القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

مقدمة

مقدمة ... القَوْلُ السَّدِيد في الرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنكَرَ تَقْسِيمَ التَّوْحِيد تأليف: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم تقديم: فضيلة الشيخ العلاَّمة: صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان الحمد لله رب العالمين يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق {وَقُلْ جَآءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 1، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وترك أمته على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك. وبعد: فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن يبتلي أهل الحق بأهل الباطل ليحصل الجهاد في سبيل الله بالسلاح وبالقلم واللسان دفاعاً عن الحقّ وردّاً للباطل: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللهُ لاَنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} 2.. وإنه في زماننا هذا خلوفٌ تهرف بما لا تعرف وتردد أقوال قوم أرادوا مقاومة الحقّ

_ 1 سورة الإسراء، الآية 81. 2 سورة محمد، الآية 4.

وحجب الشمس فلم يستطيعوا وماتوا وغيظهم في صدورهم، فأراد هؤلاء الخلوف أن يعيدوا الكرَّة ليثأروا لسلفهم ويشفوا غيظهم ولكن أنَّى وهيهات وجند الحقّ لَهم بالمرصاد وأدلة الكتاب والسنة تدرأ في نحورهم، إنَّه لا بدَّ إن شاء الله أن يكون مصيرهم مثل مصير أسلافهم: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأَخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} 1. وإنَّ من هؤلاء المهزومين رجلاً يقال له: حسن بن علي السقاف صار يسوِّد الأوراق بترهاتٍ وأباطيلَ يريد بها ستر الحقِّ ونشرَ الباطل وإحياء سنَّة خصوم الحقّ، ومن ذلك ما لفَّقَه ضدَّ عقيدة التوحيد في أوراق سماها: (التنديد بمن عدَّد التوحيد. إبطال محاولة التثليث في التوحيد والعقيدة الإسلامية) وهكذا سجع كسجع الكهَّان، ولم يأت في أوراقه هذه إلا بما هو عار عليه، فلو سكت لكان خيراً له وأستر لجهله، ولكن يأبى الله إلا أن يفضح أهل الباطل وينصر أهل الحقّ {يُرِيدُونَ أَن يُّطْفِئُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَي اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ} 2وليته اعتبر بمصارع أسلافه على أيدي أهل الحقّ فكفَّ عما باح به وبقي له اعتبار كما قال زهير في حكمته: وكائن من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم ولقد تصدَّى له من جند الحقّ من فضح أباطيله ونقض أحابيله ألا وهو الدكتور: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد فاستعرض أهمَّ ما في كتابه المذكور من الشبهات والترهات وردَّ عليها بالحجة والبرهان حتى تداعت للسقوط وهي تنادي على صاحبها بالجهل والعناد، وهكذا ما تقابل جند الحقّ مع جند

_ 1 سورة المرسلات، الآيات 1619. 2 سورة التوبة، الآية 32.

الباطل إلا وكانت الغلبة لجند الحقّ كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} 1. ولقد قرأت ردَّ الشيخ الدكتور عبد الرزاق في هذا الموضوع فوجدته والحمد لله ردّاً مسددّاً وافياً بالمقصود مدعوماً بالحجج المقنعة متبعاً في ذلك منهج السلف الصالح من أهل العلم والبصيرة، كما قال الإمام أحمد رحمه الله في خطبته: الحمد لله الذي جعل في كلِّ زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يبصرون أهل العمى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وينفون عن كتاب الله انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين..الخ ما قال رحمه الله. وهذا من رحمة الله، وتصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتى على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك". فجزى الله الدكتور على ما قام به من نصرة الحق وردّ الباطل خير الجزاء، وهدى الله كلَّ من ضلَّ عن الصواب إلى الرجوع إلى الحقِّ، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وآله وصحبه. وكتبه صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان في 15/3/1414هـ

_ 1 سورة الصافات، الآية 173.

قال: "وبإزاء هؤلاء المكفرين بالباطل أقوام لا يعرفون اعتقاد أهل السنة والجماعة كما يجب أو يعرفون بعضه ويجهلون بعضه، وما عرفوه منه قد لا يبيِّنونه للناس بل يكتمونه، ولا ينهون عن البدع المخالفة للكتاب والسنة، ولا يذمون أهل البدع ويعاقبونهم، بل لعلهم يذمون الكلام في السنة وأصول الدين ذمّاً مطلقاً، لا يفرقون فيه بين ما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع وما يقوله أهل البدع والفرقة، أو يقرون الجميع على مذاهبهم المختلفة، كما يقرّ العلماء في مواضع الاجتهاد التي يسوغ فيها النزاع، وهذه الطريقة قد تغلب على كثير من المرجئة وبعض المتفقهة والمتصوفة والمتفلسفة، كما تغلب الأولى على كثير من أهل الأهواء والكلام، وكلا هاتين الطريقتين منحرفة خارجة عن الكتاب والسنة، وإنما الواجب بيان ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وتبليغ ما جاءت به الرسل عن الله والوفاء بميثاق الله الذي أخذه على العلماء فيجب أن يعلم ما جاءت به الرسل ويؤمن به ويبلغه ويدعو إليه ويجاهد عليه، ويزن جميع ما خاض الناس فيه من أقوال وأعمال في الأصول والفروع الباطنة والظاهرة بكتاب الله وسنة رسوله غير متبعين لهوى من عادة أو مذهب أو طريقة أو رئاسة أو سلف ولا متبعين لظنٍّ من حديث ضعيف أو قياس فاسد سواء كان قياس شمول أو قياس تمثيل أو تقليد لمن لا يجب اتباع قوله وعمله، فإن الله ذمَّ في كتابه الذين يتبعون الظنَّ وما تهوى الأنفس ويتركون اتباع ما جاءهم من ربهم من الهدى"1 ا. هـ. وما أشبه الليلة بالبارحة، ما أشبه أولئك الذين يتحدث شيخ الإسلام آنفاً عن طريقتهم بهؤلاء المعاصرين الداعين للسكوت عن أهل البدع والأهواء

_ 1 الفتاوى (12/467، 468) .

والمقربين بين الطوائف على اختلاف مذاهبهم وتباين طرائقهم مع أهل السنة والجماعة. شتان بين الحالتين فإن ترد ... جمعاً فما الضدان يجتمعان شتان بين العسكرين فمن يكن ... متحيراً فلينظر الفئتان وإنَّما الحق والواجب في ذلك هو لزوم الكتاب والسنة والتمسك بما جاء فيهما ونبذ ما سوى ذلك من باطل وضلال وانحراف كما سبق إيضاح ذلك وتقريره في كلام شيخ الإسلام المتقدم. وعليه فإنَّ مؤلفات أهل السنة الكثيرة في الردّ على أهل البدع والأهواء المقصود منها النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وفيها دعوة للمردود عليه إلى محاسبة نفسه ووزن أقواله لعله يعود إلى رشده ويترك غيَّه وباطله، وفيها حماية للمجتمع المسلم من الباطل المبثوث في كتاب المبتدع المبطل الناشر للضلال. ولم يبعد أحد شيوخنا المعاصرين إذ قال: "وكما أنَّه يوضع في زماننا أماكن للحجر الصحيّ لمن بهم أمراض معدية، فإنَّ أهل البدع والأهواء الداعين إلى باطلهم أولى بالحجر من أولئك؛ لأنَّ هؤلاء يمرضون القلوب ويفسدون الأديان، وأولئك يفسدون الأجسام ويمرضون الأبدان". ولكن من لنا بمن يكمِّم أفواههم ويقطع ألسنتهم ويكسر أقلامهم كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ وكما فعل خالد القسري بالجعد فإلى الله المشتكى. هذا وإنَّ من حاملي ألوية البدعة وأزمة الفتنة في زماننا شاباً جهميّاً معاصراً أخذ على عاتقه نشر الضلال والباطل والهجوم على أهل الحقّ والسنة وتمجيد

أهل الضلال والبدعة، وهو المدعو حسن بن علي السقاف، ولم أقف على شيء من كتبه ولله الحمد، إلا كتاباً واحداً بُليت بقراءته وهو كتاب: "التنديد بمن عدَّد التوحيد. إبطال محاولة التثليث في التوحيد والعقيدة الإسلامية". فهالني ما فيه إذ قد حكم على عامة المسلمين الموحدين لله في ربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته بأنهم ثلثوا في عقيدتهم. ومن المعلوم أن التثليث عقيدة نصرانية فاسدة حكم الله في القرآن على أهلها بالكفر، ولم أحسب أنَّ أحداً تبلغ به الجرأة أن يحكم بهذا الحكم أو يقرر هذا التقرير الباطل الجائر حتى وقفت على كلام هذا المسكين الهالك. وأقول ما قيل: الله أخر موتتي فتأخرت ... حتى رأيت من الزمان عجائباً هذا من عنوان الكتاب فحسب، أما مضمونه فقد اشتمل على عجائب وغرائب وطوام كثيرةٍ كل واحدة منها كافية في إخراج الرجل من دائرة العلماء بل ومن دائرة العقلاء فحسيبه الله على ما قدم، وعند الله تجتمع الخصوم. ومن قراءتي لكتابه كاملاً ظهر لي من حال الرجل ما يلي: أولاً: كونه جهميًّا جلداً يرى أنَّ ربه لا يوصف بأنَّه خارج العالم ولا داخله وينسب ذلك زوراً وباطلاً إلى أهل السنة والجماعة. ثانياً: وجدته محرِّفاً من الدرجة الأولى لأقوال أهل العلم ونصوصهم. ثالثاً: وجدته كثير الكذب والتدليس والتلبيس. رابعاً: ثم هو سليط اللسان، بذيء القول، يرمي أهل السنة بالعظائم، ومن أمثلة ذلك قوله عنهم: ص: 6 "المتمسلفين" وص: 12 "أصحاب العقول ذات التفكير السطحي الضحل" وص: 17 "فخذ مجدك في التجسيم

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين المعتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلَّم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإنَّ الرَّد على أهل البدع والدعاة إلى الأهواء، والتحذير من باطلهم، ونقض شبهاتهم وأضاليلهم، وإشهار عيوبهم ونقائصهم، وبيان أنَّهم على غير الحقّ والصواب أمرٌ متحتمٌ على أهل العلم وطلابه، ليُتقى شرُّ هؤلاء، وليَعلم القاصي والداني ضلالهم وانحرافهم وبعدهم عن الحقّ والرشاد، وهذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المأمور به شرعاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه، كما قتل السلف جهمَ بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهم، ولو قدر أنَّه لا يستحق العقوبة أو لا يمكن عقوبته فلا بدَّ من بيان بدعته والتحذير منها، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله"1. وقال رحمه الله: "ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب

_ 1 الفتاوى (35/414) .

والسنَّة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإنَّ بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحبّ إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلَّى واعتكف فإنَّما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنَّما هو للمسلمين هذا أفضل. فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإنَّ هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعاً، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً"1. ورغم وضوح هذا المنهج وظهوره وكثرة عوائده وفوائده إلا أنَّه قد ظهرت في زماننا هذا من بعض الأفراد والجماعات مواقف مخذولة وآراء مرذولة تدعو بلا حياء إلى السكوت عن أهل البدع والأهواء وعدم التحذير منهم، وزعموا أن هذا هو المنهج الأقوم والطريق الأحكم، وقالوا: في هذا رأبٌ للصدع ولمٌّ للشمل وتوحيدٌ للصفّ وجمعٌ للكلمة. وما من ريبٍ أنَّ هذا منهج باطل، أضراره كثيرة وأخطاره جسيمة على الإسلام والسنة، وفيه أعظم تمكين لأهل البدع والأهواء في نشر ضلالهم وباطلهم، وهو منهج منحرف عن الكتاب والسنة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد ذكر جماعةً من أهل البدع يعتقدون اعتقاداً هو ضلال يرونه هو الحقّ، ويرون كفر من خالفهم في ذلك،

_ 1 الفتاوى (28/321، 232) .

يا ابن القيم" وص: 19 "وهو دليل قاطع عند أيّ قارئ لبيب على الوثنية التي يدعو إليها هؤلاء باسم توحيد الأسماء والصفات" وص: 32 "المبتدعة الخراصون" وص: 37 "المجسمة" وص:40 "المجسمة المشبهة" وص: 60 "وأن المراد منه عند هؤلاء المتمسلفين ما رأينا من التجسيم وإقامة الوثنية التي حاربها الإسلام وجاء بهدمها". هكذا يقول، ولا ريب أنَّ من أكبر علامات أهل البدع الوقيعة في أهل السنة والأثر، قال إسحاق بن راهويه: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنَّهم مشبهة، بل هم المعطلة، وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة1. فما حال إذاً من يجعلهم أهل عقائد وثنية!؟ خامساً: يمجد أهل البدع ويعظمهم ويكثر من الثناء عليهم ولاسيما إمامه وشيخه قائد التجهم في عصرنا محمد زاهد الكوثري بل هو من رائشي نبله والحاطبين في حبله والساعين في نصرته؛ ولهذا يكثر من النقل عنه فأحياناً يصرح باسمه كما في (ص: 38، 39) ، وأحياناً لا يصرح باسمه كما في (ص: 11) فهو منقول من هامش السيف الصقيل للكوثري (ص: 27) ، وكما في (ص: 14) فهو منقول من هامش السيف الصقيل للكوثري (ص:115) ويصفه بالإمام المحدث. سادساً: استخفافه ببعض الأحاديث كما في ص: 55 حيث قال: "كما جاء في حديث الجارية الذي يتشدقون به"!!

_ 1 انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/85) .

لهذا وغيره رأيت من الواجب التنبيه على باطل هذا الكاتب وضلاله، والتحذير منه، وكشف بعض تلبيساته وتدليساته، وفضح كذبه وتزويره، ونقض شُبهه وأباطيله في كتابه المذكور، نصراً للحق وذبّاً عن السنَّة ودفاعاً عن علماء الأمة وردّاً للباطل وإزهاقاً له. هذا دون تقص لكل ما فيه، ولو ناقشته على جميع ما اشتمل عليه كتابه من الظلم والخطأ والتعدي والجور والكذب والخلط والتلبيس والتدليس والتشنيع لطال الكلام، لكن التنبيه على قليل من ضلاله وباطله مرشدٌ إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم وأقلّ علم، واللبيب تكفيه الإشارة، ولو أنَّ هذا الكاتب سكت ولم يكتب ما كتب واشتغل بتحصيل العلم الشرعي من مظانه من الكتاب والسنة لكان خيراً له وأقوم، ولأراح غيره، لكنه صار كمن يبحث عن حتفه بظلفه. فكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت التراث تثيرها فنسأل الله أن يهديه ويهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى الحقّ ردّاً جميلاً، وأن يعيذنا من الأهواء المطغية والفتن المردية بمنه وكرمه. وهذا أوان الشروع في المقصود.

القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد

القول السديد في الرد على من أنكر تقسيم التوحيد ... 1 قال الكاتب ص 3: "فهذا جزء لطيف ومنار منيف أثبت فيه إبطال التثليث في تقسيم التوحيد إلى توحيد ألوهية وتوحيد ربوبية وتوحيد أسماء وصفات …". قلت: إنَّ التثليث عقيدة نصرانية خبيثة تقوم على أساس جعل الآلهة ثلاثة وهم: الأب والابن وروح القدس، وقد كفَّرهم الله بها في محكم تنزيله حيث قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إَنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَنَّ الذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1. أما تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، أو إلى قسمين: توحيد معرفة وإثبات وهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد إرادة وطلب وهو توحيد الألوهية، فهذه عقيدة المسلمين قاطبة، المؤمنين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سوى المبتدعة الضُّلاَّل. والمراد بتوحيد الربوبية: الاعتقاد الجازم بأنَّ الله وحده الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لشئون خلقه كلها لا شريك له في ذلك. والمراد بتوحيد الألوهية: إفراد الله وحده بالخضوع والذل والمحبة والخشوع وسائر أنواع العبادة لا شريك له. والمراد بتوحيد الأسماء والصفات: الإيمان الجازم بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، وإثباتها دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل.

_ 1 سورة المائدة الآيتان 73، 74، وانظر في إبطال عقيدة التثليث هذه كتاب الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح لابن تيمية (2/90 وما بعدها) من قوله: فصل في القول في بطلان التثليث.

ولكلِّ قسم من هذه الأقسام الثلاثة ضدٌّ؛ "فإذا عرفت أن توحيد الربوبية هو الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر لجميع الأمور المتصرف في كل مخلوقاته لا شريك له في ملكه، فضد ذلك هو اعتقاد العبد وجود متصرف مع الله غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل. وإذا عرفت أنَّ توحيد الأسماء والصفات هو أن يدعى الله تعالى بما سمى به نفسه ويوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وينفى عنه التشبيه والتمثيل، فضد ذلك شيئان ويعمهما اسم الإلحاد: أحدهما: نفي ذلك عن الله عز وجل وتعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله الثابتة بالكتاب والسنة. ثانيهما: تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه وقد قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1، وقال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 2، وإذا عرفت أن توحيد الإلهية هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة ونفي العبادة عن كل ما سوى الله تبارك وتعالى فضد ذلك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، وهذا هو الغالب على عامة المشركين وفيه الخصومة بين جميع الرسل وأممها"3. وهذه الأقسام الثلاثة للتوحيد لها دلائل كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم 1 فمن أدلة توحيد الربوبية قول الله تعالى: {الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ،

_ 1 سورة الشورى، الآية 11. 2 سورة طه، الآية 110. 3 معارج القبول للشيخ حافظ حكمي (1/418) .

وقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1، وقوله: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ} 2، وقوله: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3، وقوله: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4، وقوله: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 5، وغيرها من الآيات. 2 ومن أدلة توحيد الألوهية قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ} ؛ لأنَّ الله معناه المألوه المعبود، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وقوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 6، وقوله: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} 7، وقوله: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِن دُونِهِ} 8، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ

_ 1 سورة الأعراف، الآية 54. 2 سورة الرعد، الآية 16. 3 سورة المؤمنون، الآيات 84 89. 4 سورة غافر، الآية 64. 5 سورة الزمر، الآية 62. 6 سورة البقرة، الآية 21. 7 سورة الزمر، الآيتان 2، 3. 8 سورة الزمر، الآيتان 14، 15.

لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} 1، وغيرها من الآيات. 3 ومن أدلة توحيد الأسماء والصفات قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 2، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 3، وقوله: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 4، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 5، وآخر سورة الحشر، وغيرها من الآيات. ومن الآيات التي جمعت أقسام التوحيد الثلاثة قول الله تبارك وتعالى في سورة مريم: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 6. يقول الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله مبيناً دلالة الآية على ذلك: "… اشتملت [أي الآية] على أصول عظيمة على توحيد الربوبية وأنَّه تعالى ربُّ كلِّ شيء وخالقُهُ ورازقُهُ ومدبِّرُه، وعلى توحيد الألوهية والعبادة وأنَّه تعالى الإله المعبود وعلى أنَّ ربوبيته موجبة لعبادته وتوحيده ولهذا أتى فيه بالفاء في قوله: {فَاعْبُدْهُ} الدالة على السبب أي فكما أنَّه ربُّ كلِّ شيء فليكن هو المعبود حقّاً فاعبده ومنه: الاصطبار لعبادته تعالى وهو جهاد النفس

وتمرينها وحملها على عبادة الله تعالى فيدخل في هذا أعلى أنواع الصبر وهو الصبر على الواجبات والمستحبات والصبر عن المحرمات والمكروهات، بل يدخل في ذلك الصبر على البليات فإنَّ الصبر عليها وعدم تسخطها والرضى عن الله بها من أعظم العبادات الداخلة في قوله: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، واشتملت على أنَّ الله تعالى كامل الأسماء والصفات عظيم النعوت جليل القدر وليس له في ذلك شبيه ولا نظير ولا سمي، بل قد تفرَّد بالكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات"1. وفي بيان دلالة القرآن على أنواع التوحيد يقول العلاَّمة ابن القيم بعد أن ذكر أنَّ كلَّ طائفة تسمي باطلهم توحيداً: "وأمَّا التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه، فوراء ذلك كله، وهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات وتوحيد في المطلب والقصد. فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوّه فوق سمواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه. وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جدّ الإفصاح. كما في أول سورة الحديد وسورة طه وآخر سورة الحشر، وأول سورة تنزيل السجدة، وأول سورة آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها وغير ذلك. النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَأَيُّهَا الكَافِرُونَ} ، وقوله: {قُلْ يَأَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} 2 الآية، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس ووسطها وآخرها، وأول سورة

_ 1 المواهب الربانية من الآيات القرآنية (ص 44، 45) . 2 سورة آل عمران، الآية 64.

الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، بل نقول قولاً كليّاً: إنَّ كلَّ آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه؛ فإنَّ القرآن إمَّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإمَّا دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كلِّ ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإمَّا أمرٌ ونهيٌ وإلزامٌ بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوق التوحيد ومكملاته، وإمَّا خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإمَّا خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد1. فالقرآن كلُّه في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، ف {الْحَمْدُ للهِ} توحيد، {رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} توحيد، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعم الله عليهم، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} الذين فارقوا التوحيد ... "2.

_ 1 قال الشوكاني رحمه الله في مقدمة كتابه القيّم "إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات" (ص:4) : "واعلم أنَّ إيراد الآيات القرآنية على إثبات كلِّ مقصد من هذه المقاصد، وإثبات اتفاق الشرائع عليها، لا يحتاج إليه من يقرأ القرآن العظيم؛ فإنَّه إذا أخذ المصحف الكريم وقف على ذلك في أيّ موضع شاء، ومن أيِّ مكان أحبَّ، وفي أيّ محل منه أراد، ووجده مشحوناً به من فاتحته إلى خاتمته". 2 مدارج السالكين (3/449، 450) .

وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وقد دلَّ استقراء القرآن العظيم على أنَّ توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فِطَرُ العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ... } 1، وقال: {قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 2. وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: {قَالَ فِرْعَونُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3 تجاهلٌ من عارفٍ أنَّه عبدٌ مربوبٌ؛ بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلآءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ... } 4 الآية، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 5، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله؛ كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 6، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً. الثاني: توحيده جلَّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى "لا إله إلا الله" وهي متركبة من نفي وإثبات؛ فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع

_ 1 سورة الزخرف، الآية 87. 2 سورة يونس، الآية 31. 3 سورة الشعراء، الآية 23. 4 سورة الإسراء، الآية 102. 5 سورة النمل، الآية 14. 6 سورة يوسف، الآية 106.

العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الأَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1. ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ... } 2 الآية، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3 الآية، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِءَالِهَةً يُعْبَدُونَ} 5، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 6، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنَّما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة "لا إله إلا الله" لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنَّها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده. فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.

_ 1 سورة ص، الآية 5. 2 سورة محمد، الآية 19. 3 سورة النحل، الآية 36. 4 سورة الأنبياء، الآية 25. 5 سورة الزخرف، الآية 45. 6 سورة الأنبياء، الآية 108.

النوع الثالث: توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين: الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم؛ كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1. والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله؛ كما قال بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2، مع قطع الطمع عن إدراك كيفيَّة الاتصاف، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 3، وقد قدمنا هذا المبحث مستوفى موضحاً بالآيات القرآنية في سورة الأعراف. ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته؛ ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبيَّة باستفهام التقرير. فإذا أقرُّوا بربوبيته احتج بها عليهم على أنَّه هو المستحق لأنْ يعبد وحده. ووبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنَّه هو الربّ وحده؛ لأنَّ من اعترف بأنَّه الرب وحده لزمه الاعتراف بأنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} 4 إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} : فلما أقروا بربوبيته

_ 1 سورة الشورى، الآية 11. 2 سورة الشورى، الآية 11. 3 سورة طه، الآية 110. 4 سورة يونس، 31.

وبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} . ومنها قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ} ، فلما اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ سَيَقُولُونَ للهِ} ، فلما أقرُّوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ، ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ} فلما أقرُّوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ} ، فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} 2. ومنها قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} ، فلما صحَّ إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3. ومنها قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} ، فلما صحَّ اعترافهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ} ، فلما صحَّ إقرارهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلِ الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ

_ 1 سورة المؤمنون، الآيات 8489. 2 سورة الرعد، الآية 16. 3 سورة الزخرف، الآية 87.

يَعْقِلُونَ} 1، وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} ، فلما صح اعترافهم وبخهم الله منكراً عليهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 2، وقوله تعالى: {ءَآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا} ، ولا شك أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره: هو أنَّ القادر على خلق السموات والأرض وما ذكر معها خير من جماد لا يقدر على شيء. فلما تعيَّن اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، ثم قال تعالى: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} ، ولا شك أنَّ الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يُّجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ} ، ولا شك أنَّ الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال تعالى: {أَمَّن يَّهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُّرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، ولا شك أنَّ الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله: {أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّن يَّبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَّرْزُقُكُم مِّنَّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} ، ولا شك أنَّ الجواب كما قبله. فلما تعين الاعتراف وبخهم منكراً عليهم بقوله:

_ 1 سورة العنكبوت، الآيات 61 63. 2 سورة لقمان، الآية 25.

{أَءِلَهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 1، وقوله: {اللهُ الذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَّفْعَلُ مِن ذَالِكُم مِّن شَيْءٍ} 2، ولا شك أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لا، أي ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . والآيات بنحو هذا كثيرة جداً. ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع: أنَّ كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهاماتُ تقريرٍ، يراد منها أنَّهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار؛ لأنَّ المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة؛ نحو قوله تعالى: {أَفِي اللهِ شَكٌّ} 3، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً} 4 وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار؛ لأنَّ استقراء القرآن دلَّ على أنَّ الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار؛ لأنَّهم لا ينكرون الربوبية، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه. والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر"5 اه كلامه رحمه الله.

_ 1 سورة النمل، الآيات 60 64. 2 سورة الروم، الآية 40. 3 سورة إبراهيم، الآية 10. 4 سورة الأنعام، الآية 164. 5 أضواء البيان (3/410414) .

وقد نقلت كلامه بطوله لأهميته، وقد نبَّه فيه رحمه الله إلى أنَّ أقسام التوحيد الثلاثة مأخوذة بالاستقراء لنصوص القرآن الكريم، وبهذا يعلم أن هذا التقسيم من الحقائق الشرعية المستمدة من كتاب الله تعالى، وليس أمراً اصطلاحياً أنشأه بعض العلماء1.

_ 1 وبهذا يعلم فساد ما قرره مؤلف كتاب "الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي المعاصر" د. صلاح الصاوي حيث يقول (ص:154) : "فإنَّ هذا التقسيم اصطلاحي، الهدف منه تقريب القضية وتنظيم دراستها، كما اصطلح أهل العلم على أسماء اصطلاحية للعلوم ... وعلى هذا فلا مشاحة في الاصطلاح، وليست هناك حدود فاصلة بين ما يدخل في توحيد الربوبية، وبين ما يدخل في توحيد الألوهية، وبين ما يدخل في توحيد الأسماء والصفات، بل إنَّ هذا التقسيم ابتداءً على هذا النحو لم يرد به فيما نعلم آية محكمة أو سنَّة متبعة، والعبرة كما يقولون بالمقاصد والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني، هذا وإن كان تتابع أهل العلم على استخدام هذا التقسيم واستقراره عبر قرون طويلة يجعله جزءاً من التراث السلفي، فينبغي قبوله على أن لا يكون في ذاته معقد ولاء وبراء". فجعل أصلحه الله هذا التقسيم تقسيماً اصطلاحياً، وليس حقيقة شرعية مأخوذة بالتتبع والاستقراء لنصوص الكتاب والسنة، بل تمادى في الباطل عند ما قال: "وليست هناك حدود فاصلة بين ما يدخل في توحيد الربوبية، وبين ما يدخل في توحيد الألوهية، وبين ما يدخل في توحيد الأسماء والصفات". وإني لأعجب غاية العجب كيف يقول هذا من يتصدى لتوجيه مسيرة العمل الإسلامي المعاصر، مع أنَّه في نفسه كما يصرح هنا لا يعرف حدوداً فاصلة بين أنواع التوحيد الثلاثة. وأيّ جناية على مسيرة العمل الإسلامي أشدّ من أن ينشر بين أهل الإسلام أنَّ أقسام التوحيد ليست من الثوابت، وليست من الأمور التي يعقد عليها الولاء والبراء، وأنَّها لم يرد بها آية محكمة أو سنَّة متبعة، وأنَّه ليس هناك حدود فاصلة بين هذه الأقسام، وأنَّها أمور اصطلح عليها بعض أهل العلم ولا مشاحة في الاصطلاح. أليس في هذا خلخلة للصف وتوهين للاعتقاد وتقليل من شأن التوحيد فالله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل، وفي الكتاب المذكور أخطاء عديدة من هذا الجنس ليس هذا موطن بيانها.

قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد حفظه الله: "هذا التقسيم الاستقرائي لدى متقدمي علماء السلف أشار إليه ابن مندة وابن جرير الطبري وغيرهما، وقرره شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وقرره الزبيدي في تاج العروس وشيخنا الشنقيطي في أضواء البيان في آخرين رحم الله الجميع، وهو استقراء تامٌّ لنصوص الشرع، وهو مطرد لدى أهل كلِّ فنٍّ، كما في استقراء النحاة كلام العرب إلى اسم وفعل وحرف، والعرب لم تفه بهذا، ولم يعتب على النحاة في ذلك عاتب، وهكذا من أنواع الاستقراء"1. وما يؤمن بالتوحيد من لم يؤمن بهذه الأقسام الثلاثة المستمدة من نصوص الشرع، إذ التوحيد المطلوب شرعاً هو الإيمان بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، ومن لم يأت بهذا جميعه فليس موحداً. بل إنَّ كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" التي هي أصل الدين وأساسه قد دلت على أقسام التوحيد الثلاثة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وشهادة أن لا إله إلا الله فيها الإلهيات، وهي الأصول الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأصول الثلاثة تدور عليها أديان الرسل وما أنزل إليهم، وهي الأصول الكبار التي دلت عليها وشهدت بها العقول والفطر". وأما وجه دلالة هذه الكلمة العظيمة على أقسام التوحيد الثلاثة فظاهر تماماً لمن تأملها: فقد دلت على إثبات العبادة لله ونفيها عمن سواه، كما دلت أيضاً على توحيد الربوبية فإنَّ العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، ودلت على توحيد

_ 1 التحذير من مختصرات الصابوني في التفسير (ص: 30) .

الأسماء والصفات فإنَّ مسلوب الأسماء والصفات ليس بشيء بل هو عدم محض، كما قال بعض العلماء: المشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً، والموحد يعبد إله الأرض والسماء1. إذا تبين هذا وتقرر فليعلم أنَّ جعل الكاتب في كلامه المتقدم وفي طرَّة كتابه هذا من قبيل التثليث في التوحيد والعقيدة الإسلامية قولٌ في غاية الخبث والضلال والانحراف، حيث جعل العقيدة المستمدة من الكتاب والسنة مثل عقيدة النصارى المنحرفة الضالة. وقائل هذه المقالة الجائرة حقيق بأن يقطع لسانه ويكسر بنانه ويستتاب من مقالته هذه الشوهاء وضلالته العمياء. ثم ماذا سيقول الكاتب عن الآيات التي دلت على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أنواع وتحدثت عن كل نوع على حدة. هل سيقول إنَّها دلت على التثليث. أو سيضيف إليها قيودات واستدراكات من عنده. ثم ماذا على من استدل بالقرآن في تقسيم التوحيد؟ لا ينكر هذا الأصل العظيم الثابت في القرآن والسنة إلا ضال منحرف. 2 قال الكاتب ص 3: " ... وخصوصاً أنَّ هذا التقسيم لايعرف عند السلف البتة وإنما اخترع هذا التقسيم وانتشر بعد القرن السابع الهجري". وقال ص 6: "ولم يذكر الله تعالى في كتابه ولا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته1 أنَّ التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية وتوحيد أسماء

_ 1 انظر: التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد (ص9) ونص شيخ الإسلام نقلته عنه. 2 ونظير هذا قول الصاوي فيما تقدم: "بل إنَّ هذا التقسيم ابتداءً على هذا النحو لم يرد به فيما نعلم آية محكمة أو سنَّة متبعة ... ".

وصفات، بل لم ينطق بهذا التقسيم أحد من الصحابة بل ولا أحد من التابعين، بل ولا أحد من السلف الصالح رضي الله عن الجميع بل إنَّ هذا التقسيم بدعة خلفية مذمومة حدثت في القرن الثامن الهجري، أي بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانمائة سنة ولم يقل بهذا التقسيم أحد من قبل ... ". وقال ص 10: "ابن تيمية الذي اخترع تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية..". قلت: أما الأدلة من الكتاب والسنة على هذا التقسيم فهي كثيرة لا تحصر يعرفها من لديه أدنى إلمام بنصوص الكتاب والسنة، بل إن من يحفظ فاتحة الكتاب1 وسورة الناس يجد فيهما ما يشفي ويكفي من وضوح دلالة ونصوع برهان على هذا التقسيم، بل هو أكبر الحقائق الشرعية المقررة في الكتاب والسنة، وقد تقدم قريباً شيء من أدلة القرآن الكريم على هذا التقسيم، وهذا لا يكابر فيه إلا ضالٌّ منحرفٌ لوضوحه وجلائه. وأما قول الكاتب إنَّ هذا التقسيم اخترعه ابن تيمية، ولم يقل به أحد من السلف الصالح، ولم يوجد إلا في القرن الثامن الهجري فهذا دليل على قصور علمه وقلة خبرته ومعرفته بكتب السلف الصالح إذ هي مليئة بالتصريح تارة والإشارة تارة إلى هذه الأقسام، ولو ذهبت أنقل كل ما أعلمه من أقوالهم في ذلك لطال المقام، لكن حسبي أن أورد هنا بعض النقول ونزراً يسيراً من النصوص المشتملة على ذكر أقسام التوحيد الثلاثة لبعض الأئمة الذين كانوا قبل شيخ الإسلام ابن تيمية ليظهر كذب الكاتب وليبين جهله.

_ 1 انظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/24) وما بعدها قوله: فصل في اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة.

النص الأول: للإمام أبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري المتوفى سنة 387هـ. فقد قال رحمه الله في كتابه "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة" ما نصه: " ... وذلك أنَّ أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً. والثاني: أن يعتقد وحدانيته ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره. والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه. إذ قد علمنا أنَّ كثيراً ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده في صفاته قادحاً في توحيده. ولأنَّا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة من هذه الثلاث والإيمان بها. فأمَّا دعاؤه إياهم إلى الإقرار بربانيته ووحدانيته فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه، ولأنَّ الجهمي يدعي لنفسه الإقرار بهما وإن كان جحده للصفات قد أبطل دعواه لهما ... "1. ثم أخذ يورد ما يدل على بطلان قول الجهمية في نفي الصفات. فهذا نص

_ 1 الإبانة لابن بطة (693694) من النسخة الخطية، وفي مختصره (ق 150) .

في غاية الوضوح في ذكر أقسام التوحيد الثلاثة. وتأمل قول ابن بطة: "لأنَّ الجهمي يدعي لنفسه الإقرار بهما ... " أي الربوبية والألوهية وإنما جحد توحيد الأسماء والصفات خلاف هذا المبطل الذي جحد وأنكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام وجعله من قبيل التثليث في العقيدة الإسلامية فكان بذلك الجهمية دونه في الضلال. وتأمل قول ابن بطة: "ولأنَّا نجد الله قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة من هذه الثلاثة والإيمان بها" ففيه أبلغ رد على الكاتب في قوله: "ولم يذكر الله في كتابه ولا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته أنَّ التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام ... ". وتأمل قوله في بداية كلامه: "وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء ... " فنص رحمه الله على أنَّ أقسام التوحيد الثلاثة هي أصل الإيمان الذي يجب على الخلق اعتقاده مع إثبات الإيمان بالله، ومعنى ذلك أنَّه لا إيمان لمن لم يأت بهذه الأمور الثلاثة ولا توحيد، إذ الإيمان والتوحيد هو إفراد الله وحده بهذه الأمور الثلاثة فمن لم يأت بتوحيد الربوبية فهو معطِّل للخالق مشرك في ربوبية الله، ومن لم يأت بتوحيد الألوهية فهو مشرك في ألوهية الله وعبادته كالمشركين عبدة الأصنام، ومن لم يأت بتوحيد الأسماء والصفات فهو كافر ملحد في أسماء الله وصفاته. فكيف يقول مسلم عاقل إنَّ هذه الأمور لا أصل لها ولا أساس، ولا وجود لها في الكتاب والسنة، فاللهم غفراً. النص الثاني: للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن مندة المتوفى سنة 395هـ. ففي كتابه "كتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على

الاتفاق والتفرد" ذكر أقسام التوحيد واستعرض كثيراً من أدلتها في الكتاب والسنة بشرح وبسط لا مزيد عليه. فمن الأبواب التي عقدها وهي متعلقة بتوحيد الربوبية ما يلي: 1 ذِكْرُ ما وصف الله عز وجل به نفسه ودلَّ على وحدانيته عز وجل وأنَّه أحدٌ صمدٌ لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. 2 ذكر معرفة بدء الخلق. 3 ذكر ما يدل على أنَّ خلق العرش تقدم على خلق الأشياء. 4 ذكر ما يدل على أنَّ الله قدر مقادير كل شيء قبل خلق الخلق. 5 ذكر ما يستدل به أولو الألباب من الآيات الواضحة التي جعلها الله عز وجل دليلاً لعباده من خلقه على معرفته ووحدانيته من انتظام صنعته وبدائع حكمته في خلق السموات والأرض ... 6 ذكر ما بدأ الله عز وجل من الآيات الواضحة الدالة على وحدانيته. 7 ذكر الآيات المتفقة المنتظمة الدالة على توحيد الله عز وجل في صفة خلق السموات التي ذكرها في كتابه وبينها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تنبيهاً لخلقه1. ثم ذكر أبواباً أخرى. ومن الأبواب التي عقدها وهي متعلقة بتوحيد الألوهية ما يلي: 1 ذكر معرفة أسماء الله عز وجل الحسنة التي تسمى بها وأظهرها لعباده للمعرفة والدعاء والذكر.

_ 1 انظر هذه الأبواب في كتابه "التوحيد" (1/61116) .

2 ذكر معرفة اسم الله الأكبر الذي تسمى به وشرفه على الأذكار كلها. وذكر تحت هذا الباب ما يلي: أقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله". ب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله". ج قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت". د قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: "قل ربي الله ثم استقم". هـ قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: "الله يمنعني منك". وقول النبي صلى الله عليه وسلم "من كان حالفاً فليحلف بالله عز وجل ومن حلف بغير الله فقد أشرك". ز قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اذكروا الله على جميع الأمور"، قال تعالى: {اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً} 1. وذكر أموراً أخرى كثيرة متعلقة بتوحيد الألوهية. ومن الأبواب التي عقدها وهي متعلقة بتوحيد الأسماء والصفات ما يلي: ذكر معرفة صفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه وأنزل بها كتابه وأخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الوصف لربه عز وجل مبيناً ذلك لأمته. وذكر أبواباً أخرى كثيرة في توحيد الأسماء والصفات2، وكان قبل هذا

_ 1 انظر هذه الأبواب في كتابه "التوحيد" (2/1446) . 2 انظر هذه الأبواب في كتابه "التوحيد" (3/7) إلى نهاية الكتاب.

ذكر جملة كبيرة من أسماء الله الحسنى1. قال شيخنا الدكتور علي بن ناصر فقيهي في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن مندة المتقدم: "ومؤلف هذا الكتاب عاش في القرن الرابع الهجري (310-395هـ) وقد اشتمل كتابه على أقسام التوحيد التي ورد ذكرها في كتاب الله تعالى توحيد الربوبية توحيد الألوهية توحيد الأسماء والصفات فبدأ بقسم الوحدانية في الربوبية مستدلاً به على توحيد الله في الألوهية، ثم ذكر عنواناً لتوحيد الأسماء ومنه دخل في توحيد الألوهية وذلك من الفصل الثاني والأربعين إلى الفصل الخمسين، ثم عاد لتكميل أسماء الله تعالى، ثم اتبعه بتوحيد الصفات حيث بحثه مستقلاً عن أسماء الله عز وجل، ثم عاد إلى توحيد الربوبية بالتصريح بذلك في آخر الكتاب ولم يخرج في استدلاله على ذلك عن كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف كما يجد ذلك القارئ في الكتاب. وهذا التقسيم الذي شمله هذا الكتاب، ردٌّ على أبي حامد بن مرزوق الذي يقول في كتابه المسمى "التوسل بالنبي وجهالة الوهابيين": إنَّ تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والقول بأنَّ المشركين كانوا مؤمنين بالأول دون الثاني ولم يدخلهم في الإسلام أنَّ ذلك بدعة ابتدعها ابن تيمية وقلده فيها محمد بن عبد الوهاب ... "2. قلت: فلعل الكاتب تلقف فريته هذه من أبي حامد بن مرزوق، ونقلها عنه، فإنَّ أهل الأهواء يتوارثون بدعهم، كما يتوارث أهل السنة الحقَّ من

_ 1 انظر في كتابه "التوحيد" (2/47208) . 2 انظر مقدمة كتاب التوحيد لابن مندة (1/2728) ، وانظر أيضاً ما ذكره شيخنا حفظه الله في وصف الكتاب ومباحثه (1/3342) .

مشكاة النبوة، ولكن فرق بين الإرثين: شتان بين الوارثين وبين مو ... رثيهما وسهام ذي سهمان 1 النص الثالث: لإمام قبل هذين الإمامين وهو الإمام القاضي أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي صاحب أبي حنيفة المتوفى سنة 182هـ. فقد قال ابن مندة في كتابه التوحيد: أخبرنا محمد بن أبي جعفر السرخسي ثنا محمد بن سلمة البلخي ثنا بشر بن الوليد القاضي عن أبي يوسف القاضي أنَّه قال: "ليس التوحيد بالقياس ألم تسمع إلى قول الله عز وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنَّه عالم قادر قوي مالك ولم يقل: إني عالم قادر لعلةِ كذا أقدر، بسبب كذا أعلم، وبهذا المعنى أملك، فلذلك لا يجوز القياس في التوحيد، ولا يعرف إلا بأسمائه، ولا يوصف إلا بصفاته، وقد قال الله تعالى في كتابه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2 الآية، وقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ} 3، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ التِّي تَجْرِي فِي البَحْرِ} 4 الآية. قال أبو يوسف: لم يقل الله: انظر كيف أنا العالم وكيف أنا القادر وكيف أنا الخالق، ولكن قال: انظر كيف خلقت ثم قال: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ

_ 1 النونية (ص: 175) . 2 سورة البقرة، الآية 21. 3 سورة الأعراف، الآية 185. 4 سورة البقرة، الآية 164.

يَتَوَفَّاكُمْ} 1، وقال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} 2 أي: تعلم أن هذه الأشياء لها ربٌّ يقلبها ويبديها ويعيدها وأنك مكون ولك من كونك. وإنما دل الله عز وجل خلقه بخلقه ليعرفوا أنَّ لهم رباً يعبدوه ويطيعوه ويوحدوه، ليعلموا أنه مكونهم، لا هم كانوا، ثم تسمى فقال: أنا الرحمن وأنا الرحيم وأنا الخالق وأنا القادر وأنا المالك، أي: هذا الذي كونكم يسمى المالك القادر الله الرحمن الرحيم بها يوصف. ثم قال أبو يوسف: يُعرف الله بآياته وبخلقه ويوصف بصفاته ويسمَّى بأسمائه كما وصف في كتابه، وبما أدَّى إلى الخلق رسوله. ثم قال أبو يوسف: إن الله عز وجل خلقك وجعل فيك آلات وجوارح عجز بعض جوارحك عن بعض وهو ينقلك من حال إلى حال لتعرف أنَّ لك رباً وجعل فيك نفسك عليك حجة بمعرفته تتعرف بخلقه، ثم وصف نفسه فقال: أنا الرب وأنا الرحمن وأنا الله وأنا القادر وأنا المالك فهو يوصف بصفاته ويسمى بأسمائه، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 3، وقال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 4، وقال: {لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5، فقد أمرنا الله أن نوحده، وليس

_ 1 سورة النحل، الآية 70. 2 سورة الذاريات، الآية 21. 3 سورة الإسراء، الآية 110. 4 سورة الأعراف، الآية 180. 5 سورة الحشر، الآية 24.

التوحيد بالقياس؛ لأنَّ القياس يكون في شيء له شبه ومثل، فالله تعالى وتقدس لا شبه له ولا مثل له تبارك الله أحسن الخالقين. ثم قال: وكيف يدرك التوحيد بالقياس وهو خالق الخلق بخلاف الخلق ليس كمثله شيء تبارك وتعالى. وقد أمرك الله عز وجل أن تؤمن بكلِّ ما أتى به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1، فقد أمرك الله عز وجل بأن تكون تابعاً سامعاً مطيعاً ولو يوسّع على الأمة التماس التوحيد وابتغاء الإيمان برأيه وقياسه وهواه إذاً لضلوا، ألم تسمع إلى قول الله عز وجلَّ: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} 2، فافهم ما فسر به ذلك"3. ورواه أيضاً الإمام الحافظ قوام السنة أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني المتوفى سنة 535هـ في كتابه "الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة" ولأهميته عنده خصه بفصل مستقل فقال: "فصل في النهي عن طلب كيفية صفات الله عز وجل" وذكره بإسناده من طريق السرخسي به4. وأثر أبي يوسف هذا الذي رواه هذان الإمامان عظيم القدر مشتمل على أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

_ 1 سورة الأعراف، الآية 158. 2 سورة المؤمنون، الآية 71. 3 التوحيد لابن مندة (3/304306) . 4 انظر: الحجة للتيمي (1/111113) .

قال شيخنا الدكتور علي فقيهي في التعليق على هذا الأثر: " ... وقد ذكر أبو يوسف كلاماً نفيساً في باب التوحيد هو ظاهر في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. فذكر أنَّ التوحيد لا يكون بالقياس، مبيناً أنَّ القياس لا يكون إلا إذا وجدت علة حيث قال: ألم تسمع إلى قول الله عز وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنَّه عالم قادر قوي ولم يقل إني قادر عالم لعلة كذا، أو أقدر بسبب كذا، قال: ولذلك لا يجوز القياس في التوحيد، ولا يعرف الله إلا بأسمائه، ولا يوصف إلا بصفاته، ثم ذكر أدلة ذلك، ثم قال: لم يقل الله انظر كيف أنا العالم وكيف أنا القادر، وإنما قال: انظر كيف خلقت ... الخ إنما ذكره رحمه الله لا يحتاج لبيان فراجعه تجد فيه الردَّ على الملحدين في الربوبية وفي الأسماء والصفات مستدلاً بذلك على توحيد العبادة والطاعة لله وحده"1. قلت: فهذه ثلاثة نصوص عن ثلاثة أئمة ماتوا قبل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله2، الأولان منهم ماتا في القرن الرابع الهجري والثالث وهو أبو يوسف مات في القرن الثاني الهجري، وروى أثره التيمي وقد مات في القرن السادس وهي مشتملة على أقسام التوحيد الثلاثة بغاية الجلاء والوضوح فعلى مرِّ القرون أهل السنة والجماعة متتابعون على هذا التقسيم ليس بينهم خلاف فيه، ولا ينكر ذلك إلا مبتدع ضال منحرف.

_ 1 انظر هامش كتاب التوحيد لابن مندة (3/310) . 2 وسيأتي قريباً ذكر نص الإمام الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية في ذكر أقسام التوحيد الثلاثة، وقد توفي رحمه الله في أول القرن الرابع سنة 321هـ، وكذلك نص الإمام أبي حنيفة في ذلك، ونصوص أخرى.

وليت شعري ماذا سيقول الكاتب وأسلافه أمام هذه النصوص الواضحة الجلية عن أهل السنة والجماعة في تقسيم التوحيد؟ هل سيقول عن هؤلاء الأئمة "إنهم تبعوا ابن تيمية في مذهبه الباطل"؟! كما قد قال مثل ذلك بعض الجهلة مثله وقد أورد عليه نص من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: "ابن تيمية وهابي"!! وما ولد ابن عبد الوهاب إلا من بعده بقرون، فالله المستعان. 3 قال الكاتب ص 3: "فاعلم أنَّ تقسيم التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاث تقسيم غير صحيح تكلم به بعض متأخري المصنفين منهم صاحب شرح العقيدة الطحاوية ابن أبي العزِّ المنسوب للحنفية خطأ الذي ردَّ على صاحب الكتاب الأصلي الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله تعالى أثناء شرحه على كتابه متن الطحاوية في التوحيد فزيف ابن أبي العزِّ بعض كلام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله، وظهر بثوب الدعوة إلى مذهب السلف الصالح فخالف حقيقة صريح الكتاب والسنة والإجماع وعقيدة أهل السنة والجماعة الواردة في كلام الإمام أبي جعفر الطحاوي ... ". وكرر مثل هذا الكلام ص: 6، وص: 12، وص: 45، وص: 60، وكثيراً ما يكرر ما يذكره لأغراض لعل منها تسمين الكتاب ونفخه كيفما اتفق. وأقول: أولاً: أمَّا قول الكاتب عن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام بأنَّه تقسيم غير صحيح، فهذا كلام من يهرف بما لا يعرف، ويتكلم بما لا يعلم وهو من القول على الله بلا علم في أصلِ الأصول وأعظم الأركان توحيد الله، وصغار تلاميذ أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان يعلمون صحة هذا التقسيم وأدلته من الكتاب والسنة، وقد سبق أن أوردت شيئاً منها فيما تقدم، والكاتب فيما ذكر

يكشف عن قلة علمه وقصور فهمه في أظهر الأمور وأبينها. ثانياً: أما قوله: "تكلم به بعض متأخري المصنفين" فقد سبق نقض ذلك وبيان عدم صحته فيما تقدم، لكن أضيف هنا نصين آخرين لإمامين مشهورين الأول للإمام أبي حنيفة والثاني للإمام أبي جعفر الطحاوي رحمهما الله، وفيهما ذكر أقسام التوحيد الثلاثة كقول أهل السنة والجماعة سواء. 1 قال الإمام أبو حنيفة (ت150هـ) في كتابه الفقه الأبسط (ص51) : "والله يدعى من أعلى لا من أسفل؛ لأنَّ الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء". فقوله: "يدعى من أعلى لا من أسفل …" فيه إثبات العلو لله، وهو من توحيد الأسماء والصفات، وفيه رد على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم من نفاة العلو. وقوله: "من وصف الربوبية" فيه إثبات توحيد الربوبية. وقوله: "والألوهية" فيه إثبات توحيد الألوهية. 2 وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي (ت321هـ) في مقدمة متنه في العقيدة المشهور بالطحاوية: "نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره …". فقوله: "إن الله واحد لا شريك له" شامل لأقسام التوحيد الثلاثة، فهو سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته، وواحد لا شريك له في ألوهيته، وواحد لا شريك له في أسمائه وصفاته. وقوله: "ولا شي مثله" هذا من توحيد الأسماء والصفات. وقوله: "ولا شيء يعجزه" هذا من توحيد الربوبية.

وقوله: "ولا إله غيره" هذا من توحيد الألوهية. فهذه أقسام التوحيد الثلاثة صريحة واضحة في نصي هذين الإمامين رحمهما الله. وذكر الطحاوي في مقدمة متنه المذكور أنَّه مشتمل على: "بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصل الدين، ويدينون به رب العالمين". وقد قال الكاتب ص 12: "اعلم أنَّ متن الطحاوية وهو الكتاب الذي صنفه أبو جعفر الطحاوي رحمه الله كتاب صحيح مستقيم من أحسن كتب العقيدة التي تمثل اعتقاد السلف الصالح، ولأنَّه أعني الطحاوي ذكر في مقدمة ذلك الكتاب أنَّه عقيدة الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه وصاحبيه محمد بن الحسن والقاضي أبي يوسف رحمهما الله تعالى …". فنقول له: إنَّ جميع هؤلاء الأئمة المذكورين قائلون بتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، موافقون لأهل السنة والجماعة فيه، فابن أبي العز رحمه الله تبعٌ للجميع في ذلك، ولم يأت ببدع من الأمر كما زعمت وادَّعيت. فهؤلاء هم سلف ابن أبي العزِّ وأئمته في هذا التقسيم، فمن من السلف قال بإنكاره، سمهم لنا، ولن تجد أحداً من السلف ينكر هذا التقسيم ولو بحثت في كتب أهل العلم ما حييت، بل ستجد النصوص الكثيرة عنهم في ذكر هذا التقسيم اتباعاً للكتاب والسنة ولزوماً لما جاء فيهما، فهم يتبعون ولا يبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون، ومخالفوهم هم أهل البدع والأهواء، المشاقون لله ولرسوله، المتبعون غير سبيل المؤمنين.

وأيضاً من العلماء الذين جاء عنهم ذكر هذه الأقسام الإمام ابن جرير الطبري (ت310هـ) في تفسيره في مواطن عديدة1، والقرطبي في تفسيره في مواطن عديدة2، وابن حبان البستي (ت354هـ) في مقدمة كتابه "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" حيث يقول: "الحمد لله المتفرد بوحدانية الألوهية، المتعزز بعظمة الربوبية، القائم على نفوس العالم بآجالها، والعالم بتقلبها وأحوالها، المانِّ عليهم بتواتر آلائه، المتفضل عليهم بسوابغ نعمائه، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا معين ولا مشير، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير فمضت فيهم بقدرته مشيئته، ونفذت فيهم بعزته إرادته ... ". فذكر الأقسام الثلاثة الألوهية والربوبية والأسماء والصفات. وابن أبي زيد القيرواني المالكي (ت386هـ) في مقدمة عقيدته حيث قال: "من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان بأن الله إله واحد لا إله غيره، ولا شبيه له ولا نظير ولا ولد له ولا والد له، ولا صاحبة له ولا شريك له، ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء لا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون … إلى أن قال: … تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد أو يكون لأحد عنه غناً، خالقاً لكل شيء، ألا هو رب العباد ورب أعمالهم والمقدر لحركاتهم وآجالهم …". فذكر الأقسام الثلاثة. وأبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي في مقدمة كتابه "سراج الملوك"

_ 1 وانظر على سبيل المثال كلامه في معنى قوله تعالى: {فاعلم أنَّه لا إله إلاَّ الله..} [سورة محمد، الآية 19] من تفسيره جامع البيان (13/53) . 2 وانظر بعض الأمثلة على ذلك في (ص:105) من هذا الكتاب.

(1/7) حيث قال: "وأشهد له بالربوبيَّة والوحدانية، وبما شهد به لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والنعوت الأوفى". فذكر الأقسام الثلاثة، والنقول في هذا كثيرة. ثالثاً: وأمَّا قول الكاتب عن ابن أبي العزِّ إنَّه منسوب للحنفية خطأ فقد قاله جزافاً دون بحث أو تحقيق كما هي عادته، إذ لو طالع كتب التراجم في ترجمة ابن أبي العز لوجدها مليئة بما يبين كذبه وجهله، ومما جاء في كتب التراجم ويدل على حنفية ابن أبي العز ما يلي: 1 كونه ينتمي لأسرة تتزعم المذهب الحنفي في دمشق فأبوه هو القاضي علاء الدين علي بن أبي العز الحنفي المتوفى سنة 746هـ خطيب جامع الأمزم ونائب الحكم القاضي عماد الدين الطرسوسي، وجده هو القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي العز أحد مشايخ الحنفية حكم نيابة نحواً من عشرين سنة وهو أول من خطب بجامع الأمزم ودرَّس بالمعظمية واليغمورية والقليجية، وأبو جده هو محمد بن أبي العز صالح بن أبي العز الأوزعي، وكان المدرس الرابع بالمرشدية، ومن أولاد عمومته القاضي صدر الدين سليمان بن أبي العز أحد من انتهت إليه رياسة المذهب الحنفي في زمانه، والمفتي محمد بن سليمان بن أبي العز كان من كبار الحنفية، وعلى بن يوسف بن محمد بن سليمان بن أبي العز كان فقيهاً حنفياً، فهو نشأ في كنف أسرة جميع أفرادها ينتحلون مذهب أبي حنيفة. 2 كونه ولي التدريس بالمدارس الخاصة بالحنفيَّة، فقد درَّس بالقيمازية سنة (748هـ) ودرَّس بالمدرسة الركنية سنة (777هـ) ودرَّس بالعزية البرانية سنة (784هـ) ودرَّس بالجوهرية، وجميع هذه من مدارس الحنفية.

3 كونه ولي قضاء الحنفية، وذلك آخر سنة (776هـ) نيابة عن ابن عمه نجم الدين الذي نقل إلى قضاء مصر في شهر محرم سنة (777هـ) ثم إنَّ نجم الدين استعفى من القضاء بعد مائة يوم، فنقل إلى دمشق، وولى مكانه ابن أبي العز شارح الطحاوية قضاء الحنفية بمصر في جمادى الآخرة من هذه السنة فباشر القضاء نحو شهرين ثم استعفى فأعفي وعاد إلى دمشق على وظائفه في القيمازية والجوهرية والخطابة. 4 من مؤلفاته "التنبيه على مشكلات الهداية" ذكره السخاوي وغيره، وكتاب الهداية من الكتب المعتمدة عند الحنفيَّة لمؤلفه علي بن أبي بكر الفرغاني المرغيناني الحنفي المتوفى سنة 593هـ1. إلا أنه لم يكن متعصباً للمذهب، ومن مؤلفاته القيمة في ذلك كتابه "الاتباع" "وهو رد على الرسالة التي ألَّفها معاصره أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد الحنفي المتوفى سنة 786هـ، ورجح فيه تقليد مذهب أبي حنيفة رحمه الله وحض على ذلك وقد وجد فيها ابن أبي العز مواضع مشكلة فأحب أن ينبه عليها خوفاً من التفرق المنهي عنه واتباع الهوى المردي، وقد كان موفقاً كل التوفيق في هذا الرد، فإنه رحمه الله نهج نهجاً علمياً ينبئ عن أدب جم، وقوة حجة، واتساع دائرة، وبراءة من التعصب المذموم، ورغبة ملحة في جمع القلوب، وإزالة العوائق"2. والمقصود مما تقدم التنبيه على كذب الكاتب في دعواه أن ابن أبي العز منسوب إلى الحنفية خطأً.

_ 1 ملخصاً من ترجمة ابن أبي العز في مقدمة تحقيق كتابه "شرح العقيدة الطحاوية" بتحقيق الدكتور عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط (1/6382) . 2 مقدمة تحقيق شرح العقيدة الطحاوية (1/82) .

رابعاً: وأما قول الكاتب عن ابن أبي العز إنه زيَّف كلام الإمام الطحاوي وظهر بثوب الدعوة إلى مذهب أهل السنة والجماعة. فهذا من البهت والكذب، يُقصد من ورائه تزهيد الناس في هذا الكتاب العظيم والمؤلف القيم الذي لا نظير له في بابه، والذي هو بحق يدل على غزارة علم مصنفه، وسعة اطلاعه وحسن وصفاء عقيدته، وسلامة سلوكه ومنهجه، وقد عمَّ بحمد الله نفعه، وذاع صيته، وعظمت فائدته، وانتفع به خلق لا يحصون، ولعل ذلك يرجع إلى نصح مؤلفه وحسن قصده والله أعلم. وقد سار في كتابه على نهج أهل السنة والجماعة ومشى على منوالهم، وأهل السنة والجماعة يعظمون الحق ويقدمونه على أقوال الرجال، ولا يقبلون من القول إلا ما وافق الكتاب والسنة وما سوى ذلك ردُّوه أيّاً كان قائله فالحق هو المعظَّم والمقدَّم عندهم "وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وعليه فابن أبي العز لم يخطئ الطحاوي ولم يزيف كلامه كما زعم الكاتب، وإنما ذكر الحق والصواب في أمور قليلة يرى أنَّ الطحاوي أخطأ فيها، وليس هو بالمعصوم فهو بشر يخطئ ويصيب، ومن ذلك تنبيهه على الحق والصواب في تعريف الإيمان، وكذلك تنبيهه على قول الطحاوي: "وأهله في أصله سواء" وغير ذلك في مسائل يسيرة، وهذا عند المصنفين من أهل العلم يعد منقبة لابن أبي العز حيث لم يتعصب لقول إمامه بل تحرَّى الحق وقرر الصواب وإن كان مخالفاً لقول إمامه، وهذا عين العدل والإنصاف. 4 نقل الكاتب ص: 6 عن ملا علي القاري في كتابه شرح الفقه الأكبر (ص172) أنه قال في شارح الطحاوية ابن أبي العز بأنه: "صاحب مذهب باطل، تابع لطائفة من المبتدعة".

قلت: أولاً: لم يقل شارح الفقه الأكبر ملا علي القاري هذا الذي ذكره الكاتب، بل إنني وجدته في شرحه للفقه الأكبر ينقل في مواطن كثيرة عنه، وانظر على سبيل المثال الصفحات التالية (30، 32، 39، 57، 69، 130، 136، 140، 152، 157) من شرح الفقه الأكبر. لكن نظراً لكون ملا علي القاري سار في عقيدته على طريقة الماتريدية في نفي العلو لعلوق شبههم به، فخالف بذلك أهل السنة والجماعة المثبتين لعلو الله على خلقه، ولهم على ذلك مئات الأدلة من الكتاب والسنة والعقل والنظر السليم1 وليس هذا موضع بسطها، أقول: لما خالف القاري أهل السنة في ذلك قال معترضاً على شارح الطحاوية ابن أبي العز ما نصه "والحاصل أنَّ الشارح يقول بعلو المكان مع نفي التشبيه وتبع فيه طائفة من أهل البدعة". قلت: بل تبع في ذلك أهل السنة والجماعة قاطبة. ثم قال القاري بعد هذا بأسطر "… ومن الغريب أنَّه استدل على مذهبه الباطل (أي: في العلو) برفع الأيدي في الدعاء وهو مردود". قلت: بل هو عين الصواب كما لا يخفى على كل صاحب سنة، والباطلُ ما سوى ذلك وهو قول أهل البدع. وعلى كلٍّ فالكاتب لفقَّ من النصين المتقدمين كلاماً نسبه للقاري وهو أنَّه قال عن شارح الطحاوية بأنَّه "صاحب مذهب باطل، تابع لطائفة من

_ 1 انظرها مبسوطة في الحموية لابن تيمية، والعلو لابن قدامة، والعلو للذهبي، واجتماع الجيوش الإسلامية، وغيرها من كتب أهل السنة.

المبتدعة" وجعل الكلام بين قوسين مؤكداً أنَّ الكلام منقول من مصدره بالنص. وبالمقارنة بين ما نقله الكاتب هنا وبين ما ذكر القاري في كتابه شرح الفقه الأكبر يتبين أنَّ الكاتب ملفِّقٌ مزوِّرٌ إذ كلام القاري خاص بمسألة العلو وهو مخطئ في ذلك، والكلام الذي أورده الكاتب عام مطلق، وفرق بين الأمرين كما لا يخفى. ثانياً: ومِمَّا يدلك أنَّ الكاتب محرِّف مزوِّر أنَّه لما احتاج إلى كلام القاري في الرد على ابن أبي العز في مسألة العلو نقل كلام القاري المتقدم نصًّا دون تحريف، وذلك في صفحة 60 من كتابه حيث قال: "وقال الإمام المحدث ملا على القاري في شرح الفقه الأكبر مشنِّعاً على ابن أبي العز هذا شارح الطحاوية ومشوِّهها ما نصه (ص:172) : "والحاصل أنَّ الشارح يقول بعلو المكان مع نفي التشبيه وتبع فيه طائفة من أهل البدع" … الخ اه. فانظره. وقال العلامة القاري أيضاً صحيفة 172: "ومن الغريب أنه استدل على مذهبه الباطل برفع الأيدي في الدعاء إلى السماء" ا. هـ كلام الكاتب. فقارن بين نقل الكاتب هنا، وبين نقله المتقدم، والإحالة في النقلين إلى صفحة واحدة يظهر لك كذب الكاتب وتلفيقه وغشه وتزويره، وقد قيل: "إن كنت كذوباً فكن ذكوراً". ثالثاً: نقول للكاتب إنَّ ملا علي القاري الذي نقلت قدحه في ابن أبي العز هو نفسه يقول بتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام في كتابه الذي نقلت منه نفسه، ففي شرح الفقه الأكبر ص: (9، 10) يقول ملا علي القاري ما نصه: "أقول: فابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقرير توحيد الربوبية المترتب عليه توحيد الألوهية المقتضي من الخلق تحقيق العبودية، وهو ما يجب على العبد أولاً من معرفة الله سبحانه وتعالى، والحاصل

أنَّه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية لقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} 1، وقوله سبحانه وتعالى حكاية عنهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} 2، بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما، فإن القرآن إمَّا خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإمَّا دعوته إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإمَّا أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإمَّا خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في العقبى، فهو جزاء توحيده، وإمَّا خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كلّه في التوحيد وحقوق أهله وثنائهم، وفي شأن ذمِّ الشرك وعقوق أهله وجزائهم، ف {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، {صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّين} الذين فارقوا التوحيد عناداً وجهلاً وإفساداً، وكذا السنة تأتي مبينة ومقررة لما دلَّ عليه القرآن، فلم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان وذوق فلان ووجد فلان في أصول ديننا، ولذا نجد من خالف الكتاب والسنة

_ 1 سورة لقمان، الآية 25. 2 سورة الزمر، الآية 3.

مختلفين مضطربين بل قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} 1، فلا نحتاج في تكمليه إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة ... " ا. هـ. وقول القاري: "بل غالب سور القرآن ... " إلى قوله: " ... الذين فارقوا التوحيد" منقول نصّاً من كتاب مدارج السالكين للإمام العلامة ابن القيم (3/450) وسبق أن نقلت نص كلام ابن القيم بتمامه من المدارج فيما تقدم. وعليه فنقول للكاتب هل ترى أيضاً أن ملا علي القاري "صاحب مذهب باطل تابع لطائفة من المبتدعة"؟! وهل يشمله تنديدك لأنَّه سار على نهج شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم في هذا التقسيم؟!. رابعاً: ولئن قلت جدلاً إنَّ الجميع قد تأثروا بهذه المدرسة (وأنعم بها من مدرسة) فما أنت قائل في الإمام أبي حنيفة وصاحبه القاضي أبي يوسف والإمام أبي جعفر الطحاوي رحمهم الله. وقد نقلت نصوصهم فيما تقدم، وفيها ذكر أقسام التوحيد الثلاثة؟! وجميع هؤلاء من أئمة الحنفيَّة وقد قالوا بالحق ونطقوا بالصواب واعتمدوا في ذلك على الكتاب والسنة ولم يلتفتوا إلى "رأي فلان وذوق فلان ووجد فلان في أصول الدين". فما أنت قائل؟ خامساً: ونقول للكاتب أيضاً إنَّ المتكلمين الذين تعتزي إليهم وتنافح عنهم هم أنفسهم يقسمون التوحيد إلى ثلاثة أقسام. قال شيخ الإسلام: "فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته

_ 1 سورة المائدة، الآية 3.

لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له"1. وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام عنهم موجود في كتبهم، يقول الشهرستاني: "وأمَّا التوحيد فقد قال أهل السنة وجميع الصفاتية: إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته الأزلية لا نظير له، وواحد في أفعاله لا شريك له"2. وتأمل كيف جعل هذه الأمور هي غاية التوحيد، وهذا من طريقة المتكلمين فهم يقررون العقائد الفاسدة والآراء الكاسدة ثم ينسبون ذلك إلى الحق والسنة، فمراده بأهل السنة الأشاعرة، إذ أهل السنة الذين هم أهلها وأحق بها لم يفه أحد منهم بهذا الكلام المذكور. وقال البيجوري وهو من المتكلمين: "ويجب في حقه تعالى الوحدانية في الذات وفي الصفات وفي الأفعال؛ ومعنى الوحدانية في الذات أنها ليست مركبة من أجزاء متعددة، ومعنى الوحدانية في الصفات أنه تعالى ليس له صفتان فأكثر من جنس واحد كقدرتين وهكذا، وليس لغيره صفة تشابه صفته تعالى، ومعنى الوحدانية في الأفعال أنَّه ليس لغيره فعل من الأفعال، وضدها التعدد"3. ثم إنَّ تقسيم هؤلاء المذكور ينطوي على أمور باطلة كثيرة ليس هذا موضع بيانها، لكن منها على سبيل المثال:

_ 1 الفتاوى (3/98) . 2 الملل والنحل (1/42) . 3 رسالة في علم التوحيد "ضمن مجموع مهمات المتون!! " (ص40) .

1 إدخالهم نفي الصفات تحت قولهم "ولا شبيه له في صفاته" فصار عندهم مَن يقول: إنَّ لله علماً وقدرة، أو أنَّه يُرى في الآخرة، أو أنَّ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، أو أنَّ له وجهاً وسمعاً وبصراً وغير ذلك من الصفات، مشبِّهاً ليس بِموحِّد!!. قال ابن عبد البَّر: "ويزعمون أنَّ من أقرَّ بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود"1. 2 إدخالهم تحت قولهم: "هو واحد في ذاته لا قسيم له" نفي علو الله على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد، وغاية هذا التوحيد أنَّه ليس فوق العرش إلهٌ يُعبد ولا ربٌ يُصلى له ويسجد!! 3 إهمالهم في هذا التقسيم لذكر توحيد الألوهية والدعوة إلى إخلاص الدين لله وإفراده وحده بجميع أنواع العبادة، الذي هو زبدة دعوة الرسل وروحها، فهذا النوع من التوحيد لا ذكر له عندهم البتة. 4 أشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الأفعال، وهو أنَّ خالق العالم واحد، ويظنون أنَّ هذا التوحيد المطلوب، ومن المعلوم أنَّ المشركين لو أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم الله به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يأتوا بتوحيد الألوهية هذا مع ما في تقسيمهم من أمور باطلة وعقائد منحرفة فاسدة سبق الإشارة إلى بعضها2.

_ 1 التمهيد (7/145) . 2 وانظرها في الفتاوى لابن تيمية (3/97101) .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود هنا أنَّ "التوحيد" الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون، وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول، فهم مع زعمهم أنهم "الموحدون" ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله؛ بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة؛ وذلك أنَّ توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئاً فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئاً من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد …"1. فنقول للكاتب: هؤلاء من تدافع عنهم قد قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام بلا مستند من الشرع مع ما اشتمل عليه تقسيمهم من أمور باطلة سبق التنبيه على بعضها، فهل تعد تقسيمهم هذا تثليثاً في التوحيد كما عددت تقسيم أهل السنة والجماعة للتوحيد تثليثاً مع أنَّ أهل السنة والجماعة مستندهم في ذلك الشرع، وهؤلاء لا مستند لهم سوى الهوى والعقل؟ وهل يشملهم تنديدك؟ أم أنَّك تنطلق في أحكامك من الهوى المجرد والشنآن والجور. سادساً: نقول لهذا الكاتب إنَّ أساس شبهة منكري تقسيم التوحيد ومنهم هذا الكاتب هي عين شبهة منكري أسماء الله وصفاته كالجهمية وغيرهم، حيث يدَّعون أنَّه يلزم من إثبات الأسماء والصفات تعدد القدماء2،

_ 1 نقض التأسيس (1/478) . 2 انظر في إبطال هذه الشبهة: الفتاوى لابن تيمية (3/23، 24 و 6/109) .

حتى إن جهماً شيخ القوم نقل عنه أنَّه قال: "لو قلت إنَّ لله تسعة وتسعين اسماً لعبدت تسعة وتسعين إلهاً"1. قال ابن القيم رحمه الله في الجواب على هذه الشبهة: "فانظر إلى هذا التدليس والتلبيس الذي يُوهم السامع أنَّهم أثبتوا قدماء مع الله تعالى، إنَّما أثبتوا قديماً واحداً بصفاته، وصفاتُه داخلةٌ في مسمى اسمه، كما أنَّهم إنَّما أثبتوا إلهاً واحداً ولَم يجعلوا كلَّ صفةٍ من صفاته إلهاً، بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته، وهذا بعينه متلقى من عُبَّاد الأصنام المشركين بالله تعالى المُكذِّبين لرسوله حيث قالوا: يدعو محمدٌ إلى إله واحد، ثم يقول: يا الله يا سميع يا بصير، فيدعو آلهةً متعدِّدة، فأنزل الله: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 2، فأيُّ اسمٍ دعوتموه به فإنَّما دَعَوْتُم المُسمَّى بذلك الاسم، فأخبر سبحانه أنَّه إله واحدٌ وإن تعدَّدت أسماؤه الحُسنى المشتقَّة من صفاته، ولهذا كانت حسنى ... "3. وعلى كلٍّ فلا نعلم فرقاً بين قول جهم هذا، وبين قول تلاميذه من الجهمية المعاصرين الذين يزعمون أنَّه يلزم من إثبات الألوهية والربوبية والأسماء والصفات التعدد في التوحيد، فالشبهة واحدة، والتآخي ظاهر. 5 قال الكاتب ص 6: "ولا بد أن نبطل هذا التقسيم للتوحيد في هذه المقدمة الصغيرة المتواضعة باختصار تلخيصاً للبحث الذي تحويه هذه الرسالة التي سنسلك فيها طريقة خير الكلام ما قلَّ ودلَّ فنقول وبالله تعالى التوفيق".

_ 1 انظر: فتح الباري لابن حجر (13/378) . 2 سورة الإسراء، الآية 110. 3 مختصر الصواعق المرسلة (ص:111) .

قلت: بنى الكاتب إنكاره لتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام على أمور أربعة ذكرها في أوائل رسالته تلو كلامه المتقدم1، وكل أمر من هذه الأمور التي ذكر ينم عن جهل الكاتب وقلة علمه وقصور فهمه لنصوص الشرع في أعظم الأمور وأهمها وأجلِّها قدراً وهو توحيد الله. ولئن كان الجهل قد بلغ بالكاتب هذا المبلغ في هذا الباب العظيم والركن المتين الذي لا يجهله صبية المسلمين فكيف الحال به إذن في أمور الدين الأخرى ومسائله العديدة؟! وقد قال أهل العلم: "إنَّما يؤتى الرجل من سوء فهمه أو من سوء قصده أو من كليهما، فإذا اجتمعا كمل نصيبه من الضلال"2. وسوء فهم هذا الرجل ظاهر من كتابه بلا امتراء، وأما سوء قصده فإن ما اشتمل عليه كتابه من الكذب والغش والتدليس والتزوير على أهل العلم وغير ذلك أكبر مؤشرات إلى سوء القصد وأوضح دلالات عليه، والله من وراء كلِّ قائلٍ وقصده. 6 قال الكاتب ص 6: "أولاً: لا يعرف في الشرع إطلاق اسم موحد على من كفر ولو بجزء من العقيدة الإسلامية وذلك بنص الكتاب والسنة، بل لا يجوز أن نقوِّل الشرع ما لم يقل ولم يَرِد، فلا يحل لنا أن نطلق على من كان يقر بوجود الله ويدرك أنَّه هو الإله المستحق للعبادة دون أن يذعن ويدخل في هذا الدين بأنَّه موحد. بل نطلق عليه أنَّه كافر، بدليل قول الله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3.

_ 1 وسيأتي ذكرها والرد عليها. 2 مختصر الصواعق المرسلة (ص:415) . 3 سورة الزمر، الآية 3.

فقد وصفهم الله تعالى بالكذب والكفر، بل وصفهم بصيغة مبالغة وهي (كفَّار) كما تقول: ضارب وضرَّاب. فكيف يقال إنَّهم موحدون توحيد ربوبية والله تعالى وصفهم بالكفر صراحة؟ ‍‍!! ". قلت: لم يصف أحد من أهل العلم من جاء بتوحيد الربوبية بأنَّه موحد هكذا على الإطلاق، وإنَّما يُوصف بالموحد عندهم من جاء بالتوحيد بأقسامه الثلاثة. وإنَّما يأتي في كلام أهل العلم عمن أثبت ربوبية الله وأنَّه وحده الخالق الرازق المالك المدبر لا شريك له ثم لم يفرده بالعبادة بأنَّه مقر بتوحيد الربوبية أو معترف بتوحيد الربوبية أو نحو ذلك، ولا يرون أنَّ هذا ينجيه من عذاب الله أو يخرجه من وصف الكفر. قال شيخ الإسلام: "فأمَّا توحيد الربوبية الذي أقرَّ به الخلق وقرَّره أهل الكلام فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم"1. وقال ابن القيم: "وأمَّا توحيد الربوبية الذي أقرَّ به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك سبحانه في كتابه في عدة مواضع …"2. وقال الصنعاني في مقدمة كتابه تطهير الاعتقاد: "الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد، فلا يتخذون له ندّاً ولا يدعون معه أحداً ولا يتوكلون إلا عليه ... ".

_ 1 الفتاوى (1/23) . 2 إغاثة اللهفان (1/47) .

وقول أهل العلم هذا أعني وصفهم لمن أثبت ربوبية الله وأنَّه الخالق الرزاق ... الخ بأنَّه مقر بتوحيد الربوبية وإن كان مشركاً في العبادة قولٌ مطابق لما جاء في القرآن الكريم. قال الله تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. قال ابن عباس: "أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنَّه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أنَّ الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه"2. وقال قتادة: "أي تعلمون أنَّ الله خلقكم وخلق السموات والأرض ثم تجعلون له أنداداً3". وقال ابن جرير " ... ولكن الله جل ثناؤه قد أخبر في كتابه عنها4 أنَّها كانت تقر بالوحدانية غير أنَّها كانت تشرك في عبادته ما كانت تشرك فيها فقال جلَّ ثناؤه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} 5، وقال: {قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 6"7.

_ 1 سورة البقرة، الآية 22. 2 رواه ابن جرير في تفسيره (1/164) . 3 رواه ابن جرير في تفسيره (1/164) . 4 أي: عن العرب المشركين في الجاهلية. 5 سورة الزخرف، الآية 87. 6 سورة يونس، الآية 31. 7 تفسير ابن جرير (1/164) .

وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} 1. قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: وما يقر أكثر هؤلاء الذين وصف عز وجل صفتهم بقوله: {وَكَأَيِّن مِّنْءَآيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُم عَنْهَا مُّعْرِضُونَ} 2 بالله أنَّه خالقه ورازقه وخالق كل شيء إلا وهم به مشركون في عبادتهم الأوثان والأصنام واتخاذهم من دونه أرباباً وزعمهم أنَّ له ولداً تعالى الله عما يقولون وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ... ". فروى عن ابن عباس أنَّه قال: "من إيمانهم إذا قيل لهم من خلق السماء، ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله وهم مشركون". وعن عكرمة أنَّه قال: "تسألهم من خلقهم ومن خلق السموات والأرض فيقولون الله فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره". وعن مجاهد قال: "إيمانهم قولهم: الله خالقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره". وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: "ليس أحد يعبد مع الله غيره إلا وهو مؤمن بالله ويعرف أنَّ الله ربه، وأنَّ الله خالقه ورازقه وهو يشرك به، ألا ترى كيف قال إبراهيم: {أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 3، قد عرف أنَّهم يعبدون رب العالمين

_ 1 سورة يوسف، الآية 106. 2 سورة يوسف، الآية 105. 3 سورة الشعراء، الآية 76.

مع ما يعبدون، قال: فليس أحد يشرك إلا وهو مؤمن به، ألا ترى كيف كانت العرب تلبي تقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، المشركون كانوا يقولون هذا"1. ومِمَّا يدل على ما ذكره ابن زيد رحمه الله لفظةُ (شريك) في تلبيتهم فالشريك هو المساوي، والمشركون يؤمنون بأنَّ الله هو الخالق الرازق المالك ويعبدونه، ويعبدون معه غيره فهذا شركهم كما في تلبيتهم التي أورد نصها ابن زيد رحمه الله. قال الصنعاني رحمه الله: "ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى"2. قلت: هذا معنى قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} 3 عند أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم، أما الكاتب فقد حرَّف هذه الآية تحريفاً مشيناً وغيَّر معناها المراد حسب هواه وبدعته. فقال ص 35: "وأمَّا معنى قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} ، فمعناه: وما يؤمن أكثرهم بالله في إقرارهم بوجود الخالق عند إقامة الحجة والبرهان عليهم تكذبه قلوبهم ويكذبه واقعهم، فإيمانهم أمامكم عند إقامة الحجة والبرهان على وجود الله تعالى بألسنتهم غير معتبر ولا مقبول عند الله تعالى ... ". قلت: فهذا تحريف سمج وتأويل باطل لهذه الآية الكريمة مخالف لما أجمع عليه المفسرون الذين نقلنا كلام بعضهم قريباً، ترده نصوص كثيرة في كتاب

_ 1 انظر: تفسير ابن جرير الطبري (8/7779) . 2 تطهير الاعتقاد (ص: 31) . 3 سورة يوسف، الآية 106.

الله فيها الإخبار عن اعتراف المشركين بوجود الله وأنَّه الخالق الرازق المدبر وقد تقدم شيء منها، ويرده تفسير الصحابة والتابعين لهذه الآية وقد تقدم. والذي حمل الكاتب إلى تأويل هذه الآية هذا التأويل الباطل، هو اعتقاده أنَّ المشركين لم يكونوا يقرون بوجود الله أصلاً، وقد صرح الكاتب بذلك في مواضع من كتابه، ومن ذلك قوله ص 33: "لأنهم [أي المشركون] ما كانوا يقرون بوجود الخالق خلافاً لمن زعم أنَّهم كانوا موحدين توحيد ربوبية ... ". وحسبك بمثل هذا الكلام دلالة على إغراق الرجل في العمى والجهل، إذ الكتاب العزيز مليء بالنصوص الدالة على اعتراف المشركين بربوبية الله وإيمانهم بها وأنَّه الخالق الرازق المدبر، فكيف بوجوده، ومع ذلك يقرر الكاتب هذا التقرير الفاسد. وقد أورد ابن القيم رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1، أنَّه قال: "يريد عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقرّوا بنعمتي وربوبيتي"2. ومن أمثلة اعتراف المشركين بربوبية الله غير ما تقدم: قول زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة: فلا تكتمنَّ الله ما في نفوسكم ... ليخفى فمهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم حساب أو يعجل فينقم

_ 1 سورة الأنعام، الآية 1. 2 إغاثة اللهفان لابن القيم (2/226) .

قال ابن كثير وقد أورد هذين البيتين: "فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة"1. قال ابن جرير: "وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها وقال سلامة بن جندل الطهوي: عجلتم علينا عجلتينا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق"2. والشواهد على هذا كثيرة، ومع ذلك فهم مشركون لأنهم يعبدون مع الله غيره. ويقول الكاتب ص 10 في إنكار اعتراف المشركين بوجود الله: "بل بلغ من كفرهم ما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز إذ قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} 3، فهل هؤلاء يقولون بوجود الرحمن الرحيم؟!! ". قلت: وهذا الكاتب يكتب حسب هواه دون رجوع إلى كلام أهل العلم أو استفادة من تفسيرهم وهذا من أسباب ضلاله وانحرافه. يقول ابن جرير في تفسيره: "وقد زعم بعض أهل الغبا أنَّ العرب كانت لا تعرف الرحمن، ولم يكن ذلك في لغتها، ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم وما

_ 1 تفسير ابن كثير (4/238) . 2 تفسير ابن جرير (1/58) . 3 سورة الفرقان، الآية 60.

الرحمن، أنسجد لما تأمرنا؟ إنكاراً منهم لهذا الاسم، كأنَّه كان محالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته أو كأنَّه لم يتل من كتاب قول {الذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} يعني محمداً، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} 1، وهم مع ذلك به مكذبون ولنبوته جاحدون فيعلم بذلك أنَّهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته ... "2، ثم أورد البيتين السابقين. وقال ابن كثير: "وقد زعم بعضهم أنَّ العرب لا تعرف الرحمن حتى ردَّ الله عليهم ذلك بقوله: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى} 3، ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: اكتب: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فقالوا: "لا نعرف الرحمن ولا الرحيم"، رواه البخاري، وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} 4. والظاهر أنَّ إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنَّه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن…"5. قلت: والكاتب ليس ينكر معرفة المشركين ب "الرحمن" فيكون من

_ 1 سورة البقرة، الآية 146. 2 تفسير ابن جرير (1/57، 58) . 3 سورة الإسراء، الآية 110. 4 سورة الفرقان، الآية 60. 5 تفسير ابن كثير (1/36) .

أولئك الذين وصفهم ابن جرير بالغباء، وإنَّما ينكر ما هو أعظم من ذلك وهو اعترافهم بوجود الله أصلاً فكذب القرآن والواقع، ولست أدري إذاً بما يوصف. 7 قال الكاتب ص 7: "ثانياً: هؤلاء الكفار الذي كانوا يقولون فيما وصفهم الله تعالى بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} 1 والذين يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} 2، ما كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وما كانوا يقرون بوجود الله، ولذلك أدلة سأوردها الآن إن شاء الله تعالى، وإنما قالوا ذلك عند محاججة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته إياهم التي تثبت وجود الله تعالى وتبطل إلهية ما يعبدون من دونه ... ". قلت: هذه مكابرة من الكاتب، ودعوى لا خطام لها ولا زمام، وقد ذكرت فيما سبق من الأدلة وأقوال أهل العلم ما يكفي في بيان كذب دعواه، لكن أذكر هنا تفسير أهل العلم للآيتين اللتين ذكرهما الكاتب آنفاً، ثم تعسف في فهمهما فقال: "إنما قالوا ذلك عند محاججة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته إياهم ... "، أي: أنَّهم لا يعترفون بوجود الله وإنَّما قالوا ذلك محاججة ومجادلة!!. يقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 3 الآيات: "يقول تعالى مقرراً أنَّه لا إله إلا هو، لأنَّ المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون أنَّه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير

_ 1 سورة لقمان، الآية 25. 2 سورة الزمر، الآية 3. 3 سورة العنكبوت، الآية 61.

الليل والنهار، وأنَّه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم ففاوت بينهم فمنهم الغني والفقير، وهو العليم بما يصلح كلا منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر. فذكر أنَّه المستبد بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها. فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنَّه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} 2، وقال: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ} إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 3، وما اعتقد أحد منهم قط أنَّ الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبره، وإنَّما كان شركهم كما ذكرنا اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله"4. وقال المقريزي: "ولا ريب أنَّ توحيد الربوبية لم ينكره المشركون بل أقروا بأنَّه سبحانه وحده خالقهم وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنَّما أنكروا توحيد الإلهية والمحبة"5.

_ 1 تفسير ابن كثير (6/301) . وانظر أيضاً تفسيره (7/91) . 2 سورة لقمان، الآية 25. 3 سورة المؤمنون، الآيات 84 89. 4 الفتاوى (1/9192) . 5 تجريد التوحيد المفيد (ص 8) .

وقال الإمام الصنعاني: "الأصل الرابع: أنَّ المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أنَّ الله خالقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} 1، وأنَّه هو الذي خلق السموات والأرض {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} 2، وأنَّه الرزاق الذي يخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، وأنَّه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنَّه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة {قُلْ مَن يَّرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَّمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُّخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُّدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 3، {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 4 ... "5. فهذا بعض كلام أهل العلم في معنى قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} ونحوها من الآيات، وفيه أبلغ رد على الكاتب في دعواه أنَّهم إنَّما ذكروا ذلك على سبيل المحاججة. وأما قوله تعالى: {وَالذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ

_ 1 سورة الزخرف، الآية 87. 2 سورة الزخرف، الآية 9. 3 سورة يونس، الآية 31. 4 سورة المؤمنون، الآيات 84 89. 5 تطهير الاعتقاد (ص 32) .

لِيُقَرِّبُونَا إِلَي اللهِ زُلْفَى} 1، فيقول ابن كثير في معنى هذه الآية: "ثم أخبر تعالى عن عبَّاد الأصنام من المشركين أنَّهم يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ، أي: إنَّما يحملهم على عبادتهم لهم أنَّهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم، فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأمَّا المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به، قال قتادة والسديّ ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد: {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ، أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة. ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملك وما ملك" 2. قلت: ففي هذا أبلغ ردٍّ على الكاتب في دعواه أنَّ المشركين لم يكونوا مقرين بأنَّ الخالق الرازق هو الله. ثم إنَّه لم يذكر دليلاً على دعواه هذه إلا قوله: " ... ولو كانوا مقرين بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض وما فيهنَّ لما ذكر لهم تلك الآيات الآمرة بالتفكر في الإبل كيف خلقت وفي الجبال كيف نصبت وفي الأرض كيف سطحت وفي السماء كيف رفعت". قلت: وجواب هذا أنَّ المقصود بذلك هو التفكر الحامل على إفراده بالعبادة لا على إثبات الخالق لأنَّ هذا معلوم لهم ولأنَّه لا يكفي، وقد تقدم في كلام ابن كثير رحمه الله قوله: "فإذا كان الأمر كذلك [أي: أن الله الخالق

_ 1 سورة الزمر، الآية 3. 2 تفسير ابن كثير (7/75) .

الرازق المدبر] فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنَّه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية" وهو كثير في القرآن كما ذكر ابن كثير رحمه الله، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 1، وقوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، أي: فلا تجعلوا شركاء مع الله في العبادة وأنتم تعلمون أنَّه لا خالق لكم غير الله، وقد مضى تفسير ابن عباس وغيره للآية بهذا. فتذكير الله في القرآن بآياته وأمره بتدبرها له دلالته، إذ هذا النظر والتدبر مستلزم إفراده بالعبادة وإخلاص الدين له لمن عقل، فكما أنَّه لا شريك له في الملك والخلق وهذا متقرر عند كل أحد إلا من شاء الله فكذلك لا شريك له في الطاعة والعبادة. قال شيخ الإسلام: " ... ولهذا إنما بُعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية، وقد أخبر عنهم أنَّهم {لَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} 3، وأنَّهم إذا مسَّهم الضر ضلَّ من يدعون إلا إيَّاه، وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَل دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4، فأخبر أنَّهم مقرون بربوبيته وأنَّهم مخلصون له الدين

_ 1 سورة الأنبياء، الآية 92. 2 سورة البقرة، الآيتان 21، 22. 3 سورة الزخرف، الآية 87. 4 سورة لقمان، الآية 32.

إذا مسَّهم الضر، في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم ... "1. ثم قال الكاتب بعد كلامه المتقدم: "فقولهم عند سؤال النبي لهم وقت إلزامهم الحجة في المناظرة: من خلق السموات والأرض؟! فيقولن الله، وقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ما هو إلا كذبٌ وكفرٌ بنص القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى في آخر الآية {إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2 كما قال سبحانه: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} 3 ... ". قلت: وهذا خلط عجيب وجهل مركَّب؛ إذ عدَّ اعتراف المشركين بوجود الله نوعاً من الكفر بينما هو من التوحيد الواجب، وقد سَمَّاه الله إيماناً فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ باللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 4، لكن لم يك ينفعهم ولم يخرجهم من وصف الكفر لكونهم عبدوا مع الله غيره لهذا يقول شيخ الإسلام: " ... فلا ريب أنَّه [أي: اعتراف المشركين بأنَّ الخالق الله] من التوحيد الواجب، وهو الإقرار بأنَّ خالق العالم واحد، لكنه هو بعض الواجب، وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد، بل المشركون الذين سماهم الله ورسوله مشركين، وأخبرت الرسل أنَّ الله لا يغفر لهم، كانوا مقرين بأنَّ الله خالق كلِّ شيء فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه، فإنَّه يُعرف به التوحيد الذي هو رأس الدين وأصله"5.

_ 1 الفتاوى (14/14، 15) . 2 سورة الزمر، الآية 3. 3 سورة التوبة، الآية 8. 4 سورة يوسف، الآية 106. 5 درء تعارض العقل والنقل (9/378) .

فاعتراف المشركين بأنَّ الله الخالق الرازق المدبر كلّ ذلك من الإيمان المأمور به شرعاً إلا أنَّه لا ينفعهم ما لم يأتوا معه بلازمه توحيد الإلهية، ولذا وصفوا في القرآن والسنة بأنَّهم كفَّار مشركون فوصفهم بالكفر في القرآن ليس لإقرارهم بربوبية الله كما فهم الكاتب وإنَّما هو لشركهم في عبادة الله وعدم إخلاصهم الدين له، "مع أنَّ الشرك في الربوبية لازم لهم في جهة إشراكهم في الإلهية وكذا في الأسماء والصفات، إذ أنواع التوحيد متلازمة لا ينفك نوع منها عن الآخر، وهكذا أضدادها فمن ضاد نوعاً من أنواع التوحيد بشيء من الشرك فقد أشرك في الباقي، مثال ذلك في هذا الزمن عبَّاد القبور إذا قال أحدهم: يا شيخ فلان لذلك المقبور أغثني أو افعل لي كذا ونحو ذلك يناديه من مسافة بعيدة وهو مع ذلك تحت التراب وقد صار تراباً. فدعاؤه إيَّاه عبادة صرفها له من دون الله لأنَّ الدعاء مخ العبادة، فهذا شرك في الإلهية، وسؤاله إياه تلك الحاجة من جلب خير أو دفع ضر أو رد غائب أو شفاء مريض أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله معتقداً أنَّه قادر على ذلك هذا شرك في الربوبية حيث اعتقد أنَّه متصرف مع الله تعالى في ملكوته. ثم إنَّه لم يدعه هذا الدعاء إلا مع اعتقاده أنَّه يسمعه على البعد والقرب في أيّ وقت كان وفي أيّ مكان ويصرحون بذلك، وهذا شرك في الأسماء والصفات حيث أثبت له سمعاً محيطاً بجميع المسموعات لا يحجبه قرب ولا بعد، فاستلزم هذا الشرك في الإلهية الشرك في الربوبية والأسماء والصفات"1. ثمَّ إنَّ الكاتب بل والمتكلمين عموماً لا يولون توحيد الإلهية الذي أنكره المشركون أيّ اهتمام، وإن تكلموا فيه تكلموا بجهل، وأدخلوا فيه ما هو نقيضه وضده.

_ 1 معارج القبول للشيح حافظ حكمي (1/435) .

وعلى سبيل المثال يقول الكاتب ص25: "وأمَّا الدعاء فليس جميعه عبادة إلا إذا دعونا من نعتقد فيه صفات الربوبية أو صفة واحد منها". ويقول ص 26: "وإنما يكون الدعاء عبادة إذا كان لله أو لمن يعتقد الداعي أن للمدعوّ صفة من صفات الربوبية". ويقول ص 27: "فاتضح أنَّ مجرد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرجاء أو التوسل أو التذلل لا يسمى عبادة". ويقول ص 28: "وملخص ما مرَّ أنَّ العبادة في اللغة هي مطلق الطاعة والخضوع لأيّ أحد كان بخلاف العبادة في اصطلاح الشرع فهي غاية التذلل والخضوع لمن يعتقد الخاضع له بعض صفات الربوبية، فإذا فهمت ذلك علمت يقيناً أنَّ من أطاع أحداً وخضع له لا لاعتقاده أنَّ له بعض صفات الربوبية لا يسمى عابداً له شرعاً ... ". وعلى هذا النهج ذكر أموراً كثيرة. ومن يوازن بين أقوال الكاتب هذه وبين قول الخميني داعية الرفض في كتابه "كشف الأسرار" (ص:49) حيث قال: "وبعد أن تبين أنَّ الشرك هو طلب الشيء من غير رب العالمين على أساس كونه إلهاً فإنَّ ما دون ذلك ليس بالشرك، ولا فرق في ذلك بين حيٍّ وميِّت، فطلب الحاجة من الحجر أو الصخر ليس شركاً ... " يجد أنَّ القولين كما قال الشاعر: رضيعي لبان ثدي أمٍّ تقاسما ... بأسحم داج عوض لا نتفرق وأقول: يالله للعجب لا يكون صرف العبادة لغير الله شركاً حتى يعتقد العابد فيمن عبده أنَّ له شيئاً من صفات الربوبية، وأمَّا من دعا غير الله أو استغاث بغير الله أو استعان بغير الله أو رجا غير الله أو خاف غير الله من قبر أو

شجر أو حجر فإنَّ ذلك لا يكون شركاً ما لم يعتقد العابد فيها أنَّ لها شيئاً من صفات الربوبية، وعلى هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله ندّاً دخل النَّار" ينقصه هذا القيد "وهو أن يعتقد في المدعو شيئاً من صفات الربوبية"!!. وهل أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم لم يفطنوا لهذا القيد ولا عرفوه حتى جاء هذا الكاتب وأمثاله في القرن الرابع عشر فنبهوا عليه "لقد جئتم ببدعة ظلماً، أو فقتم أصحاب محمد علماً"! فسبحان الله هدى من شاء إلى الحق بفضله وخذل من شاء من الخلق بعدله، له الحكمة البالغة. وعلى كلٍّ فهذه الدعوى التي ادَّعاها الكاتب وانتصر لها هي دعوى كاذبة مناقضة لأصول الدين ومخالفة لأسسه وقواعده، ومضادة لأدلة الكتاب والسنَّة؛ فإنَّ نصوص القرآن الكريم المشتملة على الدعوة إلى إخلاص الدين لله وإفراده وحده بجميع أنواع العبادة وهي كثيرة جداً فيها أبلغ رد على الكاتب في دعواه المتقدمة. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُّحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} 1. ففي هذه الآية "يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا أنداداً، أي: أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضدَّ له ولا ندَّ له، ولا شريك معه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أيّ الذنب

_ 1 سورة البقرة، الآية 165.

أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك ". وقوله: {وَالذِينَءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجأون في جميع أمورهم إليه"1. فالعبادة بأنواعها حقٌّ خالصٌ لله لا يجوز صرفها لغيره سواء اعتقد العابدُ في معبوده أنَّه ربٌّ أو لم يعتقد، وهذا أمرٌ معلومٌ من الدين بالضرورة. قال شيخ الإسلام: "فإنَّ المسلمين متفقون على ما علموه بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ العبد لا يجوز أن يعبد ولا يدعو ولايستغيث ولا يتوكل إلا على الله، وأنَّ من عبد ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو دعاه أو استغاث به فهو مشرك، فلا يجوز عند أحد من المسلمين أن يقول القائل يا جبرائيل أو يا ميكائيل أو يا إبراهيم أو يا موسى أو يا رسول الله اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو انصرني أو أغثني أو أجرني من عدوي أو نحو ذلك، بل هذا كله من خصائص الإلهية وهذه مسألة شريفة معروفة قد بينها العلماء ... "2. وأمَّا القيد الذي وضعه الكاتب فلا أصل له ولا أساس، فإنَّ المشركين زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعتقدون في آلهتهم أنَّها تخلق أو ترزق أو تحيي أو تميت أو تدبر الأمر، بل كانوا يعتقدون أنَّ ذلك من خصائص الله كما سبق إيراد النصوص بذلك، وإنَّما كان شركهم في دعوتها وعبادتها من دون الله بحجة أنَّها تقربهم إلى الله زلفى. قال شيخ الإسلام: "وكانوا [أي: المشركون] معترفين بأنَّ آلهتهم لم

_ 1 تفسير ابن كثير (1/291) . 2 الفتاوى (3/272) .

تشارك الله في خلق السماوات والأرض، ولا خلق شيء، بل كانوا يتخذونهم شفعاء ووسائط. كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلآءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} 1 ... "2، وذكر نصوصاً أخرى. يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله في إبطال هذه الشبهة: "والشرك جعل شريكٍ لله تعالى فيما يستحقه، ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب، والخضوع، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والنسك، والطاعة، ونحو ذلك من العبادات. فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك فهو مشرك بربه قد عدل به سواه وجعل له ندّاً من خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية، أو استقلالاً بشيء منها. والعجب كل العجب أنَّ مثل هؤلاء يقرؤون كتاب الله، ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئاً من قواعد العربية، وهم في هذا الباب من أضلِّ خلق الله وأبعدهم عن فهم وحيه وتنزيله"3. وبهذا يعلم فساد قول الكاتب، وأنَّه فتحٌ لباب الشرك على مصراعيه عياذاً بالله من سخطه وأليم عقابه. ولست هنا بصدد جمع النصوص الواردة في الكتاب والسنة، المبطلة للشرك بجميع أنواعه، سواءً في الدعاء أو في غيره، وليس في شيء منها ذكرٌ لهذا القيد الذي أورده الكاتب، لكن لا بأس من إيراد دليل واحد منها وصفه بعض

_ 1 سورة يونس، الآية 18. 2 الفتاوى (7/79) . 3 تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جريس (ص:59) .

محققي أهل العلم بأنَّ فيه قطعاً لشجرة الشرك من عروقها، ألا وهو قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1، ففي هذا النص الكريم اجتثاث لشجرة الشرك، وقطع لها من أصولها، وإبطال لكل أساس يتعلق به من يدعون غير الله، إذ من يدعو غير الله أياً كان هذا الغير سواء كان ملَكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو وليّاً، أو شجراً، أو حجراً، أو غير ذلك مطالَبٌ أن يثبت فيمن يدعوه أحد أمور أربعة فإن أثبتها أو شيئاً منها وهيهات حُقَّ له دعاؤه، وإلا فدعاؤه باطل وضلال، وهي شروط مهمة لا بدَّ من توفرها في المدعو حتى يقدر على إجابة من دعاه: الأول: الملك، فنفاه الله بقوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} . الثاني: إذا لم يكن مالكاً فيكون شريكاً للمالك، فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} . الثالث: إذا لم يكن مالكاً ولا شريكاً للمالك، فيكون عوناً ووزيراً له، فنفاه بقوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} . الرابع: إذا لم يكن مالكاً ولا شريكاً للمالك ولا عوناً، فيكون شفيعاً، فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع2.

_ 1 سورة سبأ، الآيتان 22،23. 2 انظر: تيسير العزيز الحميد (ص: 290) .

فبِنَفْيِ هذه الأمور بطلت دعوة غير الله، وقد نفيت نفياً مرتباً من الأعلى إلى ما دونه، وهي عامة في كلّ المدعوين من دون الله كما هو ظاهر من السياق الكريم، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولكن يأبى دعاة الباطل وأنصار الضلال إلا الصدود عن الحق المبين إلى شبهات ما أنزل الله بها من سلطان، لا ينشأ عنها إلا الهضم لحق الربوبية، والتنقص لعظمة الألوهية، وسوء الظنّ بخالق هذه الأكوان. 8 قال الكاتب ص9: "ثالثاً: أنَّ أولئك الكفار اشتهر عنهم أنَّهم كانوا يعبدون الأصنام ويحجون لها ويتقربون إليها {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِءَالِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} 1، {أَفَرَءَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} 2، بل واشتهر عنهم أنَّهم كانوا يقولون: ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر، قال الله تعالى مخبراً لنا عنهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 3. بل قال للنبي صلى الله عليه وسلم أحدهم {مَن يُّحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 4، فردَّ الله عليه: {قُلْ يُحْيِيهَا الذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 5، فهل يجوز لنا بعد هذا أن نصف من لا يقر بأنَّ الله خالق ومحيي بأنَّه موحد توحيد ربوبية، والله تعالى يقول عنه: {إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 6! ... ".

_ 1 سورة يس، الآية 74. 2 سورة النجم، الآيتان 19، 20. 3 سورة الجاثية، الآية 24. 4 سورة يس، الآية 78. 5 سورة يس، الآية 79. 6 سورة الزمر، الآية 3.

قلت: واشتهر عنهم أيضاً أنَّهم يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ، وقد سبق بيان تفسير هذه الآية بنقل كلام أهل العلم فيها حيث قال ابن كثير: "فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمر الدنيا، فأمَّا المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به". وسبق ذكر نصوص كثيرة من القرآن فيها دلالة على اعترافهم بأنَّ الخالق الرازق المدبر هو الله، وسبق ذكر تلبيتهم في الحج، وشيء من أشعارهم الدالة على اعترافهم بوجود الله. وأمَّا البعث والمعاد فكان أكثرهم منكرين له غير مؤمنين به، وذِكْرُ هذا والرد عليهم فيه جاء في مواطن كثيرة من القرآن الكريم، لكنْ فرقٌ بين إنكارهم البعث والمعاد وبين إنكار وجود الله وأنَّه الخالق الرازق، فالأول ينكره المشركون، ولا يؤمنون به كما هو صريح نص القرآن الكريم، والثاني يؤمن به المشركون ولا ينكرونه كما هو صريح نص القرآن الكريم، والأدلة على هذا كثيرة وقد تقدم شيء منها، وقد تقدم في كلام ابن كثير رحمه الله جمعه بين الأمرين: إثبات أنَّ المشركين يعترفون بوجود الله وأنَّه الخالق الرازق مع إثبات إنكارهم البعث والمعاد. وعلى هذا فالاستدلال بالنصوص المثبتة لإنكار المشركين للبعث والمعاد على أنَّهم ينكرون وجود الخالق الرازق خلطٌ بيِّنٌ، وغلطٌ ظاهرٌ، إذ لا تلازم بين إنكار البعث وإنكار الربوبية. ثم هنا أمر لا بد من تقريره وإيضاحه وهو أنَّ قول أهل العلم عن المشركين بأنَّهم يعترفون بتوحيد الربوبية ليس المراد به أنَّهم اعترفوا بهذا القسم من التوحيد على التمام والكمال، فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم، وإنَّما

مرادهم تقرير ما ثبت في القرآن عن المشركين من اعترافهم بالخالق الرازق المدبر لشئون الخلق، فهذا من صفات الربوبية وخصائصها وقد آمن واعترف به المشركون، ثم هذا أيضاً ليس حكماً عاماً مطرداً على جميع المشركين إذ منهم من وجد عنده حتى الشرك في الربوبية، ومنهم من آمن ببعض خصائص الربوبية دون بعض، ومنهم من كان يؤمن إضافة إلى إيمانه بوجود الله الخالق الرازق بالمعاد وبعث الأبدان والحساب، كما قال زهير: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم حساب أو يعجل فينقم وبعضهم يؤمن إضافة إلى إيمانه بوجود الله الخالق الرازق بالقدر كما قال عنترة: يا عبل أين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها ولهذا يقول المقريزي: " ... فأبان سبحانه بذلك أنَّ المشركين إنَّما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهية لا توحيد الربوبية، على أنَّ منهم من أشرك في الربوبية كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله"1. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود أنَّ كثيراً من أهل الشرك والضلال قد يضيف وجود بعض الممكنات أو حدوث بعض الحوادث إلى غير الله، وكل من قال هذا لزمه حدوث الحادث بلا سبب، وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكاً مساوياً له في أفعاله ولا في صفاته"2.

_ 1 تجريد التوحيد المفيد (ص9) . 2 درء تعارض العقل والنقل (9/347) .

ثم أيضاً فإنَّ إيمان المشركين بربوبية الله لو كان كاملاً تامّاً فإنَّه لا ينفعهم ما لم يفردوا الله بالعبادة ويخلصوا الدين له ويذروا ما هم عليه من عبادة الأوثان، ولهذا فهم لا يخرجون بهذا الإيمان [أعني: الإيمان بربوبية الله] عن وصف الكفر والشرك ما لم يوحدوا الله بالعبادة. قال شيخ الإسلام: "ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً لم يكونوا يخالفونه في هذا [أي: توحيد الربوبية] ، بل كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون"1. وقال أيضاً: "ومعلوم أن هذا2 هو تحقيق ما أقرَّ به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد [أي: توحيد الربوبية] مسلماً فضلاً عن أن يكون وليّاً لله، أو من سادات الأولياء"3. ثم قال الكاتب ص10: "ولو كانوا يقرون أن الله الخالق لما قال الله لهم {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَي بَعْضٍ} 4، وعبَّر بالإله أيضاً ولم يعبِّر بالرب إشارة إلى أنَّهم لا يوحدون لا الرب ولا الإله، ولأنَّ الرب هو الإله، والإله هو الرب". وكرر هذا ص 31 فقال: "فاتضح أنَّ الإله هو الرب، والرب هو الإله، ولا فرق". وقد عمد إلى هذا ليثبت أنَّه لا فرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية.

_ 1 الفتاوى (3/98) . 2 الإشارة هنا إلى توحيد الربوبية الذي هو غاية التوحيد عند المتكلمين. 3 الفتاوى (3/102) . 4 سورة المؤمنون، الآية 91.

وقبل الرد عليه في هذا لا بد من تقرير قاعدة لإزالة لبس قد يقع وهي: أنَّ أسماء الله أعلامٌ وأوصافٌ1، فهي باعتبار دلالتها على الذات أعلامٌ، وباعتبار دلالتها على المعاني أوصافٌ، وهي بالاعتبار الأول مترادفةٌ؛ لدلالتها على مسمّى واحد وهو الله عز وجل، وبالاعتبار الثاني متباينةٌ؛ لدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فالرب الخالق العليم السميع البصير الأحد الصمد كلها أسماءٌ لمسمّى واحدٍ وهو الله سبحانه وتعالى، لكن معنى الرب غير معنى السميع، ومعنى السميع غير معنى البصير، ومعنى البصير غير معنى الأحد، وهذا أمرٌ ظاهرٌ لا خفاء فيه، وهو خلاف قول المعتزلة القائلين بأنَّ أسماء الله أعلامٌ محضةٌ لا تدل على معانٍ. والكاتب حيث قال: "الإله هو الرب، والرب هو الإله" لم يقصد بهذا الترادف من حيث دلالةُ الاسمين على مسمّى واحدٍ وهو الله، وإنَّما قصد بقوله: "الإله هو الرب" أي: بمعنى الربّ، "والرب هو الإله" أي: بمعنى الإله كما هو ظاهر من سياقه. ولا ريب أنَّ هذا جهلٌ مركبٌ إذ لم يميز بين معنى الإله ومعنى الرب، ولم يعنِّ نفسه بمطالعة كتب اللغة وكلام أهل العلم ليظهر له الفرق، وإنَّما كتب ما كتب من بنات رأسه ونسج خياله، وإلا فكُتب اللغة مطبقةٌ على أنَّ الرب بمعنى المالك الذي له الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وأمَّا الإله فهو المعبود، من التأله وهو التعبد. فالرب هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها.

_ 1 انظر: بدائع الفوائد لابن القيم (1/162) ، والقواعد المثلى للشيخ محمد العثيمين حفظه الله (ص:8، 9) .

والإله هو الذي يؤله فيعبد محبةً وإنابةً وإجلالاً وإكراماً، والرب إذا ذكر وحده دخل فيه الإله، والإله إذا أفرد دخل فيه الرب، وإذا اجتمعا افترقا فصار لكل منهما معنى خاصٌ، وإذا افترقا اجتمعا. قال شيخ الإسلام: "المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية، وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية، والربوبية تستلزم الإلهية، فإنَّ أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص بمعناه عند الاقتران كما في قوله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} ، وفي قوله: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالِمِينَ} ، فجمع بين الاسمين اسم الإله واسم الرب فإنَّ الإله هو المعبود الذي يستحق أن يعبد، والرب هو الذي يربي عبده فيدبره. ولهذا كانت العبادة متعلقةً باسمه الله، والسؤال متعلقاً باسمه الرب، فإنَّ العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق، والإلهية هي الغاية، والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم، والمصلي إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية، فالعبادة غاية مقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، تلك حكمة وهذا سبب"1. وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فاعلم أنَّ الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان؛ كما في قوله: {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} ، وكما يقال رب العالمين، وإله المرسلين، وعند الإفراد يجتمعان،

_ 1 الفتاوى (10/283،284) .

كما في قول القائل: من ربك. مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ} 1، ونوع واحد في قوله: "افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم"، إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك؟ معناه من إلهك؛ لأنَّ الربوبية التي أقرَّ بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: {الذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَّقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} 2، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً} 3، وقوله: {إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 4 فالربوبية في هذا هي الألوهية، ليست قسيمةً لها كما تكون قسيمةً لها عند الاقتران، فينبغي التفطن لهذه المسألة"5. ثم قال الكاتب ص31 عقب كلامه السابق: "وبالجملة فقد أومأ القرآن الكريم والسنة المستفيضة إلى تلازم توحيد الربوبية والألوهية، وإنَّ ذلك مما قرره رب العالمين، واكتفى سبحانه من عباده بأحدهما عن صاحبه لوجود هذا التلازم، وكذلك اكتفى به الملائكة المقربون عند السؤال، وفهم الناس هذا التلازم حتى الفراعنة الكافرون بداهة، ولم يقل أحد من السلف ولا من الصحابة ولا من التابعين بالفرق وأنَّ هناك توحيد ألوهية يغاير توحيد الربوبية ولم ينقل ذلك التفريق عن واحد منهم فضلاً عن نقله من الكتاب

_ 1 سورة التوبة، الآية 60. 2 سورة الحج، الآية 40. 3 سورة الأنعام، الآية 164. 4 سورة فصلت، الآية 30، والأحقاف، الآية 13. 5 الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/72، 73) . وانظر كتاب عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي للشيخ صالح العبود، الفصل الثالث من الباب الأول "عقيدة الشيخ في التوحيد" (ص:295 وما بعدها) .

أو السنة، حتى ابتدع وتكلم بذلك بعض أهل القرن الثامن الهجري، ولا عبرة بذلك قطعاً فما هذا الهذيان بهذا التقسيم الذي يفتريه أولئك المبتدعة الخراصون!! ... ". قلت: قوله بالتلازم بين الاسمين معناه اعترافه أنَّهما ليسا شيئاً واحداً فقد تناقض في كلامه؛ لأنَّه يقرر كما سبق أنَّ توحيد الربوبية هو توحيد الألوهية، وفي الوقت نفسه يقرر أنَّهما متلازمان، والتلازم لا يقال بين الشيء ونفسه، وإنَّما يقال بين الشيء وغيره، وعلى كلٍّ فقد سبق أن رددت عليه في غلطه وجهله هذا بما يكفي من الأدلة وأقوال أهل العلم أهل السنة والجماعة، لكن أسأل الكاتب هنا من هم المبتدعة الخراصون الذين يهذون بهذا التقسيم؟ أهم الإمامُ أبو حنيفة، والقاضي أبو يوسف، والطحاوي، وابن جرير الطبري، وابن بطة، وابن مندة، وأبو إسماعيل التيمي، وابن حبان، وابن أبي زيد القيرواني، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، والذهبي، والصنعاني، والشوكاني، والمقريزي، وابن أبي العز، ومحمد بن عبد الوهاب، وجميع تلاميذهم، وملا علي القاري؟! فجميع هؤلاء وغيرهم من أهل العلم قائلون بهذا التقسيم، وهو صريح كتاب الله كما أسلفنا، وهو قول أهل السنة والجماعة قاطبة، فمن أهل الهذيان الذين يهرفون بما لا يعرفون المبتدعة الخراصون؟! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم. 9 قال الكاتب ص10: "رابعاً: ابن تيمية الذي اخترع تقسيم التوحيد إلى ألوهية وربوبية يقول: إنَّ المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية وأنَّ المسلمين الذين يخالفونه في آرائه كذلك وحدوا ربوبية ولم يوحدوا ألوهية، فهو يكفرهم بذلك، وهذا مراده من التقسيم".

وقال قبل هذا ص 6: "والهدف من هذا التقسيم عند من قال به هو تشبيه المؤمنين الذين لا يسيرون على منهج المتمسلفين بالكفار، بل تكفيرهم بدعوى أنَّهم وحدوا توحيد ربوبية كسائر الكفار، ولم يوحّدوا توحيد ألوهية، وهو توحيد العبادة بزعمهم، وبذلك كفَّروا المتوسلين بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو بالأولياء وكفَّروا أيضاً كثيراً ممن يخالفهم في أمور كثيرة يرون الصواب أو الحق على خلافها، وكل ذلك سببه ذلك الحراني". قلت: قد ذكرت فيما سبق ما يدل على كذب الكاتب في دعواه أنَّ هذا التقسيم من اختراع شيخ الإسلام ابن تيمية، ونقلت بعض النقول عن أهل العلم من أهل السنة والجماعة الدالة على أنَّ هذا القول هو قول أهل السنة والجماعة قبل ابن تيمية وبعده وفي زمانه، وذكرت من الأدلة على صحة هذا التقسيم ما يكفي ولله الحمد. وأمَّا رمي الكاتب لشيخ الإسلام ابن تيمية بأنَّه يكفِّر المسلمين فهذا ناتج عن حقده على شيخ الإسلام ابن تيمية، ولهذا تجده يتباكى لتسميته بشيخ الإسلام، ويظهر الضجر من ذلك، بل ويدعو النائم ليستيقظ وأولي البصر أن يتدبر في هذه "العظيمة"!!. فيقول ص 20: "حيثما ذكر [أي: الشيخ الدويش] ابن تيمية وصفه بشيخ الإسلام دون باقي العلماء، فليتدبر أولو الأبصار وليستيقظ النائمون"!! مع أنَّ هذا كذب على الشيخ الدويش رحمه الله، ففي كتابه المورد الزلال الذي يعنيه الكاتب قد ذكر غير ابن تيمية بوصف شيخ الإسلام وبوصف الإمام، وبوصف إمام الأئمة، في مواضع عديدة كما يعلم ذلك من قرأ كتابه كاملاً. وعلى كلٍّ فابن تيمية رحمه الله كان من أورع الناس في مسألة التكفير

وأكثرهم نهياً عنه، وله فيها ضوابط وقواعد مستمدة من كتاب الله تعالى، ولم يكن يكفِّر أحداً بهواه كما هو شأن المبتدعة الضلال، بل يكفِّر من كفَّره الكتاب والسنة. قال رحمه الله: "هذا مع أنِّي دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني أنِّي من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معيَّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا علم أنَّه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى، وإنِّي أقرر أنَّ الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية.. وكنت أبين لهم أنَّما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حقٌّ، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين، وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة الوعيد فإنَّ نصوص القرآن في الوعيد مطلقة كقوله: {إِنَّ الذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} 1 الآية وكذلك سائر ما ورد: من فعل كذا فله كذا فإنَّ هذه مطلقة عامة. وهي بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا فهو كذا. ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة.

_ 1 سورة النساء، الآية 10.

والتكفير هو من الوعيد. فإنَّه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً. وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال: "إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم، فو الله لإن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. ففعلوا به ذلك فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له". فهذا رجل شكَّ في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُري، بل اعتقد أنَّه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك، والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا"1. فانظر إلى شدة تحريه ودقة كلامه في هذه المسألة، وشدة ورعه وعدله فيها، والنقول عنه في مثل ما تقدم كثيرة جداً يعلمها من يطالع كتبه ومؤلفاته، ولولا خشية الإطالة لنقلت منها الكثير. ومع ذلك لم يسلم رحمه الله من هذا الكاتب وأمثاله ممن يلمزونه بأنَّه يكفِّر المسلمين، وأحسب أنَّ الأمر من قبيل ما قيل: "رمتني بدائها وانسلت" إذ أهل البدع هم المتسرعون في التكفير، وهم

_ 1 الفتاوى (3/229231) .

الذين يكفرون بأهوائهم، وما كلام الكوثري شيخ هذا الكاتب في تكفير شيخ الإسلام وغيره من أهل السنة عنك ببعيد. فالكوثري الذي يطيب للكاتب وصفه ب (الإمام المحدث عليه الرحمة والرضوان) بينما هو في الواقع المبتدع الضال عليه من الله ما يستحق، يقول في ابن تيمية رحمه الله: "صار كفره مجمعاً عليه" ويقول: "وقع الاتفاق على تضليله وتبديعه وزندقته" ويقول: "ليس من الفرق الثلاث والسبعين"1. ويقول في ابن القيم: "كافر أو حمار"، "حمار أو تيس" "الملحد" "الخبيث" "الملعون" "بلغ في كفره مبلغاً لا يجوز السكوت عليه"2. ولو أخذت أنقل أقوال الكوثري وطعونه ولعنه وتكفيره لهذين الإمامين وغيرهما من أئمة المسلمين لاستغرق النقل عشرات الصفحات، وحسبك أنَّك لا تكاد تقرأ صفحة من كتابه تبديد الظلام إلا وجدتَها منتنةً من كثرة ما فيها من سبٍّ ولعنٍ وتكفيرٍ لأئمة الهدى وأعلام السلف وعلماء السنة. فمن الذي يكفِّر المسلمين وعلماءهم أيها الكاتب المفتون {نَبِّئونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 3، وأمَّا تكفير من جحد توحيد الإلهية فليس محل نزاع، لأنَّه دين المشركين كما ذكره الله عنهم في القرآن: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُواءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} 4 وغير ذلك من الآيات.

_ 1 انظر: تبديد الظلام للكوثري (ص156، 81، 167) . 2 انظر: تبديد الظلام للكوثري (ص20، 21، 23، 24، 25، 182) . 3 سورة الأنعام، الآية 143. 4 سورة الصافات، الآيتان 35، 36.

والكاتب بقوله فيما سبق "والهدف من هذا التقسيم … الخ" كشف عن مقصوده ومراده بإنكار تقسيم التوحيد، وهو الدفاع عن الذين يتعلقون بالأنبياء والأولياء بدعائهم وطلبهم باسم التوسل، وقد مرَّ معنا قوله: "إنَّ مجرد النداء أو الاستغاثة أو الاستعانة أو الخوف أو الرجاء أو التوسل أو التذلل لا يسمَّى عبادة" وقوله: "وإنَّما يكون الدعاء عبادة إذا كان لله أو لمن يعتقد الداعي أنَّ للمدعو صفة من صفات الربوبية"، وانظر بسط الأجوبة في ردِّ شُبَهِ هؤلاء وكشف ضلالهم في كتاب "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب "كشف الشبهات" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيرهما من كتب أهل العلم. 10 قال الكاتب ص 14: "وابن تيمية يقول كما هو ثابت عنه في كتبه وكما هو مشهور: "لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه" فنقول له: إذا كنت لا تصف الله إلا بما وصف به نفسه فلماذا تثبت استقرار الله تعالى عمَّا تقول على ظهر بعوضة وتُجوِّزه، هل هذا هو توحيد الأسماء والصفات أيها الشيخ الحراني؟! وهل هذا مما وصف الله به نفسه؟!. قال ابن تيمية في كتابه "التأسيس في رد أساس التقديس" (1/568) : "ولو قد شاء الله لاستقر على ظهر بعوضةٍ فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم" ا. هـ. فهل من التوحيد الخالص أيها الشيخ الحراني ويا من تتعصبون لآرائه الشاذة أن تجوزوا استقرار رب العالمين سبحانه وتعالى عما تصفون على ظهر ذبابة أو بعوضة؟! ولقد استحيى عُباد الأوثان والمشركون أن يصفوا آلهتهم بذلك!! ". وأعاد مثل هذا الكلام ص: 43.

قلت: هذا الذي ذكره الكاتب ونسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد نسبه من قبله لشيخ الإسلام شيخُه الأول الكوثري1 فأخذه هذا التلميذ عنه وورثه منه، وهو في الحقيقة توارث للكذب والإفك على أئمة المسلمين وعلماء السنة إذ لم يقل شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك، وإنَّما وردت هذه العبارة ضمن كلام طويل نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام الحافظ أبي سعيد الدارمي في مناقشته وردوده على بشر المريسيّ العنيد الذي زعم أنَّ الله ليس فوق العرش بقياس فاسد ذكره حيث قاس الله بالعرش ومقداره ووزنه. وأنا أنقل هنا كلام الدارمي بطوله ليعلم تمويه الكاتب وشيخه وكذبهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسيّ وصاحبه: وأعجب من هذا قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير، وزعمت كالصبيان العميان إنَّ الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله، فإن كان الله أصغر فقد صيَّرتم العرش أعظم منه، وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش، وإن كان مثله فإنَّه إذا ضمَّ إلى العرش السماوات والأرض كانت أكبر، مع خرافات تكلم بها، وترهات يلعب بها، وضلالات يضل بها، ولو كان من يعلم لله لقطع قشرة لسانه، والخيبة لقومٍ هذا فقيههم والمنظور إليه مع التميز كله وهذا النظر، وكل هذه الجهالات والضلالات. فيقال لهذا البقباق النفاج: إنَّ الله أعظم من كلِّ شيء وأكبر من كلِّ خلق، ولم يحمله العرش عظماً ولا قوة، ولا حملة العرش

_ 1 انظر: السيف الصقيل (ص115) .

حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته1. وقد بلغنا أنَّهم حين حملوا العرش وفوقه الجبَّار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهنَّ، ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم أكبر من السماوات والأرض، وكيف تنكر أيها النفاج أنَّ عرشه يقله والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع، ولو كان العرش في السماوات والأرضين ما وسعته، ولكنه فوق السماء السابعة. فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أنَّ الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة، فكيف تقله الأرض في دعواك ولا يقله العرش الذي هو أعظم منها وأوسع، وأدخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم العرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما يورد عليك حصائد لسانك، فإنَّك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك". وهذا النص موجود بتمامه في ردّ الإمام الدارمي على بشر المريسي صفحة (85، 86) ، وقد أشار محقق كتاب نقض التأسيس في الهامش إلى مكان النص من كتاب الدارمي. ومع هذا لم يتورع هذا الكاتب ومن قبله شيخه الكوثري 1 فهو سبحانه يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، وهو الغني عما سواه، وما سواه مفتقر إليه من كافة الوجوه، فهو غني عن العرش وما دونه، والخلق كلهم محتاجون إليه تبارك وتعالى.

من نسبة هذا الكلام لشيخ الإسلام على وجه مبتور مختزل مظهرين الشناعة عليه، فجمعا بين الكذب والتزوير. وقد علم مما تقدم ما يلي: 1 أن النصَّ المذكور ليس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كما زعمه الكاتب ومن قبله شيخه الكوثري، وظهر كذبهما عليه رحمه الله. 2 أنَّ الكاتب وشيخه ذكرا النص مختزلاً، ولم يذكراه بتمامه ليتبين مراد الإمام الدارمي رحمه الله منه. 3 تبيَّن أنَّ الكلام جاء في مقام مناظرة وإلزام للخصم، وليس في مقام تقرير وتأصيل عقيدة، ومن المعلوم المتقرر أنَّ عقيدة العالم لا تؤخذ من مناظرته، إذ يذكر العالم في مناظرته أموراً لا يقصد منها إلا قطع المخاصم وإفساد حجته. وبهذا تعلم أنَّ قول الكاتب " فهل من التوحيد الخالص أيها الشيخ الحراني ويا من تتعصبون لآرائه الشاذة أن تجوزوا استقرار رب العالمين سبحانه وتعالى عما تصفون على ظهر ذبابة أو بعوضة" ما هو إلا تهويش من غشوم جهول، لا مستند له إلا الكذب والتزوير وسوء الظنِّ، فالله حسيبه وحسيب شيخه من قبله، ولهما من الله ما يستحقان. 11 قال الكاتب ص15: "وهل من توحيد الأسماء والصفات إثبات الحركة لله تعالى كما يقول ابن تيمية في كتابه "موافقة صريح المعقول" (2/4) على هامش منهاج السنة وقد نسب ذلك لأهل الحديث والسلف زوراً؟!! وأين وصف الله تعالى نفسه في كتابه بلفظ الحركة؟! ".

قلت: ليس في الصفحة المشار إليها شيء مما ذكره الكاتب، ولم يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتبه إثبات الحركة لله، ولم ينسب ذلك لأهل الحديث والسلف كما ادعى ذلك الكاتب كذباً وزوراً، فحار الكذب عليه ورجع إليه. أمَّا شيخ الإسلام ابن تيمية فقوله في هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب أو السنة معلوم ظاهر، وقد أوضحه رحمه الله في مواطن عديدة من مؤلفاته. ومن ذلك قوله رحمه الله: "والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص، فيثبت ما أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته وينفى ما نفاه الله ورسوله كما نفاه ... "1. 12 قال الكاتب ص15: "وابن تيمية يقول في كتاب التأسيس (1/101) : "وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنَّه ليس بجسم وأنَّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً" ا. هـ". قلت: ليس هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإنَّما هو قول متكلمة أهل الإثبات القائلين بأنَّ الله جسم لا كالأجسام حكاه عنهم شيخ الإسلام في معرض ذكره الأقوال في لفظ الجسم وغيره من الألفاظ الاصطلاحية، قال رحمه الله: "ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة تنازعوا في الألفاظ الاصطلاحية فقال قوم: ... إلى أن قال: قالوا: وهذا مِمَّا لا يمكن النزاع فيه إذا فهم المعنى المراد بذلك، لكن أي محذور في ذلك، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها أنَّه ليس

_ 1 الفتاوى (16/423، 424) .

بجسم وأنَّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً؟! فنفي المعاني الثابتة بالشرع والعقل بنفي ألفاظ لم ينف معناها شرع ولا عقل جهلٌ وضلالٌ، قال: وكذلك فالعقل ... ". فهو هنا رحمه الله يحكي قول هؤلاء، فجاء هذا الكاتب واقتطع من هذا النص بعضه ونسبه لشيخ الإسلام ابن تيمية كذباً وزوراً، فنعوذ بالله من هذه الصفاقة في الكذب والوقاحة في الغش والتزوير، ونسأله العفو والعافية. أمَّا معتقد شيخ الإسلام في لفظ الجسم فقد أوضحه رحمه الله قبل الكلام الذي نقله الكاتب بخمسة عشر سطراً فقط!! قال رحمه الله (1/100) : "وتحرير الأمر أن يقال: الوجه السابع والسبعون: أنَّ لفظ الجسم والعرض والمتحيز ونحو ذلك ألفاظ اصطلاحية، وقد قدمنا غير مرَّة أنَّ السلف والأئمة لم يتكلموا في ذلك في حق الله لا بنفي ولا بإثبات، بل بدَّعوا أهل الكلام بذلك وذموهم غاية الذم ... ". فهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وقوله في هذه المسألة، ومع هذا أهمله الكاتب وتركه، وتجاوزه إلى كلام في الموضع نفسه ليس له ونسبه إليه، وحقّاً لا ينقضي العجب من هذه الجرأة السافرة على الكذب والخيانة والغش والتدليس والتزوير، ثم مع احتراف الكاتب لهذه الأمور يرمي بكل وقاحة في كتابه السلفيين بأنَّهم محرفون محترفون1!!. فمن المحرف المحترف إن كنت ذا عقل؟!

_ 1 انظر (ص23) من كتابه.

13 قال الكاتب ص 16،17: عن ابن القيم: "ويثبت في كتابه الصواعق المرسلة أنَّ لله ساقين، وأنَّه إذا لم يذكر الله في كتابه إلا ساقاً واحدة فهذا لا ينفي أنَّه ليس له ساق أخرى فيقول ما نصه: "هب أنَّه سبحانه أخبر أنَّه يكشف عن ساق واحدة هي صفة، فمن أين في ظاهر القرآن أنَّه ليس له سبحانه إلا تلك الصفة الواحدة؟ وأنت لو سمعت قائلاً يقول: كشفت عن عيني وأبديت عن ركبتي وعن ساقي هل يفهم منه أنَّه ليس إلا ذلك الواحد فقط" ا. هـ. فانظر إلى هذا التجسيم الصريح وإلى هذا الهراء والهذيان ... إلى أن قال: فخذ مجدك في التجسيم يا ابن القيم!! ولا يهمنك المعارضون من أهل السنة الذين تلقبهم بالجهمية والمعطلة!! ". قلت: أولاً: لكلام ابن القيّم تتمة مهمة أهملها الكاتب لحاجة في نفسه، يقول ابن القيم تلو ما وقف عنده الكاتب في النقل عنه "… فلو قال ذلك أحد لم يكن هذا ظاهر كلامه، فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام وأبينه ذلك" وهذه التتمة موضحة لمراد ابن القيم من قوله، وقد حذفها الكاتب ليوهم القارئَ أنَّ ابن القيم مجسِّم وحاشاه. ومراد ابن القيّم من كلامه ظاهر، حيث يقصد أن الله خاطبنا في كتابه بكلام عربيٍّ بيِّن يفهم حسبما تقتضيه لغة العرب التي خوطبنا في القرآن بها. ثانياً: ذكر ابن القيم رحمه الله هذا الكلام ضمن أحد عشر وجهاً ردَّ بها على الجهميّ القائل: "ورد في القرآن ذكر الوجه والأعين والعين الواحدة وذكر الجنب الواحد وذكر الساق الواحد وذكر الأيدي وذكر اليدين واليد

الواحدة، فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخص له وجه، وعلى ذلك الوجه أعين وله جنب واحد، وعليه أيد كثيرة، وله ساق واحد ولا نرى في الدنيا شخصاً أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة. قال السنيّ المعظم حرمات الله تعالى: قد ادعيت أيها الجهمي أنَّ ظاهر القرآن الذي هو حجة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى الله به عباده وجعله شفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين، ولم ينزل كتاباً من السماء أهدى منه ولا أحسن ولا أكمل، فانتهكت حرمته وعظمته ونسبته إلى أقبح النقص والعيب ... ". ثم ذكر رحمه الله أحد عشر وجهاً عظيمة في الرد على هذا الجهميّ الخبيث، فجاء هذا الكاتب إلى أحد هذه الأوجه وأخذ بعضه وشنع على ابن القيم به منحازاً إلى صف الجهمية منتصراً لهم. وأقول له: لو أكملت نصرتك لهم بذكر بقية الوجوه التي أوردها ابن القيم وناقشتها وجهاً وجهاً إن كنت تقدر. 14 قال الكاتب ص17: "وابن القيم متعصب لذلك وسائر على قاعدة شيخه الحراني التي أسسها له في كتابه التأسيس (1/109) حيث قال هناك: "وإذا كان كذلك فاسم المشبهة ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين".ا. هـ". قلت: لم ينته كلام شيخ الإسلام ابن تيمية كما زعمت أيُّها الملبس بل قال بعده مباشرة " ... ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية ونعيم بن حماد وغيرهم بذم المشبهة، وبينوا المشبهة الذين ذموهم أنَّهم يمثلون صفات الله بصفات خلقه".

وكتب ابن تيمية رحمه الله مملوءة بذم المشبهة الممثلة، ومع ذلك يأبى هذا المبطل إلا رميه بالتشبيه والتمثيل. ورحم الله الإمام ابن القيم إذ يقول: "ونعلم قبل المطالبة أنَّ كلَّ الجهميين على وجه الأرض لو اجتمعوا لما أجابوا عنه بغير المكابرة والتشنيع على أهل الإثبات بالتجسيم والسبِّ هذه وظيفة كل مبطل قامت عليه حجة الله تعالى"1. قلت: صدقت رحمك الله فلم نجدهم يفعلون غير هذا، وما هذا الكاتب إلا شاهد من مئات الشواهد على ما تقول. 15 قال الكاتب ص17: "وقد أثبت ابن القيم أيضاً جنباً لله تعالى عما يقول!! واستنبط ذلك من قوله تعالى {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ} 2 ففي الصواعق المرسلة (1/250) ومختصر الصواعق للموصلي (1/33) ما نصه: "هب أنَّ القرآن دلَّ على إثبات جنب هو صفة، فمن أين لك ظاهره أو باطنه على أنَّه جنب واحد وشقٌّ واحد؟ ومعلوم أنَّ إطلاق مثل هذا لا يدل على أنَّه شق واحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب" وهذا لا يدل على أنَّه ليس للمرء إلا جنب واحد" ا. هـ. قلت: وهل يصح قياس الله سبحانه وتعالى بعمران بن حصين وتشبيهه به؟! وهل يقول أحد من الموحدين أنَّ لله جنباً؟!. والله ما الإتيان بمثل هذا الكلام إلا رجوع للوثنية الأولى ف {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} !!!! ".

_ 1 مختصر الصواعق (ص32) . 2 سورة الزمر، الآية 56.

قلت: ما أعظم جرأتك على التدليس والتلبيس والكذب، فإنَّ ابن القيم رحمه الله أجل قدراً وأرفع مكانة وأنبل منزلة من هذا الذي بهته به. قال رحمه الله: "السادس: أن يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد هو صفة لله؟ ومن المعلوم أن هذا لا يثبته أحد من بني آدم، وأعظم الناس إثباتاً للصفات هم أهل السنة والحديث لايثبتون أنَّ لله تعالى جنباً واحداً ولا ساقاً واحداً. قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي: وادعاء المعارض زوراً على قوم أنَّهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللهِ} ، أنَّهم يعنون بذلك الجنب هو العضو، وليس ذلك على ما يتوهمونه. قال الدارمي: فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقاً في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلاَّ فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك، إنَّما تفسيرها عندهم: تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله واختاروا عليها الكفر والسخرية، فمن أنبأك أنَّهم قالوا: جنب من الجنوب؟ فإنَّه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم. وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "الكذب مجانب للإيمان"، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يجوز من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ"، وقال الشعبي: "من كان كذَّاباً فهو منافق"، والتفريط فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله لا بجنب ولا غيره بل يكون منفصلا1 عن الله تعالى، وهو معلوم بالحس والمشاهدة".

_ 1 تنبيه: وقع في مختصر الصواعق "بل لا يكون منفصلاً" وهو خطأ، والصواب المثبت كما هو في الصواعق الأصل والنسخة الخطية للمختصر.

ثم قال ابن القيم "السابع: أن يقال: هب أنَّ القرآن دلَّ على إثبات جنب هو صفة ... " على وجه المجادلة للخصم والإلزام في مقام المناظرة. والكاتب اكتفى بنقل كلام ابن القيم هذا وترك ما قبله مما يوضح مراده ويبيّن مقصوده. قلت: فيالله ما أعظم تشابه قلوب القوم وتعانق أهوائهم فالدارمي رحمه الله يقول للجهمي المعارض الذي ادعى على قوم أنَّهم يفسرون {فِي جَنبِ اللهِ} بالجنب الذي هو العضو، يقول له: ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك فإن كنت صادقاً في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم، وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا التفسير منك، ثم ينقل معنى الآية عند أهل العلم بأنَّ المراد: ما فرطوا في الإيمان والفضائل، ويقول: لايجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم، ثم يورد آثاراً عن السلف في التحذير من الكذب، وأنَّه مجانب للإيمان، وأنَّه صفة المنافقين، ولا يجوز منه جد ولا هزل، كل ذلك ذكره الدارمي ونقله ابن القيم بتمامه معتقداً له مستشهداً به وهو في نفس الصحيفة التي نقل منها الكاتب، فيتعامى عن ذلك كله، ويدعي أن ابن القيم يثبت الجنب صفة لله ويرجع بالأمة إلى الوثنية الأولى. فنقول له مثل ما قاله الإمام الدارمي لسلفه: ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك فإنَّ معنى قوله: {فِي جَنبِ اللهِ} ، أي: في دين الله أو في حق الله، وهذا معنى لا يجهله كثير من عوام المسلمين فضلاً عن الإمام العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى. ونقول للكاتب: ألم يردعك عن الكذب ما قرأته في الصحيفة نفسها: من قول أبي بكر رضي الله عنه: "الكذب مجانب للإيمان"، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا يجوز من الكذب جدٌّ ولا هزلٌ"، وقول الشعبي: "من كان كذَّاباً فهو منافق"، ألم يردعك ذلك كله عن الكذب فإنَّ فيه أعظم رادع، أم أنَّ الطبع غالب.

16 قال الكاتب ص18: "وإمام ابن تيمية وقدوته في هذه الطامات هو أبو يعلى الحنبلي الذي كان يقول:"ألزموني ما شئتم إلا اللحية والعورة" أي في صفات الله تعالى!! كما نقل ذلك ابن العربي المالكي في كتابه العواصم (2/283) وهذا هو توحيد الأسماء والصفات الذي يريدونه والذي يحاولون إثباته". قلت: حسيبك الله على ما تقول، فشيخ الإسلام رحمه الله يقول في هذا الذي بهته به ورميته به ما نصه: "وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل ردّاً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عياناً ليلة المعراج ونحوه وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، كحديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة، وإنَّما الثابت أنَّه عن مجاهد وغيره من السلف، وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه، ويتلقونه بالقبول. وقد يقال: إنَّ مثل هذا لا يقال إلا توقيفاً، لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول وما ثبت من كلام غيره، سواء كان من المقبول أو المردود. ولهذا وغيره تكلم رزق الله التميمي وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لهذا الكتاب بكلام غليظ وشنع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب. وما نقله عنه أبو بكر ابن العربي في العواصم كذب عليه عن مجهول لم يذكره أبو بكر، وهو من الكذب عليه، مع أنَّ هؤلاء وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه ففي كلامه ما هو مردود نقلاً وتوجيهاً، وفي كلامه من

التناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني وأبي المعالي وأمثالهم ممن يوافق النفاة على نفيهم، ويشارك أهل الإثبات على وجه يقول الجمهور: إنَّه جمع بين النقيضين"1. قلت: وبهذا النقل يتبين كذب الكاتب وبهته وافتراؤه على شيخ الإسلام رحمه الله، والأمر لا يحتاج إلى إيضاح فشيخ الإسلام ابن تيمية لم يوافق أبا يعلى في كلِّ ما قال وبيَّن كذب ما نقله ابن العربي ولم يكن أبو يعلى إماماً لشيخ الإسلام كما قال الكاتب. وأمَّا القاضي أبو يعلي رحمه الله فقد قال في آخر كتابه "إبطال التأويلات" في دفاعه عن نفسه ما رمي به من تجسيم وتشبيه وغير ذلك ما نصه: " ... ثم لم يكفهم ما أضافوه إلينا من الكذب والبهتان، حتى رمونا بالتجسيم والتشبيه والكفر لأجل ما رويناه من الصفات التي جاء بها القرآن والأخبار، والله تعالى يقول: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَّعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2، فكيف يجوز أن نكفر ونحن نحتج بكتاب الله وسنة رسول الله، ولكن نعتصم بالله كما أمرنا الله تعالى لنهتدي إلى الصراط المستقيم، ومع هذا فلم يخل الله جل ثناؤه كل عالم في عصره من جاهل يبغي عليه بحسده وشره ليبلو بذلك شكره وصبره، ويعظم بذلك ثوابه وأجره. وقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} 3، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ

_ 1 درء تعارض العقل والنقل (5/237، 238) . 2 سورة آل عمران، الآية 101. 3 سورة الفرقان، الآية 31.

الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذِينَ أَشْرَكُوا أَذًي كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 1، وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} 2، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِندِ أَنفُسِهِمْ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 3، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّ مؤمناً على قصبة في البحر لقيَّض الله له منافقاً يؤذيه"، وقال الشاعر: وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنِّي فاضل وقال رجل لأحمد بن حنبل رحمه الله يا أبا عبد الله: قالوا: إنَّ عندك كتاب زندقة، فقال: لا يحرز المؤمنَ إلا قبرُه ... ". وذكر القاضي كلاماً طويلاً ثم قال: " ... فمن روى عنَّا خلاف ذلك أو أضاف إلينا سواه أو نحلنا في ذلك قولاً غيره فهو كاذب مفتري متخرص معتدي يبوء بسخط الله وعليه غضب الله ولعنته في الدارين ... "4. 17 قال الكاتب ص 19: " (تنبيه مهم جداً) ومِمَّا يدل على أنَّ هؤلاء المتسلفين أتباع ابن تيمية وابن القيم مجسمة أيضاً يسيرون على نفس نهج شيخهما، مؤلفاتهم المطبوعة والتي تثبت ذلك، منها كتاب طبع حديثاً لمتسلف وهابي يدعى (عبد الله بن محمد الدويش) اسم الكتاب (المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال) يسفه فيه الشيخ (سيد قطب) ويصفه

_ 1 سورة آل عمران، الآية 186. 2 سورة آل عمران، الآية 120. 3 سورة البقرة، الآية 109. 4 إبطال التأويلات لأخبار الصفات (ق 390ق392) .

بالابتداع وأنَّه جهمي أشعري معتزلي وإليك بعض ما يقول هذا المتمسلف: 1 يقول ص: 10 ما نصه: "فقد عاب سيد قطب قول أهل السنة والجماعة، وهذا هو مسلك أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وسيجيء من كلامه ما يبين أنَّه سلك مسلكهم" ا. هـ". قلت: نص كلام الشيخ العلامة عبد الله الدويش رحمه الله هو قوله بعد أن ذكر تفسير أهل السنة للاستواء بالعلو والارتفاع " ... فمن ردَّ هذا أو عابه فقد عاب قول أهل السنة والجماعة وهذا هو دأب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة وغيرهم. وسيجيء من كلامه ما يبين أنَّه سلك مسلكهم". فحذف الكاتب أول كلام الشيخ وهو عام كما ترى ثم أضاف إليه من كيسه بين شرطتين سيد قطب إمعاناً منه في التحريف، وهذا كذب فاضح، ففرق بين نص الشيخ الدويش رحمه الله، وبين النص الذي أورده هذا المزور. وسيد قطب رحمه الله له في كتابه الظلال أمور عديدة متعلقة بالصفات وغيرها خالف فيها منهج أهل السنة والجماعة وسلك فيها طريقة المتكلِّمين، وقد نبَّه على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم العلامة الدويش رحمه الله في كتابه "المورد ... " الذي شرق منه هذا الكاتب وغيره. بل إنَّ سيد قطب رحمه الله قد أقرَّ على نفسه بأنَّه قد وقع في مثل هذه الأخطاء، وسلك مسالك المتكلِّمين في كتابه الظلال وغيره من كتبه، ووعد بإعادة النَّظر فيها وتدارك ذلك في الطبعات الأخرى، إلاَّ أنَّه رحمه الله مات ولَم يتيسَّر له ذلك. ففي ظلال القرآن (6/3731) انتقد سيد قطب طريقة مَن يريدون فهم

القرآن على ضوء مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة كما هو الشأن عند أئمة الكلام الباطل ثم "يؤولون نصوصه هذه لتُوائم مقررات سابقة في عقولهم، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود"، ثم علَّق على هذا في الهامش بقوله: "وما أبرئ نفسي أنَّني فيما سبق من مؤلفاتي وفي الأجزاء الأولى من هذه الظلال قد انسقت إلى شيء من هذا، وأرجو أن أتداركه في الطبعة الثانية إذا وفَّق الله، وما أقرره هنا هو ما أعتقده الحقَّ بهداية من الله". اه. فنسأل الله أن يغفر لسيد قطب أخطاءَه التي أقرَّ بها ووعد بتلافيها، وأن يهدي أتباعَه للبُعد عنها والحذر من الوقوع فيها، إنَّه سميعٌ مجيب. وعلى كلٍّ فسيد قطب رحمه الله أقرَّ على نفسه بهذه الأخطاء ووعد خيراً، والعلماء الناصحون حذَّروا الناسَ من هذه الأخطاء وأرادوا بذلك خيراً، وأمَّا هذا الدَّعِي وأمثاله فلم ينصحوا لا لسيد قطب رحمه الله ولا لعموم المسلمين، والله وحده المستعان لا شريك له. 18 قال الكاتب ص 19،20: "2 - ويقول ص: (19) [أي الدويش] ما نصه: "وأقول: قوله سيد قطب في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان هذا قول أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فلا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه ... ". ثم قال بعد ذلك بخمسة أسطر في نفس الصحيفة ذامّاً أهل البدع بنظره ما نصه: "ومقصودهم بها نفي الصفات كالجسم والتحيز ... " ا. هـ فهو يرى تبعاً لابن تيمية وابن القيم أنَّ من صفات الله تعالى الجسم والتحيز، وأنَّ الشيخ سيد قطب والأشاعرة الذين ينزهون الله عن التحيز والمكان ويقولون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ

الْبَصِيرُ} 1، مبتدعة جهميون، فالله حسيبه وحسيب هذه الطائفة". قلت: لقد بتر الكاتب كلام الشيخ العلامة الدويش رحمه الله وهذا من عادة أهل البدع والأهواء ليتوصل من ذلك إلى تقرير أنَّ الشيخ يثبت الجسم والحيز لله ويعدها من صفاته، والشيخ رحمه الله لم يقل ذلك ولا يقصده بل ولا يقول به كما يعلم ذلك من قراءة كلامه بتمامه. ونص كلامه رحمه الله هو: "أقول: قوله في التوجه إلى الله الذي لا يتحيز في مكان هذا قول أهل البدع كالجهمية والمعتزلة وأما أهل السنة والجماعة فلا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون القرآن والحديث فيثبون علو الرب عز وجل واستواءه على عرشه كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وأما أهل البدع فلا يثبتون ما ورد أو يثبتون بعض الصفات دون بعض، ويبتدعون ألفاظاً موهمة يظن الظانّ أنَّهم ينزهون الرب عز وجل بها عن النقائص والعيوب ومقصودهم بها نفي الصفات كالجسم والتحيز والجوهر والعرض، قال شيخ الإسلام تقي الدين بعد كلام له في الردِّ على من قال إنَّه ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض قال رحمه الله: فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها كلفظ الجوهر والجسم والحيز ونحو ذلك من الألفاظ ... ". هذا نص كلام الشيخ رحمه الله، ومن يقرأ كلامه يعلم أنَّ مراده بذكر الجسم والحيز والعرض التمثيل للألفاظ الموهمة التي يظن الظانّ أنَّ أهل البدع يقصدون بنفيها تنزيه الله عن النقائص والعيوب، فجاء هذا المزور وبتر كلام

_ 1 سورة الشورى، الآية 11.

الشيخ وأخذ آخره ليوهم القارئ أنَّ الشيخ يمثل بالجسم والجوهر لصفات الله الثابتة له، ولهذا قال المزور بعد هذا النقل المبتور: "فهو يرى تبعاً لابن تيمية وابن القيم أنَّ من صفات الله تعالى الجسم والحيز". مع أنَّ الشيخ الدويش رحمه الله كما تقدم نقل تلو النص الذي ذكره الكاتب عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ هذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها على الله، وهذا هو معتقد شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة أهل السنة في مثل هذه الألفاظ الموهمة، لا يرون إطلاق إثباتها ولا إطلاق نفيها لكونها لم ترد ولكونها محتملة. ورغم وقوف الكاتب على ذلك إلا أنَّه لم يرض لنفسه غير الكذب والتزوير. 19 قال الكاتب ص 33: "… لذلك قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1، معناه كما قال القرطبي في التفسير (13/161) : "أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي، معناه: أنَّهم يقولون ذلك بألسنتهم فقط عند إقامة الحجج عليهم وهم في الحقيقة لا يقولون بذلك" ... ". قلت: لما لم يجد الكاتب أحداً من أهل العلم يوافقه في قوله: إنَّ المشركين لا يؤمنون بوجود الله، وأنَّهم إنَّما قالوا ذلك عند إقامة الحجج عليهم وهم في الحقيقة لا يقولون بذلك، لما لم يجد أحداً يوافقه في ذلك اضطر إلى التزوير. فقال: كما قال القرطبي في التفسير (13/161) : "أي كيف يكفرون بتوحيدي وينقلبون عن عبادتي، معناه: أنَّهم يقولون ذلك بألسنتهم فقط عند

_ 1 سورة العنكبوت، الآية 61.

إقامة الحجج عليهم وهم في الحقيقة لا يقولون بذلك". فجعل من قوله "أي كيف يكفرون ... "، إلى قوله: " ... لا يقولون بذلك" بين علامتي التنصيص ليوهم أنَّ الجميع من قول القرطبي، بينما كلام القرطبي في الحقيقة ينتهي عند قوله: " ... عن عبادتي"، والباقي من كلام الكاتب، وزور مع هذا تزويراً آخر فحذف كلاماً للقرطبي قبل هذا فيه التنصيص على اعتراف المشركين بأنَّ الله تعالى "خالق هذه الأشياء". بل إنَّ القرطبي يصرح بالفرق بين الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية فقد نقل عنه صاحب تيسير العزيز الحميد أنَّه قال: "أصل الشرك المحرم اعتقاد شريك لله تعالى في الإلهية وهو الشرك الأعظم، وهو شرك الجاهلية، ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل، وهو قول من قال: إنَّ موجوداً ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلهاً"1. 20 قال الكاتب ص 37: "اعلم يرحمك الله تعالى أنَّ أهل السنة والجماعة بما فيهم الأشاعرة والماتريدية يثبتون لله من الصفات ما أثبت لنفسه، وما يشوشه المجسمة عليهم من أنهم معطلة وجهمية تشويش فارغ لا قيمة له بعد التمحيص العلمي والتدقيق". قلت: مراده بالمجسمة أهل السنة والجماعة، فهم الذين يرمون الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل الكلام بأنهم معطلة فيما ينكرونه من صفات الله تعالى.

_ 1 تيسير العزيز الحميد (ص: 44) ، ثم وجدته في تفسير القرطبي (5/118) . وقال رحمه الله في تفسيره (1/72) : "فالله اسمٌ للموجود الحق الجامع لصفات الإلهيَّة، المنعوت بنعوت الربوبية، المتفرِّد بالوجود الحقيقي لا إله إلاَّ هو سبحانه"، وهذا صريح في الفرق.

فالأشاعرة وكذا الماتريدية ينفون عن الله كثيراً من صفات كماله الثابتة في الكتاب والسنة مثل الاستواء والنزول والمجيء والغضب والرضا ... وغيرها فهذه صفات أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفاها هؤلاء عنه، خلافاً لما ادعاه الكاتب أنَّهم يثبتون لله من الصفات ما أثبت لنفسه. وجَعْلُ الكاتبِ الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والجماعة، غلط ظاهر إذ هم من أهل البدع والأهواء، وأمَّا أهل السنة والجماعة فهم المتمسكون بها والدائرون معها نفياً وإثباتاً. فإنَّ المراد بالسنة الطريقة المحمدية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وتابعوهم بإحسان قبل ظهور البدع وفشوها، فمن تأثر بشيء من الأهواء واستمسك بها لم يصح إطلاق هذا اللقب الجليل عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإنَّ أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنَّهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنَّهم مصادر عنهم صدرت ... "1. وبهذا يعلم من هم أهل السنة ومن أهل البدعة. 21 قال الكاتب ص 38: "والضحك كذلك لا يليق أن يطلق حقيقة على الله، وإنما يطلق على سبيل المجاز، وتأويله عند أهل العلم الرضا أو الرحمة، فإذا ورد في حديث أنَّ الله يضحك إلى فلان فالمراد به أنَّه يرضى عنه ويرحمه، وهكذا". قلت: شيخ الكاتب في هذا التأويل الباطل هو بشر بن غياث المريسي،

_ 1 درء تعارض العقل والنقل (5/5، 6) .

وقد نقض أقواله الإمامُ الدارمي في رده الشهير عليه، ولهذا فإني أقتصر هنا على ذكر ردِّ الإمام الدارمي على بشر المريسي في هذه المسألة ليكون الرد على الشيخ ردّاً على التلميذ. قال الدارمي رحمه الله: "فادعى المعارض في تفسيره أن ضحك الرب رضاه ورحمته … وذكر أموراً ثم قال: وأمَّا قولك إنَّ ضحكه رضاه ورحمته فقد صدقت في بعض، لأنَّه لا يضحك لأحد إلا عن رضى، فيجتمع منه الضحك والرضا، ولا يصرفه إلا عن عدو، وأنت تنفي الضحك عن الله وتثبت له الرضا وحده ... إلى أن قال: وحدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو يعلى أخبرنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن أبي رزين العقيلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَره. قال أبو رزين: أيضحك الرب يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً". فهذا حديثك أيها المعارض الذي رويته وثبتَّه وفسرته، وأقررت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، ففي نفس حديثك هذا ما ينقض دعواك وهو قول أبي رزين للنبي صلى الله عليه وسلم "أيضحك الرب؟ " ولو كان تفسير الضحك الرضى والرحمة والصفح عن الذنوب فقط كان أبو رزين في دعواك إذن جاهلاً أن لا يعلم أنَّ ربه يرحم ويرضى ويغفر الذنوب؟ بل هو كافر في دعواك، إذ لم يعرف الله بالرضى والرحمة والمغفرة. وقد قرأ القرآن وسمع ما ذكر الله فيه من رحمته ومغفرته وصفحه عن الذنوب ما كان له فيه مندوحة عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: أيغفر ربنا ويرحم؟ إنَّما سأله عما لا يعلم لا عن علم ما علم وآمن به قبل. وقرأ القرآن فوجد فيه ذكره ولم يجد فيه ذكر الضحك. فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه يضحك قال: "لن نعدم من رب يضحك خيراً" ولو كان على تأويلك لاستحال أن

يقول أبو رزين للنبي صلى الله عليه وسلم: لن نعدم من رب يرحم ويرضى ويغفر خيراً. لما أنَّه قد آمن وقرأ قبل في كتابه: {إِنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فاعقله. وما أراك تعقله"1. قلت: ولست أدري أيضاً هل التلميذ يعقله أولا؟ وما أراه يعقله. 22 قال الكاتب ص 38: "روى الإمام البيهقي في كتاب الأسماء والصفات (ص: 298) أنَّ الإمام البخاري رحمه الله تعالى أوَّل الضحك بالرحمة، وهذا نهج السلف والمحدثين، والبخاري بلا شك من أئمة المحدثين، ومن أهل القرون الثلاث، قرون السلف المشهود لها بالخيرية". قلت: حاشاهم، فتأويل النصوص وصرفها عن ظواهرها ليس من نهجهم، بل هم يمرون النصوص كما جاءت ولا يحرفون ولا يمثلون ولا يعطلون ولا يكيفون. وهذا الذي ذكره البيهقي أنَّ البخاري أوَّل الضحك بالرحمة، لا وجود له في نسخ صحيح البخاري الموجودة بين أيدينا، والحديث الذي ذكر البيهقي أنَّ البخاري أوَّل عنده الضحك بالرحمة مُخرج في صحيح البخاري في موضعين منه، ولم يذكر عند شيء منهما هذا التأويل الباطل، وقد نص الحافظ في الفتح (8/632) على عدم وجود هذا التأويل في النسخ التي اطلع عليها من صحيح البخاري وهو من هو في العناية بالصحيح وسعة الاطلاع على نسخه، فقال رحمه الله: "ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري". وعليه فلا عبرة بذكر بعض المؤولة هذا القول منسوباً للبخاري رحمه الله، ولا عبرة بالدعاوى إذا لم يقم عليها بينات.

_ 1 رد الإمام الدارمي على بشر (ص: 174178) .

23 قال الكاتب ص 40: "والصواب أنَّ السلف بما فيهم الصحابة والتابعون كانوا يؤولون كثيراً من الألفاظ التي لا يراد منها إثبات صفات لله تعالى، وتفسير الإمام الحافظ ابن جرير السلفي (توفي 310هـ) أكبر برهان على ذلك فقد أورد الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره وروى بأسانيده عن سيدنا ابن عباس تأويل (الساق) الواردة في قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} 1 بالشدة؛ لأنَّ العرب تقول: كشفت الحرب عن ساقها أي اشتدت". قلت: قول الكاتب عن الصحابة والتابعين أنَّهم يؤولون كذبٌ عليهم، وتقوُّلٌ عليهم بلا علم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأمَّا الذي أقوله الآن وأكتبه وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي وإنما أقوله في كثير من المجالس إنَّ جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنَّه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أنَّ ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. وتمام هذا أنِّي لم أجدهم تنازعوا إلاَّ في مثل قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن

_ 1 سورة القلم، الآية 42.

سَاقٍ} ، فروي عن ابن عباس وطائفة أنَّ المراد به الشدة، إن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبي سعيد وطائفة أنَّهم عدوها في الصفات للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين. ولا ريب أنَّ ظاهر القرآن [لا] يدل على أنَّ هذه من الصفات فإنَّه قال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنَّه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنَّما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، ولكن كثير من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً له، ثم يريدون صرفه عنه، ويجعلون هذا تأويلاً، وهذا خطأ من وجهين كما قدمناه غير مرة"1. 24 قال الكاتب ص 41: "أوَّل الإمام أحمد قوله تعالى: {وَجَآءَ رَبُّكَ} ، أنه جاء ثوابه كما ثبت عنه بإسناد صحيح، انظر البداية والنهاية لابن كثير (10/327") . قلت: هذا التأويل الذي ذكره الكاتب ثبوته عن الإمام أحمد محل بحث ونظر "بل الذي يعلم من حيث الجملة أنَّ الإمام أحمد والأئمة الكبار الذين لهم في الأمة لسان صدق عام لم يتنازعوا في شيء من هذا الباب"2، وهو مخالف للنصوص الكثيرة المنقولة عنه رحمه الله في منع التأويل ورده، ويكفيك في هذا كتابه "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله".

_ 1 الفتاوى (6/394395) . 2 الفتاوى لابن تيمية (12/417) .

وهذا القول المنقول عن الإمام أحمد رواه عنه حنبل في كتاب المحنة، وفي الإجابة عن هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا الذي ذكره القاضي وغيره أنَّ حنبلاً نقله عن أحمد في كتاب المحنة أنَّه قال ذلك في المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله "تجيء البقرة وآل عمران" قالوا: والمجيء لا يكون إلا لمخلوق، فعارضهم أحمد بقوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ} ، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} ، وقال: المراد بقوله "تجيء البقرة وآل عمران" ثوابهما، كما في قوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ} أمره وقدرته. وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل، فإنَّه لا ريب خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا، وتأويل النزول، والاستواء ونحو ذلك من الأفعال. ولهم ثلاثة أقوال: قيل: إنَّ هذا غلط من حنبل، انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة مثل صالح وعبد الله والمروذي وغيرهم، فإنَّهم لم يذكروا هذا، وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه، قال أبو إسحاق بن شاقلا: هذا غلط من حنبل ولا شك فيه. وكذلك نقل عن مالك رواية أنَّه تأول "ينزل إلى السماء الدنيا" أنه ينزل أمره، لكن هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذَّاب باتفاقهم، وقد رويت من وجه آخر لكن الإسناد مجهول. والقول الثاني: قال طائفة من أصحاب أحمد: هذا قاله إلزاماً للخصم على مذهبه لأنَّهم في يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله "تأتي البقرة وآل عمران" أجابهم بأن معناه: يأتي ثواب البقرة وآل عمران كقوله: {أَن يَّأْتِيَهُمُ اللهُ} 1،

_ 1 سورة البقرة، الآية 210.

أي أمره وقدرته على تأويلهم، لا أنَّه يقول بذلك، فإنَّ مذهبه ترك التأويل. والقول الثالث: أنَّهم جعلوا هذا رواية عن أحمد، وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه ردّ التأويل. وقد ذكر الروايتين ابن الزاغوني وغيره، وذكر أن ترك التأويل هي الرواية المشهورة المعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا"1. 25 قال الكاتب ص 42: "… يثبت [أي: ابن تيمية] لله سبحانه صفات بأحاديث موضوعة أو إسرائيليات من ذلك أنَّه أثبت أنَّ الله يتكلم بصوت يشبه صوت الرعد"، وأحال في الهامش إلى كتاب موافقة صريح المعقول المطبوع على هامش منهاج السنة (2/151) . قلت: حاشا ابن تيمية وغيره من أهل السنة والجماعة أن يثبتوا شيئاً من العقيدة بأحاديث موضوعة أو إسرائيليات، بل هذا من دأب أهل البدع المخلطين المموهين. يقول إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله في كتابه العظيم التوحيد: "وقد أعلمت ما لا أحصي من مرة أني لا أستحل أن أمَوِّه على طلاب العلم بالاحتجاج بالخبر الواهي، وإني خائف من خالقي جل وعلا إذا موهت على طلاب العلم بالاحتجاج بالأخبار الواهية وإن كانت الأخبار حجة لمذهبي"2. ويقول ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه من حديث عبد السلام بن صالح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان معرفة

_ 1 الفتاوى (16/404406) ، وانظر أيضاً: مختصر الصواعق (ص:406) . 1 التوحيد (ص: 215) .

بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان"، وفيه حجة لقول أهل السنة في الإيمان وردٌّ على المرجئة، يقول ابن القيم عند هذا الحديث: "في الحق ما يغني عن الباطل، ولو كنا ممن يحتج بالباطل ويستحله لروجنا هذا الحديث وذكرنا بعض من أثنى على عبد السلام، ولكن نعوذ بالله من هذه الطريقة، كما نعوذ به من طريقة تضعيف الحديث الثابت وتعليله إذا خالف قول إمام معين، وبالله التوفيق"1. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يرى جواز الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة فضلاً عن الأحاديث الموضوعة التي بهته الكاتب بالاحتجاج بها، يقول رحمه الله: "ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة"2، ويقول: "والأحاديث التي تروى في هذا الباب وهو السؤال بنفس المخلوقين هي من الأحاديث الضعيفة الواهية بل الموضوعة، ولا يوجد في أئمة الإسلام من احتج بها ولا اعتمد عليها"3، وفي شأن الإسرائيليات يقول: " ... فأمَّا أن يثبت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم"4. وأعود لكلام الكاتب السابق وهو قوله في شيخ الإسلام رحمه الله -: "ويثبت لله سبحانه صفات بأحاديث موضوعة أو إسرائيليات من ذلك أنَّه أثبت أنَّ الله يتكلم بصوت يشبه صوت الرعد".

_ 1 تهذيب سنن أبي داود (7/59) . 2 الفتاوى (1/250) . 3 الفتاوى (1/252) . 4 الفتاوى (1/251) .

فأقول: لقد اشتمل قول الكاتب هذا الذي لا يتجاوز سطرين على عدة كذبات على شيخ الإسلام وهذا بيانها: الأولى: قوله عن شيخ الإسلام إنَّه يثبت الصفات بالأحاديث الموضوعة والإسرائيليات، وهذا كذب ظاهر على شيخ الإسلام لا يخفى على كل طالب علم قرأ كتبه، وتحذيرُه رحمه الله من الاستشهاد والاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والإسرائيليات أشهر من أن يذكر، وقد قدمنا شيئاً من ذلك. فهاتان كذبتان على شيخ الإسلام: الأولى: زعمه أنَّ شيخ الإسلام يحتج في الصفات بالأحاديث الموضوعة. الثانية: زعمه أنَّه يحتج فيها بالإسرائيليات. الكذبة الثالثة: تمثيله لإثبات شيخ الإسلام الصفات بالأحاديث الموضوعة بما ذكره عنه "أنَّ الله يتكلم بصوت يشبه صوت الرعد" فهذه الكلمة لم ترد في حديث وإنَّما وردت في أثر، وقد نصَّ شيخ الإسلام في الصفحة نفسها على أنَّه أثر، فهذه كذبة ثالثة على شيخ الإسلام. الرابعة: أنَّ الأثر المشار إليه ضعيف وليس موضوعاً كما يوهمه سياق الكاتب. الخامسة: أنَّ النص بتمامه الذي ورد فيه هذا الأثر ليس لشيخ الإسلام، بل جاء عنده ضمن نقل طويل عن كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد، وهو في الكتاب المذكور (ص: 45) ، وهذا أمر أخفاه الكاتب، لأنَّه قصد بذلك التشنيع على شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذه كذبة خامسة. السادسة: قوله عن شيخ الإسلام أنه أثبت من هذا النص أن الله يتكلم بصوت يشبه صوت الرعد، فهذا كذب عليه؛ لأنه إنما أورد النص بتمامه للرد

على من ينكر أنَّ الله يتكلم كيف شاء، وهذا الأمر قد دلت عليه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، ولهذا قال شيخ الإسلام عقبه: "فقد ذكر أحمد في هذا الكلام أنَّ الله يتكلم كيف شاء، وذكر ما استشهد به من الأثر أن الله كلم موسى عيه السلام … الخ". قلت: فهذه ست كذبات وقع فيها الكاتب في هذا الكلام الذي لا يتجاوز سطرين، ولو محص هذا الكلام أكثر قد يتبين فيه كذبات أخر؟ ‍! وإذا كان في هذين السطرين بلغ به الكذب هذا المبلغ فما بالك إذاً بكتابه كاملاً الذي يحوي ستين صفحة في كل صفحة عشرون سطراً تقريباً؟!! وأقول للكاتب: حسيبك الله ترمي غيرك بالكذب وأنت فارس ميدانه، وابن بجدته؟!! 26 قال الكاتب ص 44: "وتتميماً للبحث لا بد من أن نتكلم عن أصل أكبر فرقة قديمة من فرق المجسمة هي الكرامية وبيان بعض آرائها في الصفات التي توافق ما يدعو إليه ابن تيمية وأتباعه، وخصوصاً أنَّ ابن تيمية يثني عليها في منهاج السنة (1/181) ويعتبرها من أكابر نظار المسلمين". قلت: عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية التي يشير إليها الكاتب، هي قول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة (1/181) : "ومنهم من قال بل لا يزال قابلاً للانقسام [أي: الجوهر الفرد] إلى أن يصغر فيستحيل مع تمييز بعضه عن بعض كما قال ذلك من قال من الكرامية وغيرهم من نظار المسلمين، وهو قول من قاله من أساطين الفلاسفة مع قول بعضهم إنَّه مركب من المادة والصورة، وبعض المصنفين في الكلام يجعل إثبات الجوهر الفرد هو قول المسلمين وأنَّ نفيه هو قول الملحدين، وهذا لأنَّ هؤلاء لم يعرفوا من الأقوال المنسوبة إلى المسلمين إلا ما وجدوه في كتب شيوخهم أهل الكلام المحدث في الدين الذي ذمَّه

السلف والأئمة، كقول أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق. وقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وكقول أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة. وقوله: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وأمثال ذلك. وإلا فالقول بأنَّ الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين". قلت: فتأمل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بتمامه، ثم انظر ما فهمه هذا الكاتب منه، تجد أنَّه اجتمع له في ذلك سوء الفهم مع سوء القصد، فشيخ الإسلام ابن تيمية لم يثن في هذا النص على الكرامية بل قرن قولهم بقول الفلاسفة، ونقل آثاراً في ذم الكلام وأهله، وبيَّن أنَّ القول الذي قالوه لا يعرف عند أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين. وعلى العموم فموقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الكرامية معروف قد بينه في غير موضع من كتبه، فيذكر عنهم أنَّهم وافقوا أهل الحديث في أمور وخالفوهم في أمور أخرى، فهم يحمدون فيما وافقوا فيه الحق ويذمون فيما فارقوا فيه الحق. 27 قال الكاتب في هامش ص 51: "بل صرح بذلك أي بصفة السكوت ابن تيمية إمامه" انظر الموافقة على هامش منهاجه (2/38) . وكان الكاتب قبل ذلك ذكر في المتن أنَّ ابن أبي العز يفهم من كلامه

ذلك!! حيث قال: "وهو المفهوم من كلام فضيلة الشارح! ومن اللازم القريب لكلامه"!!. قلت: لم يصرح شيخ الإسلام ابن تيمية بذلك كما ادعى الكاتب، والموضع المشار إليه جاء ضمن نقل مطول أورده شيخ الإسلام وهو لأبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام في كتابه مناقب أحمد بن حنبل. فقول الكاتب "بل صرح بذلك ... الخ" كذب صراح على شيخ الإسلام وقد نقل شيخ الإسلام في كتابه المذكور بعد صفحات قليلة من هذا الموضع عن أبي النصر السجزي أنَّه قال: "ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه، ومن أهل الأثر من جوز إطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث وقال معناه: تركه التوبيخ والتقرير والمحاسبة اليوم، وسيأتي يوم يقرر فيه ويحاسب ويوبخ فذلك الترك معنى السكوت، قال والأصل الذي يجب أن يعلم أنَّ اتفاق جميع التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها"1. 28 قال الكاتب في هامش ص 52: " ... فشرح العقيدة الطحاوية هي تلخيص ل "منهاج السنة" ول "موافقة صريح المعقول" للشيخ الحراني!! ولذلك يركزون عليها ويحرصون على نشرها".

_ 1 موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول بهامش منهاج السنة (2/44) . قلت: قول السجزي: "والأصل الذي يجب أن يعلم أن اتفاق جميع التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها" هو في الحقيقة قاعدة متينة وأصل عظيم في باب الصفات يدفع به شبهة المعطلة نفاة الصفات: "أنَّ إثبات الصفات يقتضي التشبيه" وقد أوضح شيخ الإسلام هذه القاعدة وضرب لها الأمثلة في أول كتابه التدمرية فليراجع. وانظر في الكلام على وصف الله بالسكوت الوارد في الأحاديث وبيان المراد به الفتاوى لابن تيمية (6/178، 179) .

قلت: يقول الكاتب ذلك لامتلائه غلاًّ وحقداً وغيظاً على هذين الإمامين اللذين أحيا الله بهما الدين ونصر بهما السنة وقمع بهما دابر المفسدين. وقول الكاتب عن شرح العقيدة الطحاوية بأنَّه تلخيص لمنهاج السنة ولموافقة صريح المعقول جهل من الكاتب وكذب يعلمه كل من يقرأ الكتب الثلاثة المذكورة. وابن أبي العز ينقل في كتابه عن كتب كثيرة عن الصحيحين والسنن والمسانيد وعن غيرها من كتب أهل السنة والجماعة مرتباً شرحه حسب ترتيب المتن المشروح. 29 قال الكاتب ص 58: " ... ولذلك صرح أهل السنة والجماعة بأن الله سبحانه لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله ... ". قلت: حاشا أهل السنة والجماعة من ذلك، وحاشاهم أن يكون الباطل معتقدهم والضلال قولهم. وهذه دعوى يدعيها أهل البدع عامة في القديم والحديث، يقررون العقائد المنحرفة والآراء الزائفة والنحل الباطلة ثم ينسبون ذلك كذباً وزوراً إلى أهل السنة والجماعة. قال أبو المظفر السمعاني فيما نقله عنه التيمي في الحجة (2/223-225) : "إنَّ كل فريق من المبتدعة إنَّما يدعي أنَّ الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم كلهم مدعون شريعة الإسلام ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أنَّ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم [هو الحق] غير أنَّ الطرق تفرقت بهم بعد ذلك، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فزعم كل فريق أنَّه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأنَّ الحق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي

يعتقده وينتحله، غير أنَّ الله أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنَّهم أخذوا دينهم، وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرناً عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من الدين المستقيم، والصراط القويم، إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث، وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه؛ لأنَّهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدين من قبله، فإذا سمعوا شيئاً من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرَّفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة، فحادوا عن الحق وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم وجعلوا السنة تحت أقدامهم تعالى الله عما يصفون. وأمَّا أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة إمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهما من معقولهم وخواطرهم عرضوه على الكتاب والسنة فإن وجدوه موافقاً لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفاً لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإنَّ الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل، وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني وهو واحد زمانه في المعرفة: ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتى بهما وإلا رددته في نحره، أو كلام هذا معناه. ومما يدل على أنَّ أهل الحديث هم على الحق أنَّك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار، وجدتهم

في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلَّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنَّه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} 1، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} 2. وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعاً وأحزاباً لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدِّع بعضهم بعضاً، بل يرتقون إلى التكفير يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبداً في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولم تتفق كلماتهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} 3 ... ". قلت: وقد نقلت هذا النص على طوله ليعلم طالب الحق من هم أهل السنة والجماعة وما هو نعتهم وما حليتهم، وليعلم من هم أهل البدعة وما هو نعتهم وصفتهم ليميز الخبيث من الطيب، والباطل من الحق، والغث من السمين فإنَّ الأدعياء كثيرون. وليس أحد من أهل الأهواء والبدع يقول قولاً أو يرى رأياً إلا ويدعي أنَّه هو الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قول الكاتب المتقدم:

_ 1 سورة النساء، الآية 82. 2 سورة آل عمران، الآية 103. 3 سورة الحشر، الآية 14.

" ... ولذلك صرح أهل السنة والجماعة بأنَّ الله سبحانه لا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله ... " 1. فنقول له: سمِّ لنا مَن صرح بذلك من أهل السنة والجماعة فكتبهم موجودة وأقوالهم محفوظة وآثارهم منشورة، إذ لم يصرح بما ذكرت إلا الجهمية المعطلة أتباع الجهم بن صفوان الذين تتابعت أقوال أهل السنة والجماعة في تبديعهم وتضليلهم. أمَّا أهل السنة والجماعة فقد صرحوا بما ثبت في الكتاب والسنة من علو الله على خلقه، وفوقيته، واستوائه على عرشه، وأنَّه في السماء ونحو ذلك مما ورد في الكتاب والسنة. والذي ذكره الكاتب ومن قبله جهم ومن تبعه أمرٌ لا يجوز وصف الله به، إذ من قال إنَّ ربه ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين العالم ولا عن شماله ولا داخله ولا خارجه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه فقد وصفه بالعدم بل ليس هناك وصف للعدم أبلغ من هذا الوصف الذي وصف به هؤلاء الجهمية ربهم، ومن هنا قال من قال من أهل السنة "والمعطل يعبد عدماً". قال الذهبي رحمه الله: " ... إنَّ من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب، وأن يشابه المعدوم،

_ 1 وقد وقفت مؤخراً على رسالة لهذا الكاتب أسماها: "حسن المحاججة في بيان أنَّ الله لا داخل العالم ولا خارجه" قرر فيها عقيدة الجهمية في هذا الباب وانتصر لها ودافع عنها، إلا أنَّه لم يجرؤ على وضع اسمه على طرَّة الكتاب بل وضع عليها اسماً مستعاراً موهماً بذلك أنَّه لغيره، وفي آخر الكتاب عند ذكر آثار مؤلف هذه الرسالة أوردوا مؤلفات المردود عليه الذي هو صاحب هذا التنديد.

كما نقل عن حماد بن زيد أنَّه قال: "مثل الجهمية كقوم قالوا: في دارنا نخلة، قيل: لها سعف؟ قالوا: لا، قيل: فلها كرب؟ قالوا: لا، قيل: لها رطب وقنو؟ قالوا: لا، قيل: فلها ساق؟ قالوا: لا، قيل: فما في داركم نخلة". قلت: القائل الذهبي كذلك هؤلاء النفاة قالوا: إلهنا الله تعالى، هو لا في زمان ولا في مكان، ولا يُرى ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا يريد، ولا , ولا ... وقالوا: سبحان المنزه عن الصفات! بل نقول: سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد، الذي كلَّم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، ويُرى في الآخرة، المتصف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، المنزَّه عن سمات المخلوقين، وعن جحد الجاحدين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1"2 ا. هـ 30 ذكر الكاتب في نهاية كتابه: مؤلفاته المطبوعة والمخطوطة فبلغ عدَّة ما ذكره "ثلاثة وخمسين كتاباً" ثم قال بعد سردها: "وهناك مؤلفات ورسائل لم تكمل بعد نذكر أسماءها في المطبوعات الجديدة إن شاء الله تعالى". قلت: لئن كانت هذه الكتب المذكورة منسوجة على منوال هذا الكتاب مبنية على ما بني عليه من الكذب والغش والتدليس والتزوير والقول بلا علم والظلم والجور وغمط الحقوق والتعالم، وأحسبها كذلك ف"كل إناء بالذي فيه ينضح" "وكل ينفق مما عنده" فيا هول مصيبة الكاتب ويا عظم محنته.

_ 1 سورة الشورى، الآية 11. 2 مختصر العلو للذهبي اختصار العلامة الألباني حفظه الله (ص:269) .

والله يقول: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} 1. هذا إن كان هو مؤلف هذه الكتب؛ إذ يذكر بعض طلبة العلم الثقات أنه لا يحسن التأليف والكتابة ولا يصمد عند البحث والمناقشة لقصور علمه وقلة فهمه، فإن كان الأمر كذلك فإنَّ المصيبة عليه أعظم إذ كيف رضي بأن يجعل اسمه مطيةً لتلك النفايات. نسأل الله السلامة والعافية في الدين والدنيا، وأن يعيذنا والمسلمين من غوائل البدع وشرور أهلها بمنه وكرمه. وكان الفراغ من كتابة هذا الردّ صبيحة يوم الخميس الموافق للرابع والعشرين من شهر صفر سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة. والحمد لله وحده لا شريك له، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

_ 1 سورة النحل، الآية 25.

§1/1