القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عبد العزيز الراجحي

خطبة الرسالة

القول البين الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي خطبة الرسالة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، وأستغفره وأستهديه، أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، موعظة منه سبحانه لعباده لعلهم يتذكرون، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد أفضل داع إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة على بصيرة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويصبر على ما أصابه، احتسابًا لوجه الله، وأداءً لرسالة ربه، وتبليغًا للأمانة، ونصحًا للخلق وإرشادًا لهم، وعلى آله وأصحابه وأتباعه المقتدين به في النصح للخلق ودعوتهم إلى الله وأمرهم بالخير ونهيهم عن الشر، فهم الذين قال الله فيهم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) . أما بعد:

(1) سورة يوسف آية: 108.

فإن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام حتى ألحقه بعض العلماء بأركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا عليها، ولا غرو فإن صلاح العباد في معاشهم متوقف على طاعة الله ورسوله، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. فلما كان هذا الأصل بهذه المنزلة العظيمة من الدين، ولما تساهل أكثر الناس به في هذا الزمن، فأضاعه كثير منهم، وداهن فيه آخرون حتى انتشرت المنكرات وعمت وطمت، وامتلأ منها البر والبحر والجو، رأيت أن أكتب في ذلك رسالة مختصرة، أبين فيها عظم هذا الواجب، وما يترتب على الإخلال به، وما يتبع ذلك من المباحث، مع قصر الباع في ذلك، قيامًا ببعض الواجب، وإن كنت لست من أهل تلك المسالك, ورتبت الرسالة على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة. فالمقدمة تشتمل على ما يلي: 1- معنى المعروف والمنكر لغةً. 2- معنى المعروف والمنكر شرعًا. 3- المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما وانفراد أحدهما. 4- عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله. 5- واجب العلماء وتحذيرهم من التقصير في العمل.

والباب الأول: في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والفصل الثاني: في حكم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القادر. والفصل الثالث: في شروط المتصدي للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والباب الثاني: في إنكار المنكر، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في كيفية الإنكار. والفصل الثاني: في درجات الإنكار. والفصل الثالث: في مرتبتي تغيير المنكر أو طريقي الدعوة إلى الله. والباب الثالث: في الأحوال التي يسقط فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في الحال الأولى. والفصل الثاني: في الحال الثانية. والفصل الثالث: في الحال الثالثة. والخاتمة تشتمل على ما يلي: 1- خطر المداهنة في دين الله. 2- الفرق بين المداراة والمداهنة. 3- الحكمة في مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- المفاسد المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- الحامل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد أوردت فيها آيات من كتاب الله وأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورقمت الآيات وخرجت الأحاديث تيسيرًا على الباحث عند الرجوع إليها، كما نقلت نصوصًا من أقوال العلماء والمفسرين، وبينت مصادرها في أواخر الصفحات ليطمئن القارئ وليكون على ثقة، للاتفاق على جلالة هؤلاء العلماء وعلمهم وورعهم، وذكرت في آخر الرسالة بيانًا بأسماء المراجع والكتب التي استفدت منها في بناء الرسالة، وفهرست الموضوعات إكمالًا للفائدة وتسهيلًا لمن يطلب البحث عن جزئية من جزئيات الرسالة، وسميتها -القول البيّن الأظهر في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- والله أسأل أن ينفع بها، وأن يجعل العمل لوجهه خالصًا، وأسأله الاستقامة والثبات على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، ومن الله أستمد العون والتوفيق والسداد وأستلهمه الرشاد وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه. الكاتب

المقدمة

1- بيان معنى -المعروف والمنكر- لغةً: المعروف في اللغة، يدور معناه غالبًا على ما تعارف عليه الناس وعلموه ولم ينكروه, والمنكر في اللغة، يدور معناه غالبا على ما جهله الناس واستنكروه وجحدوه. قال في القاموس: عرفه يعرفه معرفة وعرفانًا وعرفه بالكسر، وعِرِفّانا بكسرتين مشدّدة الفاء، علمه، والمعروف ضد المنكر (1) . والنّكُر بالضم وبضمتين، المنكر كالنكراء، والأمر الشديد، والنكرة خلاف المعرفة، وتناكر تجاهل، والقوم تعادوا، ونكر فلان الأمر كفرح نكرًا -محركة-، ونُكُرًا ونُكُورًا بضمها، ونكيرًا، وأنكره واستنكره وتناكره جهله، والمنكر ضد المعروف اهـ (2) .

(1) انظر ج3 ص 178 -179. (2) انظر ج2 ص 153 -154.

وقال في لسان العرب: عرف العرفان العلم ... والمعروف ضد المنكر، والعُرف ضد النكر، يقال: أولاه عرفًا أي معروفًا, والمعروف والعارفة خلاف النكر، والمعرف كالعرف، وقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (1) أي مصاحبًا معروفًا (2) والإنكار: الجحود, وقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (3) أي أقبح الأصوات, والنُّكْر، والنُكُر: الأمر الشديد, والمنكر من الأمر خلاف المعروف, وقد تكرر في الحديث الإنكار والمنكر وهو ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر، والنكْر والنّكْراء -ممدود-: المنكر، وفي التنزيل العزيز: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} (4) ونكر الأمر نكيرًا، وأنكره إنكارًا ونُكْرًا، جهله عن كراع، وفي التنزيل العزيز: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} (5) اهـ (6) . وقال في المعجم الوسيط: العُرْفُ: المعروف، وهو خلاف النكر، وما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم (7) .

(1) سورة لقمان آية: 15. (2) انظر ج9 ص 236 -239. (3) سورة لقمان آية: 19. (4) سورة الكهف آية: 74. (5) سورة هود آية: 70. (6) انظر ج5 ص 233 -234. (7) انظر ج2 ص 601.

نَكر فلان نَكَرا ونُكرا ونكارة، فطن وجاد رأيه.. والشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} (1) ونَكُر الأمر نكارة، صعب واشتدّ وصار منكرًا، وأنكر الشيء جهله، وفي التنزيل العزيز: {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (2) وحقه جحده، وفي التنزيل العزيز: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (3) (4) .

(1) سورة هود آية: 70. (2) سورة يوسف آية: 58. (3) سورة النحل آية: 83. (4) انظر ج2 ص 960.

معنى المعروف والمنكر شرعا

2- بيان معنى -المعروف والمنكر- شرعًا المعروف في الشرع: كل ما يعرفه الشرع ويأمر به ويمدحه ويثني على أهله، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وفي مقدمتها توحيد الله عز وجل والإيمان به. والمنكر في الشرع: كل ما ينكره الشرع وينهى عنه ويذمه ويذم أهله، ويدخل في ذلك جميع المعاصي والبدع، وفي مقدمتها الشرك بالله عز وجل وإنكار وحدانيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته. وعبارات المفسرين في تفسير المعروف والمنكر- لا تتجاوز ذلك. فقيل: المعروف: كل قول حسن وفعل جميل وخلق كامل للقريب والبعيد. وقيل: المعروف: الخير كله، والمنكر: جميع الشر. وقيل: المعروف: ما عرف حسنه شرعًا وعقلًا، والمنكر: ما عرف قبحه شرعًا وعقلًا. وقيل: المعروف: الإحسان والطاعة، وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه (1) . وقيل: المعروف: طاعة الله وما يعرفه الشرع وأعمال البر كلها. وقيل: المعروف: الإيمان، والمنكر الشرك، وقيل: المعروف السنة، والمنكر البدعة (2) . وقيل: المعروف: خلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام، والمنكر عبادة الأصنام وقطع الأرحام، وقيل المعروف: الطاعات والفضائل أجمع.

(1) انظر تفسير ابن سعدي ج -1 ص 194 -196، جـ2 ص 77، جـ3 ص65 -66. (2) انظر تفسير البغوي جـ2 580، جـ4 ص 249.

وقيل: العرف: صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار. وقيل: المعروف: عبادة الله وتوحيده وكل ما أتبع ذلك، والمنكر: عبادة الأوثان وكل ما أتبع ذلك (1) وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها. وقال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: (عرف) قد تَكرر ذكر -المعروف- في الحديث، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه، من المحسِّنات والمقبِّحات، وهو من الصفات الغالبة، أي أمر معروف بين الناس، إذا رأوه لا ينكرونه، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس، والمنكر ضد ذلك جميعه اهـ (2) . وقال: وقد تكرر ذكر -الإنكار والمنكر- في الحديث، وهو ضد المعروف، وكل ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرهه فهو منكر، يقال: أنكر الشيء ينكره إنكارًا فهو مُنكِر، ونَكِره ينكَرهُ نُكْرًا فهو منكور، واستنكره فهو مستنكر، والنكير الإنكار، والإنكار الجحود، اهـ (3) .

(1) انظر تفسير القرطبي جـ99، 344 وحـ8 ص203، وحـ14 ص8. (2) انظر جـ3 ص216. (3) انظر جـ5 ص115.

المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما وانفراد أحدهما

3- بيان المراد بالمعروف والمنكر عند اجتماعهما وانفراد أحدهما إذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر- فإنه يدخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، ولأنه لا يتم فعل الخير إلا بترك الشرّ، ومثال ذلك قول الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (1) فإن الأمر بالمعروف يتضمن النهي عن المنكر. وكذلك إذا أطلق النهي عن المنكر -من غير أن يقرن بالأمر بالمعروف- فإنه يدخل فيه الأمر بالمعروف، وذلك لأن ترك المعروف من المنكر، ولأنه لا يتم ترك الشر إلا بفعل الخير. ومثال ذلك قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} (2) فإن نهيهم عن السوء يتضمن أمرهم بالخير. وأما عند اقتران أحدهما بالآخر فيفسر -المعروف - بفعل الأوامر، ويفسر -المنكر- بترك النواهي، وأمثلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى.

(1) سورة النساء آية: 114. (2) سورة الأعراف آية: 165.

كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) .

(1) سورة التوبة آية: 71.

عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله

4- عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله أصل عظيم من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها وألزمها، حتى ألحقه بعض العلماء بالأركان التي لا يقوم بناء الإسلام إلا عليها، وإنما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، وللنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك والعمل لغير الله، وشرع الجهاد لأجل ذلك، وإن كان الجهاد قدرًا زائدًا على مجرد الأمر والنهي. إذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله يتوقف قيام الدين، فلولاه ما قام الإسلام، ولا ظهر دين الله، ولا علت كلمته، ويتوقف أيضًا قيام الدولة الإسلامية واستقامتها وصلاحها على القيام به، كما أن صلاح العباد متوقف على القيام به.

وبيان ذلك: أن جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، والأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف، والنهي الذي بعث الله به رسوله هو النهي عن المنكر، وبهذا نعت الله النبي والمؤمنين فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) وجميع الولايات -كولاية الحكم، وولاية الحرب، وولاية المال، وولاية الحسبة، وغيرها، إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وولي الأمر إنما نُصِّب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، ولهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين بأهل الصدق والعدل، فإن تعذر ذلك استعان بالأمثل فالأمثل.

(1) سورة التوبة آية: 71.

بل إن صلاح العباد جميعهم يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ إن صلاح العباد ومعائشهم في طاعة الله ورسوله، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ولا يرى تركه والمداهنة فيه إلا من أضاع حظه ونصيبه من العلم والإيمان، فما أَجَلَّ هذا الأصل وما أَعْظَمَهُ وأخطر شأنه في الإسلام؟ (2) .

(1) سورة آل عمران آية: 110. (2) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج28 ص75 -67 وص306، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ7 ص33 -34.

واجب العلماء وتحذيرهم من التقصير في العمل

5- واجب العلماء وتحذيرهم من التقصير في العمل العلماء عليهم واجب عظيم ومسئولية خطيرة، فإن عليهم أمر الناس وإرشادهم إلى الخير، ونهيهم وتحذيرهم من الشرّ، وعليهم نصيحتهم وترغيبهم في الخير، وترهيبهم من الشر، وعليهم أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا، فإن الله تعالى لما ذمَّ اليهود على حرصهم ومبادرتهم الإثم والعدوان، وأكلهم الحرام في قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) بيّن واجب العلماء وحضّهم على القيام به، وهو نهيهم للناس عن المعاصي والآثام التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل وتقوم عليهم الحجة، فقال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} (2) أي هلَّا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم والحكمة عمَّا وقعوا فيه من الإثم وأكل الحرام.

(1) سورة المائدة آية: 62. (2) سورة المائدة آية: 63.

وقد وبَّخَ الله العلماء في تركهم واجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف فقال تعالى في الآية السالفة الذكر: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1) .

(1) سورة المائدة آية: 63.

كما أخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم، وحذّرهم من الكتمان وتوعدهم عليه فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (3) وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ

(1) سورة آل عمران آية: 187. (2) سورة البقرة آية: 159-160. (3) سورة البقرة آية: 174-175.

سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» (1) (2) . وهذا الوعيد الشديد لما ينشأ عن ترك هذا الواجب العظيم -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من الفساد والشر، إذ كيف يصلح الناس، وكيف ينزجر الناس عن المعاصي، وكيف تعظم المعصية في قلوب الجاهلين، وكيف يقفون عند الحدود، وكيف يتورعون عن الشبهات، والعلماء يرونها فلا ينكرونها؟! فما أعظم واجب العلماء؟ وما أشد خطر تقصيرهم في القيام به. (3)

(1) ابن ماجه: المقدمة (264) . (2) الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم عن أبي هريرة، وعلم عليه السيوطي بالصحة، كشف الخفاء للعجلوني جـ2، ص352 مطبعة الفنون - حلب. (3) انظر تفسير الإمام ابن كثير جـ2 ص315 طبعة الحكومة المجموع فيها تفسيري ابن كثير والبغوي، وانظر أيضا تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي ج2 ص148.

قال الإمام أحمد -رحمه الله- في رسالة الصلاة ما نصه: (فرحم الله رجلًا رأى أخاه يسبق الإمام، فيركع أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته، فينصحه ويأمره وينهاه، ولم يسكت عنه، فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر، وإن الشيطان يريد أن تسكتوا عن الكلام فيما أمركم الله به، وأن تدعوا التعاون على البر والتقوى الذي أوصاكم الله به، والنصيحة التي عليكم بعضكم لبعض، لتكونوا مأثومين مأزورين، وأن يضمحل الدين ويذهب، وأن لا تحيوا سنة ولا تميتوا بدعة، فأطيعوا الله بما أمركم به من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان؛ فإن الشيطان لكم عدو مبين، بذلك أخبركم الله عز وجل فقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (1) وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (2) .

(1) سورة فاطر آية: 6. (2) سورة الأعراف آية: 27.

واعلموا أنه ما جاء النقص إلا من المنسوبين إلى الفضل، المكبرين في الجماعات فيمن بالمشرق والمغرب من أهل الإسلام؛ لسكوت أهل العلم والفقه والبصر عنهم، وتركهم ما لزمهم من النصيحة، والتعليم، والأدب، والأمر، والنهي، والإنكار، والتغيير، فلم يروا آمرًا ولا ناهيًا، ولا ناصحًا، ولا مؤدبًا، ولا معلمًا، ولا منكرًا ولا مغيّرًا، إلا ما شاء الله، فجرى أهل الجهالة على المسابقة للإمام، وجرى معهم كثير ممن ينسب إلى العلم والفقه والبصر والنظر استخفافًا منهم بالصلاة.

والعجب كل العجب من اقتداء أهل العلم بأهل الجهل ومجراهم معهم في المسابقة للإمام في الركوع والسجود، والرفع والخفض، وفعله معهم، وتركهم ما حملوا وسمعوا من الفقهاء والعلماء، وإنما الحق الواجب على العلماء أن يعلموا الجاهل وينصحوه، ويأخذوا على يده، فهم فيما تركوا آثمون عصاة خائنون، لجريانهم معهم في ذلك وفي كثير من مساويهم: من الغش والنميمة، ومَحْقَرة الفقراء والمستضعفين، وغير ذلك من المعاصي مما يكثر تعداده, وجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ حَيْثُ لَا يُعَلِّمُهُ» فتعليم الجاهل واجب على العالم، لازم له؛ لأنه لا يكون الويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه من تطوع، لأن الله لا يؤاخذ على ترك التطوع، وإنما يؤاخذ على ترك الفرائض. اهـ (1) .

(1) انظر رسالة الصلاة للإمام أحمد ص110 -111، مطبعة الإمام ومعها رسالتان.

الباب الأول في القيام بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وظيفة المحتسب في الإسلام المحتسب في الإسلام وظيفته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم، فعليه أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها، ويعاقب من لم يصلّ بالضرب والحبس لا القتل، وعليه أن يتعهد الأئمة والمؤذنين، فمن فرط منهم فيما يجب من حقوق الإمامة، أو خرج عن الأذان المشروع ألزمه بذلك، واستعان فيما يعجز عنه بكل مطاع يعين في ذلك، ويأمر المحتسب بالجمع والجماعات، ويصدق الحديث وأداء الأمانات، وينهى المحتسب عن المنكرات: من الكذب والخيانة، وما يدخل في ذلك من تطفيف المكاييل والميزان، والغش في المعاملات والصناعات، ومن العقود المحرمة، مثل: عقود الربا والميسر، ومثل: بيع الغرر والملامسة والمنابذة والنجس، وربا النسيئة وربا الفضل، وسائر أنواع التدليس، وينهى عن المعاملات الربوية، سواء كانت ثنائية أو ثلاثية، إذا كان المقصود بها أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، وينهى أيضا عن تلقي السلع وعن الاحتكار وغير ذلك (1) .

(1) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج28 ص69 -75.

مسألة في شرط سقوط الحرج عن الباقين

مسألة: شَرْط سقوط الحرج عن الباقين، إذا قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من يكفي هو أن يكون سكوته لعلمه أن هذا الواجب قد قام به من يكفي. قال ابن النحاس في كتابه "تنبيه الغافلين ص15 -16": "واعلم أن مقتضى فرض الكفاية، أنه إذا قام به البعض حاز الأجر الجزيل من الله تعالى، وسقط الحرج عن الباقين، ولكن يشترط في سقوط الحرج هنا أن يكون الساكت عن الأمر والنهي إنما سكت لعلمه بقيام من قام عنه بالغرض، فإن سكت ولم يعلم بقيامه، فالظاهر -والله أعلم- أنه لا يسقط عنه الحرج؛ لأنه أقدم على ترك واجب عمدًا، كما لو أقدم على الفطر في رمضان؛ ظانًّا منه النهار باقٍ وكان ليلًا، أو جامع ظانًّا أن الفجر قد طلع وكان ليلًا، فإنه يأثم بذلك. اهـ.

مسألة في الحالتين اللتين يصير فيهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكفاية إلى الفرض العين

مسألة: الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية ولكنه يصير فرض عين في حالتين: الأولى: أن لا يعلم به إلا هو. الثانية: أن لا يتمكن من إزالته إلا هو. قال أبو زكريا النووي -رحمه الله- في شرح صحيح مسلم: "وقد يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يعني يصير فرض عين، كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو غلامه أو ولده على منكر أو تقصير في المعروف" (1) .

(1) انظر تنبيه الغافلين لابن النحاس ص 15.

فائدة في ميزة القائم والمؤدي لفرض الكفاية على القائم بفرض العين

فائدة: القائم والمؤدي لفرض الكفاية، له ميزة على القائم بفرض العين، تلك هي أن القائم بفرض العين أسقط الحرج عن نفسه فقط، والقائم بفرض الكفاية أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين وفرض العين إذا ترك. وقد قال اختص هو بالإثم، وفرض الكفاية إذا ترك أثم الجميع. قال ابن النحاس في كتابه "تنبيه الغافلين" ص 17-18 وقد قال النووي -رحمه الله- في "زوايد الروضة": للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين، من حيث إنه أسقط الحرج عن نفسه وعن المسلمين وقد قال إمام الحرمين -رحمه الله- في "الغياث": "والذي أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين؛ لأنه لو ترك المتعين لاختص هو بالإثم، ولو فعله اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو ترك أَثِمَ الجميع، ولو فعله سقط الحرج عن الجميع، ففاعله ساع في صيانة الأمة عن الإثم، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهمة من مهمات الدين والله أعلم" اهـ.

الأدلة التي تأمر بأداء هذا الواجب

أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أ - الأدلة التي تأمر بأداء هذا الواجب الأدلة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتنوعة، فمنها الأمر بالقيام بهذا الواجب وأدائه، ومنها الثناء عل أهله، ومنها التوبيخ والوعيد لمن تركه، ومنها الذم والعيب على من تركه. أ - فمن الأدلة التي تأمر بأداء هذا الواجب ما يلي: 1- قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) . 2- حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلَسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (2) (3) . 3- وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

(1) سورة آل عمران آية: 104. (2) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3 / 49) . (3) الحديث رواه مسلم وهو في الأربعين النووية وقد سبق.

عن النبي صلى الله عليه وسلم «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهِ, قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَاعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ, قَالُوا: مَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» (1) . فهذه الأدلة صريحة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بأداء هذا الواجب والقيام به.

(1) البخاري: المظالم والغصب (2465) , ومسلم: اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ (2121) , وأبو داود: الأدب (4815) , وأحمد (3 / 36) .

الأدلة التي فيها الثناء على أهله والمدح لمن فعله

ب - الأدلة التي فيها الثناء على أهله والمدح لمن فعله ومن الأدلة التي فيها الثناء على أهله والمدح لمن فعله ما يلي: 1- قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) . 2- قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) . 3- قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (3) . 4- قوله تعالى:

(1) سورة آل عمران آية: 110. (2) سورة التوبة آية: 71. (3) سورة آل عمران آية: 113-114.

{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) .

(1) سورة النساء آية: 114.

الأدلة التي فيها التوبيخ والوعيد لمن تركه

ج- الأدلة التي فيها التوبيخ والوعيد لمن تركه ومن الأدلة التي فيها التوبيخ والوعيد لمن تركه ما يلي:- 1- قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1) . قال القرطبي في تفسير هذه الآية جـ6 ص 237: "ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". اهـ وقال ابن كثير على هذه الآية: جـ3 ص189، وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عطية حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال: "ما في القرآن أشدّ توبيخًا من هذه الآية ". 2- قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) .

(1) سورة المائدة آية: 63. (2) سورة المائدة آية: 78-79.

قال ابن كثير على هذه الآية جـ3 ص 205: " أي كان لا ينهى أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك؛ ليحذر أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه فقال: لبئس ما كانوا يفعلون". اهـ وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ج6 ص253: "قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه". اهـ وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسير هذه الآية جـ 2ص155: "أي كانوا يفعلون المنكر ولا ينهى بعضهم بعضًا، فيشترك بذلك المباشر وغيره، الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك، وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه ولغضبوا لغضبه". اهـ 3- وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (1) .

(1) سورة الأعراف آية: 165.

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية جـ3 ص 576: "فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحًا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيمًا فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين". اهـ 4- وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) . قال القرطبي على هذه الآية ج4 ص47: "دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبًا في الأمم المتقدمة". اهـ وقال في ص48 جـ4، أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه. 5- وفي صحيح البخاري وجامع الترمذي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال:

(1) سورة آل عمران آية: 21.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ الْقَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا، إِذَا اسْتَقَوا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا» (1) (2) . هذا الحديث مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم للاعتبار والتفكر والانتقال إلى نظيره وشبيهه، فإن من فوائد الأمثال تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر، فبالأمثال يعبر من الشيء إلى نظيره، ويستدل بالنظير على النظير، وهذا عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوع من أنواع الوحي، فإنها مبنية على القياس والتمثيل واعتبار المعقول بالمحسوس (3) .

(1) البخاري: الشركة (2493) , والترمذي: الفتن (2173) , وأحمد (4 / 268,4 / 269,4 / 270,4 / 273) . (2) انظر رياض الصالحين ص97، المطبعة اليوسفية. (3) انظر أعلام الموقعين جـ1 ص150، وص190.

وهذا الحديث عظيم جليل القدر، استنبط العلماء منه فوائد عظيمة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن النحاس في كتابه "تنبيه الغافلين" ص77 -78، ما نصه: " واعلم أن في تمثيل النبي صلى الله عليه وسلم هذا جملة من الفوائد: 1- منها: أن المسلمين مشتركون في الدين الذي هو آلة النجاة في الآخرة، كاشتراك أهل الدنيا في السفينة التي هي آلة النجاة في الدنيا، وكما أن سكوت شركاء السفينة عن الشريك الذي أراد فسادها سبب هلاكهم في الدنيا، كذلك سكوت المسلمين عن الفاسق وترك الإنكار عليه سبب هلاكهم في الآخرة، بل في الدنيا، كما في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى. 2- ومنها: أنه كما لا ينجي الشركاء من الهلاك قول المفسد، إنما أفسد فيما يخصني، كذلك لا ينجي المسلمين من الإثم والعقوبة قول مرتكب المنكر: إنما أجني على ديني لا على دينكم، وعليكم أنفسكم، ولي عملي ولكم عملكم، وكل شاة معلقة بعرقوبها، ونحو هذا الكلام مما يجري على ألسنة الجاهلين، لأن شؤم فعله وسوء عاقبته فساد يشملهم أجمعين.

3- ومنها: أن أحد الشركاء في السفينة إذا منع المفسد من خرقها كان سببًا في نجاة أهل السفينة كلهم، كذلك من قام من المسلمين بإنكار المنكر كان قائمًا بفرض الكفاية عنهم، وكان سببًا لنجاة المسلمين جميعًا من الإثم، وله عند الله الأجر الجزيل على ذلك. 4- ومنها: أنه إذا أنكر مُنْكِر من أهل السفينة على الشريك الذي أراد خرقها، فاعترض عليه معترض منهم، نسب ذلك المعترض إلى الحمق وقلة العقل، والجهل بعواقب هذا الفعل، إذ المنكر ساع في نجاة المعترض وغيره، كذلك لا يعترض على من ينكر المنكر إلا من عظم حمقه وقل عقله، وجهل عواقب المعصية وشؤمها، إذ المنكر قائم بإسقاط الفرض الواجب على المعترض وغيره، وساع في نجاتهم وخلاصهم من الإثم والحرج. 5- ومنها: أن من سكت عن خرق الشريك السفينة مع استطاعته حتى غرق، آثم فيما نزل به، وعاص بقتل نفسه، كذلك الساكت عن إنكار المنكر آثم بسكوته، عاص بإهلاك نفسه.

6- ومنها: أن شركاء السفينة إذا سكتوا عمن أراد خرقها كانوا هم وإياه في الهلاك سواء، ولم يتميز المفسد في الهلاك من غيره، ولا الصالح منهم من الطالح، كذلك إذا سكت الناس عن تغيير المنكر عمهم العذاب ولم يميز بين مرتكب الإثم وغيره، ولا بين الصالح منهم وغيره كما سيأتي. 7- ومنها: أنه لا يقدم من الشركاء على خرق السفينة إلا من هو أحمق، يستحسن ما هو في الحقيقة قبيح، ويجهل عاقبة فعله الشنيع، كذلك لا يقدم على المعصية إلا من استحسنها لنفسه، وجهل ما فيها من عظيم الإثم وأليم العاقبة، إذ لو علم حق العلم أنه يفعل في دينه بمعصيته من الفساد ما يفعله خارق السفينة؛ لما أقدم على المعصية أبدًا. 8- ومنها: أنه لا يقدم على خرق السفينة من آمن يقينًا بما في خرقها من هلاكه، إذ لا يقدم على إهلاك نفسه إلا من جهل أو شك فيه، كذلك لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن بوعيد الله تعالى وأليم عذابه على الزنا، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن اهـ (1) .

(1) الترقيم ليس موجودًا في الأصل.

9- وفي الصحيحين عن زينب بنت جحش -رضي الله عنها-: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (1) . 10- وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ يَبْعَثُ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ» (2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

(1) البخاري: أحاديث الأنبياء (3346) , ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2880) , والترمذي: الفتن (2187) , وابن ماجه: الفتن (3953) , وأحمد (6 / 428) . (2) الترمذي: الفتن (2169) .

11- وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يَا هَذَا، اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ, ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ

فَاسِقُونَ} (1) ثم قال: كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ بِبَعْضٍ، ثَُّم لَيَلْعَنَنَّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وهذا لفظ أبي داود ولفظ الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي، نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» (2) معناه: تعطفوهم وتقهروهم وتلزموهم باتباع الحق.

(1) سورة المائدة آية: 78-81. (2) الترمذي: تفسير القرآن (3047) .

12- قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) . قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان"، تعليقًا على استشهاده بهذه الآية جـ2 ص171: "والتحقيق في معناها، أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره، هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب، صالحهم وطالحهم، وبه فسرها جماعة من أهل العلم، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك كما قدمنا طرفًا منها". اهـ 13- وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} (2) . فبيّن سبحانه أنه أهلكهم إلا قليلًا منهم ممن كانوا ينهون عن الفساد (3) .

(1) سورة الأنفال آية: 25. (2) سورة هود آية: 116. (3) انظر تنبيه الغافلين لابن النحاس ص6.

14- وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَاريُّونَ وَأَصَحَابٌ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهُمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» (1) . 15- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» (2) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.

(1) مسلم: الإيمان (50) , وأحمد (1 / 458) . (2) أبو داود: الملاحم (4344) , وأحمد (3 / 61) .

قال ابن النحاس في كتابه "تنبيه الغافلين" ص 13: وفي هذه الأحاديث دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الجهاد المفترض على المسلمين وأنه في الأئمة الجائرين والأمراء الظالمين أفضل أنواعه؛ لأنه يعرض نفسه للقتل ويجود بها لله تعالى اهـ.

الأدلة التي فيها الذم والعيب لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

د- الأدلة التي فيها الذم والعيب لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن الأدلة التي فيها الذم والعيب لمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ما يلي: 1- قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) .

(1) سورة آل عمران آية: 187.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره هذه الآية: (1) الميثاق: هو العهد الثقيل المؤكد، وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل من أعطاه الله الكتب، وعلمه العلم أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله، ولا يكتمهم ذلك، ويبخل عليهم به، خصوصًا إذا سألوه أو وقع ما يوجب ذلك، فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبيّنه ويوضح الحق من الباطل، فأما الموفقون فقاموا بهذا أتم القيام وعلَّموا الناس مما علمهم الله؛ ابتغاء مرضاة ربهم، وشفقة على الخلق، وخوفًا من إثم الكتمان، وأما الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى ومن شابههم، فنبذوا هذه العهود والمواثيق وراء ظهورهم فلم يعبئوا بها، فكتموا الحق وأظهروا الباطل، تجرُّؤًا على محارم الله، وتهاونًا بحقوقه تعالى وحقوق الخلق، واشتروا بذلك الكتمان ثمنًا قليلًا، وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض الرياسات والأموال الحقيرة من سفلتهم المتبعين أهواءهم، المقدمين شهواتهم على الحق {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (2) لأنه أخسّ العِوض. اهـ.

(1) انظر جـ1 ص 223 -224. (2) سورة آل عمران آية: 187.

شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشروط التالية: 1- الإسلام: لأن القيام بالأمر والنهي نصرة للدين، فلا يقوم به من هو جاحد لأصل الدين، ولأن الأمر والنهي فيه قوة وسلطة وعلوٌّ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا. 2- التكليف: لأنه شرط لوجوب سائر العبادات، فلا يجب على مجنون ولا على صبي، ولو أنكر الصبي جاز وأثيب على ذلك، وليس لأحد منعه؛ لأن الأمر والنهي قربة وهو من أهل أدائها، وإن لم يكن أهلًا لوجوبها، ويجب على العبد والمرأة مع الاستطاعة. 3- الاستطاعة: لأن الله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (2) رواه البخاري ومسلم. ويشترط في الفعل الذي يجب إنكاره: 1- أن يكون منكرًا سواء كان صغيرة أو كبيرة. 2- أن يكون المنكر موجودًا، فمن فرغ من شرب الخمر مثلًا لم يكن لآحاد الناس الإنكار عليه إلا بالوعظ إذا صَحَّ من سكره.

(1) سورة البقرة آية: 286. (2) البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الفضائل (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (2) , وأحمد (2 / 313) .

3- وأن يكون المنكر ظاهرًا بغير تجسس، فمن ستر معاصيه في داره وأغلق عليه بابه، فإنه لا يجوز لأحد أن يتجسس عليه ما لم يظهر شيء من ذلك. 4- أن يكون المنكر معلومًا بغير اجتهاد، فينكر على من خالف نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جليًا، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه (1) . واختلف في الشرطين الآتيين: 1- إذن الإمام، والصحيح عدم اشتراطه؛ لأن آحاد المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأمرون وينهون من غير نكير ولعموم الأدلة الموجبة لذلك لكل من قدر عليه. قال الغزالي قد شرط قوم أن يكون مأذونًا له من جهة الإمام، وهذا الاشتراط فاسد؛ فإن الآيات والأخبار تدل على أن كل من رأى منكرًا فسكت عليه عصى، أينما رآه وكيفما رآه، على العموم بلا تخصيص، فشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له اهـ (2) . وقال الرافعي والنووي وغيرهما: لا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد الناس من المسلمين وواجب عليهم. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين بأن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع تقرير المسلمين إياهم على ذلك، وترك توبيخهم على التشاغل بغير ذلك بغير ولاية" انتهى (3) .

(1) انظر تنبيه الغافلين ص 18 -30. (2) انظر تنبيه الغافلين ص20. (3) انظر تنبيه الغافلين ص20.

قال ابن النحاس في "تنبيه الغافلين" ص20: "قلت: وفي قوله صلى الله عليه وسلم للفقراء الذين شكوا إله سبق الأغنياء: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَدَّقُونَ بِهِ» (1) وذكر من ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقوله صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إِلَّا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ» (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» (3) وغير ذلك من الأحاديث المتقدمة والآتية التي لم يخصص فيها بعض الناس دون بعض أدلّ دليل على ذلك والله أعلم". اهـ 2- العدالة: ذهبت المعتزلة إلى اشتراط العدالة وأنه ليس لفاسق أن يأمر وينهى، والصحيح عدم اشتراطه كما ذهب إليه أهل السنة؛ لأن الفاسق مسلم مكلف فتشمله أدلة الوجوب، ولأن المكلف عليه واجبان: واجب العمل، وواجب الدعوة والأمر والنهي، فإذا قصّر في أداء أحد الواجبين فإن ذلك لا يسقط عنه الواجب الآخر.

(1) مسلم: الزكاة (1006) , وأحمد (5 / 168) . (2) البخاري: الصلح (2707) , ومسلم: الزكاة (1009) , وأحمد (2 / 316) . (3) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3 / 20,3 / 49,3 / 54) .

قال القرطبي في تفسيره أوائل سورة آل عمران: "ليس من شرط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عدلًا عند أهل السنة خلافًا للمعتزلة حيث تقول لا يغيره إلا عدل، وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس" اهـ (1) . وقال القرطبي في تفسيره على آية {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (2) جـ 6 ص253 -254، وقال ابن عطية قال حذَّاق العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليمًا عن معصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضًا, وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضًا؛ لأن قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (3) يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك الناهي. انتهى. وقال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلًا ما يأمر به، مجتنبًا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلًّا بما يأمر به، وإن كان متلبسًا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، وأن يأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يحل له الإخلال بالآخر. انتهى (4) .

(1) انظر «تنبيه الغافلين» ص21. (2) سورة المائدة آية: 78. (3) سورة المائدة آية: 79. (4) انظر أضواء البيان جـ2 ص169.

توهم عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورده

توهم مردود قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1) عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا الواجب يسقط إذا أدى الإنسان الواجبات التي عليه لظاهر قوله {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2) . وهذا الوهم باطل مردود لما يأتي: 1- أن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة وسعيد بن المسيب كما نقله الألوسي عنهما في تفسيره وابن جرير ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب 2- أن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، فمن العلماء من قال: {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (3) أي أمرتم فلم يسمع منكم، ومنهم من قال: يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية، وهو ظاهر جدًا، ولا ينبغي العدول عنه لمنصف.

(1) سورة المائدة آية: 105. (2) سورة المائدة آية: 105. (3) سورة المائدة آية: 105.

3- أن الله تعالى أقسم أن الإنسان في خسر إلا من استثناه في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ} {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فدل ذلك على أن من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر لم يتواص بالحق ولم يؤدِّ الواجب، فهو غير مهتدٍ، فيضره ضلال من ضلّ؛ لأنه غير مهتد. 4- أن النصوص دلت على أن الناس تعمهم العقوبة والعذاب إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (2) وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» (3) (4) .

(1) سورة العصر آية: 1-3. (2) سورة الأنفال آية: 25. (3) الترمذي: الفتن (2168) , وأبو داود: الملاحم (4338) , وابن ماجه: الفتن (4005) , وأحمد (1 / 7) . (4) الحديث رواه النسائي بلفظ (إن القوم) ، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان الترغيب والترهيب جـ3 ص229، واستشهد به شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى جـ28 ص127.

5- أن صدِّيق هذه الأمة أبا بكر رضي الله عنه دفع هذا الوهم حينما قرأ هذه الآية وأوضح معناها، وبيّن أنها لا تدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ» (2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة. وفي رواية لأبي داود سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» (3) . وعند النسائي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» (4) (5) .

(1) سورة المائدة آية: 105. (2) أبو داود: الملاحم (4338) , وأحمد (1 / 1) . (3) أبو داود: الملاحم (4338) , وأحمد (1 / 9) . (4) الترمذي: الفتن (2168) , وأبو داود: الملاحم (4338) , وابن ماجه: الفتن (4005) , وأحمد (1 / 7) . (5) انظر أضواء البيان جـ2 ص 169 -170، وانظر تنبيه الغافلين ص 81.

قال ابن النحاس في "تنبيه الغافلين" ص82: ولا نعلم أحدًا من العلماء ذهب إلى أن معنى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (1) أنه لا يلزمكم أن تأمروا بمعروف ولا تنهوا عن منكر؛ لأن ضلال غيركم لا يضركم، معاذ الله أن يذهب إلى هذا أحد غير الجهلة العوام الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، إذا أمرت أحدهم بمعروف أو نهيته عن منكر قال: قال الله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (2) فيتأول الآية على غير تأويلها كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ويردف إثم المعصية بإثم تفسير القرآن برأيه وهو من الكبائر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وما علم المسكين أن شؤم العاصي وعقوبته في الدنيا والآخرة، تعم المداهن الذي لم ينكر المنكر قطعًا. اهـ. وبهذا تتبين الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله تعالى {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (3) ويؤيده كثرة الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما سبق ذكر طرف منها.

(1) سورة المائدة آية: 105. (2) سورة المائدة آية: 105. (3) سورة المائدة آية: 105.

توهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند سلطان جائر إلقاء بالنفس إلى التهلكة ورده

وهم آخر ورده قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) أن من جهر بكلمة الحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر عند سلطان جائر أو أمير مسلّط، فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، وأن هذه الآية الكريمة تشمله. وهذا الوهم باطل مردود لما يأتي: 1- أن من جهر بكلمة الحق عند السلطان والأمير الجائر فإنه من أفضل المجاهدين كما في حديث أبي سعيد الخدري: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» (2) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن فكيف يكون ملقيًا بنفسه إلى التهلكة وهو من أفضل المجاهدين؟!

(1) سورة البقرة آية: 195. (2) أبو داود: الملاحم (4344) , وأحمد (3 / 61) .

2- إن هذه الآية جارية على ألسنة كثير من الناس في مثل هذا؛ لما غلب عليهم من الجهل بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استولى على قلوبهم من الركون إلى مداهنة الخلق، وإيثار مودتهم وبقاء صحبتهم، وثقل كلمة الحق على ألسنتهم، وما يلقيه الشيطان في قلوبهم من الخوف والجبن، واعتقاد أن السكوت عن المنكر واجب، وما علموا أن التهلكة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن النجاة إنما تكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تدل على ذلك النصوص الكثيرة. 3- أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه دفع الوهم حينما أوّلها بعض الناس بالمجاهد الذي يحمل على صفوف الكفار، فبين أبو أيوب الأنصاري سبب نزولها، وأنه ترك الغزو وإصلاح الأموال.

فخرّج الترمذي وصححه عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صنعًا عظيمًا من الروم فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل بينهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيده إلى التهلكة؟! فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس إنكم لتأولون هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، لمّا أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرًّا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو قمنا في أموالنا وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه ما يرد علينا ما قلنا: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب رضي الله عنه شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم (2) .

(1) سورة البقرة آية: 195. (2) انظر تنبيه الغافلين لابن النحاس ص59 -60.

التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه

الفصل الثاني حكم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة على ذلك التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه: مما سبق من الأدلة يتضح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عظيم من واجبات الإسلام، وأن ترك القيام به مع القدرة على ذلك يوجب غضب الرب ومقته وعقوبته، وأن التارك له مع القدرة يوصف بضعف الإيمان وقلة الديانة، وأن من لم ينكر المنكر مع القدرة فهو شريك للفاعل في الإثم والوزر والعار، ويوصف بأنه شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل يسمى شيطانًا ناطقًا. فالتارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه يوجب له فعله هذا ثلاثة أمور: الأمر الأول: أنه ضعيف الإيمان وقليل الدين ويوصف بأنه شيطان أخرس، ويخشى عليه من موت قلبه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره, إلى أن قال: وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما, إلى أن قال: وقد غرّ إبليسُ أكثر الخلق بأن حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالًا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي. إلى أن قال: وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلَمِّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله، بذل وتبذل وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب

الإنكار الثلاثة بحسب وسعة. وهؤلاء -مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم- قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، انتهى كلامه رحمه الله (1) . الأمر الثاني: أنه إذ رأى المنكر يفعل ولم ينكر على صاحبه وهو قادر شاركه في الإثم والوزر والعار. ويدل على هذا حديث أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (2) . قال ابن النحاس تعليقًا على هذا الحديث بعد سياق رواية النسائي لهذا الحديث بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَغَيَّرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَغَيَّرَهُ فَبِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِلِسَانِهِ فَغَيَّرَهُ بِقَلْبِهِ فَقَدْ بَرِئَ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (3) .

(1) انظر إعلام الموقعين جـ2 ص157 -158. (2) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3 / 20,3 / 49,3 / 54) . (3) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3 / 10,3 / 20,3 / 49,3 / 52,3 / 54) .

قال ما نصه: "قوله فقد برئ، أي من الإثم بإنكاره، وفيه الدليل الواضح على أن من استطاع الإنكار فلم ينكر أنه غير بريء من الإثم، بل هو شريك فيه كما سيأتي والله أعلم اهـ (1) . وقال القرطبي في تفسيره على قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) . قال: (فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر، قال الله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (3) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية) انتهى (4) .

(1) انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص11 مطابع الرياض شارع المرقب. (2) سورة النساء آية: 140. (3) سورة النساء آية: 140. (4) انظر تفسير القرطبي جـ5 ص418.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره على آية النساء السابقة: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} (1) قال: "وكذلك يدخل فيه -أي في ضد تعظيم آيات الله وإجلالها وتفخيمها- حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدّها لعباده - ثم قال على قوله: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها، والحاصل، أن من حضر مجلسًا يُعْصَى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم أو القيام على عدمها اهـ (3) .

(1) سورة النساء آية: 140. (2) سورة النساء آية: 140. (3) انظر جـ2 ص93.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يجوز لأحد أن يحضر مجالس المنكر باختياره لغير ضرورة، كما في الحديث أنه قال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» (1) ورفع لعمر بن عبد العزيز قوم يشربون الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم صائمًا، فقال: ابدءوا به، أفما سمعتم الله يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) بيّن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن الله جعل حاضر المنكر كفاعله، ولهذا قال العلماء: إذا دعي إلى وليمة فيها منكر كالخمر والزمر لم يجز حضورها، وذلك أن الله تعالى قد أمرنا بإنكار المنكر بحسب الإمكان، فمن حضر باختياره ولم ينكره فقد عصى الله ورسوله، بترك ما أمره به من بغض إنكاره والنهي عنه، وإذا كان كذلك، فهذا الذي يحضر مجالس الخمر باختياره من غير ضرورة، ولا ينكر المنكر كما أمره الله هو شريك الفساق في فسقهم فيلحق بهم" اهـ (3) .

(1) الترمذي: الأدب (2801) , وأحمد (3 / 339) , والدارمي: الأشربة (2092) . (2) سورة النساء آية: 140. (3) انظر مجموع الفتاوى جـ28 ص221 -222.

الأمر الثالث: أن ترك إنكار المنكر مع القدرة علي الإنكار يوجب غضب الله ومقته وعقوبته ويلحق صاحبه اسم الذم. قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره على قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) قال: مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببًا لهلاكهم اهـ (2) .

(1) سورة آل عمران آية: 110. (2) انظر جـ4 ص237.

وساق ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره حديثًا عن الإمام أحمد على آية: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (1) الآية. فقال: وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد، حدثنا شريك بن عبد الله عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ، فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ - قَالَ يَزِيدُ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: فِي أَسْوَاقِهِمْ- وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (2) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» (3) . وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا: أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب، كيف وفيهم فلان العابد؟! فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعّر وجهه فيّ يومًا قط.

(1) سورة المائدة آية: 78. (2) سورة البقرة آية: 61. (3) انظر جـ3 ص 205.

وذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب "التمهيد ": أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه: أن قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إليَّ فقد اكتسبت به العزّ، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب، وأي شيء لك عَلَيّ؟ قال: هل واليت فيَّ وليًّا، أو عاديت فيَّ عدوًّا (1) . وخرّج ابن أبي الدنيا في كتاب "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " عن إبراهيم بن عمرٍو الصنعاني قال: أوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم. قال: يا رب، هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟! قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يواكلونهم ويشاربونهم. وقال مالك بن دينار أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن أقلب مدينة كذا وكذا على أهلها. قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانًا ولم يعصك طرفة عين! فقال: اقلبها عليه وعليهم؛ فإن وجهه لم يتمعّر فيَّ ساعة قط. وفي هذا دليل على أن من لا يستطيع الإنكار باللسان وأمكنه إظهار الإنكار بالتعبيس وتقطيب الوجه وجب عليه ذلك.

(1) انظر أعلام الموقعين جـ2 ص158.

وذكر ابن عبد البر أن الله بعث ملكين إلى قرية ليدمراها، فوجدا فيها رجلًا قائمًا يصلي في مسجد فقالا: يا رب، إن فيها عبدك فلانًا يصلي. فقال الله عز وجل دمراها ودمراه معهم؛ فإنه ما تمعّر وجهه فيّ قط. وذكر ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر «لينقضن الإسلام عروة عروة حتى لا يقال: الله الله، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ولتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم» . وفي المسند مرفوعًا: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوُا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُمْ» (1) . وفي حديث ابن عباس «وَمَا تَرَكَ قَوْمٌ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا لَمْ تُرْفَعْ أَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُمْ» رواه الطبراني

(1) ابن ماجه: الفتن (4004) , وأحمد (6 / 158) .

وذكر الإمام أحمد -رحمه الله- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " يوشك القرى أن تخرب وهي عامرة, قالوا: كيف تخرب وهي عامرة؟ قال: إذا علا فجارها أبرارها، وساد القبيلة منافقوها " (1) .

(1) انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص89 -90، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ7 ص34 -35.

مسألة في الساكت عن إنكار المنكر مع قدرته

مسألة: هل الساكت عن إنكار المنكر مع قدرته يسلم من العقوبة ولو لم يقم بأداء هذا الفرض غيره؟ قد يتوهم بعض الناس أن الساكت عن إنكار المنكر مع قدرته يسلم من العقوبة ولو لم يقم بأداء هذا الفرض غيره، مستدلًّا بقصة أصحاب السبت الذين ذكرهم الله في سورة الأعراف في قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (1) .

(1) سورة الأعراف آية: 163-165.

فإن الله نصّ على نجاة الناهين، ونصّ على هلاك الظالمين، وسكت عن الساكتين، وهذا يدل على أن الساكتين سَلِموا من العقوبة، فدل على أن الساكت عن إنكار المنكر يسلم من العقوبة إذا لم يشارك الفاعل للمنكر في فعله. والجواب: أن هذا التوهم باطل مردود لما يأتي:- 1- أن هذه الفرقة التي قالت: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (1) اختلف المفسرون في نجاتهم وهلاكهم، والظاهر أنهم كانوا من الناجين؛ لأن الله خص الهلاك بالظالمين، وهم ليسوا ظالمين لأمرين: أحدهما: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك عليهم. الثاني: أنهم أبدوا غضبهم عليهم ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم وأن الله سيعاقبهم أشد العقوبة بقولهم للناهين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} (2) فهم لم يداهنوا ولم يسكتوا وإنما اكتفوا بأداء غيرهم لهذا الواجب العظيم (3) .

(1) سورة الأعراف آية: 164. (2) سورة الأعراف آية: 164. (3) انظر تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي جـ3 ص54.

تنبيه في نتائج كثرة رؤية المنكرات

تنبيه قد تقوم كثرة رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها، وتكرر في العين شهودها، ذهبت عظمتها من القلوب شيئا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا تخطر بباله أنها منكرات، ولا يميز بفكره أنها معاصي؛ لما أحدث تكرارها من تألف القلب لها، وفي المثل: إذا كثر الإمساس قلّ الإحساس (1) .

(1) انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص93.

مسألة في وعيد من يأمر بالمعروف ولا يفعله أو ينهى عن المنكر ويفعله

مسألة: في وعيد من يأمر بالمعروف ولا يفعله أو ينهى عن المنكر ويفعله الواجب على كل من الآمر والمأمور اتباع الحق المأمور به، وقد ورد الوعيد الشديد والتوبيخ والزجر البليغ على من يخالف قوله فعله من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فمن ذلك: 1- قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (1) . قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) . 2- قول الله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (3) .

(1) سورة البقرة آية: 44. (2) سورة الصف آية: 2-3. (3) سورة هود آية: 88.

3- ودلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله أنه حمار من حمر جهنم، يجرّ أمعاءه فيها، فأخرج الشيخان في صحيحهما من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّاِر فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ، مَا أَصَابَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (1) ومعنى تندلق أقتابه: تتدلى أمعاؤه والعياذ بالله، كما دل القرآن على أن المأمور إذا أعرض عن التذكرة كحمار أيضًا، قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (2) .

(1) البخاري: بدء الخلق (3267) , ومسلم: الزهد والرقائق (2989) , وأحمد (5 / 205,5 / 206,5 / 207,5 / 209) . (2) سورة المدثر آية: 49-51.

4- وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» (1) أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعن ابن عباس أنه جاء رجل فقال له: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فقال ابن عباس أوَ بلغت ذلك؟ فقال: أرجوه, قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (2) الآية، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (4) الآية، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ولقد أحسن القائل:

(1) أحمد (3 / 231) . (2) سورة البقرة آية: 44. (3) سورة الصف آية: 2. (4) سورة هود آية: 88.

لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم والقائل الآخر: وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض والقائل الآخر: فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر ... به تلق من إياه تأمر آتيا تنبيه: هذا الوعيد الشديد الذي ذكر في الآيات والأحاديث من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض من نار، ومقت الله ليس على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالمًا بذلك وهو ينصح الناس عنه، وعلى تركه المعروف عالمًا بذلك وهو يأمر الناس به ويرغبهم فيه ويحثهم عليه، فالوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه في حدّ ذاته خير وهدى، وبهذا يتبين أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عن صالح ولا طالح كما سبق، وأن العدالة لا تشترط في الآمر والناهي، وأن المسلم عليه واجبان: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجب العمل بما يأمر به من المعروف، واجتناب ما ينهى عنه من المنكر، فإذا فعل واحدًا من الواجبين وترك واحدًا، أو تركهما معًا فعليه الوعيد.

وخلاصة القول: أنه لا تلازم بين أمر الإنسان بالمعروف وفعله له، ونهيه عن المنكر وتركه له، وأنه يجب على المسلم فعل ما يستطيع من ذلك، وعدم المانع فعليه الوعيد كما سبق في كلام القرطبي والنووي وغيرهما من العلماء (1) .

(1) انظر أضواء البيان جـ2 ص172 -173، وتنبيه الغافلين لابن النحاس ص110، 111.

شروط العمل الصالح

الفصل الثالث في شروط المتصدي للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأعمال الواجبة الفاضلة، بل هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها، والله تعالى خلقنا لعبادته وطاعته ليبلونا أيُّنا أحسن عملًا كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) وحدّ العمل الصالح الحسن المقبول عند الله ما كان خالصًا صوابًا، كما قال الفضيل بن عياض أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وإذا كان حدّ العمل الصالح ما اجتمع فيه هذين الأمرين العظيمين: أحدهما: أن يراد به وجه الله. والثاني: أن يكون موافقًا لشرع الله. فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعي إلى الله، يجب أن يتوفر في عمله هذين الأمرين: الإخلاص وصلاح العمل، ولا يكون عمله صالحًا حتى توجد فيه الشروط التالية: 1- العلم والفقه قبل الأمر والنهي

(1) سورة الملك آية: 2.

فإن فقد العلم حلّ محله الجهل والضلال واتباع الهوى، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه " العلم إمام العمل وتابعه ". وقال عمر بن عبد العزيز "من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح" وبالعلم والفقه يحصل الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام، والعلم في هذا المقام لا بد منه ويكون في ثلاثة أمور: أحدها: العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما. ثانيها: العلم بحال المأمور وبحال المنهي. ثالثها: العلم بإتيانه بالأمر والنهي بالصراط المستقيم الذي هو أقرب الطرق إلى حصول المقصود، وهو الصلاح ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر. 2- الرفق مع الأمر والنهي فإن الاستجابة والانقياد والإذعان من المأمور والمنهي لا تكاد تتخلف، إذا قارن الرفق الأمر والنهي والدعوة إلى الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» (1) (2) . وقال في حديث آخر: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» (3) (4) . 3- الحلم والصبر على الأذى بعد الأمر والنهي

(1) أبو داود: الأدب (4807) , وأحمد (4 / 87) , والدارمي: الرقاق (2793) . (2) رواه مسلم عن عائشة الترغيب والترهيب جـ3 ص415، دار إحياء التراث - لبنان. (3) مسلم: البر والصلة والآداب (2594) , وأبو داود: الجهاد (2478) والأدب (4808) , وأحمد (6 / 58,6 / 112,6 / 125,6 / 171,6 / 206,6 / 222) . (4) رواه مسلم عن عائشة بلفظ: إن الرفق لا يكون في شيء، كشف الخفاء جـ1 ص67.

فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعية إلى الله لا بد أن يحصل له أذى، فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر- بالصبر، كما قال تعالى لخاتم الرسل: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (1) . بل الأمر بالصبر مقرون بتبليغ الرسالة، حيث افتتح الله آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وختمها بالأمر بالصبر، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {قُمْ فَأَنْذِرْ} {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (2) فدل ذلك على أن الصبر يجب بعد الأمر والنهي. وفي وصية لقمان لابنه الأمر بالصبر في قوله تعالى: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) .

(1) سورة الأحقاف آية: 35. (2) سورة المدثر آية: 1-7. (3) سورة لقمان آية: 17.

وقد أمر الله بالصبر في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (1) وقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (2) وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} (3) 48 - سورة القلم وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (4) وقوله: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (5) . فلهذه الأمور الثلاثة لا بد منها لكل داعٍ إلى الله وآمر بالمعروف، وناهٍ عن المنكر العلم والرفق والصبر، وجاء في الأثر عن بعض السلف: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه". تنبيه:

(1) سورة الطور آية: 48. (2) سورة المزمل آية: 10. (3) سورة القلم آية: 48. (4) سورة النحل آية: 127. (5) سورة هود آية: 115.

اشتراط هذه الخصال الثلاث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه صعوبة على كثير من الناس، فيتصور أنها لا تتحقق فيه وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط عنه فيتركه، وهذا خطأ؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عظيم، فتركه معصية، وإنما الواجب عليه أن يتقي الله ما استطاع، وأن يستصحب من هذه الخصال الثلاث مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب وسعه وطاقته كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (2) (3) وبهذا يكون قد اتقى الله ما استطاع في أداء هذا الواجب العظيم، وسلك طريق الاعتدال وهو الصراط المستقيم، الذي هو أقرب الطرق إلى حصول المقصود وهو الصلاح والإصلاح (4) .

(1) سورة التغابن آية: 16. (2) البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الفضائل (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجه: المقدمة (2) , وأحمد (2 / 313) . (3) الحديث أخرجه البخاري ومسلم وهو في الأربعين النووية. (4) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية جـ28 ص134 - 136.

المفاسد المترتبة على عدم التخلق بخصال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المفاسد المترتبة على عدم التخلق بهذه الخصال الثلاث عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 1- العلم: الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة فيما يأمر به وفيما ينهى عنه، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فإن كان جاهلًا فقد يأمر بما ليس بمعروف، وينهى عما ليس بمنكر، لا سيما في هذا الزمن الذي انتشر فيه الجهل، وصار المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا عند كثير من الناس. 2- الرفق: ينبغي للداعية أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة واللطافة مع إيضاح الحق، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) فإن كانت دعوته بقسوة وعنف وخرق، فإنها تضر أكثر مما تنفع، وكانت سببًا في نفرة المأمور والمنهي، وربما أخذته العزة بالإِثم فاستمر على ما هو عليه من المنكر وترك المعروف، أو زاد في ذلك بسبب طريقة الداعية الخرقاء. (3) 3- الصبر:

(1) سورة يوسف آية: 108. (2) سورة النحل آية: 125. (3) انظر أضواء البيان جـ2 ص 173 -174.

الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد له من الصبر؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يخالفهم في أهوائهم وشهواتهم وأغراضهم فيعادونه ويؤذونه، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل في أول البعثة حين أخبره أن قومه سيخرجونه: «أومخرجيّ هم؟» أخبره أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ما ترك الحق لعمر صديقًا". فإذا لم يصبر على الأذى لزم من ذلك، إما تعطيل هذا الواجب العظيم -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وإما حصول فتنة وفساد بسبب عدم احتمال الأذى من تعدٍّ على المأمور أو المنهي بالقول أو بالفعل، وقد يؤدي عدم الصبر على الأذى إلى الانتصار للنفس، فيخرج بذلك عن كونه منتصرًا لله ولرسوله ولدينه، وعن الغيرة لله ولحرماته إلى الانتصار لنفسه والحمية لها، وذلك معصية وفساد (1) .

(1) انظر أضواء البيان جـ2 ص 174.

قال الشيخ تقي الدين "الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل، لزم أحد أمرين: إما تعطيل الأمر والنهي، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي، أو مثلها أو قريب منها، وكلاهما معصية وفساد، قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) فمن أمر ولم يصبر، أو صبر ولم يأمر، أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة، وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر" اهـ (2) . وقال القرطبي في تفسيره على آية لقمان {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (3) قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (4) يقتضي حضًّا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر، فهو إشعار بأن المغيّر يؤذى أحيانًا" اهـ (5) .

(1) سورة لقمان آية: 17. (2) انظر الآداب الشرعية والمنح المرعية جـ1 ص176 -177. (3) سورة لقمان آية: 17. (4) سورة لقمان آية: 17. (5) تفسير القرطبي جـ14 ص68.

وقال ابن كثير في تفسير على آية لقمان أيضًا {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) "أي: بحسب طاقتك وجهدك {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (2) علم أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى، فأمره بالصبر، وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (3) أي: إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور" اهـ (4) .

(1) سورة لقمان آية: 17. (2) سورة لقمان آية: 17. (3) سورة لقمان آية: 17. (4) انظر تفسير الإمام ابن كثير جـ6 ص460، طبعة الحكومة للتفسيرين معًا ابن كثير والبغوي.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره على آية لقمان {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) "وذلك يستلزم العلم بالمعروف ليأمر به، والعلم بالمنكر لينهى عنه، والأمر بما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به من الرفق والصبر، وقد صرح به في قوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (2) ومن كونه فاعلًا لما يأمر به كافًّا لما ينهى عنه، فتضمن هذا تكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، وتكميل غيره بذلك بأمره ونهيه، ولما علم أنه لا بد أن يبتلى إذا أمر ونهى، وأن في الأمر والنهي مشقة على النفوس، أمره بالصبر على ذلك فقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ} (3) الذي وعظ به لقمان ابنه {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) أي: من الأمور التي يعزم عليها ويهتم بها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم" اهـ (5) .

(1) سورة لقمان آية: 17. (2) سورة لقمان آية: 17. (3) سورة لقمان آية: 17. (4) سورة آل عمران آية: 186. (5) انظر تفسير الشيخ ابن سعدي جـ6 ص 79.

تنبيه في عدم الحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام عليه الدليل

تنبيه: لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام عليه دليل من كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين وأما ما لا نص فيه فهو من مسائل الاجتهاد، ولا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرًا؛ لأن المصيب مأجور بإصابته والمخطئ معذور، كما هو مقرر في علم الأصول (1) .

(1) انظر أضواء البيان جـ2 ص174.

أمثلة للمعروف الذي يأمر به المحتسب والداعي إلى الله تعالى

أمثلة للمعروف الذي يأمر به المحتسب والداعي إلى الله تعالى 1- توحيد الله عز وجل

لأنه أعرف المعروف، وأعظم واجب وأفضله، ولأجله أوجد الله الثقلين الجن والإنس، وهو الشهادة لله بالوحدانية، وإفراده سبحانه بالعبادة والإنابة والمحبة والذل والخضوع، والدعاء والنذر والرغبة والرهبة والخشوع والاستعاذة، وغير ذلك مما هو خالص حق الله على عباده، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) وفي حديث معاذ قال: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لِي: يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ الَّلهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا, قُلْتُ: أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ, قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا» (4) (5) . 2- الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم

(1) سورة الذاريات آية: 56. (2) سورة الإسراء آية: 23. (3) سورة النساء آية: 36. (4) البخاري: الجهاد والسير (2856) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (3 / 260,5 / 228,5 / 229,5 / 230,5 / 234,5 / 236,5 / 238,5 / 242) . (5) الحديث أخرجه البخاري ومسلم، انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص28.

ومحبته أعظم من محبة الولد والوالد والنفس والناس أجمعين، وطاعته وتصديقه وعبادة الله بما شرعه، والإيمان بالرسول وطاعته تابع للإيمان بالله والشهادة له بالوحدانية؛ فإن الشهادة لله بالوحدانية لا تقبل إلا مقرونة بالشهادة لنبيه بالرسالة، كما قد قرن بين الشهادتين في مواطن متعددة، كما في الأذان والإقامة، وخطبة الجمعة والحاجة والتشهد، وغير ذلك. 3- الصلاة وهي أعرف المعروف من الأعمال، وهي عمود الإسلام وأعظم شرائعه وهي قرينة الشهادتين، وفرضها الله ليلة المعراج، وخاطب بها الرسول بلا وساطة، وهي آخر ما وصى به الرسول أمته، وهي المقرونة بالصبر وبالزكاة وبالنسك وبالجهاد في مواضع من كتاب الله، وهي المخصوصة بالذكر في كتاب الله تخصيصًا بعد تعميم، وأمرها أعظم من أن يحاط به. 4- الزكاة لأنها حق المال وهي قرينة الصلاة في كتاب الله تعالى، وأحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه الممتنعين من أدائها مع أهل الردة وقال: "وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ" (1) . 5- الصيام

(1) الحديث رواه الجماعة إلا ابن ماجه، نيل الأوطار جـ4 ص4.

لأنه الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو سرّ بين العبد وربه، وقد اختصه الله تعالى لنفسه من بين الأعمال، كما في الحديث القدسي: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائََةِ ضِعْفٍ، إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» (1) (2) . 6- الحج لأنه الركن الخامس من أركان الإسلام، وهو عبادة مركبة من المال والبدن، وفيه مجاهدة للنفس يتحمل الصعاب والمشاق وبذل المال، وترك الأهل والولد والوطن والأصحاب، وفيه فعل عبادات متنوعة في المشاعر المقدسة. 7- الصدق والأمانة وهما يكونان في الأقوال والأفعال، فيأمر المحتسب بالصدق في الأقوال، والصدق في الأفعال، وبأداء الأمانة قولًا وفعلًا، كما قد أمر الله بذلك في قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3) وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4) وغير ذلك من النصوص. 8- بر الوالدين وصلة الأرحام

(1) البخاري: الصوم (1904) , ومسلم: الصيام (1151) , والترمذي: الصوم (764) , والنسائي: الصيام (2215) , وابن ماجه: الصيام (1638) , وأحمد (2 / 443) , والدارمي: الصوم (1770) . (2) رواه البخاري ومسلم، انظر الترغيب والترهيب جـ1 ص79 - 80، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. (3) سورة التوبة آية: 119. (4) سورة النساء آية: 58.

فقد أمر الله بذلك في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} (1) الآية لأن أولى الناس ببرِّك وعطفك هم أقاربك، وأقرب الناس للإنسان والداه، فهما السبب في وجوده؛ ولذلك أمر الله بالإحسان إليهما في مواضع متعددة، وقرن حقهما بحقه سبحانه في مواطن من القرآن، ثم بعد ذلك الأقارب علي حسب قربهم، فكل من قرب عظم حقه كما في الحديث الذي فيه: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» (2) (3) . 9- ومن المعروف: حسن العشرة مع الأهل، والإحسان إلى الجيران والأيتام والأرامل والمساكين، والإحسان إلى الناس بماله وعلمه وجاهه، وحسن الخلق معهم وكف الأذى. 10- ومن المعروف: تلاوة كتاب الله بتدبر وتعقل، والإكثار من ذكر الله وشكره، واستعمال جوارحه في طاعة الله، واكتساب المال من وجوه الحلال، وإنفاقه في سبل الخيرات.

(1) سورة النساء آية: 36. (2) أبو داود: الأدب (5140) . (3) الحديث رواه مسلم بلفظ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي انظر رياض الصالحين باب بر الوالدين وصلة الأرحام.

أمثلة للمنكرات المتفشية في المجتمعات الإسلامية التي ينهى المحتسب ويحذر منها

أمثلة للمنكرات المتفشية في المجتمعات الإسلامية التي ينهى المحتسب ويحذر منها 1- الكفر بالله والشرك به عز وجل وهو أعظم ذنب وأكبر معصية، وأعظم الكفر وأغلظه إنكار وجود الله وعبادة المادة، وهو مبدأ الشيوعية الحاقدة الملحدة، فإن مبدأهم -لا إله والحياة مادة- وقد انتشر هذا المبدأ في المجتمعات الإسلامية واعتنقه بعض شبابها، وأُلفت الكتب وقررت النظريات وألقيت المحاضرات التي تثبت وجود الله، وأن هذا الكون لا بدّ له من مدبّر، ولا شك أن هذا الكفر والإلحاد أعظم أنواع الكفر على الإطلاق، وكفر كل كافر جزء من كفر هؤلاء، وهم أعظم كفرًا من كفار قريش وأبي جهل واليهود والنصارى وغيرهم، ثم الشرك بالله عز وجل ذنب عظيم وحوب كبير، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (1) .

(1) سورة لقمان آية: 13.

وهو دعوة غير الله مع الله، أو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كتعظيم الأولياء والصالحين بدعائهم، والاستغاثة بهم، والذبح أو النذر أو الاستعاذة بهم، أو الطواف حول قبورهم، وغير ذلك من أنواع العبادة التي هي خالص حق الله، وقد أخبر الله أن الشرك غير مغفور قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وهذه الأمور منتشرة في كثير من البلدان الإسلامية، فيجب على المحتسب أن ينهى عنها ويحذر منها أشد التحذير، وينكر على القبوريِّين هذه الأشياء، من دعوتهم لهم وطلب المدد وتفريج الكربات والطواف بهم؛ لأنهم سوَّوْهم بالله، حيث صرفوا لهم محض حق الله، وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم حينما يختصمون في النار هم والغاوون يتبيّن لهم ضلالهم حين سوّوهم بالله عز وجل في العبادة، قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) .

(1) سورة النساء آية: 48. (2) سورة الشعراء آية: 94-98.

ومن أنواع الكفر: إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو اعتقاد أنها خاصة بالعرب، أو اعتقاد أن شريعته غير كاملة أو شاملة، أو لا تصلح لهذا العصر، أو الحكم بغير ما أنزل الله مع اعتقاد أنه أحسن من حكم الله، أو مماثل له، أو له الخيرة في ذلك. ومن أنواع الكفر التي يرتد بها عن الإسلام من وقع فيها، الاستهزاء والسخرية بالله أو رسوله، أو كتابه أو سنته، أو بالمتخلق بالسنة لأنه تخلّق بها، أو إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة من الواجبات أو المحرمات بدون شبهة. 2- ترك الصلوات وإضاعتها، أو تأخيرها عن وقتها، أو التهاون بها

وذلك من المنكرات العظيمة التي يجب على المحتسب إنكارها والتحذير منها، فإن ترك الصلوات معصية عظيمة توجب القتل، حتى لو تركها كسلًا فإنه يقتل حدّا، وعند طائفة من العلماء يقتل كفرًا بعد الاستتابة، وتأخيرها عن وقتها من كبائر الذنوب، فينبغي المحافظة عليها في الجُمع والجماعات؛ لأنها أعظم الأعمال، وهي من الشعائر الظاهرة، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: "إن أهم أمركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة" رواه مالك وغيره (1) . 3- مسابقة الإمام في الركوع والسجود والخفض والرفع

(1) انظر مجموع الفتاوى جـ28 ص71.

وهي من المنكرات في الصلاة التي ابتلي بها كثير من المأمومين خداعًا من الشيطان لهم، والواجب على المأموم أن يكون تابعًا لإمامه لا سابقًا له، فلا يكبر المأموم حتى يكبر الإمام وينقطع صوته، كما في حديث أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1) فَقُولُوا: آمِينَ، يُحِبُّكُمُ اللَّهُ، وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْفَعُوا» الحديث. وقد أنكر الإمام أحمد -رحمه الله- في رسالة الصلاة مسابقة الإمام، وبيَّن أنها منكر، فقال ما نصه: "والمضيع لصلاته الذي يسابق الإمام فيها، ويركع ويسجد معه، أو لا يتم ركوعه، ولا سجوده إذا صلى وحده، فقد أتى منكرًا؛ لأنه سارق".

(1) سورة الفاتحة آية: 7.

وقال أيضًا: "فرحم الله رجلًا رأى أخاه يسبق الإمام فيركع أو يسجد معه، أو يصلي وحده فيسيء في صلاته، فينصحه ويأمره وينهاه ولم يسكت عنه، فإن نصيحته واجبة عليه لازمة له، وسكوته عنه إثم ووزر، وإن الشيطان يريد أن تسكتوا عن الكلام فيما أمركم الله به، والنصيحة التي عليكم بعضكم لبعض؛ لتكونوا مأثومين مأزورين، وأن يضمحل الدين ويذهب، وأن لا تحيوا سنة، ولا تميتوا بدعة، فأطيعوا الله بما أمركم به من التناصح والتعاون على البر والتقوى، ولا تطيعوا الشيطان؛ فإن الشيطان لكم عدو مبين، بذلك أخبركم الله عز وجل فقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (1) " اهـ (2) . 4- ترك الطمأنينة في الصلاة، وعدم إتمام الركوع والسجود، والإساءة فيها، ونقرها كنقر الغراب وذلك من المنكرات المنتشرة بين المصلين، خصوصًا من كان يصلي وحده، أو يقضي ما فاته من صلاته مع الإمام، أو كان يصلي في السفر، فتجد كثيرًا من المصلين في هذه الحالات الثلاث، لا يطمئن في صلاته، ولا يتم الركوع ولا السجود، وهذا خلل عظيم في الصلاة، وسرقة منها.

(1) سورة فاطر آية: 6. (2) انظر رسالة الإمام أحمد ص 91 -110، 111.

قال الإمام أحمد في "رسالة الصلاة" ما نصه: "وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا» (1) فسارق الصلاة قد وجب الإنكار عليه ممن رآه والنصيحة له، أرأيت لو أن سارقًا سرق درهمًا، ألم يكن ذلك منكرًا، ويجب الإنكار عليه ممن رآه؟ فسارق الصلاة أعظم سرقة من سرقة الدرهم، وجاء الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «مَنْ رَأَى مَنْ يُسِيءُ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ شَارَكَهُ فِي وِزْرِهَا وَعَارِهَا» وجاء في الحديث عن بلال بن سعد أنه قال: " الْخَطِيئَةُ إِذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ وَلَمْ تُغَيَّرْ ضَرَّتِ الْعَامَّةَ " وإنما تضر العامة لتركهم ما يجب عليهم من الإنكار والتغيير على الذي ظهرت منه الخطيئة، فلو أن عبدًا صلى حيث لا يراه الناس، فيضيع صلاته ولم يتم الركوع ولا السجود كان وزر ذلك عليه، وإن صلى حيث يراه الناس، وضيع صلاته، فلم يتم ركوعها ولا سجودها، كان وزر ذلك عليهم"

(1) أحمد (3 / 56) .

اهـ (1) . 5- أن يقصد بعمل الآخرة الدنيا وحطامها، أو الرياء والمفاخرة والسمعة كتعلم العلم الشرعي بقصد الحصول على المال أو المنصب والجاه، أو بقصد المفاخرة والسمعة، أو تأليف الكتب لأجل ذلك، أو بذل المال وإنفاقه في سبل الخيرات لأجل المفاخرة والمراءاة أو السمعة، فإن ذلك من أقبح المقاصد، وعمل صاحبه باطل وحابط، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) . وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (3) . وقال صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَرُحْ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ» (4) (5) .

(1) انظر ص111 -112. (2) سورة هود آية: 15-16. (3) سورة الإسراء آية: 18. (4) أبو داود: العلم (3664) , وابن ماجه: المقدمة (252) , وأحمد (2 / 338) . (5) الحديث رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم بلفظ: (لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني انظر «تنبيه الغافلين» ص وانظر رياض الصالحين باب تحريم الرياء ص577.

وفي حديث أبي هريرة «أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ وَمُجَاهِدٌ وَمُتَصَدِّقٌ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِأَعْمَالِهِمْ مُرَاءَاةَ النَّاسِ، فَالْأَوَّلُ قَصَدَ مِنْ عِلْمِهِ أَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ وَقَارِئٌ، وَالثَّانِي قَصَدَ مِنْ جِهَادِهِ أَنْ يُقَالَ: شُجَاعٌ وَجَرِيءٌ، وَالثَّالِثُ قَصَدَ مِنْ إِنْفَاقِهِ أَنْ يُقَالَ: جَوَادٌ كَرِيمٌ» (1) (2) . 6- التعامل بالربا وهو من المنكرات المنتشرة في البلدان الإسلامية، وقد عدّه النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات: وهي الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات, وقد توعده الله بالحرب في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) . 7- بيوع الغرر

(1) مسلم: الإمارة (1905) , والترمذي: الزهد (2382) , والنسائي: الجهاد (3137) , وأحمد (2 / 321) . (2) الحديث رواه أحمد ومسلم، انظر نيل الأوطار ج7 ص228. (3) سورة البقرة آية: 278-279.

ويدخل في ذلك التأمين بصوره المتنوعة الذي انتشر في العصر الحاضر: كالتأمين على النفس، أو التأمين على السيارة، أو التأمين على البضاعة، أو غير ذلك؛ لما فيه من الضرر والمخاطرة والجهالة، فهو من أكل المال بالباطل، وما يشبه بيع المعاومة وبيع السنين، وهو بيع الشجر أعوامًا، الذي نهى عنه في حديث جابر قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُعَاوَمَةِ وَالْمُخَابَرَةِ» (1) وفي لفظ بدل المعاومة: «وَعَنْ بَيْعِ السِّنِينَ» (2) (3) ويشبه بيع الملامسة والمنابذة وحبل الحبلة التي نهى عنها في الأحاديث، ويشبه بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، كما في حديث ابن عمر «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» (4) (5) والحكمة في نهي كل من البائع والمبتاع، هي بالنسبة للبائع لئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وبالنسبة للمشتري لئلا يضيع ماله، ويساعد البائع على الباطل (6) .

(1) البخاري: المساقاة (2381) , ومسلم: البيوع (1536) , والترمذي: البيوع (1313) , والنسائي: الأيمان والنذور (3879) , وابن ماجه: التجارات (2266) , وأحمد (3 / 356) . (2) مسلم: البيوع (1536) . (3) الحديث متفق عليه انظر نيل الأوطار جـ5 ص 198. (4) البخاري: البيوع (2194) , ومسلم: البيوع (1534) , والنسائي: البيوع (4519) , وأبو داود: البيوع (3367) , وابن ماجه: التجارات (2214) , وأحمد (2 / 62) , والدارمي: البيوع (2555) . (5) الحديث رواه الجماعة إلا الترمذي انظر نيل الأوطار جـ155. (6) انظر نيل الأوطار جـ5 ص 195.

ولذلك وضع الإسلام الجوائح، وبيّن أنه لو باع ثمرًا فأصابته جائحة وأخذ الثمن من المشتري، فإنه قد أخذ مالًا من أخيه بغير حق، وذلك صريح في الأحاديث، كحديث جابر «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ الْجَوَائِحَ» (1) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وفي لفظ لمسلم «أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» (2) وفي لفظ قال: «إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ» (3) رواه مسلم والنسائي وابن ماجه (4) . 8- الغش في المعاملات، وتطفيف المكيال والميزان، والكذب والخيانة في الأمانات فهي من المنكرات المنتشرة التي ينكرها المحتسب وينهى عنها، والغش يكون في البيوع بكتمان العيوب وتدليس السلع، ويكون في الصناعات، فيجب نهيهما عن الغش والخيانة والكتمان، وبيان الوعيد على هذه الأفعال كقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» (5) (6) . وقال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (7) . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (8) .

(1) مسلم: المساقاة (1554) , والنسائي: البيوع (4529) , وأبو داود: البيوع (3374) , وأحمد (3 / 309) . (2) مسلم: المساقاة (1554) , والنسائي: البيوع (4529) , وأبو داود: البيوع (3374) , وأحمد (3 / 309) . (3) مسلم: المساقاة (1554) , والنسائي: البيوع (4527) , وأبو داود: البيوع (3470) , وابن ماجه: التجارات (2219) , والدارمي: البيوع (2556) . (4) انظر نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار جـ5 ص200 عنوان الباب «باب الثمرة المشتراة يلحقها جائحة» . (5) مسلم: الإيمان (101) , وأحمد (2 / 417) . (6) الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة، رياض الصالحين، باب النهي عن الفسق والخيانة. (7) سورة يوسف آية: 52. (8) سورة النساء آية: 107.

وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (1) . وقال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (2) . 9- تبرج النساء في الأسواق واختلاطهن بالرجال، وخروجهن بالثياب الضيقة أو القصيرة

(1) سورة المطففين آية: 1-3. (2) سورة الشعراء آية: 181-183.

وهذه من الأمور المنكرة المنتشرة في أسواق المسلمين فمن وظيفة المحتسب إنكارها والتحذير منها، وبيان ما ينشأ عن ذلك من الفساد والفتنة، ومناصحتهن ومناصحة أولياء أمورهن، وبيان أنه ينبغي للمرأة أن تقرّ في بيتها ولا تخرج إلا لحاجة، وإذا خرجت فلتخرج محتشمة لابسة ثيابًا واسعة طويلة، بعيدة عن أماكن الرجال والاختلاط بهم؛ عملًا بقول الله تعالى: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) وحذَّر من الوعيد الشديد الذي ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (2) (3) .

(1) سورة الأحزاب آية: 32-33. (2) مسلم: اللباس والزينة (2128) , وأحمد (2 / 355,2 / 440) , ومالك: الجامع (1694) . (3) الحديث رواه مسلم، رياض الصالحين، باب تحريم تشبه الرجال بالنساء.

10- نظر الرجال إلى النساء والتلذذ بذلك، وكذلك نظر النساء إلى ما لا يحل لهن من الرجال والتلذذ بذلك وكل ذلك من الأمور المنكرة التي ينكرها المحتسب، ويباح من ذلك نظر الفجاءة، فإنه لا إثم فيها؛ لعدم القصد والتعمد، وفي الحديث: «لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الثَّانِيَةُ» (1) (2) وما عدا ذلك فإنه غير معفو عنه، إذ إن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس (3) . وسواء نظر إلى المرأة في سوق أو دكان أو مجلة أو تلفاز أو غير ذلك، وقد أمر الله بغض البصر في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (4) . 11- التصوير لذوات الأرواح

(1) الترمذي: الأدب (2777) , وأبو داود: النكاح (2149) . (2) الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، نيل الأوطار. (3) ولا شك في تأثير النظرة وأنها تفعل ما يفعله السامع. (4) سورة النور آية: 30-31.

وهو من المنكرات المنتشرة، فمن وظيفة المحتسب إنكار ذلك وبيان ما فيه من الوعيد الشديد، كحديث عائشة «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ» (1) وحديث ابن عباس «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفُسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ» (2) (3) ولا سيما صور الزعماء والرؤساء لما يحصل بذلك من التعظيم، وصور النساء لما يحصل في ذلك من الفتنة والفساد. 12- سماع الغناء الذي يلهب النفوس ويقعدها

(1) البخاري: اللباس (5954) , وأحمد (6 / 36,6 / 199) . (2) مسلم: اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1 / 308) . (3) الحديث متفق عليه عن ابن عباس، رياض الصالحين، باب تحريم الحيوان إلخ.

وهو من المنكرات المنتشرة في البلدان الإسلامية، وقد حصل بسبب ذلك من الفساد الصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وعن سماع القرآن وتلاوته، والبعد عن مجالس الذكر، وغير ذلك من الفتن والشرور، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك من الكتاب والسنة، فمن ذلك قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) وفسَّر ثلاثة من الصحابة "لهو الحديث" بالغناء. وروى البخاري في صحيحه عن أبي مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» (2) (3) . 13- حلق اللحى أو نتفها أو تقصيرها، أو حلق العارضين منها

(1) سورة لقمان آية: 6. (2) أبو داود: اللِّبَاسِ (4039) . (3) الحديث أخرجه البخاري انظر نيل الأوطار جـ8 ص100.

وهو من المنكرات المنتشرة، فيجب إنكارها وبيان السنة في ذلك، وإنه يجب إعفاؤها وتوفيرها؛ لما في ترك هذه السنة من ارتكاب النهي والتشبه بالكفار والنساء، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» (1) (2) وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (3) (4) . 14- الغيبة والنميمة

(1) البخاري: اللباس (5892) , ومسلم: الطهارة (259) , والترمذي: الأدب (2763,2764) , والنسائي: الطهارة (15) والزينة (5045,5046) , وأحمد (2 / 16,2 / 52,2 / 156) . (2) الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر، ورمز له بالصحة. (3) مسلم: الطهارة (260) , وأحمد (2 / 365,2 / 366) . (4) الحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة، انظر مختصر الجامع الصغير للمناوي جـ2 ص2.

وهما من كبائر الذنوب، والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. والنميمة: نقل الكلام من شخص إلى شخص على وجه الإفساد, والغيبة والنميمة فاكهة كثير من الناس في مجالسهم، فهما من المنكرات المنتشرة، فيجب إنكارهما والتحذير منهما. وقد صور القرآن المغتاب بتصوير بشع، تنفر منه العقول السليمة، وتشمئز منه الفطر المستقيمة، وهو تشبيهه بمن يأكل لحم أخيه الميت، قال تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (1) (2) وتوعد النمام بوعيد شديد، ففي الحديث: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» (3) (4) . وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (5) . 15- استعمال المخدرات والمفترات أكلًا أو شربًا أو مصًّا

(1) سورة الحجرات آية: 12. (2) انظر مختصر الجامع الصغير للمناوي جـ2 ص2. (3) مسلم: الإيمان (105) , وأحمد (5 / 391,5 / 396,5 / 399,5 / 406) . (4) الحديث متفق عليه، انظر رياض الصالحين ص 503. (5) سورة القلم آية: 10-11.

كالدخان والجراك والقات والشمّة وغيرها، فهي من المنكرات المنتشرة التي يجب على المحتسب إنكارها والتحذير منها؛ لما فيها من المفاسد والأضرار، من ضرر الجسد المؤثر على الصحة، وضياع المال، والسهر وضياع الوقت كما يحصل من القات، ولما فيها من الخبث والروائح المنتنة الكريهة الضارة بالجسم وبالمجاور لمستعملها، والله تعالى قد أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (1) وقال في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم مخاطبًا أهل الكتاب: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (2) «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتّر» (3) «وحرَّم النبي صلى الله عليه وسلم إضاعة المال وكثرة السؤال» (4) . 16- السفر إلى بلاد المشركين والإقامة فيها

(1) سورة المائدة آية: 5. (2) سورة الأعراف آية: 157. (3) الحديث أخرجه أبو داود عن أم سلمة، جامع الأصول جـ5 ص 93. (4) الحديث رواه مسلم، انظر رياض الصالحين ص 533.

وذلك من كبائر الذنوب؛ لما ورد من الوعيد على ذلك، كما في حديث سمرة «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ» (1) (2) والحكم قد أنيط وعلق بالمشتق وهو المساكنة والمجامعة، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلّيّة كما هو معروف في الأصول، وقال صلى الله عليه وسلم «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، لَا تَرَاءَى نَارُهُمَا» (3) (4) وذلك لما يخاف في القدوم على المشركين من المخاطرة بالدين، ولا يجوز السفر إلا بشروط قررها العلماء -رحمهم الله تعالى- أخذًا من النصوص وهي: 1- أن يقدر على إظهار دينه والإعلان به، وذلك يستلزم أن يكون عارفًا بدينه بأدلته وبراهينه المتواترة في الكتاب والسنة؛ حتى يتأتى منه الإظهار لدينه، ولا يكفي في إظهار الدين فعل الصلوات فقط، بل لا بد من تكفير المشركين وعيب دينهم، والطعن عليهم، والبراءة منهم، والتحفظ من مودتهم والركون إليهم، واعتزالهم. 2- أن يأمن من الفتنة في دينه، فإن خاف بإظهار دينه الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو بشبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه.

(1) أبو داود: الجهاد (2787) . (2) الحديث أخرجه أبو داود عن سمرة ورمز له بالحسن انظر مختصر الجامع الصغير جـ2 ص291. (3) الترمذي: السير (1604) , والنسائي: القسامة (4780) , وأبو داود: الجهاد (2645) . (4) الحديث رواه مسلم.

3- أن لا يوالي المشركين، بأن يداهنهم أو يلين الكلام لهم، والموالاة كبيرة من كبائر الذنوب، ويمثل العلماء لذلك برفع السوط لهم، وبري القلم، وبلّ الدواة وما أشبه ذلك، كإظهار البشر والبشاشة. أما التولي فهو كفر يخرج من الملة، وذلك يكون بمحبتهم، أو إعانتهم بالنصرة أو بالمال أو بالبدن أو بالرأي، أو أظهر الموافقة لهم على دينهم؛ خوفًا منهم ومداراةً لهم ومداهنةً لدفع شرهم، وإن كان يكره دينهم، ويبغضهم ويحب الإسلام والمسلمين ويستثنى من ذلك المكره، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون له: اكفر وإلا قتلناك، أو فعلنا بك كذا، أو يأخذونه ليعذبونه حتى يوافقهم، فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب بالإيمان، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (1) وقد أجمع العلماء على أن من تكلم بالكفر هازلًا أنه يكفر، فكيف بمن أظهر الكفر خوفًا أو طمعًا؟ ! وأدلة ذلك كثيرة في الكتاب والسنة (2) .

(1) سورة النحل آية: 106. (2) انظر الدرر السنية في الأجوب النجدية جـ7 ص 57 - 58، وص 145، ص154، ص 196، وص 201.

الباب الثاني في إنكار المنكر أمور ينبغي أن ينتبه لها المنكر والآمر قبل الأمر والنهي

1 - في كيفية الإنكار: قبل الكلام على هذه المسألة هناك أمور ينبغي أن ينتبه لها المنكِر والآمر والناهي قبل أن يأمر وينهى وينكر المنكر. الأمر الأول: ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلاحظ بباطنه لطف الله تعالى به، حيث حفظه من مثل المعصية، ولو شاء لكان الأمر بالعكس. الأمر الثاني: أن يلاحظ بباطنه أنه لا يدري هل يدوم له هذا الحفظ، أو يفتن والعياذ بالله، وأنه كم من تائب عابد رجع إلى المعاصي فقبض عليها، وكم من عاصٍ مسرف تاب الله عليه فجنب توبته ما سلف قبلها، فقبض مغفورًا له، فيسأل الله الثبات والاستقامة، ويكثر من قول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء، فيكون متأسيًا بنبيه.

الأمر الثالث: أن يكون بعيدًا عن الكبر والرياء والاحتقار والازدراء، فلا يرى لنفسه عزة وعلوًّا على المأمور والمنهي، بالعلم والتنزّه عن مثل هذه المعصية، ولا يرى احتقار المنكر عليه بالجهل والوقوع في المعصية وإزدراء لذلك، حذرًا من أن يكون قصده الباطن بكلامه إظهار رتبته بشرف العلم والعفة، وإذلال صاحبه بنسبته إلى خسة الجهل ورذالة المعصية، فإن علم من نفسه أن هذا هو الباعث له على الإنكار، فقد وقع في منكر أقبح في نفسه من المنكر الذي أنكره، ومثله في هذا كمثل من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو كمن يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، وهذه مذلة عظيمة وغرور من الشيطان.

الأمر الرابع: ينبغي للمحتسب أن يمتحن نفسه ليتبين له سلامتها من الرياء والعجب وحب الظهور، حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو أن يكون قصده في الباطن زوال المنكر وحصول المعروف، سواء حصل ذلك بسببه أو بسبب غيره، ويرى أن هذا الواجب ثقيل وشاق، ولو كفاه غيره وقام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا يغضب ولا يرى من نفسه كراهية، بل يفرح بزوال المنكر وحصول المعروف، ويود من نفسه أن لو ساعده وشاركه ليحصل على الأجر، ويكون في عداد الدعاة إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فهذه علامات تدل على أنه مخلص، وإن فقدت هذه العلامات ورأى من نفسه كراهية لزوال المنكر على يد غيره، ويثقل عليه أن يرجع هو عن المنكر بنفسه، ويرى من نفسه مسابقة إلى الإنكار، خشية أن يسبقه غيره فيزول على يديه المنكر، لا يقصد المبادرة إلى أداء هذا الواجب العظيم غيرةً على محارم الله وإشاعةً للخير في أرض الله، فإن كان كذلك فليتق الله ولينكر على نفسه أولًا.

الأمر الخامس: ينبغي للمحتسب أن لا يلتفت إلى الوساوس والأوهام التي يلقيها الشيطان، بل يدفعها ويقابلها بصريح الإيمان، وذلك مثل ما يلقيه الشيطان في نفس الآمر والناهي من الخوف والجزع وتقدير وقوع المحذور، من الضرب أو القتل، أو أخذ المال، أو العزل عن المنصب، فإن هذه التقديرات كلها في الحقيقة من وساوس الشيطان، ليثبطه عن القيام بأداء هذا الواجب، ويجعله في عداد الساكتين المداهنين، ليضله عن سبيل النجاة حتى يحشر مع العصاة، بل الواجب مقابلة ذلك بصريح الإيمان، بسبق القضاء والعلم بكل حركة وسكون، وأن الرزق مقسوم، كما أن الأجل محتوم، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» (1) (2) فإذا استحضر الداعية والمحتسب ذلك يكون واثقًا بربه، غير مبال بما يحصل له في ذات الله، صابرًا محتسبًا أجره عند الله. كيفية الإنكار

(1) الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1 / 293,1 / 303,1 / 307) . (2) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وهو الحديث التاسع من الأربعين النووية. انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص 36 - 37 وص 84.

كيفية الإنكار على من يفعل المنكر يختلف باختلاف حال الفاعل وما يناسب حاله، فينبغي للمحتسب أن يستعمل في إنكاره الكيفية التي تكون أنسب وأجدى في زوال المنكر، وذلك بأن يراعي مقامه ومنزلته، ثم يسلك معه أقرب الوسائل إلى حصول المقصود وهو الصلاح، فيكون قد أتى بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، الذي أمر به، ومثله في ذلك كالطبيب الذي يعطي المريض من الدواء ما يناسب حاله ومزاجه، وسأستعرض أنواعًا من الناس، وأبين كيفية الإنكار عليهم على النحو التالي: 1- الجاهل لما يرتكبه بأنه منكر. 2- العالم بأن ما يرتكبه بأنه منكر. 3- الوالد بالنسبة لولده. 4- العبد بالنسبة لسيده. 5- التلميذ بالنسبة لشيخه. 6- الزوجة بالنسبة لزوجها. 7- السلطان بالنسبة لرعيته. 8- الفاسق والعاصي الذي يحتاج إلى الهجر.

كيفية الإنكار على الجاهل لما يرتكبه بأنه منكر

1- كيفية الإنكار على الجاهل لما يرتكبه بأنه منكر: من أقدم على منكر جاهلًا أنه منكر، بحيث لو علم أنه منكر لما أقدم عليه، فإنه يُعلَّم برفق ولطف وسياسة، وليحذر من الطيش والعجلة، بل يستعمل التأني والتثبت والملاطفة في الدعوة؛ فإن في ذلك خيرًا كثيرًا، وإن كان يعلم منه أنه لو سمع الكلام من غيره رجع عن فعله، فإنه ينبغي له أن يطلب من غيره ممن لا يشق عليه أن يبين له ما هو عليه من المخالفة ليكون ذلك أوعى إلى القبول والاستجابة.

ومثال ذلك: لو رأى من يسيء في صلاته لجهله، وهو يعلم منه أنه لو علم أن هذه الصلاة باطلة لم يرض لنفسه ذلك، أو رأى من يجمع الصلوات مثلًا لأنه مشتغل عنها، فإن المنكر يستعمل معه التلطف في موعظته وتعليمه، مثل أن يقول: أنا أعلم أنك مشغول بما أنت فيه، ولكن لا بد من الطمأنينة في الصلاة، ولا بد من أداء كل صلاة في وقتها، ولا شك أنك ترى كثيرًا من الناس يسيئون في صلاتهم، والناصح لهم قليل، ولكن يا أخي لا يعذر أحد في ترك تعلم أمور دينه؛ لأن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) ويا أخي، العلماء كلهم متفقون على أن الإنسان لا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها عمدًا، وأنت قريب من الخير، ولا شك أنك تريد براءة ذمتك وإحسان عملك، والصلاة رأس مال المسلم، فلا بد من الإحسان فيها وأدائها في وقتها، ونحو هذه العبارات التي يحصل بها المقصود.

(1) سورة النحل آية: 43.

كيفية الإنكار على العالم بأن ما يرتكبه منكر

2- كيفية الإنكار على العالم بأن ما يرتكبه منكر من أقدم على فعل منكر مع علمه أنه منكر، إما لأنه يعلم ذلك، أو لأنه عُرِّف أنه منكر، ومثال ذلك من يواظب على الغيبة أو أكل الربا أو الرشوة مع علمه أنه حرام، فالمنكِر يستعمل معه الوعظ والتخويف، وبيان رتبة تحريم تلك المعصية، وبيان ما جاء فيها من الوعيد والتهديد، ويسوق له الأخبار الواردة في تلك المعصية، فإن ذلك أجدى وأنجع في التأثير في العالم بالحكم.

كيفية الإنكار على الوالد من قبل ولده

3- كيفية الإنكار على الوالد من قِبَل ولده

إذا فعل الوالد منكرًا، فللولد أن يأمر والده وينهاه بالوعظ والنصح، مع الرفق والتلطف في الكلام، وليس للولد مقابلة والده بالتخويف ولا بالتهديد ولا بالضرب ولا بالسب ولا بالتعنيف ولا بتخشين الكلام، وذلك لأن الوالد له على ولده حق عظيم، وقد قرن الله حقه بحق الوالدين في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) وأمر بالإحسان إلى الوالدين وإن كانا كافرين مع عدم طاعتهما في الشرك، فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ} (2) وللولد تغيير المنكر على والده بيده إن لم يحصل بسبب ذلك مفسدة أكبر، أو ضرر عليه في نفسه أو ماله أو أهله، وذلك لأن حق الله مقدم على حق الوالد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالولد يغيِّر المنكر على والده بيده مع القدرة وعدم المفسدة، ومع ذلك يستعمل معه التلطف في الخطاب، والترحم عليه والدعاء له، وبيان ضرر المعصية حتى يهدأ والده ويسكن إليه، ويعلم أن قصد ابنه محض النصح له

(1) سورة الإسراء آية: 23. (2) سورة لقمان آية: 15.

والشفقة عليه والغيرة لله ولمحارمه.

كيفية الإنكار على السيد من قبل عبده

4- كيفية الإنكار على السيد من قبل عبده إذا فعل السيد منكرًا فللعبد أن ينكر عليه برفق ولطف ولين إذا لم يخش من سطوته، فإن كان يخشى من سطوته، طلب من غيره أن يناصحه ممن يؤثِّر نصحه فيه، وبذلك تبرأ ذمة العبد.

كيفية الإنكار على الشيخ من قبل تلميذه

5- كيفية الإنكار على الشيخ من قبل تلميذه إذا فعل الشيخ منكرًا فللتلميذ أن ينكر عليه ويعامله بموجب علمه، ويبيِّن له مغبّة المعصية وعاقبتها الوخيمة، ويخوفه بالله وسطوته وعقوبته، ويبين له أن العالم قد قامت عليه الحجة بخلاف الجاهل، وأن من لم يعمل بعلمه ولم يأتمر بالأوامر وينزجر عن النواهي، فقد شابه أهل الكتاب الذين شبههم الله بالحمار الحامل للأسفار في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) وقد غضب الله عليهم، وأن من فسد من علماء هذه الأمة فهو داخل في المغضوب عليهم، فلعل ذلك أنجع في إقلاعه عن دينه، ورجوعه إلى جادة الحق والصواب.

(1) سورة الجمعة آية: 5.

كيفية الإنكار على الزوج من قبل زوجته

6- كيفية الإنكار على الزوج من قبل زوجته إذا فعل الزوج منكرًا فإن الزوجة تنكر عليه بالرفق واللين والموعظة الحسنة، وتبين له أنها مطيعة له، ومعترفة بما له عليها من حق، ولكن عليه هو أن يطيع الله ويجتنب محارمه، وأنها لن تسكت على فعله المنكر، وأنها مشفقة عليه من العقوبة، وليست عاصية له ولا مؤذية له، وإنما هي مشفقة ناصحة له، فإن أفاد ذلك في إقلاعه عن الذنب ورجوعه عنه، وإلا فتطلب من أقاربه أو أقاربها ممن له تأثير فيه أن يناصحه، حتى يزول المنكر ويحل محله المعروف فيحصل الخير والصلاح (1) .

(1) انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص 33، 36، 70، 71.

كيفية الإنكار على السلطان من قبل رعيته

7- كيفية الإنكار على السلطان من قِبَل رعيته تنبيه في الداخل على الأمير أو السلطان للإنكار أو الموعظة لا شك أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (1) أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قال: كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (2) رواه النسائي بإسناد صحيح. وإذا ارتكب السلطان منكرًا فللرعية معه ثلاث حالات: الأولى: أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول، ولا منكر أعظم من الأول، ففي هذه الحالة يجب نصحه، وكيفية النصح يجب أن يكون بالموعظة الحسنة مع اللطف؛ لأن هذا هو مظنة الفائدة، وناصحه وآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم، ولو لم ينفع نصحه.

(1) أبو داود: الملاحم (4344) . (2) النسائي: البيعة (4209) , وأحمد (4 / 315) .

الثانية: أن لا يقدر على نصحه، لأنه يبطش بمن يأمره، أو لأن نصحه يؤدي إلى حصول منكر أعظم وضرر أكبر، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب، وكراهية منكره والسخط عليه، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان. الثالثة: أن يكون راضيًا بالمنكر الذي يفعله السلطان ومتابعًا له عليه، وفي هذه الحالة يكون شريكه في الإثم والوزر.

وقد دل الحديث الصحيح على هذه الحالات الثلاث للرعية مع السلطان، وهو حديث أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ» (1) أخرجه مسلم في صحيحه فقوله صلى الله عليه وسلم «فمن كره» أي بقلبه، ولم يستطع إنكارًا بيد ولا لسان، فقد برئ من الإثم وأدى وظيفته - وقوله: «ومن أنكر فقد سلم» أي: من أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية. وقوله: «ولكن من رضي وتابع» أي: من رضي بالمعصية وتابع عليها فهو عاص كفاعلها. (2) ولا يجوز الإنكار على السلطان بالخروج عليه ومقاتلته كما سيأتي. تنبيه:

(1) مسلم: الإمارة (1854) , والترمذي: الفتن (2265) , وأبو داود: السنة (4760) , وأحمد (6 / 295,6 / 302,6 / 305,6 / 321) . (2) انظر أضواء البيان جـ2 ص 177 - 178.

داخل على الأمير أو السلطان بقصد الإنكار أو الموعظة، يجب أن يكون قصده في ذلك خالصًا لله تعالى، وليحذر أن يقصد من الإنكار أو الموعظة التعرف بالسلطان وطلب المنزلة عنده، أو أن يقصد من الإنكار أو الموعظة طلب المحمدة من الناس وإطلاق ألسنتهم بالثناء عليه والشكر لصنيعه، واحترامهم وتقديرهم له، أو أن يقصد الشهرة والسمعة، فيقال عنه: أنه أغلظ للسلطان، وأقدم عليه بالكلام، ولم يبال بشيء، فيصير معظمًا عند الناس، ويخشاه أبناء جنسه، إلى غير ذلك من المقاصد.

وهذه المقاصد مذلة عظيمة يجب التفطن لها والتنبه، قبل الوقوع فيها، فقد يناله مكروه في الدنيا بالحبس أو الضرب أو القتل وهو غير مأجور، بل آثم مأزور، وهو يظن أنه مجاهد ومن أفضل الناس، وذلك لأن أساس الأعمال التي تبنى عليها الإخلاص، والنية الطيبة الحسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» (1) (2) واشترط النبي صلى الله عليه وسلم في تكفير الخطايا للمجاهد والمقتول في سبيل الله الاحتساب حينما سأله رجل فقال له: «أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلٍا غَيْرَ مُدْبِرٍ» (3) (4) (5) .

(1) البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجه: الزهد (4227) , وأحمد (1 / 25) . (2) الحديث رواه مسلم وهو في الأربعين النووية. (3) مسلم: الإمارة (1885) , والترمذي: الجهاد (1712) , والنسائي: الجهاد (3156,3157,3158) , وأحمد (5 / 297,5 / 303,5 / 308) , ومالك: الجهاد (1003) , والدارمي: الجهاد (2412) . (4) الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه، انظر نيل الأوطار شرح منتقى الأخيار جـ7 ص 234. (5) انظر «تنبيه الغافلين» لابن النحاس ص 62.

معنى الهجر والمراد به

1- معنى الهجر والمراد به: الهجر في اللغة: الترك, ومنها قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (1) والمراد به هنا هجر العاصي ومقاطعته، وترك تكليمه والسلام عليه، وعدم إجابة دعوته وردّ السلام عليه.

(1) سورة المدثر آية: 5.

تقسيم الهجر وبيان الشرعي من غيره

2- تقسيم الهجر وبيان الشرعي من غيره: والهجر نوعان: أحدهما: هجر لحقِّ النفس وحظها. والثاني: هجر لحقِّ الله. فالأول: غير مشروع ولا مأمور به، بل منهي عنه؛ لأن المؤمنين أخوة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» (2) (3) وفي الحديث الصحيح: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْ عُضْوٍ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ» (4) (5) .

(1) سورة الحجرات آية: 10. (2) البخاري: الأدب (6065) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2559) , والترمذي: البر والصلة (1935) , وأبو داود: الأدب (4910) , وأحمد (3 / 110) , ومالك: الجامع (1683) . (3) الحديث رواه مسلم وهو في الأربعين النووية. (4) البخاري: الأدب (6011) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) , وأحمد (4 / 268,4 / 270,4 / 278,4 / 375) . (5) الحديث رواه أحمد في المسند وأخرجه مسلم.

وهذا الهجر لا يجوز أكثر من ثلاث عند الحاجة إليه، بل يرخص فيه ثلاثة أيام فأقل، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (1) (2) وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ كُلَّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» (3) (4) ومنه الترخيص في إحداد غير الزوجة ثلاثة أيام فأقل، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت. والثاني: هجر لحق الله، وهذا هو الهجر الشرعي المأمور به، فهو طاعة، والطاعة لا بد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابًا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به، لم يكن مشروعًا. والهجر الشرعي نوعان: أحدهما: المنكرات وهو نوعان: الأول: هجر الإنسان نفسه عن المنكرات

(1) البخاري: الاستئذان (6237) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2560) , والترمذي: البر والصلة (1932) , وأبو داود: الأدب (4911) , وأحمد (5 / 416,5 / 421,5 / 422) , ومالك: الجامع (1682) . (2) الحديث متفق عليه، انظر رياض الصالحين ص 527. (3) مسلم: البر والصلة والآداب (2565) , والترمذي: البر والصلة (2023) , وأبو داود: الأدب (4916) , وأحمد (2 / 268,2 / 329,2 / 389,2 / 400,2 / 465) , ومالك: الجامع (1686,1687) . (4) الحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ومسلم والترمذي وابن ماجه.

كما قال صلى الله عليه وسلم «الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (1) (2) ومنه قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (3) . الثاني: هجر المقام بين من يفعل المنكرات، فلا يشهد المنكرات مثل قوم يشربون الخمر، يجلس عندهم، أو دعي إلى وليمة فيها خمر أو زمر، يجيب دعوتهم، إلا لحاجة كمن حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله. وفي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» (4) (5) ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به.

(1) البخاري: الإيمان (10) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4996) , وأبو داود: الجهاد (2481) , وأحمد (2 / 193) . (2) الحديث متفق عليه، رياض الصالحين، باب النهي عن الإيذاء. (3) سورة المدثر آية: 5. (4) الترمذي: الأدب (2801) , وأحمد (3 / 339) , والدارمي: الأشربة (2092) . (5) الحديث أخرجه الترمذي والحاكم عن جابر.

وهذا النوع في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2) . النوع الثاني من أنواع الهجر الشرعي: هجر من يظهر المنكرات حتى يتوب منها

(1) سورة الأنعام آية: 68. (2) سورة النساء آية: 140.

وهذا الهجر على وجه التأديب، فهو بمنزلة التعزير والعقوبة لمن يفعل المنكرات، والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات، فإن المنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة، فإن عقوبتها على صاحبها خاصة، ومثال ذلك من السنة: هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الثلاثةَ الذين خلّفوا، حتى أنزل الله توبتهم، حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقًا، ولهذا فرق السلف والأئمة بين الداعية إلى البدعة وغير الداعية، فالداعي لا تقبل شهادته، ولا يصلّ خلفه، ولا يؤخذ عنه العلم، ولا ينكح؛ لأنه أظهر المنكرات فاستحق العقوبة، بخلاف الكاتم، فإنه ليس شرًّا من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم.

الحكمة من الهجر الشرعي

3- الحكمة من الهجر الشرعي: هجر شرع لحكمة ومصلحة ورحمة كسائر ما شرعه الله، فإن الله حكيم يفعل لحكمة، ويخلق لحكمة، ويشرع لحكمة، والحكمة من الهجر هي زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، إذ المقصود به بيان الحق ورحمة الخلق.

بيان من يشرع معه الهجر من الناس ومن لا يشرع

4 - بيان من يشرع معه الهجر من الناس ومن لا يشرع: الهجر يشرع في حق العصاة والمذنبين، أما الكافر فلا يشرع في حقه الهجر، إذ إن عقوبته على كفره أعظم من الهجر، وليس الهجر مشروعًا في حق جميع العصاة والمذنبين من أهل الإسلام، بل يراعي المهاجر المصلحة الراحجة في الهجر أو الترك، فإن الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر أو خفته كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، كما لو أفضى إلى التقاطع والتدابر والتباغض والتحاسد.

وقد يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قومًا ويهجر آخرين، فهجر الثلاثة الذين خلفوا، مع أنهم كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لأنهم كانوا سادة مطاعين في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، والثلاثة كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم، فالصالح أنه يراعى في الهجر والترك الأحوال والمصالح، وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ويشبه هذا مراعاة المصلحة والحال فيما يفعل مع العدو، فإن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.

بيان نهاية وقت الهجر للمهجور

5- بيان نهاية وقت الهجر للمهجور: قدر الذي ينبغي أن يهجر لأجله هو التوبة؛ لأن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، فإذا تاب فقد حصلت الحكمة من الهجر، وهو الانزجار والتأديب، لكن ينبغي أن يعلم أن المعاصي متفاوتة في الحد والمقدار، فمنها الكبائر ومنها الصغائر، فيهجر العاصي على قدر ما ارتكبه من الذنوب، ولا يسوّى بين الذنوب في الهجر ويجعل ذلك بابًا واحدًا.

بيان هل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان في الهجر

6- بيان هل يفرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان في الهجر: فرق بين الأحوال والأشخاص والأزمان في الهجر بحسب المصلحة، كما تبين من الحكمة في الهجر، فزمان يهجر فيه، وزمان لا يهجر فيه، كما إذا كان الناس حدثاء عهد بجاهلية، فينبغي أن يراعى في حقهم الأصلح، من التأليف وترغيبهم في الإسلام، ودخولهم فيه وعدم تنفيرهم، ليعلموا أن هذه الملة المحمدية حنيفية في الدين، سمحة في العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم لما جاء أهل الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد، فقام ينظر إليهم وقال: «لِتَعْلَمَ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً إِنِّي بُعِثْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» (1) (2) وإذا كان الناس في زمن قوة الدين وعزته، والقوة والغلبة للدعاة والآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، استعمل الهجر لأن المصلحة فيه, وكذلك الأشخاص، شخص يهجر وشخص لا يهجر، فيفرق بين الأئمة المطاعين والقادة والأكابر وغيرهم، فلا يهجر القادة الذي يرون أن في ذلك غضاضة عليهم ونقصًا في حقهم، الذين ربما حصل منهم بسبب الهجر تعدّ بيد أو لسان، لأن من القواعد الشرعية: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, ومن عاداهم يهجر إذا كانت المصلحة في الهجر.

(1) أحمد (6 / 116) . (2) الحديث رواه الديلمي عن عائشة، ورواه أحمد بسند حسن، انظر كشف الخفاء للعجلوني جـ1 ص251 مطبعة الفنون - حلب.

وكذلك الأحوال يراعى فيها الأصلح, كما يراعى في الأزمان والأشخاص، وكذلك الأماكن، يفرق فيها بين التي تكثر فيها البدع والمعاصي والتي تقلّ، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أقرب الطرق الموصلة إليه.

بيان هل يجتمع في الشخص الواحد سبب الموالاة وسبب المعاداة

7- بيان هل يجتمع في الشخص الواحد سبب الموالاة وسبب المعاداة: فيكون منه خير وشر، وبرّ وفجور، وطاعة ومعصية، فيحب من وجه ويبغض من وجه، وبيان الشخص الذي يحب جملة والذي يبغض جملة، والذي يحب من وجه ويبغض من وجه. المسلم له على المسلم حقوق في الإسلام يجب مراعاتها، وقد يكون له من الذنوب والمعاصي ما يوجب بغضه ومعاداته عليها، فيجتمع في الرجل الواحد خير وشرّ، وبرّ وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، فيجتمع فيه موجبا الإكرام والإهانة، فيستحق من الموالاة والمحبة والثواب بقدر ما فيه من الخير، ويستحق من المعاداة والبغض والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيحب ويوالى ويكرم من وجه، ويبغض ويعادى ويهان من وجه آخر، ومثاله اللصّ الفقير، تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا أصل درج عليه أهل السنة والجماعة واتفقوا عليه، فقالوا: إن الله يعذب بالنار من أهل الكبائر من يعذبه، ثم يخرجهم بشفاعة من يأذن له في الشفاعة وبفضله ورحمته، كما استفاضت بذلك السنة.

وخالفهم في هذا الأصل الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم، فلم يجعلوا الناس إلا مستحقًّا للثواب فقط، أو مستحقًّا للعقاب فقط، وأنكروا أن يجتمع في الرجل الواحد موجبا الإكرام والإهانة، وموجبا الموالاة والمعاداة، والحب والبغض، والثواب والعقاب، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة، وسلف الأمة. وأما الشخص الذي يحب جملة: فهو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام، علمًا وعملًا واعتقادًا، وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله وانقاد لأوامره، وانتهى عما نهى الله عنه ورسوله، وأحب في الله ووالى في الله، وأبغض في الله وعادى في الله، وقدَّم قول رسوله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد كائنًا من كان، إلى غير ذلك من القيام بحقوق الإسلام وشرائعه.

وأما الذي يبغض جملة: فهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه كله بقضاء الله وقدره، أو أنكر البعث بعد الموت، أو ترك أحد أركان الإسلام الخمسة، أو أشرك بالله سبحانه وتعالى في عبادته أحدًا من الأنبياء والأولياء الصالحين، وصرف لهم نوعًا من أنواع العبادة، كالحب والدعاء، والخوف والرجاء، والتعظيم والتوكل، والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة، والذبح والنذر والإنابة والذل، والخضوع والخشوع والخشية والرغبة والرهبة، والتعلق على غير الله في جميع الطلبات وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، أو ألحد في أسماء الله وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين، أو من قام به ناقض من نواقض الإسلام، وبالجملة فهو من ترك جميع المأمورات وارتكب جميع المحذورات. وأما الذي يحب من وجه ويبغض من وجه آخر: فهو المسلم الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على قدر ما معه من الشر (1) .

(1) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية جـ28 ص203 -213، وانظر رسالة إرشاد الطالب للشيخ سليمان بن مسحمان ص 13 - 29، ورسالة منهاج أهل الحق والاتباع للمؤلف السابق ص 84 - 85.

قال صاحب "فتح الباري" على قصة الثلاثة الذين خلفوا عام تبوك "وفيها ترك السلام على من أذنب، وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث، فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيًّا. وقال: وفيها سقوط ردّ السلام على المهجور عمن سلّم عليه، إذ لو كان واجبًا لم يقل كعب: هل حرّك شفتيه برد السلام؟ " اهـ (1) .

(1) انظر فتح الباري جـ8 ص 24. وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ7 ص 40 - 41.

الفصل الثاني في درجات الإنكار

الفصل الثاني في درجات الإنكار درجات إنكار المنكر ثلاث وهي: 1- الإنكار باليد. 2- الإنكار باللسان. 3- الإنكار بالقلب. فيجب على من رأى منكرًا أن ينكره، وأن يغيره بحسب الاستطاعة والقدرة من هذه الدرجات الثلاث، فيغيره بيده، فإن كان لا يستطيع غيره بلسانه، فإن كان لا يستطيع أنكره بقلبه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (1) (2) .

(1) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3 / 20,3 / 49,3 / 54) . (2) الحديث رواه مسلم وهو في الأربعين النووية وقد سبق.

فالإنكار فرض باليد واللسان والقلب مع القدرة، فأما فرضه باليد واللسان فهو من فروض الكفايات، إذا قام به طائفة سقط عن الباقين من الناس، وإن تركوه كلهم أثموا، وأما القلب فلا يسقط عن المنكر بحال، إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «وَذَلِكَ أَدْنَى أَوْ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» (1) وقال: «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» (2) وقيل لابن مسعود من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان بأنه لا «يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا» . أخرجه مسلم جامع الأصول ج10 ص 121. قال ابن النحاس "وأما الإنكار بالقلب وهو كراهة تلك المعصية وبغضها، فلا يسقط عن مكلف بوجه من الوجوه، إذ لا عذر يمنعه" اهـ (3) . وقال أيضًا: من لم يقدر على الإنكار باللسان، وقدر على إظهار دلائل الإنكار، مثل تعبيس الوجه، والنظر شذرًا، والتجهم، وإظهار الكراهية لفعله والازدراء به، وهجره في الله تعالى لزمه ذلك، ولا يكفيه العدول إلى الإنكار بالقلب مع إمكان دلائل الإنكار الظاهرة اهـ (4) .

(1) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3 / 10) . (2) مسلم: الإيمان (50) . (3) انظر مجموع الفتاوى جـ28 ص 127، وانظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ7 ص 31، انظر كتابه «تنبيه الغافلين» ص16. (4) انظر ص 38، من كتابه السابق.

وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: فصل: النهي عن المنكر فرض كفاية على من لم يعين عليه، وهو فرض كفاية على من لم يعين عليه، وسواء في ذلك الإمام والحاكم، والعالم والجاهل، والعدل والفاسق -إلى أن قال- وأعلاه باليد ثم باللسان ثم بالقلب، وفي الحديث الصحيح: «لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ» (1) . قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله-: مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل، ولهذا قال: " لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " (2) فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، قال: وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم، مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم اهـ (3) . وقال ابن رجب على حديث أبي سعيد «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا» (4) الحديث بعد أن ساق عدة أحايث قال: "فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فما لم ينكر قلب المؤمن دلّ على ذهاب الإيمان من قلبه". اهـ وقال بعد ذلك: "مبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار باليد واللسان فبحسب القدرة" اهـ (5) .

(1) مسلم: الإيمان (50) . (2) مسلم: الإيمان (50) . (3) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح جـ1 ص281 - 282. (4) مسلم: الإيمان (49) , والترمذي: الفتن (2172) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008) , وأبو داود: الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) , وأحمد (3 / 10,3 / 20,3 / 49,3 / 52,3 / 54) . (5) انظر جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم ص 281.

وقال ابن القيم "وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما، وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وضع عنا. فقال: هي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان، فلم يوضع عنكن سلاح القلب. فقالت: صدقت جزاك الله خيرًا" اهـ (1) .

(1) انظر أعلام الموقعين لابن القيم جـ2 ص 157.

الطريق الأول طريق اللين

الفصل الثالث مرتبتا تغيير المنكر أو طريقا الدعوة إلى الله للدعوة إلى الله طريقان طريق اللين، وطريق الغلظة والقسوة. ولتغيير المنكر مرتبتان مرتبة اللين، ومرتبة الشدة. الطريق الأول: طريق اللين وهو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه، وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذه الطريق وأمر بها في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) أي: ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم، إلى سبيل ربك المستقيم، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح بالحكمة، أي: ليكن بالوجه الحسن، برفق ولين وحسن خطاب، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون -عليهما السلام- حين بعثهما إلى فرعون في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) ومن الحكمة مراعاة الأحوال في المدعوين، كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم.

(1) سورة النحل آية: 125. (2) سورة طه آية: 44.

ومن الحكمة البدء بالأهم فالأهم، وبهما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة وإلا انتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله، وإهانة من لم يقم به، وما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعية إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطريق التي تكون أدعى لاستجابته عقلًا ونقلًا، ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، بشرط أن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها، ولا تحصل الفائدة المرجوة منها، وليكن قصد الداعية هداية الخلق إلى الحق، لا المغالبة ونحوها (1) .

(1) انظر أضواء البيان جـ ص 174 - 175، وانظر تفسير ابن كثير جـ5 ص 102 وتفسير ابن سعدي جـ 4 ص 124 - 125.

تنبيه لمن يسلك طريق الغلظة والشدة

تنبيه لمن يسلك طريق الغلظة والشدة تنبيه: هنا دقيقة عظيمة مهمة قلّ من ينتبه إليها: وهي أنه ينبغي لمن يسلك طريق الغلظة والشدة أن يكون قصده بذلك رجوع العاصي عن تلك المعصية، لا الانتصار لنفسه لكون العاصي ردّ كلامه أو استهزأ به، فإن الداعية قد يكون مخلصًا في ابتداء الإنكار فإذا رد كلامه العاصي واستهزأ به، ثارت وأغلظ في الكلام، وقد يقع في الفحش والكذب واللعن والضرب، وقد يستعدي عليه الحاكم فيسجنه أو يعزره، وقد يسترسل به الغضب إلى الخروج إلى الكلام في حق العاصي بما لا يجوز له مما هو كذب في نفس الأمر، أو باطل أو فاحش. وهذا الصنيع في الحقيقة انتصار للنفس لا غضب لله ولمحارمه، فيخرج بهذا عن دائرة الإخلاص، ويقع في هوَّة الغضب والحمق المنهي عنه، فتنعكس الحال في حقه، ويصير ممن يجب الإنكار عليه، بعد أن كان منكرًا على غيره، ومثاله في هذا مثل من يغسل الدم من ثوبه بالبول، وهذه مسألة ينبغي أن ينتبه لها من يستعمل هذه الطريق في تغيير المنكر (1) .

(1) انظر «تنبيه الغافلين» ص 39.

الباب الثالث في الأحوال التي يسقط فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الباب الثالث في الأحوال التي يسقط فيها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيه ثلاثة فصول: 1- الحال الأولى:- عدم القبول والانتفاع به. 2- الحال الثانية:- أن يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول مفسدة أعظم من ذلك المنكر. 3- الحال الثالثة:- عدم القدرة أو خوف الضرر. يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحوال التالية:- الحال الأولى: عدم القبول والانتفاع به يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مظنة النفع به فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما إذا وجدت هذه الصفات: الشحّ المطاع، والهوى المتبع، وإيثار الدنيا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, وهذه الأمور تكون عند فساد الزمان، ومروج الأديان، وكثرة الفتن والحروب، وظهور التغيير والتبديل في الدين، وانتشار شرّ المنافقين، وفقد المعين والمناصر. فإذا عدمت فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط وجوبه، ومن الأدلة على ذلك: 1- ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (1) .

(1) سورة الأعلى آية: 9.

2- ما في سنن أبي داود وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقولون في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1) ؟ قال: سألت عنها خبيرًا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَوَامِّ» (2) .

(1) سورة المائدة آية: 105. (2) الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه: الفتن (4014) .

3- ما في سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر قال: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ ذَكَرَ الْفِتْنَةَ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، َوَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ؟ فَقَالَ: الْزَمْ بَيْتَكَ وَأمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ» (1) . 4- ما روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2) قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر الزمان. من ذلك: أ- عن ابن مسعود قال: "إذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، فهو حينئذ تأويل هذه الآية ". ب- عن ابن عمر قال: "هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم".

(1) أبو داود: الملاحم (4343) . (2) سورة المائدة آية: 105.

ج- قال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة قالوا: "إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك حينئذ بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت". ومما سبق يتبين أن من علم أنه لا يقبل منه، لم يجب عليه الأمر والنهي، وحكي هذا رواية عن الإمام أحمد وقال الأوزاعي "أأمر من ترى أن يقبل منك". وفي آخر حديث أبي ثعلبة الخشني السابق: «فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا (يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ) » (1) وفي لفظ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» (2) وأخرج الحديث أيضًا الحاكم وصححه، وابن جرير والبغوي في معجمه. وفي بعض ألفاظه: «وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ» وفي لفظ: «لَا يَدَانِ لَكَ بِهِ» (3) (4) .

(1) الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه: الفتن (4014) . (2) الترمذي: تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه: الفتن (4014) . (3) ابن ماجه: الفتن (4014) . (4) انظر تفسير ابن كثير جـ3 ص 257 - 259، وتفسير البغوي جـ3 ص 257 - 259، وانظر أضواء البيان جـ2 ص 175 - 176، وانظر الدرر السنية جـ7 ص 42 - 43، وانظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 283 - 284، وانظر تنبيه الغافلين لابن النحاس ص 106.

الحال الثانية أن يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول مفسدة أعظم من ذلك المنكر

الحال الثانية: أن يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول مفسدة أعظم من ذلك المنكر. أمثلة لترتب مفسدة على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر. يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر، فإن كان إنكار المنكر يستلزم حصول منكر أعظم من ذلك المنكر، فإنه يسقط وجوب الإنكار، بل لا يسوغ الإنكار والحال هذه؛ لما يأتي: 1- إجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين. 2- أن الشريعة الباهرة مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، وبناء على ذلك، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة. ومن أمثلة ذلك:

1- الإنكار على ولي الأمر بالخروج عليه، فإنه يستلزم منكرًا أعظم، والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، والإنكار على الملوك والولاة يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه أساس كل شر وفتنة، ولهذا كان من أصول أهل السنة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، ولهذا «أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، لما استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم وقالوا: " أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ -وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ - قَالَ: لَا مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ» (1) (2) وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فُلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» (3) (4) وذلك لما في الخروج عليهم من الفتن العظيمة التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين وانتهاك أعراضهم وحرماتهم، ونهب أموالهم، واختلال أمنهم واستقرارهم.

(1) مسلم: الإمارة (1855) , وأحمد (6 / 24,6 / 28) , والدارمي: الرقاق (2797) . (2) الحديث رواه أحمد ومسلم، انظر نيل الأوطار جـ7 ص 182 - 183. (3) البخاري: الفتن (7054) , ومسلم: الإمارة (1849) , وأحمد (1 / 275) , والدارمي: السير (2519) . (4) الحديث متفق عليه انظر نيل الأوطار جـ7 ص 181.

2- لما فتحت مكة وصارت دار إسلام، عزم النبي صلى الله عليه وسلم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم لكن منعه من ذلك خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر. 3- إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبيّ وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لأن إزالة منكره بعقابه مستلزمة لإزالة معروف أكثر وحصول منكر أعظم، لما لهم من الأعوان بغضب قومهم وحمايتهم، وبنفور الناس عن الإسلام إذا سمعوا أن محمدًا يقتل أصحابه. 4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم". 5- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو، مع أنه حدّ من حدود الله؛ خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، بأن يلحق صاحبه بالمشركين حميةً وغضبًا، كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم (1) .

(1) انظر أعلام الموقعين جـ3 ص 14 - 17، ومجموع الفتاوى جـ28 ص 131، وانظر أضواء البيان جـ2 ص 175.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي -وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرّمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام.

وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعًا، أو تركوهما جميعًا، لم يجز أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل أن ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصدّ عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر، وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة" اهـ (1) . وقال الشيخ حمد بن ناصر: "لكن إن خاف حصول منكر أعظم سقط الإنكار، وأنكر بقلبه، وقد نص العلماء على أن المنكر إذا لم يحصل إنكاره إلا بحصول منكر أعظم منه، أنه لا ينبغي، وذلك لأن مبنى الشريعة على تحصيل المصالح وتقليل المفاسد (2) .

(1) انظر مجموع الفتاوى جـ 28 ص129 - 130. (2) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ 7 ص 31.

وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف: "وأوصيكم أيضًا بالبصيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان بأمر من أمور الخير، نظر، فإن كان يترتب على ذلك الأمر خير في العاجل والآجل، وسلامة في الدين، وكان الأصلح الأمر به، مضى فيه بعلم وحلم ونية صالحة، وإن كان يترتب على ذلك الأمر شرّ وفتن، وتفريق كلمة في العاجل والآجل، ومضرة في الدين والدنيا، وكان الصلاح في تركه، وجب تركه ولم يأمر به؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح اهـ (1) . وقال بعض علماء نجد: "وأيضًا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره" اهـ (2) . فالذي يترتب على تغيير المنكر وإنكاره واحد من أمور أربعة: 1- أن يزول ويخلفه ضده من المعروف وهذا مشروع. 2- أن يقلّ المنكر ويخفّ وإن لم يزل بجملته، وهذا مشروع أيضًا. 3- أن يزول ويخلفه ما هو شر منه، وهذا محرم. 4- أن يزول ويخلفه ما هو مثله من المنكر، وهذا موضع اجتهاد من المنكِر والناهي.

(1) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ7 ص 40 - 41. (2) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج7 ص 291.

فمثلًا: إذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، أو اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية، أو رأيتهم مجتمعين ومشتغلين بكتب المجون واللهو ونحوها، فإن نقلتهم إلى طاعة الله، وإلى ما هو أحب إلى الله ورسوله: كالرمي وسباق الخيل، أو تلاوة كتاب الله، وقراءة الكتب النافعة، كان ذلك خيرًا، وإن لم يحصل ذلك فتركهم على ما هم عليه خير من أن يتفرغوا لما هو أعظم من ذلك، كالإقبال على كتب الضلال والبدع والسحر، أو التعدي على أموال الناس أو أعراضهم أو أبدانهم، ونحو ذلك من المفاسد (1) .

(1) انظر أعلام الموقعين جـ3 ص 16.

الحال الثالثة عدم القدرة أو خوف الضرر

الحال الثالثة: عدم القدرة أو خوف الضرر يشترط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون قادرًا وأن لا يخشى ضررًا على نفسه أو ماله أو أهله أو على المسلمين فإن عجز أو خاف الضرر، سقط عنه الوجوب وبقي الاستحباب. وليس مجرد الهيبة مانعًا من الإنكار، بل الخوف هو المسقط للإنكار، وله أن يزيل بيده ما فعله الظلمة من المنكرات، ويبطل بيده ما أمروا به من الظلم، إن كان له قدرة على ذلك، فإن خشي في الإقدام على الإنكار عليهم أن يؤذي أهله أو جيرانه، لم يَنْبَغِ له التعرض لهم حينئذٍ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، وإن خاف منهم على نفسه السيف أو السوط أو الحبس، أو القيد أو النفي أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى، سقط أمرهم ونهيهم، وقد نصّ الأئمة على ذلك: منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم.

قال أحمد: "لا يتعرض إلى السلطان فإن سيفه مسلول، فإن خاف السبّ أو سماع الكلام السيئ لم يسقط عنه الإنكار بذلك". نص عليه الإمام أحمد وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل، نصّ عليه أحمد أيضًا، ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (1) (2) . وأما حديث: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أن يُذِلَّ نَفْسَهُ» (3) (4) فإنما يدل على أنه إذا علم أنه لا يطيق الأذى ولا يصبر عليه، فإنه لا يتعرض حينئذٍ للأمراء، وهذا حق، وإنما الكلام فيمن علم من نفسه الصبر على ذلك (5) . قال القرطبي في تفسيره: "أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب على كل من قدر عليه" اهـ (6) . وقال القرطبي أيضًا: "قال ابن عطية والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه" اهـ (7) .

(1) أبو داود: الملاحم (4344) . (2) الحديث رواه أبو داود وابن ماجه، كشف الخفاء للعجلوني جـ1 ص 173. (3) الترمذي: الفتن (2254) , وابن ماجه: الفتن (4016) , وأحمد (5 / 405) . (4) الحديث رواه أحمد والترمذي وصححه عن جندب وابن ماجه عن حذيفة، كشف الخفاء جـ2 ص524. (5) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 282 - 283. (6) انظر تفسير القرطبي جـ4 ص 48. (7) انظر تفسير القرطبي جـ6 ص 253.

وقال القرطبي أيضًا في تفسيره على آية النساء: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) قال: "فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية " اهـ (2) . وقال عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره على آية النساء السابقة: "والحاصل أن من حضر مجلسًا يُعْصَى الله به، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم، أو القيام مع عدمها" اهـ (3) . ولا يجوز للعاجز عن تغيير المنكر الدخول إلى أماكن الظلم والفسق، ومواطن المعاصي والمنكرات من غير ضرورة. قال ابن النحاس في كتابه "تنبيه الغافلين": "من علم أن بموضع من بلده منكرًا لا يرجع إليه في إنكاره، لزمه أن لا يحضر ذلك الموضع، ويعتزل في بيته؛ حتى لا يشاهده، ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب؛ لأن عجزه عن الإنكار ليس عذرًا في مشاهدته هذا المنكر من غير ضرورة" اهـ (4) . تنبيه: الإنكار بالقلب لا يسقط عن أحد

(1) سورة النساء آية: 140. (2) انظر تفسير القرطبي جـ5 ص 418. (3) انظر تفسير ابن سعدي جـ2 ص93. (4) انظر ص 106 من كتابه.

هذه الأحوال التي يسقط منها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنما يسقط فيها وجوب الإنكار باليد واللسان، وأما الإنكار بالقلب فلا يسقط عن أحد، بل هو فرض على كل مسلم كما سبق.

الخاتمة

1- خطر المداهنة في دين الله: يرى كثير من الناس أن العقل إرضاء الناس جميعهم، وعدم مخالفتهم في أغراضهم وشهواتهم، واستجلاب مودتهم، بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ويقول قائلهم: أصلح نفسك بالدخول مع الناس وموافقتهم، ولا تبغض نفسك عندهم، وهذا المسلك خط كثير من الناس، وهذا عقل نفاقي شيطاني، وهو عين الهلاك وثمرة والنفاق، وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن المداهن ترك واجبًا عظيمًا من واجبات الإسلام: وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل الناس، والله تعالى يقول: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) فنهانا الله تعالى أن تأخذنا رأفة في دين الله تمنعنا من إقامة الحد، سواء كانت رأفة طبيعية، أو لأجل قرابة، أو لأجل صداقة، أو غير ذلك، وبيّن أن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله. الثاني: أن المداهن قد التمس رضا الناس بسخط الله، وقدَّم رضا الناس على رضا الله:

(1) سورة النور آية: 2.

وفي حديث عائشة الذي كتبته لمعاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ» (1) (2) . الثالث: أن المداهن قد تسبب في غضب الله عليه ولعنته: قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (3) . الرابع: أن المداهن لا بد أن يفتح الله له بابًا من الذل والهوان: لأنه طلب العزّ بمداهنته، فكما هان عليه أمر الله أهانه الله وأذله {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (4) . وقال بعض السلف "من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخافة المخلوقين، نزعت منه الطاعة، فلو أمر ولده أو بعض مواليه لاستخف بحقه". الخامس: أن المداهن تعمه العقوبة إذا نزلت:

(1) الترمذي: الزهد (2414) . (2) الحديث رواه ابن حبان في صحيحه المرفوع منه فقط، الترغيب والترهيب خاص. بلفظ: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ ... ) الحديث. (3) سورة المائدة آية: 78-79. (4) سورة التوبة آية: 67.

كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) والنجاة هي لأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} (2) . السادس: أن المداهن الطالب رضا الخلق أخبث حالًا من الزاني والسارق وشارب الخمر: وقد قال الشيخ المجدد، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في أناس يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرءون ويبكون، ولكنهم إذا رأوا المعروف لم يأمروا به، وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه، قال: "إنهم من العمي البكم". ويشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف: أن الساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق (3) .

(1) سورة الأنفال آية: 25. (2) سورة الأعراف آية: 165. (3) من رسالة للشيخ حمد بن عتيق في الدرر السنية جـ7 ص 37 - 39.

قال الشيخ حمد بن عتيق -رحمه الله-: قال ابن القيم -رحمه الله تعالي-: "وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الديَّانين لا يعبئون منها إلا بما شاركهم في عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله وكتابه ودينه، فهذه الواجبات لا يخطرن ببالهم، فضلًا عن أن يريدوا فعلها، فضلًا عن أن يفعلوها، وأقل الناس دينًا، وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعًا، وقلّ أن يرى منهم من يحمرّ وجهه، ويتمعَّر في الله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالًا عند الله من هؤلاء انتهى ".

ثم قال الشيخ حمد -رحمه الله-: "فلو قُدِّر أن رجلًا يصوم النهار ويقوم الليل، ويزهد في الدنيا كلها، وهو مع ذلك لا يغضب ولا يتمعَّر وجهه ويحمرّ لله، فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله، وأقلهم دينًا، وأصحاب الكبائر أحسن حالًا عند الله منه -إلى أن قال- فلو علم المداهن الساكت أنه من أبغض الناس عند الله -وإن كان يرى أنه طيب- لتكلم وصدع، ولو علم طالب رضا الخلق بترك الإنكار عليهم، أن أصحاب الكبائر أحسن حالًا عند الله منه -وإن كان عن نفسه صاحب دين- لتاب من مداهنته ونزع، ولو تحقق من يبخل بلسانه عن الصدع بأمر الله أنه شيطان أخرس -وإن كان صائمًا قائمًا زاهدًا- لما ابتاع مشابهة الشيطان بأدنى الطمع" اهـ (1) .

(1) انظر الدرر السنية في الأجوبة النجدية جـ7 ص 37 - 39.

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد غرّ إبليس أكثر الخلق بأن حسَّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء أقل الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالًا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي، -ثم قال- ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا، والله المستعان، وأيّ دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس؟! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.

وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم، فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذّل وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل" اهـ (1) .

(1) انظر أعلام الموقعين جـ2 ص 157 - 158، وقد سبق نقل كلامه -رحمه الله- في الباب الأول في إثم الساكت مع القدرة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن أعدناه لمناسبته للمقام وأهميته، مع زيادة في النقل ونقص.

الفرق بين المداراة والمداهنة

2- الفرق بين المداراة والمداهنة المداهنة: هي ترك ما يجب لله من الغيرة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لغرض دنيوي وهو نفساني، والاستئناس بأهل المعاصي ومعاشرتهم، ومؤاكلتهم ومشاربتهم ومجالستهم، وعدم الإنكار عليهم مع القدرة على الإنكار؛ استجلابًا لمودتهم ومحبتهم، وإرضاءً لهم، ومسالمةً لهم وعدم التمييز بين طبقاتهم، لأنهم رأوا أن السلوك مع الناس، وحسن الخلق ونيل المعيشة، لا يحصل إلا بذلك. حكم المداهنة: المداهنة مخالفة للرسل وأتباعهم، وخروج عن سبيلهم ومنهاجهم، إذ هي إيثار للحظوظ النفسانية والدعة ومسالمة الناس، وترك المعاداة في الله، وتحمل الأذى في ذاته، وهذا في الحقيقة هو الهلكة؛ لأنه ما ذاق طعم الإيمان من لم يوالِ في الله ويعادي فيه، بل الإيمان يحصل بمراغمة أعداء الله وإيثار مرضاته، والغضب إذا انتهكت محارمه، وأي خير يبقى في قلب فقد الحياة والغَيْرة والتعظيم، وعدم الغضب لله؟! وسوَّى بين الخبيث والطيب في معاملته وموالاته ومعاداته؟! والمداراة: هي درء الشر المفسد بالقول اللين وترك الغلظة، والإعراض عن الشرير إذا خيف شره، أو حصل منه ضرر أكبر مما هو متلبس به.

حكم المداراة: المداراة مشروعة؛ لأنها دفع للشر وردّ له، أو تخفيف له، ولأن في استعمالها بُعْدًا عن الفحش والتفحش، ولأنها من باب ارتكاب أخف الضررين، وأدنى المفسدتين، وفعل أعلى المصلحتين، وفي الحديث: «شَرُّكُمْ مَنِ اتَّقَاهُ النَّاسُ خَشْيَةَ فُحْشِهِ» (1) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وعن عائشة -رضي الله عنها- أنه «استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: " بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ هُوَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ قُلْتَ فِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قُلْتَ. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ» (2) (3) (4) .

(1) الحديث أخرجه مسلم بلفظ: (إِنَّ شَرَّ النَّاسَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَدَعَهُ أَوْ تَرَكَهُ) . (2) البخاري: الأدب (6054) , ومسلم: البر والصلة والآداب (2591) , والترمذي: البر والصلة (1996) , وأبو داود: الأدب (4791,4792) , وأحمد (6 / 38) . (3) الحديث رواه أبو داود بإسناده بفظ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ) ، ورواه أحمد عن أسامة بن زيد بلفظ: (إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ وَالْمُتَفَحِّشَ) ، انظر الخفاء جـ1 ص281. (4) من رسالة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، انظر الدرر السنية جـ7 ص 35.

الحكمة في مشروعية إنكار المنكر والأمر بالمعروف

3- الحكمة في مشروعية إنكار المنكر والأمر بالمعروف للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حِكَم منها: 1- إقامة حجة الله على خلقه: كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) وقال تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} (2) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (3) . 2- خروج الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من عهدة التكليف والمسئولية: كما قال تعالى في قصة أصحاب السبت عن الفرقة الناهية أنهم قالوا لمن قال لهم: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} (4) .

(1) سورة النساء آية: 165. (2) سورة المائدة آية: 19. (3) سورة البقرة آية: 143. (4) سورة الأعراف آية: 164.

وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} (1) دلت الآية بمفهومها على أنه لو لم يخرج من العهدة -بأمرهم ونهيهم- لكان ملومًا. قال صلى الله عليه وسلم «الدِّينُ النَّصِيحةُ -ثلاثًا-، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (2) (3) فمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد أدى النصيحة التي هي الدين، بعد استقامته هو على ما يأمر به وينهى عنه وامتثاله لذلك. 3- رجاء انتفاع المأمور والمنهي بتقوى الله تعالى باجتناب المنهيات وفعل المأمورات: كما قال تعالى عن الفرقة الناهية في قصة أصحاب السبت {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (4) وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (5) . وقال تعالى في بيان من ينتفع: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} (6) .

(1) سورة الذاريات آية: 54. (2) مسلم: الإيمان (55) , والنسائي: البيعة (4197) , وأبو داود: الأدب (4944) , وأحمد (4 / 102) . (3) الحديث رواه مسلم وهو في الأربعين النووية. (4) سورة الأعراف آية: 164. (5) سورة الذاريات آية: 55. (6) سورة الأعلى آية: 10.

المفاسد المترتبة على ترك إنكار المنكر

4- المفاسد المترتبة على ترك إنكار المنكر يترتب على ترك إنكار المنكر مفاسد عظيمة منها: 1- أن السكوت عن المنكر مع القدرة فعل معصية، وإن لم يباشر الساكت فعل المنكر الذي سكت عليه، فإنه كما يجب اجتناب المعصية، يجب الإنكار على من فعل المعصية، فهما واجبان من ترك أحدهما فقد عصى ربه. 2- أن السكوت عن المنكر يدل على التهاون بالمعاصي وقلة الاكتراث بها، والتهاون بأمر الله. 3- أن في السكوت عن المنكر فقد الغيرة والغضب لمحارم الله أو ضعفها وضعف تعظيم الرب تعالى. 4- أن السكوت عن المنكر يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي، حيث لم يردعوا عنها حتى تكون لهم الشوكة والظهور، ويضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشرّ، فيزداد بذلك الشرّ وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية. 5- أن بترك إنكار المنكر يندرس العلم ويكثر الجهل، فإن المعصية إذا تكرر صدورها من كثير من الناس، ولم ينكرها أهل الدين والعلم والفضل، ظن الجاهل أنها ليست معصية، وربما ظن أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله حلالًا، ورؤية الباطل حقًّا، وانقلاب الحقائق على الناس؟!

6- أن السكوت عن المنكر مع إعلان العاصي لمعصيته وإظهارها، إذن ودعوة إلى تقييد العاصي، وتزيين للمعصية في صدور الناس، والناس يقتدي بعضهم ببعض، والإنسان مولع بالاقتداء بأقرانه وبني جنسه. ولهذه المفاسد المترتبة على ترك إنكار المنكر وغيرها، كان السكوت عن الإنكار مع القدرة موجبًا للعقوبة الحسية أو المعنوية، وأعظم عقوبة تحل بالناس هي العقوبة المعنوية بموت القلوب حتى لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، ولا تحق حقًّا ولا تبطل باطلًا، ولا تميز بين الخبيث والطيب، والعقوبة الحسية تكون في الأموال والأنفس والأولاد، أو بتسليط الأعداء - عليهم- وقهرهم لهم، فيسومونهم سوء العذاب (1) .

(1) انظر تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي جـ2 ص 155.

الحامل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

5- الحامل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والداعية إلى الله تعالى لا بد له من باعث يبعثه، وحامل يحمله على القيام بأداء هذا الواجب العظيم، والأمور التي تحمل الآمر والناهي وتبعثه على الأمر والنهي والدعوة إلى الله تعالى كثيرة متعددة منها: 1- رجاء ثواب الله تعالى، والطمع فيما لديه سبحانه من المثوبة العظيمة، والأجر الجزيل على أداء هذه الوظيفة العظيمة. 2- خوف عقاب الله تعالى والتعرض لسخطه وغضبه ونقمته في ترك واجب عظيم من واجبات الإسلام، به يقوم الدين ويستقيم. 3- الاقتداء بالرسل الكرام -عليهم الصلاة والسلام-، فإن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة الرسل وأتباعهم، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) . 4- النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم، ورجاء إنقاذهم مما وقعوا فيه من التعرض لعقوبة الله في الدنيا والآخرة. 5- الغيرة لله والغضب لمحارمه لئلا تنتهك، وحدوده لئلا تضاع، ودينه لئلا يترك، وأمره لئلا يضاع ويطّرح.

(1) سورة يوسف آية: 108.

6- إجلال الله وتعظيمه ومحبته؛ لأنه أهل أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، واقتداء محارمه أن تنتهك بالنفوس والأموال، كما قال بعض السلف "وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله، وأن لحمي قرض بالمقاريض". وقال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه: "وددت أني غَلَتْ بي -وربك- القدور في الله تعالى". وربما دعا الآمر والناهي لمن أذاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ضربه قومه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (1) (2) . وقد تحمل هذه الأمور كلها الداعية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم (3) . والله أسأل أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء, اللهم وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمدًا صلى الله عليه وسلم على الدين كله ولو كره المشركون، كما أسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمورنا، ويهديهم الصراط المستقيم، ويعيذهم من بطانة السوء.

(1) البخاري: أحاديث الأنبياء (3477) , ومسلم: الجهاد والسير (1792) , وابن ماجه: الفتن (4025) , وأحمد (1 / 380,1 / 432,1 / 441,1 / 453,1 / 456) . (2) الحديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود، الترغيب والترهيب جـ3 ص. (3) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 284 - 285.

كما أسأله سبحانه أن يصلح فساد القلوب والأعمال، ويهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم، ومقربًا لديه للفوز بجنات النعيم، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1