القول الفصل في العمل بالحديث المرسل

حسن مظفر رزق

مقدمة

مقدمة ... القول الفصل في العمل بالحديث المرسل للشيخ مظفّر رزق الموصل ـ العراق. 1- توطئة: الحمد لله الذي أنزل أحسن الحديث، وأودع درر بيانه في محكم الحديث، فكرّم هذه الأمة - زادها الله شرفا - بالاعتناء بتدوين ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفظاً له على تكرر العصور والآباد. ونصب جهابذة من الحفاظ والنقاد، وجعلهم دائبين في إيضاح ذلك في جميع الأزمان والبلاد، باذلين وسعهم مستفرغين جهدهم في ذلك جماعات وآحادا. والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم، وخُصّ ببدائع الحكم، سيدنا محمد المصطفى بتعميم دعوته ورسالته، المفضل على الأولين والآخرين من بريته، المشرّف على العالمين قاطبة بشمول شفاعته، المخصوص بتأييد ملّته وسماحة شريعته، المكرم بتوفيق أمته للمبالغة في إيضاح منهاجه وطريقته. أما بعد ... فإن الله سبحانه وتعالى فضل هذه الأمة بشرف الإسناد، وخصها باتصاله دون من سلف من العباد، وأقام لذلك في كل عصر من الأئمة الأَفراد، والجهابذة النقاد، من بذل جهده في ضبطه وأحسن الاجتهاد، فظفر بنيل المراد وذلك من معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - التي أخبر بوقوعها فقال صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم". (رواه أبو داود بإسناده في سننه) . فباتصال الإسناد عرف الصحيح من السقيم، وصان الله هذه الشريعة عن قول كل أفّاك أثيم، فلذا كانَ الإرسال في الحديث علة يترك بها، ويتوقف عن الاحتجاج به بسببها, لما في إبهام المروى عنه من الغرر، والاحتجاج المبني على الخطر، وقد اختلف العلماء قديماً وحديثاً فيه وكثرت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وتعارضت أفعالهم. فعمدت في عملي هذا إلى إيضاح ما هو إلى الصواب أقوم المسالك، جامعاً فيه بين طريقة أهل الحديث وأئمة الأصول، والفقهاء الذين في الرجوع إليهم أنفس حصول، ذاكراً من المنقول ما أمكن الوصول إليه، ومن المباحث النظرية ما يعول عند التحقيق عليه، مميزاً في ذلك الغث من السمين، مبيِّناً ما هو الضعيف من المتين.

2 - المقدمة: يعرف علم الحديث الخاص بالرواية بأنه: علمٌ يعرف به أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها. وعلم الحديث الخاص بالدراية: علم يعرف منه حقيقة الرواية، وشروطها وأنواعها وأحكامها، وحال الرواة وشروطهم، وأصناف المرويات وما يتعلق بها1. والمتن: هو ألفاظ الحديث التي تتقن بها المعاني، والسند: هو الطريق الموصلة إلى المتن (أي أسماء رواته مرتبة) . أما الإسناد: فهو حكاية طريق المتن. إن متن الحديث نفسه لا يدخل في البحث عند أرباب الحديث إلا نادراً، بل يكتب صفته من القوة والضعف، بحسب أوصاف الرواة من العدالة والضبط والحفظ وخلافها، أو بحسب الإسناد من الاتصال والانقطاع والإرسال والاضطراب ونحوها. وأول من صنف في الاصطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي بكتابه (المحدث الفاصل) وتلاه الحاكم أَبو عبد الله النيسابوري، لكنه لم يهذب ولم يرتب، وتلاه أبو نعيم الأصفهاني، ثم جاء بعدهم الخطيب البغدادي فوضع قوانين الرواية في كتابه (الكفاية) إلى أن جاء الحافظ الإمام ابن الصلاح فوضع كتابه الشهير، فهذب فنونه وجمع به علوم سابقيه فكان من أئمة هذا الشأن. لا تخرج أنواع الحديث عن ثلاثة: حسن صحيح، وحسن، وضعيف؛ لأنه إن اشتمل من أوصاف القبول على أعلاها فالصحيح، أو على أدناها فالحسن، أو لم يشتمل على شيء منها الضعيف. وقد صنف العلماء كالحاكم وابن الصلاح والنووي، الحديث المرسل ضمن الأحاديث الضعيفة لما فيه من انقطاع في السند، واختلفوا فيه بين قبول ورد وتفصيل. وقد عرف المرسل بأنه: ما سقط منه الصحابي، كقول نافع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، وهو المشهور عند المحدثين. وقد يطلق المرسل على الحديث الذي قد سقط راو من رواته فيدخل فيه المعضل والمنقطع، وهو رأي الفقهاء والأصوليين، ومما يشهد للتعميم قول ابن القطان: "إن الإرسال رواية الرجل عمن لم يسمع منه".

_ 1 التهانوي: قواعد في علوم الحديث. ص 23.

والمرسل على مراتب: - أعلاها: ما أرسله صحابي ثبت سماعه. - ثم صحابي له رؤية فقط ولم يثبت سماعه. - ثم المخضرم. - ثم المتقن كسعيد بن المسيب. - ويليها من كان يتحرى في شيوخه، كالشعبي ومجاهد. - ودونها مراسيل من كان يأخذ عن كل أحد كالحسن. - أما مراسيل صغار التابعين كقتادة، والزهري، وحميد الطويل، فإن غالب رواية هؤلاء عن التابعين. قال أبو داود في رسالته: "وأما المراسيل فقد كان أكثر العلماء يحتجون بها فيما مضى مثل سفيان الثوري، ومالك، والأوزاعي. حتى جاء الشافعي- رحمه الله- فتكلم في ذلك وتابعه عليه أحمد وغيره". وقد وضعت قواعد معينة من قبل الفقهاء والأصوليين لتمييز المرسل المقبول والمردود لحفظ شطر السنة من الإهمال وإثراء الأحكام الشرعية بما تحويه هذه الأحاديث من أحكام ورقائق. يتلخص في الاحتجاج بالمرسل عدة أقوال: 1- حجة مطلقا. 2- لا يحتج به مطلقاً. 3- يحتج به إن أرسله أهل القرون الثلاثة. 4- يحتج به إنْ لم يرو إلا عن عدل. 5- يحتج به إن أرسله صحابي. صنف في المراسيل أبو داود، ثم أبو حاتم، ثم البرديجي، ثم الخطيب البغدادي، ثم النووي، ثم الحافظ العراقي. ومن المتأخرين الحافظ أبو سعيد العلائي، والعجمي، وابن الهادي.

الإرسال بين اللغة والاصطلاح

(3) الإرسال بين اللغة والاصطلاح: المرسل وجمعه مراسيل بإثبات الياء وحذفها أيضاً، وأصله من (رسل) التي تحمل عدة معاني حسب إشتقاقاتها اللغوية. ا- تقول: (أرسل) : (أطلق وأهمل) 1 فكأن المرسل أطلق الإسناد ولم يقيده براو معروف2، أو أهمل ذكر راوٍ من رواة الإسناد. 2- (استرسل) : الطمأنينة إلى الإنسان والثقة فيما يحدثه3. وكأنَّ التابعي الذي قد ذكر الحديث اطمأن ووثق بصحة ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووثق بمن أخذ الحديث عنه، فلم

_ 1 ابن منظور: لسان العرب. ج ا 1 ص283. 2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص 14. 3 الزييدى: تاج العروس. ج 7 ص345.

يذكره. قال القرافي في (شرح التنقيح) : "إنه ما سكت عنه (الراوي) إلا وقد جزم بعدالته، فسكوته كإخباره بعدالته"1. 3- أرسل الحديث: لم يقيده2 وكأن الراوي لم يقيد روايته باتصال الإسناد فأسقط ذكر الصحابي الذي تحمله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. 4- مرسال: يقال: ناقة مرسال أي سريعة السير3؛ فكأن المرسل أسرع فيه عَجِلاً فحذف بعض إسناده. 5- أرسالاً: جاء القوم أرسالا أي قطعاً متفرقين4, قال ابن سيده: الرَّسَل بفتح الراء والسين: القطيع من كل شئ والجمع أرسال، وجاءوا رسلة أي جماعة، فكأنه تصور من هذا اللفظ الاقتطاع، فقيل للحديث الذي قطع إسناده وبقي غير متصل: مرسل، أي كل طائفة منهم لم تلق الأخرى ولا لحقتها5. هذا ما يتعلق بهذا اللفظ من حيث اللغة، وأما من ناحية الاصطلاح فلتعريف الحديث المرسل ومعرفة حده ينبغي علينا التمييز بينه وبين المنقطع والمعضل. أما المنقطع فقد ذهب الفقهاء والخطيب وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين أن المنقطع ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان انقطاعه، وأكثر ما يستعمل في رواية منْ دون التابعي عن الصحابي. وقيل: هو ما اختل منه رجل قبل التابعي محذوفاً كان أو مبهماً6. والمعضل- وهو بفتح الضاد- يقولون: (أعضله معضل) وهو ما سقط من إسناده اثنان فأكثر7. لقد عَرَّف الحاكم الحديث المرسل فقال: "إنّ مشايخ الحديث لم يختلفوا في أنَّ الحديث المرسل: هو الذي يرويه المحدث بأسانيد متصلة إلى التابعي، فيقول التابعي: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلّم-8. وهكذا عبر ابن الصلاح تبعاً للحاكم.

_ 1 القرافي: شرح التنقيح. ص164. 2 أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة. ج 1 ص 393. 3 الشيخ أحمد رضا: معجم متن اللغة ج اص 393. 4 السخاوى: فتح المغيث شرح ألفية الحديث للقراقى. ص128. 5 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 14. 6 السيوطى: تدريب الراوي. ج اص 207. 7 نفس المصدر. ص 211. 8 الحاكم: معرفة علوم الحديث ص25.

يقتضي كلام الحاكم أن إرسال صغار التابعين ومتأخريهم يلحق بالمرسل، وإن كان ما يروون عمن أدركوه من الصحابة يسيراً، وجل رواياتهم إنما هي عن التابعين. إنّ خلاصة أقوال المحدثين في الحديث المرسل بأنه: ما رواه التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- باتفاق على التابعي الكبير, واختلافهم في التابعي الصغير هل هو مرسل أو منقطع. وقد وافق المحدثين جماعة من الأئمة كابن فورك، أبي نصر بن الصباغ، أبى المظفر بن السمعاني، وكذلك القرافي. أما مشايخ أهل الكوفة فيقول الحاكم عنهم: "بأن كل من أرسل الحديث من التابعين وأتباع التابعين ومن بعدهم من العلماء فإنه عندهم مرسل محتج به"1. وهذا قول معظم الحنفية إلا من أطلق الإرسال على قول الراوي من الأعصار الثلاثة الأولى: قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه "الكفاية": "لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس، هو راوية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه، نحو رواية سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر والحسن البصري ومحمد بن سيرين وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمثابته في غير التابعين نحو رواية ابن جريج عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ورواية مالك بن أنس عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ورواية حماد بن أبي سليمان عن علقمة, وكذلك رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه كرواية سفيان الثوري، وشعبة عن الزهري، وكان نحو ذلك ما لم نذكره، فالحكم في الجميع عندنا واحد2. والمشهور في الفقه والأصول أن (المرسل قول الإمام) لما من أئمة النقل وهو من له أهلية الجرح والتعديل (الثقة قال: عليه الصلاة والسلام) كَذا مقول القول (مع حذف من السند وتقييده) أي القائل أو الإمام القائل (بالتابعي أو الكبير منهم) أي كعبد الله بن عدي وقيس بن أبى حازم (إصطلاح) من المحدثين فدخل في التعريف (المنقطع) بالاصطلاح المشهور للمحدثين (والمعضل) المشهور عندهم3. وهو كقول الخطيب وبه قال الشيخ موفق الدين الحنبلي في الروضة4 والآمدي في الأحكام5 والغزالي في المستصفى6.

_ 1 الحاكم: معرفة علوم الحديث. ص 26. 2 الخطيب البغدادي: الكفاية. ص 384. 3 ابن همام الدين: تيسير التحرير. ج 1 ص 102. 4 موفق الدين الحنبلي: الروضة. ص 64. 5 الآمدى: الإحكام في أصول الأحكام، ج2. ص112. 6 الغزالى: المَستصفي. ج ا. ص 169.

من استقراء ما ذكرناه يبدو بأن اصطلاح المرسل لما ذكر من حيث اللغة ممكناً، وعلى هذا هو والمنقطع سيان لغة واصطلاحاً، ويبدو بأن المنقطع أكثر عموماً- وبه قال ابن عبد البر- عن المرسل إذ أن الأول يتحدد بكل ما لم يتصل سنده سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره، أمّا الثاني فهو ما أرسله التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والمحدثون كما ذكرنا سابقاً يفصلون بين المرسل والمنقطع ويجعلون بينهم اختلافاً واضحاً. وقد جعل الحنفية وإمام الحرمين المعضل والمرسل سواء، وعند الجمهور يعتبر المعضل أخص، وعندنا المعضل والمرسل متباينان.

مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والعمل به أو رده

(4) مذاهب العلماء في قبول الحديث المرسل والعمل به أو رده: وقد اختلف العلماء في قبول الحديث المرسل بين القبول مطلقاً والرد مطلقاً أو التفصيل فيه. ويرجع الخلاف في هذه المسألة إلى القواعد المتبناة من أئمة الأصول والفقهاء في أصول الرواية. أولها: قبول رواية المجهول العدالة والاحتجاج به. وثانيها: هل أن مجرد رواية العدل عن غيره تعديل له أم لا؟. وثالثها: قول الراوي: حدثني منِ لا أتهم أو نحو ذلك هل يحتج به إذا لم يسمعه أم لا؟. ورابعها: هل يقبل التعديل مطلقاً أم لابد من ذكر سببه، وهل يشترط عدد معين في التعديل؟. إن استقراء هذه القواعد ومناقشتها لتبيين ما هو الحق منها، فتخرج في قبول المرسل أورده إطلاقاً أو التفصيل في ذلك. أ- المذهب الأول: قبول المرسل: ممن قال بقبول الحديث المرسل والعمل به: مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وجمهور أصحابهما, وأكثر المعتزلة كأبي هاشم، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وابن القيم وابن كثير وغيرهم، ولهم في قبوله أقوال: * أولها: قبول كل مرسل سواء بعد عهده وتأخر زمنه عن عصر التابعين حتى مرسل العصور المتأخرة، وهذا توسع غير مقبول، ومردود بالإجماع في كل عصر، ولو عمل به لزالت فائدة الإسناد وبطلت خصِّيصة هذه الأمة. ثانيها: قبول مراسيل التابعين وأتباعهم مطلقاً، قال ابن الحنبلي في "قفو الأثر: "والمختار في التفصيل قبول مرسل الصحابي إجماعاً، ومرسل أهل القرن الثاني والثالث عندنا

(الحنفية) وعند مالك مطلقاً1. ومن الحجج لهذا القول: أن احتمال الضعف في التابعين لاسيما بالكذب بعيد جداً، فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على عصر التابعين، ثم للقرنين الذين يلونه، فإرسال التابعي وبقية القرون الثلاثة بالجزم من غير وثوق بمن قاله، مناف لها. واوسع من هذا قول عمر- رضي الله عنه - "المسلمون عدول، بعضهم على بعض، إلا مجلودا في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور، أو ظنياً في ولاء أو قرابة". إلا إن كان المرسل معروفاً بالإرسال عن غير الثقات، فإنه لا يقبل مرسله. وأما بعد العصر الثالث، فإن كان المرسل من أئمة النقل قبل مرسله2, وهو قول عيسى بن إبان، أبو بكر الرازي والبز دوى وأكثر المتأخرين من الحنفية، وقال القاضي عبد الوهاب المالكي: "هذا هو الظاهرمن المذهب عندي"3. * وثالثها: قبول إرسال التابعين على اختلاف طبقاتهم، وهو قول مالك وجمهور أصحابه، وأحمد بن حنبل, وكل من يقبل المرسل من أهل الحديث. * ورابعها: قبول مراسيل كبار التابعين دون صغارهم لقلة روايتهم عن الصحابة كما حكاه ابن عبد البر في التمهيد. واختلف القائلون بقبول المرسل في طبقته هل هو أعلى من المسند، أو دونه، أو مثله؟. والقائلون بأنه أرجح وأعلى من المسند، وجّهوه بأن من أسند فقد أحالك على إسناده، والنظر في أحوال رواته والبحث عنهم، ومن أرسل مع علمه ودينه وإمامته وثقته فقد قطع لك بصحته وكفاك النظر فيه. قال القرافي في شرح التنقيح: "إن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق؛ لأن المرِسل- بكسر السن- قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقاً بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوّض أمره للسامع، ينظر فيه، ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال"4. وساوى بين المرسل والمسند في وجوب الحجة والقبول محمد بن جرير الطبري، وأبو فرج المالكي، وأبو بكر الأبهري، وعندهم متى تعارض مدلول حديث مرسل وآخر مسند فلا ترجيح إلا بأمر آخر خارجي. وقد قدم أكثر محققي المالكية والحنفية كأبي جعفر الطحاوي،

_ 1 ابن الحنبلي: قفو الأثر. ص 14. 2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 27. 3 المصدر نفسه: ص 28. 4 القرافي: شرح التنقيح. ص 164.

وأبي بكر الرازي بتقديم المسند على المرسل عند التعارض، وأن المرسل دون المسند بالرغم من قبوله والعمل به. - ب - المذهب الثاني: رد المرسل: قال الإمام مسلم- رحمه الله- في مقدمة صحيحه: "والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"1. وهو قول عبد الرحمن بن مهدي ويحي بن سعيد القطان وابن المديني وأبي خيثمة زهير بن حرب ويحي بن معين وابن أبى شيبة والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم من أئمة الحديث2. قال ابن أبى حاتم: "سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل ولا لقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحاح المتصلة"3. وهو قول جمهور الشافعية واختيار إسماعيل القاضي وابن عبد البر وغيرهما من المالكية والقاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة كثيرون من أئمة الأصول. والحجة في رد المرسل هو أنا إذا قبلنا خبر من لا نعلم حاله في الصدق والعدالة ممن حاله على خلاف ذلك، فنقول على الدين والشرع ما لم نتحقق من صحته، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} , وقال عز وجل: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} . وروى الحاكم في كتابه (علوم الحديث) عن يزيد بن هارون قال: "قلت لحماد بن زيد: يا أبا إسماعيل هل ذكر الله عز وجل أصحاب الحديث في القرآن؟ " قال: "نعم، ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} , فهذا فيمن رحل في طلب العلم ثم رجع به إلى من وراءه ليعلمهم إياه"، وقال الحاكم: "في هذه الآية دليل على أن العلم المحتج به هو المسموع دون المرسل"4. ومن الأدلة على رد المرسل ما رواه أبو داود في سننه في حديث عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم". وما رواه الشافعي- رحمه الله - قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها

_ 1 الإمام مسلم: الجامع الصحيح. ج. ص 132. 2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص30. 3 ابن أبى حاتم: كتاب المراسيل. ص 7. 4 الحاكم: معرفة علوا الحديث. ص 26.

إلى من لم يسمعها". والحديثان دلا على أن شأن الرواية اتصال الإسناد، فمتى جوزنا للفرع قبول الحديث من شيخه من غير وقوف على اتصال السند الذي تلقاه شيخه أدى ذلك إلى اختلال السند لجواز أن يكون هذا الساقط غير مقبول الرواية، فلا يجوز الاحتجاج بخبره. قال الإمام ابن عبد البر: "الحجة في رد الإرسال ما أجمع عليه العلماء من الحاجة إلى عدالة المخبر عنه، وأنه لابد من معرفة ذلك، فإذَا حكى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة، إذ قد صح أن التابعين أو كثيرا منهم رووا عن الضعيف"1. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: "إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه"2. هذا وقد وجد بعد الصحابة من القرنين، من وُجدت فيه الصفات المذمومة، لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة، إذ كثر آنذاك وانتشر، وقد روى الشافعي- رحمه الله - عن عمه: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، قال: "إِني لأسمع الحديث أستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أي يسمعه سامع فيقتدي به، وذلك أني أسمعه من الرجل لا أثق به وقد حدث به عمن أثق به، أو أسمعه من الرجل أثق به، قد حدث عمن لا أثق به". وهذا كما قال ابن عبد البر: "يدل على أن ذلك الزمان, أي زمان الصحابة والتابعين كان يحدث فيه الثقة وغيره". ج - المذهب الثالث: التفصيل في المرسل: للاحتجاج بالحديث المرسل عمد الفقهاء والأصوليون إلى اعتماد معيار لنقد الحديث المرسل وتمحيصه للتأكد من صلاحيته في استنباط الأحكام الشرعية. قال الإمام الشافعي- رحمه الله -: "وأحتجُّ بمرسل كبار التابعين، إذا أسند سن جهة أخرى، أو أرسله من أخذ من غير رجال الأول، أو وافق قول الصحابي، أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه"3. أما أئمة الجرح والتعديل كيحي بن سعيد القطان وعلى بن المديني وغيرهما فوضعا قاعدة للتفصيل في قبول وردّ الحديث المرسل وذلك في التفريق بين من كان لا

_ 1 ابن عبد البر النمري: التمهيد ج1 ص6. 2 الخطيب البغدادي: الكفاية. ص 387. 3 النووي: المجموع. ج1.ص99.

يرسل إلا عن ثقة، وبين من يعرف بإرساله عن كل أحد سواء كان ثقة أم ضعيفاً، فيقبل مرسل الأول ويرد مرسل الثاني. قال ابن أبى حاتم في بداية كتابه (المراسيل) : "كان يحي بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول هو بمنزلة الريح"1. إن عدالة كبار التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومكحول وأمانتهم تحول دون روايتهم عن غير الثقة, فلا يستجيز هؤلاء الجزم بحديث إلا بعد التأكد من ثبوته وعدم وجود ما يقتضي القدح في المرسل, والدليل على ذلك ما جاء عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه كان يرسل إلى سعيد بن المسيب يسأله عن قضايا أبيه عمر- رضي الله عنه- وأحكامه مع علمه بأنه لم يدركه ولم يختلف عليه اثنان في قبولها منه مرسلة، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله: "إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر فمن يقبل"2. وإذا جاء المرسل من وجهين، وكل من الراويين أخذ العلم عن شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب، والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمداً وخطأ. قال إمام الحرمين: "إذا قال أحد أئمة الجرح والتعديل حدثني الثقة أو حدثني من لا أتهم ونحو ذلك وكان ممن يقبل تعديله ويرجع إليه فهو مقبول محتج به بالرغم من إرساله؛ وذلك لأنه لا يقول ذلك إلا عند تحققه من ثقة ذاك الراوي وصدقه. وقد روى عروة بن الزبير لعمر بن عبد العزيز عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له" فأرسله ولم يسنده، فقال له عمر بن عبد العزيز: "أتشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ " فقال: "نعم أخبرني بذلك العدل الرضي", فلم يسم مَنْ أخبره، فاكتفى منه عمر بن عبد العزيز بذلك. فالقول المختار في التفصيل هو أن من عرف من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة عدل مشهور بذلك فمرسله مقبول ومن لم تكن عادته ذلك فلا يقبل مرسله، وبهذا القول يحصل الجمع بين الأدلة المتقدمة. فلا يمكننا إنكار قبول المرسل في الصدر الأول, وقد رد جماعة منهم الكثير من المراسيل، فيعزى قبولهم إلى الثقة بمن يرسل الحديث, وإلى هذا أشار ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: "كنا إذا سمعنا أحدنا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".

_ 1 ابن أبي حاتم. كتاب المراسيل. ص3. 2 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص77.

وأما من يرسل عن غير المشهورين، وإن كانوا عنده ثقات فاحتمال جواز كونه ضعيفاً يبقى قائماً، ويندفع هذا الاحتمال ببعض الوجوه التي قالها الإمام الشافعي- رحمه الله- وبدونه لا يمكن اعتماد هذا المرسل.

رواة المراسيل والموارنة بينهم

(5) رواة المراسيل والموارنة بينهم: قال الحاكم: "وأكثر ما تروى المراسيل من أهل المدينة عن ابن المسيب، ومن أهل مكة عن عطاء بن أبي رباح، ومن أهل البصرة عن الحسن البصري، ومن أهل الكوفة عن إبراهيم النخعي، ومن أهل مصر عن سعيد بن أبي هلال، ومن أهل الشام عن مكحول"1. وقد صحح المحدثون مراسيل بعض الأئمة من التابعين، فمراسيل ابن المسيب في مقدمة المراسيل، قال الحاكم: "وأصحها مراسيل ابن المسيب لأنه من أولاد الصحابة، وأدرك العشرة، وفقيه الحجاز ومفتيهم، وأول الفقهاء السبعة الذين يعتد مالك بإجماعهم كإجماع كافة الناس"2. أما مراسيل الشعبي، فقال أحمد العجلي: "مرسل الشعبي صحيح، لا يكاد يرسل إلا صحيحا"3. ومراسيل إبراهيم النخعي صحيحة إلا حديث "تاجر البحرين" و "حديث القهقهة"4. وينبغي أن يكون مرسل شريح القاضي أيضاً صحيحاً كمراسيل ابن المسيب والنخعي، فإنه مخضرم ثقة من أجل التابعين الكبار. أما مرسلات الحسن فقال ابن المديني: "مرسلات الحسن التي رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما يسقط منها"5، وكذا مراسيل ابن سيرين صحاح أيضا. وممن أرسل الحديث من ثقات التابعين: سعيد بن جبير، مجاهد، طاووس، عمرو بن دينار، ومرسلات مالك بن أنس أصحهم. واختلف في مراسيل الزهري لكن الأكثر على تضعيفها، قال يحي بن معين: "مراسيل الزهري ليست بشيء، وهو قول الشافعي أيضاً"6.

_ 1 الحاكم: معرفة علوم الحديث. ص هـ 2. 2 الحاكم: معرفة علوم الحديث. ص 26. 3 الذهبي: تذكرة الحفاظ. ج1 ص 79. 4 الزيلعى: نصب الراية. ج 1 ص 52. 5 السيوطى: تدريب الراوي ج اص124. 6 العلائي: جامع التحصيل في أحكام المراسيل. ص 41.

خاتمة

خاتمة: لقد تنازع الناس في قبول المراسيل وردها، فغالى البعض بالقبول بها مطلقاً وهذا غير مقبول؛ لأن هذا يؤدي إلى إزالة فائدة الإسناد، وغالى الآخرون برد المرسل مطلقاً، فرد بذلك شطراً من السنة ومصدراً من مصادر الأحكام الشرعية. وأصح الأقوال أنّ منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن علم أنه حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة: قُبل مرسله، ومن عرف أنه يرِسل عن الثقة وغير الثقة، فإن إرساله عمن لا يعرف فهو موقوف، وما كان ومن المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات كان مردودا. إنّ معيار نقد الحديث المرسل الذي تبنّاه كبار الفقهاء والأصوليين، كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والغزالي، والآمدي، وغيرهم- رحمهم الله - يؤكد على: 1- اعتضاد المرسل بمسند بآخر. 2- اعتضاد المرسل بمرسل آخر بمعناه عن آخر، فيدل على تعدد المخرج. 3- موافقة قول بعض الصحابة للمرسل. 4- أن يكون قول أكثر أهل العلم به. فإذا اعتضد المرسل المروى عمن يرون عن الثقات بأحد هذه الأربعة دل على حجة صحته وإمكانية اعتماده في استنباط الأحكام الشرعية.

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... المرا جع (1) ابن منظور: لسان العرب، الجزء الحادي عشر، 1375 هـ، الطبعة الأولى، دار صادر- بيروت. (2) ابن همام الدين، كمال الدين محمد بن عبد الواحد. التحرير. الطبعة الأولى. 1351 هـ. مطبعة بابي الحلبي- القاهرة. (3) الشيخ أحمد رضا: معجم متن اللغة. الجزء الأول، الطبعة الأولى. 1377هـ. دار مكتبة الحياة- بيروت. (4) أحمد بن فارس بن زكريا: معجم مقاييس اللغة. الجزء الأول. الطبعة الأولى. 1366 هـ. دار إحياء الكتب العربية- القاهرة. (5) الآمدي، سيف الدين أبي الحسن على بن أبى على بن محمد: الإحكام في أصول الأحكام. الجزء الثاني. 1387 هـ. مؤسسة الحلبي وشركاؤه- القاهرة. (6) البغدادي، الخطيب: الكفاية في علم الرواية. الطبعة الأولى. 1347 هـ- حيدر آباد الدكن. (7) الزييدى: تاج العروس. الجزء السابع. الطبعة الأولى. 1306 هـ. دار ليبيا للنشر والتوزيع - ليبيا. (8) الزيلعي: نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية. الجزء الأول. 1357 هـ. دار المأمون. (9) السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن: فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي. الطبعة الأولى، 1388 هـ، المكتبة السلفية - المدينة المنورة. (10) العلائي، الحافظ صلاح الدين أبى سعيد خليل بن كيكلدى، جامع التحصيل في أحكام المراسيل. الطبعة الأولى. 1398 هـ. الدار العربية للطباعة - بغداد. (11) السيوطي، الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر: تدريب الراوي شرح تقريب النووي. الطبعة الثانية. 1385 هـ. دار الكتب الحديثة – القاهرة. (12) النووي. الحافظ محي الدين أبو زكريا يحي بن شرف. التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير. الطبعة الثانية، 1385هـ. دار الكتب الحديثة - القاهرة. (13) المؤلف نفسه: المجموع شرح المهذب، الجزء الأول. الطبعة الأولى. بدون تاريخ. مطبعة العاصمة - القاهرة.

(14) النيسابوري، الإمام الحاكم أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله، معرفة علوم الحديث. المكتبة العلمية - المدينة المنورة. (15) الحنبلي، رضي الدين، قفو الأثر. 1326 هـ. مطبعة السعادة. (16) القرافي، شرح التنقيح. الطبعة الأولى، 1306 هـ. المطبعة الخيرية القاهرة. (17) ابن أبى حاتم، المراسيل، بدون تاريخ. (18) القرطبي، ابن عبد البر النمري، التمهيد، الجزء الأول. 1387 هـ. الرباط. (19) الدكتور صبحي الصالح: علوم الحديث ومصطلحه. الطبعة العاشرة. 1978. دار العلم للملايين- بيروت. (20) القاسمي، محمد جمال الدين: قواعد التحديث في فنون مصطلح الحديث. الطبعة الثانية. 1380 هـ. دار إحياء الكتب العربية - دمشق. (21) التهانوي، ظفرأحمد العثماني: قواعد في علوم الحديث. الطبعة الثالثة. 1392 هـ. دار القلم - بيروت.

§1/1