، ويكون المكتوب فيه مخطوطا بسطور لتسهيل القراءة، ويحكم عليه بما كتب فيه أخيرا، هذا هو الكتاب البشري، أما الكتاب الإلهي (القرآن) فمحكوم بأكثر من ذلك باتفاق المسلمين، فهو محكوم بلغة معينة، وكتابته يجب أن تكون بحرف معين، وهو الحرف التوقيفيّ باتفاق المسلمين، فلماذا يتفرد القرآن بهذا الشرط وهو كتاب كما هي الكتب؟ وأين نجد الدليل أو الإشارة على شرطنا - والذي لم يشترطه أحد - باستعمال حرف دون غيره في الكتابة، وهل جاء هذا الشرط إتباعاً للقرآن والسنة، أم بانعدام النص فيهما وكان من تقييد المسلمين لكتاب ربهم ومما لم يأمرهم به قائله؟ وهل ترك الله هذا لكتّاب الوحي، وهم قرروا ونحن من بعدهم قررنا وشرطنا عليه شرطاً؟ أم ألزمهم بحرف معين في كتابة القرآن كما ألزمنا بعدم الترجمة؟ أقول: الأمر باستعمال حرف دون سواه لم يرد في القرآن ظاهراً بالأمر، ولم يقله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يعرف الكتابة أصلاً، وللبيان أقول: نحن نعلم أن الله تعهد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ القرآن في صدره، والرسول - صلى الله عليه وسلم - تعهد بنقل ¬
القرآن من غير زيادة أو نقصان، وأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بتعاهد القرآن بحفظه في الصدور وكتابته وتدوينه، بل وأمر بعدم كتابة شيء من كلامه مع القرآن، وفي الحديث "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" (¬1)، فكتب الصحابة القرآن على حروف العربية وحدها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجمعوه في عهد أبي بكر في مصحف بمكان واحد، متفق على أن مجموعها هو القرآن لا زيادة عليه ولا نقصان، أما ما سواه من الصحف وإن حوت كلام الله إلا أنها بالمجمل لا تمثل القرآن كاملاً، ومن ثم جعلوه في كتاب واحد، بخط واحد ورسم واحد ونسخة موحدة ومدققة على أساس القراءات المأخوذة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجامعة وشاملة للهجات العرب السائدة في ذلك الزمان، وقاموا بنسخه وتوزيعه، ومما هو معلوم في الدين بالضرورة "إن أبا بكر الصديق أول من جمع القرآن في المصاحف حين قتل أصحاب اليمامة، وعثمان الذي جمع المصاحف على مصحف واحد." (¬2) وهم رضوان الله عليهم من سمعه، وهم من كتبه، وهم من جمعه، وهم من جعلوه كتاباً، وهم من نسخه ووزعه، وهم من شهد بأن هذا هو التنزيل الحكيم، وقد "أجمع على كتابة المصاحف العثمانية اثنا عشر ألفاً من الصحابة رضي الله عنهم" (¬3)، فتمت مهمتهم (رضي الله عنهم). وهذا كله مما أمروا به لتعاهد القرآن بحفظه وقراءته والعمل به، بل والعمل على بيانه ونشره وعدم الاشتغال بغيره من الكتب، ولكن استعمال الحرف العربي دون سواه من الحروف في كتابة القرآن لم يأمرهم به أحد، ولا يحتاج إلى أمر، فالأصل في الكتابة راجع للغة القوم وما عرفوه أصلاً من حروف كانت لهم في ذلك الزمان، فلا يعقل أن يُأمروا بكتابة شيء من دون إمتلاكهم تلك الحروف، ولكن ماذا لو قال قائل في وقتهم أو في أي وقت آخر: هل يجوز كتابة القرآن بحروف غير العربية؟ وهي بحد ذاتها صنعة وتطور لما سبقها من حروف وأبجديات؟ والسؤال هنا عن جواز استعمال غيرها من الحروف إن أعطت اللفظ حقه؟ - وما هي الحروف إلّا تمثيلاً للكلام من أول ظهورها إلى الآن - وأقول لم يأخذوا الأمر بعدم استعمال الحروف الأخرى من أحد، ولا نحن أخذنا به واتفقنا عليه إلا من فواتح السور، فإن كانت النون، والصاد، والقاف، وألف لام ميم، وحا ميم، وكاف ها ياء عين صاد مثلت كلمات من القرآن، ولها أحكام الكلمات، وهي ممثلة لحروف من العربية برسم أصيل واحد في الكتابة، فهل يستقيم استعمال حرف آخر في كتابتها مما يلزم زيادة في الكتابة على النطق حرفاً أو حروفاً فتصبح في الكتابة مجموعاً لحروف؟ والجواب قطعاً لا؛ لأنه أصل التحريف، حتى لو كان من الكاتب بقصد الاحتفاظ به لنفسه لتسهيل قراءته. ¬
وإن قال قائل: كيف لهم أن يكتبوا بحرف آخر غير عربي وهم بالكاد يعرفون الحروف العربية؟ فأقول: نعم، فالكثير من عرب شمال الجزيرة كانوا عرباً أقحاحاً يتكلمون بالعربية، ويكتبون بغيرها من الحروف كما يفعل الأنباط على شواهدهم التاريخية، وهي مشاهدة إلى الآن، وكذلك العرب في جنوب الجزيرة كانت لغتهم عربية وكتاباتهم متنوعة في الحروف، ولا ننسى بأن أهل العلم في ذلك الزمان كانوا من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) في المدينة وما حولها، وفي مملكة الحيرة وبلاد الشام، وفي اليمن والحبشة ومصر، وكلهم أصحاب حروف وأبجديات كانت في وقتهم لغات العلم ولغات العصر كما يسميها البعض، وقد كانت كتابة اللغة بغير حروفها من أدق أسباب التحريف للكتب المقدسة عند اليهود والنصارى، فقد كتب اليهود العبرية بأبجدية كنعانية فينيقية، إلى أن اتخذوا الخطوط المربعة من الآرامية، وهي ذاتها التي انقرضت واحتفظوا بها وأحيوها من جديد في دولتهم المزعومة على أرضنا المغصوبة الآن، أما نحن فلم تصلنا ورقة واحدة تدل على فعل الصحابة لهذا الأمر، بل جل ما وصلنا كتاب مزور، ألفاظه بالعربية ومكتوب بأحرف عبرية، كما أورده صاحب كتاب مجموع الوثائق السياسية للعهد النبوي، كرواية ثانية على معاهدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحنينا ولأهل خيبر ومقنا، وذكر أقوال العلماء في بطلانه. (¬1) وذكر صاحب البرهان "مسألة في كتابة القرآن بغير الخط العربي، هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربي؟ (وقال): هذا مما لم أر للعلماء فيه كلاماً ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ولقولهم القلم أحد اللسانين والعرب لا تعرف قلماً غير العربي قال تعالى: {بلسان عربي مبين} " (¬2)، وأقول بل لا يحتمل الجواز لما أسلفت، فكيف يكون المثل "القلم أحد اللسانين" دَليلاً على تقييد كتاب الله، بل هناك مانع واضح وصريح ومكرر في تسع وعشرين سورة من القرآن. "وزعْم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة، فلا يلتفت لذلك على أنّه ¬
لو سلم صدقه لم يكن مبيحا لإخراج ألفاظ القرآن عما كتبت عليه، وأجمع عليها السلف والخلف." (¬1) "وقال ابن فارس: الذي نقوله إن الخط توقيفي لقوله تعالى (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) (ن والقلم وما يسطرون) .. وقال أشهب: سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء فقال: لا إلا على الكتبة الأولى، رواه الداني في المقنع ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة ... وقال الإمام أحمد: يحرم مخالفة مصحف الإمام في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، وقال البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به هذه المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغيّر مما كتبوه شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علماً وأصدق قلباً ولساناً وأعظم أمانة منّا فلا ينبغي أن يظن بأنفسنا استدراكاً عليهم." (¬2) إذن فالفائدة هي أنْ اكتبوا بالحروف العربية (وحدها) التي تعرفون ليتطابق اللفظ مع الرسم، وهذا ما تحصّل، فقد كان "القوم يتخيرون أجمع الحروف للمعاني وأسلسها على الألسنة وأقربها في المأخذ وأشهرها عند العرب للكتابة في المصاحف" (¬3)، وما كانت الحروف العربية ذات شهرة قبل الإسلام، بل تكاد تَعد الآثار التاريخية لها قبل الإسلام على أصابع اليد، وبعد الإسلام صارت صنعة وفن، وهو ظاهر جلي في أنحاء العالم من شرقه لغربه، فتجد هذا الخط مكتوباً على المساجد والقصور، بل وأكثر من ذلك تجده قد طغى على غيره من الحروف فصارت تكتب به، وتقييد القرآن من شأن قائله وحده جلّ في علاه. ¬
الباب الرابع: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على اللفظ العربي لكلمات القرآن
الباب الرابع: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على اللفظ العربي لكلمات القرآن هب أنك ما سمعت كلام الله مشافهة، ولم يخبرك أحد بلفظه، وأردت قراءته مبتدئاً بـ (الم) أو (حم. عسق) أو (كهيعص) كيف ستقرؤها؟ وما هو الأصل في القراءة في كل لغات الدنيا؟ أهو لفظ الحرف؟ أم مسميات الحروف ووصلها لتعطي الكلمة؟ وهي أصل مبدأ الكلام، ولا يختلف اثنان بأن الناس إذا أرادوا إرسال معلومة بأي طريقة كانت فالأهم هو إيضاح الكلام، وبيان المعنى. ولا يتأتى ذلك إلا بلفظ الكلمات، بحيث ينتهي مقصد الرسالة بفهم المتلقي، فكيف برب العالمين وله المثل الأعلى، أيقاس كلامه على الإبهام؟ حاشا لله، فالسؤال هنا عن أساسيات الكلمة، وهي اللغة بلفظها وكتابتها وموقعها في النظم، وفي المحصلة معناها، وقد علمنا بأن القرآن نزل بلسان عربي متضمناً هذه الكلمات - أي الحروف المقطّعة (¬1) - باللغة العربية، وأن هذا الكلام المكتوب في القرآن بهذه الحروف وعلى هذا الشكل ليس فيه نقص ولا زيادة، وقد "كان إتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه (المترجم بكتاب الكتاب المتمم): في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه" (¬2). إذن عرفنا بمجرد النظر لهذه الكلمات ما هي لغتها وكتابتها وموقعها من النظم على حد اليقين فماذا بقي؟ يبقى لفظها ومعناها فقط. فكيف نعرف لفظها؟ والكل متفق على أن اللفظ يؤخذ بالتواتر، بل "إن تلاوة القرآن لا تؤخذ أبداً من الرسم، بل من التلقي، لأن هناك أحكاماً لتجويد القرآن وإخراج الحروف من مخارجها الحقيقية لا يمكن للشكل الإملائي أن يدل عليها، ولذلك أرسل عثمان مع المصاحف قُرّاءً، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، والمغيرة بن شهاب أن يقرئ بالشام، وعامر بن عبد قيس أن يقرئ بالبصرة، وأبا عبد الرحمن السلميّ أن يقرئ بالكوفة." (¬3) فاللفظ والكتابة مترابطان في القرآن، بل "روعي في تسميته (قرآناً) كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته (كتاباً) كونه مدوناً بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضوعين لا في موضع واحد، أعني أنّه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر." (¬4) وهذا كله بالاتفاق، مع أن هذا الاتفاق لم يأت من نص صريح يدل على وجوب تناقل القرآن باللفظ والكتابة، بل جاءت النصوص قاطعة بالدعوة لقراءة القرآن بتلاوته وترتيله، كما في قوله تعالى {ورتل القرآن ترتيلا} "والترتيلُ في القراءة: التَّرَسُّلُ فيها والتبيين من غير بَغْيٍ (¬5)، وفي قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 21] "تَلا يَتْلو تِلاوَة يعني قرأَ قراءة" (¬6)، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}: "أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه." (¬7) فأين نجد الأمر والقطع بوجوب نقل القرآن باللفظ مع الكتابة، وإن قال قائل: هذا ما اتفق عليه السلف والخلف. أقول ¬
نعم، ولكن كيف تحصل عندهم هذا الإجماع؟ ونحن نجدهم يجمعون المصاحف على مصحف واحد - هو المصحف الإمام - لا لجعله قرآنا وقد كان من قبل مكتوباً، بل ليجمع القراءات على خط واحد مشتمل لوجوه ألفاظ العرب، فالغاية منه إذن ليست الجمع - إذ لم يكن مقسماً - بل توحيد القراءات على رسم واحد، وهو ما اصطلح عليه "بالرسم العثماني"، وإن كانت هذه هي الغاية، ولم تكن الغاية قطعاً توحيد اللفظ للآيات بمنطوق أهل قريش - وفيهم نزل القرآن - دون سواهم، ونجد هذا واضحاً أيضاً في بعض الآثار بترجيح بعض الصحابة لرسم كلمة معينة دون رسمها المعتمد في المصحف الإمام لأنها توافق لفظ قريش، ولكنها من باب آخر لا تجمع ألفاظ العرب، وترجيحه مرجوح وقوله مردود بعلمه لا بعلمنا نحن، لذلك لا نجد خلافاً على توحيد المصاحف بالرسم العثماني، لعلمهم واتفاقهم أن الرسم العثماني جمع ألسنة العرب على رسم وخط وكتابة واحدة. إذن لماذا اشترطوا نقل اللفظ مع الكتابة وهم جمعوه بسبب تنوع اللفظ؟ فإن قال قائل: إن عثمان بعث مع نسخ المصحف من يبلغ القرآن على ألسنة العرب، ليتم حفظ لهجات العرب، فأقول إن هذا مما وقع للناس لاعتقادهم بأن القراءات المشهورة للقرآن هي ذاتها ألسنة العرب في زمن التنزيل، وهذا من وهم العوام. ولبلوغ المقصد الصحيح، علينا الرجوع لأصل الرسم العثماني قبل التشكيل والتنقيط في زمن الصحابة ومن أدركوه من أهل الفصاحة وأهل الألسنة التي نزل بها القرآن، هل سيقرأون القرآن بوجه غير صحيح وقد نزل القرآن على لسانهم!؟ والجواب قطعا لا، إلّا في موضع واحد، وهو فواتح السور! فما أدراه ما هي (ب) أهي ب أم ت أم ث أم ن أم ي و (ص) أهي ص أم ض و (ق) أهي ف أم ق؟ لن يعرف إلا بمعرفة لفظها، ومن لفظها تتم الرسالة فقط، وعلاوة على ذلك فقد جاءت الحروف مكتوبة على هيئة مسمياتها، وتلفظ بأسمائها كما في الهجاء، فلا سبيل لقراءتها إلا على أساس اللفظ فيها كما كتبت، كما "قال سيبويه: قال الخليل يوماً وسأل
أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف؛ فقال: إنما جئتم بالإسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كه، به." (¬1) فأفادت هذه الحروف بوجوب وإلزام نقل القرآن باللفظ والكتابة معاَ، لأن كتابة الحروف تقضي بقراءتها على أسمائها إن جاءت مفصولة فقط، وعلى لفظ الكلمة إن جاءت موصولة فقط، وهذه الحروف جمعت بين الاثنين، فلا مخرج منها إلا بتبليغها باللفظ. وإن قال قائل: إن كتابة القرآن اعتمدت الرسم العثماني، وهم قد اختاروا هذا الفعل - أي أن يكتبوها على هيئة الكلمة - وكان بإمكانهم فعل العكس، قلت كيف لهم أن يكتبوا مثلاً (نون) هكذا، وهي تعني الحوت؟ وكيف لهم أن يضمنوا عدم لفظها بغيرها كما تقرأ أيضاً توت؟ وصاد تأتي كفعل، وياسين هو اسم، وقاف كذلك وزيادة، لكنهم كتبوها كما ألزمتهم من غير لبس، ولفظوها كما سمعوها، وبلغوها كما نطقها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ورغم ما في هذا الاستنتاج من فائدة عظيمة وإبهار للعقول، وإعجاز للبشر بمجرد النظر لبعض أسرار النظم الإلهي، إلا أنه يرفعنا لمقام أعلى لفهم المقاصد واستنتاج للمعاني، ولبيان الطرح أقول: لنعد لقول الله تعالى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة} لنتأمل في هذا الوحي الإلهي قبل الكتابة، وحين التلقّي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجوعا لبيان الحال كما جاء في أقوال ابن عباس " كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه"،" وكان يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه" وقال: " أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه"، وكل هذا لبيان الحال، فهذه الأفعال منه - صلى الله عليه وسلم - من أفعال البشر لحرصه على حفظ القرآن، وهي مما يفعل الناس عند الاهتمام ¬
بحفظ نص ما، ولكن جاء الوحي الإلهي لبيان واقع الحال على اليقين، وإعلاماَ بأن أفعال البشر تلك لن تكون السبب في حفظ القرآن {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} سواء بحفظه أو تأليفه، فلا تتكل على تلك الأفعال، بل توكل علينا وتيقن بأن الله سيحفظه ويرعاه حق الرعاية {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} فهو الدور الإلهي لا دور البشر ولا دور أفعالهم، وكما يسَّر الله للبشر نَبِيًّا صَادِقًا كريما لتصل الرسالة لهم على لسانه، يتعهد الله بأن يحفظه في صدرك كاملاً غير منقوص، ويتعهد بتيسير حفظه في صدور المتلقين بعد تلقيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتعهد بجمعه في صدور المؤمنين غير منقوص، وتيسير التأليف له ليكون قرآنا يتلى من كتاب واحد، وعهد الله كان بالحفظ والتأليف طبعاً، وما من شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان همه الحفاظ على القرآن بكل الأشكال، وليس التأليف مما طلب منه، وهذا لعلمنا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميّاً لا يكتب، ولذلك {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} أي اتبع ما يتلى عليك من القرآن وما يلزمه من دعوة للناس إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتتم الرسالة بالتبليغ والعمل بها {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وهنا تنبيه للسامع بثمّ، أي انتبه فبعد كل ما ذكر، وبعد هذا التعهد العظيم، فإن بيان القرآن للناس بكل الوجوه على الله أيضاً، فلن يضيع منه شيء حتى يُجمع في الصدور والسطور كامِلاَ من غير زيادة أو نقصان. وعليه فإن من بيان الله لقرآنه بيان هذه الحروف، وما على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا التبليغ بها كما جاءت، فإن قال قائل: هل ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حروف الفواتح شيء غير قوله «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وقوله «إن بيّتكم العدو فليكن شعاركم: حم لا ينصرون» قلت: لا، والسبب لا لأنه لم يصلنا شيء من بيانه لها كما زعم البعض، بل لأنه - صلى الله عليه وسلم - بيّن ما نحن بحاجة إليه في معانيها بقوله الأول، وإحدى إشارات الإعجاز فيها بقوله الثاني، أما دلالات الحروف فلا، لأنه لا يكتب ولا يعرف علم الحروف والكتابة، لا العربية ولا غيرها، وكان عدم ذكره لهذه الدلالات سبباً من أسباب حفظ القرآن، فبيان هذه المقاصد لا يكون إلا بنقلها كما هي لمن يعرف الكتابة، وبيانها بعد ذلك يكون عليهم بكتابتها كما تلفظ أولا، وبيانها بعد الكتابة بقراءتها كما نزلت ثانياً. ومن هنا نعلم بأن هذه الحروف قد أثقلت على الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ألزمتهم بنقل القرآن كتابة وَنُطْقًا، مع وجود طريقة معروفة وموثوق بها تخفف عنهم هذا العبء، وهي كتابة الحواشي، وهي طريقة بسيطة، ولم تخف عليهم ولن تخفى على من يعرف الكتابة، ولكنهم لو وضعوا الحواشي على كل فاتحة من السور لبيان اللفظ لألزمهم الشرح، ولو أردنا بيان اللفظ بكتابته لن يستقيم، مثلاً لفظ (كاف ها يا عين صاد) لا يكتب إلا بالإشارة لكلمات أخرى مثل (كاف من كاف، ها من هاد، يا من كريم، عين من عليم، صاد من صمد) وعليه ستكون الحاشية متضمنة شرحاً - طال أو قصر- وستكون مفتاحا لكتابة الحواشي على القرآن، وبما أنهم - رضوان الله عليهم - هم القدوة والأمنة على كتاب الله لم يفعلوها، وإن كانوا قد بيّنوها بما يوافق هذا البيان، كما روي عن ابن عباس بقوله: اسم مقطع، وقوله كاف من كاف وغير ذلك، فقد علموا أنها ستكون موطن سؤال واستفهام، ولم يضعوا حاشية واحدة تبين اللفظ. وعليه من سيقوم بكتابة الحواشي على القرآن بعد هذا؟ لهذا السبب نرى الإجماع على كراهة كتابة الحواشي على القرآن ولو كان بقصد التعليم، "فلا تجوز وإن احتيج إليها لما فيه من تغيير الكتاب عن أصله ولا نظر لزيادة القيمة بفعله" (¬1)، فقد كانت هذه الحروف أحد الأدلة الظاهرة البينة على هذا الإجماع، وإن لم يأت الأمر صراحة في القرآن والسنة، وقد سبق الحديث ¬
عن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" وفصلت في الخلاف على بيانه والجمع بينه وبين سماحه - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو بالكتابة، وأن كلامه - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا وحي يوحي، إذ استمر الصحابة على منع أتباعهم من الكتابة عنهم، فهذا الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - وجّه عناية الصحابة رضوان الله عليهم لكتابة القرآن وحده، وأعني بالقرآن: كلام الله من غير رواية أو تطرّق لخبر السماع منه - صلى الله عليه وسلم -، وأعني بوحده: القرآن من غير زيادة بتعليق أو شرح أو حاشية أو سند مهما كان، وتجد أثر هذا الأمر عند مقارنة القرآن بكتب اليهود والنصارى (العهد القديم والعهد الجديد - الكتاب المقدس) فنجد أن العهد القديم (التوراة وتوابعها) مكون من ستة وأربعين سِفراً منها خمسة فقط (التكوين، الخروج، الأحبار، العدد، التثنية) هي التوراة بزعمهم أو كتاب الشريعة المنزل على موسى، والباقي ملحقاتٍ لأنبياء وملوك ومجهولين لا يعرفون عنهم شيئاً، ويزعمون أنها جميعاً كتبت بإلهام من الله، وكذلك العهد الجديد يحتوي على سبعة وعشرين سِفراً (الإنجيل وتوابعه) منها أربع روايات للبشارة والباقي رسائل وأسفار كلها مكتوبة بإلهام من الله على زعمهم. فهي مليئة بالتوابع والملحقات حتى صار أهل العلم عندهم لا يفرقون بين الإضافة والحاشية والتعليق وبين الكلام المنسوب إلى الله، وسآتي على بيان ما في كتابة الحواشي من عظيم الأسباب لتحريف الكتب المقدسة السابقة للقرآن في الفصل القادم إن شاء الله.
الفصل الخامس: بيان أسباب التحريف في الكتب المقدسة السابقة
الفصل الخامس: بيان أسباب التحريف في الكتب المقدسة السابقة نعلم الآن بأن هذه الحروف قد حملت في طياتها مانِعاً أصيلاً من موانع التحريف، وهو إعجاز المبلّغين عن التصرف في لفظهِ وكتابتهِ، قياساً على ما حصل للكتب المقدسة السابقة، فمنعت أسباب التحريف الأساسية، والتي قامت عليها كل الأسباب الظاهرة الجلية. ولبيان بعض الأسباب لحفظ القرآن المتمثلة في الدلالات والإشارات الواردة في فواتح السور، وما فيها من إعجاز لحفظ القرآن، باتباع الأسس المدلول عليها في حروف الفواتح، لضمان عدم التغيير في المكتوب، كما هو الإعجاز في النظم أيضاً لضمان عدم التغيير في المعاني، يلزمنا أن نُفصّل في أسباب التحريف للكتب المقدسة السابقة بعد تتبعها وتنقيحها بناءً على ما جاء في كتبهم من تناقض، وما ذكره القرآن كأسباب للتحريف، لنعلم أن الحروف ما جاءت إلا لمنع الأسباب الرئيسية للتحريف. ومجمل الأسباب بشكل عام ينقسم إلى قسمين، أسباب خفية (أساسية) وأسباب جلية (فرعية). الباب الأول: الأسباب الخفية للتحريف (الأسباب الأساسية) وهي الأسباب الرئيسية التي نتجت عنها كل الأسباب الظاهرة لنا في التحريف، وكانت المسوغ الأساسي لبدء التحريف بتغيير كلام الله والاستمرار به أيضاً وهي: أولاً: الترجمة الحرفية لكلمات الكتب المقدسة كما في العهد الجديد (الإنجيل) باللغة اليونانية (وهي لغة العلم في ذلك الزمان)، وما نتج عنه من تناقض مع غيره من الكتب باللغة العبرية أو السريانية الآرامية، حتى تم ترجيح المعاني الواردة في اللغة اليونانية على غيرها لأنها أدق وأقدم تاريخياً! ومن ذلك الخلاف بين بعض المسلمين واهل
الإنجيل على كلمة"البارقليط" أو "المعزّي" أو "روح الحق" الواردة في إنجيل يوحنا (الإصحاح 15 فقرة 26) "ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي" وبعدها بقليل بيانا لبشارة المعزّي (الإصحاح 16 فقرة 13) "وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بامور آتية" وفي ذلك يقول الدكتور منقذ السقار: "هو بشارة من المسيح بنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يظهر من أمور: منها أن لفظة "المعزي" لفظة حديثة استبدلتها التراجم الجديدة للعهد الجديد، فيما كانت التراجم العربية القديمة (1820م، 1831م، 1844م) تضع الكلمة اليونانية (البارقليط) كما هي، وهو ما تصنعه كثير من التراجم العالمية. وفي تفسير كلمة "بارقليط" اليوناني نقول: إن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين، الأول أنه "باراكلي توس"، فيكون حسب قول النصارى بمعنى: المعزي والمعين والوكيل. والثاني أنه "بيروكلوتوس"، فيكون قريباً من معنى: محمد وأحمد. ويقول أسقف بني سويف الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا: "إن لفظ بارقليط إذا حرف نطقه قليلاً يصير "بيركليت"، ومعناه: الحمد أو الشكر، وهو قريب من لفظ أحمد." (¬1) وهي بلا شك كانت تكتب قديماً باللفظ الأصلي فقط "البارقليط" أو "الفارقليط" من غير ترجمة، إذ نقل الكثير من العلماء والمؤرخين هذه النصوص من الكتاب المقدس عن ترجمات تعود لمئات السنين، (¬2) ويقول الدكتور عبد الرحمن السليمان أستاذ علم اللغات ومقارنتها: "كلمة "الباراقليط" الموجودة في الأصل اليوناني لإنجيل القديس يوحنا هي: Parakletos ••••••••• ، وهي كلمة مركبة من: •••• ومعناها "إلى جانب"، و••••••: وهي صفة غالبة مشتقة من الفعل ••• ومعناه "ساعد، آزر، دعا، عزَّى، شجَّعَ". وعليه فإن معناها ¬
الحرفي يكون: "المساعد، المؤازر، الداعي، المعزي، المشجع". وقد أصبح هذا الفعل في اليونانية الحديثة كما يلي • • • • • • • • = paregoro أما المعزي فصار فيها • • • • • • • • • • = paregoros. والطريف في الموضوع أن هذه الكلمة اليونانية دخيلة في العبرية وتعني فيها "محامٍ" (• • • • • • = باراقليط "محامٍ"؛ • • • • • • • = باراقليطوت "محاماة". وهنالك كلمة يونانية ثانية هي: • • • • • • • • • Pariklytos ومعناها "الإنسان الحميد/المحمود" إذاً عندنا كلمتان متشابهتان جداً في اللفظ: "الباراقليطوس" (بفتح الراء وإمالة اللام) المثبتة في الأصل اليوناني لإنجيل القديس يوحنا ( Parakletos=) وتعني "المعزي"، و"البارِقليطوس" (بكسر الراء) التي تفيد معنى "الحمد" ولكنها غير موجودة في الأصل اليوناني لإنجيل القديس يوحنا ( Pariklytos=) وواضح من رسم الكلمتين ونطقهما أنهما متشابهتان تشابهاً يجعل التصحيف (أقول التصحيف) أمراً وارداً." ويقول بعدها: "والتصحيف وارد جداً سواء أكان في النقل أو في الترجمة. ومن يعرف مشاكل نصوص الكتب المقدسة التي تناهت إلينا بلغات ميتة كالعبرية والآرامية واليونانية القديمة والأبستاقية والسانسكريتية، يعي الأمر أكثر من غيره." (¬1) واقول: قد رأيت هذه الكلمة (باراكليت) مثبتة في حاشية الترجمة العربية لنسخة قديمة من الكتاب المقدس بدلاً من المعزي، ولست أستشهد هنا بكلام أحد لإثبات التحريف في كلمة ما، بقدر ما أستشهد لبيان حقيقةٍ ظاهرة وسبب من أسباب الطعن الرئيسة في الكتب المقدسة القديمة، فقد تمت ترجمة الإنجيل من لغته الأصلية (العبرية) إلى اللغة اليونانية القديمة وهذا معلوم علم اليقين، كما هو معلوم أن إحدى هذه اللغات تنتمي لعائلة لغوية مختلفة وبعيدة كل البعد عن الأخرى، فالعبرانية لغة آرامية سامية كما هي السريانية، وتنتمي لعائلة اللغات الأسيوية-الافريقية، واللغة اليونانية لغة أغريقية تنتمي لعائلة اللغات الهندية-الأوروبية، ونحن الآن نختلف على إعادة الأصل منها إلى لغة سامية هي أخت اللغة العبرانية الأم وأخت الآرامية وهي العربية، فلو كان الأصل ¬
موجوداً وبقي ولم يُترجم ترجمة حرفية أضافت عليه وغيرت فيه وأصبحت هي الأَوْلى بالمتابعة والنقل والمقابلة، لكانت المقارنة بين لغة واختها، وما دامت الكلمات تحمل المعاني فلن نختلف عليها، أما ما نحن فيه فلا وجه لمعرفته إلا بالإثبات التاريخي الأثري، وهو معدوم كليّا بسبب جواز الترجمة الحرفية لمعاني الكلمات في الكتاب المقدس من أصله الأول، هذا أولاً، وثانياً بسبب فقدان الأصل وبقاء الترجمة. وهذه الحجة هي أول حجة لأصحاب المذهب البروتستانتي في النصرانية على غيرهم من النصارى عند ظهور مذهبهم في القرن السادس عشر ميلادي، فرفضوا كثيراً من أسفار العهد القديم وقالوا:"إن الأصل العبراني لهذه الأسفار مفقود، والموجود هو ترجمة لها." (¬1) ثانياً: كتابة النص بحرف غير الحرف المنزل كما في العهد الجديد والقديم، فقد اختلفوا على أصل كتابة الإنجيل أهي بالعبرية أم بالسريانية رغم أن لغة المسيح عليه السلام عبرية، كذلك العهد القديم إلا أن اليهود كتبوه باللغة العبرية ولكن بأحرف كنعانية فينيقية، إلى أن اتخذوا الخطوط المربعة من الآرامية وكتبوه بها بعد مئات السنين، وأقدم النصوص للعهد القديم بما حوته من اختلاف بين أصولها وانعدام التطابق في محتواها سواء النصوص اليونانية أو العبرية أو السامرية لا تتعدى المئة الرابعة قبل الميلاد بافضل الأحوال، وهو التاريخ التقريبي للبدء بكتابة العهد القديم بالكتابة العبرية المستحدثة، وقد حدثت بعد السبي البابلي على يد الكاهن عزرا وهو موظف رفيع في بلاط ملك فارس، بعد أن استولى ملك الفرس كورش الثاني أو كورش الأكبر (559 - 530ق. م) على بابل وأسس الدولة الإخمينية، وسمح لبني إسرائيل بالعودة إلى القدس بعد أن سباهم نبوخذنصر إلى بابل، وذكر في العهد القديم ما يفيد أن الكاهن عزرا كتبها وهو هناك وبمباركة الملك أرتحششتا أو أرتحشستا ¬
ويسمى لونجيمانوس (465 - 424ق. م) حيث ورد في سفر عزرا (7) ((6) عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤله ... (11) وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك ارتحشستا لعزرا الكاهن الكاتب كاتب كلام وصايا الرب وفرائضه على إسرائيل (12) من ارتحشستا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل إلى آخره (13) قد صدر مني أمر أن كل من أراد في ملكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع إلى أورشليم معك فليرجع ... (21) ومني أنا ارتحشستا الملك صدر أمر إلى كل الخزنة الذين في عبر النهر أن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء فليعمل بسرعة ... (26) وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقض عليه عاجلاً إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال أو بالحبس) وهذه الإشارات تدل على أن هذا الملك الوثني أراد بسط نفوذه السياسي بغض النظر عن المعتقدات الدينية، واعتبر تطبيق الشريعة الإلهية مرهوناً بمراعاتها لشريعته، فكانت جزءاً من منظومته الإدارية والسياسية. ولكن بغض النظر عن قبول محتوى الأسفار والإسناد فيها والخلاف على نسبتها لإرهاصات عزرا أو وحي الإله، فنحن أمام مفترق طرق، سلك فيه هذا الكتاب طريقاً لا رجعة فيه ولا سبيل لمعرفة المصدر قبله، وفي هذا يقول الدكتور منقذ السقار: "إن غاية ما يمكن أن نصل إليه فيما لو جمعنا كل هذه النصوص، أن نوفق في الوصول إلى نص يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، أي إلى نص كتب بعد موسى بألف سنة، أما استعادة النص الذي كتبه موسى عليه السلام فدونه خرط القتاد." (¬1) ولو كانت الكتابة بنفس الحروف المنزلة موجودة ومحفوظة، وكتبت بها كلمات التوراة لما كان الترجيح أو المقابلة مرهونة بقرن أو بمدة، بل كانت حينها أساساً ومرجعاً نتكئ عليه عند المقابلة والترجيح. ولكن كتابة التوراة بحروف غير الحروف المنزلة وإن كانت تعطي اللفظ حقه قد صنعت حاجزاً وسدّاً منيعاً للبحث العلمي ولا سبيل لتخطيه أبداً، وقد كانت سبباً رئيساً في الطعن المثاليّ لأي محاولة في إثبات النصوص ¬
وأصالتها. "وطبقاً للموسوعة البريطانية فإن النص السامري يختلف عن النص اليوناني (في الأسفار الخمسة) بما يزيد على أربعة آلاف إختلاف، ويختلف عن النص العبري القياسي بما يربو على ستة آلاف إختلاف." (¬1) ثالثاً: ضياع اللفظ وإضافة الحواشي والتعليقات كما في العهد القديم والجديد، فلا يكاد أهلها وأهل العلم فيها يفرقون بين الكلام الإلهيّ وتعليقات الأحبار والرهبان. ومن المعلوم أن اللغات تتطور وتتبدل، وأسلوب الكتابة والتأليف محكوم بقرب المؤلف أو بعده عن بلاغة اللسان وفنون النظم لعصر ما. ونعلم "أنه علم بالتجربة أن الفرق يقع في اللسان الواحد بحسب اختلاف الزمان، فمثلاً لو لاحظت لسان الإنجليز قبل أربعمائة سنة لوجدت تفاوتاً فاحشاً بينه وبين اللسان الإنجليزي المعروف الآن، وقد قال نورتن الذي هو من كبار علماء النصارى بأنه لا يوجد فرق معتد به في محاورة التوراة ومحاورات سائر الكتب من العهد العتيق التي كتبت بعدما أطلق بنو إسرائيل من أسر بابل، علماً أنّ المدة الواقعة بين وفاة موسى عليه السلام وبين إطلاقهم من الأسر حوالي تسعمائة عام، ولأجل إنعدام الفرق المعتد بين أسلوب التوراة وبين أسلوب سائر كتب العهد العتيق فإن العالم ليوسدن الذي هو ماهر جداً باللسان العبراني إعتقد أن هذه الكتب جميعها صنّفت في زمان واحد." (¬2) ورغم هذا التناسق في الأسلوب تجد الاختلاف من كتاب لآخر وفصل لآخر بناءً على ما علّق وأضاف الكاتب والناسخ من حواشي، ومن ذلك ما ذكره رحمت الله الهندي من فقرات في سفر التثنية (أحد الأسفار الرئيسية الخمسة للتوراة) وهي: (فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب ¬
حسب قول الرب (6) ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (7) وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات. . . (8) فبكي بنو إسرائيل موسى. . . (9) ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى ... ) وقال بعدها "فهل الكتاب السماوي المنزل على موسى عليه السلام يكون فيه موته ودفنه والبكاء عليه واندثار قبره إلى هذا اليوم وعدم قيام نبي مثله؟! " والعجيب أن إضافة الحواشي سواء القديمة أو الجديدة مستمرة وفي تعديل دائم بحسب الطبعات والإتفاقات، مما يعني استمرار التحريف واستمرار الطعن في الكتب السماوية. وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرحمن السليمان: "ونظرة واحدة إلى حواشي الطبعات العلمية للكتب المقدسة، تكفي لإثبات واقعة التصحيف إثباتاً لا يقبل الجدل لأنه مثبت في تلك الحواش. أما التحريف فهو وارد من الناحية العلمية البحتة وثابت في أكثر من موطن في الكتاب المقدس. وأنا أقول ذلك من الناحية العلمية البحتة وليس من باب الجدل الديني." (¬1) رابعاً: كتابة النصوص بالفهم الفردي للمعنى من غير الالتفات للنظم كما تجده في العهد القديم والجديد، فكل كاتب لسفر من الأسفار قد كتب بحسب ما فهم من النص الأصلي، أو بما تحصّل في ذهنه من القصص والروايات بلغته الخاصة، فتجد الإختلاف في نفس النسخة من مكان لآخر وتجد الركاكة في النظم واضحة، مما يدل على التحريف. ومن ذلك ما تجده في العهد الجديد (الإنجيل) والمنسوب ليوحنا حواري المسيح عليه السلام، فمن أسلوب الكاتب "لا يظهر من أي موضع في هذا الإنجيل أن كاتبه كتب الحالات التي رآها بعينه أو الحوادث التي وقعت بحضوره، بل تشهد عبارات هذا الإنجيل على أن كاتبه غير يوحنا الحواري؛ فهو يقول في ختام هذا الإنجيل (الإصحاح 21 فقرة 24): (هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق.) فاستعمل الكاتب في حق يوحنا ضمائر الغائب، لكنه قال في حق نفسه (نعلم) على صيغة المتكلم، فثبت أن كاتبه غير يوحنا الحواري قطعاً." (¬2) أما في العهد القديم (التوراة بأسفارها الخمسة فقط) فحدّث ولا حرج، والمثال فيها لا يُضرب على أسلوب الكاتب أو ما كتب بفهمه، بل إنك إن قرأتها ستبحث عن موطن لا تعتقد أن فيه إضافة أو تعليقا من كاتبها، "بل جميع عبارات التوراة الحالية تشهد بأن كاتبها غير موسى عليه السلام، وأن هذا الكاتب جمع الروايات والقصص المشتهرة بين اليهود وميّز بين الأقوال، فما كان في زعمه من كلام الله أدرجه تحت قوله: (قال الله)، وما كان في زعمه من كلام موسى أدرجت تحت قوله: (قال موسى)، وعبر الكاتب عن موسى في جميع المواضع بصيغة الغائب، مثل قوله: (وصعد موسى)، (وقال له الرب)، (فمات هناك موسى)، فلو كانت التوراة الحالية من تصنيف موسى عليه السلام، لعبر عن نفسه بصيغة المتكلم ولو في موضع واحد من المواضع؛ لأن التعبير بصيغة المتكلم يقتضي زيادة الاعتبار، وهذا وحده دليل كامل على أن التوراة الحالية ليست من تصنيف موسى عليه السلام." (¬3) وكل هذا الطعن ليس لإثبات تحريفها فالتحريف فيها أوضح من الشمس في كبد السماء، بل هو لبيان السبب الأصيل لهذا التحريف وهو كتابة كلام الله بالفهم الفردي، وكل كاتب يكتب بحسب علمه وفهمه وأسلوبه في البيان. ¬
الباب الثاني: الأسباب الجلية للتحريف (الأسباب الفرعية)
الباب الثاني: الأسباب الجلية للتحريف (الأسباب الفرعية) وهي كثيرة وناتجة بالمحصلة من إمكانية الترجمة وكتابة الحواشي واستعمال الحروف المختلفة والكتابة بالمعنى، وتنحصر في ثلاث أسباب منطقية وهي الزيادة والنقص والتغيير وهذه الأسباب ظاهرة جلية والغايات من التحريف منها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن ولكنها مستمرة ما دامت الأسباب الرئيسة مسموحة وقابلة للتجديد، وهذه الأسباب تتمثل في النقاط التالية: أولاً: كتابة كلام جديد والزعم أنّه من عند الله لغايات عديدة كما في العهد القديم والجديد، فالعهد القديم مؤلف من ستة وأربعين سِفراً (على خلاف بينهم)، خمسة منها هي التوراة بزعمهم، والباقي من مجمل الأسفار وما كتب الأحبار، وكلها بوحي من الله بزعمهم! إلا عند السامرية ونسختهم الخاصة من التوراة، "والأسامرة تزعم أن التوراة التي في يد اليهود ليست التوراة التي أوردها موسى بن عمران عليه السلام، وأن تلك حرفت وبدلت وغيرت، وأن الْمُحْدِثَ لهذه التي بأيديهم هذا الملك المذكور (زربابل بن شألتيئيل)؛ لأنه جمعها ممن كان يحفظها من بني إسرائيل، وأن التوراة الصحيحة هي التي في أيدي الأسامرة دون غيرهم." (¬1) ويقتصر إيمانهم على الأسفار الخمسة الأولى، أما غيرهم من اليهود والنصارى فيؤمنون بكل سفر منها على خلاف في بعضها، وهو بالطبع مما نتج عن المسوغات الأساسية للتحريف، فإذا حَكَمت كلمات المعلِّقين والشُرّاح والمترجمين على الكتاب، صارت إضافاتهم من مجمل الكتاب. بل وتجد الكثير من أسفار العهد القديم لمؤلّفين لا يَعرفون عنهم شيئاً ¬
ومجهولون بالكلّية، ومع ذلك يعتبرونها وحي من السماء! هذا من باب، ومن باب آخر تجد في بعض أسفارهم كلاماً عن تكفير بعض أنبيائهم وتفسيقهم والوعيد لهم من الله بالعذاب والسبي والقتل بزعمهم! كما جاء على لسان النبي إرميا بعد تنبؤه بخراب أورشليم على يد البابليين، لأنه لم يبق في بلادهم خير ولا أحد منهم يقول الصدق بحسب كلامهم، وقد عبدت الأصنام في أرجاء أورشليم وساد الكهنة على الهيكل (وفيه كانت التوراة بخط موسى محفوظة بحسب كلامهم)، يقول في سفر إرميا - الترجمة العربية المشتركة - (الإصحاح 23): ((11) النَّبيُّ والكاهنُ كافران، وفي هيكلي وجدْتُ شَرَّهما (13) في أنبياءِ السَّامِرةِ رأيتُ حماقةً: يتَنبَّأونَ بِاسمِ الإلَهِ بَعلٍ ويُضلِّلون شعبي إسرائيل (14) وفي أنبياء أورشليم رأيتُ العَجب: يَسلُكونَ طريق الزِّنى والزُّور، ويُشَجعون مَنْ يفعلون الشَّر لِئلا يرجعوا عن شرِّهم. فصاروا لي كلهم كسدوم، وصار سكانها كعمورة (15) وقال الرّبُّ القديرُ على الأنبياءِ: ((سأُطعِمُ أنبياءَ أُورشليمَ عَلْقَمًا وأسقيهِم سَمُا، فَمِنهُم خرَج الكُفْرُ إلى كُلِّ الأرضِ)) (16) وقالَ الرّبُّ القديرُ: ((لا تَسمَعوا لِكَلامِ الأنبياءِ الذينَ يتَنَبَّأونَ لكُم ويَخدَعونَكُم. هُم يتَكَلَّمونَ بِما يتَراءى لهُم، لا بِما أقولُ أنا الرّبُّ ... ) وهذا الكلام في فترة دقيقة من تاريخ بني إسرائيل وتاريخ الكتاب المقدس بحد ذاته، فإن كان أنبياؤهم كفرة وفجرة بزعمهم فكيف بمن كتب هذه الأسفار وهو مجهول؟! ناهيك عن إقحام الكلام في الأسفار الخمسة الأساسية وظهور الفرق بين الجمل المقحمة والمعلومات المكذوبة وبين السياق العام للنص، من ذلك إقحام قصة صراع يعقوب مع الله وكيف صرع يعقوب ربه في سفر التكوين (إصحاح 32 فقرة 23) فلا السياق ولا المعنى ولا الموقف ولا حتى الأسلوب يساعد على هضم هذه المعلومة في وسط سياق مكون من خمسين إصحاحاً.
أما في العهد الجديد فسأضع ما وضعوه في مقدمة نسخة الكتاب المقدس - الترجمة العربية المشتركة - في بيان المصطلحات فكتبوا " * نجمة فوق الكلمة تفيد أن ثمة ملاحظة في الحاشية، ( ... ) العبارات التي ترد بين قوسين هي عبارات معترضة أو تفسيرية لكنها من صلب النص." وأقول ملاحظة في نسخة ما، هي صلب عقيدتهم في نسخة أخرى! وكيف تكون جملة معترضة أو تفسيرية ومن صلب الكلام؟! أي من غيرها لا يستقيم الكلام ويكون ناقصاً!؟ وقد تكون هذه الإضافة في نسخة أو طبعة مثبته، وفي غيرها صارت حاشية علمية، وفي غيرها معدومة. وقد يظن القارئ أن هذه الجُمل المضافة أو الحواشي كلمات بسيطة لا تدخل في صلب العقيدة، وهي ليست كذلك، بل هي تمثّل أركان العقيدة النصرانية. من ذلك ما جاء في التثليث، وهو ركن من أركان عقيدتهم، فانظر إلى رسالة يوحنا الأولى (الإصحاح5) نسخة سميث فان دايك المشهورة: ((7) فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب، والكلمة، والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد (8) والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح، والماء، والدم. والثلاثة هم في الواحد) ولاحظ عقيدة التثليت من أين أتت، وقارن بالنسخ الأخرى، ففي نسخة الترجمة العربية المشتركة ((7) والذين يشهدون هم ثلاثة*: الروح، والماء، والدم. (8) وهؤلاء الثلاثة هم في الواحد) وفي الحاشية * كتبوا "ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس، هؤلاء الثلاثة هم واحد؛ والذين في الأرض هم ثلاثة: هذه الإضافة وردت في بعض المخطوطات اللاتينية القديمة" أما في النسخة اليسوعية الحديثة فجاءت ((7) والذين يشهدون ثلاثة: الروح، والماء، والدم.* (8) وهؤلاء الثلاثة متفقون) وفي الحاشية * كتبوا "الترجمة اللفظية (وهؤلاء الثلاثة نحو الواحد) في الآية 6 استشهد الكاتب إلى الماضي، في حين أنه يتكلم هنا على (شهادة) دائمة في حياة الكنيسة. التفسير الشائع هو أن المقصود هنا هو المعمودية (الماء) والافخارستيا (الدم). وهذه الشهادة المزدوجة تضاف إلى شهادة الروح ... وفي آخر الأمر، يؤدي هؤلاء
الشهود الثلاثة شهادة واحدة، وهي الشهادة التي يكشف لنا الله بها حياته الإلهية ويهبها لنا (الآية 11) " وكل هذا الشرح والمحاورة الضرورية بنظر الكاتب في هذه الزيادة لا نجده في الطبعة القديمة من النسخة اليسوعية ذاتها، بل نجد الزيادة مثبتة في القديمة من غير حاشية أو شرح أو بيان للكاتب الأصلي ومن حرّف الأصل بإضافة الجملة. ولكن بعد أن انفضحت الزيادة عند مقابلة النسخ التاريخية، وجب إسقاطها بزعم الكاتبين الجدد، ولا أقول إلّا ما قالوه وما احتجّوا به على بعضهم البعض، وإن كان منهم من يرى إلى الآن أن هذه الجملة معترضة أو جملة تفسيرية لكنها من صلب النص، أي يُصرّون على التحريف في صلب العقيدة، ولن أزيد على هذا النوع من التحريف في هذا الباب فهو كافٍ وشافٍ لبيان السبب من التحريف. ثانياً: تغيير النص إما لتفادي التناقض أو لتحكيم العقل أو قلباً للحقائق لغاية دفينة كما في العهد القديم، كتغيير اسم الذبيح من إسماعيل لإسحاق، مما أظهر التناقض في الكتاب بحيث ذكر في مكان أن إسماعيل هو أول أولاد إبراهيم، وفي مكان آخر أنّ إبراهيم أراد ذبح وحيده إسحاق وهذا لا يستقيم عقلاً، ففي كل النسخ من العهد القديم (سفر التكوين 22) تحت عنوان إسحاق ذبيحة للرب ((1) وحدث بعد هذه الأمور أن الله إمتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم. فقال: هأنذا (2) فقال: خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك) وفي السفر الذي قبلة تحدث عن مولد إسحق وطرد إسماعيل وهاجر! وفي العهد الجديد، تجد فيه نسخة غيّرت كلمة واحده، لأنها إن ثبتت دلت على شيء لا يعقل أو لا يتناسب مع قائلها، وكان السبب فيها إما لزيادة في الترجمة أو لما هو مضاف، أو لترجمة ما لا يترجم من الحروف الأخرى، أو لترتيب الجمل وما فيه ركاكة في النظم. ولن أتطرق لتغيير المعلومة للغايات الدفينة بل لتغيير المعلومة في النسخ العلمية بزعمهم وهو التحريف الحديث. من ذلك ما تجده في إنجيل متى نسخة فان دايك
(الإصحاح 19 فقرة 9): (وأقول لكم: إن من طلّق امرأته إلا بسبب الزنا وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقةٍ يزني) بينما في النسخة العربية المشتركة حذفوا العبارة الأخيرة فصارت (أما أنا فأقول لكم: من طلّق امرأته، إلا في حالة الزنى وتزوج غيرها زنى) وفي النسخة اليسوعية الجديدة (أما أنا فأقول لكم: من طلّق امرأته، إلا لفحشاء وتزوج غيرها فقد زنى) بينما في الطبعة القديمة (وأنا أقول لكم من طلّق امرأته إلا لعلة زنى وأخذ أخرى فقد زنى. ومن تزوج مطلقةً فقد زنى) وهذا كله تجده تحت عنوان الزواج المسيحي والعفاف! أو الزواج والطلاق، مما يعني أنه تشريعٌ للبشرية فيما يتعلق بالزواج والروابط الإجتماعية، فما كان منه لا يعقل وليس فيه ضمان لحق المرأة غيروه. ثالثاً: كتمان المعلومة أو إسقاطها أو ضياعها لغاية أو من دون غاية وهذا النوع من من أصعب الأنواع إثباتاً إن أردنا بيان الكتمان وغايته، لأننا نبحث عن معلومة ليس لها وجود في كتابهم، حتى وإن كان الضياع والفقدان يدخلان في باب التحريف بالنقص وإثباته يسير في كتبهم سواء في العهد القديم أو الجديد، فهم لا يتورعون من كتابة تعليقات عن نصوص مفقودة أو جمل تشكيكية، إلا أنها لا تُظهر الغايات بقدر الكتمان، كذلك الإسقاط فهم مقرّون بذلك، فتجد طائفة منهم أسقطت أسفاراً كامله لاعتقادها عدم الأصالة والصحة في هذه الأسفار، بينما قبلتها طوائف أخرى، والنقص عند أحدهم زيادة عند الآخر، ولكنّ أسباب الإسقاط ولو تعددت فلن تُظهر الغايات من التحريف بقدر الكتمان أيضاً. لذلك سأحاول جاهداً إثبات معلومة مفقودة بالنظر إلى نصوصهم وتحليلها. وهذه المعلومة تتمحور حول موضوع مِفْصَليّ في تاريخ اليهود بشكل عام وفي مرحلة دقيقة من تاريخ الكتاب المقدس بشكل خاص، وفيها أدلة دامغة على إثبات التحريف على العموم وإثبات الكتمان على الخصوص.
وهذه المرحلة المفصلية في تاريخهم معروفة باسم السبي البابلي أو خراب أورشليم، وتتضح الصورة القائمة في ذلك الزمان بحسب كتابهم من خلال ثلاثة أسفار، وهي سفر الملوك الثاني وسفر أخبار الأيام الثاني وسفر إرميا، أما الأول ففيه سيرة ملوك بني إسرائيل وسيرة آخر ملوك بني إسرائيل قبل السبي، والثاني فيه أهم الأحداث التاريخية في سيرة بني إسرائيل، خصوصاً ما حدث قبل السبي وفي عهد آخر ملوكهم، والكاتب أو الناسخ لهذين السفرين بذل الجهد الكبير في محاولته مطابقة الأحداث بينهما، حتى أنه يقول في آخر كل حدث أنّ باقي الأخبار المتعلقة بهذا الحدث مذكورة في السفر المقابل دلالة منه على المطابقة، أما الثالث فهو السفر الخاص بنبوءات النبي إرميا بن حلقيا الهارونيّ النسب، وبُعِث في تلك الفترة المفصلية لينذر بني إسرائيل ويتوعدهم بعذاب الله إن لم يعودوا إلى دينهم بعد أن كفروا وعبدوا الأوثان وغيروا دينهم من التوحيد الخالص إلى الوثنية الخالصة، بل بعد سيطرة الكهنة وعبّاد الأوثان على المعبد اليهودي وسيادة التعاليم الوثنية فيه. إذن فلنعتبر أننا نسرد قصة تاريخية مفصلية بحسب الكتاب المقدس فقط، ولنقرأ بعناية شديدة ولنتابع أهم الأحداث فيها بداية من عهد الملك يوشيا بن أمون (ت608 ق. م) وهو الذي حاول جاهداً تطهير بني إسرائيل من عبادة الأوثان، فهدم معابد الأوثان على الجبال ورمم المعبد اليهودي وحاول تطهيره، وخلال الترميم حدث أمر جلل وأمر عظيم كما جاء في سفر أخبار الأيام الثاني (34): ((14) وعند إخراجهم الفضّة المدخلة إلى بيت الرب وجد حلقيا الكاهن سفر شريعة الرب بيد موسى. (15) فأجاب حلقيا وقال لشافان الكاتب قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب. وسلم حلقيا السفر إلى شافان. (16) فجاء شافان بالسفر الى الملك ... ) وبعد أن قرأه عليه أمرهم الملك أن يذهبو إلى النبيه خلده (بزعمهم) للتأكد من أن السفر صحيح، فأقرّت بأنه صحيح وأن اللعنات الموجودة فيه ستحصل على بني إسرائيل وذلك بحسب
نبوءتها: ((25) من أجل انهم تركوني واوقدوا لآلهة أخرى لكي يغيظوني بكل أعمال أيديهم وينسكب غضبي على هذا الموضع ولا ينطفئ) أما الملك يوشيا فسيموت بسلام لأنه أصلح ورق قلبه لكلام الشريعة بحسب نبوءتها، وبعد ذلك: ((29) وأرسل الملك وجمع كل شيوخ يهوذا وأورشليم (30) وصعد الملك إلى بيت الرب مع كل رجال يهوذا وسكان أورشليم والكهنة واللاويين وكل الشعب من الكبير إلى الصغير وقرأ في آذانهم كل كلام سفر العهد الذي وجد في بيت الرب. (فصار الجميع على علم بما فيه وبأنهم وجدوه، وقام الملك بإصلاحات كثيرة وعاهد الله على إزالة الرجس من أرض المملكة وكذلك فعل. ويستمر الكاتب في سرد الحدث في الإصحاح التالي (35) ويقول: ((20) بعد كل هذا حين هيأ يوشيا البيت صعد نخو ملك مصر إلى كركميش ليحارب عند الفرات. فخرج يوشيا للقائه. (21) فارسل إليه رسلاً يقول ما لي ولك يا ملك يهوذا. لست عليك أنت اليوم ولكن على بيت حربي والله أمر بإسراعي. فكفّ عن الله الذي معي فلا يهلكك. (22) ولم يحول يوشيا وجهه عنه بل تنكر لمقاتلته ولم يسمع لكلام نخو من فم الله بل جاء ليحارب في بقعة مجدو.) وملك مصر نخو هو الفرعون نخاو (نكاو) الثاني (ت595 ق. م) من الأسرة السادسة والعشرين من فراعنة مصر القديمة بحسب تاريخ مصر القديمة ولقبه فرعون الأعرج بحسب كتب التاريخ العربية، والغريب أن يُنسب كلام الله وأمره لهذا الفرعون الوثني وعلى لسانه، ولكن السياق يدل على أن الكاتب يرى بأن الله لم يرد لهذا الملك الصالح أن يموت فأقحم إرادة الله بزعمه على فم الفرعون، ويتابع الكاتب ((23) وأصاب الرماة الملك يوشيا فقال الملك لعبيده انقلوني لأني جرحت جداً. (24) فنقله عبيده من المركبة وأركبوه على المركبة الثانية التي له وساروا به إلى أورشليم فمات ودفن في قبور آبائه. وكان كل يهوذا وأورشليم ينوحون على يوشيا. (25) ورثى إرميا يوشيا. وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم. وجعلوها
فريضة على إسرائيل. وها هي مكتوبة في المراثي. (26) وبقيّة أمور يوشيا ومراحمه حسبما هو مكتوب في ناموس الرب (27) وأموره الأولى والأخيرة ها هي مكتوبة في سفر ملوك إسرائيل ويهوذا.) وهنا نقف على ما جاء في نبوءة النبيّة المزعومة بأنّ الملك يوشيا سيموت بسلام!! وقد مات ميتة مفجعة بحسب كلامهم! لذلك تجد في حاشية إحدى النسخ (الترجمة اليسوعية - الطبعة الثالثة الكاثوليكية) "وضعت هذه الرواية قبل موت يوشيا المفجع" فهذا دليل على كذب النبوءة والتشكيك بتصديقها على كتاب الشريعة. ونقف باستغراب على الفرض لهذه المراثي على إسرائيل وشعبها، من قِبَل من كان؟ ومن هو المشرّع في هذا الكتاب؟ أمّا ما جاء فيها وفي رثاء إرميا فسيوضحه ما يقول إرميا في سفره عن المرحلة التالية بعد موت يوشيا، ولكن من المهم أن نركز على الحدث العظيم والكنز الذي لا يقدر بثمن والذي وجدوه في عهد يوشيا، وهو شريعة الرب المكتوبة بيد موسى، والتي وجدها الكاهن حلقيا، حتى لو سلّمنا بأنها شريعة موسى وأنها مكتوبة منذ القدم، بل وتحتوي على أسفار التوراة الرئيسية أو سفر التثنية مع بعض الشرائع (على خلاف بينهم). وبعد موت يوشيا على يد الفرعون نكاو صار يهواحاز بن يوشيا ملكاً عليهم، وكان فاسداً ووثنيّاً، وعادت الوثنية وعبادة الأصنام لسابق عهدها قبل يوشيا، وحكم لثلاثة أشهر، ولكن الفرعون بعد أن فرغ من حروبه الخاصة لم يرضى على حكم يهواحاز فأسره ووضع يهوياقيم ملكاً على المملكة، وكان فاسداً أيضاً، وحكم إحدى عشرة سنة فاستمرت الوثنية فيهم وفسد الشعب عن بكرة أبيه. بعدها على شأن نبوخذنصر وانتصر على الفراعنة وإحتل بلاد الشام، فصار الملك يهوياقيم له عبداً ومطيعاً في كل أمره، ثم تمرّد عليه ودخل في حروب مع الكلدانيين والعمونيين والآراميين فمات، ثم تملّك ابنه يهوياكين وكان فاسداً أيضاً، ولم يدم حكمه إلا ثلاثة أشهر حتى حاصر نبوخذنصر أورشليم المرة الأولى فخرج إليه الملك يهوياكين مع كل أهله
وماله ودخل نبوخذنصر المملكة (وسبى كل أورشليم وكل الرؤساء وجميع جبابرة الباس عشرة آلاف مسبيّ وجميع الصنّاع والأقيان. لم يبق أحد إلا مساكين شعب الأرض.) (أخبار الملوك الثاني 24: 14). وجعل نبوخذنصر صدقيا ملكاً على المملكة وكان الأفسد بين الملوك، وفترة حكمه هي ما نحن بصدد التحري عنه لظهور النبي إرميا بكل قوته في هذه الفترة، والبحث عن نبوءات إرميا مهم للغاية في تقرير ما حدث. يتابع الكتاب المقدس سرد الأحداث في سفر أخبار الأيام الثاني (36): ((11) كان صدقيا ابن إحدى وعشرين سنة حين ملك وملك إحدى عشرة سنة في أورشليم. (12) وعمل الشر في عيني الرب إلهه ولم يتواضع أمام إرميا النبي من فم الرب. (13) وتمرد أيضاً على الملك نبوخذناصر الذي حلفه بالله وصلب عنقه وقوى قلبه عن الرجوع إلى الرب إله إسرائيل. (14) حتى أنّ جميع رؤساء الكهنة والشعب أكثروا الخيانة حسب كل رجاسات الأمم ونجّسوا بيت الرب الذي قدّسه في أورشليم. (15) فأرسل الرب إله آبائهم إليهم عن يد رسله مبكراً ومرسلاً لأنه شفق على شعبه وعلى مسكنه. (16) فكانوا يهزأون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بانبيائه حتى ثار غضب الرب على شعبه حتى لم يكن شفاء.) وهنا يظهر النبي إرميا بكل قوته ودعوته، وسأتتبع اقواله ونبوءاته من سفر إرميا والذي يعتبر بالفعل أكثر الأسفار تهجماً على اليهود وأكثرها نقداً لتاريخ ملوكهم من بعد سليمان إلى السبي البابلي، فكلامه لا يحمل إلا الوعد والوعيد لبني إسرائيل بالخراب والدمار إن لم يسمعوا كلامه ويعودوا لدينهم، وهذه النبوءة على لسانه هي التي أوقعته في المتاعب في عصر الملك صدقيا وقد كانت الرئاسة في المعبد بيد الكهنة الكذّابين ورئيسهم اسمه فشحور الكاهن، ويصف إرميا واقع بني إسرائيل في تلك الفترة بقوله في سفر إرميا (8) بعنوان الخطيئة والعقاب: ((5) فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتداداً دائماً. تمسكوا بالمكر. أبوا أن يرجعوا. (6) صغيت وسمعت. بغير المستقيم يتكلمون. ليس أحد يتوب عن شره قائلاً ماذا عملت. كل واحد رجع الى مسراه كفرس ثائر في الحرب. (7) بل اللقلق في السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما. أما شعبي فلم يعرف قضاء الرب. (8) كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا. حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب*. (9) خزي الحكماء ارتاعوا وأُخذوا. ها قد رفضوا كلمة الرب فاية حكمة لهم.) في النسخة المشتركة - وضعو حاشية قالوا فيها: "قلم الكتبة يحفر في الحجر المقررات الملكية ولكن هل هذه المقررات تطابق شريعة الله هذا ما يعترض عليه إرميا." وأقول: يا سبحان الله! يعترض على عدم مطابقة أحكامهم لشريعة الله، وهم وثنيون ومرتدون عن دين التوحيد!؟ فمن يصدق هذا الكلام إلا ساذج ولا يرى بأم عينه أنهم حرفوا كلام الله وحولوا كتاب الشريعة الذي كان في المعبد إلى كذبة من خلال أقلامهم الكاذبة الخاطئة. أما ما بعدها وتأكيداً على هذا الفهم يقول: "رفضوا كلمة الرب" وفي نسخة اليسوعية القديمة جاءت (ها إنهم رذلوا كلمة الرب فماذا فيهم من الحكمة)، وفي نسخة الترجمة المشتركة (فها هم نبذوا كلام الرب ... )، وهذه الكلمات الثلاثة: رفضوا: أي تركوا وفرّقوا كتاب الله من رفض الشيء تَركه وفرَّقه، ورذلوا: أي اعتبروا كتاب الله دون شيء مقابل من رذل الشيء جعله دونا، ونبذوا: أي رموا أو ألقوا أو طرحوا كتاب الله أمامهم أو وراءهم من نبذ الشيء رماه أو ألقاه أو طرحه أمامه أو خلفه (¬1)، ويجمع هذه الكلمات الثلاثة وهذا الخلاف الظاهر على بيانها لديهم قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) آل عمران} وفيها تجتمع المعانى الثلاثة بشكل متكامل، فقد حرّفوه بكتمان الحق وبإظهار تعاليم ¬
الوثنية الغريبة عن دين التوحيد، واستبدلوه بثمن بخس، وهذا دليل واضح من سياق النص على التحريف بجميع أركانه سواء بالنقص أو الزيادة أو التغيير، ولكنه ليس مبتغانا، فنحن نبحث عن الكتمان والنقص. وبعدها يتابع إرميا النبوءة (16) ((10) ويكون حين تخبر هذا الشعب بكل هذه الامور انهم يقولون لك لماذا تكلم الرب علينا بكل هذا الشر العظيم فما هو ذنبنا وما هي خطيتنا التي أخطأناها إلى الرب إلهنا. (11) فتقول لهم من أجل أن آباءكم قد تركوني يقول الرب وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها وسجدوا لها وإياي تركوا وشريعتي لم يحفظوها. (12) وأنتم أسأتم في عملكم أكثر من آبائكم وها أنتم ذاهبون كل واحد وراء عناد قلبه الشرير حتى لا تسمعوا لي. (13) فاطردكم من هذه الأرض إلى أرض لم تعرفوها أنتم ولا آباؤكم فتعبدون هناك آلهة أخرى نهاراً وليلاً حيث لا أعطيكم نعمة) وقد جاءت كلمة لم يحفظوها أو لم يحفظوا في كل النسخ، ولم يحفظوه أي لم يحرسوه، من حفظ الشيء بمعنى حرسه (¬1)، ولو كانت "يحافظوا" لكان فيها تأويل بمعنى الرعاية، وهذا دليل آخر على التحريف، ويُظهره باللفظ ما يقوله إرميا صراحة عن التحريف في سفره (23): ((30) لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب الذين يسرقون كلمتي بعضهم من بعض. (31) هانذا على الأنبياء يقول الرب الذين يأخذون لسانهم ويقولون قال. (32) هأنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة يقول الرب الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم. فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة يقول الرب (33) وإذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً ما وحي الرب فقل لهم أي وحي. إني أرفضكم هو قول الرب. (34) فالنبي أو الكاهن أو الشعب الذي يقول وحي الرب أعاقب ¬
ذلك الرجل وبيته. (35) هكذا تقولون الرجل لصاحبه والرجل لأخيه بماذا أجاب الرب وماذا تكلم به الرب. (36) أما وحي الرب فلا تذكروه بعد لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه إذ قد حرفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا.) وهذه قاصمة الظهور والدليل الثالث على أنهم حرّفوا كلام الله وشريعة موسى التي وجدها حلقيا على زمن يوشيا، ولكنها لا تظهر الكتمان أيضاً، لذلك نتابع قصة إرميا من سفره حيث جاء فيه (20): ((1) وسمع فشحور بن أمير الكاهن. وهو ناظر أول في بيت الرب. إرميا يتنبأ بهذه الكلمات. (2) فضرب فشحور إرميا النبي وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الأعلى الذي عند بيت الرب. (3) وكان في الغد ان فشحور أخرج إرميا من المقطرة. فقال له إرميا لم يدع الرب اسمك فشحور بل مجور مسابيب. (4) لأنه هكذا قال الرب. هأنذا أجعلك خوفاً لنفسك ولكل محبيك فيسقطون بسيف أعدائهم وعيناك تنظران وأدفع كل يهوذا ليد ملك بابل فيسبيهم الى بابل ويضربهم بالسيف.) وهذا يدلنا على أن رئاسة المعبد كانت في يد الكهنة الذين سجنوا وعذبوا إرميا لأنه يتهمهم بتحريف الكتاب وتغيير الشرائع من الوحدانية إلى الوثنية. ولكن بعد أن تمرّد الملك صدقيا على نبوخذنصر أتى وحاصر أورشليم وعزم على دمارها وسبيها، فبعث الملك صدقيا الكاهنين فشحور وصفنيا إلى النبي إرميا طالبين منه أن يدعوا الله الخلاص، فرد عليهم بوعيد الله لهم بالقتل والتشريد على ما فعلوا ويفعلون، واستمر الحصار أكثر من عام، ثم دخلها البابليون ودمروها وحدث السبي البابلي الشهير، وأخذوا ما فيها غنيمة لبابل، وقد ذكروا في أسفارهم جميع الغنائم وعددوها بالتفصيل الممل كما في سفر أخبار الأيام الثاني (36): ((17) فاصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم. ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب بل دفع الجميع ليده. (18) وجميع آنية بيت الله الكبيرة والصغيرة وخزائن بيت الرب وخزائن الملك ورؤسائه أتى بها جميعاً إلى بابل.
(19) وأحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وأحرقوا جميع قصورها بالنار وأهلكوا جميع آنيتها الثمينة. (20) وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيداً إلى أن ملكت مملكة فارس) وفصّلوها أكثر في سفر الملوك الثاني (25): (8) وفي الشهر الخامس في سابع الشهر وهي السنة التاسعة عشرة للملك نبوخذناصر ملك بابل جاء نبوزرادان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم. (9) وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار. (10) وجميع أسوار أورشليم مستديراً هدمها كل جيوش الكلدانيين الذين مع رئيس الشرط. (11) وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور سباهم نبوزرادان رئيس الشرط. (12) ولكن رئيس الشرط أبقى من مساكين الارض كرامين وفلاحين. (13) وأعمدة النحاس التي في بيت الرب والقواعد وبحر النحاس الذي في بيت الرب كسرها الكلدانيون وحملوا نحاسها إلى بابل. (14) والقدور والرفوش والمقاص والصحون وجميع آنية النحاس التي كانوا يخدمون بها اخذوها (15) والمجامر والمناضح. ما كان من ذهب فالذهب وما كان من فضة فالفضة أخذها رئيس الشرط. (16) والعمودان والبحر الواحد والقواعد التي عملها سليمان لبيت الرب لم يكن وزن لنحاس كل هذه الأدوات. (17) ثماني عشرة ذراعاً إرتفاع العمود الواحد وعليه تاج من نحاس وإرتفاع التاج ثلاث أذرع والشبكة والرمانات التي على التاج مستديرة جميعها من نحاس. وكان للعمود الثاني مثل هذه على الشبكة) ومن الواضح أنهم لم ينسوا شيئاً من الآنية لا الصحون ولا القدور ولا حتى الرفوش والمباخر ولم ينسوا وصف الأعمدة بالتفصيل الممل، ولكنهم بقدرة من الله نسوا أن يذكروا شيئاً واحداً، وهو أغلى كنز عند بني إسرائيل وعند الموحدين جميعاً، وهو شريعة موسى المكتوبة بيده!! ماذا حل بها؟ أُحرقت؟ سرقت؟ نهبت مع الصحون والقدور؟ ليس من ذكر لها على الإطلاق! فهل نسوا ذكرها أم ذُكرت وكتموا ما حل بها؟ أقول: من سوّغ لهم
أن يقولوا "يعتقد أنها أحرقت أو أتلفت في السبي البابلي" والإعتقاد غير الجازم ظنٌّ محض، يسوّغ لي أن أفرض أنهم كتموا ما حل بها لغاية في نفسهم لا نعلمها ولا نريد أن نعلمها، ولكننا سنثبت الكتمان هنا بالأدلة القاطعة من نفس الكتاب، ويتمثل الكتمان بإثبات النقص في سفر إرميا عن عمد وهذه الأدلة هي: الدليل الأول: يعرف تاريخياً بحسب العهد القديم وكتب التاريخ الأخرى بأن الكاتب لهذا السفر في الأصل شخص اسمه باروخ بن نيريا، إلّا أن السفر الحالي يحوي كلاماً يدل على أن الكاتب غيره، إذ كتب عن قصص باروخ وكتابته للسفر من ضمن السياق وفي مواطن كثيرة مثل قوله في إرميا (36:13) (واخبرهم ميخايا بكل الكلام الذي سمعه عندما قرأ باروخ السفر في آذان الشعب.) وسفر إرميا الحالي عليه إضافة واضحه بقلم الكاتب، فهو الآن52 إصحاح وفي نهاية الإصحاح 51 قال الكاتب "إلى هنا كلام إرميا". يعني انتهى كلام إرميا! وأكمل الإصحاح الأخير من نفسه، لذلك علّقوا في بعض النسخ على هذه الزيادة بأنها مأخوذة من سفر أخبار الأيام وأنها معدلة. إذن فقد تم الإسقاط فيه واستبدال الكلام الجديد بما كان سابقاً مثبت. ولو قال قائل هذا استنتاج لقلت بل هو حقيقة ظاهرة وبشهادة الكتاب نفسه وهو الدليل الثاني على أن الإسقاط قد حصل وعن عمد. الدليل الثاني: لاحظنا سابقاً فيما نقلت عن سفر أخبار الأيام الثاني (35) قوله: ((25) ورثى إرميا يوشيا. وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم. وجعلوها فريضة على إسرائيل. وها هي مكتوبة في المراثي. (26) وبقية أمور يوشيا ومراحمه حسبما هو مكتوب في ناموس الرب (27) وأموره الأولى والأخيرة ها هي مكتوبة في سفر ملوك إسرائيل ويهوذا.) وأقول: أما التطابق بين هذا السفر وهو أخبار الأيام وسفر الملوك فهو حاصل وقد أشرت سابقاً أن الكاتب صرف فيه جهداً لإثبات مطابقته، أما سفر المراثي الخاص بإرميا فليس لهذه المرثية
ذكر فيه!! بل إن في سفر إرميا نفسه ما يدل على الإسقاط الواضح لهذه المرثية وتغيير كلام إرميا بكلام يناقض السفر كاملاً! وهو كلامٌ ظاهر الإقحام في سياق النص، فقد أتى في سفر إرميا (22) ((10) لا تبكوا ميتاً ولا تندبوه إبكوا إبكوا من يمضي لأنه لا يرجع بعد فيرى أرض ميلاده (11) لأنه هكذا قال الرب عن شلوم بن يوشيا ملك يهوذا المالك عوضاً عن يوشيا أبيه الذي خرج من هذا الموضع لا يرجع إليه بعد (12) بل في الموضع الذي سبوه إليه يموت وهذه الأرض لا يراها بعد (أي ينهاهم عن البكاء ورثاء يوشيا ويدعوهم للبكاء على شلوم بن يوشيا وهو يهواحاز الملك الفاسد الوثني الذي أسره الفرعون! أي تناقض وأي إسقاط هذا إلا التحريف المفضوح بالكتمان العمد؟ الدليل الثالث: ورد في العهد الجديد (الإنجيل) في بشارة متى (27) في رواية قصة يهوذا الذي أسلم المسيح بثلاثين قطعة من الفضة ثم ندم وسلّمها لكهنة وشيوخ المعبد: ((7) فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. (8) لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم. (9) حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل (10) وأعطوها عن حقل الفخاري كما أمرني الرب) ولكننا لا نجد هذه النبوءة في سفر إرميا! بل نجدها في العهد القديم (التوراة) في سفر زكريا (11) في قصة ليس لها علاقة بشراء حقل فخّاريّ أو خزّاف: ((12) فقلت لهم إن حسن في أعينكم فاعطوني أجرتي وإلا فامتنعوا. فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفضة. (13) فقال لي الرب القها إلى الفخاري الثمن الكريم الذي ثمنوني به. فأخذت الثلاثين من الفضة والقيتها إلى الفخاري في بيت الرب.) أما قصة شراء الحقل من غير ذكر الفخاري أو ثمن المثمن أو ثلاثين من الفضة فنجدها في إرميا (32): ((9) فاشتريت من حنمئيل ابن عمي الحقل الذي في عناثوث ووزنت له الفضة سبعة عشر شاقلاً من الفضة. (10) وكتبته في صك وختمت واشهدت شهودا ووزنت الفضة بموازين.
(11) وأخذت صك الشراء المختوم حسب الوصية والفريضة والمفتوح (12) وسلمت صك الشراء لباروخ بن نيريا بن محسيا أمام حنمئيل ابن عمي وأمام الشهود الذين أمضوا صك الشراء أمام كل اليهود الجالسين في دار السجن. (13) وأوصيت باروخ أمامهم قائلاً (14) هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل. خذ هذين الصكين صك الشراء هذا المختوم والصك المفتوح هذا واجعلهما في إناء من خزف لكي يبقيا أياماً كثيرة.) ومن المعروف والمشهور أن سفر إرميا يمتاز بوجود الحركات الرمزية عند تدوين الأحداث، ومن هذه الأحداث الزيارة إلى الفخاري أو الخزّاف، والإبريق الفخاري المكسور، ولكن ليس فيها ما ذكر عن شراء الحقل من الفخاريّ! والغلط هنا حاصل لا محالة! وعليه فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: الأول: لو قلنا بأن الإنجيل كُتب بوحي من الله وأن ما فيه هو الصحيح للزمنا القول بأن التوراة محرّفة وسفر إرميا ناقص، وقد أُسقطت منه هذه العبارة وجعلت في سفر زكريا من ضمن قصة أخرى ليس لها علاقة إلا في تطابق النص. والثاني: أن كاتب الإنجيل وقع في الوهم فنسب القول لإرميا لأن فيه قصة الفخاري وقصة شراء حقل كل منهما على حده وهو في الواقع قول لزكريا في قصة أخرى. وكل هذا "وهم يعلمون"، فانظر في حواشي الكتاب المقدس، لتعرف أنهم يعلمون أنه محرّف ولكنهم يكتمون، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) آل عمران} وبعد هذا البيان في أسباب التحريف والكشف عن بعض الأصول والأسس العميقة في بيان التحريف القديم والجديد والمتجدد، لا يبقى إلا أن نعجب من عِظَم الحكمة في ورود الحروف المقطّعة في أوائل السور، لتمنع هذا اللّغط وهذه الخلافات من أن تتطرق لكتاب الله وخاتمة الرسالات السماوية وشرع الله المتبع لأبد الآبدين.
الفصل السادس: الدليل والبرهان على ما في الحروف من إعجاز في نظم البيان
الفصل السادس: الدليل والبرهان على ما في الحروف من إعجاز في نظم البيان لتأصيل القول في هذا الوجه من الإعجاز، وهو الإعجاز بمقتضى ذكر الحروف وما فيها من دلالات وإشارات، باعتبار الدلالات كأصل أول، وبالنظر لهذا الكتاب على أنّه إلهيٌّ لا يتفق مع صنعة البشر كأصل ثاني، وأنه ما من شيء في كتاب الله مما استأثر الله بعلمه لنفسه، وهو الغاية من رسالة الإسلام الحنيف وهدف القرآن العظيم لبيان الدين والمنهج للبشر كأصل ثالث، تظهر لنا عظمة النظم الإلهي بذكر الحروف ضمن نسق لا إنساني على أي اعتبار، وبنظم مختلف عن الحال في الأبجدية كقولنا (ألف باء تاء)، وترتيب عجيب إذا جمعناها وأردنا استخلاص القواعد منها. فقد أتت هذه الحروف في بدايات بعض السور وكأنها مفاتيح لها، ولم تأت في أوسطها فيلزمنا فهمها لرد الإعجام عن القرآن، وجاءت مفصلة على أساس كلام العرب، "فكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك" (¬1)، وليس منها كلمة ألِفَتْها العرب، بل هي حروف لها معاني في مفردها، ولها دلالات عظيمة في مفردها وما جُمع منها في موقعه، وهذا أبلغ القول بل منتهى البلاغة في الكلام على الإطلاق، وبالنظر لنظم الحروف في بدايات السور نجد الإشارة واضحة على دعم هذا الفهم، وهو حاصل بالاستقراء أيضاً. الباب الأول: محاولات فهم النص بحسب النظم لنبدأ بأولى المراحل وأبسطها على فهم الإنسان، وهي السور المبتدئة بحرف واحد، وهي الخطوة الأولى لنلتمس الإشارة في النظم، وقد جاءت في ثلاث سور: (القلم، ص، ق)، وكلها مكية، ¬
وكانت من أول ما نزل من القرآن، ووقف على بدء فقد أغنانا ذكر البعض من الحروف عن بيان السور المرادة لأنها أسماء للسور، وهذا من أعاجيب البلاغة، وهو من الأقوال المشهورة بأن فواتح السور أسماء لها، ولكن من غير تعميم فليست هي الغاية، فلنقرأ قول الله (ن والقلم وما يسطرون)، (ص والقرآن ذي الذكر)، (ق والقرآن المجيد)، ولنقرأ ما قاله المفسرون في محاولاتهم الجليلة لبيان معاني القرآن اعتماداً على اللغة وأقوال السلف، لنجد أنه ما من أحد منهم ينكر بأن الله أقسم بالقرآن في هذه الآيات وغيرها من المتبوعة بقوله تعالى (والقرآن)، هذا من ناحية التأويل بالمعنى (¬1)، أو من ناحية الإعراب (¬2)، والاختلاف حاصل فيما سواه، كمقام الحرف الأول (ص، ق، ن) من ابتداء الكلام أو من القسم وجواب القسم، وذكر الرازي بعض وجوه الخلاف وقال: "فالأول: أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد، كقولنا صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد، والثاني: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله، الثالث: معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين، كما قال تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [النحل: 88]، الرابع: معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن، فدل ذلك على أن القرآن معجز، الخامس: أن يكون صاد بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ومنها الصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه، السادس: إنه اسم السورة والتقدير هذه صاد، فإن قيل ههنا إشكالان أحدهما: أن قوله: {والقرءان ذِى الذكر} قَسَم وأين المقسم عليه؟ والثاني: أن كلمة (بل) تقتضي رفع حكم ثبت قبلها، وإثبات ¬
حكم بعدها يناقض الحكم السابق، فأين هذا المعنى ههنا؟ والجواب: عن الأول من وجوه، الأول: أن يكون معنى صاد، بمعنى صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون صاد هو المقسم عليه، وقوله: {والقرءان ذِى الذكر} هو القسم، الثاني: أن يكون المقسم عليه محذوفاً، والتقدير سورة (ص والقرآن ذي الذكر) إنه لكلام معجز، لأنّا بيّنا أن قوله {ص} تنبيه على التحدي، والثالث: أن يكون صاد اسماً للسورة، ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر، ولمّا كان المشهور، أن محمداً عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة، كان قوله هذه ص جارياً مجرى قوله: هذه هي السورة المعجزة، ونظيره قولك هذا حاتم والله، أي هذا هو المشهور بالسخاء، والجواب عن السؤال الثاني: أن الحكم المذكور قبل كلمة {بَلِ} أما ما ذكره المفسرون كون محمد صادقاً في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة {بَلِ} ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب، والله أعلم." (¬1)، ويقول الشوكاني: "وقيل: إن قوله: {ص} مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في {والقرءان} للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه، وأنه حقّ، وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه: {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} " (¬2)، ويقول الشنقيطي: "اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى: {والقرآن ذِي الذكر}، فقال بعضهم: إن المقسم عليه مذكور، والذين قالوا إنه مذكور، اختلفوا في تعيينه، وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط ... والذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن: أن جواب القسم محذوف وأن تقديره {والقرآن ذِي الذكر} ما الأمر كما يقوله الكفار" (¬3)، وهو ما اختاره إمام المفسرين الطبري ¬
بقوله: "والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي قاله قتادة، وأن قوله (بَلْ) لما دلّت على التكذيب وحلَّت محلّ الجواب استغني بها من الجواب، إذ عرف المعنى، فمعنى الكلام إذ كان ذلك كذلك: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} ما الأمر كما يقول هؤلاء الكافرون: بل هم في عزّة وشقاق." (¬1) وعليه فهل نُخرج الحروف من هذا المعنى إذا قلنا "الله أعلم بمرادها"؟ أقول نعم، والأولى بنا ردها إلى أصلها كما ذكرْت، ونقول أقسم الله بهذه الحروف، وأقسم بالكتاب العظيم وأقسم بالذكر الحكيم، فهذا هو سياق النظم. وقد علمنا ما لذكر هذه الحروف من دلالات عظيمة، وعلمنا بأنها هي أصل الكلمات، وأسماء الله من هذه الكلمات، وتلك الحروف والكلمات هي أساس النظم في اللغة المختارة لحفظ التنزيل الحكيم بكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون، لا كغيره من الكتب، فتكون بحق موطن القسم الإلهي، ورغم أن هذا من الأقوال المشهورة في تأويل الحروف إلا أن تعميم التأويل على كل الفواتح لا يستقيم، ولكنه هنا هو الأصل، ولا أظن أحداً ينكر هذا القول أو يرده بعد البيان فيها، ولكن هذا ليس القصد، بل القصد تثبيت المعاني لهذه الحروف، ولن نصل للغاية في التأويل وبيان النظم إلا بالوقوف على كل المعاني المترابطة، واتباع العلماء في أسلوب الإيضاح، وهو وضع الكلام في معناه، وصياغة الكلام بنظم البشر لإيصال الفكرة مهما كان تأويل هذا الحرف في رأيهم، وذلك بحسب أصول اللغة وما فيها من إلزامٍ للكلام وسردٍ للمعاني كما يفعل أهل البلاغة، وذلك أيضاً تصديقاً لقول الله تعالى {جعلناه قرآناً عربياً}، وفي بيان التصريف لأوجه تفسير حرف الصاد وما يتبعه يقول الإمام الألوسي: "وهو على بعض هذه الأوجه لا حظ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسماً به ومفعولاً لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسماً به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسماً به فالواو في قوله سبحانه: {ص والقرءان ذِى} للقسم وإن اعتبر مقسماً به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسماً منصوباً على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله و {*بص} السورة أو بالعكس أو أريد {*بص} البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو السورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف وضعف جعل الواو للقسم أيضاً بناءً على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف" (¬2)، ويقول الطبري: "وكان بعض أهل العربية يقول: (ص) في معناها كقولك: وجب والله، نزل والله، وحق والله، وهي جواب لقوله (والقرآن) كما تقول: حقاً والله، نزل والله." (¬3) ولا ننسى أن بعضاً من حروف الفواتح واثنتين من المفردة منها اعتبرت أسماء للسور وهي: (ص، ق) وعليها إجماع الصحابة والمسلمين، فكانت أسماء لهذه السور لأنها تميزت بها، ولم تُسمّ بها سورة القلم وفيها (ن)، وقد تكلم أهل العربية بجواز التسمية بحرف أو حرفين كسيبويه ومن نقل عنه ودرس على يديه، أما أهل البلاغة فيقول إمام البلاغة الزمخشري: "قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون قد ذكر اسم هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدّي والتنبيه على الإعجاز كما مرّ في أوّل الكتاب، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدّي عليه، كأنه قال: {والقرءان ذِى الذكر} إنه لكلام معجز. والثاني: أن يكون {ص} خبر مبتدأ محذوف، على أنها اسم للسورة، كأنه قال: هذه ص، يعني: هذه السورة التي أعجزت العرب، والقرآن ذي الذكر، كما تقول: هذا حاتم والله، تريد: هذا هو المشهور ¬
بالسخاء والله؛ وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال: أقسمت بص والقرآن ذي الذكر إنه لمعجز ثم قال: بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق وشقاق لله ورسوله، وإذا جعلتها مقسماً بها وعطفت عليها {والقرءان ذِى الذكر} جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كله، وأن تريد السورة بعينها. ومعناه: أقسم بالسورة الشريفة والقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنسمة المباركة، ولا تريد بالنسمة غير الرجل." (¬1) وقد قُرِأ حرف الصاد وغيره من الفواتح على عدة وجوه أشهرها بالسكون عليه وهي قراءة الجمهور، وقرأها البعض بالفتح وبالكسر، (¬2) ولو قال البعض بأن التحريك كان لالتقاء الساكنين فهذا لا يمنع أنها جامعة لوجوه الإعراب وتزيد عليها بألّا محل لها من الإعراب على أحد الوجوه. (¬3) تأمّل بالله ما قالوا وما جمعوا في حرف واحد! والله وكأنهم يحاولون فك سلسلة من حديد بأسنانهم، كل هذه الوجوه وكل هذا التأويل ولم يصلوا إلا لنتيجة واحدة، وهي أن هذا الحرف نزل موضع الكلمة من الكلام، وهي تفهم بحسب سياق النظم، ولم يتفقوا عليه لسبب عظيم، وهو أن اشتراط القصد وإفادة ما يُجهل من اللفظ هو أصل فهم الكلام، لا اتحاد الناطق وأشكال تصوير خلافه (¬4)، والكلام هنا إلهي، ولو تشابه النطق وتصوَّر المستمع معنى من المعاني، فهذا لا يلزم الكلام ولا يخصصه بما فهمه من معاني، فالجهل لا يُخَصِّص العلم ولا يَشترط عليه، وسياق النظم هنا إلهي لا بشري، ولا يعرف سر نظمه ومبلغ قصده إلا هو جلّ في علاه، وهذا وجه صحيح من الأقوال المشهورة في تأويل الحروف، وهو قولهم إن لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف، (¬5) ونحن نعلم بأنّ هذا السر كائن في نظم القرآن كله ومنه ذكر الحروف في سياق نظمه، وليس السر فيها مفصولة، فهي حروف من حروف المعجم، يكون لها معانى ظاهرة في أصل الكلام والكتابة، وقد جاءت هنا من ذات النظم في القرآن مغايرة لما هو معروف في الكتب، ولو كانت بنظمها مما يعرف الناس لما تحيّر الناس فيها. والدلالة على أن فيها سراً من أسرار النظم أنها تستوقف القارئ، ولا يفهم معناها، رغم علمه بماهيتها على أصلها وكيفية قراءتها، ويظن من أطلق العنان فيها أنها بحد ذاتها سر من الأسرار في معانيها وليست كذلك. وهذا أيضاً من الأقوال المشهورة في تفسير القرآن أي أنها تنبيه للقارئ، وهي كذلك، ولكنها ليست الغاية في تأويلها، فالتنبيه صفة لها لما فيها من مخالفة لمنهج النظم البشري القاصر عن فهم الرموز من غير قاعدة ومن غير علم مسبق بها، وقد وهم بعض المفسرين اللغويين بقولهم إن هذه الحروف لها معاني مفصلة بناءً على قول الشاعر "قُلت لَها قفي لَنَا قالَتْ قاف" (¬6)، وهذا من الأقوال المشهورة، ولكنه شاذ ومردود لما فيه من قياسِ رمز له ¬
الباب الثاني: استقراء بعض قواعد النظم في سور الفواتح
قاعدة معلومة في اللغة على ما ليس له قاعدة ولا أَلِفَه العرب، ولا يقاس كلام الله على كلام البشر لأنه أعز وأعلى. وكما نلاحظ فإن الثلاث آيات قد اشتملت على حرف منفرد، ولم ينفرد حرف منها بآية كما في غيرها من ذوات الحرفين فأكثر من فواتح السور، وهذا لاشتماله تعظيم الحرف بذاته مع إنزاله موطن الجزء والأصل من الكلام، ولأنه لا يستقيم الحرف بذاته ليكون وحده جزءاً من الكلام ولا تكون غايته الإفهام. وعليه فقد جاء الحرف منفصلاً فاستوقف السامع ودل على ذاته، وأشار لما قد يحتويه من ترميز فنقل السامع لما بعده بشوق لمعرفة الدلالة فيه - وهي جبلة في الإنسان لحب معرفة الرموز - ولكن السامع احتار في معناه بعد ذكر ما بعده مباشرة، أهو على الأصل أم إختصار لغاية أسمى قد تظهر في سياق الكلام، فتابع السامع الكلام وفي نفسه حب معرفة الغاية بالتركيز على كل كلمة بانتظار الغاية، وعندما قرر المخاطب جلّ في علاه أن يُنهي الكلام بيَّن الغاية من كلامه كله، وليس الغاية من ذكر هذا الحرف فقط، فعلم السامع أن الغاية من ذكر الحرف هي ما قد فعل للتو بسماعه الكلام. وهذا هو الدليل على أن الإعجاز في النظم لا يكون إلا في سياق النظم، ولا يكون بحال من الأحوال في الجمع بين الحروف، كما نجمعها ونبدأ بوضعها في جمل أو نحللها على بناء أنها رموز. وهذا لا ينفي الإعجاز في اختيار الكلمات - ومنها الحروف- ففي كلٍّ إعجاز، والله يؤتي الحكمة من يشاء. الباب الثاني: استقراء بعض قواعد النظم في سور الفواتح بناءً على ما سبق وما جاء في التفاسير من معاني، لنتأمل قول الله (ن والقلم وما يسطرون) (ص والقرآن ذي الذكر) (ق والقرآن المجيد) وما ذكر بعدها لنحاول استخلاص إحدى قواعد النظم بالاستقراء في الفواتح الثلاث، من غير قياس على أقوال المفسرين وأهل البلاغة، لنصل لتعريف سر واحد إن استطعنا من ذكر هذه الحروف في سياق نظمها. فالسور الثلاث ابتدأت بحرف
واحد من المعجم وكلها أثنت على الكتاب، ثم على ما جاء في الكتاب من ذكر، فقوله تعالى (والقلم وما يسطرون) داخل فيه الغاية من خلق القلم أو وظيفة القلم، وهي الكتابة، وبالتالي الكتاب أو القرآن وما يسطرون هو الذكر، أو كلام رب العِزّة، كذلك (والقرآن ذي الذكر) ظاهرة بينة، وكذلك في (والقرآن المجيد) أي ذي الذكر المجيد، وبردِّها إلى أصلها تكون كلها قد أشارت لحرف، ثم كتابة، ثم نظم، وأتى بعدها ذكر التنزيل وذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودوره في الخطاب ومجادلة الكفار لإبطال الحجج وإثبات ألوهية الخالق وحده. أي (حرف/كتاب/ذكر) وهي مكونات اللغة وتقوم مقام (اللفظ/الكتابة/النظم) ونحن نعلم أن الحروف هي مبدأ الكلمات، والكلمات هي أصل الكتابة، والكتابة دليل على نظم الكلام وسبب نشر لغته وحفظه، وهذه حقيقة في كل الكتب وكل اللغات! فماذا كان بعدها في النظم؟ كان ذكر الرسول والتنزيل (حرف/كتاب/ذكر/رسول) وهي مكونات الرسالة والتنزيل على لسان هذا النبي الأمي وتقوم مقام (اللفظ/الكتابة/النظم/نبي أمي) أي هذا ليس بكتاب مؤلف بين البشر، فهو كتاب بنظم إلهي على سياق عجيب غريب متين، باستعمال حروف وكلمات كما في لغة القوم، ومقروء بنظْم بيِّنٍ وواضح على لسان نبي أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا هو دليل "التنزيل من السماء" وكذلك هو بديل المشاهدة للمعجزات كما كان في الأمم السابقة، وهو بالمحصلة (الإعجاز في النظم) ومجموع هذا الكلام - أي القرآن - هو المعجزة، فأهل قريش هم أفصح الناس بالعربية ونظمها، ولكن خالقهم وخالق ألسنتهم يتكلم بالعربية، وينظم بها بأبدع ما يكون في لغتهم، فإن كانوا عارفين بالنظم وبديع القول، فخالق الحروف والكتابة والألسن هو الخبير بها والعالم بأسرارها (¬1). ¬
وماذا بعد إعجازهم في النظم إلا الإيمان أو الكفر بالتنزيل وغايته، - وهو ما جاء بعد ذكر الرسول - فغاية التنزيل هي تبليغ الرسالة على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهدف الرسالة تبيان الحق، والحق هو أن يعبدوا من خلق وحده، لأنه الأحقّ بالألوهية حتى ولو أثبتوا له الربوبية (باعتقادهم أنه الخالق). وكل ما ذكرت هو شرح كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وينطبق عليها، ولا يخالف أيّاً من سلاسل النظم المعروفة في القرآن، كقولنا إنها احتوت على الأخبار والتشريع والآداب وقصدنا بالآداب ما هو في علم الغيب والإعجاز في ضرب الأمثال، ولا يخالف ما استنبطه النورسي في إشارات الإعجاز عن المقاصد الأساسية في القرآن بقوله: "إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدالة" (¬1)، والتي تظهر في بيان المقاصد من إشارات الإعجاز، والتي تمثل بحسب قوله: "تفسير جملة من رموز نظْمِ القرآن؛ لأن الإعجاز يتجلى من نظمه. وما الإعجاز الزاهر إلا نقشُ النظم." فسياق النظم هنا متين وواضح ومفهوم بهذا النسق، ومترابط مع غيره من أساليب النظم وكأنها سلاسل محكمة الربط بحلقات متينة، في سقف لا يبلغه أحد من البشر، وهذا من أعاجيب البلاغة، أما الإعجاز هنا - في ذكر الحروف - فيكمن باستبدال الحرف الأول (الحلقة الأولى من السلسلة) بكلمة أو كلمات، بما يليق بالتسلسل في اللفظ والإعراب، ويعطي ذات المعنى، ولا يخالف غيره مما فيه من سموٍّ في البيان وإيضاحٍ للمقاصد، ليكون بذلك قد اشتمل على الأقوال المأثورة من فهم التابعين وما أخذوه عن الصحابة، وما فهمه علماء التفسير واللغة والبلاغة، من غير إخلال في نظم بداية ¬
السور، سواء في القسم أو فيما يليها من كلام، ولو وضعنا مكان الحرف ما شئنا من كلمات لما استقام النظم، ولا شمل المعاني المأثورة ولا اقتصر على وجوه الإعراب المشهورة حتى، ومن أراد التجريب فلن يخرج بشيء، وأبلغها يكون مجموع جمل طويلة مفادها صحيح، وليست بشاملة كل المعاني الموجودة في هذا الحرف، وخير ما قيل في هذا ما ذكره الطبري بقوله:"قال بعض نحويِّي أهل الكوفة: فيها المعنى الذي أقسم به." (¬1) فكيف السبيل لاستبدال هذا الحرف؟ فإن قلت إن لم نشترط التكامل في اللفظ والإعراب والمعنى فهل من سبيل؟ قلت نعم، من ثلاثة طرق: الأول: من باب المعنى نستطيع استخلاص أبلغ الكلمات لموافقة النظم، ومنها كلمة "الدواة" فهي تضمن التسلسل في نظم المعاني كونها من أساسيات الكتابة، وهي تأويل قتادة والحسن البصري كما تقدم، وكونها من الفهم الصحيح لتسلسل المعاني، ولكنها تخالف البلاغة من وجهين، أولاهما أصل الإعراب وهو الإفصاح، فنكون قد ذكرنا ما هو أداة وعطفناها في القَسم على أداة أخرى، وجعلنا القسم الإلهي عليهما، وهذا ضعف لتوارد القسم على قسمين حملا ذات الغاية، والدواة ليست من أصول الكتابة كما هي الحروف، ووجودها وعدمه لا يُلزم الكاتب، والوجه الثاني أنّه لا يستقيم إعرابه إلا على وجه واحد، ناهيك عن تسلسل اللفظ وما في أساليب البلاغة من سجع. الثاني: من باب المشابهة في الإعراب، قد يقول قائل وهل في كلام العرب ما يحتمل وجوه الإعراب سواء كان حرفاً أو كلمة أو كلمات؟ هذا إن أسقطنا تشابه المعاني وفصل السياق، ¬
أقول نعم فهذه كلمة (لدن) بمعنى (عند)، وهي من حروف المعاني، (¬1) وقد أتت في قوله تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) فصلت} وفي قول سفيان بن حرب في معركة أحد ومازال مُهري مَزْجَرَ الكَلْبِ منهمُ ... لدُنْ غُدْوةً حتى دنتْ لغروبِ (¬2) وهي ظرفٌ للزمان أو للمكان - على حسب الحال - يدلّ على بداية كلٍّ منهما (¬3)، وهي في الكلام فضله، (¬4) ولكنها تدل على الفصاحة في القول، والبلاغة في البيان، وفي نطق كلمة لدن عند العرب ثمان لغات، ومنهم من عد إحدى عشرة لغة فيها وحدها (¬5)، وهي تلازم ما تضاف ¬
إليه لكونها ظرف مكان وزمان (¬1)، وإذا تلتها كلمةُ [غُدْوَة]، نحو: [سافرنا لدنْ غُدوة]، جاز جرّها، ونصبها، ورفعها كقول الحصين بن حمام: لدن غدوة (¬2) حتى أتى الليل ما ترى ... من الخيل إلا خارجياً مسوما (¬3) وهذا للإيضاح ولا يستقيم وضعها، لأنها تلازم ما تضاف إليه مما يلزم إضافة الكلمات وما قد تحمله من وجوهٍ للإعراب، ولو أردنا الاستبدال فقط لقلنا ما هي إلا أسماء للسور، لتأخذ هذه الوجوه بحسب فهم التقدير، ولكننا بذلك نكون قد خالفنا إجماع المسلمين على تسمية السور، وخالفنا تسلسل النظم، وقد بينا فساد هذا القول سابقاً. الثالث: من باب تطابق الألفاظ نقول بأن النون هي الحوت في معناها وكفى، وهنا قد أبقينا اللفظ بما يلزم عدم المخالفة، ولكننا أعربناه على الحقيقة وخالفنا تسلسل النظم لعدم اتصاله بما بعده من معنى، ناهيك بفصلها عن غيرها من فواتح السور في المعاني والمقاصد، وعليه فقد نجمع الكثير من المعاني إن أردنا وليس كلها، وقد نشمل بعض وجوه الإعراب وليس كلها، ولكننا في الحقيقة عاجزون عن الاختصار بجملة واحدة، فكيف بكلمة واحدة أو بحرف واحد!! ¬
إذن مع القدرة على المشابهة في أصل الموجود يكون وجه الدلالة على الإعجاز في نظم هذه الحروف هو إعجاز البشر عن الإتيان بكلام واضح في سياق نظم متين، ويحتمل كل هذه الوجوه، سواء وجوه الإعراب أو وجوه التأويل الصحيحة والمشهورة فقط، والذي احتملته الفواتح، ولن يأتي بمثل هذا النظم إلا خالق المتكلمين ومبدئ اللغات. وهو الوجه الصحيح من كلام المحققين بالغاية في ذكر الحروف، يقول الشنقيطي: "أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو: أنّ الحروف المقطّعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطّعة التي يتخاطبون بها. وحكي هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف. قال ابن كثير: وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية. ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول: أن السور التي افتتحت بالحروف المقطّعة يذكر فيها دائِماُ عقب الحروف المقطّعة، الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه." (¬1) والوجه الصحيح من كلامهم هو أن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ليس لأنه مركب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها، بل لأن بعضه مركب من هذه الحروف المقطّعة المذكورة في مواقعها كجزء منه، ولن تستطيعوا استبدالها بأي كلمة كانت، من غير إخلال بما بعدها مما يوجب النقص، أو الزيادة بشيء مضمر قبلها مما يظهر التحريف ويكشفه. ¬
وهنا قد يسأل سائل، إن كان في تبديلها بكلمات أمر مستحيل لاختلال النظم، فكيف بمن يستبدل الحروف بحروف مثلها، فيضع (ص) مكان (ن) أو يضع (الم) بدل (الر) فلن يكون هناك فرق في النظم، وهذا صحيح، ولكن النظم البليغ بشكل عام لا يقتصر على تبديل الكلمات بحسب تسلسل الأفكار، ونعلم أن مما تفرد به القرآن عن سواه في أساليب الإعجاز كان بتمييز الكلمات بما لا يليق بسواها في ذات الجملة، مع إمكانية تغييرها بما يشابهها، وكذلك في ربط الجمل والآيات بنسق بليغ لم يكن له مثيل، مع إمكانية ربط بعضها بغيره من مواضع شتى في القرآن، وبالنهاية ترتيب السور كلٌّ في مواضيع مفصلة وكلٌّ بحسب الدلالة، مع إمكانية سردها من غير ترتيب، لذلك جاء تمييز الحروف كتمييز الكلمات، وهذا من أسرار النظم ومما تعهد الله بحفظه وبيانه للناس. ومن تمييز الحروف أن جاءت بنسق أوحد في الذكر والكتابة، وقد يجري فيها كل برأيه، "أما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر" (¬1)، وهذا لم يكن إلا لدلالة ولسبب عظيم. وقد يقول قائل، نعم ذكرها وتكرارها في تسع وعشرين سورة تمثل ربع السور عدداً يقتضي اتحاد المراد بها، ولكن هذه الحروف جاءت بشكل عشوائي، حتى لو كان فيها معاني وإشارات ودلالات، فقد أخذت صفة العشوائية في مضمونها، قلت هذا صحيح بشرط: إن جاءت بغير نمط، ولم تحكمها دلالة مباشرة على شيء بذاتها ومضمونها، وهذا هو المستحيل. لذلك سأبين بعض الدلالات على ذكر الحروف بهذا النسق لمعرفة الفرق بين ذكرها على هذا النسق في مضمونها، وغيره من الخيارات المطروحة في ذكر الحروف المكتوبة لبيان هذه الدلالات، وذلك من عدة وجوه: ¬
الأول: وهو ما قد أسلفت بالذكر أن هذه الحروف قد اشتملت حروف الكتابة عند العرب في ذلك الزمان، ولم يذكر بينها حرف (الواو) لسببين: الأول أنه من الحروف الدالة على معنىً مضمر إن كتب قبل الكلمات في بعض الأحيان، كما يكتبه البعض بقوله (وكتب) وهو دال على تعظيم الكاتب أو الإملاء من غيره أو تأكيداً على أن الكاتب هو الفاعل للكتابة، ولذلك لا يستقيم ذكره في بداية التنزيل لهذا السبب، والسبب الثاني أنه استعيض عنه بذكره بعد الحروف في مواطن عديدة، وأفاد القسم كما جاءت (ن والقلم)، (ص والقرآن)، وهو من الدلالات الخاصة بهذا الحرف أيضاً. وعليه فقد دلت هذه الحروف على أنها حروف هجاء كتابية موضوعة لمن كتب القرآن. ولو قال قائل: هذه فرضية صحيحة بحسب ما نعلم، وقد يكشف الوقت ما هو عكسها وانفردت بذكرها عن غيرك، فأقول: هذا من حقك، ولكننا نعلم أن كل الفرضيات قامت على وجود النتائج أو الحقائق وشرعت بفرض المعطيات وعلاقاتها مع النتائج، مثلاً قانون الجاذبية قام على تفسير ميل الأجسام للسقوط نحو الأرض وهي النتيجة، فأتت الفرضية لتثبت التناسق بين النتيجة وعلاقتها مع هذه المعطيات، فإن ثبت التناسق بين النتائج والفرضيات وما فيها من معطيات قلنا بأن هذا هو القانون، وإن زعم البعض بأن هذه القوانين قامت على التجريب وهي معرضة للتغيير، قلنا هذا صحيح ولكن حتى لو تغير بعضها فعلاً بحسب المعطيات العارضة، إلا أن هذه الفرضيات بقيت صحيحة ضمن معطياتها، ومن غيرها لما عرفنا أنها تتغير بتغير المعطيات الطارئة، كذلك الأمر في كل ما نفرض. الثاني: لا يختلف اثنان على أن هذه الحروف قد نصفت صفات الحروف عند العرب، مهموسها ومجهورها وشديدها ورخوها والمطبق منها والمفتوح كما المستعلي والمنخفض، وهي ثمان صفات، وكل صفة لها عكسها أو ضدها، وكل حرف لا بد أن يحمل أربع صفات منها، ومجموعها في الحرف يمثل صفة الحرف اللازمة لمعرفة لفظه، فهل هذا التخصيص له دلالة؟ أقول
لو أثبتنا أن بالإمكان الإشارة لهذه الصفات باحتمال آخر لا يشتمل إلا على حروف مثلها ولا يضيف على معانيها شيئاً آخر، لما جاز لنا إثباته كدلالة لمضمون هذه الحروف، ولسقط احتجاجنا به، فهل هناك احتمال آخر؟ أقول: نعلم جميعاً أن عدد حروف العربية ثمانية وعشرون وهو عدد من مضاعفات السبعة، وهذا الرقم بحد ذاته عجيب هو ومضاعفاته عند دخوله في مجال الإحتمالات، ولو فصّلنا حروف العربية بين صفاتها: المهموس 10 والمجهور 18 والشديدة 8 والرخوة 20 (منها 5 متوسطة الرخاوة و 15 رخوة) والمطبقة 4 والمنفتحة 24 والمستعلية 6 والمنخفضة 22، وأخرجنا نسبة الحروف في كل صفة لمجمل الحروف الـ 28، لوجدناها تحمل الرقم المتكرر اللانهائي (.,142857) وهو ما ينتج عادة من قسمة الواحد على السبعة (1/ 7) وهو رقم غير كسري (¬1)، وبوجوده لا يمكن ذكر بعض هذه الحروف باحتمال متسق لتدل على مجملها، وذلك لكون نسبة الاحتمال بالمحصلة رقم غير كسري ولا نهائي، ولاستحالة ذكر نصف الحرف أو ربعه أو جزء منه مثلاً، بل لا يمكن ذكرها إلا من أربعة وجوه فقط، وهي ذكر ربعها أو نصفها أو ثلاثة أرباعها أو بذكرها كلها، لأن نسبتها أرقام صحيحة، (¬2) ولو أردنا ذكر الربع أو الثلاثة أرباع لاستحال تربيع حروف الصفة الواحدة، لكونه يشمل الـ 10 و 18 ولا مجال لتربيعها من غير تقسيم الحرف الواحد، يبقى أن نذكرها كلها أو نصفها، ولو ذكرناها كلها لأشارت لذات الحروف وضاعت الصفات فيها من غير إشارة، إذن لا مجال للدلالة على صفات الحروف بمجرد ذكر بعضها إلا بتنصيفها، ويستحيل ¬
غيره عقلاً. ولعل القائل يقول هذا صحيح ولا مجال لنفيه، ولكن لماذا لم يُذكر النصف الآخر من هذه الحروف؟ قلت هذا هو الاختيار للأفضل والأسلس وهذه حجتنا في إثبات الاختيار، وإن كان النصف الآخر يشتمل أنصاف الحروف والصفات لكنه لا يشتمل دقائق الصفات، كاشتماله حروف الرخاوة المتوسطة، ولا يشتمل على ذكر الأكثر من صفات الحروف المفردة، ولو جاء ذاك النصف لما أشار إليها بهذا التكامل. ولعل القائل يقول هذا صحيح ولكن هذا الاختيار للنصف من الحروف كان من بين أربعة احتمالات وهي الربع والنصف والثلاثة أرباع والكل، وأخيراً كان بالاختيار بين نصف وآخر، وهذه احتمالات مطروحة، قلت: نعلم جميعاً بأن نظرية الاحتمالات في علم الرياضيات قائمة على النسب في احتمال الحدث (¬1)، إما منفرداً أو متتالياً مع غيره وهو الأعقد والأصعب، ولكن مهما كانت المسألة معقدة فسيكون هناك احتمال ولو بنسبة بسيطة، ولكنها تتمثل من "الصفر" وهو المستحيل، إلى "الواحد" وهو الأكيد، ولو وضعنا احتمالية اختيار نصف هذه الحروف بحسب صفاتها وتنصيفها بتسع وعشرين محاولة، لكان الاحتمال رقماً مقارباً للصفر ويستحيل أن يقرأه إنسان، فلا نذكره، بل نفرضه صفراً، فهل هذا اختيار عشوائي؟ من قال نعم فقد زعم أنه يستطيع اختيار حبة رمل من الصحراء، وتكون هذه الحبة هي ذاتها التي أضمرت في نفسي. ومن قال لا ولكنه احتمال حتى لو كان احتمالاً من بين ملايين المليارات من الاحتمالات، فقد زعم أن ما قارب الصفر لا يمثل المستحيل، ولو قلنا إن احتمال وجود مئة مرض في شخص واحد من سكان العالم هو واحد إلى مئة مليار، وعدد سكان العالم قريب من ستة مليارات، فهذا دليل على استحالته وإن أسميناه احتمالاً، وما وُجدت نظرية الاحتمال أصلاً إلا لبيان هذه الأحوال. ¬
وقد يستدل أحدهم بقول الشافعي إن "حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال" وقد يحرفها البعض فيقولون إن الدليل إذا كان فيه احتمال سقط به الاستدلال، وهذا من سوء الفهم لقواعد الأصول، لأن "الاحتمال الذي يوجب الإجمال إنما هو الاحتمال المساوي أما المرجوح فلا وإلا لسقطت دلالة العمومات كلها لتطرق احتمال التخصيص إليها، وذلك باطل" (¬1)، فكيف بالاحتمال المستحيل، هذا من باب، ومن باب آخر فالاحتمال المعتبر هو الاحتمال السوي وإن كان مرجوحاً، والذي يتحصل من ظاهر النص أو مدلول اللفظ إن كان هناك اشتراك لفظي بين المعنى اللغوي والمجازي، ويحمل على المعاني اللغوية في حال التساوي لأنه ظاهر النص وما هو الأصل فيه، أما في التأويل وما فيه من توسع في بيان المقاصد بالتدبر في كلام الله فلا، إذ ليس لأحد من البشر تحديد القرآن بقوله المجرد، كما لا يحق لأحد من البشر تحديد قائل القرآن بكلامه، فاستدلال أهل الأصول قائم على تحديد الأحكام والعقائد، وليس على تحديد التدبر في القرآن، ولذلك لم ينكر - صلى الله عليه وسلم - على ثابت بن قيس فيما رواه الشيخان بأخذه ظاهر النص في قوله تعالى (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) وقد كان جهور الصوت، فاعتزل وظن أنّه حابط عمله وأنه من أهل النار، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: إنك لست من أهل النار بل أنت من أهل الجنة، فهذا من صلب الإيمان، وليس لأحد أن يضع سقفاً للإيمان، أما في بيان الأحكام وتحديد العقائد فنجد في القرآن رد النمرود على إبراهيم عليه السلام بقوله "أنا أحيي وأميت"، لأنه تأول ظاهر الكلام من قول إبراهيم عليه السلام على إطلاقه، بأن الموتى تجمعهم صفة الموت عرفاً وحكماً، وكلاهما احتمال سوي، وإن كان استدلاله مرجوحاً، فلم يجادله خليل الرحمن واستشهد بآية أخرى من آيات الله والتي لا تأويل فيها على الظاهر، ليقطع ¬
بها حجة المجادل في آيات الله، فآيات الله لا تحصى حتى يقف عند إحداها مجادلاً في تأويلها، هذا هو الاحتمال المرجوح بمجمل القرآن، أما الاحتمال المستحيل فلا يقول به إلا سفيه جاهل بأصول الكلام. وهذا الأصل هو دليل لنا - لا علينا في الأصل- على من قال في معاني الحروف قولا غير الأصل فيها، وهو الظاهر بعبارة النص، لأن الاحتمالات الأخرى ليست سوية وبعيدة ولا تستوي مع المعنى الظاهر كاحتمال سوي. ولعلّ القائل يقول قد آمنا بأنها ذكرت بنسق ولها دلالة أكيدة، ولم تأت بشكل عشوائي في اختيارها لتدل على صفات الحروف، ولكن ما من دلالة على شيء إلا لفائدة، فما الفائدة من هذه الدلالة؟ أقول: معرفة صفات الحروف هو أصل المعرفة بألفاظها، كما هو أصل بناء الحروف في كل اللغات، وقد علمنا بأنه ما من لغة في العالم إلا وتتغير، إما بتغيّر ألفاظ حروفها، أو بتغيّر معاني كلماتها، أو بسقوط إعرابها ومتانة نظمها، وبما أن القرآن يُنقل باللفظ للحروف والكلمات وما تحمله من معاني بالمطابقة مع الكتابة، وهذا لن يتم إلا بحفظ ألفاظه حرفاً حرفاً وكلمة كلمة كما تحفظها الكتب في رسمها وشكل كتابتها، وما من سبيل لحفظ ألفاظ حروفه إلا بمعرفة مخارجها الأصلية، ومخارج الحروف مبنية على الصوتات الخارجة من الفم باتفاق الجميع، ولن تتم معرفة المخارج إن لم نعرف صفة الصوت الخارج (أي ما هي صفات الحروف) وقد يظن الجاهل أن القرآن يتم تناقله باللفظ والكتابة بمجرد التناطق والسماع، وليس كذلك، بل قامت على تسليمه باللفظ علوم جليلة تعنى بصفات الحروف ومخارجها، ولم تقف عند هذه الصفات الرئيسة بل تعدتها لما هي من صفات الحروف الدقيقة، وبحسب هذه العلوم المتفق عليها بين المسلمين لا يُسلّم لأحد بأنه تلقى القرآن مشافهة إلا بإتقانه مخارج الحروف حرفاً حرفاً بناء على صفاتها، وما يلزمها بحسب صفاتها من مقدار للنفس في كل صوتة تخرج بحرف من حروف القرآن، كما قرأه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكما قرأه العرب على أصل حروفهم في زمن
الصحابة رضوان الله عليهم، وقد أبدع أهل المشافهة المتسلسلة على مر السنين في هذا العلم، وزادوا عليها بإبداع ترانيم متعددة ومختلفة تضمن سهولة التلقي لما فيها من عذوبة ودعوة لتسهيل الصعوبة في إتقان التلقي، وهذا علم لا يعرفه إلا أهله، وليس من سبيل لنقله غير المشافهة. وهذه من أعظم الفوائد للإشارة على صفات الحروف، وهي دلالة عظيمة على إعجاز النظم بذكر حروف يظنها القاري بلا نسق، وهي تحمل في طياتها أسباباً لظهور علوم شريفة ننعم بها ونعجب من قدرة دارسيها. ولكن لعل القائل في نفسه شيء بعد هذا البيان، وفي إمكانه السؤال: لماذا أتت بهذا النسق: مرة بحرف، ومرة بحرفين وكذا، ولماذا لم يأت هذا النصف من الحروف بشكل آخر، وهل من احتمال متسق لذكرها؟ قلت: قد أحصى هذه الخيارات أو الاحتمالات في التقطيع لوجوه ذكر أنصاف الحروف بديع الزمان النورسي وقال: "إنّ القرآن اختار طريقاً في المقطّعات من بين أربعة وخمسمائة احتمال، لا يمكن تنصيف طبائع الحروف إلا بتلك الطريق، لأن التقسيمات الكثيرة متداخلة ومشتبكة ومتفاوتة. ففي تنصيف كلٍّ غرابة عجيبة." (¬1) ولا أحتج بهذا الكلام بل أسير على دربه وأقول: لو لم تأت بهذا النسق لأتت بنسق آخر على وجوه كثيرة، ولكنها قد تضفي لذاتها معنى على غير الوجه الذي أتت به، أو تخالف أصول الكلام من عذوبة وقدرة على النطق بها، ومن هذه الخيارات: - لو كتبت كما تلفظ كأسمائها الف لام ميم لكانت من باب السرد للأبجدية فكان ذكرها في موضع واحد أبلغ من ذكرها في مواضع وصار اللبس فيها من حيث الإعراب فيظن البعض أنها ألفُ لامُ ميمُ واقتضت الزيادة. - -? ¬
- أن تأتي على منوال واحد في العدد، أي أن تأتي كلها بثلاثة حروف مثل (ألم) أو حرفين مثل (طه) وتسرد على هذا المنوال، كلها من ذوات الحرفين فقط أو الثلاثة فقط، لكان الخلاف على لفظها بما لا تبينه آحادها. ولما أخذت حكم الكلمات وقد علمنا أن الكلمات تبنى على عدد الحروف مثنى وثلاث ورباع وخماس. - أن تأتي بنفس الحروف المتكررة، أي أن تأتي كلها (الم) أو (ألمص) فتلزم المعنى لتكرارها مع عدم وجود مثيل مخالف. - أن تأتي مرتبه بحسب العدد، فتأتي ذوات الحرف أولاً ثم الحرفين ثم الثلاثة فتفيد التدرج وبالتالي الوزن. - أن تأتي من غير تكرار في بعضها كتكرار (الم) لحُملت على الأسماء كما في بعض السور مثل سورة ق - أن تأتي بأكثر من خمسة حروف في موقع واحد فلا تأخذ اعتبار الكلمة وبالتالي لا ينطبق عليها ما يلزم في الكلمات وكانت سرداً لها فقط. - أن تأتي بذات الترتيب مع تغيير بين الحروف كأن تأتي (ها) بدل (نون) أو (يا) بدل (صاد) وهذا إسقاط للتمييز بين الصفات كالشديد والرخو منها، وبذلك يختل النظم قطعاً لمخالفته الغاية من إخراج الصوت بعذوبة الكلام. - أن تجمع أحد الوجوه السابقة مع الآخر، مثلاً أن تأتي باختلاف العدد ولكن بتشابه الحروف في نفس الطبقة، مثلاً أن تأتي ذوات الحرف كلها (ن) والحرفين كلها (يس) والثلاثة (الم) وهذا يفيد الوزن ويلزم التفعيلة. وهذه أمثلة فقط ولا مجال لحصرها، وقد ذكر غيرها من الاحتمالات وبينها كثير من المفسرين، ولكن السؤال هنا: من ذا الذي يدعي أنها جاءت بالإبهام ولم تأت بالبيان؟ والله لا يقول هذا إلا
واحد من اثنين، إما عربي جاهل بأساليب البيان، أو أعجمي جاهل بأصول لغة القرآن، وإن أردنا حصر المتكلمين فيها من علماء الكلام إلى زنادقة هذا الأيام لن يخرجوا عن هذا التفصيل، ولو حصرنا وفصّلنا الأقوال فيها، وقلنا لهم ما استطعنا من كلمات، واختلفنا معهم كمسلمين أو مع غيرهم من أهل الكتاب والملحدين، لما وصفنا ولا وصفوا حالنا وإياهم بأبلغ من وصفه تعالى إذ يقول: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) البقرة} ولن تكون ردودنا بما فيها من كلمات أبلغ من قول الله تعالى {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) يونس}
الفصل السابع: ما جاء فيها من بيان لحقيقة الإعجاز في أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - (راية الإعجاز)
الفصل السابع: ما جاء فيها من بيان لحقيقة الإعجاز في أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - (راية الإعجاز) من المعلوم أن أول ما نزل من القرآن (إقرأ) وكان رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أنا بقارئ (¬1)، وفي هذا بيانٌ لطهارة الرسول من زيغ الكلام، حتى وإن كان الكلام حقاً، فلو لم يكن طاهراً في الباطن لقال ماذا أقرأ؟ ولكنه رد ببيان حقيقة الواقع بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، "وقيل لسيدنا محمدٍ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأُمِّي لأَن أُمَّة العرب لم تكن تَكْتُب ولا تَقْرَأ المَكْتُوبَ، وبَعَثَه الله رسولاً وهو لا يَكْتُب ولا يَقْرأُ من كِتاب، وكانت هذه الخَلَّة إحْدَى آياته المُعجِزة لأَنه - صلى الله عليه وسلم - تَلا عليهم كِتابَ الله مَنْظُوماً، تارة بعد أُخْرَى، بالنَّظْم الذي أُنْزِل عليه فلم يُغَيِّره ولم يُبَدِّل أَلفاظَه، وكان الخطيبُ من العرب إذا ارْتَجَل خُطْبَةً ثم أَعادها زاد فيها ونَقَص، فحَفِظه الله عزّ وجلّ على نَبيِّه كما أَنْزلَه، وأَبانَهُ من سائر مَن بَعَثه إليهم بهذه الآية التي بايَنَ بَينه وبينهم بها، ففي ذلك أَنْزَل الله تعالى: وما كنتَ تَتْلُو من قَبْلِه من كِتاب ولا تَخُطُّه بِيَمِينِك إذاً لارْتابَ المُبْطِلون" (¬2). إذن فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتلو القرآن من حفظه بتسلسل وترتيب لا يكون إلا لمن كان قارئاً بالأصل، كيف لا وهو يتلو من كتاب فيه الحكمة ودقة الكلمات، بنظم لا وزن فيه كما هي حال الشعر، وهو الأسهل للحفظ من المشافهة، وهذا الكتاب يحتوي ما فيه علم الأولين من قبل آدم عليه السلام من خلق السماوات والأرض، وفيه أخبار الأمم والأنبياء والصالحين من أهل العلم والحكام، ويحتوي ما ¬
في علم الغيب مما يلزم الإنسان معرفته من قضاء وقدر وبعث ونشور، وفيه تشريع شامل للدين والدنيا، جمع فيه العقائد السليمة والأخلاق الحميدة وعلاقتنا بالله والناس بجميع أجناسهم وأديانهم وطوائفهم لتكتمل المنظومة الاجتماعية، ونظم العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الناس، وركز فيه على تزكية النفوس وصلاحها، وفيه تشريع العبادات المطلوبة من خالق الكون، كل هذا في كتاب واحد، فهل من كتاب أو كاتب يحتمل هذا كله؟ هذا بحد ذاته إعجاز، ولكنه لم يقف عند هذا، بل تعداه بحقيقة عجيبة، وهي أن القارئ الأمي لهذا الكتاب العظيم تلا هذا الكتاب بلغة قوم لم يكونوا أميين فقط، بل لم يكن فيهم من كتاب قبل هذا الكتاب، والأمم من حولهم كانوا من أهل الكتب والعلوم، ومن المعلوم أن نتاج المعرفة للحضارات والأمم يكون في الكتب، ويكون في مجال أو أكثر من مجالات المعرفة وليس كلها، ويأتي في النهاية كنتاج، وهذا الكتاب كان البداية لا النتاج، وكان شاملاً كاملاً ليس فيه نقص كغيره من الكتب، وهذه قمة الإعجاز فوق الإعجاز. كما في قوله تعالى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) يونس} وتحداهم بأن يأتوا بمثله كما تحدى الأمم كلها وما تتابع لهم من حضارات، ولو أخذت كل حضارة عصارة المعرفة من الحضارة التي قبلها، وتشاركت في ذلك مع أمم الجن والشياطين، وجمعوا ما تحصّل من تتابع المعرفة، لما أخرجوا مثل هذا الكتاب {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الاسراء} ولم يقف الإعجاز عند هذا الحد بل تعداه إلى ما بعد القمة، بأن حفظ هذا الكتاب لغة العرب وحروفهم، وحفظ تصريف اللغة وإعراب الكلمات فيها، وألفاظ الحروف بصفاتها ومخارجها، ليس كغيرها من اللغات ذوات الكتب قبله، فكل ما كتب في لغات الأمم لم يكن سبباً لحفظ لغتهم من الانحطاط وضياع التصريف فيها، ولكن القرآن فعل هذا
وهو أول كتاب عربي، وبداية لحضارة عظيمة. وما ذلك إلا راية الإعجاز فوق قمة الإعجاز للبشر جميعاً. وهنا يظهر السبب في نعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قبل المشركين بالجنون، فلو خرج عليهم أو على سواهم في أي زمان ومكان إلى وقتنا هذا، من يدعي بأنه سيغير العالم وسيحتل مراكز القوة في العالم من دول عظمى وحضارات، وسيصلح النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم، فماذا سيقول الناس عنه غير أنّه مجنون؟ بغض النظر عن الكتاب الذي وضع فيه أفكاره، وهو الواقع فيما حصل لكل من ادعى القدرة على هذه الإصلاحات أو صرّح بهذه الطموحات، فكيف بمن جمعها كلها؟ ولكن الوضع هنا مخالف، فليس هو من ادعى، بل هذا ما أنزل الله من فوق سبع سماوات، وجعله دُسْتُورًا وَشَرْعًا ودِيْناً ومنهجا للحياة، ولكن المشركين أنكروا الرسالة وأنزلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلة المدعين من البشر فقالوا (مجنون) فخابوا وخسروا إذ تحقق الأمر وقد قال الله تعالى لهم {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) النحل}. وهذا الكتاب العظيم وما جاء فيه من نور ساطع ونظم محكم وتشريع شامل، أنزله الله منجماً على فترات، ولم ينزل دفعة واحدة ليجمع بين الإعجاز في مجمل القرآن والإعجاز في تفريقه، فكل ما ذكرت سابقاً من ذكر أنواع المعرفة وأنه أول كتاب وأنه حفظ اللغة هو من إعجاز مجمله، أما أنواع الإعجاز في تفريقه الذي لا حصر لها فمنها أنّه جمع بين الاثنين، فكان معجزاً بمجمله بالنظم والمعنى، وجاء معجزاً بما يحمل من ردود على ما يقول الناس فيه بحسب النظم من غير إخلال بالمعنى، وهذا دليل قاطع على أن من قاله يعلم الغيب ويعلم ما سيقول الناس وماذا سيسألون، ودليل على أنه نزل وكان مكتوباً قبل القول وقبل السؤال، "ولولا نزوله متفرقاً: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه. إذ لو نزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يلبس الحق بالباطل وينفس عليهم أمر الإعجاز.
ويهون في أنفسهم من الجملة بعض ما لا يهون من التفصيل، لأنهم قوم لا يقرءون ولا يتدارسون" (¬1)، كل هذا الإعجاز قد مثل الخطوط العريضة في رسم راية القرآن، ومن ثم أتت الحروف المقطّعة في بداية السور تلفظ بأسمائها، وكأنها بداية لمحو أمية العرب، وظاهرها بسيط إن حملناها على أصل معناها، فيبلغها الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما سمعها رداً من الله على شبهة عظيمة تشكك في قدرة هذه اللغة على حمل هذا الكتاب ونشره بين البشر قياساً على واقع الجهل المستفحل في القوم، فأتت على لسان النبي الأمي الذي لا يعرف من علم الكتابة إلا منطوق هذه الحروف ومقاصدها، فبمجرد أن يسمعها أصحاب الشبهة ومن كانوا يخبئون الدفينة الخبيثة لنقض معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ستكون عليهم عمى، وسيعلمون أن الله متم نوره ولو كره الكافرون. ولكن ما هو موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - منها وهو يعلم أنها جاءت للرد على الشك وفضح شبهة دفينة، فعلم معناها ومقصدها ولكنه لا يعرف علمها، ولا يعرف الفرق بينها وبين غيرها من الحروف، ولا يعلم ما بها من دلائل وموانع في علم الكتابة، ويعلم إن السامع قد يظن بها نقصاً لمخالفتها مجمل الكتاب من ذكر المعارف والمعاني والردود، فقد جاءت بما هو أبسط الكلام وأبسط المعاني على ظاهرها، (هذه حا ميم، بداية التعليم) أفي كتاب الله ما يبين لنا موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - منها؟ أقول نعم، وقد جاء بعد ذوات الحرف وبعد البعض من ذوات الحرفين من السور وبعد الحواميم، في أول سورة هود المبتدئة بالثلاثة حروف (الر) بقوله تعالى {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)} وهذه الآية قد حيرت علماء التفسير، بل كان منهم من آتى على تفسيرها بعد ذكر الآيات بعدها ومر عليها مرور الكرام، خوفاً من ¬
القول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق، ومنهم من قال فيها بحسب ما تقتضيه اللغة من عدة وجوه وشرح ظاهرها فقط، وبعضهم تجرأ على الله وقال: "ذلك أن كفار قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في يونس: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا}، ليس فيه ترك عبادة آلهتنا ولا عيبها، {أوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] أنت من تلقاء نفسك، فهمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يسمعهم عيبها رجاء أن يتبعوه" (¬1)، فأنى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين أن يضيق صدره بما يحمل من وحي وهو غاية الرسالة، وعماد الدين، وقصد التوحيد، ومن قال بهذا القول فكأنما ألغى كلمة (بعض) من الآية وجعلها (فلعلك تارك ما أوحينا إليك). وقد كانت هذه الآية من أعظم الآيات الدالة على معجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل وفيها من الأمثال ما لا يستطيعه بشر، والله لو تدبرناها حق التدبر لوجدناها تحمل من المعاني ما لا نستطيع قوله أو كتابته، ولبيان بعض ما جاء فيها نأخذ الأصل اللغوي في النظم كما أورده صاحب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور بقوله: "قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر: {فلعلك تارك} أي إشفاقاً أو طمعاً {بعض ما} ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله: {يوحى إليك} كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم {وضائق به} أي بذلك البعض {صدرك} مخافة ردهم له إذا بلغته لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي مخافة أو لأجل أن {يقولوا} تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل عليه كنز} يستغني به ويتفرغ لما يريد، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه ¬
آية عناداً ومكابرة {أو جاء معه ملك} أي ليؤيد كلامه وليشهد له ... {إنما أنت نذير} فبلغهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ." (¬1) إذن فالآية من شطرين أساسيين الأول: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} والثاني: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أما الأول: "لعل للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه - صلى الله عليه وسلم - مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه - صلى الله عليه وسلم - وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشائية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحى إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن لعل هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك." (¬2)، وهذا معلوم عند أهل العربية، وفيها أقوال عديدة أيضاً، ولكن التحديد (ببعض*) هو غير المعلوم وهو موطن الشبهة في الفهم السقيم للآية، "وبعض ضد كل" (¬3)، "وهو تجزئة للشيءِ" (¬4)، وقد تشير إلى الكل "وليس في هذا معنى الكل" (¬5)، أي لو ترك ¬
بعضه لكان بمنزلة من ترك كله، ويبينه قوله تعالى (وضائق به صدرك) أي بذلك (البعض*) وضائق من ضاق، وهي عكس اتسع، ولا تقتضي النقص، بل تقتضي الحصر، فلو قلنا مدينة ضاقت بأهلها، لا يقتضي النقص فيها بل انحصارها على أهلها وبنيانها، وكذلك الغرفة تتسع لألف شخص وتضيق على الألفين وإن انحصرت على الألف، وموطن الشبهة هنا ظهر لاعتبار الضيق في الصدر هو الشك، وقد جاء من كلام بعض اللغويين وليس كذلك على الأصل، فكلمة ضاق تحمل المعنى لا سياق النظم، ولا يكون الضيق أو الحصر في الصدر إلا مع القدرة أو عدمها على فعل شيء بعينه، "وحَصِرَ صدرُه: ضاق والحصر: ضيق الصدر ... ومنه قول لبيد: أَعْرَضْتُ وانْتَصَبَتْ كَجِذْع مُنِيفةٍ ... جَرْداءَ يَحْصَرُ دونَها صُرَّامُها أَي تضيق صدورهم بطول هذه النخلة" (¬1)، ولقدْر الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاءت ضائق صدرك، لأن الحصر يدل على الانحباس، وهو يفيد النقص، أما الضيق فلا، ولا يضيق صدر أحدهم إلا مع القدرة على الفعل والقول، ولو لم يكن هناك من قدرة لما ضاق الصدر ولَكَانَ قد انحصر، وكانت نتيجته الكمد والغيظ أو الاستسلام، قال في المحكم والمحيط: "حَصِرَ حَصَراً فهو حَصِرٌ، عَيَّ في منطقه وحَصِرَ صدره، ضاق"، (¬2) كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ .. الآية 90 النساء}، "والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام: "قد حَصِرَ" (¬3)، أما مع القدرة على أحدهما فيقال ضاقت، والحصْر يأتي مع الكل، ولا يأتي مع البعض، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قادراً على الفعل والقول، ولكنه غير قادر على القول بغير ¬
علم، أو من دون إذن من الله بهذا (البعض*)، ولو جاء رد المشركين على ما جاء (البعض*) به لضاق صدره لسببين: إما لأنه لا يعلم الغيب مما يكيدون ويخططون، وإما أنه لا سبيل لمعرفة (البعض*) لمانع من الله، أما الأول فقد جاء ذكره في مواطن كثيرة ظاهرة كقوله تعالى {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ (50) الأنعام} وهو يقين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يضيق صدره لأنه لا يعلم الغيب، فهو من صميم إيمانه - صلى الله عليه وسلم -، فيبقى أنه لا سبيل لمعرفة (البعض*) لمانع أصيل، وهو أمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعدم قدرته على معرفة الحجج المتعلقة بالكتابة والحروف، وهو ذات الرد على شبهة المشركين بقوله تعالى (ن، ص، ق، حم) فقد جاءت الشبهة بالشك في قدرة اللغة على حمل الرسالة من شقها الكتابي، وجاء الرد بأن الله هو الأعلم، وقد رفع شأن الحروف بتنزيلها في محكم كتابه مفصّلة بحسب السور، ونحن على يقين تام بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرف معناها وما نزلت لأجله، وأنه بلّغها كما بلّغ الرسالة، وبيّن ما فيها بحسب ما علّمه الله، لكنه في ذات الوقت لا يعرف علم الحروف، وهذا هو السبب في ضيق صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لا من ذات الحروف، بل خوفاً من أن يردّوا عليها بالتسفيه وهو ديدنهم في الجحود، علماً بأن هذه الآية نزلت بعد ذوات الحرف والحرفين من السور، فجاءت بثلاثة حروف مما يقتضي التأكيد على رد الشبهة بشكل أكثر إصراراً، ومما يوجب الرد عليها من قبل المشركين، ولكن الله لم يترك ما سيقولون من ردود ليزداد الضيق في صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل جاء بأبلغ ما سيأتون به من الردود الممكنة وأقربها للعقل، لكونها البديل الوحيد لهذه الحروف بحسب الرد المتوقع، وهو السبب في ضيق صدره الشريف - صلى الله عليه وسلم -، وكأن الله يقول ماذا سيرد عليك المشركون؟ إما أن يقولوا لو أنزل عليه كنز أو لو أتى معه ملك، وهي ذات الخيارات المأمور - صلى الله عليه وسلم - بأن يبرأ من إدعائها في الآية السابقة، ولكي نفهم هذه الخيارات نضرب مثلاً: فلو أراد ملِك أن يكون أولاده ذوي شأن، وكان غنياً عظيماً ¬
قد أوتي الحكمة والعلم، فإما أن يعطيهم مالاً عظيماً يستغنون به عن الناس، أو أن يؤيدهم بكلمته وسلطته النافذة على أرجاء مملكته، أو أن يعلّمهم من الحكمة ومن أسباب الحياة ما يضمن لهم حياة شريفة كما عاشها هو، وكذلك الأب أيّاً كان، لا سبيل لضمان مستقبل أولاده إلا بواحدة من هذه الخيارات الثلاثة، وهي الأصل لصفات الكمال عند شيخ الإسلام ابن تيمية إذ قال: "صفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى" (¬1)، ولكن الأب أو الملك لو أعطى المال والكنز أو أيّد أولاده بسلطانه وأبقاهم تحت يده لأهلكهم، لأن السلطة لا تدوم، والمال إن لم يجد عقلاً كيّساً ضاع، أما العلم فهو الحامي والضامن الوحيد، وكذلك الأمر في هذه الآية، فلو أراد العرب أن يعلوا شأنهم بتأييد من الله وسلطانه بإرسال مَلَك مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو التأييد بالسلطان الظاهر للعيان، لكان فيه العزّة لأجل، فبموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيُرفع الملَك ويبقى الأتباع بلا سند، ولو أنزل معه كنز ولو كان جبلاً من ذهب، لفني عن بكرة أبيه، إما لجهلهم وإما لطمع الأمم فيهم، ولذلك نجد في سورة ص رداً على قولهم {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} التقريع بقوله تعالى بعدها {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)} فليس لكم لا هذا ولا ذاك. وبعد هذا البيان فلا يبقى إلا مضمون الرسالة ومفهوم الإنذار، وما يقتضيه من دعوة لتعلم القراءة والكتابة لهذا الكتاب العظيم كما أُنزل باللسان العربي والحروف العربية، من غير تبديل وتغيير للـ (البعض*) منه حتى ولو كان حرفاً واحداً، وهو ما جاء في الشق الثاني من الآية وهو المزيل للضيق {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي لا يضيقنّ صدرك بما تتوقع من ردودهم، فهذه أبلغ الردود بينتها لك، وبديلها ¬
الوحيد هو ما أنزلت عليهم من دعوة للعلم، فإن أخذوا بها سادوا الأمم، وإن لم يأخذوا بها فتذكر أنك في الأساس نذير "فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ، وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة، بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء" (¬1)، وهذا هو الدليل الواضح على أن ما ضاق له صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو (البعض*) فيه ما لا يعلمه، بل وليس من سبيل له ليعلمه، وأنه مقصور على الإنذار بما ضاق صدره منه، هذا ولم يأت الخطاب في القرآن موجّهاً للرسول وقصره على الإنذار إلا في آيتين، هذه الآية والأخرى بعد قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) فاطر} وهذا القصْر على الإنذار "تحديد لقدرته، وما يطلب منه، وأنه نذير فحسب، وليس نذيراً وقادراً على إيجاد الهداية في النفوس المنصرفة" (¬2)، وكل رسول يحمل رسالة من الله أو كل نبيّ يأتي بنبأ السماء هو في الأصل نذير، و"واضح أن المراد بكل هذا هو أن فاقد الشيء لا يكون كمن أوتي هذا الشيء" (¬3)، ونحن نقول: هذا الشيء هو علم الكتابة لا غيره، فإن قال قائل: كيف لنا أن نتيقن بأن هذا هو المراد لا غيره، قلت: وهل في القرآن ما هو مغلق على الفهم؟ حاشا وكلا، فالإشارات والدلالات في القرآن مفاتيح لما أُغلق على الأفهام، والحصر والقصر لهذا (البعض*) دليل على انعدام غيره، فهل في القرآن أو الوحي ما لا يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ حاشا وكلا، إلاّ علم كتابته، وهو المعجزة الخالدة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وضيق صدره الشريف كما هو ضيق صدر المعلم ¬
الغيور على طلبته، إذا بلغ الجهد منه أن يفعل المستحيل لتعليم تلاميذه، وهم بين شارد للذهن وغائب عن الحضور، وبعد هذا يطالبونه بمعرفة علم من العلوم لا سبيل له لتحصيله لمانع أصيل فيه، كمن يطالب معلم العربية بتدريس الإنجليزية لزعمه أنها لغة العصر، والمانع الأصيل هو المنهج المتبع في الدراسة، وليس من سبيل لمخالفته بمجرد طلبٍ من السفهاء من الطلاب، لكونه مؤصّلاً بل قانوناً من إدارة التعليم، فإن رفض فتجد منهم القائل عندنا أموال لا تأكلها النيران فمالي وهذا العلم، وقائل أبي في منصب يضمن لي مستقبلي فمالي وهذا العلم، وبهذا لا يكون تطمين المعلم إلا ببيان الغاية من وجوده وبيان السبيل لمن كان كيّساً فطناً من تلاميذه. وفي هذا يكون البيان بأن العلم الذي نزل به القرآن وضمنه الله بحفظه، سيكون لهم به شأن كبير، وسيكون لهذا الكتاب نبأ عظيم بهذه اللغة وإن كانت حروفها بسيطة، فهذه الحروف ستكتب عربية وستقرأ عربية وستبقى عربية ما بقي القرآن على كل لسان من العرب وغيرهم من الأمم، فقد تكلم الله بها وترديدها من البشر عبادة، وسيكون لها شأن كما للقرآن من شأن، والله على كل شيء وكيل إذ مطلق الاتكال عليه وحده ولا يكون على سواه. وبعد هذه الآية تحدّى الله المشركين بإعجازهم عن الإتيان بما يشبه القرآن بقوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} ومن يقرأ تمام السورة يرى تناسق الإشارات والدلالات لإظهار فكرة الإعجاز في لغة القرآن وبيانه، والوعيد لمن كفر به بالعذاب الأليم كما في قوله تعالى بعدها بآيات {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} مع تطمين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تمام الآية بقوله تعالى {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}.
(حكمة: عجبت من مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان بطلاً، شجاعاً، داهيَةً، رزيناً، جبَّاراً وكان مهيباً، شديد الوَطْأَةِ، أَديباً، بليغاً، له رسائل تؤثر. (¬1) عندما كان في محنة انتهاء الخلافة الأموية قال: " أيام القدرة وإن طالت قصيرة والمتعة بها وإن كثرت قليلة، وعرض بظاهر الحيرة سبعين ألف فارس عربي ثم قال إذا انقضت المدة لم تنفع العدة، وكان يقول: كنزنا الكنوز فما وجدنا كنزاً أنفع من كنز معروف في قلب حر." (¬2) فلم ينفعه مال موروث ولا سلطة موروثة والتمس المعروف في قلب الأحرار، ولو تنبه كل من هو في حاله لما وجدت حال الأمة على ما هي عليه الآن.) وبعد هذا البيان هل يُعقل أن يرد المشركون ولو بكلمة واحدة؟ وهل يُعقل أن يسأل أصحاب الرسول نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عن الذي ضاق به صدره؟ ولماذا؟ وهم يعلمون أن من معجزاته كونه أمّي، ولا يعلمون الشبهة التي حاكها المشركون بالباطن، وقد كانوا - رضوان الله عليهم - لا يشبعون من النظر إلى وجهه الكريم إجلالاً له، كما في حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه- "ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه" (¬3)، لهذا السبب لم يسأل عنها الصحابة ولم يتكلموا فيها، بل علموا أن فيها بياناً كما دل عليه أصلها، وكما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله ألف حرف ولام حرف وميم حرف، أي هذه حروف الكتابة قالها ربكم وبلغتها لكم، فاتلوها وتدبروا ما بها من علم، ولكم الأجر بقراءتها وتدبرها والعمل بها، فكفاها شرفاً أنها حملت كلام الله، وسيكون لكم شأن إن تعلمتم وكتبتم بها كما أمر الله. ¬
ومن ظنّ أن هذه الغاية ما دارت عليها كل السور ذوات الحروف المقطّعة، فليرجع لها ولينظر في قصة أصحاب القرية الذين ورثوا المال في سورة القلم، وعجب الكافرين أن الرسول منهم في سورة ق، وقصة داود وسليمان في سورة ص، وفيها يتمثل الإرث من الملك العادل الحكيم ذو السلطة لابنه ووريثه في الملك سليمان عليه السلام، واقرأ سورة مريم وقوله تعالى {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)} "وليس المراد هنا: وراثة المال، بل المراد: وراثة العلم والنبوّة والقيام بأمر الدين وقد ثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» " (¬1) واقرأ الحواميم واقرأ يس وطه وكل (الم) وتوقف على المعاني وتدبر كلام الله (ورتل القرآن ترتيلا). وتدبّر توجيه الكلام في الآيات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان من حاله، فلو كان أُمِّيًّا ولا يعرف الحروف، وكان يدّعي النبوة لما كان سيتلوها لبساطة معانيها على الظاهر من غير ذكرٍ لدلالاتها، ولو بإشارة على ما فيها من أسرار (¬2)، ولو كان يعرف الكتابة أو تعلمها بالسر، وكان محيطاً بكل ما ذكر في القرآن من العلم، وكان هذا الكتاب العظيم من تأليفه، لكان لزاماً عليه أن يبينها ويشرحها، كما كان عليه أن يخاف على هذا الكتاب ويبتغي حفظه، ألم يكن سيقول ¬
لمن كتبه: اكتبوه بالحروف العربية ولا تكتبوه بسواها، ولا تترجموه للغات الأقوام من حولكم - مع أمره لهم بنشره للناس كافة - بل انقلوا معانيه، وبلغوه للناس باللفظ مع ما يوافقه من الكتابة، وعاهدوني على حفظ رسمه ونسخه وتوزيعه؟ ألم يكن ليفعل هذا لو كان كاذِباً أو ساحراً أو مجنوناً كما ادعى المشركون؟ (¬1) من هنا نعلم بأن هذه الحروف جاءت لتبين بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس صاحب الكتاب، وأنه أمّي لا يكتب، وهذه إحدى أدق الحجج على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينتبه إليها الكثير من الناس، وتتمثل في موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن لم يجمع في كتاب واحد بإشرافه، بل جمع في صدور أصحابه وما كتبوه، ولو كان مُدعياً لأمر بكتابته جملة واحدة في كتاب واحد في حياته، ليتأكد من كماله وحفظه، وإن قال قائل لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - بجمع القرآن وتأليفه لأنه لم يكن يعلم متى سينقطع الوحي بموته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، قلت: هل يكون عمر بن الخطاب وابن عباس أوعى من خير البشر وحامل الرسالة ومن أوتي القرآن ومثله معه؟ حاشاه، فقد تأوّل ابن عباس في حضرة عمر سورة النصر بأجل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال بأن رب العالمين نعى إليه نفسه - صلى الله عليه وسلم -، أولم يعلم ذلك المتلقي وعلمه ابن عباس وعمر؟ ولو كان هذا هو السبب لكان أشرف على جمعه، ووضع له نظاماً يضمن به الترتيب، ولكنه موقن بأن الله تعهد بحفظ القرآن في صدره أولاً، وتعهد بحفظه في الصدور والسطور إلى أبد الآبدين، وبعد هذا التدبر والتأمل "فلن يأتي لك من ذلك إلا معنى ¬
واحد تستخرجه وتقنع به، وهو أن هذا الكتاب الكريم أثر غيبي كان في علم الله قبل كل الأزمنة، فهو يحويها كلها وكأنه يوجد معها كلها، وبذلك يتعين أنه هداية إلهية في أسلوب إنساني يحمل في نفسه دليل إعجازه، ويكون القرآن منفرداً في التاريخ بأنه منذ أنزل لا يبرح في كل عصر يظهر من ناحيتين صادقتين: ناحية الماضي وناحية الحاضر." (¬1) وكفى بما ذكرته علماً يقيناً بما في الحروف من إعجاز، لتكون شعاراً للنصر الآتي كما كانت للنصر السابق، إذ هي شعار الإعجاز في راية القرآن المرفوعة على قمة الإعجاز إلى أبد الآبدين (حم لا ينصرون). والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات،، ... إياس حرب 143.هـ ¬
الملحق الأول - نقوش ما قبل الإسلام
الملحق الأول - نقوش ما قبل الإسلام الشكل (1) نقش أم الجمال 250م النص: ذنه نفسو فهرو: بر سلي ربو جذيمة: ملك تنوخ المعنى: هذه نفسُ فِهْر: ابن سِلَّى مُرَبِّي جُذَيمة: مَلِك تنّوخ الشكل (2) نقش النمارة (نقش امرؤ القيس) 328 م النص: تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجأ يزجي في حبج نجرن مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده المعنى: هذي نفسُ امْرئ القَيس بن عَمرو ملك العرب كُلّها الذي أسرَ التاجَ ومَلَكَ الأَسْدِيِّين ونزار وملوكَهم، وهرَّبَ مذحجَ عكداً. وجاء يزجي في حَبَجِ نجران مدينةِ شمر. ومَلَك مَعَدَّ ونزَّلَ بنِيهِ الشعوبَ، ووكَّلهم الفُرسُ للرومِ. فلم يبلُغ ملِكٌ مبلغَه عكداً. هلكَ سنة 223 يوم 7 بكسلول. فليسعد الذي ولدَه.
الشكل (3) نقش زبد (المدونة) 512م يونانية وسريانية وعربية النص: ... د الإله سرحو بن أمت منفو وهليا بن مر القيس وسرحو بن (أو بر) سعدو وسترو وسرحو. المعنى: بفضل الإلة، سرجو ابن امات مناف، وطوبي ابن امرؤ القيس، وسرجو ابن سعد، وستر وشريح
الشكل (4) نقش جبل أسيس 528م النص: إبراهيم بن مغيرة الأوسي أرسلني الحرث الملك على سليمن مُسَلَّحَهُ سنت 423 (بالتقويم النبطي) =528 م. المعنى: إبراهيم ابن المغيرة الأوسي أرسله الملك الحارث إلى سليمان حاملاً إليه السلاح بتاريخ 528 م
الشكل (5) نقش حران الجنوبية 568م النص: أنا شرحيل بن ظلمو بنيت ذا المرطول سنت 463 (بالتقويم النبطي = 568م) بعد مفسد خيبر بعم المعنى: أنا شرحبيل بن ظالم بنيت هذا المرطول سنة 568م بعد عام من الحرب على خيبر (وكانت 567م)
الملحق الثاني - نقوش ما بعد الإسلام
الملحق الثاني - نقوش ما بعد الإسلام الشكل (1) نقش ينبع 23هـ 643م النص: كتب سلمة سنة ثلاث وعشرين
الشكل (2) نقش وادي خشيبة - قرب نجران 27هـ 648م النص: ترحم الله على يزيد بن عبد الله السلولي وكتب في جمدى من سنة سبع وعشرين
الشكل (3) نقش السد 58هـ 678م النص: هذا السد لعبد الله معاوية أمير المؤمنين بناه عبد الله بن صخر بأمر الله سنة ثمان وخمسين، اللهم اغفر لعبد الله معاوية أمير المؤمنين وثبته وانصره ومتع المؤمنين به، كتب عمر بن حباب الشكل (4) نقش وادي سابل 46هـ 666م النص: اللهم اغفر لعبد الله بن (ديرام) كتب لأربعين ليلة خلون من محرم من سنة ست وأربعين
قائمة المراجع
قائمة المراجع كتب السنة ومستخرجات الآثار وشروح الحديث 1) موطأ الإمام مالك بن أنس، رواية يحي الليثي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، ط1 2) مسند الإمام أحمد بن حنبل، تعليقات شعيب الأرنؤوط، مؤسسة قرطبة، ط1 3) صحيح البخاري، الجامع المسند الصحيح المختصر، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط1 4) صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، ط1 5) سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، ط1 6) سنن النسائي، المجتبى من السنن، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، ط2 7) السنن الكبرى للنسائي، تحقيق عبد الغفار سليمان البنداري , سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، ط1 8) الوفاة للنسائي، تحقيق محمد السعيد زغلول، مكتبة التراث الإسلامي، ط1 9) فضائل القرآن للنسائي، تحقيق فاروق حمادة، دار إحياء العلوم ودار الثقافة، ط2 10) سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، ط1 11) سنن ابن ماجه، تعليقات محمود خليل، مكتبة أبي المعاطي، ط1 12) مصنف ابن أبي شيبة، المصنف في الأحاديث والآثار، تحقيق سعيد اللحام، دار الفكر، ط1 13) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1 14) تفسير عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق محمود محمد عبده، دار الكتب العلمية، ط1 15) السنن الكبرى للبيهقي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، مكتبة دار الباز، ط1 16) المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي، تحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي، أضواء السلف، ط2 17) دلائل النبوة للبيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية، ط1 18) شعب الإيمان للبيهقي، تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد والدار السلفية، ط1 19) معرفة السنن والآثار للبيهقي، تحقيق عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي، ط1 20) مسند إسحاق بن راهويه، تحقيق عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، ط1 21) الأسماء والصفات للبيهقي، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، ط1 22) معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن، ط1 23) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، ط4 24) سنن الدارمي، عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد الدارمي، تحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، دار الكتاب العربي، ط1 25) نقض عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي الجهمي العنيد، تحقيق منصور السماري، مكتبة أضواء السلف، ط1 26) مستخرج أبو عوانة الإسفراييني على صحيح مسلم، المسمى مسند أبو عوانة، تحقيق أيمن بن عارف الدمشقي، دار المعرفة، ط1
29) مسند أبو يعلى الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، ط1 30) صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط2 31) صحيح ابن خزيمة، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1 32) أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، لأبي الوليد محمد بن عبدالله الأزرقي، تحقيق رشدي الصالح ملحس، دار الأندلس، ط1 33) أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، لأبي عبدالله محمد بن إسحاق الفاكهي. تحقيق عبداالملك بن عبدالله بن دهيش، دار خضر، ط2 34) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطة العكبري، تحقيق عثمان عبدالله آدم الأثيوبي، دار الراية، ط1 35) الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم، أحمد بن عمرو بن الضحاك أبو بكر الشيباني، تحقيق باسم فيصل أحمد الجوابرة، دار الراية، ط1 36) المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط1 37) المعجم الكبير للطبراني، تحقيق حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم، ط2 38) المعجم الأوسط للطبراني، تحقيق طارق بن عوض الله بن محمد , عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين، ط1 39) المعجم الصغير للطبراني، تحقيق محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، ط1 40) شرح مشكل الآثار لأبي جعفر الطحاوي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط1 41) المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، جمعية التربية الإسلامية ودار ابن حزم، ط1 42) تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار للطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، ط1 43) ذكر أخبار أصبهان (تاريخ أصبهان) لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، ط1 44) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه لأبي الشيخ بن حيان الأصبهاني، تحقيق صالح بن محمد الونيان، دار المسلم، ط1 45) البحر الزخار مسند البزار، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله وعادل بن سعد وصبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم، ط1 46) التوحيد لأبي عبد الله بن منده، تحقيق علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، مكتبة العلوم والحكم ودار العلوم والحكم، ط1 47) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، تحقيق محمود الطحان، مكتبة المعارف، ط1 48) تقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، ط1 49) الزهد للإمام أحمد بن حنبل، تحقيق يحي بن محمد سوس، دار ابن رجب، ط2 50) الزهد والرقائق لابن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، ط1 51) الشريعة للآجري، تحقيق عبدالله الدميجي، دار الوطن، ط2 52) العرش وما روي فيه لأبي جعفر محمد بن عثمان بن ابي شيبة، تحقيق محمد بن خليفة التميمي، مكتبة الرشد، ط1 53) العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني، تحقيق رضاء الله بن محمد بن إدريس المباركافوري، دار العاصمة، ط1 54) القدر للفريابي، تحقيق عبد الله بن حمد المنصور، أضواء السلف، ط1 55) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي، تحقيق محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، ط3 56) المصاحف لابن ابي داود، تحقيق محمد بن عبده، مكتبة الفاروق الحديثة، ط1 57) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر القرطبي، تحقيق أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، ط1
60) دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، تحقيق محمد رواس وعبد البر عباس، دار النفائس، ط2 61) فضائل القرآن لأبي بكر الفريابي، تحقيق يوسف عثمان فضل الله دار، مكتبة الرشد، ط1 62) سنن سعيد بن منصور، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، ط1 63) فضائل القرآن للقاسم بن سلام، تحقيق مروان العطية ومحسن خرابة ووفاء تقي الدين، دار ابن كثير، ط1 64) غريب الحديث للقاسم بن سلام، تحقيق حسين محمد شرف، المطابع الأميرية، ط1 65) فضائل القرآن لابن الضريس، تحقيق غزوة بدير، دار الفكر، ط1 66) مسند ابن الجعد، تحقيق عامر أحمد حيدر، مؤسسة نادر، ط1 67) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمي، تحقيق مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الطلائع، ط1 68) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، مكتبة المعارف 69) سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني، مكتبة المعارف 70) صحيح سنن النسائي للألباني، مكتبة المعارف 71) صحيح سنن أبي داود (الأم) للألباني، مؤسسة غراس 72) صحيح سنن الترمذي للألباني، المكتب الإسلامي 73) صحيح سنن ابن ماجه للألباني، المكتب الإسلامي 74) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني، المكتب الإسلامي، ط2 75) مشكاة المصابيح للتبريزي تحقيق الألباني، المكتب الإسلامي، ط3 76) صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، المكتب الإسلامي 77) الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب للألباني، مؤسسة غراس، ط1 78) المعرفة والتاريخ للفسوي، تحقيق أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، ط2 79) القدر للفريابي، تحقيق عبدالله بن حمد المنصور، مكتبة أضواء السلف، ط1 80) نسخة وكيع عن الأعمش، تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، الدار السلفية بالكويت، ط2 81) مختصر قيام الليل لأبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، اختصار المقريزي، دار حديث أكادمي، ط1 82) الكرم والجود وسخاء النفوس للبرجلاني، تحقيق عامر حسن صبري، دار ابن حزم، ط2 83) مسند أبي بكر لأحمد بن علي المروزي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، ط1 84) مسند أبو داود الطيالسي، دار المعرفة، ط1 85) الأموال لابن زنجوية، تحقيق شاكر ذيب فياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط1 86) الأموال للقاسم بن سلام، تحقيق خليل محمد هراس، دار الفكر، ط1 87) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي، دار إحياء التراث العربي، ط2
90) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد العزيز بن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، دار المعرفة، ط1 91) خلق أفعال العباد للبخاري، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار المعارف السعودية 92) أدب الاملاء والاستملاء للسمعاني، شرح ومراجعه سعيد محمد اللحام، دار ومكتبة الهلال، ط1 93) العرش وما روي فيه لمحمد بن عثمان بن أبي شيبة، تحقيق محمد بن خليفة التميمي، ط1 94) نسخة وكيع عن الأعمش لوكيع بن الجراح، تحقيق عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، الدار السلفية، ط2 95) المنتخب من مسند عبد بن حميد، تحقيق: صبحي البدري السامرائي ومحمود محمد خليل الصعيدي، مكتبة السنة، ط1 96) فتوح البلدان للبلاذري، تحقيق عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع، مؤسسة المعارف كتب التراجم والطبقات 97) تهذيب الكمال للمزي، تحقيق بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط4 98) تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، ط1 99) تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط2 100) لسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق دائرة المعرف النظامية - الهند، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط2 101) الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة للحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عبد المعيد ضان، مجلس دائرة المعارف العثمانية، ط1 102) سير اعلام النبلاء للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط3 103) الأعلام للزركلي، دار العلم للملايين، ط15 104) الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي، تحقيق زهير زكار ويحي مختار غزاوي، دار الفكر، ط3 105) الوافي بالوفيات لأبن أيبك الصفدي، تحقيق أحمد الأرنؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث العربي، ط1 106) طبقات الشافعية لأبي بكر بن أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة، تحقيق الحافظ عبد العليم خان، دار عالم الكتب، ط1 107) النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، محمد رجب البيومي، دار القلم والدار الشامية، ط1 108) المجروحين لأبي حاتم ابن حبان، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، ط1 109) المقاصد الحسنة للسخاوي، تحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، ط1 110) كتاب العمر في المصنفات والمؤلفين التونسيين لحسن حسنى عبد الوهاب، دار الكتب العلمية، ط1 111) الإكمال للحافظ ابن ماكولا، تحقيق عبدالرحمن المعلمي، دار الكتب العلمية، ط1 112) غاية النهاية في طبقات القراء للجزري، تحقيق ج برجستراسر، دار الكتب العلمية، ط3 113) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، تحقيق علي محمد البجاوي، دار الجيل، ط1
كتب التفسير 114) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري، تحقيق أحمد ومحمود شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1 115) تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب، المكتبة العصرية، ط1 116) تفسير ابن المنذر، تحقيق سعد بن محمد السعد، دار المآثر، ط1 117) الدر المنثور في التأويل بالمأثور للسيوطي، دار الفكر، ط1 118) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، تحقيق سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، ط2 119) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، ط2 120) معالم التنزيل للبغوي، تحقيق محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة ضميرية وسليمان مسلم الحرش، دار طيبة، ط4 121) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي، دار إحياء التراث العربي، ط1 122) تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط1 123) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني، دار الفكر، ط1 124) زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي، تحقيق محمد بن عبد الرحمن عبد الله، المكتب الإسلامي، ط3 125) تفسير الفخر الرازي (مفاتيح الغيب)، دار الكتب العلمية، ط1 126) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي، تحقيق عبد الرزاق غالب المهدي، دار الكتب العلمية، ط1 127) بحر العلوم للسمرقندي، تحقيق محمود مطرجي، دار الفكر، ط1 128) تفسير اللباب في علوم الكتاب لابن عادل الحنبلي، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض، دار الكتب العلمية، ط1 129) تفسير البيضاوي أنوار التنزيل وأسرار التأويل، دار الفكر، ط1 130) تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التأويل، تحقيق مروان محمد الشعار، دار النفائس، ط1 131) تفسير النيسابوري غرائب القرآن ورغائب الفرقان، تحقيق زكريا عميران، دار الكتب العلمية، ط1 132) تفسير الكشاف للزمخشري، دار الكتاب العربي، ط3 133) التحرير والتنوير للطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، ط1 134) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي، دار الفكر، ط1 135) تفسير مقاتل، تحقيق أحمد فريد، دار الكتب العلمية، ط1 136) المنتخب في تفسير القرآن الكريم، لجنة من علماء الأزهر، المجلس الأعلى المصري للشؤون الإسلامية 137) أيسر التفاسير للجزائري، كتاب الكتروني 138) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، ط1 139) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دار القلم والدار الشامية، ط1
142) تفسير القرآن الكريم للشعراوي، مطابع أخبار اليوم 143) تيسير التفسير للقطان، مطابع الجمعية العلمية الملكية 144) إشارات الإعجاز في مضان الإيجاز لبديع الزمان النورسي، ترجمة وتحقيق احسان قاسم الصالحي، كتاب الكتروني 145) الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه لمكي بن أبي طالب القيسي، تحقيق مجموعة رسائل جامعية بكلية الدراسات العليا والبحث العلمي - جامعة الشارقة، بإشراف أ. د: الشاهد البوشيخي، مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة، ط1 146) معاني القرآن لأبي جعفر النحاس، تحقيق محمد على الصابوني، جامعة أم القرى - مركز إحياء التراث الإسلامي، ط1 147) معاني القرآن للفراء، تحقيق أحمد يوسف نجاتى ومحمدعلى نجار وعبدالفتاح إسماعيل شلبى، دار المصرية للتأليف والترجمة 148) معاني القرآن للأخفش، تحقيق هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي، ط1 149) النكت والعيون للماوردي، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، ط1 علوم القرآن 150) إعجاز القرآن للباقلاني، تحقيق أحمد صقر، دار المعارف، ط1 151) البرهان في علوم القرآن للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتاب العربي، ط1 152) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، تحقيق سعيد المندوب، دار الفكر، ط1 153) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية لمصطفى صادق الرافعي، عناية محمد سعيد العريان، دار الكتاب العربي، ط3 154) أسباب نزول القرآن للواحدي، تحقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح، ط2 155) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي، تحقيق احمد عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1 156) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية، دار مكتبة الحياة، ط1 157) المقنع في رسم مصاحف الأمصار لأبي عمر الداني، محمد الصادق قمحاوي، مكتبة الكليات الأزهرية 158) النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن الكريم لمحمد بن عبد الله دراز، تحقيق أحمد مصطفى فضلية، دار القلم 159) دلالات التراكيب لمحمد محمد موسى، مكتبة وهبة، ط2 160) الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير لمحمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، ط4 161) الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة، دار القلم ودار الضياء، ط1 162) الأدلة المادية على وجود الله للشعراوي، نسخة الكترونية 163) تاريخ القرآن الكريم وغرائب رسمه وحكمه لمحمد طاهر الكردي، مطبعة الفتح، ط1 164) فضائل القرآن لابن كثير، تحقيق أبو إسحاق الحويني، مكتبة ابن تيمية، ط1 165) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، ط2
168) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الظاهري، تحقيق أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، ط1 169) التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء العبكري، تحقيق علي محمد البجاوي، دار عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط1 170) البيان في عد آي القرآن لأبي عمرو الداني، تحقيق غانم قدوري الحمد، مركز المخطوطات والتراث والوثائق في الكويت، ط1 كتب الأدب واللغة 171) العين للخليل بن أحمد، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، وزارة الثقافة والإعلام العراقية 172) الكتاب لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1 173) المقتضب للمبرد، تحقيق محمد عبد الخاق عضيمة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية 174) لسان العرب لابن منظور، دار صادر، ط1 175) تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث، ط1 176) الصحاح في اللغة للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، ط4 177) الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس، عناية المكتبة السلفية، مطبعة المؤيد 178) القاموس المحيط للفيروزأبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب عن المطبعة الأميرية 179) مقاييس اللغة لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر 180) المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي، تحقيق محمد أحمد جاد المولى ومحمد أبو الفضل وعلي البجاوي، دار التراث، ط3 181) جمهرة اللغة لابن دريد، تحقيق رمزي منير البعلبكي، دار العلم للملايين، ط1، وط1 حيدر آباد 182) همع الهوامع في شرح جمع الجوامع للسيوطي، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، ط1 183) تاريخ آداب العرب للرافعي، مراجعة وضبط عبد الله المنشاوي ومهدي البقيري، مكتبة الإيمان 184) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، تحقيق طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحي، المكتبة العلمية 185) سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي، دار الكتب العلمية، ط1 186) الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار مصطفى البابي الحلبي، ط2 187) الفائق في غريب الحديث والأثر للزمخشري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل، مكتبة عيسى البابي وشركاه، ط2 188) مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى، تحقيق محمد فؤاد سزكين، مكتبة الخانجي 189) غريب الحديث للقاسم ابن سلام، تحقيق حسين محمد محمد شرف، المطابع الأميرية 190) حروف المعاني للزجاجي، تحقيق علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، ط1 191) نثر الدرر للآبي، تحقيق مظهر الحجي، وزارة الثقافة السورية 192) البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط7 193) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي، تحقيق عبد العظيم الشناوي، دار المعارف، ط2
196) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط4 197) أساس البلاغة للزمخشري، تحقيق محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، ط1 198) المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده، تحقيق عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، ط1 199) شرح ديوان المتنبي للواحدي، تحقيق ياسين الأيوبي وقصي الحسين، دار الرائد 200) المعاني الكبير في أبيات المعاني لابن قتيبة الدينوري، تحقيق المستشرق سالم الكرنكوي، دار النهضة الحديثة 201) عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري، تحقيق يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية، ط1 202) الحلل في شرح أبيات الجمل للبطليوسي، كتب عربية، ط1 203) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف 204) الإعجاز في الإيجاز للثعالبي، تحقيق اسكندر آصاف، المطبعة العمومية بمصر، ط1 205) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للتلمساني المقري، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، ط1 206) تهذيب الأسماء واللغات للنووي، دار الكتب العلمية، ط1 207) نهاية الإرب في فنون الأدب للنويري، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلمية، ط1 208) الموجز في قواعد اللغة العربية لسعيد الأفغاني، دار الفكر، ط1424 209) المفضليات للمفضل الضبي، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف، ط6 210) منتهى الطلب من أشعار العرب لابن المبارك، تحقيق محمد نبيل الطريفي، دار صادر، ط1 211) دراسات في اللغتين السريانية والعربية لإبراهيم السامرائي، دار الجيل ومكتبة المحتسب، ط1 212) الساميون ولغاتهم لحسن ظاظا، دار القلم والدار الشامية، ط2 213) درة الغواص في أوهام الخواص للحريري، تحقيق عرفات مطرجي، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1 214) ابن وحشية النبطي وريادته في كشف رموز هيروغليفية في كتابه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) يحي مير علم، مكتبة ديوان العرب كتب التاريخ والسير والمغازي ومقارنة الأديان 215) أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، تحقيق: عادل أحمد الرفاعي، دار إحياء التراث العربي، ط1 216) الكامل في التاريخ لابن الأثير، تحقيق عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، ط2 217) البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط1 218) السيرة النبوية لابن كثير، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، ط1 219) تاريخ الإسلام للذهبي، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، ط1 220) تاريخ دمشق لابن عساكر، تحقيق علي شيري، دار الفكر، ط1
223) تاريخ الامم والملوك للطبري، دار الكتب العلمية، ط1 224) صحيح السيرة النبوية للألباني، المكتبة الإسلامية، ط1 225) فقه السيرة لمحمد الغزالي، تحقيق الألباني، دار القلم، ط7 226) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، تحقيق محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط1 227) مغازي الواقدي، تحقيق مارسدن جونس، دار الأعلمي، ط3 228) مختصر إظهار الحق لرحمت الله الهندي، تحقيق واختصار محمد أحمد عبد القادر ملكاوي، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية، ط1 229) "الكتاب المقدس" الترجمة العربية المشتركة من الترجمة السبعينية، دار الكتاب المقدس، العهد القديم ط4 والعهد الجديد ط30 230) "الكتاب المقدس" الترجمة اليسوعية الكاثوليكية، دار المشرق، ط3 231) "الكتاب المقدس" ترجمة سميث فان دايك، كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت، ط إلكترونية 232) "الكتاب المقدس" الطبعة اليسوعية الصادرة في عام 1897، مطبعة المرسلين اليسوعيين 233) هل بشر الكتاب المقدس بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لمنقذ بن محمود السقار، سلسلة الهدى والنور (5) للمؤلف، نسخة مطبوعة مجانية. 234) هل العهد القديم كلمة الله لمنقذ بن محمد السقار، سلسلة الهدى والنور (1) للمؤلف، نسخة مطبوعة مجانية. 235) مروج الذهب للمسعودي، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، ط5 236) مقدمة ابن خلدون، لعبد الرحمن ابن خلدون، تحقيق عبد السلام الشدادي، بيت الفنون والعلوم والآداب - الدار البيضاء، ط1 كتب الفقه والفتاوى والأصول 237) الأم للشافعي مع مختصر المزني، دار الفكر، ط2 238) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - للقاضي عياض بحاشية الشمني (مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء)، دار الفكر، ط1 239) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد لابن قدامة المقدسي، شرح محمد بن عثيمين، تحقيق أشرف عبد المقصود، دار طبرية، ط3 240) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم الظاهري، تحقيق محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة، دار الجيل 241) جامع المسائل لابن تيمية، تحقيق محمد عزير شمس، دار عالم الفوائد، ط1 242) مجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية، تحقيق محمد رشيد رضا، لجنة التراث العربي 243) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين، جمع وترتيب فهد بن ناصر السليمان، دار الوطن ودار الثريا، ط1413 244) مجموع الفتاوى لابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن القاسم، مجمع الملك فهد، ط1416 245) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي، تحقيق بكري حياني وصفوة السفا، مؤسسة الرسالة، ط1 246) المحصول للرازي، تحقيق طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، ط2 247) شرح الكوكب المنير لابن النجار، تحقيق محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، ط2
250) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، تحقيق شعيب الأرنؤوط وإبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، ط7 251) الأصول للسرخسي، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، دار الكتب العلمية، ط1 252) تفسير النصوص في الفقه الإسلامي لمحمد أديب صالح، المكتب الإسلامي، ط4 253) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، محمد حميد الله، دار النفائس، ط5 254) الفتاوى الفقهيه الكبرى لابن حجر الهيتمي، جممع عبد القادر بن أحمد بن علي الفاكهي، المكتبة الإسلامية 255) فتاوى الأزهر، نسخة الكترونية، وزارة الأوقاف المصرية - الموقع الرسمي 256) تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي مع حواشي الشرواني والعبادي، المكتبة التجارية الكبرى بمصر 257) أنوار البروق في أنواع الفروق للقرافي المالك مع حواشي ابن الشاط وتهذيب الفروق للشيخ محمد بن علي، عالم الكتب 258) القاموس الفقهي لسعدي ابو حبيب، دار الفكر، ط2 مقالات في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية 259) صحيفة الثورة السورية 23/ 1/2005 "العرب .. هل سبقوا شامبليون في حل رموز حجر رشيد؟ " thawra.alwehda.gov.sy 260) صحيفة الأبزيرفر البريطانية 3/ 10/2004: Guardian - The Observer www.guardian.co.uk " Arab scholar 'cracked Rosetta code' 800 years before the West" 261) موقع القصة السورية - اللغات والآداب السامية - عبد الرحمن السليمان www.syrianstory.com 262) موقع المجلس العلمي نقلاً عن مجلة البحوث الإسلامية عدد7 - التفسير بالأثر والرأي وأشهر كتب التفسير فيهما - عبد الله الوهيبي. majles.alukah.net 263) موقع طريق القرآن - تاريخ القراء العشرة للشيخ عبد الفتاح القاضي www.quranway.net 264) الموقع الرسمي للشيخ سفر الحوالي- شرح العقيدة الطحاوية - الأسماء والصفات (الحلقة الثانية) www.alhawali.com 265) موقع الشبكة الإسلامية (إسلام ويب) تسجيلات القراءات العشر. www.islamweb.net 266) شبكة المشكاة الإسلامية www.almeshkat.net 267) موقع المكتبة الشاملة www.shamela.ws 268) موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف www.qurancomplex.org 269) موقع المعرفة الإسلامية www.islamic-awareness.org 270) موقع البلاغ www.balagh.com ورقة الترجمة والتحيّز في "دليل الناقد الأدبي" لسعد البازعي. 271) موقع الجمعية الدولية لمترجمي العربية www.atinternational.org
الفهرس
الفهرس بين يدي الكتاب ............................................................................... ... 1 الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام ................................. ... 5 الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور .................................................. ... 7 الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن ........................................................ ... 17 الباب الثالث: سبب الخلاف في تأويل الحروف ومسببات الخلاف .................................... 38 الفصل الثاني: الحروف المقطّعة بين التفسير والتأويل .................................................. 70 الباب الأول: حصر الأقوال في تفسير الحروف المقطّعة ............................................... 71 الباب الثاني: حصر الأقوال في تأويل الحروف المقطّعة ................................................. 74 الباب الثالث: حصر الأقوال فيما خص بعض الفواتح ................................................. 84 الباب الرابع: بيان الشبهة في محاولة الجمع بين الأقوال ................................................. 93 الفصل الثالث: إشارات الإعجاز في فواتح السور ..................................................... 98 الباب الأول: معرفة واقع التنزيل ............................................................... ... 102 الباب الثاني: استقراء السور لمعرفة الإشارات من النص .............................................. 108 الباب الثالث: إشارة الإعجاز في الحروف وموافقتها لمجمل الإشارات ................................. 120 الفصل الرابع: دلالات الإعجاز في فواتح السور .................................................... 142 الباب الأول: دلالات الإعجاز وأوجه التوافق مع فهم القرآن بحسب أصول التفسير .................. 146 الباب الثاني: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على لغة القرآن ....................................... 155 الباب الثالث: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على الكتابة بالحروف العربية .......................... 158 الباب الرابع: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على اللفظ العربي لكلمات القرآن ...................... 164
الفصل الخامس: بيان أسباب التحريف في الكتب المقدسة السابقة ..................................... 171 الباب الأول: الأسباب الخفية للتحريف (الأسباب الأساسية) ......................................... 171 الباب الثاني: الأسباب الجلية للتحريف (الأسباب الفرعية) ............................................ 179 الفصل السادس: الدليل والبرهان على ما في الحروف من إعجاز في نظم البيان ........................ 195 الباب الأول: محاولات فهم النص بحسب النظم ...................................................... 195 الباب الثاني: استقراء بعض قواعد النظم في سور الفواتح ............................................. 202 الفصل السابع: ما جاء فيها من بيان لحقيقة الإعجاز في أمية الرسول (راية الإعجاز) ................... 218 الملحق الأول - نقوش ما قبل الإسلام ............................................................... 233 الملحق الثاني - نقوش ما بعد الإسلام ................................................................ 237 قائمة المراجع ....................................................................................... 240 الفهرس ............................................................................................ 250