القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه

محمد حسن عبد الغفار

المدخل إلى القواعد الفقهية

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - المدخل إلى القواعد الفقهية الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك لورود نص في كل مسألة، وإنما لوجود قواعد كلية مستنبطة من الأدلة الشرعية، تدخل تحتها من الجزئيات ما لا حصر لها، وعليه يتعين على من رام الفقه أن يشمر عن ساعد الجد لضبط ودراسة هذه القواعد الفقهية؛ لأن معرفتها ستغنيه عن البحث عن كثير من الأحكام التي لم يعلمها من قبل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

فضل العلم والعلماء

فضل العلم والعلماء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوتي الكرام! إنا نحبكم في الله، وأسأل الله جل في علاه أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، بجانب معاذ بن جبل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام هو معاذ بن جبل). وأذكر ثلاث مبشرات لطالب العلم: أولها: ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في مجلس يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة) فهذه أولى المبشرات. ثانيها: إن طالب العلم ينطلق من مجلس العلم إلى الجنان إن كان مخلصاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -في السنن بسند صحيح كالشمس-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له كل من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها تستغفر لطالب العلم، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع). ثالثها: كفاك فخراً بأنك ستجتمع على خط واحد مع معاذ بن جبل إمام العلماء، وتكون وريثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، يا للشرف! أنت أصبحت من النبي صلى الله عليه وسلم بمكان، ليست هناك منزلة يمكن أن تداني هذه المنزلة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم). وأيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) وأقول: طالب العلم هو أغلى ما يكون في هذه الدنيا، الأمة بأسرها لا تحتاج إلا لطلبة علم؛ لأن شمس البدعة قد بزغت، وجبال العلم قد ماتوا، نحن في يتم الآن، الدنيا بأسرها تتخبط يمنة ويسرة لموت ثلاثة كانوا جبالاً لأهل العلم، كانوا منارات كالنجوم يهتدى بهم، فلما قضوا نحبهم ترى الدنيا تتخبط، وكل يتصدر للفتوى، والله أعلم هل هو أهل لها أم لا؟! الحاصل: أن الدنيا بأسرها تتخبط لضياع أهل العلم، ونحن نقول ما قاله علي بن أبي طالب: (موت العالم يحدث ثلمة في الإسلام، وهذه الثلمة لا تنسد إلا بوجود الخلف)، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم عند موت أي أحد أن نقول: (اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها)، وأحرى بنا أن نقول ذلك عند عند فقد العلماء، فنحن بحاجة إلى من يرفعون منارات العلم ويحفظون هذا الدين، كما قال ابن القيم مستقياً كلامه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله جل في علاه يغرس لهذا الدين غرساً). فقال رحمه الله: والله ما أرى الغرس إلا أهل العلم، ولذلك أول بعض العلماء حديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) كقول أحمد وغيره: لا أعرفهم إلا أن يكونوا أهل الحديث. وقال ابن القيم: هم أهل العلم، وكفى أهل العلم فخراً بأن الله جل وعلا جعلهم من أولي الأمر. قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، فهذه الآية تدل على أن العلماء هم من أولي الأمر، فكما أن عليك السمع والطاعة لأولي الأمر من الحكام والأمراء فأيضاً لابد من السمع والطاعة للعلماء، وهذه الآية تدل على ذلك. فطالب العلم ينظر في الدليل فيأتي أولاً بالشاهد، ثم يرى وجه الدلالة من هذا الشاهد، حتى يرى في نفسه قوة وهو يتكلم عن مسألة علمية، ووجه الشاهد في الآية السابقة قوله تعالى: ((وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ)) فمن هم أولو الأمر؟ جاء الرد من الله جل في علاه مفسراً ومبيناً في قوله: ((لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)) أي: أولو الأمر: الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة التفصيلية، وهم العلماء المجتهدون. فهذا شرف ليس بعده شرف، فالعلماء هم من أولي الأمر، والله جل في علاه جعل لهم الصدارة في الدنيا؛ لأنهم الذين يوصلون الناس إلى ربهم، ورحم الله ابن عيينة حين قال: خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس. وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) متفق عليه، هذا منطوقه ومفهومه: أن الله جل وعلا إن لم يرد بعبد خيراً فلن يفقه في الدين، نعوذ بالله من الخذلان. حتى نتعرف على أهمية طلب العلم، وكفاك أخي شرفاً وفخراً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي) أي شرف وأي منزلة بعد هذا! ورب السماوات والأرض لمداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، وهذا باتفاق العلماء المحدثين والفقهاء، فالعالم له منزلة ليست كأي منزلة، وكما بينا في الحديث الذي سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب)، وشتان شتان بين القمر وبين سائر الكواكب. أقول: فطلب العلم هو أفضل عبادة يمكن أن يتقرب بها العبد لله جل في علاه، وعلماؤنا كانوا يرون المدارسة خير من قيام الليل، فهذا ابن أبي حاتم يروي -في الجرح والتعديل- عن أبيه أنه كان يقول: مدارسة مسألة من العلم خير من قيام ليلة بأسرها. ولذلك كان يأتيه أبو زرعة فيتدارس معه المسائل ويقول: هذا عندي أشهى من كذا وكذا، فكانوا يرون المدارسة أفضل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه.

مكانة الإمام الشافعي

مكانة الإمام الشافعي هذه قصة وإن كان في سندها كلام: جاء الشافعي إلى أحمد ليلاً فقدم له أحمد الطعام فأكل كثيراً، ثم جلس طيلة الليل ما صلى ركعة واحدة حتى أوتر، ثم قام فصلى الفجر بنفس وضوء العشاء فجاءت بنت الإمام أحمد تقول لأبيها مستنكرة ما رأته من الشافعي الذي كان يقول أبوها فيه: إنه للناس كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، وكان الإمام أحمد بداية يقول لأهل الكوفة والعراق: لا تسمعوا للشافعي، أي كان أحمد ينهى عن سماع الشافعي؛ لأن أحمد كان من المحدثين ورأى أن الشافعي رحل من مكة إلى العراق وسمع من أهل الرأي؛ لكن الشافعي جمع بين الحديث وبين الفقه، فكان أحمد يحسب أن الشافعي لما كان يعامل أهل الرأي أنه من أهل الرأي الذي يقدمون القياس على الأثر، فلما جالس أحمد الشافعي علم أنه بحر، فالذين كانوا يتتلمذون على أحمد ينظرون لـ أحمد وهو يمشي خلف بغلة الشافعي، فقالوا له منكرين: يا أحمد! تنهانا عن سماع الشافعي ونراك خلف بغلته، فقال أحمد: والله لو ما تكلم الشافعي وسرت خلف البغلة لا ستزدت علماً من هذا البحر أو هذا الحبر. ولذلك لا غرو ولا عجب أنه لما أتى إسحاق بن راهويه فقيه خراسان -وهو من المحدثين الأفذاذ ومن شيوخ البخاري - إلى مكة ولقيه الإمام أحمد فذهب به إلى مجلس الشافعي فقال: تعال سأريك رجلاً لم تر عينك مثله، يعني: الشافعي؛ وذلك لقوة حافظة الشافعي وعلمه الذي جمع فيه بين الفقه والحديث؛ لأن الانفراد بالفقه يضعف صاحبه في الحديث، فتراه يحتج كثيراً بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، قد تراه في كتاب مغني المحتاج للشربيني، وهذا هو الذي أضعف كثيراً من الفقهاء، ومن انشغل بالحديث دون الفقه صار فيه ضعف في فتواه، فالجمع بين العلمين فيه قوة، ولذلك قال أحمد لـ إسحاق: ائت لتسمع هذا الشيخ، فنظر إليه فوجده شاباً يافعاً، فقال: أأترك ابن عيينة وأذهب إلى هذا الحدث؟! وهذه كانت ملامة على إسحاق، وقد تندم عليها وعض عليها أنامله، ولا حين مندم، فقد ضاع منه علم الشافعي. أنا أقولها الآن وأصرخ بها في آذان الإخوة: اعرفوا كيف تتعلمون وتطلبون العلم؛ لأن هذه هي البغية وهذا هو الهدف وأنت لن ترتقي إلا أن تكون طالباً للعلم حقيقة، أما إذا كنت من العوام أو شبيهاً بالطالب فلن تفيد ولن تستفيد. لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر بعض الإخوة عندهم ضيق في النظر لا يعرفون أن يميزوا بين العلم وغيره، والآن الصيت أو السمعة هي التي تأتي بالناس في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وقد بين أنس رضي الله عنه حال الأزمنة المتأخرة بقوله: (أن ما من زمن إلا وبعده أشر منه) إننا في ضياع وفي تيه وفي تخبط؛ لأن العلم الآن يقبض بقبض العلماء. فلابد أن نعلم أن النجاة لا تكون إلا في العلم الصحيح، الذي يوصلك بحق إلى الله جل في علاه، ولذلك فالعبرة من هذه القصة أن إسحاق تندم كل الندم في كونه لم يصاحب الشافعي وقال: أأجلس لهذا الحدث وأترك ابن عيينة؟ فقال له أحمد ناصحاً إياه إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي لا تجده عند غيره. هذه نصيحة غالية تكتب بماء الذهب على السطور. إذاً: لا بد من محدثين فقهاء أصوليين، هذه الآلات يجب أن تشتبك لتستقبل الأمة فقيهاً محدثاً تنجو به. وهذا يحيى بن معين جبل وجهبذ من جهابذة الإسلام، قالوا له وهو في مرض موته ما تريد؟ قال: بيت خال وإسناد عال، الإسناد العالي هو الذي يكون بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالكثير، وهذه فاز بها كثير من علمائنا، وكانوا يرحلون من أجل هذا العلو. والنزول معناه كثرة العدد، كأن يكون بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة فأكثر، لكن فهم المتن وفقهه أولى من الإسناد العالي، فـ إسحاق بن راهويه لما ناظر الشافعي وعرف علمه، خرج من مكة ثم بعد ذلك انكب على كتب الشافعي، فتندم كل الندم أنه لم يصاحب الشافعي ليأخذ منه هذا العلم كما أخذ أحمد بن حنبل. فالغرض المقصود أنهم كانوا يرحلون ويجتهدون في مدارسة العلم، وقال أحمد رحمه الله: أفضل عبادة يتقرب بها العبد لربه جل في علاه هو طلب العلم. الأمة بأسرها تستبشر ببزوغ شموس العلماء والفقهاء المحدثين الذين ينقذون هذه الأمة، وما من أحد ينبغي له أن يبخس حقه أو ينزل قدره، بل يطمع في كرم الله جل في علاه، ما دامت المسألة ليست بيد أحد ولا يملكها أحد، بل المسألة من فوق العرش، فكن يأخي صاحب همة عالية، كن ذكياً في التعامل مع من فوق العرش، إن ربك يحب منك الطمع! أنت تطمع في فضله، والله يقول: (أنا عند ظن عبدي بي)، اطمع أن تكون كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو كـ العز بن عبد السلام أو كـ الجويني أو كـ الشافعي، فكل ذلك ممكن ومتاح، وهو تحت قدرة من؟ تحت قدرة الله جل في علاه، والله جل في علاه يقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، ويقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78]. فهذه كانت مقدمة أبين بها شرف العلم وشرف العلماء وطلبة العلم، وأن طالب العلم إذا علم قدر هذا الطريق صبر عليه وصابر من أجله حتى يسير على الدرب، ومن سار على الدرب وصل. نحن درسنا بفضل الله سبحانه وتعالى المصطلح، ودرسنا أصول الفقه، ودرسنا أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ثم بعد ذلك نبين القواعد الفقهية، وأيضاً نأخذ أقسام التدليس، وهذه الدروس خاصة بالرجال، وإن كانت هناك دروس خاصة بالنساء وكثير من الإخوة يحتاجونها، ونسأل الله جل في علاه أن يوفقنا وإياكم في طريق طلب العلم.

أهمية الفقيه المحدث

أهمية الفقيه المحدث نفتتح بإذن الله دروس اليوم في القواعد الفقهية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، وقال شيخ الإسلام: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفقه أو فهم متنه. أقول: وفهم المتن رأس الأمر، وما عاب كثير من الفقهاء على المحدثين مثل ما عابوا عليهم عدم الانشغال بفقه المتن، فالإمام أحمد بن حنبل كان محدثاً بارعاً وكان فقيهاً، لكن ابن جرير الطبري شيخ المفسرين له كتاب حافل في التاريخ اسمه (تاريخ الأمم والملوك) فـ ابن جرير لما ترجم للإمام أحمد قال: وكان محدثاً. وسكت ولم يكتب فقيهاً في الترجمة، فجاء الحنابلة فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، حتى إنه انسد الباب من الحجارة التي رميت عليه وضرب بها، فلما مات عموا قبره على الناس، لكن كان رجلاً منصفاً، لما سألوه: ما تقول في أحمد؟ قال: أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وقيل لـ يحيى بن معين: أتعرف أحمد بن حنبل؟ قال: أوتسألوني أنا عن أحمد؟! أحمد إمام الدنيا بأسرها، فـ أحمد مشهور وغني، فـ ابن جرير لما ترجم لـ أحمد في حيز المحدثين لا في حيز الفقهاء فسألوه عن ذلك فقال: لم أر له رأياً فقهياً، وهذا الذي أخذ على كثير من المحدثين، ولذلك يحيى بن معين وكان يتدارس مع بعض المحدثين بعض الأسانيد، فجاءت امرأة فقالت: أسألكم، فقالوا: سلي، فقالت: إني امرأة حائض وقد توفي زوجي، وقد وصى بأن أغسله، أيجوز لي ذلك؟ فتحيروا ولم يحيروا جواباً؛ لأنهم انشغلوا بالحديث وتركوا الفقه، فلم يجب يحيى ولا من معه، فمر أبو ثور الكلبي، وكان من أصحاب الرأي ثم تفقه على مذهب الشافعية، فمر عليهم فقالوا: سلي هذا الرجل، فقال أبو ثور: نعم، أرى أنك تغسلينه؛ فقد كانت عائشة ترجل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف وهي حائض، فهنا أبو ثور استنبطها بالقياس، وهذا القياس يسمى قياس جلي أو قياس الأولى، يعني: هو رأى أن الحي لا يحتاج إلى ذلك، ومع ذلك ترجله عائشة فالميت أولى؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لنفسه. فلما قاس هذا القياس الجلي نظر يحيى بن معين فقال: هذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان وعدد مائة وخمسين طريقاً، فالمرأة اندهشت وقالت: أين أنت لما تعدد لي الآن الطرق؟! وهذه من المآخذ التي أخذها الفقهاء على المحدثين، ولذلك كان يقول ابن رجب الناس مراتب، وأعلى هذه المراتب فقهاء المحدثين، فلذلك سندخل بإذن الله على علم الحديث مع علم الفقه. أقول: علم الفقه هو أفضل العلوم، كما قال ابن الجوزي: العلم كثير والعمر قصير فأحرى بالإنسان أن يتعلم ما ينتفع به في حياته، يعلم ما يحل وما يحرم، وما يتقرب به إلى الله وما لا يتقرب به إليه، وهذا لا يكون إلا في الفقه، وهذا الفقه ـ الذي هو الفهم ـ طبقات وأعلى طبقات العلماء العالم الفقيه، وهذه كانت موجودة في الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه، ونسأل الله أن يجعله مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان رجلاً صاحب نظرة قوية في الفقه، وهو على فراش الموت سئل: من تزكي من العلماء، قال: لكن أين العالم الفقيه؟ العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على قاعدة قوية من الفقه والاستنباط، بحيث يستطيع أن يبني عليها الفروع، كلما أتاه فرع نقله أو رده إلى الأصل فجاءته النتيجة، وهذه أيضاً مستخلصة من كلام الفقيه الطبيب ابن رشد الحفيد في كتابه (بداية المجتهد)، وهو يقول: بائع الخفاف ليس كصانع الخفاف؛ صانع الخفاف هو المجتهد، أما بائعها: فهو الناقل وهو المقلد، وما أكثر النقلة الذين ينقلون، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: سهل أن تبين الحلال والحرام، وصعب جداً أن كل إنسان يعرف تحرير محل النزاع، ويعرف كيف يرجح ثم يرد على المخالف، هذا هو العلم، أي: العلم بخير الخيرين وشر الشرين، فلذلك قال: العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على القواعد والأصول التي ترتقي به ليكون عالماً فقيهاً، ومن هذه الأصول: أصول الفقه، وأيضاً: القواعد الأصولية.

تعريف القاعدة الفقهية لغة واصطلاحا

تعريف القاعدة الفقهية لغةً واصطلاحاً سنأخذ اليوم الجانب الثالث الذي يقوي الفقيه حتى نستبشر بخروج الفقهاء ألا وهو القواعد الفقهية، فسنبين ما معنى القاعدة الفقهية لغة واصطلاحاً، ثم الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، ثم بعد ذلك الفرق بين القاعدة وبين الضابط. فأقول: دائماً يتقوى المرء في هذه القواعد، فما من فقيه تراه يستدل إلا ويقول: والقاعدة عند العلماء: اليقين لا يزال بالشك، القاعدة عند العلماء: الضرورات تبيح المحظورات، ما من مفت يستطيع أن يفتي إلا ومعه هذه الآلة، فما هي القاعدة في اللغة: هي الأساس التي يبنى عليها غيرها، يعني: هي التي يبني عليها الفقيه الفروع، فالقاعدة في اللغة هي: الأساس أو الأصل أو هي أساطين أو أعمدة البناء، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127]. أما في الاصطلاح فإن لها تعاريف كثيرة، لكن أجمع هذه التعاريف تعريفان: التعريف الأول الذي وصل إليه الجرجاني حيث قال: هي قضية كلية تنطبق على جميع جزئياتها. مثال على ذلك كما قال علماؤنا: اليقين لا يزال بالشك، فهذه قضية كلية تنطبق على جميع الجزئيات. وعندنا في الفقه عدة أبواب، فالفقهاء قسموا أبوب العلم إلى عبادات ومعاملات وحدود، فما من كتاب من كتب الفقه إلا ويبدأ بالعبادات فيبدأ بالطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة، إلا في الموطأ فهو يرى غير هذا الترتيب، فقد بدأ بكتاب أوقات الصلوات ثم الطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة. إذاً: القاعدة الفقهية هي قضية كلية تنطبق على كل الجزئيات، فالقاعدة الفقهية تدخل في العبادات وتدخل في المعاملات في العقود، وتدخل في الحدود. فقاعدة: اليقين لا يزال بالشك، تدخل في الطهارة، مثال ذلك: رجل توضأ لصلاة الظهر، ثم ذهب إلى المسجد فصلى الظهر ثم خرج، فهذا حكمه في الوضوء أنه على يقين من الطهارة، ثم ذهب إلى أعماله فسمع المؤذن ينادي لصلاة العصر وذهب مسرعاً إلى المسجد، فبعدما أن صلى تحية المسجد، جلس وقرأ القرآن، أقام المؤذن الصلاة فقام ليصلي، وبما أن عندنا عدواً لدوداً وهو الشيطان، فلا يريد أن تتم العبادة بحال من الأحوال، فبدأ يوسوس له ويقول: كيف تصلي بغير وضوء، فقد خرجت منك ريح! فقام الرجل يتحدث في نفسه ويقول: أخرجت ريحاً؟! لا ما أخرجت ريحاً! شممت رائحة؟! لا ما شممت رائحة! وهذا يسمى شكاً. إذاً: هو في صلاة الظهر كان على يقين، وفي صلاة العصر في شك، نأتي إلى القاعدة الكلية: وهي اليقين لا يزال بالشك، فهو قد توضأ في الظهر وصلى وكانت الطهارة على يقين، وإنما جاءه التردد في صلاة العصر، فهذا يسمى شكاً، والقاعدة عند العلماء: اليقين لا يزال بالشك، فعليه أن يمضي في صلاته. نأتي بمثال في الصلاة: صلى الرجل إماماً صلاة العشاء، وصلاة العشاء أربع ركعات، فصلى ثلاث ركعات، وهو في الرابعة جاءه الشيطان فقال له: هذه الثالثة، وهو يقول: هذه الرابعة، والشيطان يقول: هذه الثالثة، فشك الرجل فلما شك وقف، والإمام لا بد أن يكون فقيهاً، إذاً: فهذا الذي هو فيه تردد وشك، فعند العلماء قاعدة تسمى: اليقين لا يزول بالشك، فينبغي أن يقول الإمام: أنا قد استيقنت في الثالثة أما في الرابعة فقد جاءني الوهم، فأطبق القاعدة: وهي اليقين لا يزال بالشك؛ وذلك بأن أجعل تلك الركعة هي الثالثة، حتى ولو كانت الرابعة، فأصلي الرابعة ويسجد سجود السهو. إذاً: دخلت في هذه القاعدة جزئية ثانية، وهي تنطبق على كل الجزئيات، فتنطبق في الصلاة وتنطبق أيضاً في المعاملات، مثال ذلك في المعاملات: لو جلس رجل في مجلس البيع، وباع بيعاً مثلاً: جاء المشتري فقال: أنا اشتريت منك هذه السلعة بعشرين، فقال البائع: لا، ما بعتها إلا بخمس وعشرين، فنقول هنا: وقع الشك، فكيف نطبق قاعدة: اليقين لا يزال بالشك؟! فنقول: إذا دخل الشك بينهما فإن القول قول البائع؛ لأن اليقين مع البائع. أيضاً مثال ذلك في الحدود: لو جاء رجل وشهد على رجل فقال: أنا رأيته يسرق، وقال المشهود عليه: لم أسرق، نقول: الأصل هي براءة الذمة. وهنا قاعدة أخرى لكنها تدخل تحت قاعدة: اليقين لا يزال بالشك؛ لأنها كلها فروعات تتعلق بها، واليقين في المسلم العدل التقي الذي يصلي، أنه عدل، وأنه لا يسرق ولا يزني، فلو جاء مشككاً يشكك في عدالته، فنقول: اليقين أنه عدل، وهذا الشك لا يمكن أن يزيل اليقين. فإذاً: هذه القاعدة تمر على كل جزئيات الفقه. فهذا تعريف الجرجاني. أما المحققون فقالوا في تعريف القاعدة الفقهية: إنها حكم أغلبي أكثري لا كلي، وهي منطبقة على أكثر الفرعيات أو أكثر الجزئيات، وهذا التعريف الثاني هو الصحيح والراجح.

الفرق بين تعريف الجرجاني للقاعدة الفقهية وتعريف غيره

الفرق بين تعريف الجرجاني للقاعدة الفقهية وتعريف غيره الفارق بين التعريف الأخير وبين التعريف الأول أن الأول قال فيه: هي قضية كلية تنطبق على كل الجزئيات، وقال في الثاني: هي قضية أغلبية؛ لأن هناك نوادر ومستثنيات تخرج منها، وبالمثال يتضح المقال: بيع المعدوم ما حكمه؟ بيع المعدوم لا يصح، هذا حكمه والدليل ما ورد في صحيح مسلم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر)، والغرر: هو كل بيع غائب أو معدوم، فحكمه حرام. إذاً: فالقضية الكلية أو القاعدة العامة التي نتكلم عنها الآن: هي الغرر، وحكمه التحريم. فننظر في تعريف العلماء للقاعدة: هي قضية أكثرية أغلبية؛ لأنه يستثنى منها استثناءات، كبيع السلم، والسلم هذا بيع معدوم، والسلم كما في الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا يسلمون -أو يسلفون- في التمر السنة والسنتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في شيء معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فضبطه عليه الصلاة والسلام بضوابط. والسلم معناه: أن تأتي برجل زارع ليس عنده الثمرة الآن لكن هو يصف لك هذا الثمر ويقول: هو كذا وكذا وكذا ويقول: أنا سأبيع عليك مثلاً: الوسق بخمسين أو الوسق بستين فتقول له: كم تخرج هذه المزرعة وسقاً؟ فيقول مثلاً: مائة وسق، أو ألف وسق، فيضرب لك الحساب وتعطيه الثمن. من شروط السلم: أن تعطيه الثمن مقدماً، ثم يأتيك هو بالسلعة بنفس الوصف الموصوف في الذمة وبنفس الوقت المحدود، وبذلك يتم البيع، فهذا السلم من بيع المعدوم، ولذلك قال العلماء: هذا مستثنى من القاعدة الكلية، وهذا الذي جعل الشافعي يقول: إن المستثنى لا يقاس عليه، أي: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس فمثلاً: لو أن رجلاً يعمل سائقاً عند رجل فقال له: لك (25%) من الربح، فقاسه على السلم، نقول: هذه إجارة ناقصة الشروط، فلا تصح، بل لا بد أن تعلن الإجارة، وهذه ترد -كما قلت- في قاعدة: ما خرج عن القياس، غيره عليه لا ينقاس، فالعلماء قالوا: السلم بيع معدوم وهو مستثنى من الأصل. أيضاً الاستصناع، وهو طلب الصنعة، وهو مشهور عندنا في الإسكندرية، ويعني: أن تشتري الشقة التي في الهواء، قبل بناء البيت، فهذا اسمه استصناع، يعني: يستصنع لك بالرسم الهندسي ويبين لك الشقة برسم معين. إذاً: فالتعريف الثاني هو الراجح الصحيح، وهو أن القاعدة الفقهية هي حكم أغلبي -أو حكم أكثري- ينطبق على أكثر الجزئيات.

الفرق بين القاعدة والضابط

الفرق بين القاعدة والضابط كثيراً ما نسمع من فقهائنا يقولون: وضابط المسألة كذا، والقاعدة عند العلماء كذا، فنقول: ليس هناك فرق بين الضابط والقاعدة الفقهية عند المتقدمين، لكن الصحيح أن المتأخرين ابتدءوا يفصلون المسألة، حتى تنضبط وتسهل على طلبة العلم، فقالوا: الفارق بين الضابط وبين القاعدة: أن الضابط يختص بباب واحد، والقاعدة تختص بأبواب شتى، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه). هذا الحديث رواه الخمسة، وهو ضابط في باب واحد، وليس في أبواب كثيرة، أما قولنا: الضرورات تبيح المحظورات، فهذه قاعدة كلية فالفارق بين القاعدة والضابط: أن القاعدة الكلية تدخل في المياه وفي الصلاة وفي البيوع وفي النكاح وفي الحدود. فقولنا: تدخل في المياه، مثال ذلك: رجل رأى خلخال امرأته في ضوء القمر، فأراد أن يكسب الأجر معها فجامعها، فقام ليغتسل فما استطاع؛ لأن البرد شديد، فنقول له الآن: محظور عليك أن تتيمم مع وجود الماء، لكن الرجل كان فقيهاً وقال: أنا مخير بين التيمم وبين الاغتسال، والتيمم أيسر، والمشقة تجلب التيسير، وديننا دين اليسر، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه)، بل وهناك دليل آخر وهو: (أن عمرو بن العاص كان في غزوة ذات السلاسل وهو أمير الجيش، وكان البرد عليه شديداً، فأجنب فتيمم وصلى بالناس، فتبسم صلى الله عليه وسلم لما علم بفعله، وأقره على هذه الصلاة)، فهنا دخلت القاعدة: المشقة تجلب التيسير، أو قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، أي: أن الضابط يكون في باب واحد، وأما القاعدة فتدخل في الطهارة، وفي الصلاة، وفي غير ذلك. مثال ذلك: رجل يصلي ثم حدث له حادث ابتلاه الله به؛ ليرفع درجاته فما استطاع أن يقوم، وعندنا القيام في الصلاة واجب من الواجبات، بل عند الحنابلة ركن، والدليل ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)، وجه الدلالة من الحديث أنه لا يباح لك أن تصلي قاعداً إلا إذا لم تستطع القيام، فنقول له: تدخل هنا قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات في باب الصلاة، فهنا الضرورة أباحت لك ذلك. أيضاً في مسألة الطعام يحرم على الإنسان أن يأكل الضبع؛ لأن له ناباً، لكن هذه المسألة خلافية، فعند الشافعية يجوز أكل الضبع، لأن الشافعي يقول: ما زلت على المروة والصفا أجدهم يأكلونه في مكة، والحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيه شاة)، أي: جعله من الصيد، وهذه دلالة على أنه يحل أكله. أيضاً: يحرم أكل لحم الخنزير، لكن يجوز للمضطر أن يأكله؛ لأن الله قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فالخنزير وإن كان محرماً يجوز أكله عند الضرورة، والقاعدة الفقهية تقول: الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورات تقدر بقدرها، فإذا كان يرى في نفسه الخفة، وأنه قد يصل إلى مكان يأكل فيه الطعام الحلال، فإنه يأكل أكلاً قليلاً حتى لا يموت ثم يذهب إلى مكان الحياة. إذاً الفارق بين القاعدة والضابط: أن الضابط يكون في باب واحد، والقاعدة تكون في أبواب شتى، وبينهما عموم وخصوم، فالقاعدة أعم من الضابط.

الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية

الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية: لقد عز في هذا الزمان أن تجد فقيهاً عالماً بالأصول وعارفاً بتقعيد القواعد، فإن رأيت فقيهاً لا يعرف كيف يؤصل ولا يستنبط الحكم منه فاعلم أنه ناقل. لقد تكلمت مع أحد المشايخ الفضلاء النبلاء في مسألة معينة فلامني على الحكم في المسألة، فقال: هذه تحتاج إلى استقراء، ومعنى الاستقراء: أن تطلَّع على كثير من أقوال العلماء في الفروع التي فرعوها، فأضمرت في نفسي تأدباً وقلت: لا تحتاج إلى استقراء، لكن تحتاج إلى تقعيد وتأصيل؛ لأني أقول دائماً: الفرع إذا رددته على الأصل وجدت الحكم، ووالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت كثيراً من طلبة العلم يسألون عن مسألة ولم يكونوا قد اطلعوا عليها فيجيبون بالإجابة الصحيحة، وهذا الذي جعل بعض مشايخهم يحتفلون بهم، ويعطونهم إجازات خاصة؛ لأنهم كانوا يسألونهم السؤال فيجيبون بأجوبة صحيحة، فينظر الشيخ فيرى أن هذا جواب الحافظ ابن حجر أو جواب شيخ الإسلام ابن تيمية أو جواب النووي، وهذا الطالب لم يكن قد قرأ ذلك، وإنما لأن الله حباه بفهم التقعيد والتأصيل. إذاً: فالذي عنده التأصيل القوي يستطيع أن يبني بناءً قوياً. والقواعد هي التي تقوي الفقيه وتقوي فتواه، والقواعد الأصولية والقواعد الفقهية يشتركان ويفترقان، ونحن الآن بصدد الفروق وهي كما يلي: أولاً: القواعد الأصولية منضبطة محدودة، وجزئياتها غير كثيرة، والقواعد الفقهية غير محدودة، بل هي كثيرة، وهذه والحمد لله تبين لنا ميزة هذا الفقه وأنه يسع كل النوازل كما سنبين. ثانياً: القواعد الأصولية تنطبق على جميع الجزئيات، مثل الضابط، أما القواعد الفقهية فالراجح: أنها أكثرية وأغلبية ولا تتفق على جميع الجزئيات. ثالثاً: وهذا الأوضح: القاعدة الأصولية تهتم بدلالات اللفظ، والقاعدة الفقهية: تهتم بفعل المكلف. مثال ذلك: القاعدة الأصولية تقول: الأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الكراهة، ويقولون: الأصل في الأمر الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الاستحباب، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشرب قائماً)، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ يشرب معك من هو أشر منه)، فهذا أسلوب نهي، والحديث الذي في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (ونهينا أن نكفت الثياب في الصلاة)، فهذا نهي، والأصل في النهي عند الأصوليين التحريم، ونحن الآن لسنا بصدد المسألة الفقهية وإنما نريد أن نبين على أن الأصوليين ينظرون دلالات اللفظ. والأصل في الأمر الوجوب، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) فهذا أمر، الأمر ظاهره الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الاستحباب، وهذه مهمة الأصوليين. أما مهمة الفقهاء: فإنهم ينظرون إلى فعل المكلف أي: كيف يفعل في هذه الأوامر والنواهي، هل عنده ضرورات تدخل وتزيح عنه التحريم، أو تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، أو تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؟ فهذا محل عمل القواعد الفقهية.

أهمية العلم بالقواعد الفقهية

أهمية العلم بالقواعد الفقهية كل علم له أهمية وفن له أهمية، ومن أهمية هذا العلم: أن الأمة تحتاج إلى فقيه، ولن تجد فقيهاً يكون عارياً عن قواعد الفقه؛ فقواعد الفقه أولاً: تشمل فروعاً كثيرة يضبطها كلمة وجيزة، مثلاً تقول: المشقة تجلب التيسير، فهذه القاعدة تدخل معك في كل فروع الفقه، أو تدخل في كل شيء، في سفر وفي مرض وفي طعام وفي عمليات جراحية، فنقول: فروع كثيرة تجتمع فتلتئم وتنزل تحت كلمة وجيزة هي: المشقة تجلب التيسير، أو الضرورات تبيح المحظورات. ثانياً: إن من فائدة القواعد الفقهية أن تجعل المفتي أو القاضي أو الفقيه على أرض صلبة في الفتوى، ودائماً يرجع إلى ضابط وقاعدة فيستنبط الحكم منها مع الدليل الأصولي، فتكون الفتوى منضبطة وصحيحة، ولذلك ترى كثيراً من التخبطات في الفتاوى؛ لعدم ضبط القواعد والأصول، فأضرب لكم مثلين: المثل الأول: امرأة قيل فيها: إنها فقيهة العصر وحباها الله كل خير، أفتت بفتاوى كثيرة جداً من هذه الفتاوى أنها أفتت، -وهي تتكلم عن الأضحية علينا أهي سنة أم واجبة؟ هذا خلاف فقهي، لكن الأضحية قربة- فقالت: يمكن للإنسان أن لا يذبح وإنما يضحي ويخرج ثمن الأضحية مالاً ويجزئه ذلك، قلنا: الحمد لله على فقيهة العصر! أين فقهك أين دليلك؟! فقالت: دليلي القياس، قلنا: هات القياس، قالت: قياساً على جواز إخراج الزكاة مالاً لا عيناً. إذاً: فننظر في القواعد والأصول الآن، المرأة أتت بفتوى وهي فقيهة العصر، وقالت: إنه يجوز للإنسان أن يخرج ثمن الأضحية للفقراء؛ لأنها أنفع لهم؛ من اللحم، وقالت: هذه الفتوى جاءت قياساً على جواز إخراج الزكاة مالاً لا عيناً، نقول: هل القياس كان قياساً على مسألة متفق عليها أم مختلف فيها؟ وباتفاق الأصوليين: لا يجوز أن تلزم الخصم في مسألة مختلف فيها، وهذا ضابط وليس بقاعدة، وأنتِ عممتِ الضابط إلى أن جعلتيه قاعدة، ولا يصح لك ذلك للفارق بينهما، فأصبح قياساً مع الفارق. إذاً: أقول: ما الذي يجعلنا نقوى ونقف أمام هذا التيار القوي الغاشم من الفتاوى؟ ليس إلا التأصيل العلمي، والتقيد الصحيح، والله الذي لا إله إلا هو إن شمس البدعة قد بزغت بتأصيل وتقعيد، فهذا رجل أنزل ستة كتب كلها رد على الشيخ الألباني يؤصل فيها تأصيلاً حديثياً قوياً، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه إلا من تأصل تأصيلاً علمياً. الفائدة الأخيرة: هي أن المرء المفتي أو الفقيه تنضبط فتواه بضبط هذه القواعد الأصولية أو القواعد الفقهية. يبقى الختام ألا وهو أن هذه القواعد لها مراتب: قواعد شاملة، وقواعد أضيق، وقواعد أضيق، تدور القواعد على خمس قواعد هي أهم القواعد، ولذلك أقول: لو ضبط طالب العلم هذه الخمس القواعد لأصبح نحريراً، وهي: الأمور بمقاصدها، الضرر يزال، الضرورات تبيح المحظورات، اليقين لا يزال بالشك، العادة محكمة. فهذه القواعد التي اتفق عليها أهل العلم؛ لأنها قواعد شاملة يندرج تحتها فروع كثيرة جداً، ومن أتقن هذه القواعد وضبطها أصبح فقيهاً ولا بد، إلا إذا شاء الله أمراً آخر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الأمور بمقاصدها

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الأمور بمقاصدها أمر الله تعالى بالتفقه في الدين وحث عليه، ولا يمكن أن تجد فقيهاً متمكناً لا يعرف القواعد الفقهية التي تضبط له فروع الفقه ومسائله. ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأمور بمقاصدها، والتي تُعنى بالنيات، فلا تعتبر الأفعال أو تترتب عليها النتائج إلا بها، وهي تبين أنه قد تتحد الأعمال وبالنيات تختلف أحكامها، وللنية ثمرات، منها: التمييز بين العادات والعبادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، وقلب العادات إلى عبادات.

أدلة قاعدة الأمور بمقاصدها

أدلة قاعدة الأمور بمقاصدها إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الإخوة الكرام! نفتتح اليوم بإذن الله كتاب القواعد الفقهية لفضيلة الشيخ/ محمد بن بكر بن إسماعيل، ثم نتكلم عن أحكام المواريث، فنقسم الدرس بين القواعد الفقهية، وبين مهمات في أحكام المواريث. انتهينا من المقدمة والكلام على القواعد الفقهية وأهميتها، وأنه لا يمكن أن تجد فقيهاً متقناً لعلم الفقه بدون أصول الفقه، وبدون القواعد الفقهية، إلا أن يكون صانعاً لها والفرق بينهما يبينه إتقان الأصول والقواعد، والتي تجعل من الرجل صانعاً للخفاف أو بائعاً لها. وقد فرقنا بينهما، وهذا التفريق ليس منا، بل من فحل من فحول الفقه وهو ابن رشد في بداية المجتهد، فهناك فارق بعيد بين المقلد الذي هو بائع الخفاف وبين المجتهد الذي هو صانع الخفاف، فقد نجد من ينتسب إلى الفقه الشافعي مثلاً فيحفظ كل فروعه، وتسأله في مسألة منه فإذا هو كالسيل الجرار، أما إذا سألته في مسألة مستحدثة؛ لأنه لا يدرس العلوم أو ليس بفقيه بحق فلا يستطيع الجواب، ويضرب أخماساً بأسداس؛ ولذلك صانع الخفاف: هو الذي يضبط المسائل، وإذا أتاه فرع لم يقرأه يرد الفرع على الأصل، وهذا مصداقاً لقول الإمام مالك: ليس العلم بكثرة المسائل، ولكن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء. نبدأ إن شاء الله بأول قاعدة، وهي أهم القواعد وهي: الأمور بمقاصدها، وأغلب هذه القواعد أدلتها من الكتاب والسنة. وأدلة هذه القاعدة كما يلي: أولاً: ما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات)، و (إنما) أسلوب حصر أي: قبول الأعمال بالنيات صحة أو بطلاناً، ومن أساليب الحصر: ثم وإن وإلا، وتقديم ماحقه التأخير، أو تأخير ما حقه التقديم، مثل قوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. أي: نعبدك أنت وحدك أو نعبد إياك، فقدم المفعول على الفعل والفاعل، وإياك نستعين: فيها نفس المعنى. ومن أساليب الحصر: النفي والإثبات، مثل: لا إله إلا الله. ومعنى أسلوب الحصر: أن الحكم لا يتواجد إلا فيما ذكر، ويخرج كل ما كان غير هذا الذي ذكر. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، والتقدير: قبول الأعمال وصحتها مرتبط بالنيات، فهذا أول دليل لهذه القاعدة العظيمة التي تشمل فروعاً كثيرة. وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية)، فقال في الجهاد -الذي هو عمل الجوارح- إنه لا بد أن يقترن بنية وفي الحديث الذي يذكر الجيش الذي يخسف بأوله وآخره، قالت عائشة يا رسول الله! إن فيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فذكر أصل الأصول وهو النية. وهناك أحاديث فيها ضعف، ولكن يستأنس بها مع هذه الثوابت، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نية المؤمن خير من عمله). ومنها: ما جاء في النسائي والدارمي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يقاتل شجاعة، يقاتل حمية، ويقاتل من أجل غنيمة، ما له؟ قال: لا شيء له، ثم ذكر له السؤال مرة ثانية فقال: لا شيء له، ثم ثالثة فقال: لا شيء له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وابتغي به وجهه) ابتغاء وجه الله، وهذا أصل النية. ومنها: ما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ سعد: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي -هذا وجه الشاهد- بها وجه الله إلا أجرت عليها)، أي ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة.

تعريف القاعدة وشرحها

تعريف القاعدة وشرحها ولا بد من معرفة معنى القاعدة حتى نطبقها تطبيقاً صحيحاً، فالأمور: واحدها أمر، أو جمع أمر، والأمر في اللغة معناه: الحال أو الشأن، أي: الشأن والحال، قد يقبل أو يرد بالمقصد، ومقاصدها: جمع مقصد، والمقصد معناه: العزم على الشيء. إذاً: معنى قاعدة الأمور بمقاصدها: أن أحوال وشئون الإنسان في أفعاله تترتب على نيته، وفي عرف الفقهاء: الأمور بمقاصدها يعني: أعمال المكلف، والفرق بين القواعد الفقهية وبين القواعد الأصولية، أن القواعد الأصولية: تهتم بدلالات اللفظ مثل: الأصل في الأمر الوجوب، الأصل في النهي التحريم. أما القواعد الفقهية: فإنها تنظر إلى أعمال المكلفين سواء القولية أو الفعلية، فأحكامها ونتائجها تترتب على النية، بمعنى أن أعمال المكلف من قبول ورد، أو ثواب وعقاب، أو صحة وبطلان تترتب على النية، فمثلاً رجل قام يصلي، فصلاته لها صحة أو بطلان، ولها ثواب أو عقاب. ومثاله شخص سمع المؤذن يؤذن لصلاة الظهر، فإذا قام يصلي خالعاً النية فصلاته باطلة، كأن يصلي مع الإمام الظهر فقام وكبر، ولم يستحضر النية، ولم ينو أي صلاة أي: لم يعين صلاة، فلا يدري هل سيصلي ظهراً؟ أم عصراً؟ أم نافلة؟ أم فرضاً؟ فأتى بتكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والرفع والسجود والرفع إلى أن انتهى من الأربع الركعات، فحكم هذه الصلاة البطلان؟ لأن الأمور بمقاصدها. ومعنى الأمور بمقاصدها أنها: تصح إذا كان المقصد صحيح، وتبطل بضد ذلك. ومثلاً: لو دخل رجل فصلى، ونوى أن يصلي الظهر، لكن لما رأى الناس ينظرون لصلاته قال: سيمدحونني، فأحسن هذه الصلاة؛ من أجل أن الناس سيمدحونه على خشوعه، فحكم هذه الصلاة: أنها صحيحة ويأثم عليها. أما بالنسبة للشق الثاني الذي تكلمنا عنه في معنى الأمور بمقاصدها، أي: الثواب أو العقاب، فليس له عليها ثواب؛ لأن الأمور بمقاصدها، وله الثواب لو قصد بذلك وجه الله انبثاقاً من الحديث: (ما أنفقت نفقة صغيرة ولا كبيرة تبتغي)، وقيد بـ (تبتغي بذلك) الحديث. إذاً: إذا صليت صلاة فأحسنت الركوع والسجود والرفع وجب أن أقول لك: اقصد بذلك وجه الله لتثاب على هذه الصلاة، وهذا معنى أو شرح التعريف. إذاً: شرح تعريف الأمور بمقاصدها عند الفقهاء: أن أعمال المكلفين سواء أكانت قولاً أم فعلاً، صحة أو بطلاناً، ثواباً أو عقاباً، تترتب على النية، وتطبيق هذه القاعدة كثير عند فقهائنا، والقواعد الفقهية تشمل جميع الأبواب، أو تشمل أغلب الأبواب، خلافاً للضوابط؛ لأن الضابط يشمل باباً واحداً كالطهارة مثلاً أو الزكاة.

تطبيقات وصور لقاعدة الأمور بمقاصدها

تطبيقات وصور لقاعدة الأمور بمقاصدها من هذه الصور ما يلي: الصورة الأولى: رجل سار بسيارته فوجد أمامه شبح رجل فقتله بالسيارة، فنأتي بالصور لنطبق القاعدة عليها؛ ليعلم طالب العلم كيف يطبق القواعد وكيف كان الفقهاء يطبقون هذه القواعد. عندنا رجل نريد الحكم عليه، والحكم يحال إلى القاضي الفقيه النحرير، رجل قتل رجلاً بسيارة، فعند الحكم عليه نأتي إلى القاعدة، فيقول الفقيه: الأمور بمقاصدها، إذاً: ننظر إلى الفاعل وإلى قصده ونيته، فإن كانت النية: قتله عمداً، فله حكم، وإن كانت النية أن لا يقتله عمداً، وقتله خطأً، فله حكم آخر، مع أن القتل واحد. إذاً: فالمقاصد تغير لنا الأحكام، فإذا كان صاحب السيارة دهس هذا الرجل وقتله قاصداً ذلك مع سبق الإصرار والترصد -كما يقولون- فحكمه القتل والقصاص. ولذلك قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178]، إلى آخر الآيات، وقال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]. فنطبق القاعدة، أي: الأمور بمقاصدها، فهو لما قصد قتله حكمه بهذا المقصد القتل، فتأملوا إلى أنه باختلاف المقاصد تختلف الأحكام، وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يأخذ الدية). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، منها: (النفس بالنفس)، والمقصود أن حكمه القتل. لكن لما غاير القصد، فما قصد القتل عمداً، بل قتله خطأً، فيتغير الحكم، مع أن الفعل واحد، والضرب بالسيارة واحد، لكن النية غيرت الأحكام في الفعل الواحد، فلما ذهب عن نية العمد قلنا له: حكمك حكم قتل الخطأ، وقتل الخطأ حكمه: الدية مخمسة وصوم شهرين. فلما كان قتله خطأ غاير حكمه حكم العمد؛ للقاعدة، فكل بنيته، و: (إنما الأعمال بالنية) صحة أو بطلاناً ثواباً أو عقاباً، والأمور بمقاصدها، وهذه الصور في الحدود. ومن الصور في الأموال: رجل كان يحب رجلاً، ورآه في ضيق فأعطاه مالاً، وقال: أراك تحتاج هذا المال، وهو ألف جنيه مثلاً، فلما أعطاه المال وتصرف الرجل فيه، بعد مدة جلس يتساءل لم لم أسأل الفقيه المقعد المؤصل ما حكم هذا المال؟ فالإجابة ستكون من الفقيه بأن يقول: الأمور بمقاصدها، ومالك فيه تفصيل، فإن كنت أعطيته هذا المال هبة فلا رد؛ لأن الموهوب له قد امتلك هذا المال بالقبض ولا رد، وكذلك إن أرادت أن تتصدق عليه. وإن أردت بذلك المال أن تعطيه قرضاً دون أن يجر النفع فإن هذا المال حكمه أنه دين، ولا بد من الرد حين ميسرة إن كان معسراً؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، فإذا قصدت بإعطائك له المال أن يكون وديعة، أو أمانة فتلف في يده دون تفريط فحكمه عدم الرد، إلا حين الطلب؛ لأن يد المودع يد أمان، ليست يد ضمان أبداً. لو أن أحد الناس أخذ وديعة يحملها ويحفظها، ولم يفرط فيها، فسرقت ليس عليه شيء؛ لأن يده يد أمان وليست يد ضمان. إذاً: يتغاير الحكم في أكثر من حالة بالمقصد، فلما جاء المقلد الأعمى الذي يسمع هذا فيقول: أنت رجل متذبذب، وليس عندك ثمة علم؛ ففي مسألة واحدة أو فعل واحد أعطيتنا ثلاثة أحكام! فرد عليه الفقيه المقعد بقوله: أنت مقلد وما كان لك أن تتكلم، ولو تعلمت العلم لعلمت أن هذا الحكم تغاير بقاعدة مهمة جداً عند أهل الفقه والعلوم، وهي: الأمور بمقاصدها، وإذا تغيرت النية تغير الحكم تبعاً لذلك فالحديث يقول: (إنما الأعمال بالنيات). الصورة الثالثة -وهي في الأموال أيضاً-: رجل كان صاحب أمل، ويكثر من أحلام اليقظة، وكلما يسير في الشارع يقول: لو رأيت مليوناً، أو ألفاً أو ألفين، فقدر الله عليه وهو يسير فرأى أسورة من ذهب تتلألأ أمامه، خطفت بصره، فنظر إليها فأخذها بيده، وجلس يحلم: سأتزوج بها المرأة الجميلة التي أحبها، وتنجب، ثم أعلم هذه البنت القرآن، ثم أبيع هذه الأسورة وأعمل شركة كذا وكذا، حتى جاء الغراب فأخذها من يده، وضيع عليه كل أحلامه التي يريدها، فجاء رجل أسود، وكان فحلاً كالجبل، فوقف أمامه فقال له وهو يأخذ بتلابيبه: أين أسورتي؟ رأيتها في يدك فأنت سارق، قال: لا والله! لست بسارق، أهي أسورتك؟ قال: نعم، هي أسورتي قال: إذاً يحل هذا الإشكال الفقيه، فذهبوا للفقيه المقعد المؤصل فسألوه عن هذه المسألة، فقال لهم: عندي قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها: ودليلها: (إنما الأعمال بالنيات). فقال: ننظر في الرجل الذي أخذ الأسورة، فله أحوال، وهذه الأحوال متغايرة، لكنها مرتبة على نيته في الالتقاط، فإن التقطها ليمتلكها، وهو رجل قتلته أحلام اليقظة، فلما جعلها على طرف إصبعه، جاء الغراب فأخذها فنقول: إنه فرط فيها، وما حافظ عليها، بنية أن ويكون غاصباً، والغاصب يضمن سواء أفرط أم لم يفرط، والقاعدة عند العلماء: إن الغاصب يضمن إذا فرط أو لم يفرط. فنقول له: حالك كالأول بنيتك، فهل تقسم بالله على هذه النية؟ أي: أنك التقطت هذه الأسورة لتمتلكها، وهنا تكون غاصباً، وتضمن الأسورة للرجل، فقال الرجل: لا والله! ما نويت هذه النية. ثم نقول له: فإن كنت التقطتها لتعرفها، أي: لتكون لقطة، فأنت الآن يدك يد أمان، فإن فرطت تضمن، وإن لم تفرط لم تضمن، فقال: ما فرطت بل أخذتها في إصبعي وجاء الغراب هذا من غير أن أراه فخطفها، فيقال له: إذاً: فلست بمفرط فلا شيء عليك، وهذه هي الحالة الثانية. ونقول: في الالتقاط يمكن أن تكون له نية أخرى غير النية الأولى الثانية، وهي: أن يلتقطها ليتصدق بها، وفي هذه الحالة نقول له: أنت ضامن؛ لأنك تصدقت بما لا تملك، وهي ليست ملكاً لك، فرجعت المسألة حكمها كحكم الأولى فتضمن للرجل أسورته. وهناك صورة أخرى من باب العبادات وهي كالتالي: رجل كان غنياً يملك النصاب، وقبل أن يحول عليه الحول وجد فقراء كثر فرق لهم قلبه، والله جل في علاه يرحم من يرحم من في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء)، فرحمة بالذين ينامون في الشارع، ذهب يفرق عليهم مالاً، ثم بعدما حال عليه الحول، وقف الناس عند بيته يضجون أين الزكاة؟ أين الحق الواجب الذي عليك؟ فوقف الرجل يتذكر، وقال: قبل الحول قد أخرجت هذا المال، فما حكم هذا المال الذي أخرجته: أهو من الزكاة أم ليس من الزكاة؟ فاحتاج الرجل لفقيه مقعد يخرج الأحكام على القواعد، وقال له: أخرجت المال قبل الحول، والناس يطالبونني الآن، فما حكم هذا المال الذي أخرجته؟ فقال له الفقيه المقعد: عندنا قاعدة وهي: الأمور بمقاصدها، فالأحوال والأحكام تتغاير بتغاير النيات، فلك أحوال في إخراج هذا المال: فإن أعطيت هذا المال تنوي به الاستسلاف، وأنه من الزكاة -والاستسلاف هو: تقديم مال الزكاة ويصح تقديم مال الزكاة، فكل عبادة أقتت بوقت لا يصح أن يأتي بها قبل وقتها، فهذه قاعدة عامة، وتقديم الزكاة من هذه القاعدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة عامين أو سنتين. إذاً: فإن كانت النية عندك الاستسلاف أن تقدم مال الزكاة، فتبرأ ساحتك وليس عليك شيء، وإذا طالبك أحد فقل: أخرجتها وبرئت ساحتي أمام الله جل في علاه، وهذه هي الحالة الأولى. الحالة الثانية: إن أردت بنيتك أن تقدم الزكاة، لكن النية تغيرت وأنت تدفع المال فجعلتها صدقة، وجب عليك أن تخرج الزكاة. الحالة الثالثة: إن نوى أن تكون هبة لهؤلاء الناس، فنقول له: هذه الهبة أنت مثاب عليها عند ربك جل في علاه، وعليك أن تخرج الزكاة من جديد. والفرق بين الصورة الثالثة والثانية: أن الصدقة يبتغي بها وجه الله، أما الهبة فيمكن أن يبتغي بها وجه القرب للقرين، أو لمن فوقه، هذا هو الضابط الفارق المميز بين الهبة وبين الصدقة. ونقول له: حتى لو فعلت ذلك لتتقرب أو تتحبب لمن أعطيته فحكمك: أنك لا بد أن تخرج الزكاة. فهذه صور تبين لنا كيف كان علماؤنا يطبقون هذه القاعدة العظيمة الجليلة: الأمور بمقاصدها.

توابع مهمة لقاعدة الأمور بمقاصدها

توابع مهمة لقاعدة الأمور بمقاصدها هذه توابع مهمة جداً لهذه القاعدة منها: أولاً: إذا قلنا بالتعريف الفقهي: أن أعمال المكلف صحة وبطلاناً إثابة أو رداً تترتب على النية، و: (إنما الأعمال بالنيات). فلو انتفى شيء من هذه القيود التي بانتفائها لا يوجد الحكم، كما قعدنا قاعدة سابقة، فلو وجدت النية التي رأس الأمر عليها دون العمل لا يترتب عليها الآثار الشرعية، وبالمثال يتضح المقال: رجل تزوج امرأة، كغراب البين التي كانت دائماً تقول للرجل الذي يقول: لا بد أن تتساوى المرأة مع الرجل في الميراث، وحكموا عليه في المحكمة بالردة، وقالت: هذا زوجي يقيم الليل، والحمد لله أن ربنا رزقه بهذه المرأة، وهذا أول عقاب في الدنيا، فما يدخل إلا وتنظر له نظرة وحش كاسر، ولا يسمع إلا جعجعة أو لا يرى إلا وليداً تصفعه على وجهه، وكان ضعيف الشخصية، كلما يدخل يقول: ربنا نجني منها، فإذا نظر إليها قال: طالق ألف مرة أو سبعين مرة، وكل يوم من ضيقه منها يتحدث مع نفسه: هي طالق، طلقتها اليوم، سأطلقها غداً، طالق ألف مرة، طالق مليون مرة، لكنه من جبنه لا يستطيع أن يتلفظ. وهو إذا تلفظ لا بد أن تتزوج زوجاً غيره فيبتلى بها لتحل له، وذهب هذا الرجل الضعيف إلى الرجل الفقيه غير المقعد فقال له: إني أبغض هذه المرأة وكلما دخلت عليها ورأيت وجهها العبوس قلت في قلبي: طالق، ولا أستطيع أن أصرح بها، وقلت: طالق طالق طالق قال: يا بني! القاعدة عند العلماء: الأمور بمقاصدها، وقد نويت طلاقها، وإنما الأعمال بالنيات. وأنت قد طلقتها ألف مرة، فقد عصيت الله بتسعمائة وتسعين مرة، وبثلاث قد بانت منك بينونة كبرى، ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك، وهؤلاء الفقهاء هم الذين تعج الأسواق بهم، فارتاب الرجل في قوله، وقال: لعلي أنظر إلى فقيه مقعد ومؤصل، فرجع للفقيه المقعد المؤصل فأخبره، فقال: من قال لك ذلك؟ قال الفقيه الفلاني قال: هذه ترجع إلى القاعدة التي قعدها، وهي قاعدة صحيحة، لكن تطبيقه لها كان تطبيقاً فاحشاً خطأ، إذ أن القاعدة: الأعمال بالنيات، وأنت لم تعمل، ولم تتكلم، ويلوح في الأفق أمامي دليل يريح قلبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم أو تعمل). إذاً: أناط المسألة بالعمل، فإذاً: ارجع فهي زوجتك، إلا أن تطلقها بلسانك. فهنا خرجت القاعدة وما طبقناها تطبيقاً دقيقاً، وعلمنا: أن الأعمال الظاهرة ترتبط بهذه النيات، هذه واحدة. ثانياً: استثناء، وذلك أنا قعدنا: إن هذه الأحكام في القواعد أحكام أغلبية، فانظروا إلى هذا الاستثناء وهو: إلغاء مسألة النية في الظاهر الذي لا يحتاج لتأويل، وقلنا هذا في باب الطلاق أو النكاح لحفظ الفروج؛ لأن هذه المسألة من أهم المسائل، والفروج حقها عند الله عظيم، فلحفظ الفروج قال علماؤنا: الظاهر في الطلاق أو النكاح أنه لا يحتاج لنية، فإذا دخل رجل على امرأته فقبلها، وجلس معها يسايرها، ووجد منها الخير كله، فأحبها كثيراً، وبعدما أحبها وتكلم معها قال: أنت طالق يا حبيبتي، وهو يمازحها طبعاً مزاحاً أسود، فلما قال: أنت طالق بكت المرأة، فقال: ما يبكيك، هذا مزاح ولا يقع فقالت: لا بد أن ترجع للفقيه، فرجع للفقيه أو المأذون الشرعي، فقال: قلت لها طالق ولم أنو الطلاق، فقال: يا بني! (إنما الأعمال بالنيات)، والأمور بمقاصدها، ارجع لامرأتك فهي امرأتك، وليست بطالق، فلما رجع إلى الفقيه المقعد قال له: نعم، الأمور بمقاصدها، لكن: جاءني استثناء، أو جاءتني آية ظاهرة جداً، أو جاءني حديث ظاهر جداً، أما الآية فقال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ} [البقرة:230]، وهذه عامة مطلقة، ويبقى المطلق على إطلاقه ما لم يأت المقيد يقيده، ويبقى العام على عمومه ما لم يأت مخصص، فقال: ((فَإِنْ طَلَّقَهَا))، ولم يفتقر الأمر إلى نية، وأما الحديث فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث مختلف فيه لكن هناك من صححه-: (ثلاث جدهن وهزلهن جد)، إذاً: حتى ولو كنت مازحاً فقد ألغي الحديث المزح. وهنا القاعدة صحيحة، لكنه -أي: الفقيه غير المقعد- لم يطلع اطلاعاً واسعاً حتى يأتيك بالحكم الصحيح، فأنت الآن وإن كنت مازحاً فقد طلقت امرأتك. فإذا طلقتها وأنت مازح فقد أحللتها من الوثاق إلا في حالة واحدة، وهي: إذا احتفت القرائن، وبينت لنا أنك جاهل عن هذه النية، أو قلت هذا الكلام وأنت لا تريده، ولولا أن هذا حدث في زمن الصحابة ما قلنا به، والذي جعلنا نقول بذلك: أن القرائن المحتفة إذا جاءت وقوت عدم إرادة الطلاق قلنا به. ففي زمن عمر بن الخطاب عندما جاءت المرأة تقول لزوجها -وكانت تبغضه وتريد أن تنفك منه- ما أرضى بك حتى تتغزل فيَّ فقال: أنت قمر أنت شمس أنت حسناء، قالت: لا، والله ما أرضى إلا أن تقول أنت خلية طالق فقال: أنت قمر خلية طالق، فهنا الكلام ظاهر جداً أنه يتغزل ولا يريد الطلاق بحال من الأحوال، فهو قال: أنت قمر أنت شمس، قالت: هذا الغزل لا أريده، قال: لقنيني قالت: قل -وكان غراً لا يعلم أن هذا طلاق-: خلية طالق، قال: أنت قمر خلية طالق. فهنا القرائن المحتفة أثبتت عدم إرادته الطلاق جزماً، فلما ذهب إلى عمر -الفقيه- قال له عمر بن الخطاب: ارجع فأوجعها ضرباً فإنها امرأتك، وليست بطالق. إذاً: فهذه مستثناه، وهذا الاستثناء إذا احتفت به قرائن تثبت الجزم في إرادة الطلاق فيقع، أو تثبت الجزم في عدم إرادة الطلاق فلا يقع. فهنا فرق بين النية وبين اللفظ، فاللفظ الصريح أقامه الله مقام النية، فلا يحتاج إلى تأويل، ولا يحتاج إلى نيات، قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، وأيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد). إذا: فحتى لو مازحها فقد ألغيت النية وبقي اللفظ الظاهر، وهذه الحكمة لحفظ الفروج ولئلا يتلاعب أحد، فيأتي رجل ويطلق امرأته مرة ومرتين وثلاثاً، ولكنه يعشقها، ولا يريد أن ينفك عنها، لا والله كنت مازحاً وما نويت الطلاق، ولو قلنا بهذا القول لفتحنا باباً كبيراً، وشراً مستطيراً على الناس، لكن حفاظاً على هذه الفروج قلنا: أنزل الله الظاهر منزلة الباطن فلا نحتج بهذه القاعدة، فهذا كل ما يرتبط بهذه القاعدة العظيمة من صور.

النية ومتعلقاتها

النية ومتعلقاتها للنية مباحث عظيمة وجليلة وواسعة جداً أوجزها لكم في نقاط، أولاً: تعريف النية لغة وشرعاً، الثاني: فائدة وثمرة النية، الثالث: النية وقاعدة الاندراج.

تعريف النية

تعريف النية أولاً: النية معناها لغة: القصد، وشرعاً: هو القصد المقترن بالفعل، وهذا من أهم ما يكون به ضبط النية ولا بد أن يعرف طالب العلم النية في لغة الفقهاء أو الاصطلاح، ومعنى القصد المقترن بالفعل: أي: أن لا تصل إلا وتستحضر النية، ولا تحج إلا وتستحضر النية، وكذا الصوم وغيرها من العبادات، ولا تزك إلا وتستحضر النية، فإذا ما استحضرت نية الزكاة فلا يمكن أن تقبل، ولا تصح زكاتك. ولا تصوم أيضاً إلا بنية. إذاً: القصد المقترن بالفعل لا بد أن يكون هو والفعل سواء، وإن سبقه لا يسبقه بكثير، ولا يكون بعده، فإن كان بعد الفعل، كرجل دخل يصلي صلاة العشاء فوجد الإمام يقرأ فكبر وقرأ الفاتحة، وبعدما قرأ الفاتحة قال: ما نويت، والآن أنوي صلاة المغرب مثلاً، فتوى بعدما كبر تكبيرة الإحرام لصلاة المغرب، فلا تصح صلاته؛ لأن النية لم تقترن بالفعل بل جاءت بعده. وكرجل دخل فتوضأ، ثم جلس في المسجد، ثم أقام المؤذن الصلاة، ونوى صلاة الظهر قبل أن يقيم الرجل الصلاة، وكبر مع الإمام، وركع وسجد وانتهى من الصلاة، فصلاته صحيحة، مع أن النية غير مقترنة! لأن الفارق يسير، وهناك قاعدة عند علمائنا أن اليسير مغتفر، فالفارق إن كان يسيراً فهو مغتفر. فهذا معنى تعريف فقهائنا: أن النية هو القصد المقترن بالفعل. ووقت النية مفرع على هذا الكلام، فيكون مع الفعل أو يسبقه بيسير، وخروج المرء من بيته، وذهابه إلى المسجد قصد للصلاة، وجلوسه مع نظره إلى المؤذن الذي يقيم الصلاة يدل على العزم على الصلاة، فهي مقترنة.

ثمرات النية

ثمرات النية الأولى: التمييز بين العبادات والعادات، وكثيراً ما ترى أن العبادات لها مثيل من العادات، مثال ذلك: الغسل، فيمكن للإنسان أن يدخل بأهله، أو يحتلم ليلاً فيغتسل لرفع الجنابة، وممكن إذا قام من الليل فوجد الحر شديداً أن يغتسل، للتبرد، فأمكن أن يكون الغسل عبادة، وأن يكون عادة، فكل عبادة لها مثيلتها من العادات. أيضاً: كالذي يشعر أن في معدته تعب، فيرى أن الصوم فيه صحة، فيمسك عن الطعام، ولا ينو الصوم، بل يمسك من أجل الاستشفاء، فهذه عادة، فالنية تميز العبادة من العادة، وإذا دخلت وأنت جنب فاغتسلت ولم تنو إلا التبرد، ثم خرجت فصليت العصر، فصلاتك باطلة؛ لأنك صليت وأنت جنب، فإن قال: كيف أكون جنباً، وقد دخلت الآن أمامك، واغتسلت، وأفضت الماء على كل جسدي، والغسل معناه تعميم الجسد بالماء، وقد فعلت؟ قلنا: افتقر الأمر إلى نية الفعل، فلابد أن يصاحبه نية أن تستبيح الصلاة بنيتك، أو ترفع الجنابة، فلما اغتسلت تبرداً كأنك لم تفعل شيئاً. ومن الأمثلة أيضاً: رجل دخل يصلي، وقال هذه رياضة أعظم ما تكون، فإن الركوع والرفع تضبط لي فقرات الظهر، والسجود والجلوس أيضاً رياضة عظيمة، فدخل يصلي متريضاً، فبعدما صلى قام رجل وقال: أنا أعرفك أنت الرياضي الفلاني، وأنت ما دخلت الصلاة إلا للتريض؛ فصلاتك باطلة، فقال: أنت لا تفقه شيئاً، فإني قد أتيت بالشروط، والأركان متوفرة، وتوضأت، وركعت وسجدت ورفعت، فتوفرت في صلاتي الشروط والأركان؛ فصحت فكان الذي يناظره فقيها، وقال: لكنك لم تفرق بين العبادة وبين العادة؛ لأنك لم تنو أن تصلي هذه الصلاة إلا مع قيامك بهذه الحركات. الثانية: تمييز العبادات بعضها من بعض، بأن تكون فرضاً أو نفلاً، أو نذراً، أو كفارة، مثاله: رجل قام يصلي صلاة الظهر، ونوي أنها من الفروض التي فرضها الله عليه، فتسقط عنه الفريضة، وقام يصلي العصر، فنوى أنها من الفرائض التي فرضها الله عليه فتسقط عنه، فلما قام يصلي المغرب قال هذه سنة نستن بها، فصلاها على أنها سنة ونافلة، فلا تسقط عنه صلاة المغرب؛ لأنه يميز بين النافلة وبين الفرض، والأمور بمقاصدها فإذاً: من التمييز بين العبادات بعضها من بعض: التمييز بين الفريضة وبين النافلة. مثال آخر: رجل صام يوم الاثنين، وكان يعتاد الصوم جزاه الله خيراً، ويرى أن النبي صلى الله عليه وسلم صام يوم الاثنين لأكثر من فائدة، منها: أن الأعمال ترفع منه، ومنها: أن الصوم ولأعدل له ومنها: الاحتفال بأن هذا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يحتفل بالصوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (لما سئل عن ذلك قال: ذلك يوم ولدت فيه). فصام الرجل هذا اليوم، وكان كثيراً ما يصومه، لكنه في ذات مرة قال: نذر علي إن شفى الله ابني لأصومن يوم الاثنين، فهذا يعتبر نذراً، والنذر ينزل منزلته، فقام من الليل وبعدما صلى صلاته من الليل نام حتى أصبح، ثم قام صائماً كما كان يصوم كل اثنين، فعند الإفطار قال الحمد لله قد وفيت بنذري فيقال له: هذا الصيام وقع نفلاً وعليك أن تأتي بالفرض؛ لأنك لم تميز بين الفرض والنافلة. فإذاً: النيات تميز بين العبادات بعضها من بعض، وتميز بين الكفارات والنذور والنوافل. الثالثة: أنها تقلب العادات إلى عبادات، وكما قعد علماؤنا: بالنيات تنقلب العادات إلى عبادات، فالنوم مثلاً مباح، فللمسلم أن ينام، وليس شرطاً، أو لازماً إلا إذا أشرف على الهلكة، فإذا احتسب نومه؛ ليقيم الليل، فكل ساعة وكل دقيقة وكل نفس يخرج منه ويدخل له، فيه الأجر؛ لأنه احتسبه، وقلبه من العادات إلى العبادات، ولذلك كان ابن مسعود يجعلها قاعدة عامة فكان يقول: ((والله! إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)). فكان ينام ليقيم الليل، وكان ينام ليستطيع أن يجاهد في سبيل الله، وكان ينام حتى يدرس دروس العلم، فقلب العادات إلى عبادات. وأيضاً الأكل الكثير، مع أنه مذموم يمكن أن يكون ممدوحاً، فقد كان أمير المؤمنين في الحديث -أي: سفيان الثوري - يأكل كثيراً، فلما عوتب على الأكل الكثير -والأكل الكثير مباح، فقلبه من العادات إلى العبادات أو قلبه من المباحات إلى العبادات- قال: آكل كثيراً لأستطيع أن أعبد ربي، فالدابة إذا علفتها علفاً جيداً ستعطيك وتثمر لك ما تريد، فقال: أنا أعلف نفسي كثيراً لأستطيع أن أعطي لربي في العبادات، ولذلك كان يأكل خروفاً على العشاء مثلاً فيقيم الليل إلى الفجر. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ما كان يأكل الدباء مع أنه مباح، لكن: (لما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحفة، فكان يرى يد النبي صلى الله عليه وسلم تنتقل إلى الدباء، ويحبه فيأكله، قال: فمنذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت الدباء). فما رأى دباء إلا وجلس يأكل منها كما يأكل النبي صلى الله عليه وسلم، تعبداً بذلك، أو للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأكل الدباء عادة وليست عبادة، ففعلها وقلبها من العادة إلى العبادة، وأبو أيوب الأنصاري أو أبي بن كعب لما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قدم له طعاماً فيه بصل مطبوخ، ويجوز للإنسان أن يأكله مطبوخاً، لكن ما أكله النبي صلى الله عليه وسلم وكف يده، فقال له أبي: (حرام؟ قال: لا، لكني أناجي من لا تناجي). فقال هذا الفقيه الأريب اللبيب: (والذي نفسي بيده! لآتسين برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلم يأكل البصل مطبوخاً ولا غير مطبوخ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلبها من المباح إلى العبادة. إذاً: من ثمرات النية: قلب المباحات إلى عبادات.

التداخل والاندراج في النية

التداخل والاندراج في النية تداخل العبادات أو قاعدة الاندراج كانت للصحابة، فكان عملهم قليل ونواياهم كثيرة، فكانوا فقهاء بل تجار نية مع الله جل في علاه، يأتي الواحد منهم المسجد بعشرين نية، يأتي بنية صلاة الفرض، وأن يسقط عنه الفرض، وبنية مدارسة العلم، وبنية تعليم الجاهل، وبنية التعاون على البر والتقوى، وبنية الجلوس في المسجد ليستغفر له الملك، وبنية مساعدة الفقير، وبنية وصول الخير لغيره، فله أكثر من نية في عمل واحد، وليجمع هذه النيات فتكون له هذه الأجور، فميزة وثمرة النيات: أنها يمكن أن تتداخل العبادات فيها، بنية واحدة، فيكون لك أكثر من عمل. قاعدة الاندراج لها ضوابط، وهذه الضوابط في العبادات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عبادات مقصودة لذاتها. فالمقصودة لذاتها مثل صلاة الفروض، كالظهر والعصر والفجر والمغرب والعشاء، فهذه مقصودة لذاتها، وأيضاً كالسنن والرواتب، فهي مقصودة لذاتها وليست مطلقة، وكسنة الفجر والظهر والمغرب والعشاء. القسم الثاني: المطلوب الفعل فقط، أو ليست مقصودة لذاتها، كتحية المسجد، فصلاة تحية المسجد مطلقة، وصلاة سنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، ولا تحسبن أنه يجب عليك أن تصلي ركعتين، بل لو صليت الفرض سقطت عنك تحية المسجد، ولو صليت صلاة استخارة سقطت عنك تحية المسجد، فهي غير مقصودة لذاتها، والمقصود شغل البقعة بالصلاة مطلقاً فقط. فالسنن المطلقة غير مقصودة لذاتها، فصلاة الاستخارة غير مقصودة لذاتها، وسنة الوضوء غير مقصودة لذاتها، والمطلوب الفعل فقط. أما القسم الأول فلا تشريك ولا تداخل فيه بحال من الأحوال، فكل عبادة مقصودة لذاتها، ولا تقبل التشريك، فلا يصح لقائم يصلي صلاة المغرب أن ينوي صلاة المغرب مع قيام الليل، فيقرأ طويلاً، أو يقرأ بالأعراف، ويقول: أنوي نيتين، وتسقط عني فريضة المغرب، ووقت الليل قد دخل فهذا من قيام الليل، فيجعلها من قيام الليل ويجعلها صلاة المغرب، فنقول له: بطلت صلاتك؛ لأنك لم تفردها بالنية، والأمور بمقاصدها، ولا يصح لك أن تشرك النية في هذه الصلاة؛ لأنها عبادة مقصودة لذاتها. أو كرجل قام يصلي الفجر فقال هذه صلاة الفجر أصليها حتى تطلع الشمس وأنا أقرأ، أو تقارب، وأصلي معها مع الضحى مثلاً، نقول له: لا تصح صلاتك؛ لأنك شركت ولا تشريك في النية للفرض؛ لأن هذه العبادة مقصودة لذاتها. أما القسم الثاني: وهو عبادات غير مقصودة لذاتها: فالمراد الفعل فقط، مثاله: رجل توضأ ودخل المسجد، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فهذه مطلقة، فإذا قام فتوضأ، وكان من عادته أنه يفعل ما فعله بلال أي: ما توضأ وضوءاً إلا وصلى، فقال: هذه الصلاة سنة الوضوء، فصلاها بنية سنة الوضوء، فتدخل معها تحية المسجد، وإن لم يدخلها ونوى سنة الوضوء فقط سقطت عنه صلاة تحية المسجد؛ إذ المطلوب فقط أن تشغل البقعة بالصلاة، ولو دخلت ووجدت الإمام يصلي الظهر وأنت لم تصل تحية المسجد وصليت خلفه الظهر، فقد سقطت عنك تحية المسجد، فتبين أنها ليست مطلوبة لذاتها، والمطلوب: هو شغل البقعة بالصلاة، وقد صليت الصلاة وإن كانت سنة الوضوء، ولكن نقول لك: كن فقيهاً وصلها بنية سنة الوضوء وأدخل معها نية تحية المسجد. وكذلك: رجل دهمه أمر مهم يريد أن يفصل فيه فقال: الفصل جاء من النبي، فأفوض أمري لله وأستخير, فتوضأ وأراد أن يستخير، وكان من عادته أن يصلي للوضوء فقال: أصلي داخل المسجد كي تحفني الملائكة، فدخل المسجد فلما نظر وقعد قال: قد درست بأن النيات يمكن أن تتداخل، وقد توضأت فأصلي بهذا الوضوء سنة الوضوء، وبنية تحية المسجد، وبنية الاستخارة، فصلى بهذه النوايا الثلاثة، فجمع هذه الأجور كلها بعمل واحد، وصح له ذلك. إذاً: العبادات المطلقة الغير مقصودة لذاتها يصح أن تتداخل، أما العبادات المقصودة لذاتها، فلا يصح أن تتداخل، وبالتطبيق سيتضح لك ما أقول: رجل قام يصلي صلاة الغداة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل مما طلعت عليه الشمس)، وقال هاتين الركعتين بنية سنة الفجر، ونية الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر وهو جالس بعد قيام الليل، فصلاهما بنيتين: نية سنة الفجر، ونية قيام الليل، وخطوات القاعدة: أن ننظر إلى هذه الصلاة التي هي مقصودة لذاتها، إذاً: فالحكم أنه لا تداخل، ونقول له: لا يصح فعلك بل لابد أن تفردها بنية. ورجل بعدما صلى المغرب قال: ألتمس هذه السارية فأصلي سنة المغرب، وأنوي معها قيام الليل، فلا يصح؛ لأن سنة المغرب مقصودة لذاتها، مع أن بعض العلماء قال: ممكن أن تدخل في قيام الليل؛ لأن الثانية نافلة، لكن الصحيح الراجح: أن كل عبادة مقصودة لذاتها لا تداخل للنيات فيها. ورجل قام يصلي تحية المسجد فقال: أنا أصلي تحية المسجد، وسنة الظهر، وسنة الوضوء، وصلاة الاستخارة، فأتى بأربع نيات، فلا يصح فعله؛ لأنه أدخل فيها سنة الظهر، وهي مقصودة لذاتها، ولو نوى ثلاثاً: الاستخارة وسنة الوضوء وتحية المسجد لصح ذلك. إذاً: العبادات المقصودة لذاتها لا تتداخل نياتها، والعبادات المطلقة يمكن أن تتداخل النية فيها، وهي التي يدخل فيها قاعدة الاندراج. وهناك ضابط آخر يضبط المقصود بذاته أو مطلق الفعل، ومثال ذلك: رجل كان يأخذ بقول الشافعي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بكر وابتكر وغسل واغتسل)، فأخذ بأسباب الغسل، ومن أسباب الغسل: جماع أهله، فجامع أهله، ثم دخل ليغتسل بعدما جامع أهله وكان فقيهاً حنبلياً؛ لأنه يرى: بأن غسل الجمعة واجب على كل محتلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب)، والصحيح الراجح: أنه مستحب وليس واجب؛ لما في صحيح مسلم -وهو أسطع من شمس النهار- وفيه: (من توضأ وذهب إلى الجمعة ماشياً، وقرب من الإمام فأنصت، ولم يلغ كانت له كفارة إلى الجمعة الثانية)، فقوله: (من توضأ)، هذا صريح غير مؤول، ولا يحتمل أي شيء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب)، يحتمل أشياء كثيرة جداً، والمقصود: أنها سنة وليست بواجب، فدخل الحنبلي يغتسل وقال: الآن أنا دائر بين أن أنوي نية غسل الجمعة وأدرجه مع غسل الجنابة، فكان فقيهاً نيراً، وقال: اغتسلت هذا الغسل للجمعة وللجنابة وخرج فصلى، فصلاته صحيحة. فنجد: بأن غسل الجنابة مقصود بذاته لرفع الجنابة، أو لرفع الحدث، أما غسل الجمعة فليس مقصوداً لذاته، بل مقصود لغيره؛ والغير قد يكون العرق مع الاجتماع، فينفر منك أخوك من هذه الرائحة، فأصبح مقصوداً لغيره، فلما كان مقصوداً لغيره قال العلماء: الذين يتبنون مسألة الوجوب يندرج؛ لأن الأدنى الذي هو غير مقصود لذاته يندرج تحت الأعلى الذي هو مقصود لذاته، لكن الزهري قال: إن هذا واجب وإن كان غير مقصود لذاته لكنه واجب، والثاني أيضاً مقصود لذاته وهو واجب، والقاعدة عندنا: أن الواجبات لا تقبل التشريك، فكان قوله أشبه بالتقعيد والتأصيل، وعلى قول الزهري: عليه غسلين: غسل الجنابة، وغسل الجمعة، فإن قلنا: الراجح قول الزهري، نقول له: قد رفعت جنابتك بغسل الجنابة وصحت صلاتك، لكنك أثمت لتركك غسل الجمعة، وهذا تخريج على قول الزهري، الذي هو أشبه ما يكون بالتقعيد والتأصيل. إذاً: توسعنا في مسألة وقاعدة الاندراج وتداخل النوايا، وقلنا: العبادات تنقسم إلى مقصود بذاته وغير مقصود بذاته، فما كان غير مقصود بذاته بل المقصود منه الفعل فقط فتندرج تحته النوايا، أي: ممكن أن تتداخل فيه النوايا، أما المقصود لذاته فلا يمكن أن تتداخل فيه النوايا، ولا يقبل تشريكاً. وهذا آخر الكلام على مسألة الأمور بمقاصدها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني النية لها شأن عظيم في الشريعة الإسلامية، فإن استقامت وصلح العمل فقد أفلح صاحبها وأنجح، ومما يبين عظيم مكانة النية في الإسلام: أن العقود قد لا تنفذ ولا تترتب عليها آثارها في بعض الحالات، رغم توفر أركان العقد وشروطه؛ وذلك لأن النية قد تكون متجهة لمعنى غير ما ظهر من الألفاظ، وتعلم النية ومقصودها بالقرائن. ، فإذا اعتبرنا النية والمقصد لا اللفظ الظاهر فقد قصمنا ظهور أصحاب الحيل، الذين يسلكون درب اليهود في ذلك الأمر.

لا ينال العلم إلا بالصبر

لا ينال العلم إلا بالصبر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار، ثم أما بعد: فإن طلبة العلم إذا استعصت عليه المسائل العلمية يفر من طلب العلم، فيعيش عمره كله في الجهل. وقد قال الإمام السبكي: ما ألح أحدٌ على باب إلا فتح له. فإذا ألح طالب العلم على الأصول فتح له بابها، وإذا ألح على المصطلح فتح له بابه، ولا بد من الصبر حتى ينال طالب العلم ما يريد. وحتى يتيسر طلب العلم ويسهل على طالبه فلابد من التدرج فيه، فإذا أراد أن يدرس العقيدة مثلاً فليبدأ بكتاب لمعة الاعتقاد، فهو كتاب نافع للمبتدئين، وإذا أراد أن يدرس القواعد الفقهية فليبدأ بدراسة أصول الفقه، فإن من ضيع الأصول ضيع الفقه. ولن يصل طالب العلم إلى العلم إلا بالصبر، وإلا فسوف يعيش جاهلاً أو مقلداً، وإذا أخطأ أو زل وهو على هذه الحالة فخطؤه محسوب عليه، وليس كالعالم الذي إذا أخطأ كتب له أجر، وإذا أصاب كتب له أجران.

العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني

العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني سبق الحديث على قاعدة: الأمور بمقاصدها، والتي يندرج تحتها كثير من القواعد، ومما يندرج تحت هذه القواعد قاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني، وهي من القواعد التي تمس معاملاتنا اليومية كما سيأتي؛ لأنها تخص أبواب المعاملات. ومعنى العبرة: الأصل، أو الصلاح أو الصحة، أو البطلان، أو الفساد، أو الآثار الشرعية المترتبة على الأخذ بهذا العقد. وهو الذي يبرم بين المتعاملين. والمقاصد: جمع مقصد، ومعناه: القصد، وهو الإرادة والنية، أو العزم المقترن بالفعل، والمعاني دلالات الألفاظ، فاللفظ قد يكون له دلالات كثيرة، والبحث يكون عن المعنى الجوهري لهذا اللفظ المقصود عند القائل، أو عند الذي أبرم العقد. والمقاصد أخص من المعاني وأدق، فالمقاصد: هي دقة الفهم، وأما المعاني: فهي الفهم فقط، لا دقة الفهم. والألفاظ جمع لفظ، واللفظ: كل ما نطق به اللسان. والمباني: جمع بناء، وهو جمع كلمة إلى كلمة حتى تكون جملة، مفيدة، يستفاد منها حكم معين. المعنى الإجمالي لقاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، أي: إذا أبرم امرؤ عقداً مع آخر فصحته أو آثاره الشرعية المترتبة على العقد تكون بالقصود أو بالمقاصد، وبالبواطن لا بالظواهر، وبما يريده العاقد.

أمثلة تطبيقية على هذه القاعدة

أمثلة تطبيقية على هذه القاعدة قلنا الأمثلة على هذه القاعدة تكون في باب المعاملات، من بيوع أو إجارات أو غير ذلك. فالمثال عليها في باب البيوع: أن رجلاً أراد أن يشتري سيارة من آخر فسأله عن الثمن، فقال: بخمسين ألفاً، فقبل المشتري بالثمن، وأعطى البائع حقيبة فيها ذهب، وقال له: هذه عندك أمانة، ثم أخذ السيارة وذهب. محل الشاهد في هذا المثال: هو قول المشتري: هذه عندك أمانة، ومعناه: أنه يأتي بعدما يأخذ هذا الرجل الحقيبة فينظر ويقول: هذه في يدي أمانة، وهو أخذ السيارة، ثمنها ليس معي، يستطيع والذهب صاحبه أن يسترده في أي وقت؛ لكونه أمانة، فذهب البائع على الفقيه العالم بالقواعد الفقهية، وأخبره بما حدث، فأفاده الفقيه: أن الذهب الذي استلمه من المشتري ليس أمانة؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، حتى وإن تلفظ المشتري وقال هي أمانة، فإنه لا يقصد أنها أمانة، وإنما أراد أن يجعلها رهناً أو ضماناً لثمن السيارة، فإذا دفع الثمن استرد حقيبة الذهب، فقيل للفقيه: من أين عرفت ذلك، قال: العرف بين الناس، أنه إذا اشترى رجل سلعة ثمينة، ولم يدفع ثمنها فإنه يعطي البائع رهناً أو ضماناً لهذا الثمن، أو لهذه السيارة. وحكم الرهن يخالف حكم الأمانة، فالأمانة إن أراد أن يستردها صاحبها استردها في أي وقت، أما الرهن فإنه لا يسترده إلا أن يدفع ثمن المبيع، وإن لم يدفع فللمرتهن أن يبيع هذا الرهن ويتقاضى حقه، وهذا له تفصيل آخر في كتب الفقه. والمقصود بيانه: هو أن اللفظ عندما غاير المقصود قلنا: إن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني. مثال آخر: رجل أعطى الآخر ساعة، وقال له: خذها هبة لك بعشر جنيهات، فأخذها الرجل وذهب، وبعد ذلك جاءه الذي أعطاه الساعة يريد منه عشر جنيهات، فقال له: أنت وهبتها لي، وقد قبضتها، وقد علمت أن الهبة تملك بالقبض، فأنا قبضت الساعة فهي ملكي الآن، قال: قلت لك: وهبتها لك بعشر جنيهات، فقال القابض: وأنت عندما وهبتها أنا أخذتها وامتلكتها، وليس لك عندي شيء. فذهبا إلى الفقيه؛ ليفصل بينهما فيما تنازعا عليه، فلما علم الفقيه بما دار بينهما قال للآخر: طالما قال لك: إنها هبة بعشر جنيهات فإنه لم يقصد الهبة، لكنه قصد البيع، وهذا تطبيق لقاعدة: العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ، فالمفهوم من سياق قوله: خذها بعشر جنيهات هو أنه لا يمكن أن تكون في حكم الهبة؛ لأن الهبة تمتلك بلا عوض مقابل، ولما قال: بعشر جنيهات علمنا أنه أخطأ في اللفظ، فأخذنا بمقصوده وهو البيع والشراء، كأنه قال: بعتها بعشر جنيهات. إذاً: فالعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليس بالألفاظ والمباني. وعقود النكاح أيضاً: العبرة فيها بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني. مثال ذلك: رجل أحب امرأة، وأراد نكاحها امتثالاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لم أر للمتحابين سوى النكاح)، وكان فقيهاً، فما أحبها إلا للطاعة، فذهب إلى أبيها وقال: ابنتك صالحة، وأردت المرأة الصالحة؛ لأن المرأة الصالحة بركة، ولذلك فإني أطلبها منك زوجة لي، فقال له الرجل الصعيدي: جوزتك ابنتي، وهذه في اللغة لا تصح، بل الصحيح في اللغة: زوجتك، فالصعيدي قال له: جوزتك بنتي، فقال له الآخر: -وكان فقيهاً لكن اللكنة غلبت- جبلت، بالجيم؛ لأن أهل الصعيد ينطقون القاف جيماً، والأصل: قبلت. ولما وقع الزواج دخل عليهما رجل وقال: هذا العقد باطل؛ لأن هذه الألفاظ التي وقع بها العقد لا تدل على الإيجاب والقبول، فالإيجاب والقبول أن يقول الولي: زوجتك موليتي، ويقول الآخر،: قبلت، وهذا لم تتلفظا به في عقد النكاح، فجاء الفقيه المقعد فقال: أخطأا في اللفظ لكنهما أصابا في المقصد والمعنى، والعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني، فالعقد يكون عقداً صحيحاً ليس فيه ثمة شائبة. إذاً: فهذه القاعدة بمجملها تسري في العقود، وفي المعاملات، وفي كل شيء. وأصل هذه القاعد ودليلها: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).

الحيل تعريفها وأقسامها

الحيل تعريفها وأقسامها القاعدة الآنفة الذكر تبحث في البواطن لا في الظواهر، وبها -بفضل الله- نقصم ظهور الذين ينتحلون منهج اليهود، والذين يتحايلون أو يحتالون على الحق، فيسقطون واجباً، أو يحلون حراماً بظواهر صحيحة، ولكن البواطن مخالفة، وهذا من الحيل، فهذه القاعدة تقف أمامهم بالمرصاد، وتقطع حيل كل محتال، والحيل: هي الوسائل التي يتوصل بها صاحبها إلى إسقاط واجب، أو تحليل حرام بعقد ظاهره الصحة، فيأتي أحدهم إلى شيء محرم ليستحله بأمر ظاهره الصحة. الحيل ثلاثة أقسام: قسم مباح مطلقاً، وقسم ممنوع مطلقاً، وقسم مرسل، ولسنا بصدد القسم المرسل الآن. أما القسم المباح: فهي الحيل على الأمور التي أباحها الشرع، بحيث لا تخالف الأصول، كالحيلة على الوصول إلى الصلح بين اثنين متخاصمين، كالرجل وزوجته، فيمكن أن يتحايل المرء بحيلة معينة، أو بتعريض معين يجمع بينهما، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بأنه ليس بالكاذب من ينمي خيراً، أي: الذي يأتي بالخير ليجمع بين الشتات، فهذا ليس بكاذب، والتعريض ليس من الكذب. ومن الحيل المباحة: أن يحتال على أهل الكفر بالنطق بكلمة الكفر، ولا يكتب عند ربه كافراً، وأشهر مثال يضرب لذلك هو قول الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فـ عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه لما ظن أنه سيهلك تكلم في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال له: (قد هلكت، وطلبوا مني القول فيك فتكلمت، فقال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً لنا الحيلة الصحيحة التي يمكن للإنسان أن يأخذها في مثل هذه المواقف- فإن عادوا فعد)، وهذا تصريح من الشرع بأن هذا مباح. القسم الثاني: الحيل المحرمة: وهي الحيل على العقود التي منع منها الشرع، فيأتي أحدهم بعقد فاسد ظاهره الصحة، فيستحل به الشيء المحرم، والحيلة على المحرم لا تجوز، ولا يمكن أن تكون حلالاً، حتى ولو كان ظاهر العقد حلالاً، وأمثلة ذلك كثيرة.

الأدلة على إبطال الحيل

الأدلة على إبطال الحيل أول الأدلة وأقواها على تحريم الحيل وإبطالها: ما رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكن امرئ ما نوى)، فهذا دليل على إبطال الحيل، وطالب العلم الذي يستنبط الحكم من الدليل عندما يسال عن وجه الدلالة من الحديث يقول: إن صحة العقود مدارها على النية، وبطلانها مداره على النية كذلك، حتى لو كان ظاهرها الصحة فيكون المعنى: إنما صحة الأعمال بالنيات، وإنما بطلان الأعمال بالنيات كذلك، فالعقود تدور على البواطن أي: على النوايا. فهذا دليل على إبطال الحيل. ثاني الدالة على ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه، فجملوه، فباعوه، فأكلوا ثمنه)، فقوله: (قاتل الله اليهود)؛ لأنهم تحايلوا على ما حرم عليهم فاستحلوه كما قال إبراهيم بن أدهم: يتعاملون مع الله كما يتعاملون مع الطفل الصغير. والعملة الزائفة لا تروج على الله بحال من الأحوال، فلذلك لما حرم الله عليهم أكل الشحوم لم يأكلوه، بل أذابوه فباعوه وأكلوا ثمنه، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم أكل الثمن؛ لأن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وهم لما عورضوا بذلك قالوا: ما أكلناه، والتحريم على الأكل فقط، فتحايلوا على الأكل، فأذابوه وباعوه فأكلوا ثمنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود)؛ لأنهم أتوا أمراً منكراً، ولذلك فالذي يتحايل أعظم جرماً من الذي لا يتحايل ويقع في المحرم صراحة. ومن الأدلة على إبطال الحيل آثار اختلف في إسنادها وإن صححها بعض المحدثين المحققين، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أمتي يأكلون الربا في البيع، يسمونها بغير اسمها). فهذه هي أدلة على إبطال الحيل.

مثال للحيل في البيوع

مثال للحيل في البيوع هناك بيع يسمى: بيع العنية، وهو مما له علاقة بقاعدة: العبرة في العقود بالقصود والمعاني، لا بالألفاظ والمباني. وصورته: أن يأتي المشتري -وهو ليس بمشتر- إلى رجل لديه أموالاً طائلة، ولا يتق الله في إخوانه، ولا يقرض القرض الحسن، فيأتيه الرجل المحتاج فيقول: أقرضني ألفاً، فيوافق على أن يقرضه ألفاً؛ بشرط أن يردها ألفاً وعشرين، فقبل الرجل المحتاج لهذا الشرط، وحتى لا يظهر هذا التاجر بمظهر الربا فإنه يحتال على ذلك ويقول لهذا المقترض المحتاج: سوف أبيعك سلعة بألف نسيئة، وخذها واقبضها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا أن يقبضه)، فيوافق هذا الرجل الشرع ظاهراً، ثم يقول للمقترض: سوف آتيك في اليوم التالي فأشتريها منك بسبعمائة أو بثمانمائة، واتفقا على ذلك، وهذه هي صورة من صور العينة. فالبيع في الظاهر صحيح؛ لوجود الإيجاب والقبول مع التراضي بين الطرفين. وهذه هي التي قال فيها جمهور أهل العلم: إنها محرمة، خلافاً للشافعي، فإنه يقول: إن هذه محرمة إذا كان الشرط مسبقاً، أما إذا كان الظاهر أنه اشترى ثم بدا له بعد ذلك البيع فباع منه، فهذا يصح. وهذا هو الصحيح الراجح، فهي ليست من العينة وهذه المعاملة تصح، وهذا الذي ألمح إليه شيخ الإسلام؛ لأن العلة النظر للمقاصد، فإن كان لا يقصد أن يتحايل صح البيع، أما جمهور أهل العلم فيقولون: إنه اشترى السلعة وهو لا يريدها، إنما يريد المال، وذاك باع السلعة وهو لا يريد بيعها، إنما يريد القرض، لكنه لم يسمه قرضاً، حتى لا يكون قرضاً جر نفعاً، فيقع في الربا، ولذلك سماه بيعاً. وبالنظر إلى القاعدة الفقهية التي استقيناها من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهي العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني، فإن قال له: بعتك، وقال الآخر: اشتريت أو قبلت، فنقول: هذا لا عبرة به، والعبرة بالبواطن، وقد دخلت السلعة في القرض، وهذا قرض قد جر نفعاً، فلا يصح، ويكون هذا من باب التحايل على الربا، وتدخل تحت طائلة الأثر: (يستحلون الربا بالبيع)، فسموه بيعاً وهو في الأصل ربا؛ لأن العبرة في العقود بالمقاصد، فيبطل هذا البيع ويكون مفسوخاً.

مسألة التورق

مسألة التورق من صور الحيل المتعلقة بهذه القاعدة العظيمة: مسألة اختلف فيها جمهور أهل العلم، وهي مسألة التورق، وهي مسألة مشهورة بين التجار باسم: حرق البضاعة. ومعناها: أن يشتري الرجل السلعة وهو لا يريدها لكنه يريد الورق، أي: المال، فيشتريها نسيئة بألف، ثم يذهب إلى السوق فيبيعها على غير البائع الذي اشتراها منه، بسبعمائة أو ثمانمائة نقداً، وهذه المسالة سميت بالتورق ولم تسم عينة؛ لأن العينة والتورق يتفقان ويفترقان. فيتفقان في النية، وذلك أن المقصد منها الورق -أي: المال-، ويفترقان بأن السلعة في مسألة العينة ردها المشتري على صاحبها، وفي مسألة التورق لم يردها على صاحبها، فهذا هو الفارق. فقال الجمهور: لا يقاس التورق على العينة، فالتورق جائز والبيع معه صحيح، وأدلة ذلك ما يأتي: أولاً: قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وهذا الرجل اشترى من آخر شراءً صحيحاً، وباع بيعاً صحيحاً، ولم يبع لنفس البائع، فلا يدخل تحت بيع العينة. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر المعاملة بالتورق، كما في حديث الجنيب، (وهو أن بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جنيباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بالصاعين)، أي: نعطي بدل الصاع من الجنيب، صاعين من الجمع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -تعجباً وتأوهاً- قال: (أوه، عين الربا، لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، واشتري بالدراهم جنيباً)، وهذا هو موضع الشاهد. فقالوا: إنه باع الجمع بالدراهم وما قصد الدراهم، إنما قصدا الجنيب، فأخذ الدراهم واشترى بها جنيباً، فباع واشترى، وكان بيعاً صحيحاً، وهذه هي صورة التورق، وهذه أدلة الجمهور. والصحيح الراجح: ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، إن عادوه كثيراً، وكادوا يقتلونه على هذه المسألة؛ لأنه خالف الأئمة، وقال بما يراه حقاً. فيقول: شيخ الإسلام: التورق حرام؛ لأن العلماء قد قعدوا قاعدة لا بد من تطبيقها، وهي قاعدة العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني، فالذي اشترى السلعة إنما اشتراها من أجل السيولة، وليس ليتاجر بها، فاشتراها من أجل الورق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقال: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه، ثم جملوه، ثم باعوه وأكلوه ثمنه). وقد قال ابن عباس -أعلم الناس بالحديث-: ما هي إلا دراهم بدراهم بينها حريرة، معنى ذلك: أن التاجر باع ألفاً نسيئة بسبعمائة نقداً، باعها في المجلس ولم يحدث التقابظ، وأيضاً حصل فيهما تفاضل، فدخل في ربا النسيئة، ودخل في ربا الفضل، فهي دراهم بدراهم، وما دام أنها دراهم بدراهم فيشترط فيها شرطان: الشرط الأول: التقابظ في المجلس، يداً بيد. والشرط الثاني: المساواة، مثلاً بمثل. فالتورق كما يقول ابن عباس: دراهم بدراهم أدخل بينهما حريرة، وهذا تحايل على الشرع، فصاحب التورق ما أراد السلعة، وإنما أراد المال، وأخذ السلعة ليبيعها، وما أراد البيع إلا لإرادة المال، فكأنها مسألة صرف دراهم بدراهم، بينهما سيارة أو ثلاجة أو غير ذلك، والعبرة في العقود ليست بالألفاظ والمباني، وإن صحت ظاهراً، لكن العبرة فيها بالمقاصد والمعاني. ففي هذا التقعيد نؤكد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الصحيح الراجح أن التورق حرام، ويفتح باباً عظيماً من أبواب الربا. فهذه الصور كلها تتعلق بهذه القاعدة العظيمة -أي: قاعدة: في العقود بالمقاصد المعاني لا بالإلفاظ المباني- التي هي فرع عن قاعدة: الأمور بمقاصدها. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

اليقين لا يزال بالشك

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - اليقين لا يزال بالشك إنَّ القاعدة الفقهية (اليقين لا يزول بالشك) ثبتت في الكتاب والسنة، وأغلب الفقه يندرج تحت هذه القاعدة، ولها فروع كثيرة، منها: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أو استصحاب الأصل، وقولهم: القديم يبقى على قدمه، والأصل براءة الذمة.

قاعدة اليقين لا يزول بالشك

قاعدة اليقين لا يزول بالشك إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

قاعدة اليقين لا يزول

قاعدة اليقين لا يزول اليقين في اللغة معناه: استقرار القلب أو طمأنينته للشيء، تقول: يقن الماء في الحوض إذا استقر، فهو: العلم الجازم دون التردد، واليقين اصطلاحاً هو علم جازم يخالف ويغاير الشك. والشك: هو التردد وعدم الجزم. أو نقول: المدركات العقلية خمسة أنواع: يقين، واعتقاد، وظن، وشك، ووهم. إذاً: اليقين: هو جزم القلب، أو العلم الجازم، أو طمأنينة القلب، أو استقراره على الشيء مع وجود الدليل القطعي، كأن تقول للمؤمن بالجنة: أنت على يقين من ذلك، أو على علم يقين، أو على عين يقين؛ لأن اليقين له أبواب ثلاثة: علم يقين، وعين يقين، وحق اليقين. أما علم اليقين: فهو كمؤمن موحد أتم توحيده دون أدنى شرك، فهذا علم يقيناً أنَّ ثوابه الجنة بدليل قطعي، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، أي: أولئك لهم الأمن التام وهم مهتدون إلى مكانهم في الجنة، وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله، مستيقناً بها قلبه دخل الجنة)، فهذا علم يقين. وكذلك إن وقف هذا المؤمن على الصراط فينظر إلى المؤمنين يمرون كالبرق، أو كأجاويد الخيل، أو كالريح المرسلة، وينظر أمامه فيرى حور العين، ويرى حوراً لو غمست بأصبعها في الدنيا لأنارتها وملأتها مسكاً، فيراها بأم عينه، ويرى قصره في الجنة. فهذه الرؤيا وهذه الوقفة التي وقفها تسمى عين اليقين، ثم إن مرَّ كالريح المرسلة عبر الصراط، ودخل الجنة وعانق الحور العين -اللهم اجعلنا كذلك يا رب العالمين- فهذا يسمى حق اليقين. إذاً: فاليقين له ثلاث مراتب: علم يقين، وعين يقين، وحق اليقين، واليقين: هو طمأنينة القلب للأمر أو للشيء مع الدليل القطعي على ذلك. والاعتقاد: هو يقين القلب، أو: طمأنينته، واستقراره، أو: العلم الجازم على شيء، لكن بدون دليل، وهذا الذي يسميه العلماء اعتقاد العوام، فيعتقدون بأن الخالق الرازق المهيمن المدبر هو الله، وأنه السيد الآمر المطاع الناهي، لكن عندما توقف المرأة العجوز في الشارع وتقول لها: من خلق الكون؟ فستقول: الله، فإذا قلت لها: أين الدليل؟ فستقول: وهل الله يحتاج لدليل؟ كما نذكر عن الأمام الرازي أنه كان يمشي وحوله من طلبة العلم وكانت امرأة عجوز تمر أمامه، فقالوا لها: نحي نفسك جانباً فقالت: وعلام؟ قالوا: العالم يسير، قالت: من العالم؟ قالوا: الرازي قالت: وما الرازي -تهكماً- قالوا: هذا الذي أتى بألف دليل على وجود الله، فضحكت المرأة العجوز، فقالت: وهل وجود الله يحتاج إلى دليل؟ فهذا اعتقاد العوام، ويسمى اعتقاداً ولا يسمى يقيناً؛ لأنهم لا يستندون إلى أدلة. والظن: هو التردد بين أمرين أو تجويز أمرين -كأن تقول: جائز أن يكون موجوداً، وجائز أن يكون غير موجود، جائز أن يكون طاهراً، وجائز أن يكون نجساً- أحدهما راجح، فالراجح هو الذي يسمى الظن. والشك: هو التردد بين أمرين، أو تجويز أمرين، كوجود عدمه، ولا مرجح في ذلك، وهذا يسمى ريباً أو شكاً. والوهم: تجويز أمرين أحدهما أضعف، والأضعف هو الذي يسمى الوهم؛ لأنه المرجوح، فإذا جاء الدليل يبين الراجح منهما من المرجوح، فالراجح يسمى ظناً، والمرجوح يسمى وهماً، فهذه مدركات العقل. ومعنى: اليقين لا يزول بالشك، باصطلاح الفقهاء: ما ثبت بالدليل القطعي، أو الواقع المشاهد بالفطرة، سواءً كان وجوداً أو عدماً، كأن نقول: ثبتت طهارة المرء الذي توضأ، حيث نزل الرجل تحت الماء وتعمم جسده بالماء بعدما كان جنباً، فاستيقن أنه على طهارة، فجاء ليصلي صلاة الفجر فشك في اغتساله من عدمه، فهذا الشك يسمى شكاً طارئاًن والأصل: اليقين. إذاً: اليقين على أمر موجود لا يزول بشك طارئ، بل يبقى على ما هو عليه، كما فرع العلماء وقالوا: بقاء ما كان على ما كان، إذاً: الطهارة بيقين تبقى، وهذا الشك الطارئ لا يمكن أن يزيل هذا اليقين، وأيضاً: اليقين لا يزيله الشك الطارئ، كأن يقوم رجل من النوم، فهو على يقين أنه فاقد الطهارة، ثم ذهب إلى المسجد وجلس يقرأ القرآن، ثم تذكر فقال: أتوضأت أم لم أتوضأ، فهنا شك طارئ في الطهارة؛ لأنه قام من النوم واليقين هو عدم الطهارة، فنقول: الشك في الطهارة لا يزيل يقين عدم الطهارة، فعليك أن تنزل وتتوضأ. فهذا معناها اصطلاحاً. إذاً: فالمعنى اصطلاحاً: أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، فالشك الطارئ لا يزيله، وما ثبت عدم وجوده باليقين فلا يدعى وجوده بالشك الطارئ، فهذا معنى هذه القاعدة. وهذه القاعدة قال فيها العلماء: أغلب الفقه يندرج تحتها ولها فروع كثيرة، منها: الأصل بقاء ما كان على ما كان أو استصحاب الأصل، وأيضاً قولهم: القديم يبقى على قدمه، والأصل براءة الذمة، فكل هذه فروع لهذه القاعدة.

الأدلة على القاعدة من الكتاب والسنة

الأدلة على القاعدة من الكتاب والسنة إن الفقهاء لا يقعدون إلا وهم يستندون إلى الكتاب أو السنة. فأما من الكتاب: فقال الله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36]، والظن في هذه الآية معناه: الشك، فإذا قال الله: الظن لا يغني من الحق شيئاً، يعني: الشك لا يزيل اليقين أبداً، ووجه الشاهد: إن الظن لا يغني من الحق شيئاً، ووجه الدلالة الحق لا يزول بالشك، أي: اليقين لا يزول بالشك الطارئ. وأما من السنة: فحديث مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج ريح أم لا؟ فلا يخرجن من الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). وأيضاً: حديث عبد الله بن زيد المتفق عليه من البخاري ومسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن الرجل يجد في بطنه أيخرج من الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفتل -أي: لا ينصرف- حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً). وثبت أيضاً في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدرِ ثلاثاً صلى أم أربعاً فليطرح الشك وليبن على ما استيقن)، في رواية قال: (فليبن على الأقل)، يعني: لو صلى ثلاثاً ولا يدري أثلاثاً أم أربعاً فليقل: ثلاثاً ويأتي بالرابعة، فهذه ثلاثة أحاديث تثبت لنا هذه القاعدة أو هي مستند الفقهاء لهذه القاعدة. ووجه الشاهد قوله: (فأشكل عيه أخرج ريح أم لا، فلا يخرجن من الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ووجه الدلالة من هذا الحديث على التقعيد الفقهي الأصولي: أن اليقين: هو أنه على طهارة، فوجد الشيء في بطنه فأشكل، ومعنى أشكل: حدث الشك، فهذا الشك الطارئ هو الإشكال، وهو هل خرج ريح أم لا؟ فلا يزيل اليقين بالطهارة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (فلا يخرجن) ثم بين متى يخرج؟ فقال: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ومعنى ذلك: أن اليقين لا يزال إلا بيقين، ولا يزول بالشك. ووجه الشاهد من الحديث الثالث: (فلا يدري ثلاثاً صلى أم أربعاً) فهنا حدث الشك الطارئ وعنده يقين، فلا بد أن يبني على اليقين واليقين: هو الأقل.

صور تطبيق هذه القاعدة

صور تطبيق هذه القاعدة رجل طاف بالبيت، فلما طاف كانت بجانبه زوجته، والنساء ناقصات عقل ودين، فكلمته فكلمها، فوقف أمام الحجر ورفع وكبَّر، ثم شك فقال: سبحان الله أهذا الشوط الخامس أم السادس؟ فقالت له زوجته: لا والله، بل السادس فزعزعت اليقين في قلبه. فاليقين هو الأقل وهو خمسة أشواط، والتردد أو الشك الطارئ: هو ستة أو خمسة، فعليه أن يطرح الشك ويبني على اليقين، واليقين هو الأقل، فاليقين لا يزول بالشك. وهناك صورة أخرى: وهي أنه ذهب رجل إلى مكة ليعتمر، ولم يذهب إلى مكة من قبل، فنظر إلى الكعبة وعظمتها فبكى بكاءً شديداً، فابتلت لحيته وثيابه، وجلس ساعة يبكي حتى أذن المؤذن، ودخل الشيخ في الصلاة فصلى مع الشيخ، وجلس يبكي بعد الصلاة وقراءة القرآن، ثم قال لامرأته: قومي لنتعبد لله بالطواف، فقالت: يا رجل هل نسيت؟ قد طفنا هذا الطواف، فعلينا أن نسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، فقال: يا امرأة ما طفنا، فقالت: بل طفتَ وطفت معك. فالتقعيد على ذلك: أن اليقين: أنه ما طاف، والشك الذي حدث شك طارئ وهو طوافه وعدم طوافه، فلا بد أن يبني على اليقين وهو أنه لم يطف، فيطوف طواف العمرة ثم يسعى بين الصفا والمروة. ومن هذه الصور: رجل له عند أخٍ ألف درهم، ومضت مدة فجاءه فقال له: أين الألف درهم؟ قال: وفيتك، فقال له: لم توفني ولم تعطني شيئاً، فوقع النزاع والخصام، فلا بد من الرجوع إلى الكتاب والسنة وإلى أهل العلم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فالقاعدة التي نطبقها على هذا النزاع: أن اليقين لا يزول بالشك، واليقين: هو عدم استقرار الدين وعدم ثبوته في ذمة المدين، والشك الطارئ: استقرار الدين، إذاً: فالشك الطارئ لا يزيل اليقين فليس لهذا الرجل عنده مال. وصورة أخرى: رجل دخل على امرأته، فتهيأت له وأراد أن يعمل بالسنة: (في بضع أحدكم صدقه)، فما اقترب منها تذكر الشجار الذي كان بالأمس بينه وبينها، فطلقها، وكانت طلقة ثالثة، ثم شك هل هو طلقها أم لم يطلقها؟ فلا يدري هل يقترب منها أم لا يقترب؟ فالقاعدة التي نطبقها على هذا الإشكال: اليقين لا يزول بالشك، واليقين: أنها زوجته، فهذا يقين مستقر، والشك الطارئ: أنه طلق أم لم يطلق، فعليه أن يطرح الشك جانباً، وأن يقترب منها ويجامعها، لكن ابن قدامة قال: الأورع: أن يحسب الطلاق؛ لأن الأصل في الخروج: الحرمة، وهذا لا يصح بحال من الأحول؛ لأن الأصل في الخروج: الحرمة قبل النكاح، أما بعد النكاح فالعصمة موجودة. وصلَّ اللهم وسلِّم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحدود تسقط بالشبهات

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الحدود تسقط بالشبهات (الحدود تسقط الشبهات) هذه القاعدة من أهم القواعد الفقهية التي تشير إلى عظمة الشريعة الإسلامية، ومراعاتها لمصالح العباد، ودرء المفاسد عنهم، فكل حدٍ من الحدود سواء كان جلداً أو قصاصاً أو نحوه وجدت فيه شبهة فإن هذه الشبهة مسقطة للحد عن الجاني، فلا يراق دم الإنسان، ولا يجلد ظهره، ولا يقطع عضوٌ من أعضائه إلا بدليل واضح وبرهانٍ بينٍ ليس فيه أدنى شبهة.

معنى قاعدة الحدود تسقط بالشبهات

معنى قاعدة الحدود تسقط بالشبهات إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن من فروع وضوابط قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك) القاعدة التي تقول: الحدود تسقط بالشبهات. وعلاقتها بقاعدة: اليقين لا يزول بالشك: أنه إذا كان الأصل براءة الذمة فالمتهم بريء بأدنى شبهة تأتي على الحكم الذي يصدر عليه، فإذا كان الحكم بحد من الحدود، فإن هذا الحد يسقط؛ لأن الأصل براءة الذمة، وقد جاءت الشبهة لتعضد هذا الأصل. والأحرى أن نقول: هي ضابط وليست قاعدة، وهي فرع من قاعدة: اليقين لا يزول بالشك، والفرق بين الضابط والقاعدة: أولاً: أن الضابط يكون في باب معين وأما القاعدة فتشمل جميع الأبواب. ثانياً: أن القاعدة أغلبية ولها مستثنيات؛ أما الضابط فليس له مستثنيات. فالأحرى أن تكون هذه القاعدة ضابطاً لقاعدة اليقين لا يزول بالشك، وأصل هذا الضابط الأحاديث المتكلم في أسانيدها، وهي ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، أو قال: (ادرءوا الحدود ما استطعتم)، أو قال كما في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (ادفعوا الحدود ما استطعتم)، وعن ابن مسعود أيضاً عنه بسند حسن: (ادرءوا الحدود بالشبهة)، وقد ورد عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب ما يعضد هذا الأمر، فـ عمر بن الخطاب يقول: لأن أسقط الحد بشبهة أولى لي من أن أقُيمه، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: لأن أخطئ في العفو خير لي من أن أخطئ في الحد، فهذه كلها تنصب تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم -المتكلم في إسناده-: (ادرءوا الحدود بالشبهة)، أو: (ادرءوا الحدود ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً)؛ لأن الدماء معصومة، والتأصيل العام لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وهذه الثلاث لا بد وأن تكون أظهر من شمس النهار- الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فلا يمكن أن يستحل دم امرئ مسلم أو يده أو عضو من أعضائه إلا بإحدى هذه الثلاث. إذاً: الأصل العام هو أن تدرأ الحد ما استطعت، وهي وإن كانت سنة قولية، وقد تكلم في أسانيدها إلا أن السنة الفعلية تقررها؛ ففي الحديث أن ماعزاً لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأقر بفعل الزنا كان لا بد أن يقام عليه الحد؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقنه حتى يرجع عن إقراره، والرجوع عن الإقرار في الحدود يورث شبهة لا بد أن يسقط الحد بها، استنبط الفقهاء من ذلك أن للقاضي أن يلقن الذي يقر بأن يتراجع عن إقراره ويتوب إلى ربه أفضل، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك غمزت)، حتى يرجع عن إقراره، والفائدة من تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو رجع عن إقراره وقال: نعم لمست، نعم قبلت، وما زنيت، فإن هذه شبهة يدرأ بها حد الرجم عمن أقر بالزنا فهذه سنة فعلية وسنة قولية تضبط لنا هذا الضابط، وتكون دليلاً عليه، وصور هذا الضابط كثيرة جداً، والفقهاء يستعملونه لدرأ الحدود عن الذين وقعوا فيما يوجب عليهم إقامة الحد.

أمثلة تطبيقية على قاعدة (الحدود تسقط بالشبهات)

أمثلة تطبيقية على قاعدة (الحدود تسقط بالشبهات) المثال الأول: في عام القحط في عهد عمر بن الخطاب سرق رجل من بيت مال المسلمين، والله عز وجل يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]، وهذا لفظ عام سواء سرق من بيت مال المسلمين أو من غيره، وقد سرق نصاباً، فلا بد أن يقام عليه حد القطع، لكن الرجل السارق له سهم في بيت مال المسلمين، فلعله ما سرق إلا سهمه، يعني: أخذ ملكه ولم يأخذ مال الغير، وشرط القطع هو أن يأخذ مال الغير، فهذه شبهة تجعلنا لا نقيم عليه الحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، فالرجل له حق في بيت مال المسلمين، ولعل المال الذي سرقه هو سهمه، بغض النظر عن التفصيلات الفقهية التي تقول: إن كان فوق سهمه أو تحت سهمه، نصاباً أو غير نصاب؛ لأن الغرض هو تطبيق هذه القاعدة. وبسبب ذلك ترد علينا شبهة، وهي: أن عمر بفعله هذا عطل الحدود، فكيف يرد على من يقول ذلك؟ أولاً: المقدمة غير مقبولة؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يعطل حداً، لكنه استعمل هذا الضابط وهو أن الحدود تدرأ بالشبهات والنبي صلى الله عليه وسلم كان يدرأ الحد بالشبهة، وكذلك لم يجلد المرأة التي زنت بسبب الشبهة، فالمرأة جاهلة بحكم الزنا فلذلك ما أقام عليها الحد، وأيضاً الذي سرق عام الرمادة ما سرق إلا لحاجة ومن بيت مال المسلمين، وهذه شبهة تسقط الحد فإن قيل: السارق لم يسرق من بيت مال المسلمين، نقول أيضاً: السارق إن لم يسرق من بيت مال المسلمين وكانت هناك مجاعة عامة، فإن هناك دليلاً آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه فتح له الباب ليأخذ ما يكفيه من مال الغير رضي أم لم يرضَ، وقال العلماء: إذا كنت على شفى حفرة من الهلكة، فوجدت طعاماً فاستأذن صاحبه، فإن لم يأذن لك فخذ ما تقيم به صلبك ولا تستأذنه في ذلك ولا حد عليك؛ لأن هذا حق لك أن تدفع عن نفسك الموت، وهذه أيضاً شبهة يدرأ بها الحد. المثال الثاني: ومن الأمثلة على هذه القاعدة: أن رجلاً كان متزوجاً لكنه لا يكتفي بامرأةٍ واحدة، ولا يستطيع أن يتزوج عليها أخرى، ويخشى على نفسه الهلاك، فسمع عن بلد يفتون بهذه الفتوى فطار على جناح الغراب إلى تلك البلدة فتعاقد مع امرأة على شهر يتمتع بها بمهر معين فتمتع شهراً ثم رجع، فلما رجع قص هذه القصة على أخيه ينصحه ويقول له: إن كنت محتاجاً للنساء وتخاف من امرأتك فلك أن تفعل كذا في بلد كذا، ولما كان الرجل فقيهاً، قال له إن كنت قد فعلت هذا فلا بد أن يقام عليك الحد؛ لأن نكاح المتعة حرام، وأنت بهذا وقعت في الزنا بامرأة أعطيتها أجرة على ذلك، فذهبا إلى فقيه مجتهد يسألونه عن حكم هذه المسألة، فسأله: كيف وقعت على هذه المرأة؟ قال: وجدت حبر هذه الأمة، بحر العلوم، أستاذ التفسير الغواص يقول بذلك فأخذت بفتواه. فقال هذا الفقيه: إن هذه شبهة قد أشكلت على هذا الرجل وجعلته يقع في هذه القضية فلا يقام عليه الحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، إلا أنه يعزر؛ لأن الواجب عليه أن يرجع إلى أهل العلم يعلمونه المسائل الصحيحة، ليعلم هل هذه الفتوى معمول بها أو غير معمول بها؟ وهل أنكر الصحابة على ابن عباس أو لم ينكروا، وهل أقروه أم لم يقروه؟ المثال الثالث: أن امرأةً طلقت ثلاثاً، وبانت من زوجها بينونةً كبرى -فالواجب عليها أن تعتد بثلاث حيض أو ثلاثة قروء- فجاء رجل فقيه، فقال لها: لم العدة؟ قالت له: لأستبرئ رحمي، فقال لها: استبراء الرحم يكفيه حيضة واحدة، فعقد عليها بعد الحيضة وجامعها، فقيل له لقد وقعت في الزنا وعليك حد الرجم؛ لأنه لا يحل لك أن تتزوجها حتى تنقضي العدة ولن تنقضي العدة، فذهب إلى مجلس أهل العلم يسألهم: ما حكم الرجل الذي جامع امرأة على عقد يراه صحيحاً بعد حيضة واحدة من طلاقها ثلاثاً؟ والعدة إما لحق الزوج لأنه ربما يردها، وإما لحق استبراء الرحم. وقد استبرأ رحمها بحيضة. فكان الجواب عليه: أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد أفتى بذلك، وهذه الفتوى شبهة تدرأ عنه الحد والتعزير. المثال الرابع: ومن الأمثلة التطبيقية على هذه القاعدة أن رجلاً أخذ امرأة لها من العمر إحدى وعشرين سنة إلى المأذون وأخبره أنها بلغت إحدى وعشرين سنة، وليست قاصرة، فعقد عليها، وقبضت منه المهر ودخل بها، فجاء أهل العلم وقالوا: هذا الدخول لا يصح، والنكاح باطل، وعليك الحد، لأنك نكحت بغير ولي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل)، وورد عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند صحيح: كنا نعد المرأة التي تزوج نفسها -يعني: بغير إذن وليها- زانية، فإن كانت زانية فأنت زانٍ أيضاً؛ لأنك جررتها إلى ذلك فلا بد أن يقام عليك حد الزنى، جلد مائة وتغريب عام. ولكن هناك رأي معتبر عند بعض الفقهاء بالقياس والنظر، وهو قول أبي حنيفة: أن المرأة إذا كانت لها ذمة مستقلة فلها أن تتولى عقد نكاحها بنفسها وبدون حاجة إلى إذن الولي، فلهذا الرجل أن يقول: أنا آخذ بقول أبي حنيفة. فإذا ظهر ذلك قلنا: هذه شبهة تدرأ عنك الحد، ومع ذلك فالشبهة التي تدرأ الحد، لا تقلب الحرام حلالاًً، فلا بد أن تعقد عليها عقداً جديداً بمهر جديد بوجود الولي والشهود. المثال الخامس: أيضاً من صور هذه المسألة: أن رجلاً أعمى وقع على امرأةٍ في الظلام يحسبها زوجته وتحسبه زوجها، وبعد أن جامعها تبين لكلٍ منهما أنه أجنبي من الآخر، فلا حد عليهما؛ لأن هذه شبهة يدرأ بها الحد. المثال السادس: ومن صور هذه المسألة: أن رجلاً أصيب بمرضٍ في الكلى، فقال له الطبيب: هذه الحصى في الكلى لا تعالج إلا بشرب الخمر، أو البيرة فأخذ الخمر وشرب، فقيل له: لا بد أن يقام عليك الحد وتجلد أربعين جلدة. فأخبر بمرضه، وأن الطبيب قد أشار عليه بذلك، فذهبوا إلى القاضي فقال: إن الرجل قد شرب الخمر ووقع في الحرام لكنه كان متأولاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله) والطبيب المختص أشار عليه بذلك فهذه شبهة يدرأ بها الحد. ويستفاد من هذه القاعدة إحسان الظن بالمسلمين، وأن الإنسان مهما يكن على خطيئة فلعل هناك ما أوقعه في هذه الخطيئة، فلا يُتعجل في معاتبته أو عقابه فلعل عنده شبهة أو كان متأولاً بفعله.

الأصل بقاء ما كان على ما كان

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الأصل بقاء ما كان على ما كان من القواعد الفقهية: الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، ويسمى هذا عند الأصوليين: استصحاب الأصل، وهذه القاعدة يستدل بها على الراجح، فالأصل في المياه الطهارة، والأصل في المعاملات والأطعمة والعادات الحل، والأصل في الأبضاع الحرمة إلا النكاح الصحيح، والأصل في الذبائح والصيد الحرمة إلا ذبائح أهل الكتاب، والأصل في العبادات التوقيف، ولهذه القاعدة صور من الواقع، وهناك مستثنيات تخرج عن هذه القاعدة لدليل من الكتاب والسنة.

قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان

قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان

المعنى العام لقاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان

المعنى العام لقاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة في النار. إنَّ من القواعد الفقهية قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان، أو كما قيل: القديم يترك على قدمه. والمعنى العام لهذه القاعدة العظيمة: أن ما ثبت بزمان يحكم ببقائه ما لم يوجد بديل على خلافه، يعني: إذا ثبت بزمان في وقت معين أمر معين، فهذا لا يمكن أن يتغير عما هو عليه إلا إذا طرأ عليه طارئ أو دل الدليل، وهذا يسمى عند الأصوليين استصحاب الأصل، وهناك معترك دام بينهم، هل استصحاب الأصل يكون دليلاً أم لا؟ والصحيح الراجح: أنه دليل. إن هذه القاعدة -أي: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان- يتفرع منها أمور وأصول كثيرة، إذا ضبطها المرء فلا يحتاج إلى دليل معها في فعله، وكذا لا يحتاج إلى دليل في عمله بها.

ذكر التأصيلات المستنبطة من قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان

ذكر التأصيلات المستنبطة من قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان

الأصل في المياه الطهارة

الأصل في المياه الطهارة التأصيل الأول: الأصل في المياه الطهارة، فكل ماء كان عندك فهو على طهارته، ولا يصح قول من يقول لك: لا تستطيع أن تستنجي بهذا الماء أو تتوضأ به أو تقوم به عبادتك؛ لأن الأصل في المياه الطهورية، فيبقى على أصل خلقته ما لم يطرأ عليه طارئ يغير هذا الأصل. قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فجعل التأصيل العام في الماء الطهورية، وأيضاً لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته). فإذاً: كل ماء هو باق على أصل خلقته، ما لم يدل الدليل على انتقاله من هذه الأصلية، فإذا وجد مكلف ماء وغاب عنه مدة ثم رجع إليه فشك هل تغير هذا الماء أم لا؟ وهل وقع عليه طاهر أم لا؟ فإننا نقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، يعني: هذا المكلف بعدما وجد الماء وشك في تغيره، وأراد أن يتوضأ ويصلي، فتوضأ وصلى، فما حكم صلاته؟ تقول: الصلاة صحيحة. رجل شك في تغير الماء، كأن يكون وقع فيه صابون، فإننا نقول له: إن تحققت من التغيير وأن الجزئيات تتغير فلك أن تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان. مر عمر بن الخطاب ومعه عمرو بن العاص على رجل من الأعراب فأرادا أن يذهبا إلى حوض له ليتوضأ منه، فسأله أحدهما: أترد السباع هذا الحوض؟ فقال الآخر: لا تجبه؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالحوض فيه ماء طهور، فنحن نقوله بطهوريته، حتى يدل الدليل القطعي أو غالب الظن على عدم طهوريته.

الأصل في المعاملات الحل

الأصل في المعاملات الحل التأصيل الثاني: الأصل في المعاملات الحل، بمعنى: أن كل بيع أو شراء أو إجارة أو رهن أو غير ذلك من المعاملات فالأصل فيها الحل والإباحة، ولا يستطيع أحد أن يقول لك: هذه المعاملة التي تعاملت بها محرمة؛ لأن الأصل فيها الحل، قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، ولذلك لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يبين حرمة بيوع معينة عددها، فلما عددها دل على أنها خلاف الأصل. إذاً: فالأصل في المعاملات الحل، ما لم يأت دليل أو يطرأ طارئ يبين تغيير هذا الحل، أو انتقاله من هذه الأصلية.

الأصل في الأطعمة الحل

الأصل في الأطعمة الحل التأصيل الثالث: الأصل في الأطعمة الحل، فكل طعام يأكله أهل بلد فهو حلال، إلا ما دل الدليل على حرمته، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا} [البقرة:168]، فقوله: ((مِمَّا))، صيغة عموم، يعني: كل ما في الأرض فلك أن تأكله حلالاً طيباً، إلا ما دل الدليل على حرمته، فكل الأطعمة حلال، سواء من عندك أو من عند غيرك، من بلادك أو من البلاد الأخرى، من هنا أو من هناك. وهذا التأصيل العام اتفق عليه العلماء؛ لقول الله تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168].

الأصل في الصيد والذبائح الحرمة إلا ذبائح أهل الكتاب

الأصل في الصيد والذبائح الحرمة إلا ذبائح أهل الكتاب التأصيل الرابع: الأصل في الذبائح والصيد الحرمة لا الحل، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل)، فجعل ذكر اسم الله شرطاً، إذ ليس الأصل الحل، ولو كان الأصل الحلَّ ما اشترط هذه الشروط، فإذا ذكرت اسم الله فكل، وإن أرسلت كلباً معلماً ولم تذكر اسم الله فلا يحل لك الأكل. إذاً: الأصل في الذبائح الحرمة، ويستثنى من ذلك ذبائح أهل الكتاب، فلا يشكل على الاسم، ومن العلماء من قال: لا يصح أن يؤكل من ذبائح أهل الكتاب، إلا ما تأكدنا أنه ذبحه وسمى الله عليه، وهذا خطأ، فالراجح أنه يستثنى من هذا التأصيل العام ذبائح أهل الكتاب، أي: الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل؛ لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] ولا يقصد بالطعام في هذه الآية إلا الذبيحة، يعني: وذبائح أهل الكتاب حل لكم، إذاً: فالتأصيل العام هنا: أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل.

الأصل في الأبضاع الحرمة إلا النكاح الصحيح

الأصل في الأبضاع الحرمة إلا النكاح الصحيح التأصيل الخامس: الأصل في الأبضاع الحرمة، أو قال بعضهم: الأصل في الفروج الحرمة، فكل فرج حرام ولا يستحل إلا بنكاح صحيح، بولي وشاهدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل). إذاً: فالأصل في الأبضاع الحرمة، ويستثنى من ذلك إذا دخل الرجل على امرأته بنكاح صحيح، فالأصل هنا الحل لا الحرمة، فلا يمكن أن تنحل هذه العقدة إلا بطريق صحيح أو بيقين تام، ولا تستحل إلا بعقد صحيح، بولي وشهود عدول وأيضاً مع المهر، وإن لم يسم، فهذه الجزئية الثانية، ويستثنى من ذلك إذا تزوج زواجاً صحيحاً فلا يزول عقد النكاح إلا بيقين؛ لأنه أصبح اليقين أن امرأته حلال، فلا تحرم عليه إلا بيقين مثله، كأن تأتي امرأة فتقول لزوجها: أنت طلقتني، ويقول: ما طلقتك، فالأصل أن نكاحه صحيح، ولا ينزع يداً من ذلك حتى يتبين.

الأصل في العادات الحل

الأصل في العادات الحل التأصيل السادس: الأصل في العادات الحل، وهذه تجعلنا نقول: المروءات لا تزول إلا بالأعراف؛ لأن الأصل في العادات الحل، وهذه قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية استنباطاً من قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، فاللام إما للملكية، وإما للتخصيص، وكلاهما فيهما دلالة على الإباحة، بأن كل ما في الأرض لك، إلا ما دل الدليل على الحرمة، فكل عادة يعتادها الناس فهي على الحل لا على الحرمة، فإن كانت العادة عدم غطاء الرأس، فلا نقول: غطاء الرأس واجب، بل نقول: هنا الأصل الحل، وإن كان في عرف الناس جميعاً أو عادة الناس جميعاً أن عدم تغطية الرأس لا يصح، ومن خدش المروءات، فنقول: عدم تغطية الرأس لا تصح؛ لهذه العادات؛ لأن لها قاعدة أخرى قال بها العلماء: وهي العادة محكمة. إذاً: فالأصل في العادات الحل، إلا ما دل الدليل على الحرمة؛ لأنها لا تخالف الشرع.

الأصل في العبادات التوقيف

الأصل في العبادات التوقيف التأصيل السابع: الأصل في العبادات الحرمة أو التوقيف؛ لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا تأخذوه، والدليل على ذلك: حديث في الصحيحين: عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي: باطل مردود، وفي رواية أخرى: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد) يعني: فهو باطل غير مقبول. إذاً: فهذه أصول سبعة، وهي تحت هذه القاعدة العظيمة: الأصل بقاء ما كان على ما كان.

صور قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان

صور قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان

حكم من وجد ماء وشك في طهوريته

حكم من وجد ماءً وشك في طهوريته الصورة الأولى لهذه القاعدة: إذا وجد المكلف ماءً فشك في طهارته وأراد أن يتوضأ، فإنه يتوضأ بهذا الماء؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل في الماء الطهورية، فيقطع باب الوساوس كلها، ويقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان.

حكم امرأة تدعي أن زوجها طلقها وهو ينكر ذلك

حكم امرأة تدعي أن زوجها طلقها وهو ينكر ذلك الصورة الثانية: إذا ادعت امرأة أن زوجها طلقها طلاقاً بائناً، وذهبت إلى القاضي وقالت: طلقني، وهذه الطلقة الثالثة، فجاء يقسم بالأيمان أنه ما طلقها، وهو منكر، وهي ليس لديها بينة، فالأصل بقاء ما لم يدل الدليل على غير ذلك، إذ الأصل في النكاح الحل.

حكم من صام فرضا فأفطر ظنا منه أنه سقط حاجب الشمس

حكم من صام فرضاً فأفطر ظناً منه أنه سقط حاجب الشمس الصورة الثالثة: رجل كان صائماً صيام فرض، وبعد العصر وجد في نفسه ضعفاً شديداً ثم جاءت سحابة فقال: الحمد لله، سقط حاجب الشمس، فأكل وشرب حتى ملأ بطنه، فانقشعت الغمامة فوجد الشمس قد أشرقت مرة ثانية، فما حكم صيامه؟ إنَّ هذه المسألة تجاذبها الاختلاف الكثير: فبعض العلماء يقولون: لا تلزمه، حيث إن عمر بن الخطاب هو الذي جعل هذا الخلاف، وذلك لمَّا كان في زمن عمر بن الخطاب إذ جاءت سحابة، فأفطروا، فلم يلزمهم بقضاء هذا اليوم، بل أمسكوا حتى سقط حاجب الشمس وأكلوا بعد ذلك. لكنَّ عروة بن الزبير يروي حديثاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أسماء: أن السحابة غطت الشمس فأكلوا، فلم يرد تصريحاً من الحديث قضوا أم لم يقضوا، فقال عروة بن الزبير لما سألوه: قضوا، وقال: لا بد، يعني: القضاء لازم؛ لأنهم أكلوا قبل دخول الليل، وبذلك أصبح إشكالاً عظيماً بين العلماء. ونحن لو طبقنا القاعدة الفقهية فنقول: الأصل بقاء النهار على ما كان عليه، فعليه القضاء، لكن حديث عمر بن الخطاب دليل واضح جداً على عدم القضاء، مما جعلنا نخالف ونغاير القاعدة بأنه حدث الغيم فأفطروا جميعاً، ولم يلزمهم بالقضاء، وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ما ألزموا بالقضاء. فالصحيح الراجح في ذلك: أنه لا يقضي هذا اليوم إن كان مجتهداً، أما إن كان مقلدا ًلغير مجتهد أو سمع رجلاً يؤذن من غير أن ينظر إلى السماء، فهذا عليه القضاء؛ لقول الفقهاء وقول المحدثين: الأصل بقاء ما كان على ما كان. وهناك صورة أخرى لهذه القاعدة: وهي رجل قام من الليل بعد بزوغ الفجر، وكان قد بيت النية بالصيام، فأكل وشرب، وبعد ذلك سمع رجلاً يقيم الصلاة، أما الأذان فقد ولى وفات من مدة، فماذا نقول؟ أنقول: أكمل صومك، أم قد أفطرت فأمسك ثم اقض عن نفسك هذا اليوم؟ فإذا طبقنا القاعدة نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، إذاً: فالأصل بقاء الليل، وهذا الذي قام يأكل ويشرب إنما فعله في الليل، وهذا يعضده قول ابن عباس كل ما شككت حتى تستيقن طلوع الفجر، وهذا قد أكل وهو شاك. فالصحيح الراجح في ذلك أن نقول له: الأصل بقاء ما كان على ما كان، فعليك أن تتم صومك، حتى لو أكلت بعد الفجر. أما الذي جعلنا نستثني من هذه القاعدة مسألة الأكل بالنهار، فهو حديث عمر بن الخطاب وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا قضاء عليه، ويدلنا على ذلك: حديث عدي بن حاتم عندما قرأ قول الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فأخذ خيطين أسود وأبيض تحت الوسادة، فيأكل وينظر إليها، فإن لم يفرق بينهما استمر في الأكل حتى يشبع، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين له ذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وسادك لعريض)، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقصد أن يسب أصحابه بهذه الطريقة، ولا يصح أن نقول ذلك ولا يظن في النبي صلى الله عليه وسلم أنه تكلم على أصحاب بدر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد بقوله: (إن وسادك لعريض)، أي: الوسادة التي أنت نائم عليها هل ستأخذ حجم السماء بأسرها؛ حيث إن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما بياض النهار من سواد الليل، فلو أن هذا الخيط الأسود غطى السماء كلها فإن وساده هذا لعريض. وهذا هو الصحيح الراجح الذي لا نحيد عنه، ولا يصح أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يتهم عدي بن حاتم بالغباوة، حاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك مع أصحابه. فهذا أكل بعدما طلع النهار والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقره على ذلك طالما كان مجتهداً، فالصحيح الراجح: أنه لا بد أن نستثني هذه القاعدة، وهي أن المجتهد الذي عنده آلة الاجتهاد لا نلزمه بقضاء شيء، بحال من الأحوال، إذا أدى العبادة على غرار اجتهاده مع وجود الآلة، وقيده: وجود آلة الاجتهاد، فمع وجودها فلا قضاء عليه.

حكم إنكار الزوجة للنفقة من الزوج

حكم إنكار الزوجة للنفقة من الزوج الصورة الرابعة: عاشر رجل زوجته وكان يحسن إليها كثيراً، وكان دائماً يتحرز ويخشى على نفسه منها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (تكفرن العشير)، فأقاد لها أصابعه كلها من أجل أن يرضي الله فيها، فجاءت في يوم أمام القاضي فاشتكت أن زوجها لا ينفق عليها، فلما طلبه القاضي وجاء وسأله عن ذلك، أنكر الرجل وقال: بل أنا أنفق عليها، فنحن إذا طبقنا القاعدة نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل أن المال في ذمته؛ لقوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُوا} [النساء:34]، فالذي تلزمه النفقة هو الرجل، إذاً: فالأصل أن النفقة تلزمه، وهي في ذمته على ذلك الأصل، وإبقاءً ما كان على ما كان، فتلزمه النفقة، ولا بد للقاضي أن يلزمه بالنفقة.

حكم من شك في زواجه أقبل الإحرم أم بعده

حكم من شك في زواجه أقبل الإحرم أم بعده والصورة الأخيرة: وهي تزوج رجل وأحرم بالحج والعمرة بالاقتران، أي: قال: لبيك اللهم بعمرة وحجة، فلما كان يطوف تذكر وقال: هل تزوجت قبل الإحرام أم بعده؟ فطرأ شك عليه، ومعلوم: أن الزواج في الإحرام باطل لا يصح، والأصل عدم الإحرام، والإحرام مدة وجيزة أو يوم وليلة، أو ساعة واحدة في العمر، أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام أو خمسة أيام، فإذا كان الأصل عدم الإحرام، فالأصل بقاء ما كان على ما كان، أي: أنه تزوجها حلالاً، والإحرام طارئ على الأصل، فلا يزيل هذا اليقين، أي: أنه تزوجها حلالاً. فالصحيح: أن عقد النكاح يكون صحيحاً؛ لأن الإحرام مؤقت. ولو قلنا: إنه تزوج وأحرم، فالأصل أن يكون حلالاً وليس بحرام، ويكون النكاح صحيحاً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلِّ اللهم وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

العادة محكمة والاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - العادة محكمة والاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد مما يعلم من دين الإسلام ضرورة: أن الشريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها؛ لذا استنبط أهل العلم قواعد كلية من النصوص والمقاصد الشرعية تعمل على رفع الحرج عن المكلف، كقاعدة: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، والاجتهاد لا ينقض بمثله، فهذه القواعد يجد المتأمل فيها اهتماماً بمصلحة المكلف ورفع العنت والمشقة عنه، لكن بشرط ألا تصادم نصوصاً شرعية صحيحة صريحة؛ لأنه لا اعتبار لهذه القواعد إلا إذا أيدتها النصوص، وإلا فهي مردودة على أصحابها.

اهتمام التشريع بمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم

اهتمام التشريع بمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار, ثم أما بعد: إن شرعنا الحنيف يهتم بجلب المصالح، ودرء كل المفاسد وتقليلها. وإن الله جل في علاه قد خلق الإنسان وعظم شأنه، حيث يقول جل في علاه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:70] ومن تكريم الله لبني آدم أنه حباهم هذه الفطر السليمة والعقول السديدة، فما توافقت عليه الفطر السلمية والعقول السديدة وجرى عليه عمل الناس العقلاء فإنا نجعل عرفهم وعادتهم وما جرى على أفعالهم حاكماً يخص به العموم ويقيد به المطلق، وله في الشرع اعتبار ويعمل به, والقاعدة التي نستخدمها في ذلك هي قاعدة: العادة محكمة، وأيضاً قاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وقاعدة: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وآخر القواعد: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته. إن الشريعة الإسلامية جعلت لعقول الناس وأعرافهم اعتباراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى تميم تكلم بلغتهم أو بألسنتهم، وكان دائماً يكلم كل إنسان بما يعقله, فعادات الناس وأعرافهم معتبرة إن لم تخالف الشرع، وتكون حاكماً يخص بها العموم ويقيد بها المطلق، بل في بعض الأحايين تقدم على القياس.

قاعدة العادة محكمة

قاعدة العادة محكمة القاعدة الأولى: العادة محكمة. العادة في اللغة: مأخوذة من العود وهو: التكرار، ومعنى محكمة: أن نجعلها حاكماً في فصل النزاع. والمعنى العام: أن العادة هي المرجع للفصل في التنازع, ولكن هذا ليس على الإطلاق، فلا بد له من تقييد، وهو أن العادة تكون مرجعاً للفصل في التنازع إن لم نجد من الشرع الأدلة التي تفصل في النزاعات. إذاً: العادة محكمة هي المرجع للفصل بين التنازع بشرط أن لا يكون ثمة شرع هنا. ومعنى: العادة محكمة اصطلاحاً: أن نثبت بها حكماً شرعياً.

العلاقة بين العادة والعرف

العلاقة بين العادة والعرف العلاقة بين العادة والعرف تكون بفرق يسير: فالعادة هي العرف, ولكن أصحاب المصطلحات أتوا بفروق دقيقة وإن كانت النتيجة في النهاية واحدة، فكل عرف عادة ولا عكس. فالعادة: ما اعتاد الناس عليه، وتكرر منهم فعله، سواءً كانت تختص بأفراد أو جماعات. أما العرف: فهو ما اتفق عليه الناس أو جماعات منهم, وبهذا التعريف يكون كل عرف عادة ولا عكس، والعرف عرف عام, وعادة عرفية عامة، فالعرف العام هو العرف الجاري منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا، لا يتبدل ولا يتغير، قبله المجتهدون، وخصصوا به العموم، وقيدوا به المطلق، بل قدموه على القياس في أكثر الأحايين.

أمثلة على قاعدة العادة محكمة

أمثلة على قاعدة العادة محكمة مثال العادة والعرف العام: أن يكون بين رجل وآخر مشاحنة، فقال الطرف الأول: والذي نفسي بيده لا أضعن قدمي في دارك، فاستصعب الأمر وشق على الذين يدخلون في الإصلاح بينهما، فالأول مصر على أنه أقسم أن لا يضع قدمه في داره، فجاء الفقيه ليفصل في النزاع، وليؤلف بين القلوب فقال: لا تدخل الدار بقدميك، وادخل محمولاً على الأعناق، أو على خشبة، وبعد أن دخل الدار، قال صاحب القواعد الفقهية: عليك كفارة؛ لأنك قلت: لن تضع قدميك في هذه الدار، فقال الفقيه: لم يدخل بقدميه، بل دخل محمولاً على الأعناق. فحدث نزاع بين المقعد وبين الفقيه الذي يحفظ بعض الفروع ويتكلم بها أمام الناس، فلكي يفصل النزاع لا بد من الرجوع إلى قاعدة: العادة محكمة، والنظر في عادات الناس، فإذا قال الرجل: والذي نفسي بيده لا أضع قدمي في هذه الدار، فليس معناه: أنه يجوز له أن يدخل على يديه، أو يحمل على خشبة أو غير ذلك؛ لأن عرف الناس أنه لو قال: والله لا أضع قدمي أي: لا أدخل لا محمولاً ولا على يدي، فالعلماء في هذه المسألة يقولون: إن العادة محكمة، وعليه أن يكفر عن يمينه؛ لأن المقصود: هو أن لا يدخل الدار. ومن الأمثلة على هذه القاعدة: عقد الاستصناع، فقد أجازه الأحناف، ولهم وجهتان في جوازه: الوجهة الأولى: أن هذا مما عمت به البلوى، كما في القاعدة في الملة السمحة: تخفيف كل ما عمت به البلوى. والثانية: أن الناس تعارفوا عليه، ومنذ الأزل وهم يتعاملون به، فيستصنعون شيئاً ويعطون جزءًا من المال، ثم يقسطون الآخر، فطبق الأحناف في هذه المسألة قاعدة: العادة محكمة، وقالوا: إن عقد الاستصناع صحيح؛ لأنها عادة محكمة معتبرة في الشرع، فهم يرون أن الاستصناع عقد مستقل، لم يتكلم الشرع عليه بالجواز أو بالمنع، فرجعوا إلى الأصل وهو أن الناس تعارفوا عليه ولم يأت دليل يمنعه. أما الجمهور فيرون أن عقد الاستصناع لا يعمل به؛ لأن العادة إنما يعمل بها عند فقدان الدليل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فقالوا: هذا سلم ناقص الشروط، فلا يصح أن نقول هنا: إن العادة محكمة؛ لأنها صادمت الشرع.

أدلة قاعدة العادة محكمة

أدلة قاعدة العادة محكمة هناك أدلة على هذه القاعدة العظيمة من الكتاب، ومن السنة، ثم من الإجماع. أما من الكتاب: فقد قال الله تعالى: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، وقال الله تعالى -بالنسبة لما تستحقه النساء-: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] فأرجع سبحانه كل هذه المعاملات إلى العرف المعروف بين الناس. وأما من السنة ففي الحديث الصحيح أن هند زوجة أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه قالت: يا رسول! إن أبا سفيان رجل شحيح، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف). فقيد الأخذ من مال الزوج بالمعروف. وفي الموطأ قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المملوك: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف) فكأن سائلاً يسأل: يا رسول! ما النفقة التي تكفي المملوك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف). وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم -مبيناً اعتبار العادة واعتبار ما اعتادت عليه النساء لـ زينب بنت جحش: (تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام)، فأرجعها إلى ما اعتادت عليه النساء؛ لأن النساء في الحيض: امرأة مبتدئة، وامرأة معتادة أي: لها عادة تتكرر فترجع إلى هذه العادة إن استمر نزول الدم. ومن الأمثلة الفقهية التي تبين العمل بهذه القاعدة: فتوى مالك في رجل تزوج امرأة ثم تنازعا في الصداق، فقالت المرأة: لم آخذ الصداق، وقال الرجل: قد أعطيتها صداقها، فلما سئل مالك قال: القول قول الزوج. وإذا تأملنا فتوى مالك وجدنا أنها على خلاف الأصل؛ لأن الأصل: هو أن المرأة لم تقبض الصداق، والناقل عن هذا الأصل الصحيح هو العادة, فعادة أهل المدينة في ذلك الوقت: هي أن الرجل العاقد لا يدخل على زوجه حتى يعطيها الصداق، ومصداق ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما زوج فاطمة بـ علي بن أبي طالب وقال له: (لا تدخل عليها حتى تعطيها صداقها) ولذلك قال القاضي إسماعيل من المالكية: أفتى مالك بهذه الفتوى على غرار أن العادة محكمة، فعادة أهل المدينة أنهم لا يدخلون على النساء حتى تقبض النساء الصداق، فلذلك قال القول قول الزواج، قال: أما في هذا الزمان فقد تبدلت العادة وتغيرت، فيكون القول في هذه المسألة بالأصل، وهو أن القول قول المرأة، إلا إن يأتي الرجل ببينة أنه قد أعطاها صداقها. ومن الأمثلة التي تبين أن العادة محكمة ولها اعتبار في الشرع: صحة بيع المعاطاه، فالأصل في البيع أن يكون عن تراض، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] وهذا صريح على أن البيع لا بد أن يكون عن تراض، وقوله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) وهذا أسلوب حصر، فقوله: (إنما) حصر لصحة البيع، وأنه لا يصح بأي حال من الأحوال إلا بهذا الشرط، وهو التراضي، والتراخي عمل قلبي، والعمل القلبي لا يعرف إلا عن طريق الظاهر، ولا يُعرف ما بداخل القلب, إلا عن طريق اللسان والأفعال، ولذلك لا بد من لفظ إيجاب وقبول، فيقول المشتري: اشتري هذه السيارة بخمسة آلاف، ويقول الثاني: قبلت، أو يَقول البائع: أبيعك هذه السيارة بخمسة آلاف، ويقول المشتري: قبلت، فهذا هو الإيجاب والقبول وهو دليل التراضي. ولكن لما ظهر في عادات الناس أنه إذا أراد المشتري شيئاً أخذه ودفع الثمن، كأن يشتري الرجل رغيفاً من الخبز فيضع النقود أمام البائع ثم يذهب، ولم تجر بينهما ألفاظ البيع من الإيجاب والقبول، فكان ذلك عادة منهم، والعادة محكمة. فالمشتري يضع المال والبائع يعلم أنه يريد الشراء، فيحصل البيع بدون لفظ الإيجاب والقبول. ومن الأمثلة على ذلك: ما تعارف عليه الناس في ركوب سيارات الأجرة، فإن الرجل يوقف السيارة ثم يركب فيها إلى المكان الذي يريد، ولم يتفق مع السائق على أجرة معلومة، فقد اعتاد الناس أن يعطى السائق أجراً معيناً، والعادة بينهم محكمة، ولا يصح أن نقول: هذه أجرة مجهولة؛ لأن العادة بين الناس جرت بذلك، وكذلك بيع المعاطاة فإنه جائز رغم أن التراضي عمل قلبي ولا بد له من أظهار البيع باللفظ، ولكن العادة هي التي جوزت هذه المعاملة، والعادة محكمة. ومن الأمثلة على أن العادة محكمة: أن رجلاً رأى امرأة فأعجبته، ورأى منها ما يدعوه إلى نكاحها، فتقدم لها، فقبل أبوها، فتزوجها ولم يسم لها مهراً، مع أنه من أركان العقد، فلما دخل بها سألته المهر فقال: لم أسم لك مهراً، وأعطاها عشر جنيهات وقال: هذا هو مهرك، فتنازعت معه ولم ترض بما أعطاها، فرد هذا التنازع إلى صاحب الشرع، فقال الرجل: تزوجتها على مهر -وهو يعلم أنه من أركان العقد- وقالت المرأة: تزوجني على المهر ولم يسمه، فقال صاحب الشرع: يكون للمرأة مهر مثيلاتها في الجمال والحسب والنسب؛ لأن مهر المثل هو العادة, والعادة محكمة. أيضاً من الأمثلة التي تبين اعتبار الشرع للعادة: المرأة إذا تقدم لها الرجل ورضيت به فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن حياء المرأة البكر يمنعها من الكلام، وأن معرفة قبول المرأة للرجل هو الصمت، وقال العلماء: ومن الصمت الابتسامة كذلك، أو احمرار الوجه، أما البكاء فإن البعض قال: إن كانت الدموع حارة فهي دموع الحزن، فيدل على الرفض، وإن كانت باردة فهي دموع الفرحة ومعها يكون الرضى. لكن العادة أن المرأة إذا تقدم الرجل لخطبتها فبكت وصاحت وولولت فلا يمكن أن نقول: هذا دليل على رضاها؛ لأن العادة أن البكاء يدل على الرفض، ولا يدل على الرضى، فتحكم العادة، ولا تزوج المرأة بهذا الرجل. ومن الأمثلة التطبيقية على أن العادة محكمة: إذا تزوج الرجل الغني امرأة غنية وبخل عليها بالطعام والشراب، فطلبت منه النفقة، وتنازعا ورفعت القضية إلى الفقيه وكان فقيهاً مقعداً، فسأل المرأة عن طعامها في بيتها، وسأل الرجل عن مقدار دخله، فوجده غنياً فقال: نطبق قاعدة العادة محكمة، يقول الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فيلزم الرجل بالنفقة التي ينفقها أهله وجيرانه والمحل الذي يعيش فيه. ومن الأمثلة على قاعدة: العادة محكمة: زينة الصلاة، فإذا كان اللباس الذي يلبسه الإنسان في الصلاة من اللباس المتعارف عليه، والذي اعتاد الناس أن يلبسوه في الصلاة، فلا ينكر عليه، أما إذا كان لباساً غير متعارف عليه، وكانت عادة الناس الإنكار على من صلح بتلك اللباس، فهذا ينكر عليه. وأروع الأمثلة في ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما دخل على نافع وجده يصلي بين يدي ربه بغير غطاء الرأس، فلما انتهى عنفه وقال له: أتخرج بين الناس هكذا؟ قال: لا, قال: الله أحق أن تستحي منه, فهنا حكم ابن عمر العادة. وفي هذا الزمان لو كانت العادة بين الناس أن الذي يسير بغير غطاء الرأس مخروم المروءة، أو أن كشف الرأس ليس من الزينة في الصلاة, فلا ينبغي الصلاة إلا والرأس مغطى، أما إذا اعتاد الناس أن يسيروا دائماً مكشوفي الرأس كما في مصر مثلاً، فلا ينكر على من صلى لله منهم حاسر الرأس، بعكس بلاد الخليج، فإن العيب عندهم أن يسير الرجل مكشوف الرأس وكذلك العباءة، فإن لبسها في مصر شيء لا ينكر عليه، أما في بلاد الخليج فإن لباسها يكون للنوم فقط، ومن العيب أن تلبسها خارج البيت. إذاً: من خرج إلى المسجد يصلي مكشوف الرأس في بلد ينكرون هذا الفعل فإنه ينكر عليه؛ لأن العادة محكمة. ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة في باب النكاح والطلاق، وما يتعلق بهما من المهر والشبكة وغير ذلك.

قاعدة المعروف عرفا كالمشروط شرطا

قاعدة المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً القاعدة الثانية: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وهذه من أهم القواعد، وهي متممة لقاعدة: العادة محكمة. ومعنى المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً: أن العرف السائد بين الناس إذا اتفقوا عليه في شيء ما فإنه يعتبر في الشرع كالشرط، وقد ورد في بعض الآثار: أن المسلمين عند شروطهم, وهذه الشروط مقيدة بقوله صلى الله عليه وسلم: (إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شرطٍ ليس في كتاب الله باطل، ولو كان مائة شرط). فإذا اتفق الناس على شيء أو كان بينهم عرفاً، فإنه يعتبر شرطاً، ولا بد أن يوف هذا الشرط.

أمثلة على هذه القاعدة

أمثلة على هذه القاعدة من أمثلة هذه القاعدة: لو استأجر رجل نجاراً لصنع مكتبة خشبية، وكانت الخشب مع المستأجر -هروباً من عقد الاستصناع الذي اختلف فيه أهل العلم- ولم يستأجر إلا صنعته ووقته على هذا العمل، وبعد أن أتم النجار العمل أعطاه الرجل أربعة جنيهات، فلم يرض النجار بذلك، فتنازعا ثم رفع أمرهما إلى من يحكم بينهما بالشرع، فقال النجار: استأجرني ولم يتفق معي على أجرة، ولذلك فإنها إجارة مفسوخة؛ لأن من شروط الإجارة أن تكون معلومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر، والجهالة من الغرر، فقال الفقيه: كم أجرة صنع هذا العمل في ساحة النجارين؟ قالوا: خمسون جنيهاً, فألزم الرجل أن يعطي النجار خمسين جنيهاً، وينزل العرف هنا منزلة الشرط، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. أيضاً: إذا عقد الرجل على امرأة وخلا بها فلا يجوز له أن يجامعها، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وهذا قد عقد عليها، فصارت حلالاً له بعد أن كانت حراماً، ولكن العرف السائد عند الناس: أنه لا يستطيع المرء أن يبني بالمرأة العاقد عليها إلا بموافقة الولي، وبعد الإشهار بين الناس. فالصحيح الراجح في هذه المسألة أن نقول: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فلا يجوز له جماعها إلا بعد إشهار النكاح وموافقة الولي. ومن الأمثلة على قاعدة: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً: أن الرجل إذا أعطى زوجته الشبكة المتعارف عليها، ثم أراد أن يأخذها منها، عملاً بمذهب الشافعية القائلين بجواز الرجوع في الهبة، فأبت المرأة أن تعطيه إياها؛ لأن الهدية عند الجمهور لا ترد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)، فتنازعا ثم رفع هذا التنازع إلى من يحكم بينهما بشرع الله، فحكم العرف السائد في بلدة الزوج والزوجة، فإن كان العرف: أن الشبكة من المهر، فهي من المهر وليست هدية، وإن كان العرف أنها هدية فهي كذلك؛ لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً. ومن الأمثلة على هذه القاعدة: أن الرجل هو الذي عليه أن يجهز بيت الزوجية ويشتري الأثاث والفراش؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يطأن فرشكم أحداً تكرهونه) فأضاف الفرش إلى الرجال، فدل على أن الزوج عليه كل شيء, لكن لو أن والد الزوجة تعاون مع زوج ابنته وجهز معه بيت الزوجية، فكل منهما أتى بنصف، فلو وقع الطلاق فيما بعد وكان العرف السائد بين الناس: أن والد الزوجة إنما أعطى ما أعطاه هدية لزوج ابنته، فلا يجوز أن يسترجع والد الزوجة مما أعطاه شيئاً، وهو حق للزوج، وإذا كان العرف: أن ذلك إنما كان هدية لابنته فليس من حق الزوج، ويعود كل ما أعطاه والد الزوجة إلى ابنته. وعليه فلا يجوز لوالد الزوجة أن يحمل الزوج ما لا يطيق؛ حتى يُبقى على ابنته ولا يطلقها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المختلف في صحته، ولكن صححه الشيخ الألباني: (أكثرهن بركة أيسرهن مئونة) وسعادة المرأة خير من تلك التكاليف التي يكلف بها الزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه). ومن الأمثلة على هذه القاعدة: أن الرجل إذا أعطى ابنته ذهباً عند زفافها، وبعد الزواج استدان الزوج من زوجته ذلك الذهب، فاعترض والد الزوجة على ذلك وقال: إن الذهب الذي أعطيته لابنتي كان عارية، فليس لها أن تتصرف فيه، فوقع النزاع بين الرجل وابنته، ورفع هذا النزاع إلى من يفصل في المسألة بشرع الله. فكان الحكم: هو أن العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فإذا كان العرف السائد بين الناس أن الرجل إنما أعطى ابنته ذلك عارية فهو عارية مؤداة، وإن كان العرف: أن ذلك هدية للبنت، فالصحيح الراجح: أنه هبة، وعند بعض العلماء: أن الوالد إذا وهب لولده شيئاً فلا يجوز أن يرجع في هبته. إذاً: فالعرف قد قضى في المسألة أن هذه هبة، وليست عارية، ولا نأخذ بقول والد البنت أنها عارية, هذا عند من يقول: إن الوالد لا يرجع في هبته. آخر هذه الأمثلة: لو جاء رجل واشترى سيارة من معرض السيارات، فقال البائع: هذه السيارة بخمسين ألفاً، فقال له المشتري: اشتريت، فكتبا العقد، فأخذ المشتري مفتاح السيارة وذهب بها، وأخبر البائع أنه سيعطيه قيمة السيارة بعد عشرة أيام، وأن العقد قد وقع بينهما وامتلك السيارة، وعليه دفع المال بعد عشرة أيام، فرفض البائع وقال: إنما أعطاه السيارة بقيمتها نقداً، ووقع النزاع، فقال بعض الفقهاء: إن المسألة دائرة على عرف الناس، فإن كان العرف أن من اشترى سيارة دفع قيمتها بعد أسبوع أو أسبوعين أو شهر كان الحكم هو أن يأخذ الرجل السيارة ويدفع المال في المدة المتعارف عليها، وإن كان العرف بين الناس: أن لا تستلم السيارة إلا بالثمن، فليس له أخذها إلا بعد دفع ثمنها نقداً، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.

الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد

الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد القاعدة الثالثة: قاعدة الاجتهاد لا ينتقض بالاجتهاد. وهذه تنفع طالب العلم في الفتوى, وهي من مقاصد الشريعة في تحقيق مصالح العباد؛ حتى لا تعم الفوضى بين الناس.

أمثلة على هذه القاعدة

أمثلة على هذه القاعدة بالمثال يتضح المقال: قام رجل ونوى الصلاة، وبعد أن انتهى من الصلاة بمدة وجد في ثوبه نجاسة، وتأكد وتيقن أن هذا الثوب فيه نجاسة، لكنه لم يدر هل هذه النجاسة كانت في هذه الصلاةّ! أم كانت في الصلاة التي قبلها؟ وهل يقضي هذه الصلاة فقط أم يقضيها مع ما بعدها؟ فرجع إلى أهل الذكر، وسأل أحد الفقهاء، فقال له الفقيه الذي يعلم كيف يأصل المسائل ويجيب عنها بالتأصيل الصحيح: هل أنت متأكد من رؤية النجاسة على ثوبك؟ قال: نعم، قال: إذاً: نطبق هذه القاعدة وهي أن الحادث يضاف إلى أقرب الأوقات، فإذا كان آخر مرة دخلت فيها الخلاء؛ لتقضي حاجتك كانت في صلاة الظهر، وهذه النجاسة رأيتها في صلاة العشاء فأقرب الأوقات التي وقعت فيه نجاسة على ثوبك هو وقت الظهر، إذاً: من صلاة الظهر أصبح الثوب نجساً، فيجب عليك أن تصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأننا رددنا الحادث إلى أقرب الأوقات. المثال الثاني: رجل صلى الفجر ثم الظهر ثم العصر، وهو يصلي العصر وجد المني في ثوبه، ولم يتذكر احتلاماً، فعلم أنه على جنابة، وأن صلاته غير صحيحة، واحتار فيما عليه من الصلاة، وكم يقضي منها؟ فالواجب عليه تطبيق هذه القاعدة، فيرد الحادث إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات هو آخر نومةٍ نامها، فإذا كانت آخر نومة نامها هي قبل الفجر، فعليه أن يعيد صلاة الفجر والظهر والعصر؛ لأن الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقات. ومن هذه الأمثلة أيضاً: أن رجلاً تزوج بنصرانية -أي: أنه لم يأخذ بمذهب ابن عمر؛ ومذهبه -أي: ابن عمر - هو عدم جواز الزواج من الكتابية؛ لعموم قول الله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221] أي: كل المشركات، ولكن قد دل الدليل على جواز الزواج بنساء أهل الكتاب -وبعد أن تزوجها مات، فجاءت تطالب بحقها من الميراث، فمنعها الورثة؛ لأنها ليست مسلمة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) فقالت: إنها قد أسلمت، فسئلت عن إسلامها: هل كان قبل موت زوجها أم بعده؟ لأنها إن أسلمت بعد الموت فلا ميراث لها، فادعت أنها أسلمت قبل موته, فأنكر الورثة وقالوا: إنما أسلمت بعد موته، فلا حق لها في الميراث، ففي هذه المسألة تطبق هذه القاعدة، ويضاف الحادث إلى أقرب أوقاته، وأقرب وقت لإسلامها: هو بعد موت زوجها، فيكون القول قول الورثة، ولا ميراث لها. ومثل هذه المسألة: أن زوجة ادعت أن زوجها طلقها في أثناء مرضه فطلبت الإرث، ومسألة إرث المرأة من زوجها إذا طلقها وهو مريض مسألة مختلف فيها، والراجح أن الزوج إذا كان قصده حرمانها من الميراث فالطلاق لا يعتد به، وترث، وهنا قالت المرأة: إن زوجها طلقها في مرضه، فأنكر الورثة وقالوا: إنما طلقها حال صحته، ففي هذه المسألة تطبق القاعدة ويضاف الطلاق إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات: أنه طلقها وهو مريض. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته

الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته القاعدة الرابعة: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته. وهذه القاعدة مهمة جداً، وهي دليل على سعة هذه الشريعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الإنسان إذا أشكل عليه شيء فليرجع إلى الأصل، وليتحر الصواب بالقرائن المرجحة، فإذا حدثت حادثة فشك الإنسان هل هي في الزمن البعيد أم القريب؟ فالقاعدة عند العلماء: أن الأصل إضافة الحادث إلى أقرب الأوقات.

أمثلة على هذه القاعدة

أمثلة على هذه القاعدة بالمثال يتضح المقال: قام رجل ونوى الصلاة، وبعد أن انتهى من الصلاة بمدة وجد في ثوبه نجاسة، وتأكد وتيقن أن هذا الثوب فيه نجاسة، لكنه لم يدر هل هذه النجاسة كانت في هذه الصلاةّ! أم كانت في الصلاة التي قبلها؟ وهل يقضي هذه الصلاة فقط أم يقضيها مع ما بعدها؟ فرجع إلى أهل الذكر، وسأل أحد الفقهاء، فقال له الفقيه الذي يعلم كيف يأصل المسائل ويجيب عنها بالتأصيل الصحيح: هل أنت متأكد من رؤية النجاسة على ثوبك؟ قال: نعم، قال: إذاً: نطبق هذه القاعدة وهي أن الحادث يضاف إلى أقرب الأوقات، فإذا كان آخر مرة دخلت فيها الخلاء؛ لتقضي حاجتك كانت في صلاة الظهر، وهذه النجاسة رأيتها في صلاة العشاء فأقرب الأوقات التي وقعت فيه نجاسة على ثوبك هو وقت الظهر، إذاً: من صلاة الظهر أصبح الثوب نجساً، فيجب عليك أن تصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأننا رددنا الحادث إلى أقرب الأوقات. المثال الثاني: رجل صلى الفجر ثم الظهر ثم العصر، وهو يصلي العصر وجد المني في ثوبه، ولم يتذكر احتلاماً، فعلم أنه على جنابة، وأن صلاته غير صحيحة، واحتار فيما عليه من الصلاة، وكم يقضي منها؟ فالواجب عليه تطبيق هذه القاعدة، فيرد الحادث إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات هو آخر نومةٍ نامها، فإذا كانت آخر نومة نامها هي قبل الفجر، فعليه أن يعيد صلاة الفجر والظهر والعصر؛ لأن الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقات. ومن هذه الأمثلة أيضاً: أن رجلاً تزوج بنصرانية -أي: أنه لم يأخذ بمذهب ابن عمر؛ ومذهبه -أي: ابن عمر - هو عدم جواز الزواج من الكتابية؛ لعموم قول الله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة:221] أي: كل المشركات، ولكن قد دل الدليل على جواز الزواج بنساء أهل الكتاب -وبعد أن تزوجها مات، فجاءت تطالب بحقها من الميراث، فمنعها الورثة؛ لأنها ليست مسلمة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) فقالت: إنها قد أسلمت، فسئلت عن إسلامها: هل كان قبل موت زوجها أم بعده؟ لأنها إن أسلمت بعد الموت فلا ميراث لها، فادعت أنها أسلمت قبل موته, فأنكر الورثة وقالوا: إنما أسلمت بعد موته، فلا حق لها في الميراث، ففي هذه المسألة تطبق هذه القاعدة، ويضاف الحادث إلى أقرب أوقاته، وأقرب وقت لإسلامها: هو بعد موت زوجها، فيكون القول قول الورثة، ولا ميراث لها. ومثل هذه المسألة: أن زوجة ادعت أن زوجها طلقها في أثناء مرضه فطلبت الإرث، ومسألة إرث المرأة من زوجها إذا طلقها وهو مريض مسألة مختلف فيها، والراجح أن الزوج إذا كان قصده حرمانها من الميراث فالطلاق لا يعتد به، وترث، وهنا قالت المرأة: إن زوجها طلقها في مرضه، فأنكر الورثة وقالوا: إنما طلقها حال صحته، ففي هذه المسألة تطبق القاعدة ويضاف الطلاق إلى أقرب الأوقات، وأقرب الأوقات: أنه طلقها وهو مريض. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.

المشقة تجلب التيسير

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - المشقة تجلب التيسير لقد شرع الشارع الحنيف على المكلفين أحكاماً يجب عليهم القيام بها، وهي سهلة عليهم وميسورة، ومع ذلك لو أن أحداً من المكلفين وجد فيها مشقة لا تحتمل لعارض من العوارض فإنه لا يطالب بها، كالحج والعمرة فإنها يسقطان عن الفقير الذي لا يجد المال الكافي للقيام بهما، وكذلك الزكاة، فإنها تسقط عن الفقير؛ بل إن عمود الإسلام وهي الصلاة تخفف على المكلف إذا سافر أو مرض حتى تكون الأربع ركعات ركعتين، بل يجوز له أن يقدم أو يؤخر الصلاة عن وقتها لهذا العارض، وهذا من رحمة الله سبحانه بعباده.

قاعدة المشقة تجلب التيسير

قاعدة المشقة تجلب التيسير إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا على القاعدة الكلية وهي: الضرورات تبيح المحظورات، وما تفرع عنها، وبعض العلماء يرى أن قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، تعتبر فرعاً عن قاعدة كلية كبيرة عظيمة هي عصب الدين كله، ألا هي: المشقة تجلب التيسير، على أن هذه القاعدة قاعدة كلية تنطوي تحتها هذه القواعد. وقاعدة المشقة تجلب التيسير، فيها دلالة على سماحة ديننا، وأن الله جل وعلا لم يكلف العبد بما يشق عليه، كما قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].

تعريف القاعدة

تعريف القاعدة والمشقة معناها لغة: الصعوبة والعناء والتعب، والتيسير معناه في اللغة: الليونة والسهولة. ومعنى: المشقة تجلب التيسير أي: كلما جاءت المشقة وضيقت على المرء جاء التسهيل والليونة والتيسير له. وفي الشرع معنى: المشقة تجلب التيسير: أنه أذا طبق المكلف الأحكام الشرعية فضاقت عليه لعارض فإن هذا الضيق يتيسر ويتسع، فيستجلب السهولة عليه في تطبيق الأحكام، وهذا هو عصب الدين بأسره.

أدلة القاعدة

أدلة القاعدة دليل هذه القاعدة من الكتاب ومن السنة ومن الإجماع: أما من الكتاب: فقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، يعني: إن شق عليها ولم تستطع أن تطبق الحكم فإنه ييسر عليها، وقال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال جل في علاه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6]، وأيضاً عندما قالوا: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة:286]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: قد فعلت قد فعلت). وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]. وأما من السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد: (بعثت بالحنيفية السمحة) والسماحة معناها: السهولة واليسر، فكلما ضاق الأمر كلما جاء الشرع بالتيسير والتسهيل والسعة على المرء. وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، فكلما جاء العسر كلما صحبه اليسر، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن رجلاً صلى خلف معاذ، فلما أطال معاذ انفرد الرجل بنيته وصلى منفرداً، فاشتد غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أفتان أنت يا معاذ! إذا صليت بالناس فصل بسبح والسماء والطارق)، إلى آخر الحديث. ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لا ندرك الصلاة من أجل ما يفعل فلان بإطالة الصلاة. -يعني لا نذهب إلى صلاة الجماعة لأنه يطيل الصلاة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لستم منفرين)، أو قال: (ما بعثتم منفرين)، وأمر بالتيسير بقوله: (يسروا ولا تعسروا).

أسباب التخفيف والتيسير

أسباب التخفيف والتيسير هذه الأحاديث الآنفة الذكر كلها تبين لنا الدلالة على هذه القاعدة العظيمة، وهي أن المشقة تجلب التيسير، فكلما شق على المكلف تطبيق الأحكام الشرعية كلما لاح في الأفق التيسير، وأسباب التخفيف والتيسير والترخيص في الشرع كثيرة منها: أولاً: السفر، ثانياً: المرض، ثالثاً: الإكراه، رابعاً: الأمور التي عمت بها البلوى، خامساً: النقص. فالسفر: يحفه ما يحفه، فلو أن رجلاً سافر ليؤدي شعيرة العمرة على الباخرة أو على السيارة ولم يسافر على الطائرة، وهو صائم في رمضان فوجد المشقة في السفر، فإننا نقول له: هذه مشقة هل تستطيع أن تحتملها أم لا؟ فإن قال: لا أستطيع، قلنا له: فإن الله قد يسر عليك، وفتح لك أبواب التيسير والقاعدة: المشقة تجلب التيسير، فتيسيراً عليك أفطر هذا اليوم أو اليوميين أو الثلاثة التي تسافر فيها، حتى لا تلحق بك المشقة. وأيضاً: إذا سافر المرء في تجارة إلى بلاد الكفار فجاء وقت الصلاة ويشق عليه أن يصلي الصلوات في أوقاتها فإننا نقول له: إن الشرع يحمي لك أموالك مع حفظك لعبادة الله جل في علاه، والمشقة تجلب التيسير، وقد يسر الشرع عليك، فاجمع جمع تأخير أو جمع تقديم، واقصر الصلوات الرباعية، ولست ملزماً بأن تصلى الصلاة في وقتها، بل لك الجمع والقصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة وفي غيره، وهذه من حكمة الله حتى لا ينفر المكلف من عبادة الله جل في علاه، وحتى لا يرى أن في هذا الدين آصاراً أو أغلالاً عليه، والله جل وعلا إنما يكلف الناس بما يكون ميسوراً عليهم، وبما يكون في استطاعتهم؛ حتى يسارعوا إلى الله جل وعلا ويتنافسوا في الخيرات. أيضاً من أسباب الترخيص والتيسير المرض فإذا مرض المكلف فلم يستطع أن يصلي قائماً إلا بمشقة كبيرة، فإن الشرع يبيح له بأن يصلي قاعداً، فإن لحقت به المشقة أجاز له الشرع أن يصلي مضطجعاً، فإذا قال: لا أستطيع أن أصلي وأنا مضطجع قلنا له: تومئ برأسك، فإن لم تستطع فتومئ بعينك، خلافاً لبعض أهل العلم الذين قالوا: تسقط الصلاة عن مثل هذا، فإن الصلاة لا تسقط، وإن كان صائماً في رمضان ولا يستطيع أن يصوم فليفطر، فالله جل وعلا قد يسر عليه بقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]. وأيضاً في المرض إذا لم يستطع المرء أن يصلي قائماً في المسجد قلنا له: صل قاعداً في المسجد جماعة، فلا تسقط الجماعة بالمرض. وكذلك إذا اُكره المرء على شرب الخمر، بأن يوضع السيف على رقبته ويقال له: تشرب الخمر أو تقتل؟ فهذه مشقة بالغة، والشرع جاء لحفظ الضروريات الخمس ومن أهمها بعد الدين النفس، فله أن يشرب الخمر مكرهاً، ويقول له الفقيه: المشقة التي لا يمكن أن تتحملها -بقطع رقبتك أو بموتك أو بإزهاق روحك- تيسر عليك، فالمشقة تجلب التيسير. وأيضاً: إذا أخذ الكفار رجلاًَ من المسلمين ثم صلبوه وأرادوا قتله، فقالوا له: تكفر وإلا قتلناك؟ فهنا المشقة التي لا يستطيع أن يتحملها بقتله تجلب له التيسير، فله أن يقول كلمة الكفر، كما فعل عمار فقد قالوا له -بعد التعذيب الشديد والتنكيل به-: لا نتركك حتى تتكلم في محمد صلى الله عليه وسلم، فتكلم فيه، فلما ذهب يشتكي للنبي صلى الله عليه وسلم -وهذا من الأدلة العظيمة على هذه القاعدة المشقة تجلب التيسير- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجد قلبك؟ قال: يطمئن بذكر الله جل في علاه، قال: فإن عادوا فعد، يعني: هذه المشقة جلبت لك التيسير، بأن تتلكم بكلمة الكفر. وأما النقص: فيكون سبباً في استجلاب التيسير؛ لأن نقص المكلف يشق عليه تطبيق الأحكام الشرعية، والنقص: هو كالرق والأنوثة والصغر والجنون، وهذا اسمه: نقص في الأهلية، فإن الطفل الذي لم يبلغ الحلم والمجنون غير مكلفين؛ للنقص، والمشقة تجلب التيسير، فيشق على المجنون أن تقول له: عليك خمس صلوات في اليوم والليلة، ممكن أن يصبر على صلاة واحدة، لكن مستحيل أن يصبر على جميع الصلوات، فتسقط عنه الصلوات، وفي المعاملات كذلك، أي: يشق عليه أن يبيع ويشتري، فلا نمرر العقد الذي يعقده طفل، ولا العقد الذي يعقده المجنون. وأما عمت به البلوى، فكالنجاسات المعفوا عنها في الثوب وفي الأرض وفي غيرها. وصور هذه القاعدة كثيرة جداً، وسننتهي في الكلام على هذه القاعدة الجميلة أي: قاعدة المشقة تجلب التيسير، بتقسيم العز بن عبد السلام فقد قسم تقسيماً بديعاً وهو يتلكم عن ترخيصات الشرع فقال: ترخيصات الشرع تعتبر أنواع ستة أو سبعه: الأول: ترخيص إسقاط، وهذا يعتبر رخصة جامعة، وترخيص الإسقاط كإسقاط الجمعة عن العبد وعن المرأة وعن المسافر، في الحج وافق يوم الجمعة يوم عرفة فخطب بهم وصلى بهم ظهراً، وجمع معها العصر، وفي هذا دليل على إسقاط الجمعة عن المسافر، ويسقط الحج وتسقط العمرة، يقول الله جل وعلا: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]. مفهوم المخالفة: إن لم يستطع فلا حج عليه، فيسقط الحج وكذلك العمرة، بل إن العلماء مختلفون هل هي سنه أو فرض؟ فهذا اسمه ترخيص إسقاط عند العذر، فالذي ليس عنده زاد ولا راحلة نقول له سقط عنك الحج وسقطت عنك العمرة، وكذلك تسقط الزكاة، عن الفقير، وهذا يسمى ترخيص إسقاط. الثاني: ترخيص تقصير أو نقص، كأن يشق على الإنسان أن يأتي بالعبادة كاملة فيرخص له الشرع بأن لا يجعلها عليه تامة ولا كاملة، بل يأتي بها ناقصة، مثل: قصر الصلاة في السفر، فتقصر الصلاة الرباعية، أما المغرب فلا تقصر وكذلك الفجر. الثالث: ترخيص الإبدال، كالكفارة قال الله جل وعلا: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89]، إذاً: فالكفارة إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقة فإذا لم يجد ذلك جاء الترخيص بالإبدال، فقال: فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام، سواء متتابعات أو غير متتابعات، ومن ترخيص الإبدال: كفارة الصيد، فإنه من قتل صيداً جعل الله عليه مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منا، هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين، فإن شق عليه ذلك فالصيام؛ ليذوق وبال أمره، فجعل الصيام بدلاً. أيضاً من الإبدال: التيمم مع وجود الماء، وذلك أن الأصل أنه لا يتيمم مع وجود الماء، لكن هذا عندما ينجوا من العوارض، أما لو وجد مريض عنده كسر أو جروح وإذا سقط الماء على الجرح فسيزيد له في الألم والمرض، فإنه لهذا العارض يتيمم ولا يتوضأ؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وفي الحديث المشهور: أن رجلاً كان به شج في رأسه فنام فقال لأصحابه لما استيقظ: قد أجنبت فماذا أفعل؟ قالوا: لا نرى لك إلا الاغتسال، قال: الشج في رأسي، قالوا: لا نرى لك إلا الاغتسال، وكثير من المحدثين يضعفون هذا الحديث، لكن نحن نستأنس به، فاغتسل فمات، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال)، فالجاهل شفاؤه أن يسأل ويتعلم ولا يتكبر ويفتى بغير علم فإن هؤلاء أفتوه بغير علم فضلوا وأضلوا نسأل الله أن يغفر لنا ولهم، وهذا اجتهاد إن شاء الله مغفور لهم، وفي ميزان حسناتهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً وقال: (قتلوه قتلهم الله)، فهو الآن في ضرورة أو في عارض عرض له فلا يقال له كما يقال للصحيح، فنقول: مع وجود الماء عليك أن تعمم الجسد كله إلا موضع المرض، فإذا كان المرض في الرأس قلنا: إلا موضع الرأس، فتتيمم للرأس وهذا قول كثير من العلماء، لكن نقول الأولى من هذا أن لا نجمع له بين البدل والمبدل، فلا نقول: تيمم واغسل، ولكن اغسل وامسح، يعني: خذ الماء بيدك حتى يجف وامسح على رأسك، فالمسح يكون بديل لوجود الماء، وهو قبل التيمم فلا يجمع بين التيمم وبين الغسل. الرابع: ترخيص تقديم، رجل جراح عنده مريض، والعملية ستكون عند أذان العصر، وهي عمليه خطيرة جداً، وليست بالهينة، ومدتها من أول أذان العصر إلى المغرب، فسيضيع عليه العصر، فنقول له: إن الأمر فيه فسحه وتيسير؛ لوجود مشقة عظيمة على المريض، والمشقة ستجلب التيسير والترخيص، والترخيص هنا بالتقديم، فقدم الظهر مع العصر واجمع جمع تقديم، فإن قال الجمع مرخص فيه في السفر فقط، قلنا: دعك ممن يحجر واسعاً، وخذ بالحديث الصحيح وبمذهب ابن المسيب وقبله ابن عباس فإنه قال: جمع النبي في المدينة من غير سفر ولا مطر، وفي رواية: من غير مرض، قالوا: لماذا يا ابن عباس؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته أي: أراد أن لا يوقع الحرج على الأمة، فنقول رفعاً للحرج عن هذا الطبيب: صل العصر مع الظهر، والرجل المريض نقول له أيضاً: لا تسقط عنك الصلاة، فقدم العصر مع الظهر، فإن قال: أشعر أن نفسي ستخرج، قلنا: اجعل آخر أنفاسك في الصلاة، فهذا ترخيص تقديم. ومن ترخيص التقديم: إخراج الزكاة قبل الحول، فإن هذا ترخيص وليس أصلاً؛ لأن الأصل أن كل عبادة مؤقتة بوقت لا تصلح إلا في وقتها. والدليل: قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. فإذا كان الفقر مدقع وكانت الحاجة ملحة وكثر الفقراء، فإنه يأتي ترخيص التقديم، فتقدم الزكاة عن الحول، يعني: لو أن رجلاً سيموت مع

الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، وقاعدة لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الأمر إذا ضاق اتسع وإذا اتسع ضاق، وقاعدة لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة قاعدة (المشقة تجلب التيسير) من القواعد الفقهية الكلية التي ترجع إليها جميع الأحكام الفقهية، وهذه القاعدة تدل على أن الضيق أو العنت أو الحرج الذي يلحق بالمكلف عند قيامه بالمأمور أو اجتنابه للمنهي قد يصاحبه يسر وسهولة في هذا الحكم، ويندرج تحت هذه القاعدة قاعدة: إذا ضاق الأمر اتسع، وقاعدة: لا واجب مع عجز ولا حرام مع الضرورة، ويطبق عليهما كثير من المسائل الفقهية.

تابع قاعدة المشقة تجلب التيسير

تابع قاعدة المشقة تجلب التيسير

تطبيق القاعدة في مسألة تعدد الزوجات

تطبيق القاعدة في مسألة تعدد الزوجات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: القاعدة الفقهية: المشقة تجلب التيسير، ثبتت بالكتاب وبالسنة وبالنظر، وأنواع المشقة أو أنواع الترخيص ستة أنواع أو سبعة. وقاعدة المشقة تجلب التيسير، لها صور متعددة، منها: تعدد الزوجات. وتطبيق هذه القاعدة في مسألة التعدد هو أن الله جل وعلا أعطى الرجل فحولة قوية جداً، فهو لا يكتفي بامرأة واحدة، فهنا يشق عليه أن ينظر للحرام وأن يفعله؛ لأنه منهي عن ذلك من قبل ربه جل في علاه، ويخشى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حضه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، إن العين لتزني وزناها البصر)، وكذلك اللسان واليد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة كما في الصحيحين، فالمشقة دائماً تجلب التيسير، فإن كانت امرأته حاملاً أو كانت نفساء فشق عليه هذا الأمر فله أن ينكح امرأة ثانية وثالثة ورابعة، إن شق عليه أن تكون في بيته امرأة واحدة. وذكر الذهبي في ترجمة بعض المحدثين: أنه كان ثبتاً علماً في الحفظ وكان كثير الزواج، فكان يتزوج المرأة فما تبقى معه أسبوع؛ لأنه كان كثير الجماع، فطلقت منه امرأة فقالت: ما يحتمله بشر، فكان كل أسبوع يطلق امرأة، وكان فحلاً ثقة ثبتاً وكان لا يرقى له ذكر، أي: كان رجلاً قوي الفحولة جداً، يتزوج كثيراً فما كانت تحتمله امرأة. فمثل هذا الرجل نقول له: المشقة التي تكون عليك في امرأة واحدة، فإن الشرع قد جاءك فوسع عليك الأمر، والمشقة تجلب التيسير، فتزوج الثانية والثالثة والرابعة فإذا قال لك: الأربع النساء لا تكفي، قلنا له ينكح الإماء، فإن علي بن طالب وطئ أربعمائة امرأة، وكان فحلاً رضي الله عنه وأرضاه.

أقسام المشقة

أقسام المشقة والمشقة لها أنواع ثلاثة: النوع الأول: مشقة لا يمكن أن تخلو عن طاعة بحال من الأحوال، وقال فيها العلماء: هذه المشقة تسمى مشقة معتادة؛ لأن الله جل في علاه كلف المكلف بأوامر ليتعبد بها لله جل في علاه، وهذه الأوامر لا تخلو من مشقة بحال من الأحوال، واسمها تكليفات، والتكليف فيه نوع من الكلفة، أي: نوع من المشقة. وهذه المشقة التي تصاحب العبادة كقيام الليل وكالهزال الذي يحدث في الصيام، وكبعض الصداع الخفيف الذي يأتي للصائم، وكحب المال عند إخراجه في الزكاة، فكل هذه المشقات معتادة، ويجب على الإنسان أن يحتملها، ولا يمكن أن تطبق فيها قاعدة المشقة تجلب التيسير. النوع الثاني: مشقة تحتمل، لكنها أعظم من المشقة الأولى، وهذه المشقة هي التي يطبق فيها قاعدة المشقة تجلب التيسير، كالمرض والسفر والإكراه، فهذه مشقاق متوسطة ممكن أن تحتمل، وأن يترخص فيها المرء. وهذه المشاق فيها رخصة وفيها عزيمة، كالصيام في السفر فإن من أراد أن يأخذ الأجر مضاعفاً فعليه أن يصوم في السفر، وهذا مستنبط من قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أجرك على قدر نصبك ونفقتك) أي: على قدر نصبك أيضاً: فالأجر على قدر المشقة، ولذلك قال العلماء: مضاعفة الأجر على قدر المشقة. وإما أن يترخص فيفطر ولا شيء عليه، كما قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وليس أجره كالأول، ومثلها قصر الصلاة في السفر. وأما النوع الثالث: مشقة لا تحتمل، كالجوع القاتل، ولم يجد المرء طعاماً إلا الميتة، فهذا لا ترخيص له، ولا نظر لرخصة ولا عزيمة، بل هذا فيه العزيمة فقط، فيجب عليه في مثل هذه المشقة أن يستجلب التيسير، وإلا سيأثم عند ربه جل في علاه، ويحاكم بأنه قتل نفسه. فلو وقفت اللقمة في حلقه ولا يستطيع دفعها إلا بالخمر، ولا يوجد ماء بحال من الأحوال، فلو لم يشرب الخمر فمات مات على معصية؛ لأنه قاتل نفسه عند ربه جل في علاه، بل يجب عليه أن يأخذ بالرخصة وأن يدفع الغصة بالخمر، وتكون هذه الرخصة عزيمة إن هو أخذ بها؛ لأنه يعزم عليه ذلك.

قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق

قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق

تطبيق القاعدة على الصلاة

تطبيق القاعدة على الصلاة ومن فروع هذه القاعدة، قاعدة عظيمة جداً وهي قول الشافعي: إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق، يعني: إذا وقع الحرج على المكلف في تطبيق الشرع، فيتسع الأمر له، ويترخص ليرفع عنه الحرج، أما إذا رجع حاله كحال الميسور فيرجع الأمر كما كان. ودليل هذه القاعدة: قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:101 - 102]، ثم قال الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:103]، فصدر الآية يبين القول الأول وهو: إذا ضاق الأمر اتسع، وعجزها يبين لنا القول الثاني: وإذا اتسع ضاق، فقال الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، وآخر الآية أيضاً فيها دليل على قولهم: إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق، أي: إذا كان المكلف في تطبيق الشرع في حرج وضيق عليه، فإنه سيتسع له الأمر وسيترخص ولا عتب عليه ولا ملامة، وإذا اتسع الأمر، وزالت عنه المشقة أو الحرج، فيرجع الأمر كما كان. إذاً: فدليل القاعدة: صدر الآية، وهي قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} [النساء:101]، وكذا عجز الآية، وهو قول الله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. أي: لما خاف المسلمون من المشركين أن يقتلوهم ضاق الأمر عليهم، ثم اتسع اتساعاً كبيراً بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، فإذا ضاق عليهم الأمر بالخوف، فالتوسعة عليهم بقصر الصلاة. وتيسير ثان في تغيير هيئة الصلاة أي: صفتها، فبعض الصفوف تصلي أولاً والصفوف الأخرى هي التي تحميهم، وممكن أيضاً في أوج الخوف -وهو المقاتلة بالمسايفة-: أن يصلي المسلم راجلاً أو راكباً على فرسه، وهذا أيضاً من باب التيسير، أي: إذا ضاق عليكم الأمر واشتد الضيق فإن التيسير سيأتي من أوسع أبوابه فتقاتلون وتصلون، كما قال ابن عمر: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قاعدين، قائمين، نائمين، مقاتلين، يصلون حسب حالهم، وهذا من باب التيسير. أما الشطر الثاني للقاعدة، وإذا اتسع ضاق فيؤخذ من معنى الآية، أي: إذا اطمأننتم ورجعتم إلى المدينة وزال الخطر فصلوا قائمين ولا تصلوا قاعدين ولا ماشين ولا بأي هيئة أخرى، وأيضاً صلوا في الوقت ولا تجمعوا. ومن أدلة القاعدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)، أي: إذا ضاقت عليك الصلاة قائماً فصل قاعداً، وإذا ضاقت عليك الصلاة قاعداً فصل على جنب.

تطبيق القاعدة على المدين

تطبيق القاعدة على المدين ومن صور هذه القاعدة التي هي فرعاً للقاعدة الأم: أنَّ المدين -أي: الذي عليه دين- وضاق عليه سداده، فإنه يمهل إلى أن يتيسر له ذلك، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم) فهذا عام مخصوص بقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، وهذا واجب، ثم قال تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280]، يعني: يجب عليكم النظرة، ويستحب لكم التصدق، وهذه الآية فيها دلالة على تدرج المسألة، فوجوباً النظرة إلى ميسرة، ثم التصدق. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) فمفهوم المخالفة: إن لم يكن غنياً فليس بظالم، فليس له عليه سبيل. وتطبيق القاعدة هنا: أن الأمر ضاق على الرجل المدين فليس معه مال ليسدد دينه، ففتح له الشرع باب التيسير، وهو النظرة إلى ميسرة.

تطبيق القاعدة على شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال

تطبيق القاعدة على شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال أيضاً من ذلك: الشهادة على الولادة وغيرها، فإذا ضاق الأمر على الرجال فلا بد أن نحيله على النساء، ولذلك قال العلماء: نقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه إلا النساء. وشهادة النساء منفردات لا تقبل، والأصل فيها قوله تعالى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْن) [البقرة:282]، فهذا شرط، يعني: النساء أصالة لا يدخلن في الشهادات، فإن لم يكونا رجلين وهما الأصل، فتقبل شهادة الفرع وهي المرأة، قال تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، وهذه الآية استدل بها على أن الأصل أن لا تقبل شهادة النساء منفردات، لكن هنا نقول: ضاق الأمر على الرجال فمن ينظر للمرأة عندما تلد؟ ومن يقول: إن هذه أختها من الرضاعة أو ليست أختها من الرضاعة؟ كيف نقبل بشهادة رجل في مسألة الولادة والولادة لا تكون فيها إلا النساء، فضاق الأمر على الرجال فلما ضاق اتسع، ولما كان الأصل عدم قبول شهادة النساء فإنا نقبل هنا شهادتهن، فإذا اتسع كما في مسألة البيوع أو مسألة القذف أو مسألة الزنا، فلا بد من الرجال؛ لأن الرجال في هذه المجالات يتواجدون، فنقبل شهادة الرجال ولا نقبل شهادة النساء.

تطبيق القاعدة على مباشرة الحائض

تطبيق القاعدة على مباشرة الحائض أيضاً من المسائل التي فيها إذا ضاق الأمر اتسع: الرجل الذي يريد أن يجامع امرأته ولكنها حائض، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، فضاق عليه الأمر فلا يستطيع أبداً أن يجامع امرأته في فرجها، فرخص له الشرع بأن الحائض تستتر بالإزار ويباشرها، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع)، وهذا نص في العموم، وهذه آخر الصور في هذا الفرع.

قاعدة لا واجب مع عذر ولا حرمة مع الضرورة

قاعدة لا واجب مع عذر ولا حرمة مع الضرورة

أدلة هذه القاعدة

أدلة هذه القاعدة أيضاً من فروع قاعدة المشقة تجلب التيسير، قاعدة: لا واجب مع عذر، ولا حرمة مع الضرورة، ودليل هذه القاعدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب)، وقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ومعنى هذه القاعدة: أن الواجب على المكلف أن يأتي بالعبادة على صورتها التي أمر الله بها، فإن ضاق عليه أو لم يستطع أو جاءه العذر، فإن هذا الواجب يسقط، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً)، فيه أن الواجب على المصلي أن يأتي بركن القيام، فإن لم يستطيع أن يصلي قائماً، فقد سقط عنه القيام بوجود العذر، وهذا صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب).

تطبيق القاعدة على صلاة المنفرد خلف الصف

تطبيق القاعدة على صلاة المنفرد خلف الصف ومن أهم الصور لهذه المسألة، صورة مهمة جداً، وهي صلاة المرء منفرداً خلف الصف، فهذه المسألة تطبق عليها قاعدة لا واجب مع عذر. قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمنفرد خلف الصف)، واختلف العلماء في ذلك اختلافاً عظيماً: فالجماهير يرون أن الصلاة خلف الصف على الكراهة وليست على التحريم، ومنهم: الشافعي، فهو يستدل على صرف النهي من التحريم إلى الكراهة، بحديث أنس -لما فرش الحصير الذي اسود وبله بالماء-: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فـ أنس صف خلفهم وصف معه الغلام، وصفت المرأة خلفهم منفردة، فقال: لو كانت المسألة على التحريم لصفت المرأة في جانب الرجال، ففي هذا دلالة على صحة صلاة المنفرد خلف الصف. وأيضاً استدلوا بحديث أبي بكرة: أنه دخل المسجد فكبر، فحين تكبيره كان منفرداًِ خلف الصف، ثم مشى إلى الصف، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك، ففي ذلك دلالة على أن صلاة المنفرد خلف الصف على الكراهة لا على التحريم. وعند ابن حزم -وهو قول لبعض الحنابلة-: أن الصلاة تبطل. والراجح الصحيح الذي لا نحيد عنه، خروجاً عن المذهب: أن من صلى خلف الصف منفرداً فإن صلاته باطلة؛ لأن النهي هنا للتحريم، فيحرم على المنفرد الصلاة خلف الصف. والمصلي خلف الصف منفرداً له أحوال كالتالي: الحالة الأولى: أن يجد فرجة في الصف، فيتركه ويصلي منفرداً في الصف الذي يليه؛ لأنه لا يريد أن يصلي بجوار فقير أو من له رائحة كريهة. الحالة الثانية: إذا صلى في الصف ازداد جرحه أو مرضه، فصلى خلف الصف من أجل المرض. الحالة الثالثة: بحث في الصفوف ونظر فلم يجد فرجة، فصلى خلف الصف. فنحن رجحنا: أن النهي عن الصلاة خلف الصف منفرداً تكون حراماً، والصلاة تكون باطلة. أما الحالة الأولى: فالرجل الذي صلى خلف الصف منفرداً، ووجد الفرجة ولعلة من العلل لم يدخل فيها، فهذا وجب عليه إعادة الصلاة؛ لأن صلاته باطلة؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ومطلق النهي يقتضي الفساد، وهذا الرجل ليس معذوراً؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سدوا الفرج، فمن سد الفرجة رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة، وبنى له بها قصراً أو بيتاً في الجنة). فقاعدة لا واجب مع العذر لا تطبق هنا. الحالة الثانية: الرجل المريض الذي لا يستطيع أن يكون بقرب أحد، فصلى منفرداً، قال بعض العلماء: صلاته على الكراهة، أي: صحيحة لكنها ناقصة، وقلنا: هذا القول مرجوح، والراجح الصحيح: أن صلاته باطلة؛ لأنه صلى منفرداً خلف الصف، وكان باستطاعته أن يصلي بجانب الإمام. الحالة الثالثة: الرجل الذي لم يجد فرجة، ولا فتحة يصل منها إلى الإمام، فصلى منفرداً خلف الصف، وكان باستطاعته أن يجذب رجلاً ويصلي معه فلا يكون منفرداً، والدليل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه من دخل المسجد فما وجد فرجة في الصف فعليه أن يجذب رجلاً فيصلي بجواره حتى لا يقع في النهي، لكن هذا الحديث ضعيف والحجة في الصحاح، فما دام وأنه لم يجد فرجة ولا فتحة يذهب منها للإمام فصلاته صحيحة، والدليل على ذلك من الأثر ومن النظر: أما الأثر: فقال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وأما النظر فالقاعدة عند العلماء: لا واجب مع العذر، فالواجب عليه: أن يسد الفرجة، والعذر: أنه لم يستطع ذلك، فصلى منفرداً خلف الصف، فالعذر هنا منع من التحريم أو منع من الإثم، ومنع أيضاً من بطلان الصلاة، فصحت الصلاة.

تطبيق القاعدة على من تقدم على إمامه في الصلاة

تطبيق القاعدة على من تقدم على إمامه في الصلاة الصورة الثانية لهذه المسألة: رجل تقدم على إمامه في الصلاة فصلاته باطلة، وكذا إن امرأة تقدمت على امامتها من النساء، فصلاتها باطلة؛ لأن هذا الفعل لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا قولاً ولا فعلاً ولا تقريراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال أيضاً (إنما جعل الإمام ليؤتم به). والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصف الصفوف خلفه، فمن خالف الشرع ينطبق عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فصلاتهما باطلة؛ لأن مطلق النهي يقتضي الفساد. لكن إذا دخل الرجل المسجد فوجده يضج بالناس، وما فيه إلا موضعاً أمام الإمام، فتصح صلاته أمام الإمام؛ لأنه لا واجب مع العذر؛ والمشقة تجلب التيسير. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

لا ضرر ولا ضرار وقاعدة الضرر يزال

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - لا ضرر ولا ضرار وقاعدة الضرر يزال الضرر والإضرار ممنوع في الشريعة، وذلك هو ما جاء في الحديث، وقعَّد عليه العلماء قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)، فلا ضرر ابتداء، ولا ضرار جزاء ومقابلة، وهذه القاعدة العظيمة تعكس عظمة الإسلام في منع الضرر عن الناس، وتندرج تحت هذه القاعدة عدة فروع فقهية.

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

قاعدة لا ضرر ولا ضرار

معنى القاعدة وأهميتها

معنى القاعدة وأهميتها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: مازلنا مع القواعد الفقهية، ولعلنا ننتهي من الجزء الأول منها. سيكون الكلام عن قاعدة عامة مهمة جداً ألا وهي قاعدة: الضرر يزال. نقول: لا ضرر ولا ضرار، وهذا هو التعبير الأنسب عنها؛ لأننا جعلناها نص الحديث، وصغناها بعموم مسمى الدليل، وهذا يكون أنسب لها، فهي قاعدة الضرر يزال، أو لا ضرر ولا ضرار.

معنى القاعدة

معنى القاعدة الضرر معناه: إيصال المفسدة للغير. والضرار هو: مقابلة الضرر بالضرر. فالقاعدة لها شقان: الشق الأول: لا ضرر يعني: لا ضرر ابتداء. والشق الثاني: لا ضرار يعني: لا يقابل الضرر بالضرر. إن هذه القاعدة العظيمة الجليلة تدخل في أبواب شتى من أبواب الفقه، ولذلك فإن كثيراً من أهل العلم يحتجون بها ويولونها اهتماماً عالياً، فإنها تدخل في البيوع، وتدخل في العبادات، وتدخل كثيراً في الحدود هذا عموماً وتدخل في باب القضاء خاصة.

دليل القاعدة وأصلها

دليل القاعدة وأصلها إن دليل هذه القاعدة وركنها هو الحديث المتكلم فيه، وقد رواه مالك في الموطأ مرسلاً، ورواه الحاكم ووصله وغيره، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). ولذلك كانت صيغة صياغة القاعدة نفس الحديث، وهناك أدلة كثيرة يستنبط منها التقعيد لهذه القاعدة، فمنها: حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره). ومنها قول الله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]. وأيضاً قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة:233]. وأيضاً قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231]. وهذه القاعدة من أجل القواعد الكلية التي تدور عليها المسائل الفقهية.

أقسام الضرر

أقسام الضرر ينقسم الضرر إلى نوعين: ضرر بحق، وضرر بغير حق. أما الضرر بحق فهو غير ممنوع شرعاً بل يجب على الإنسان أن يطبقه، وهو الضرر الذي يبلغ الإنسان بجريرته أو بجريمته كقطع يد السارق، فهذا ضرر على السارق، وكذلك القتل للقاتل فهذا ضرر لاحق بالقاتل، وهذا الضرر يسمى: الضرر بحق. فلا يستطيع أحد أن يقول: إنكم عندما تفعلون ذلك تنفرون الناس! فهذا السارق بدلاً من أن تنصحوه أو تحبسوه عاماً أو عامين لعله يرجع، تقطعون يده، فأنتم بهذا تنفرون الناس عن الإسلام! والقاعدة عندكم لا ضرر ولا ضرار. وقائل ذلك نقول له: هذا الكلام حق أريد به باطل، فإن الضرر بحق غير ممنوع شرعاً. كذلك رجم الزاني المحصن، أو جلد الزاني البكر، فإن هذا من الضرر بحق. النوع الثاني: ضرر بغير حق، والضرر بغير حق هو التعدي على أموال الغير، أو التعدي على أعراض الغير، فهذا إضرار بغير حق، وهذا هو الذي تعنيه هذه القاعدة، وتقول: إن هذا الضرر محرم يأثم صاحبه، بل ويعاقب عليه أو يعزر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).

تطبيقات قاعدة لا ضرر ولا ضرار

تطبيقات قاعدة لا ضرر ولا ضرار إن تطبيقات هذه القاعدة العظيمة الجليلة كثيرة نذكر هنا بعضها.

طلب المرأة طلاقها من زوجها

طلب المرأة طلاقها من زوجها لا يجوز لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تطلب الطلاق من زوجها، وذلك من تطبيقات هذه القاعدة. لكن لا بد من عمل قيد لتطبيق هذه القاعدة على مسألتنا هذه، وذلك بأن نزيد على القاعدة قيداً وهو: في غير ما بأس، يعني: أنه لو وجد بأس فيجوز للمرأة أن تطلب الطلاق، وتدخل تحت القاعدة: لا ضرر ولا ضرار. وكيفية تطبيق هذه القاعدة على هذه المسألة أن تقول: إن المرأة التي تطلب الطلاق في غير ما بأس قد أوقعت الضرر بزوجها، والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار. وأنواع الضرر هنا كثيرة: منها أنها تعرضه للفتنة، ومنها: أنها تكسر قلبه فتوقع عليه الظلم، ومنها: أنها تجعله يظن الظنون بكل المسلمات أو الملتزمات أنهن كذلك، فنقول لها لا يجوز أن تطلبي الطلاق فتضيعي وتضيعي، والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار، إلا أن تجيب وتقول: إن هنالك بأساً، فيباح لها. والدليل: ما جاء صريحاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة طلبت الطلاق من زوجها في غير ما بأس فالجنة عليها حرام)، أو قال: (لم ترح رائحة الجنة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

طلب المرأة من زوجها طلاق أختها

طلب المرأة من زوجها طلاق أختها ومن صور تطبيق هذه القاعدة مسألة: طلب المرأة طلاق أختها: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطلب المرأة طلاق أختها لتكفأ صحفتها، أو لتأخذ ما في صحفتها). والحديث ظاهره أن المراد أختها الشقيقة، أو الأخت من أم، والقاعدة عند العلماء أن اللفظ يبقى على ظاهره ما لم تأت قرينة تصرفه، ولكن ليس المراد بأختها هنا الأخت النسبية والقرينة الصارفة لهذا الظاهر هي نصوص أخرى، (فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع المرء بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها). وكذلك يصرف إرادة هذا الظاهر قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23]، يعني: ليس لكم أن تجمعوا بين الأختين، وهذا النهي يكون صارفاً لظاهر الحديث أن يراد به الأخت النسبية. بل المراد به أخوة الإسلام، ودليل إخوة الإسلام قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله، وإنما هي أخوة الإسلام). فظهر بذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم. فقد تكون المرأة شديدة الغيرة، وتكون ضرتها أجمل منها، أو ألطف منها، أو أحسن منها حديثاً، وألين تعاملاً مع زوجها، فيكون الزوج إذا دخل بيت الأولى يكتئب لكنه يتقي الله في أداء حقها، فإذا دخل بيت الأخرى ينشرح صدره، وتلمس المرأة الثانية ذلك منه، وهي أم أولاده عنده فتقول: لا بد من طلاقها أو طلاقي، أو لا بد أن تطلق الأخرى، فيقال لهذه: اتقي ربك فلا يجوز لك أن تفعلي ذلك. فلو قالت: هاتوا الدليل من التقعيد الفقهي لا من الأثر، فيقال لها: إن القاعدة الفقهية تقول: لا ضرر ولا ضرار، وأنت بذلك توقعين الضرر بأختك في الإسلام، وتوقعي الظلم عليها، ولعلها إذا طلقها لا تجد غيره يسترها ويتزوج عليها، بل لعلها تموت بذلك، ولا يجوز إنزال الضرر ابتداء، ولا جزاء. ونرد عليها أيضاً بأن الله قد أباح التعدد فلا يجوز أن تحرم ما أباحه الله، هذا سنقوله للتي طلبت الطلاق. ونقول للأخرى: حتى لو أوقعت ضرتك بك الضرر فليس لك مقابلة الضرر بضرر.

رد السلعة بالعيب

رد السلعة بالعيب ومن تطبيقات هذه القاعدة مسألة بيع السلعة المعيبة دون إظهار العيب: فلو أن رجلاً اشترى سيارة فيها عيب، والبائع رجل مؤتمن، وكان ينوي بيان العيب فغفل أو تغافل فلم يخبره، فجاء المشتري بعد أن وجد العيب إلى القاضي وأخبره بالعيب، فقال القاضي: يا بني هل هذا العيب استجد وهو عندك، أم كان قديماً؟ فقال: كل الخبراء الذين رأوا العيب قالوا: إنه كان قديماً ولم يستجد عندي. فقال القاضي: لقد تم البيع ولكن لك الخيار، فإما أن تختار إتمام الصفقة، أو أن ترد المبيع إلى صاحبه؛ لأنه عندما باع لك هذه السارة قد أوقع بك الضرر، وهذه السيارة قد اشتريتها أنت بخمسين ألفاً، وهي بالعيب الذي فيها تساوي ثلاثين ألفاً فقد ظلمك، والقاعدة تقول: لا ضرر ولا ضرار. فلو قال المشتري: سأذهب إليه وآخذ ثلاثين ألفاً بدلاً من العشرين ألفاً التي ظلمني بها، فقال له القاضي: ليس لك ذلك؛ لأننا كما أجزنا لك الخيار بقاعدة (لاضرر)، فإننا لا نجيز لك الاعتداء بشطر القاعدة الباقي وهو: (لا ضرار)، فلا ضرر ابتداءً، ولا ضرار جزاءً، لكن لك الخيار في الرد أو الإتمام، وبذلك يزول الضرر والإضرار.

الأرض المثمرة إذا أطلت على محارم الناس

الأرض المثمرة إذا أطلت على محارم الناس ومن الصور التي تطبق عليها هذه القاعدة مسألة الأرض التي فيها ثمر لرجل، ولكنها تطل على بيت لرجل آخر وعنده بنات لا ينتقبن، ويكن في البيت بزي مهنة البيت، فالثمر قد أينع وجاء وقت الحصاد وتسلق الأشجار لجني الثمر، فوقع النظر إلى ذلك البيت؛ ليرى محارم الناس. وقد يكون هذا الرجل صالحاً، ولكنه ليس بفقيه، فلبس عليه إبليس وأوقعه فيما أوقع فيه برصيصاً العابد فقد كان عابداً زاهداً تقياً ورعاً صالحاً، لكنه لما كان جاهلاً أوقعه الشيطان في الحرام. فصاحب الأرض لو قيل له: عليك أن تقطع هذه الشجرة، فسيقول: هذا إتلاف لمالي وضرر عليَّ. فيقال له: إنك أوقعت الضرر بالناس عندما تتسلق هذه الأشجار فتنظر إلى النساء المحرمات عليك. فسيقول صاحب الأرض: لا ضرار. وكذلك لو قيل له: لا يجوز أن تتسلق الشجر؛ لأنك تضر الآخرين بالنظر. لكن نقول: نمنعك فقط من التسلق دون إتلاف مالك، فتأخذ عصا فتنزل بها الثمار دون أن تتسلق. وكذلك لو قال الفقيه لصاحب البيت: سد نافذة بيتك، لئلا ينظر صاحب الأرض لمحارمك، فسيقول: إن هذا إضرار بي، فالبيت ملكي وأحتاج نافذته لدخول الهواء، والتصرف في الملك لا محظور فيه، فيكون الفقيه هنا قد طبق شطر القاعدة ونسي شطرها الآخر. بعد ذلك يكون أنسب حل لتطبيق قاعدة لا ضرر ولا ضرار أن نقول لصاحب البيت عليك أن ترفع نافذتك إلى حد بصرك بحيث لا يراك الجار، وما بقي منها يدخل منه الهواء. ونمنع الرجل من النظر إلى الحرام، فنكون قد طبقنا قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فيزول الضرر والضرار. وهذه بعض صور تطبيقات هذه القاعدة، ولها فروع كثيرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها من رحمة الله بعباده أن أباح لهم بعض ما حرم عليهم عند الضرورة، لكن هذه الضرورة تقدر بقدرها، فمن تجاوز قدر الضرورة فقد بغى واعتدى.

معنى قاعدة الضرورة تقدر بقدرها وأدلتها

معنى قاعدة الضرورة تقدر بقدرها وأدلتها

معنى القاعدة وأدلتها

معنى القاعدة وأدلتها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. سنتحدث عن قاعدة: الضرورة تقدر بقدرها، والقاعدة العامة: الضرورات تبيح المحظورات، قد شرحناها سابقاً وأتينا بالأدلة عليها. الأدلة التي تثبت هذه القاعدة هي: قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]. وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]. وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. فقاعدة: الضرورة تقدر بقدرها متممة لهذه القاعدة، ومعناها: إذا أعوز المرء إلى ارتكاب شيء محرم فلا يجوز له أن يتجاوز حاجته، ودليل هذا التقييد لهذه القاعدة الكلية العامة قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173]. فلا يتعدى ولا يتجاوز حدوده، فمثلاً: لو كان في صحراء وتضور جوعاً وكاد أن يهلك وليس عنده من الطعام إلا الخنزير أو الميتة، فنقول له: تأكل ما تسد به الرمق وتدفع به عن نفسك الهلاك فقط، فإن زدت فقد أثمت؛ لأنك اعتديت وبغيت.

تطبيقات فقهية على قاعدة الضرورة تقدر بقدرها

تطبيقات فقهية على قاعدة الضرورة تقدر بقدرها

مسألة المسح على الجبائر

مسألة المسح على الجبائر الضرورة تقدر بقدرها، ولها فروع كثيرة جداً، تدخل في العبادات وغير العبادات. فمن تطبيقاتها في العبادات: الجبيرة: يعني: رجل كسرت يده، فأراد أن يضع الجبيرة على يده، فنقول: لا بد أن يضع الجبيرة على مكان الكسر فقط ولا يتعداه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها؛ لأن الوضوء يلزم الإنسان بأن يغسل يديه إلى المرفقين، أو إلى العضد، فإذا وضع الجبيرة فإنه لن يغسل، فنقول له: القاعدة العامة الكلية: الضرورات تبيح المحظورات، فلا تغسل يدك، ولكن امسح على الجبيرة. فجاء المقعد الآخر فقال: لابد أن نضبط هذه القاعدة الكلية ونقول له: إن الضرورة تقدر بقدرها، إن كان الكسر في الرسغ فلا يزيد إلى المرفق ولا يزيد إلى العضد، ولا يجوز بحال من الأحوال، وإن زاد قلنا: لا يصح المسح، ولو صليت بهذا المسح فإن عليك إعادة الصلاة. إذاً: الضرورة وإن كانت تبيح المحظور تقيد بقولنا: الضرورة تقدر بقدرها.

بيع مال المدين لإعطاء الغرماء

بيع مال المدين لإعطاء الغرماء وفي المعاملات: رجل مدين وجاء الغرماء فذهبوا إلى القاضي فقالوا: نريد أموالنا، وكأن الرجل مماطل، فقام القاضي باستدعائه فقال له: أنت مماطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته) ونحن سنعاقبك الآن، وذلك بأن نأخذ مالك رغماً عنك ونعطي الغرماء. وكان عنده دنانير ودراهم، وكذلك عنده عقارات وسيارات وأموال أخرى، فنقول: إن الضرورة تقدر بقدرها، ائت بما عندك من الدنانير والدراهم، فإن وفت الغرماء حقهم وإلا نظرنا في العقارات التي لا يكون فيها خسارة عليه؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها. إذاً: الضرورات تبيح المحظورات، لكنها تقدر بقدرها.

تترس الكفار بالمسلمين

تترس الكفار بالمسلمين ومن فروع قاعدة الضرورة تقدر بقدرها: مسألة: تترس الكفار بأسرى المسلمين: وذلك بأن يكون المسلمون في حرب مع الكفار، والكفار أسروا بعض المسلمين فجعلوهم ترساً لهم، فجميع العلماء والفقهاء بأن هذه البلدة إذا لم تفتح، إلا برمي المسلمين مع الكافرين فإنهم يرمونهم وإن قتلوا المسلمين. فقلنا لهم: إن حرمة دم المسلم معلومة وقطعية من الكتاب والسنة، قالوا: عندنا قاعدة تقول: الضرورات تبيح المحظورات. قلنا: كيف ذلك؟ قالوا: الآن الضرورة أن ترفع كلمة لا إله إلا الله في بلاد الكفر، وأن نعبد الناس لله لا للبشر، فلا بد أن نخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) وإن كان معهم بعض المسلمين، ولا يحدث الفتح ولا النكاية في الكافرين إلا بموت بعض المسلمين معهم، فليموتوا وسيبعثون إلى ربهم على نياتهم، والضرورات تبيح المحظورات. فنقول لهم: نعم، الضرورات تبيح المحظورات لكنها تقدر بقدرها، وذلك بأن تنظروا أولاً في جميع النواحي لعلكم تجدون ناحية ليس فيها مسلم تدخلون منها، أما إن كانت النواحي كلها فيها مسلمون فارموا، ولكن إذا رميتم وقتلتم فلابد أن تضمنوا الدية لكل مسلم قتلتموه للورثة، فإن لم يكن لهم ورثة، فلا بد أن ترجع إلى بيت مال المسلمين؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.

أكل المضطر من الغنيمة قبل قسمتها

أكل المضطر من الغنيمة قبل قسمتها لو أن رجلاً كان في جيش المسلمين فقاتلوا الكفار وغنموا الغنائم، فجاع هذا الرجل جوعاً شديداً قبل تقسيم الغنائم، فهل له أن يأكل منها؛ لأنه بسبب الجوع أشرف على الهلاك، والطعام أمامه من غنائم المسلمين وهو في دار الحرب؟ نقول له: ما دام أنك أشرفت على الهلاك فلك أن تأكل، والدليل القاعدة الفقهية التي استنبطناها واستقيناها من الآيات والآثار: الضرورات تبيح المحظورات، لكن هذه القاعدة ليست على الإطلاق وإنما هي مقيدة، والتقييد هو: الضرورة تقدر بقدرها، فنقول لك: كل من الغنيمة ما يسد الرمق فقط ولا تستكثر؛ لأنك إن استكثرت فقد وقعت في السرقة من الغنيمة.

إسقاط الجنين

إسقاط الجنين لو أن امرأة ولدت طفلاً جميلاً، فأرضعته فجامعها زوجها فحملت وهي ترضع ذلك الطفل، فبعدما خف اللبن، فقالت: لا بأس، سنزيده باللبن الصناعي مع اللبن الطبيعي فبعد يوم أو يومين أو ثلاثة انقطع اللبن، فذهبت إلى طبيبة ثقة، فقالت: إنه سيموت إن لم يرضع منك، ولا تستطيعين أن ترضعيه إلا بأن تنزلي الحمل الذي في بطنك في أسبوع أو في أسبوعين أو في شهر، فوقفت حائرة هل أسقط الجنين أم لا؟ نقول: عندنا قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وقاعدة: الضرورة تقدر بقدرها، فعندي ضرورة حياة الطفل الذي يأكل ويشرب وتعلق قلب المرأة به، والمحظور هو قتل النطفة الموجودة في بطن الأم، فنقول: هذه الضرورة تقدر بقدرها، وقدرها هو: إن لم يبلغ الحمل مائة وعشرين يوماً جاز أن تنزل الجنين ولا شيء عليها، وتبقي على الطفل، أما إن بلغ المائة والعشرين يوماً ونفخت فيه الروح، فأصبح روحاً مقابل روح فلا ضرورة هنا، ولا مجال لتطبيق هذه القاعدة؛ لأن ضرورة حياة الجنين في بطن أمه بعدما نفخت فيه الروح تساوي ضرورة حياة الطفل الذي يرضع من لبن الأم، فلا يجوز أن تنزله في حال من الأحوال.

استخدام اللولب

استخدام اللولب امرأة ولدت ثلاثة في بطن واحدة وعندها من قبل خمسة، ثم إنها ذهبت إلى الطبية الثقة فقالت لها: لا تستطيعين الحمل بعد ذلك، والعزل يمكن أن يحدث فيه التخصيب، وقد تحملين، ويمكن أن تموتي، لكن ركبي (اللولب)، فسألت: هل يحل تركيب (اللولب)؟ قلنا: تركيب (اللولب) محظور من أكثر من وجه: الوجه الأول: لا يركب اللولب لئلا تظهر العورة. الثاني: إذا ركب اللولب فإن المرأة تضطرب عادتها، فإذا كانت العادة خمسة أيام أصبحت تسعة عشر يوماً. الثالثة: إذا كانت الصفرة والكدرة لا تأتيها أصبحت تأتي الصفرة والكدرة. الرابع: التي كانت تطهر بالجفاف أو إذا وجدت القصة البيضاء أصبحت مرة تجد الجفاف ومرة القصة البيضاء. فهذه كلها محظورات بسبب تركيب (اللولب). لكن قالت: إن الطبيبة الثقة قالت: ستموتين إن حملت. قلنا لها: هناك ضرورة ومحظور، الضرورة المحافظة على حياتك، والمحظور تركيب (اللولب)، فقلنا لها: الضرورات تبيح المحظورات، ولك أن تركبي (اللولب)، لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ فإنها مقيدة بأن الضرورة تقدر بقدرها، وقدرها من وجهين: الأول: ألا يقع بصر الطبيبة على ما فوق المحل، يعني: أن تعري المحل الذي يكون فيه (اللولب) فقط، والباقي لا يجوز؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها. الوجه الثاني: ألا يكون تركيب (اللولب) على الدوام ولا على الإطلاق. ومن هنا نقول: تحرم مسألة الربط على الدوام، وإنما تبقى حتى تسترد عافيتها، ثم تقوم بإزالة هذا (اللولب). إذاً: الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورة تقدر بقدرها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - درء المفاسد مقدم على جلب المصالح لقد نهى الإسلام عن مضرة الآخرين، وأصَّل في ذلك قاعدة تندرج تحتها كثير من المسائل العلمية، وهي: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والأدلة على هذه القاعدة ثابتة بالكتاب والسنة، ولها صور من الواقع الذي نعيشه.

بيان القاعدة الفقهية درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

بيان القاعدة الفقهية درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

المعنى العام لقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

المعنى العام لقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإنَّ القاعدة الفقهية تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. والمفسدة: هي التي تلحق بمن وقعت عليه الضرر، وهي مرتبطة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). والمصلحة: هي التي تجلب المنفعة لمن كانت له هذه المصلحة. والمعنى العام للقاعدة كما بينا في القواعد الفقهية: أنه إذا تعارضت مفسدة مع مصلحة فالأولى أن لا ننشغل بالمصلحة، بل الأولى إزالة المفسدة؛ لأن إزالة الضرر أولى من جلب المنفعة؛ لأن إزالة المفسدة أو درءها فيها منفعتان: المنفعة الأولى: عدم وقوع المفسدة. المنفعة الثانية: تركُ المرء سالماً؛ لأن الضر إذا وقع على الإنسان فإنه يعيقه عن كثير من المصالح التي لا بد أن يتقدم لها. ففيها منفعتان: قطع هذه المفسدة التي كانت ستقع، وأيضاً قطع أبواب مفاسد أخرى يمكن أن تجرها هذه المفسدة.

الأدلة على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

الأدلة على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والأدلة على هذه القاعدة العظيمة العريضة التي يندرج تحتها كثير من المسائل العلمية: قول الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]. فالله جل وعلا نهى الصحابة الكرام أن يسبوا الآلهة أو يسفهوا أحلام من يعبد هذه الآلهة، مع أن سب الآلهة الباطلة ممدوح، بل محثوث عليه، وتسفيه أحلام من يفعل ذلك ممدوح، بل محثوث عليه، بل يثاب المرء إذا فعل ذلك، لكن منع الله جل في علاه هذه المصلحة لدرء مفسدة أعظم منها، أو لتعارض مفسدة مع هذه المصلحة، ألا وهي سب الله جل في علاه، فإن من أعظم المفاسد أن يسب الله جل في علاه. ولذلك بين لنا الله جل في علاه قاعدة شرعية لا بد أن نسير عليها طيلة تعبدنا لله جل في علاه، ألا وهي: دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإن كان في سب الآلهة مصلحة فإن دفع المفسدة أولى. ومن الأدلة التي تثبت ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم عموماً: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا). ففي هذا الحديث دلالة على هذه القاعدة العظيمة، ووجه الدلالة: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه منفعة، فسهل فيه وعلقه بالاستطاعة، وأمر بامتثال النهي مطلقاً لأنه مفسدة تجتنب، فالحديث يبين أن الشرع يهتم بالانتهاء عن المنهيات، بدفع المفاسد كلها. فالمنافع فيها التسهيل، قال صلى الله عليه وسلم: (فأتوا منه ما استطعتم)، أما في المنهيات وفي المفاسد قال: (فانتهوا). وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنه وأرضاها وقال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً منه يدخل الناس، وباباً يخرجون منه)، ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فالمصلحة هنا: أن تكون الكعبة كما بنيت على عهد إبراهيم. والمصلحة الثانية: أنه لا يفرق بين الناس، حيث إنَّ أهل مكة كانوا قد جعلوا مصعداً يصعد عليه الشرفاء ليدخلوا الكعبة، لكن الضعفاء أو الفقراء لا يدخلون. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد مصلحة أعظم من ذلك ألا وهي عدم التفريق؛ لأن رب أشعث أغبر عند الله أفضل من آلاف من هؤلاء المعظمين، فقال: (ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس)، والمصلحة العظمى: باب يخرجون منه خشية التزاحم. فهذه مصلحة عظيمة جداً أن تبنى الكعبة على قواعد إبراهيم، لكن نازعت هذه المصلحة مفسدة فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشاهد، والمفسدة هي: حدوث الفتنة وهو ارتدادهم عن الإسلام، فإنَّ أهل مكة كانوا يعظمون الكعبة، ويعظمون الشعائر، فإذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يهدم الكعبة سيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم لا يعظم الكعبة فتحدث الفتنة بينهم، فيرتدون عن الإسلام؛ لأنهم لا يفقهون أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم مصلحة كبيرة جداً، بل سيقولون: لم يعظم شعائر الله جل في علاه، كيف يأمرنا أن نعظم شعائر الله وهو لم يعظم شعائر الله حين هدم الكعبة؟ ومن الأدلة على ذلك: الرجل الذي جاء ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال: اعدل يا محمد! هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، ومن يعدل إن لم أعدل)، وفي رواية قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟! فقام خالد بن الوليد، وقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). فوجه الدلالة في هذا الحديث قوله: (لا، حتى لا يتحدث الناس أن محمداًً يقتل أصحابه) فالمصلحة: كل من تطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحده القتل حتى لا يتجرأ أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما المفسدة: فهي أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، وتحدث مفسدة ناجمة عن ذلك بعدم دخول الناس في الإسلام خوفاً، فيقولون: ما من أحد يكلم هذا الرجل إلا وقتله. إذاً: في قتل هذا المنافق مفسدة وهي تنفير الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقدم درؤها على مصلحة قتله.

تطبيقات قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة

تطبيقات قاعدة درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة

صلاة الجنب من غير اغتسال إذا أدى غسله إلى كشف العورة

صلاة الجنب من غير اغتسال إذا أدى غسله إلى كشف العورة الصورة الأولى: امرأة كانت تسافر في صحراء، فنامت فأجنبت، فأرادت أن تغتسل فلم تجد سترة تستتر بها، وأرادت أن تصلي، وكانت الصلاة قرب سقوط حاجب الشمس. فالمصحلة: الاغتسال والطهارة من أجل الصلاة، والمفسدة: أن تكشف عورتها أمام الأجانب. والحكم الصحيح: أنها لا تغتسل؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. فعندنا مصلحة نجمت، ألا وهي الاغتسال لرفع الحدث من أجل الصلاة، وعندنا مفسدة نازعت هذه المصلحة وهو تعري المرأة أمام الرجال، وفي ذلك من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله جل في علاه. صورة أخرى: قام رجل بين رجال جنباً، وأراد أن يغتسل، وليس ثمة سترة. فالمفسدة هنا: كشف العورة، والمصلحة: الاغتسال من أجل الصلاة. فمن العلماء من خفف فيها وقال: هذه مفسدة خفيفة، فيضع يده على العورة ويغتسل، لا سيما أن بعض العلماء قالوا: العورة القبل والدبر فقط، بل ابن حزم ارتقى وقال: عورة الرجل في الصلاة وخارج الصلاة القبل والدبر، يعني: لو أخذ غصن شجرة فستر القبل وستر الدبر فصلاته صحيحة. والعورة مختلف فيها، هل الورك يدخل في العورة أمْ لا؟ وهل هي من السرة والركبة أم لا؟ والمقصود: أنهم اختلفوا في هذه المسألة؛ لأن المفسدة خفيفة، فالمسألة مختلف فيها، والقول الراجح: أنه يخلع ثيابه، ويستر عورته أو ذكره بيده ثم يغتسل.

بيع المخدرات

بيع المخدرات صورة أخرى: رجل كان يقف على جبل، فيقطع المخدرات ويبيعها، وقلنا له: حرام، قال: اتق الله أما علمت أن الله خلق المنافع للناس، وإني آخذ من هذه المنافع. قلنا: ما هي المنفعة؟ قال: راحة الناس، وأيضاً: استجلاب المال فهو يدر عليَّ الربح الذي أطعم به أولادي. نقول: حكم هذا البيع: أن هناك مفسدة نازعت المنفعة، ألا وهي إفساد الآخرين. والمنفعة كما يقول: أما رأيت الرجل دائماً يرى نفسه قوياً، ويقول: أنا قوي جداً وهو يمشي في الشارع، فيرى شجاعته متمثلة وتتجسد أمامه إذا شرب هذه المشروبات، والأصل في البيع الحل، وهناك تراضٍ بين المشتري والبائع، وقد طبق في البيع كل الشروط والأركان، وفيها منفعة له وللمشتري. والردُّ عليه: أنَّ هذه المنفعة ليست مصلحة بأي حال من الأحوال، فإنه يقف أمام هذه المنفعة مفسدة، فالشريعة جاءت بحفظ خمس كليات منها العقل، وبالمخدرات يزول العقل، فزوال العقل مفسدة تخالف مقاصد الشريعة، والمتعامل بالمخدرات يقع تحت اللعن شرعاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله شارب الخمر)، وشرب المخدرات مثل شرب الخمر. فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والدليل على ذلك بالتصريح من قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، فالخمر فيه منفعة أيضاً، ولكن إثمه أكبر، وقد غلب ضرره على النفع، ولذلك فرع العلماء على هذه القاعدة، فقالوا: إذا تعارض حاظر ومبيح غلب الحاظر على المبيح.

فتح نافذة تطل على عورات الجار

فتح نافذة تطل على عورات الجار صورة أخرى من هذه الصور: رجل يريد أن يفتح نافذة في بيته وهذه مصلحة، ولكن هذه النافذة تطل على نساء غيره، أو على غرفة نوم الرجل مع أهله. فنقول: النافذة منفعة لك، والمفسدة أن تتطلع على عورات الجار، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وإن كانت النافذة في ملكك.

اشتباه الزوجة بأجنبيات

اشتباه الزوجة بأجنبيات صورة أخرى: لو اشتبه على الرجل امرأته، وذلك حين اختفت فبحث عنها أسبوعاً، فدعا الله في السحر، فأتاه الله بخمس نساء كل واحدة تشبه امرأته في الطول والشكل واللون، فلم يعرف امرأته، والأصل في النكاح الحل، والأصل في الأبضاع الحرمة قبل النكاح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (واستحللتم فروجهن بكلمة الله). إنَّ هذه المسألة نظرية لا وجود لها، لكن نريد تطبيق القاعدة فقط. فالمصلحة: أن يعف نفسه ويقع على زوجته، والمفسدة: احتمال أن يقع على واحدة أجنبية ليست بزوجته. فلما اشتبه الأمر نجم عنه مفسدة، وفي هذا الأمر مصلحة، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فليمت دون أن يجامع واحدة منهن. وصلِّ اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سد الذرائع

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - سد الذرائع الأصل في الأشياء الإباحة، لكن المباح قد يؤدي إلى محظور أو محرم، فحينئذ يحكم بتحريم هذا العمل المباح سداً للذريعة، لكن ما حرم سداً للذريعة يباح للمصلحة الراجحة، وإذا اجتمع المبيح والمحرم غلب المحرم.

قاعدة ما حرم سدا للذريعة

قاعدة ما حرم سداً للذريعة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إن الله جل في علاه له صفات الكمال والجلال، ومن أهم صفات الكمال التي يتصف بها الله جل في علاه الرحمة، فإن رحمة الله وسعت كل شيء كما قال ربنا جل في علاه {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش، قال: رحمتي سبقت غضبي). ورأى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تأخذ بطفلها إلى صدرها، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه المرأة تلقي بوليدها في النار؟ قالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بالعبد من هذه بطفلها). فالله أرحم بالعبد من أمه ومن نفسه التي بين جنبيه، ومن رحمات الله التي تتنزل تترا على العباد أن اختار لهم ديناً قويماً، وشرعاً حنيفاً، وهذا الشرع الحنيف يبحث دائما عن المصالح والطرق التي توصل إلى المصالح، فهو يستجلب المصالح بأسرها ويفتح كل الوسائل التي تصل إلى هذه المصالح ويهدي الناس إليها ويحلها للناس. كما جاءت هذه الشريعة الغراء بدرء كل المفاسد وإغلاق الطرق والوسائل التي توصل إلى المفاسد وإن كانت الوسائل مباحة، وإن الله جل في علاه يمنع عن المرء الغنى رحمة به كما في الحديث المختلف في إسناده: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لفسد حاله، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله). فمن حسن الظن بالله جل في علاه أن نعتقد أنه لا يمنع إلا لمصلحة العبد، ولا يحل إلا لمصلحة العبد، وهذا من تمام رحمة الله جل في علاه. وهذا الدين الحنيف جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، ولذلك سنأخذ هذه القاعدة العظيمة التي غالباً ما تكون في الفقه؛ لكن نستخدمها أيضاً في العقيدة ألا وهي: قاعدة سد الذرائع. هذه قاعدة مهمة جداً يستخدمها طالب العلم المجد في مسائل شتى كما سنبين. والذريعة: هي الوسيلة أو الطريق الموصلة إلى مفسدة أو مصلحة، كما قال الشاطبي وغيره: هي مصلحة تؤدي إلى مفسدة، فجاء الشرع بحسم المادة وسد الذريعة وإغلاق كل باب يوصل إلى شر ومفسدة.

الأدلة على قاعدة سد الذرائع

الأدلة على قاعدة سد الذرائع ودليل هذه القاعدة العظيمة من الكتاب ومن السنة: قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]. لا تسبوا الذين يدعون من دون الله والآلهة التي اتخذوها من صنم وحجر وشجر وقمر وشمس، فإن الله جل في علاه منع المسلمين من سب هذه الأشياء، مع أنك لو نظرت لوجدت أن الشرع يرغب في ذلك ويحث عليه، بل هو في بعض الأحايين يكون من الوجوب بمكان، لكن لما كانت المسبة وسيلة إلى مفسدة أعظم منعها الله جل في علاه. ولذلك حسم الله المادة ومنع هذه الوسيلة، وقال: ((لا تسبوا الذين يدعون من دون الله))؛ لأن أتباع الآلهة ينتقمون ممن يسب هذه الآلهة بسب الله. كذلك قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104]؛ لأن اليهود كانوا إذا تكلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- يتكلمون بلحن القول ويقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة، فيسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فمنع الله المسلمين عن هذه الكلمة مع أن التشابه كان في القول فقط مع الاختلاف والافتراق في المقصد، لأن المسلمين لا يقصدون سب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما تشابهت الأقوال وخشي أن تجر المشابهة في الظاهر إلى المشابهة في الباطن منعها الله جل في علاه. ونظر ابن القيم لهذه الذريعة من وجهة أخرى، قال: وأيضا هي هذه ذريعة ووسيلة إلى أن اليهود يقولون: نفعل مثل ما يفعل المسلمون ومثل ما قال المسلمون، وتكون ذريعة لهم، ليستبيحوا هذا الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم. والدليل الثالث: قول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]. فإن الله جل في علاه منع المرأة أن تضرب بالأرجل حتى لا يسمع الرجال صوت الخلخال فيفتنوا بهذه المرأة، وإن كان الأمر مباحاً ليس محرماً وليس بعورة؛ لكن هو يدل على العورات الخفية، فلما كان وسيلة لفتنة الرجال بالنساء منع منه الله. والدليل من السنة: حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ولا يبع على بيع أخيه). نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخطبة مع أن الأصل فيها الإباحة؛ لأنها تؤدي إلى مفسدة عظيمة؛ ولأن الأصل في التشريع المودة والتلطف والتواد والتحابب بين المسلمين، فلما كانت هذه الخطبة وسيلة إلى نشر البغضاء والتحاسد والحقد بين أفراد المجتمع منع الله هذه الوسيلة حفاظاً على قلوب المسلمين. ومن هذه الأدلة التي يستدل بها العلماء على هذه القاعدة العظيمة الإجماع السكوتي على مسألة قتل الجماعة إذا تكالبوا وقتلوا واحداً. فالقصاص من رجل لرجل، أما من الجماعة لرجل واحد فلا دليل على أن يقتلوا جميعاً، فلما عرضت المسألة على عمر رضي الله عنه وأرضاه فقال: لو تكالب عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، وهذا فيه إجماع سكوتي، فاستنبط العلماء من ذلك دليلاً على سد الذريعة فقالوا: إننا لو رفضنا فلم نقتل أحداً منهم وقبلنا الدية لهذا المقتول؛ لتكالب كل جماعة يحقدون على أحد من أفراد المجتمع فيقتلونه ويدفعون الدية مقابل هذا الدم. فسداً للذريعة وحفظاً للدماء قال عمر رضي الله عنه وأرضاه مقولته المذكورة، وما خالف عمر في هذه القضية أحد، فأصبح ذلك إجماعاً سكوتياً، واستدل به العلماء على هذه القاعدة العظيمة.

تطبيقات قاعدة سد الذرائع

تطبيقات قاعدة سد الذرائع

الغلو في الأنبياء والصالحين

الغلو في الأنبياء والصالحين تعمل هذه القاعدة العظيمة في العقائد، وأولها ورأسها وركنها وأساسها: عدم الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في الأولياء. ورأس هذه المسألة حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله). فجمع بين منزلة العبودية ومنزلة الرسالة، وهذا ليس غلواً ولا إفراطاً ولا تفريطاً بل إن هذا حديث عظيم نعمل به، فلا نرفعه لمقام الربوبية ولا ننزل من قدره عن مقام الرسالة. فهذه -كما قلت- صورة من صور سد الذرائع، فليس لك أن تغلو في رسول الله وترفعه عن مقام النبوة، وهذا يظهر جليا في قول القائل عندما قال: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهذا غلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رفع مكانه إلى مكان الربوبية، وعندما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت السيد، قال: (إنما السيد الله) وقالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا فقال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان). فلا يصح أن نقول: إنه يعلم الغيب، أو يتحكم في بعض الأفلاك، أو له الشفاعة عند الله جل في علاه بدون إذن الله، والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى) قاعدة سد الذريعة؛ لأن الغلو في رسول الله يصل بالمرء إلى أن يرفعه من مقام العبودية إلى مقام الربوبية. وتعمل هذه القاعدة في الصلاة في المساجد التي فيها قبور، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته قال: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) ونهى عن الصلاة في المقبرة أو المسجد الذي فيه القبر، فهذا النهي جاء سداً للذريعة. وقد يسأل السائل طالب العلم: أي ذريعة يسدها النبي صلى الله عليه وسلم في منعه للصلاة في المسجد الذي فيه القبر؟ و A الذريعة هي ذريعة الشرك ومخافة أن يحدث الغلو في المقبور، وأن يعتقد فيه اعتقاداً باطلاً شركياً.

بيع ملابس التبرج للنساء

بيع ملابس التبرج للنساء أما بالنسبة للمعاملات فمن صور تطبيق هذه القاعدة: إذا جاءت المرأة تشتري الذهب والحلي من الصائغ أو بائع الذهب أو تشتري الملابس لتتزين لزوجها، فهذا البيع محرم سداً للذريعة؛ فإذا علم التاجر أنها ستتزين وتخرج أمام الرجال فتفتنهم فإن بيعه محرم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت فتنة أضر على الرجال بعدي من النساء). فالملابس التي تتبرج بها المرأة وإن كانت حلالاً في ذاتها، لكنها تؤدي وتوصل إلى مفسدة، فلذلك حسم الشرع المادة ومنع هذا البيع.

السفر إلى بلاد الكفار

السفر إلى بلاد الكفار ومن الصور التي تطبق فيها هذه القاعدة: السفر إلى دار الكفر: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء ممن جلس بين أظهر المشركين). فإذا جاء رجل يريد أن يسافر إلى أمريكا فتقول له: السفر إليها حرام. فإن قال لك: لم يحرم الذهاب إلى هذه البلاد مع أنها مباحة، فإن الأرض أرض الله؟ تقول: يحرم سداً للذريعة وحسماً للمادة، فإن كان السفر إلى هذه البلاد مباحاً في نفسه لكنه سيؤدي إلى محرم وإلى محظور شرعي، ألا وهو أن تتآلف مع أهل الكفر فتواليهم، وأيضاً التأثر بصفات وخلال أهل الكفر، وهذا مما يفسد عليك دينك، فهذه مفسدة عظيمة من أجلها منعنا عنك هذا المباح، فلا يجوز لك أن تسافر إلى ديار أهل الكفر. أيضاً من هذه الصور التزيي بزي أهل الكفر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكفر وقال منكراً: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟). ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار وقال: (من تشبه بغيرنا فليس منا). وما ذلك إلا أنك إذا لبست لباس أهل الكفر يحدث التمييع في العقيدة، وأروع ما يستدل به على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، فما ظهر من الإنسان قد يصل إلى قلبه.

ما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة

ما حرم سداً للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة أي: إذا منعنا أمراً محرماً؛ لأنه يؤدي إلى محرم أبحناه للمصلحة الراجحة. والأمثلة على ذلك: أن النظر إلى المرأة حرام، والمفسدة هي الفتنة بهذه المرأة. فإذا منع النظر للنساء لأنه يؤدي إلى الزنا، فإننا نبيح النظر إلى النساء إذا وجدت المصلحة الراجحة، كأن تكون امرأة مريضة وجهها فيه مرض، فلابد أن يكشف الطبيب عليها بأن ينظر إلى موضع العلة وينظر إلى الوجه، فأبيح النظر إلى المرأة للمصلحة الراجحة وهي: علاج المرأة. ومن صور هذه القاعدة العظيمة أيضاً: ارتداء المرأة للحلي ولبس المرأة للخلخال والضرب برجلها في الأرض، فهذا يجوز للمرأة للمصلحة الراجحة في ذلك وهي: التزين للزوج. ومن صور هذه القاعدة العظيمة الصلاة في المسجد النبوي. وأنا قصدت هذه القاعدة بالذات من أجل هذا الأمر؛ لأنه ظهر على الساحة كثير ممن ينكرون على من ينكر الصلاة في القبور فيقول: إن عندكم قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي، فكيف تصح الصلاة فيه؟ فنقول لهم: المنع من الصلاة في المسجد الذي فيه قبر ليس منعاً لذاته ولكن لغيره، أي لما يؤدي إليه وهو الخوف من الشرك، وهناك مصلحة أعظم من هذه المفسدة المظنونة، وهذه المصلحة هو أن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، وهذه المصلحة لا تجدها في أي مسجد آخر إلا المسجد الحرام، فهذه مصلحة أعظم وأرجح. فنقول: المنع كان خوفاً من مفسدة فيباح من أجل المصلحة الراجحة، وهي أن الصلاة بألف صلاة. وأيضاً نقول: الخوف من الشرك في المسجد النبوي بالذات ممنوع كوناً وشرعاً، أو قل: قدراً وشرعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب. وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم نهى وقال (لا تجعلوا قبري عيدا) فالخوف من الشرك ممنوع شرعاً وقدراً، فهذه المفسدة منتفية.

إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر

إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر

معنى القاعدة وأدلتها

معنى القاعدة وأدلتها آخر قاعدة مهمة جداً وهي فرع من القاعدة السابقة؛ قاعدة: إذا اجتمع حاظر ومبيح قدم الحاظر على المبيح. والمعنى: إذا جاء دليلان ظاهرهما التعارض أحدهما يحرم والآخر يبيح غلبنا الذي يحرم على الذي يبيح؛ عملاً بالورع والاحتياط. أدلة القاعدة من السنة: ما جاء في الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه). واتقاء الشبهات أن تحرم هذا الأمر المشتبه فيه أو تمنع نفسك عنه. أيضاً من أدلة هذه القاعدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك). والحديث الثالث الذي نستدل به على هذه القاعدة: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (قلت: يا رسول الله! أرسل كلبي وأسمي، فأجد معه على الصيد كلباً آخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكل؛ إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر)

تطبيقات قاعدة تغليب الحظر على الإباحة

تطبيقات قاعدة تغليب الحظر على الإباحة صور هذه القاعدة كثيرة جداً: منها: امرأة سافرت مع رجال فيهم محارمها وغير محارمها، فطهرت من الحيض، فلابد أن تغتسل، فلم تجد ما تستر به جسدها وهي تريد الصلاة، فإن اغتسلت تكشفت أمام الرجال وهذه فتنة، وإن تركت لم تصح صلاتها. وهناك دليل يوجب عليها الغسل، ودليل آخر يحرم عليها التكشف أمام الرجال، فلابد أن تطبق القاعدة: إذا اجتمع حاظر ومبيح نقدم أو نغلب الحاظر على المبيح، فنقول لها: لا تغتسلي ولا تتكشفي، ولها أن تتيمم وتصلي. وهذه المسألة فيها تفصيل فقهي آخر لسنا بصدد الكلام عليه، لكن هنا نغلب الحاظر على المبيح. ومن صور هذه المسألة أيضاً: رجل كانت امرأته تشبه نساء أخريات، فأراد أن يطأ امرأته فوجدها قاعدة بين شبيهات من النساء، فالدليل الذي يحرم يغلب على الدليل الذي يبيح فنقول: نغلب الحاظر على المبيح، فلا يجوز لك أن تطأ أي امرأة، بل تتركهن جميعاً بما فيهن الزوجة، ولا يجوز لك أن تطأ أي امرأة. أيضاً من صور هذه المسألة: الشرب قائماً: فالأدلة التي تبيح ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائماً من ماء زمزم، وأيضاً أوضح من ذلك شرب النبي من شن معلقة قائماً ولم يجلس. والدليل المحرم هو قول النبي صلى الله عليه وسلم (من شرب قائما فليستقئ). وأيضاً: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل كان يشرب قائماً: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ قال: لا. قال: يشرب معك من هو أشر منه الشيطان). وهذا فيه دلالة على التحريم والأدلة على التحريم كثيرة فاجتمع الحاظر والمبيح عند من لا يعمل بقاعدة إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، فيغلب الحاظر على المبيح فيقول: يحرم الشرب قائماً، والحاظر يكون أقوى؛ لأن الأصل في العبادة الحيطة، ولابد للمرء أن يلتزم في كثير من أحيانه الورع. أيضاً من صور هذه المسألة: استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط: ويتجاذب هذه المسألة دليل مبيح ودليل حاظر؛ فالدليل المبيح هو حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه (رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبلاً بيت المقدس ومستدبر الكعبة). والحديث الحاظر حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط، ولكن شرقوا وغربوا) فنغلب الحاظر، فلا يجوز استقبال القبلة أو استدبارها ببول أو غائط. أيضاً من هذه الصور: إذا دخل الرجل في بلاد الكفر فوجد اللحوم متكاثرة متناثرة؛ لحم غنم ولحم بقر ولحم خنزير ولم يستطع أن يفرق بينها، فنقول: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وطبق القاعدة، فلا يأكل من أي نوع من الأنواع. فإذا اجتمع حاظر مع مبيح غلبنا الحاظر، فإذا اجتمع مال حلال مع مال حرام غلبنا حكم الحرام، فإذا غلبنا حكم الحرام قلنا: لا يجوز لك أن تتعامل معه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخروج من الخلاف مستحب

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الخروج من الخلاف مستحب الخروج من الخلاف مستحب حيث كان الخلاف معتبراً، وذلك مما ينشر الألفة والمودة، ولكن الخروج من الخلاف لا يكون إلا إذا لم يؤد إلى ترك سنة أو خرق إجماع.

فضل العلم وأهله

فضل العلم وأهله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إن شرف العلم والعلماء عظيم، ولذلك قال الحسن البصري: لولا العلماء لكان الناس كالبهائم. وقال: علي بن أبي طالب رضي عنه وأرضاه مقسماً الناس إلى ثلاثة أقسام: الناس ثلاثة: عالم رباني, وعالم أو متعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع لم يستضيئوا بنور العلم، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح. وأيضاً قال ابن مسعود: كن عالماً أو متعلماً أو محباً لأهل العلم، ولا تكن الرابع فتهلك. وقد قسم علماؤنا الناس إلى أقسام أربعة: القسم الأول: عالم يعلم أنه عالم، فذاك عالم فاسألوه واستفيدوا من علمه، فهو يعلم أنه عالم، وليست ذلك منه مراءاة وحباً للظهور. القسم الثاني: عالم لا يعلم أنه عالم، فذاك ناس فذكروه، لتستفيدوا مما عنده. القسم الثالث: جاهل يعلم أنه جاهل، فذاك جاهل فعلموه. القسم الرابع: جاهل لا يعلم أنه جاهل، فذاك أو سفيه فاتركوه، وهذا الجهل هو الجهل المركب الذي قال فيه بعض الناس: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الناس كنت أركب فإنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب وهو الذي عنده المفاهيم المغلوطة، أو ليس عنده شيء من العلوم، ويدعي أن عنده من العلوم نصيباً، نعوذ بالله من الخذلان.

كيفية الأخذ بالأحوط

كيفية الأخذ بالأحوط قاعدة الاحتياط هي أنه إذا اجتمع حاضر ومبيح غلب الحاضر على المبيح. والاحتياط يذكر في أبواب العبادات كثيراً، فتجد كثيرا ًمن المفتين من علمائنا ومشايخنا وأصحاب الفضل علينا إذا سألته مسألة قال لك: الأحوط أن تفعل كذا، فنجم عن هذا سؤال، وهو: ما الأحوط، أو كيف أصل إلى الأحوط؟ أقول: إن الحيطة أو الأحوط إما أن يكون في مجال الطلب أو في مجال النهي: فأما الأحوط في مجال الطلب فهو الفعل. وأما الأحوط في مجال النهي فهو الترك. ومثال ذلك: مسألة الوضوء من أكل لحم الجزور، فإنه قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً ورد حديث جابر الذي يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوضأ مما مست النار في آخر الأمرين، وهذا هو الحديث الناسخ على قول الجمهور. لكن يحب الوضوء من أكل لحم الجزور عند الحنابلة، والاحتياط هنا في مجال الطلب، فالأحوط هنا أن تتوضأ إذا أكلت من لحم الجزور حتى ولو كنت ترجح قول الجماهير أنه لا وضوء من أكله. وأما في مسألة النهي فالترك هو الأحوط، فإذا تردد الأمر بين أن يكون مكروهاً أو محرماً فالترك هو الأحوط.

الخروج من الخلاف مستحب

الخروج من الخلاف مستحب

أدلة استحباب الخروج من الخلاف

أدلة استحباب الخروج من الخلاف سنتكلم هنا على قاعدة: (الخروج من الخلاف مستحب) إذا نجم خلاف بين العلماء على مسألة من مسائل الدين، سواء كان الخلاف على أن هذا واجب أو مستحب، أو على أن هذا محرم أو مكروه، فهل يكون الخروج من الخلاف مستحباً أو لا؟ إن هذا الخروج من الخلاف هو الذي ينشر المحبة والتآلف بين العلماء وبين الفقهاء، بل وبين طلبة العلم، فيكون الخروج من الخلاف مستحباً. إن هذه القاعدة استقاها بعض العلماء من الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم). فيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم أراد نشرا لتآلف بينه وبين أهل مكة في الإسلام؛ حتى لا يفتن أحدهم بهذا الفعل، فلم يفعل ذلك مع أن المستحب للنبي صلى الله عليه وسلم أن تكون الكعبة على قواعد إبراهيم. لكن الاستدلال بهذا الحديث فيه بعد، وأولى من ذلك الأحاديث التي وردت عن الصحابة الكرام: فعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه سافر مع عثمان فأتم عثمان الصلاة متأولاً، مع أنه كان له أن يقصر في السفر، ولكنه لما سافر إلى مكة أتم الصلاة، وكان ابن مسعود يرى أن القصر هو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه أتم الصلاة مع عثمان، فلما قيل له في ذلك قال: الخلاف شر كله. فلم يخالف عثمان بل صلى متماً حتى ينحي الخلاف جانباً، وهذا من ابن مسعود إظهار لقاعدة استحباب الخروج من الخلاف. وكذلك فإن الإمام أحمد قعد هذه القاعدة واقعاً، وذلك عندما سئل عن رجل يصلي بالناس إماماً فنزلت من أنفه الدماء، فهل يُصلي خلفه، أو يجب الخروج من الصلاة؟ وكان الإمام أحمد يرى أن الرعاف مبطل للوضوء، وعليه فيجب على صاحبه أن يخرج من الصلاة، ثم يذهب فيغسل عنه الدم ويتوضأ، وبعد ذلك يستأنف, ولكنهم لما سألوه عن ذلك قال لسائله: أرأيت ابن المسيب ومالكاً إذا صلى تصلي خلفه؟ قال: نعم. فقال أحمد: مالك وابن المسيب يقولان بذلك، وأباح للمصلي أن يصلي خلف من يتبنى هذا المذهب؛ لأن الخلاف شر كله. وأيضاً الإمام أحمد جاءه رجل وقال: أرأيت الرجل يقنت في الفجر أصلي خلفه أم لا؟ قال: يا بني: أرأيت الشافعي إن كان يصلي أتصلي خلفه؟ قال: نعم. قال: إن الشافعي يقول بذلك. وهذه دلالة على أن الخلاف المعتبر لا يفسد للود قضية. ونذكر هنا قصة تبين مدى تقدير العلماء وطلبة العلم للعلم وأهله: وذلك أن الإمام الشافعي كان إذا رأى بعض تلامذته قد خالفه في مسألة قال له: أما علمت أن الخلاف لا يفسد للود قضية؟ وأيضاً الإمام الألباني فهو علم من أعلام الشام، بل ومحدث الديار الشامية، رحمة الله عليه من جبل، وحفظ الله من بعده كالشيخ أبي إسحاق وغيره من الذين يسدون مسد الشيخ ويدافعون عن السنة. والشيخ الألباني كان شديداً في مسألة الإرسال والقبض بعد الرفع من الركوع، فهو يرى أن السنة هي الإرسال، ويرى وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع من البدعة، وهو يتبنى القول بالإرسال، وحصل أن صلى خلف الإمام ابن باز، والشيخ ابن باز رحمة الله عليه كان يرى أن السنة القبض لا الإرسال، وكل منهما له دليل، وهما لا يتكلمان بالهوى، بل يريدان وجه الله جل في علاه، وكل مجتهد مصيب للأجر. والألباني معروف من هو على من يخالفه! ومع ذلك لما صلى خلف الإمام ابن باز كان إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قبض الألباني مع أنه يرى أن القبض بدعة، ومع ذلك قبض اتباعاً لإمامه، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) على أن هذه اجتهاد منه ومن الشيخ ابن باز والحق مع واحد من الاثنين، فقال الألباني: الخلاف شر كله، وفعل كما فعل ابن مسعود مع عثمان وأتم الصلاة خلف عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

انقسام الخلاف إلى خلاف تنوع وخلاف تضاد

انقسام الخلاف إلى خلاف تنوع وخلاف تضاد الخلاف على نوعين: خلاف تنوع، وخلاف تضاد. أما خلاف التنوع فهو أيضاً على نوعين: خلاف الأولوية, وخلاف الراجح والمرجوح, وسنفصل هذه الأنواع كلاً على حدة.

خلاف التنوع

خلاف التنوع

معنى خلاف التنوع

معنى خلاف التنوع أولاً خلاف التنوع: وتعريفه الدقيق: هو ما ينجم عن دليل. يعني: أن كل قول من الأقوال له دليل في المسألة، فمثلاً مسألة استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة اختلف العلماء فيها: فبعض العلماء يقول: لا يجوز مطلقاً، وبعض العلماء يقول: إننا نفرق بين البنيان وغير البنيان، وكل له دليل على ما يقول. ومثلها كما سبق مسألة الوضوء من أكل لحم الجزور، فالجماهير يرون أنه لا وضوء على من أكل لحم الجزور، والحنابلة يرون أن الوضوء لازم على من أكل لحم الجزور، وكل له دليل، فيكون الخلاف هنا خلاف تنوع؛ لأن كل إنسان منهم معه دليل. وهذا الخلاف سنة كونية لا يمكن أن نقطعها بحال من الأحوال, فلا يصح أن يقال: توحدوا على قول واحد، فإن الله تعالى قال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود:118] وكان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقيم الليل يدعو الله جل في علاه: (اللهم اهدني لما اختلف فيه من بإذنك). فهو يعلم أن الخلاف وسنة كونية لها حكم عظيمة جداً، والله جل وعلا يفرق بين المختلفين، ولا يسوي إلا بين المتماثلين. وهناك عالم يسهر ليله، ويتعب نفسه، ويجتهد في السماع والقراءة والتأمل، ويسافر في البلاد ليسمع المعلومة ويتعلم المسألة، وهناك آخر جالس على سريره، فالفرق بينهما بعيد، والله قد يفاوت بين الناس في هذه المسائل حتى يبين مرتبة الأول من مرتبة الثاني، وفي هذا حكمة عظيمة جداً يجليها لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

خلاف الأولوية

خلاف الأولوية وهذا النوع من الخلاف على قسمين: الأول خلاف الأولوية: وذلك بأن يصح للإنسان أن يعمل بقول العالمين أو بقول الطائفتين، لكن قول طائفة يكون أولى أو أعظم أجراً من قول الطائفة الأخرى. وبالمثال يتضح المقال: فمسألة صلاة الوتر اختلف العلماء في أي أوقاتها أفضل؟ هل في أول الليل، أو نصف الليل، أو ثلث الليل الآخر؟ فبعض العلماء قال: أول الليل أفضل أوقات الوتر، ويستدلون على ذلك بأحاديث منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (أوصاني خليلي بثلاث وذكر من الثلاث: أن لا ينام حتى يوتر) فقالوا: هذا هو أفضل أوقات الوتر. وبعض العلماء يقولون: ثلث الليل الآخر هو أفضل أوقات الوتر، والدلالة على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). وجاء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما روته عائشة فقالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر من أول الليل وأوسط الليل وأوخر الليل). والخلاف هنا خلاف أولية، فلك أن تأخذ بالأول أو بالثاني أو بالثالث؛ لأن كل عالم أو كل طائفة لها دليل، والخلاف هنا خلاف في أيها أولى وأعظم أجراً: صلاة الوتر في أول الليل أو وسطه أو آخره؟ ومثل ذلك ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ثمان ركعات، وبعضهم روى أنه كان يصلي ركعتين، وبعضهم قال: بل يصلى أربع ركعات. وكل قول له دليل، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين وصلى أربعاً، والخلاف إنما هو في صلاة ثمان ركعات صلاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة هل كانت تلك صلاة الضحى أم صلاة الفتح؟ حصل هنا خلاف لسنا بصدده الآن. إذاً: خلاف التنوع الأولوي: هو أن تعمل بكل قول كيفما شئت، لكن الأعظم في الأجر أن ترتب ذلك العمل على الراجح من الأدلة.

خلاف الراجح والمرجوح

خلاف الراجح والمرجوح أما النوع الثاني من خلاف التنوع فهو: خلاف الراجح والمرجوح: وهذا تكون فيه المناصحة، فلا بد أن يكون الحق هنا مع واحد من الاثنين؛ لأن الحق لا يتعدد خلافاً لمن قال بأنه يمكن أن يكون الحق مع كل مفتٍ، فهذا خطأ فاحش، بل الحق واحد عند الله لا يتعدد، كما قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]. ولذلك اختلف العلماء في مسائل مهمة جداً، منها مسألة الشرب قائماً، فقد اختلف العلماء في الشرب قائماً، واختلفوا في مسألة استقبال القبلة عند الغائط, واختلفوا في الوضوء من لحم الجزور، اختلفوا في التسمية على الوضوء هل هي واجبة أو ليست واجبة، وهل هي شرط في صحة الوضوء أم ليست شرطاً في صحة الوضوء؟ فالحق مع واحد من الاثنين، فعلى طالب العلم الأريب الفقيه اللبيب أن يبحث عن القول الذي يلتزم بالدليل، ويصحح الدليل، ويعرف كيف يستنبط الحكم من الدليل. فإن كان المرء يعلم كيف يفصل بين القولين فحيا هلاً به، فقد ارتقى مرتبة عالية, وإن لم يستطع أن يفرق بين القولين، فلا بد أن يلتزم بالعالم الذي علم منه أنه يتحرى السنة ويلتزم بها ويطلع كثيراً ولا يكف عن الطلب؛ لأن هذا يكون أوفر حظاً في التوفيق من غيره, فهذا النوع من الخلاف وإن كان خلاف تنوع، لكنه فيه راجح ومرجوح. وكذلك مسألة الزواج من المرأة الكبيرة البكر دون ولي، فهل لها أن تزوج نفسها أم لا؟ وهذا الخلاف خلاف معتبر، والخلاف المعتبر لازمه أن يترك المرجوح ويؤخذ الراجح. والخلاف المعتبر لا إنكار فيه، وإنما فيه التناصح فقط، والمناظرة تناصح كما وقع بين الشافعي وأحمد في مسألة تكفير تارك الصلاة، وعلماء الشام لا يقولون بتكفير تارك الصلاة، وعلماء الحجاز يقولون بتكفير تارك الصلاة، وهذا الخلاف لا يفسد للود قضية، وهو خلاف معتبر. ولما دخل الشافعي على أحمد -إن صحت القصة- فقال له يا أحمد: ماذا تقول في رجل لا يصلي؟ قال: كافر. قال كيف يدخل الإسلام، قال: يقول: لا إله إلا الله. فقال لـ أحمد: أرأيت إن كان يقول لا إله إلا الله! فأخذ أحمد حذاءه وذهب. ومعناه أنه قبل كلام الشافعي، بل لعله خشي أن يصل النقاش إلى الجدال. ولم ينكر الشافعي على أحمد، فـ الشافعي هنا يناصح ويناظر الإمام أحمد، والحق مع واحد من الاثنين, فالخلاف المعتبر فيه المناصحة والمناظرة، وليس فيه الإنكار، وهو لا يفسد للود قضية. فإن قيل: أنتم تقولون: إن الحق واحد، وإن الخلاف المعتبر فيه التناصح لا الإنكار، فما دليلكم؟ ف A قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]. وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بعث سرية وقال لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فقال قوم: أمرنا الرسول أن لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال قوم: لا والله إنما أمر الرسول أن نحافظ على صلاة العصر فلا يخرج وقتها. فصلى أناس في الطريق، وأناس تمسكوا بظاهر أمر النبي وصلوا في بني قريظة، فلما قصوا على النبي صلى الله عليه وسلم القصة أقر الفريقين. فهذا دليل على أن الحق متعدد، فهو مع الطائفة التي صلت في بني قريظة، وهو أيضاً مع الطائفة التي صلت قبل أن تصل إلى بني قريظة، ونحن قلنا: إن الحق واحد، فما هو حل الإشكال الظاهر هنا؟ الجواب على ذلك: أن إقرار النبي هنا لم يكن إقراراً على أن الحق متعدد، بل هو إقرار على أن كل طائفة لها أجر، وهذا هو محل النزاع. فإقرار النبي كان على اجتهادهم، فلم ينكر اجتهاد هذه الطائفة ولا تلك الطائفة، وليس فيه إقرار على أن الحق متعدد، بل الحق مع الذين صلوا في بني قريظة؛ لأنهم عملوا بظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم, وأما الذين اجتهدوا بالاستنباط وقالوا: إن أمر النبي له معنى وحكمة، وهو تعجيل الخروج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على اجتهادهم لا على أن الحق معهم، وكل مجتهد من الطائفتين مصيب للأجر، هذا هو الراجح في الرد على هذا الإيراد. إذاً: خلاف تنوع لا يكون فيه الإنكار، بل فيه المناصحة والمناظرة، وهو لا يفسد للود قضية.

خلاف التضاد

خلاف التضاد القسم الثاني: خلاف التضاد: وهذا لا بد أن يكون فيه الإنكار، وهو الذي لا ينجم عن أدلة، بل يكون مضاداً لقول معه دليل من الكتاب أو من السنة، لكن صاحبه قال به إما تعصباً للمذهب أو تعصباً لشيخ أو تعصباً لإمام. والفاصل في ذلك هو ما عبر عنه بعض العلماء بقولهم: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وقول كل سفيه ومثال هذا الخلاف: الخلاف في مسألة الرمي قبل الزوال: والرمي قبل الزوال ليس عليه دليل من كتاب ولا من سنة وانفرد بالقول به عطاء، أما الأدلة بأسرها فهي تثبت أن السنة هي الرمي بعد الزوال، ولا أدري عن الذين أفتوا بهذه الفتوى من أين أتوا بالأدلة التي تعضد قولهم في ذلك. وإن كانوا قد قالوا: إن مقاصد الشريعة توجب القول به؛ حتى لا يموت الناس، قلنا: والله لو أفتيتم بأنه يجوز امتداد وقت الرمي إلى الفجر أو إلى غروب الشمس لقلنا بأنه يمكن أن يكون القول به أوفر حظاً وأقرب إلى الأدلة والآثار من هذه الفتوى التي لا دليل عليها, فإن ابن عمر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحين الزوال حتى يرمي الجمرة)، ورسول الله كان كما وصفت عائشة: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً). بعد هذا هل يكون الأيسر على الناس أن يمشوا بعد الفجر فيرمون ويعجلون دون أن يجلسوا في منى ويحدث الرخام الشديد، أو أن ينتظر الناس بعد زوال الشمس فيرمون؟ A أن الأيسر في نظرنا أن يكون بعد الفجر قبل الزوال، وسبق أن الرسول يختار الأيسر مراعاة لروح الشريعة ومقاصدها، فما جعل الله حرجاً في الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا) وهو قد اختار الأيسر لنا، فهو أرحم الأمة بالأمة، لكن نقول: إنه وإن كان التيسير عندنا الرمي قبل الزوال، لكن الرسول يعلم أن الناس سيأتسون بفعله، فهو الذي يقول: (خذوا عني مناسككم)، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الرمي قبل الزوال وفعله بعد الزوال أدركنا أن ذلك هو الأيسر. والمراد من هذا أن خلاف التضاد لا يمكن القبول بالقول الثاني الذي لا دليل عليه، ولا بد من رده وإنكاره؛ لأنه مصادم لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم وصريح فعله، أما قوله فإنه قال: (خذوا عني مناسككم)، والأمر يدل على الوجوب، وأما فعله: فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال، فخلاف هذا القول هو خلاف تضاد، لا بد فيه من الإنكار. وبهذا التقسيم حصرنا قاعدة (الخروج من الخلاف مستحب) وأن ذلك يكون في خلاف التنوع لا في خلاف التضاد.

تطبيقات على مسألة الخروج من الخلاف

تطبيقات على مسألة الخروج من الخلاف إن أمثلة هذه القاعدة كثيرة جداً نذكر بعضها.

التسمية قبل الوضوء

التسمية قبل الوضوء يستحب للمرء أن يسمي الله قبل أن يتوضأ؛ لأنه قد نجم الخلاف بين العلماء ولكل دليله: فالحنابلة يقولون بوجوب التسمية عند الوضوء؛ عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه). وأما الجماهير فيرون أن التسمية ليست واجبة بل مستحبة. فخروجاً من الخلاف نقول: سم الله؛ لأنك ستوافق وترضي الطرفين، فإن سميت قال الإمام أحمد: قد أجرت، وقال الأئمة الثلاثة: قد أجرت, فهما قد اتفقا على الأجر، وافترقا والمعنى. فيقول الفقيه: اخرج من الخلاف، وسم الله عند الوضوء؛ لأن الخروج من الخلاف مستحب، فالأجر عند الحنابلة والجمهور حاصل، ولكن الأجر الذي يقصده الحنابلة أعظم من الأجر الذي يقصده الجمهور؛ لأن الأجر الذي يقصده الحنابلة هو الأجر على الواجب، وأما الأجر الذي يقصده الجمهور فهو على مستحب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه) فالفرض أحب إلى الله وأعظم أجراً من النفل.

المضمضة والاستنشاق عند الغسل

المضمضة والاستنشاق عند الغسل المضمضة والاستنشاق عند الغسل حصل الخلاف فيهما بين العلماء: فالأحناف يرون وجوب المضمضة والاستنشاق عند الاغتسال، والجماهير لا يرون ذلك على خلاف بينهم مع الحنابلة. فينبغي أن يقال: إذا اغتسلت فمضمض واستنشق لتخرج من الخلاف، فإنك إن لم تفعل ذلك فأنت عند الأحناف لم تغتسل غسلاً يجزئ، وإن كنت عند الجمهور قد اغتسلت غسلاً يجزئ، فالأفضل أن تخرج من الخلاف، فالخروج من الخلاف مستحب، وحينها ستكون باتفاق المختلفين قد اغتسلت غسلاً تؤجر عليه ويجزئ في أداء العبادة. مسألة الاستصناع هي: أن تعطي رجلاً مالاً مقابل بناء البيت لك، فهو لا زال يبني الأساس وأنت تعطيه قيمة البناء الذي لم يتم بعد. وقد علمنا أن السلم له شروط: منها أن يكون لأجل معلوم، يعني: أن يتفق المتعاقداه على أن تُستَلم الشقة مثلاً بعد سنة، أو بعد سنتين، بوصف معلوم وكيل معلوم، أو وزن معلوم، وأيضاً السلم أن يدفع كل المال مقدماً، فمن اشترى هذه الشقة التي لم تقم بعد وقع في هذا الخلاف. أما الأحناف فيرون أن الاستصناع يكون في الشيء الغائب الذي يستصنعه الإنسان، فيرون أنه عقد مستقل ويصح فيه أن تعطي القيمة مقدماً أو أن تؤخر. وأما عند الجمهور فلا يصح ذلك إلا بشروط السلم؛ لأنه سلم ناقص الشروط، فبيع الغائب والمعدوم لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبع ما ليس عندك). ولكن وردت الرخصة في السلم؛ السلم، قالوا: فإذا أجزنا الاستصناع فلا بد أن نعامله معاملة السلم بشروطه، فيدفع المال كله مقدماً. فيقال للحائر في هذا الخلاف: أرح نفسك من الخلاف، وإذا أرت هذه الشقة فادفع المال كله مقدماً وخذ الضمانات الكفيلة التي تستطيع أن تأخذها عليه، وتكون بذلك قد خرجت من الخلاف؛ لأن الخروج من الخلاف مستحب، فإن فعلت ذلك لا يلومك الأحناف ولا الجمهور، لكنك لو أخذت بقول الأحناف قال الجمهور: العقد باطل.

الخلاف في طهارة المني

الخلاف في طهارة المني اتفق الفقهاء جميعاً على أن من غسل منيه من ثوبه فإنه قد فعل حسناً، فليس أحد يقول: لا تغسله، وإنما وقع النزاع في طهارة المني من عدمها، فالأحناف على نجاسة المني, والجماهير على طهارة المني. وأنت إذا غسلت الثوب منه تكون قد وافقت الجماهير؛ لأنهم لن يلوموك على الغسل بل يقولون: قد فعلت الأفضل، ولن يلوموك على ذلك والأحناف كذلك، بل سيقولون: قد أتيت بالواجب عليك، فتكون قد خرجت من الخلاف, والخروج من الخلاف مستحب.

تغطيه وجه المرأة

تغطيه وجه المرأة اختلف العلماء هل يجب على المرأة تغطيه وجهها أم لا؟ فالمعاصرون مثلاً من أهل الشام قالوا: ليس بواجب ذلك، ولنعم أهل الشام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم) فأهل الشام لهم شأن وعلو، وعندما قالوا بذلك أيضاً قالوا: لكن الأفضل أن تغطيه. والمعاصرون من أهل الحجاز قالوا: لا يجوز بحال من الأحوال كشف الوجه؛ لأنه عورة، فهذا الخلاف خلاف تنوع. وعند هذا تحار السائلة ماذا تفعل، وإخراجها من هذه الحيرة أن يقال لها: الخروج من هذا الخلاف مستحب. فإن قالت: كيف أخرج من الخلاف؟ فيقال لها: الخروج من الخلاف أن تغطي وجهك؛ لأنك لو غطيت وجهك تكونين قد عملت بقول أهل الشام وقول أهل الحجاز؛ لأن أهل الشام يرون أن الحجاب أو النقاب سنة، ومنهم الألباني رحمة الله عليه، فإنه كان يتبنى القول بعدم الوجوب، ولكن بناته كن منتقبات وهو يعلم ذلك ولا يمنع، وعلى قول أهل الحجاز تكونين قد عملت الواجب عليك.

القصر في السفر

القصر في السفر إذا سافر المرء فعليه أن يقصر الصلاة خروجاً من الخلاف، فإن الأحناف يقولون بالوجوب، والجماهير يرون الاستحباب. فالرجل إذا سافر ورأى من يوجبون القصر ومن يستحبونه، ينبغي له أن يقصر؛ لأنه لا يكون قد أخطأ عند الفريقين. فهو على قول الأحناف عمل الواجب، وعلى قول الجمهور عملاً مستحباً، فيكون قد خرج من الخلاف، والخروج من الخلاف مستحب.

حكم الولي في النكاح

حكم الولي في النكاح بعض العلماء يرى أن الخلاف في مسألة تزويج المرأة البكر نفسها بولي خلاف تضاد، ونحن لا نداهن بل نكون منصفين، فالحق أن هذا الخلاف خلاف معتبر، وهذا هو الذي قرره ابن رشد في بداية المجتهد، وبين أن من قال بأن المرأة تزوج نفسها له حظ من النظر قوي جداً. لكن الأثر يقدم على النظر، فلا بد للمرأة أن تتزوج بولي، لكنا لا نزال نقول فيه: إنه خلاف معتبر. ويستحب أن يخرج من هذا الخلاف فلا تزوج المرأة نفسها إلا بوجود الولي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل).

شروط استحباب الخروج من الخلاف

شروط استحباب الخروج من الخلاف هذه الشروط هي ثلاثة شروط:

الشرط الأول

الشرط الأول الشرط الأول: أن لا نسقط بهذا الخروج سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم. ومثال ذلك: رفع اليدين في الصلاة في عدة مواضع: عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع، والرفع منه، وزاد الشافعية موضعاً آخر وهو عند الرفع من التشهد الأول، وهناك قول بالرفع في كل خفض ورفع حتى في السجود، وهذا الذي يتبناه الشيخ الألباني. والأحناف يرون أنه لا رفع إلا في تكبيرة الإحرام. فلو أخذنا بقاعدة الخروج من الخلاف وفعلنا ما قاله الأحناف فقط سنكون قد أسقطنا سنة الرفع عند كل خفض ورفع على رأي الألباني، فلا يصح أن نقول: إن كل خروج من الخلاف مستحب. ومنها لو أن رجلاً سخياً كريماً لا يترك أحداً له حاجة إلا وسد حاجته بالقرض، فلو قلت: لا بد أن أكافئه فأعطيه أكثر من القرض الذي أقرضنيه فهل لك ذلك أم لا؟ حصل الخلاف بين العلماء في ذلك: فالجماهير يرون جواز ذلك. وأما المالكية فيرون جواز أن تعطيه زيادة على قرضه وصفاً لا كماً يعني: لو أعطاك لبناً فشربته، وأردت أن تزيده أكثر، فعند المالكية تعطيه الأكثر وصفاً لا كماً، وذلك بأن تعطيه لبناً ألذ من لبنه. أما الجماهير فقالوا بجواز الزيادة في الوصف أو الكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقترض بعيراً ورد بعيراً أفضل منه. وقال بعض العلماء: لا يجوز أن تعطيه زيادة؛ لأن هذه ذريعة للربا. فلو قلنا هنا: الخروج من الخلاف مستحب فإننا سنسقط سنة النبي صلى الله عليه وسلم في أنه كان كريماً جواداً، لكن السنة بشرط وهو أن لا يكون باتفاق مسبق؛ حتى لا يكون قرضاً جر نفعاً فيكون ربا، فلا نقول بعدم جواز الزيادة في رد القرض دون شرط مسبق بحجة أن هناك من يعتبره ربا، وأن الخروج من الخلاف مستحب، بل هنا تنطبق هذه السنة، ولا نطبق القاعدة لأنها ستسقط سنه.

الشرط الثاني

الشرط الثاني الشرط الثاني: عدم مخالفة الإجماع: فلا يكون الخروج من الخلاف بأن تأتي بصورة تخرق الإجماع مركباً فيها أقوال المختلفين بحجة مراعاة الخلاف، وقد نقلوا عن ابن سريج أنه أخذ بالأقوال الثلاثة في مسألة مسح الأذن مع الوجه على قول، وعلى القول الآخر أن الأذنان من الرأس؛ للحديث (الأذن من الرأس) على الخلاف في صحته، وعلى قول ثالث أن الأذن عضو مستقل، فأخذ مراعياً هذا القول، وبعد أن انتهى من وضوئه غسل أذنيه غسلاً مستقلاً، فيكون قد غسل الأذن ثلاث مرات، وهذا خلاف الإجماع. فالخروج من الخلاف ليس مستحباً هنا لأنه يخرق الإجماع. كذلك في مسألة الذهب المحلق إذا قلنا بقول بعض المشايخ الفضلاء بتحريمه، فستخرق اتفاق علماء الأمة على إباحته، فلا يراعي خلاف من قاله، فنحرمه على المرأة. وأما مسألة قراءة الفاتحة خلف الإمام فالشافعية والحنابلة يقولون بقراءة الفاتحة خلف الإمام في الجهرية وفي السرية, والأحناف قالوا: لو لم يقرأ في السرية والجهرية فصلاته صحيحة، وأما المالكية ففرقوا بين الجهرية وبين السرية. فالخروج من الخلاف في هذه المسألة مستحب؛ وذلك بأن تقرأ الفاتحة في السرية وفي الجهرية؛ لأنك لو فعلت ذلك ما لامك الأحناف في السرية، ولو قرأت في الجهرية لامك المالكية، فحتى لا يلومونك فتقرأها في سكتات الإمام، وتكون بهذا قد خرجت من الخلاف, فهذا الخلاف خلاف معتبر، وهو خلاف تنوع, وفيه تكون المناظرة لوجود راجح فيه ومرجوح. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

أحكام التابع والمتبوع

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - أحكام التابع والمتبوع من القواعد الفقهية: أن التابع يأخذ حكم المتبوع، وتدخل هذه القاعدة في كثير من أبواب الفقه، هذا بالنسبة للغالب، وإلا فإنه قد يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، كما أنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ولكل من هذه القواعد تطبيقاتها الفقهية المتعددة.

قاعدة التابع حكمه حكم المتبوع

قاعدة التابع حكمه حكم المتبوع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد:

معنى قاعدة التابع تابع ودليلها

معنى قاعدة التابع تابع ودليلها التابع هو بمثابة الفرع، والمتبوع هو الأصل, والفرع حكمه حكم الأصل لا يمكن أن ينفك عنه، والتابع حكمه حكم المتبوع، والمأموم حكمه حكم الإمام، فلو سها الإمام فإن المأموم لا بد أن يسجد لسهو الإمام مع سجود الإمام، فإنما جعل الإمام ليؤتم به. إن هذه القاعدة يمكن أن يستدل لها بقول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، فبعض العلماء استنبط هذه القاعدة من هذا الدليل العظيم، والخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وسلم. أي: إذا طلقت فطلق للعدة. والرسول هو المتبوع والأمة تعتبر تابعة له، والخطاب هنا كان أولاً للمتبوع ثم عمم على التابع، وذلك يدل على أن التابع حكمه حكم المتبوع، فجاء نص الآية أولاً بخطاب النبي: ((يا أيها النَّبِيُّ))، فهذا خطاب خاص له، ثم بين أن الأمة التي تتبعه تقتدي به في ذلك، فصرح بخطابهم فقال: ((إِذَا طَلَّقْتُمُ)).

أمثلة القاعدة

أمثلة القاعدة ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة جداً نذكر هنا بعضها: رجل عنده بقرة وهي حامل، وكان رجلاً كريماً يكرم أضيافه، وهذا الكرم يقع منه اقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فأخذ البقرة وكانت حاملاً فذبحها لأضيافه، فخرج جنين البقرة متكاملاً خلقه من بطن أمه، فوقف الرجل حائراً: أيقدم الجنين ليأكلوه أو يلقيه أو يذبحه؟ فيقال له: إن التابع حكمه حكم المتبوع، والمتبوع هو هنا البقرة الكبيرة والتابع هو الجنين، فتكون ذكاة هذا الجنين هي ذكاة الأم؛ لأنها متبوعة في ذلك. وهذا هو ما بينه لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ذكاة الجنين ذكاة أمه)، وعليه فيجوز أكله إلا إذا خرج حياً وخرج إلى المزارع يأكل فلا بد له من ذكاة جديدة. ومن أمثلة هذه القاعدة: ما لو ذهب رجل يشتري بقرة، فلما اشترى البقرة وجدها حاملاً، فقال له البائع: متى تأخذها؟ قال: بعد أسبوع ساتيك بالثمن وآخذ البقرة. فهذا العقد صحيح، وبعد مرور المدة المحددة جاء المشتري لأخذ البقرة فوجدها قد ولدت الجنين، فقال: هذه البقرة وجنينها لي، فقال البائع: لا. أنا أطعمتها طعاماً جيداً فولدت عندي فهي لي، فلما اختلفا قالا: نتحاكم إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، فيقول لهم عالم الشريعة: التابع حكمه حكم المتبوع، والجنين تابع لأمه، وهو قد اشتراها وهو في بطنها، فلما ولدته البقرة أصبح حكمه تابعاً لها، فهما للمشتري. ومن صور هذه القاعدة: ما إذا أراد رجل أن يقترض قرضاً، فذهب إلى رجل يقرضه، لكن هذا الرجل يخشى على ماله، فقال: سأقرضك ما تريد ولكني أريد رهناً يحفظ لي مالي، وقد قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]. فأخذ الرجل المال وسلم بقرته رهناً، وكانت البقرة حاملاً، فأخذ المقرض البقرة عنده يطعمها ويسقيها ويشرب من لبنها؛ لأن الغنم بالغرم والخراج بالضمان. وبعد فترة ولدت، فسمع ذلك المقترض فقال: أعطني نتاج البقرة وأعطيك دينك، وقال المقرض: لن أعطيك ذلك، وإن كان ملكاً لك؛ لأن البقرة رهن وجنينها تابع لها، فهو رهن أيضاً.

قاعدة يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع

قاعدة يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع

معنى القاعدة

معنى القاعدة هذه القاعدة بصيغة أخرى: يغتفر في الفرع ما لا يغتفر في الأصل، أي: أنه قد يتسامح بحكم التحريم في التابع، لكن لا يمكن أن يتسامح ذلك مع الأصل المتبوع، فقد يكون بعض الأفعال لا يجوز ابتداء فعله، ولكنه لو كان تابعاً فقد يجوز فعله.

أمثلة على هذه القاعدة

أمثلة على هذه القاعدة الأمثلة عليها كثيرة جداً: فمن ذلك: رجل رأى بناءً جميلاً جداً بالنسبة له، فأحبه وأراد أن يهبه لزوجته، فاشتراه من صاحبه، مع أنه لم ير أساس البيت، بل رأى ظاهره فقط. فلو قيل: بيعك مفسوخ وعقدك باطل؛ لأنك وقعت في الغرر الجهالة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وأنت لم تر أساس البيت. فإننا نقول: إن أساس البيت لا يرى حتى يهدم البيت، وهذا الأساس تابع للبناية الشكلية الظاهرة، فيغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. مثال آخر: لو أن رجلاً رأى سيارة أعجبته جداً، فدخل معرض البيع فليس له أن يقطع جلد مقاعد السيارة ليرى حشوها هل هو جيد أو لا، ويظن أن ذلك ينفي الجهالة والغرر المنهي عنه. فيقال له: إن هذا تابع، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. وكذلك شراء الجبة ونحوها، فيجوز ذلك وإن لم يعلم حشوها؛ لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. ونذكر هنا مسألة عظيمة جداً، وبعض العلماء استنبطوا هذه القاعدة من هذه المسألة، وهي: إذا بيت المسلمون الكفار، فقتلوا النساء والأطفال، وقتلوا الشيوخ في الصوامع. فلو قال قائل: أخطأتم بأن قتلتم النساء والأطفال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقتلتم الشيوخ وهم لم يحاربوا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فيقال له: الممنوع هو قصدهم بأعيانهم للقتل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما مر على امرأة من الكفار مقتولة قال: (ما كانت هذه لتقاتل)، ولكن الصحابة جاءوه مرة فقالوا: يا رسول الله! نبيت القوم وفيهم النساء والأطفال، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (هن منهم حكمهن حكمهم). وهذا صريح في أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، فكأنه يقول لهم: أنتم ما ذهبتم إلى البيوت وأخرجتم النساء وقتلتموهن، وما ذهبتم إلى الصوامع وأخذتم الشيوخ وقتلتموهم، ولكنكم قاتلتم الرجال وكان هؤلاء معهم فقتلوا معهم، فيغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. وهناك مسألة أخرى عرضت على شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي أن الكفار لو أخذوا المسلمين وتترسوا بهم، والحرب قائمة بين أهل الإسلام وأهل الكفر، وأهل الإسلام على قرب نصر بإذن الله، وأهل الكفر أرادوا أن يوقفوا زحف المسلمين فتترسوا بالمسلمين، فماذا يفعل المسلمون في هذه الحالة؟ فإذا بـ شيخ الإسلام يجيبهم، وكان بحراً لا ساحل له في العلوم، فطبق قاعدة: يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، وذلك أنه لا يجوز ابتداءً أن يقتل المسلم مسلماً لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، ولكن إذا كان المسلم مع بعض الكفار الذين يوقعون القتل في المسلمين، وقتاله هذا لهم سيأتي بالنصر للمسلمين، ولكن معهم هذا المسلم قد تترسوا به فهنا يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، فيجوز أن تقتلهم وإن قتلت المسلم معهم؛ لأن مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد، فقال شيخ الإسلام: اقتلوهم وارموهم بالنبال، ولو قتلتم المسلمين فعليكم الدية، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل. ومما يدخل تحت هذه القاعدة مسألة الوقف، فإن العلماء قالوا: إن الوقف لا يصح إلا في العقار، يعني: في أرض أو بناء، أما المنقول الذي يستهلك كالفراش ونحوه فهذا لا يصح أن يكون وقفاً، فإذا كان هناك رجل له دار، فأوقفها كلها لطلبة العلم، فتصبح وقفاً لطلبة العلم مع أن فيها منقولاً كالأثاث والفراش ونحوهما، والأصل أن هذا لا يصح أن يكون وقفاً، ولكن هنا صحت أن تكون وقفاً من باب: يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الأصل، فهي تابعة للأصل وهو العقار الذي يصح أن يكون وقفاً.

قاعدة يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء

قاعدة يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء

معنى القاعدة ودليلها

معنى القاعدة ودليلها إن الاستدامة أقوى من الابتداء، فيغتفر فيها ما لا يغتفر في الابتداء. أي الحكم في الاستدامة يصح ولا يصح في الابتداء، وهذا مأخوذ من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (طيبت النبي صلى الله عليه وسلم لحله ولإحرامه). أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم يرتدي رداء تطيبه عائشة حتى قالت: كنت أرى الطيب في مفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. ومعلوم أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يتطيب المحرم، والدليل على ذلك قصة الرجل الذي وقصته ناقته فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمسوه طيباً) وحديث ابن عمر ظاهر جداً في أن المحرم لا يرتدي ثياباً مسها طيب أو زعفران، فهذه أدلة واضحة جداً على أن المحرم لا يجوز له أن يتطيب. وجاء في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تطيب قبل أن يحرم، فلما أحرم وقال: لبيك اللهم بعمرة، وجد الطيب في مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم، فهل يجب عليه أن يغسل هذا الطيب؟ A لا؛ لأنه يجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء, فلو تطيب قبل أن يحرم ودام الطيب معه، فإننا لا نلزمه بالغسل؛ لأنه استدامه فقط، ولم يبتدئه ابتداءً.

إرجاع المطلقة

إرجاع المطلقة ونذكر أيضاً صورة أخرى لتطبيق هذه القاعدة: لو أن رجلاً طلق امرأته وكانت قد أتعتبه كثيراً حتى قال عند طلاقها: لقد أراحني الله منك، وعندما طلقها كان على مشارف عمرة، فأحرم فقال: الحمد لله أن نزعت عن كاهلي هذا البيت الثقيل، والحمد لله أنني سأعتمر خالياً، فأحرم بعمرة. وعند الطواف تذكر حبه لزوجته ولأولاده، فحن إليها فقال: لقد طلقتها وأنا الآن محرم فلا يجوز لي أن أراجعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينكح المحرم أو ينكح له! فيقال له: أخطأت فهم النص، فالنص يتكلم عن حرمه ابتداء نكاح جديد، أما إرجاعك لامرأتك فليس نكاحاً جديداً بل هي امرأتك أصلاً ولكنك طلقتها، فيجوز لك أن تراجعها وأنت محرم، فإنك طلقتها طلاقاً رجعياً والله يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:228] فأنت في استدامة، ويغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء.

الوكالة بالبيع

الوكالة بالبيع ومن صور هذه المسألة مسألة الوكيل بالبيع: فلو أن رجلاً عنده مال لرجل آخر، فذهب فاشترى له بعيراً ثم باع البعير فربح، ثم أعطاه ماله. فالأصل في هذا التصرف أنه لا يجوز؛ لأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، لكن هنا إذا أخذ المال وباع واشترى فهذا يعتبر بيع فضولي، فإن أجازه صاحب المال، فإن هذا الجواز يستند لأثر ولقاعدة: أما الأثر فهو حديث عروة البارقي عندما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم درهماً وقال له: (اشتر به شاة , فاشترى به شاة ثم باعها بدرهمين، ثم اشترى شاة بدرهم، وربح درهماً). فقد فعل أفعالاً لم يأذن له فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما رضي النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا الرضا يدل على أنه يغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء، والأصل هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد وكله في الشراء فقط، فهو أدام الفعل فاشترى الشاة وباعها، ثم اشترى شاة أخرى، فهذه استدامة، ويغتفر في الاستدامة ما لا يغتفر في الابتداء. ونسأل الله جل في علاه أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.

ما حرم أخذه حرم إعطاؤه وإعمال الكلام أولى من إهماله

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - ما حرم أخذه حرم إعطاؤه وإعمال الكلام أولى من إهماله إذا حرم الله على المكلف أخذ شيء حرم عليه إعطاءه لغيره، وإذا ورد في الشرع كلام فأمكن إعماله فهو أولى من إهماله، وهاتان قاعدتان لهما تطبيقات فقهية كثيرة.

قاعدة ما يحرم أخذه يحرم إعطاؤه

قاعدة ما يحرم أخذه يحرم إعطاؤه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: معنى قاعدة (ما يحرم أخذه يحرم إعطاؤه) أي: إذا حرم الشرع عليك أخذ شيء شرعاً فإنه لا يجوز لك من وجه أول أن تعطي هذا الشيء لغيرك. فإذا حرم عليك مالاً معيناً بطريقة معينة كالسرقة أو الغصب فلا يجوز أن تعطيه لغيرك, فإذا حرم عليك الأخذ, حرم عليك الإعطاء، وهذا الوجه الأول. أما الوجه الثاني: إذا حرم عليك الأخذ حرم عليك التصرف بجميع وجوهه كالإعطاء بهبة أو بصدقة أو بمضاربة أو بغير ذلك. ومثال ذلك: الرشوة: فيحرم لأي أحد أن يعطي رشوة لأحد, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) أي: الوسيط بين الراشي والمرتشي, فحرم عليك أن تعطي، وأن تسهل للناس أمراً فتأخذ عليه رشوة. ومن ذلك ثمن الكلب: لو أن رجلاً كان عنده كلب، فرآه أحد الناس وأراد أن يشتريه منه، ودفع له عشرة جنيهات ثمناً للكلب، فهذا لا يجوز لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الكلب). فيقول: إنه يحرم عليك أن تأخذ ثمن الكلب, فإذا حرم عليك أن تأخذ هذا الثمن يحرم عليك أيضاً أن تعطي فيه ثمناً, فإذا أردت أن تأخذه فعليك أن تأخذه هدية ولا تشتريه, فإذا حرم عليك الأخذ حرم عليك الوجه الثاني، وهو الإعطاء. ومن الصور أيضاً: رجل كان يعطي الفقراء قرضاً مالياً، لكنه كان يشترط عليهم بعد انتهاء الأجل أن يعطوه هذا المال بزيادة. فهذا ربا؛ لأن كل قرض نفعاً فهو ربا, وحرام عليه أن يأخذ هذا المال. فكف الرجل عن هذا، ثم بعد ذلك دارت الأيام فضاقت به الضائقة, فأراد أن يقترض، فاقترض من رجل مالاً فاشترط عليه المقرض أن يرد له المال بزيادة, لكنه مضطر، فأخذ المال بشرط أن يرده بزيادة. فهذا لا يجوز له أيضاً، فإذا أعطيت أنت القرض واشترطت الزيادة يحرم عليك أخذ الزيادة، وإذا حرم عليك أخذ الزيادة فباللزوم يحرم عليك إعطاء الزيادة، فما يحرم أخذه يحرم إعطاؤه.

قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله

قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله إعمال الكلام: اعتبار الكلام واعتبار الأحكام التي تترتب على هذا الكلام إن كان عقد زواج أو كان مالاً, أو قرضاً, أو هبة. وإهمال الكلام معناه: عدم اعتبار الكلام, وباللزوم عدم اعتبار الآثار المترتبة على هذا الكلام. ولم يدلل المصنف على هذه القاعدة, لكن دليلها واضح في الكتاب وفي السنة, قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر:7]. فهذه دلالة على إعمال كل كلام النبي صلى الله عليه وسلم متى أمكن.

أمثلة على قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله

أمثلة على قاعدة إعمال الكلام أولى من إهماله

الوضوء مما مست النار

الوضوء مما مست النار من الأمثلة: لحم الجزور: فقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله: (يا رسول الله! أأتوضأ من لحم الغنم؟ قال: إن شئت) أي: لك ذلك ولك ألا تفعل والمستحب أن تفعل, فقال له: (يا رسول الله! أأتوضأ من لحم الجزور؟ قال: توضأ) وهذا يدل على الوجوب. وهنا نطبق هذه القاعدة, فالجمهور يرون النسخ أي: يرون أن لحم الجزور لا وضوء منه؛ لأن جابراً قال: كان آخر الأمرين عدم الوضوء مما مسته النار، فلو قلنا بقول الجماهير فلن نطبق القاعدة, ونكون بذلك قد أهملنا قولاً من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا قلنا بقول الحنابلة وهو الأرجح سنقول: إعمال الكلام أولى من إهماله, وإعمال الكلام أن نقول: إنه يستحب أن تتوضأ من لحم الغنم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) وهذا مما مسته النار، وتتوضأ وجوباً من لحم الجزور.

الصلاة خلف الإمام القاعد

الصلاة خلف الإمام القاعد مثال آخر: صلاة الإمام قاعداً: فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) وفي رواية قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى قاعداً فصلوا قعدواً أجمعين). ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته لما جاء بلال يستأذن أبا بكر في إقامة الصلاة فأذن له فأم أبو بكر بالناس قائماً وصلى, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يتهادى ثم وضع بجانب أبي بكر , فصلى بـ أبي بكر قاعداً وصلى أبو بكر قائماً، وصلى الناس بصلاة أبي بكر قائمين ولم يقعدوا، فقال الشافعي: هذا آخر الأمور, صلى قاعداً وصلى أبو بكر معه قائماً وصلى الناس قياماً, فلا يصلي الناس قعوداً خلف الإمام القاعد؛ لأن هذا هو آخر الأمرين, فالأول منسوخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الأخير. وإعمال الكلام يكون بأن نعمل الوصف الذي حدث فيه القعود مع النبي صلى الله عليه وسلم, والوصف الذي صلوا فيه قياماً نعمل به, وبهذا نكون قد أعملنا كلا الحديثين: أما الأول فإذا جاء الإمام فابتدأ الصلاة قاعداً وجب على المأموم أن يقعد كما قعد الإمام, وهنا نكون قد أعملنا الحديث الأول الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أشار إليهم أن اجلسوا: (فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين). وإذا جاء الإمام بنفس الهيئة وهو قائم فكبر وقرأ الفاتحة، فلم يجد في نفسه الخفة وثقل عليه المرض فجلس، فلا يجلس المأمومون بل يبقى الناس على قيامهم؛ لأنه قد ابتدأ الصلاة قائماً, وبهذا أعملنا الدليل الثاني، وهو أن أبا بكر صلى بالناس قياماً ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً ما قعد المأموم ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك, وبذلك نكون قد أعملنا القول الأول, وأعملنا القول الثاني, وأعملنا الحديث الأول في دائرته, وأعملنا الحديث الثاني في دائرته، وهذا الراجح الصحيح من باب إعمال الكلام الأولى من إهماله.

وقت سجود السهو

وقت سجود السهو المثال الثالث في ذلك: سجود السهو: فلو أن رجلاً سها في صلاته لكان عليه أن يسجد سجود السهو, ولكنه لا يعرف هل يسجد قبل السلام أم بعده. والخلاف بين العلماء على أقوال ثلاثة: قبل السلام, وهذا قول الشافعي. القول الثاني قول الأحناف: أن كل السجود بعد السلام. والمالكية هم الذين قالوا بالفرق بين السهو بالزيادة والنقصان، فإذا زاد في الصلاة فيكون السجود بعد السلام, للحديث الصحيح في البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أتم الركعتين سلم)، وهذا حديث يدل على أن الزيادة يكون السجود فيها بعد السلام. وحديث عبد الله بن بحينة في السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلس للتشهد في الركعتين الأوليين، فبعد ما أكمل انتظر الناس سلامه فلم يسلم فكبر وسجد ثم سلم) فهو أنقص من الصلاة التشهد الأوسط, فسجد قبل السلام، وهذا حديث ظاهر جداً في أن سجود السهو يكون قبل السلام. وعن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شك في صلاته فليسجد بعد السلام سجدتين). وفي رواية أخرى في الصحيح قال: فيها النبي صلى الله عليه (من صلى فلم يدر أصلى ثلاثاً أم أربعاً فليبنِ على ما استيقن وليسجد قبل أن يسلم). ولكي نعمل الكلام ولا نهمله نقول: إنه إذا زاد المصلي في صلاته سجد للسهو بعد السلام. وإعمالاً لحديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم نقص من الصلاة في التشهد الأوسط, فسجد قبل السلام فنقول: إنه عند النقصان يكون سجود السهو قبل السلام، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تارة قال: يسجد قبل السلام، وتارة قال: يسجد بعد السلام, وأرجح الأقوال وهذا الذي تبناه الشوكاني وهو أقوى الأقوال, وهو أنه عند الشك مخير بين أن يسجد قبل السلام أو يسجد بعده, وهذا شامل لكل الأحكام التي تتعلق بكل حديث من هذه الأحاديث, وفيه تطبيق لقاعدة: إعمال الكلام أولى من إهماله.

لا عبرة بالظن البين خطؤه

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - لا عبرة بالظن البين خطؤه من القواعد الفقهية والتقعيد العلمي: لا عبرة بالظن البين خطؤه، وهذه القاعدة تنطبق على أغلب المسائل الفقهية، لكنها ليست مطردة، فهناك مستثنيات تخرج عن هذه القاعدة.

القاعدة الفقهية لا عبرة بالظن البين خطؤه

القاعدة الفقهية لا عبرة بالظن البين خطؤه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن من التقعيد العلمي والقواعد الفقهية: لا عبرة بالظن البين خطؤه. والمعنى: إذا استيقنا خطأ هذا الظن فلا اعتبار به، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية. والظن هو أحد الأحكام العقلية الخمسة، وهو التردد بين أمرين أحدهما راجح والآخر مرجوح، وإدراك الراجح بدليله هو الظن. والقاعدة عندنا: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فإذا حدث فعل من حكم أو من استحقاق مادة، كأن يكونا رجلين يتخاصمان، ويحكم بالظن لواحد منهما، ثم يظهر أن هذا مخالف للشرع، فيجب عدم ترتب الآثار الشرعية عليه، هذا هو معنى: لا عبرة بالظن البين خطؤه. يعني: لو حكمت في مسألة، أو في خصومة بحكم نابع عن ظن لرجل كان ألحن بحجته من الآخر مثلاً، ثم ظهر أن هذا الحكم مخالف للشرع، وأن الرجل صاحب الخصومة لا يستحق هذا الحق الذي أخذه، فنقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه، والحق لا بد أن يرجع إلى أصحابه. وأصل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض). وأيضاً: قصة وردت عمن قبلنا، وهي قصة سليمان عليه السلام مع داود، في هذه القصة المشهورة. فعلى ذلك لا عبرة بالظن البين خطؤه يعني: لو حكمنا حكماً أو فعلنا فعلاً بظنٍ منا أنه يوافق الشرع، فظهر أنه يخالف الشرع، وجب ألا نأخذ به، ووجب أن نرده، ووجب ألا تترتب عليه آثاره الشرعية، كل ذلك بالقاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه.

صورة تطبيق لقاعدة لا عبرة بالظن البين خطؤه

صورة تطبيق لقاعدة لا عبرة بالظن البين خطؤه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن من التقعيد العلمي والقواعد الفقهية: لا عبرة بالظن البين خطؤه. والمعنى: إذا استيقنا خطأ هذا الظن فلا اعتبار به، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية. والظن هو أحد الأحكام العقلية الخمسة، وهو التردد بين أمرين أحدهما راجح والآخر مرجوح، وإدراك الراجح بدليله هو الظن. والقاعدة عندنا: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فإذا حدث فعل من حكم أو من استحقاق مادة، كأن يكونا رجلين يتخاصمان، ويحكم بالظن لواحد منهما، ثم يظهر أن هذا مخالف للشرع، فيجب عدم ترتب الآثار الشرعية عليه، هذا هو معنى: لا عبرة بالظن البين خطؤه. يعني: لو حكمت في مسألة، أو في خصومة بحكم نابع عن ظن لرجل كان ألحن بحجته من الآخر مثلاً، ثم ظهر أن هذا الحكم مخالف للشرع، وأن الرجل صاحب الخصومة لا يستحق هذا الحق الذي أخذه، فنقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه، والحق لا بد أن يرجع إلى أصحابه. وأصل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل بعضكم ألحن بحجته من بعض). وأيضاً: قصة وردت عمن قبلنا، وهي قصة سليمان عليه السلام مع داود، في هذه القصة المشهورة. فعلى ذلك لا عبرة بالظن البين خطؤه يعني: لو حكمنا حكماً أو فعلنا فعلاً بظنٍ منا أنه يوافق الشرع، فظهر أنه يخالف الشرع، وجب ألا نأخذ به، ووجب أن نرده، ووجب ألا تترتب عليه آثاره الشرعية، كل ذلك بالقاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه.

الصلاة قبل الوقت مع ظن أنه قد دخل

الصلاة قبل الوقت مع ظن أنه قد دخل الأمثلة لهذه القاعدة: أولاً: رجل قام من الليل يريد صلاة العشاء؛ لأنه متعب في عمله، عمل عملاً شديداً فتعب فنام بعد المغرب، لكنه كان فقيهاً يعلم أن النوم من المغرب إلى العشاء منهي عنه، فأوصى أهله أن يوقظوه قبل العشاء، فغلبتهم أعينهم فناموا جميعاً فقاموا من الليل، فقام الرجل ينظر في سواد الليل، فقال: قرب بزوغ الفجر، فنظر فقال: والوقت لا يتسع لركعة واحدة، لأنه كان فقيهاً يعلم أن ركعة واحدة يدرك بها الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أدرك ركعة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الصلاة). فقال: هذا الوقت لا يتسع للركعة؛ لأن الفجر قد طلع، فأصلي الفجر، ثم بعد ذلك أصلي العشاء، فصلى الفجر، وبعد ما صلى الفجر قام المؤذن يؤذن للأذان الأول، وكان الفارق بين الأذان الأول والأذان الثاني وقتاً طويلاً، فلما سمع الأذان الأول علم أنه قد ظن ظناً خطأ، فهنا لا عبرة بالظن البين خطؤه، أي: لا عبرة بظنك ولا تعتد بصلاة الفجر، فصلِّ العشاء، وانتظر دخول الوقت حتى تصلي الفجر. إذاً: القاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه.

تعليق الطلاق على ما ظنه فتبين خلافه

تعليق الطلاق على ما ظنه فتبين خلافه صورة أخرى من هذه المسائل: رجل قال لامرأته: إن دخلت الدار وبها زيد فأنت طالق، ظناً منه أن زيداً في البيت، وذهب إلى البيت فلم يجد زيداً، فالظن لا يترتب عليه آثاره الشرعية، فما قاله ليس طلاقاً نافذاً. رجل يسير مع امرأة فقال: إن كان زيد في البيت فأنت طالق، وهو يظن بأن زيداً ليس في البيت، فوجد زيداً في البيت.

صوم الحائض إذا ظنت الطهر

صوم الحائض إذا ظنت الطهر فنقول: ظنك الخاطئ بأنه ليس في البيت قد تبين خطؤه فقد وقع الطلاق. امرأة لم يكن ينزل منها الدم منذ مدة، فنزل منها الدم، فقالت: هذا الدم دم استحاضة، وهي ليست بفقيهة، ولا ممن تفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة؛ لأنها لو كانت مفرقة، لقلنا: لا تعتمدي على التفريق، والاجتهاد صحيح، ولكنها ظنت أن الدم كان رقيقاً؛ فظننت أن هذا الدم دم استحاضة، فصلت وصامت، ثم تبين لها أن هذا الدم كان دم حيض، فلا عبرة بالظن البين خطؤه، فلا يلزمها إعادة الصلاة، لكن يلزمها قضاء ما صامته من أيام. والدليل على ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا نقضي الصوم ولا نقضي الصلاة) فهنا الدليل: أنه لا تقضي الصلاة بل تقضي الصوم، ولا عبرة بالظن البين خطؤه، لأنها ظنت أن هذا الدم دم استحاضة فصامت، وهذا الصيام لا تتربت عليه آثاره، لأنه لم ينعقد؛ ولأن صوم المرأة وقت حيضها باطل وعليه إثم، فلا عبرة بالظن البين خطؤه.

الحكم بالظن البين خطؤه

الحكم بالظن البين خطؤه رجلان تخاصما عند قاض، فقال رجل: هذا المال مالي، والمال مقداره كذا ولحن في القول، فأعجب القاضي بكلامه الفصيح. وجاء الآخر فكان ضعيف الحجة، ولا يستطيع أن يظهر حقه، فظن القاضي أنَّ صاحب الحق هو هذا الفصيح، فأعطاه الحق. ثم بعد أيام جاء شهود أمام القاضي، فشهدوا شهادة الحق، وقالوا: إن الحق لهذا الرجل الذي لم يستطع أن يظهر حقه. إذاً: حكم القاضي حسب ظنه، ولكنه أخطأ في ظنه، فلا إثم عليه؛ لأنه أدى ما عليه، لكن وجب عليه أن يرد الحق إلى أهله، ولا عبرة بالظن البين خطؤه.

حكم من ظن أن الشمس قد غربت فأفطر

حكم من ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ومن هذه الصور: رجل كان صائماً في رمضان، فظن غروب الشمس، فأكل وشرب، ثمَّ تبين له خطأ ظنه، واستبان له بيقين أن الشمس لم تغرب، فبتطبيق القاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، يكون عليه قضاء هذا اليوم. ولا بد أن نعلم أن هذه القاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه ليست مطردة في جميع الأحكام الفقهية، بل هي على الأغلب منها، وهناك مستثنيات، وهذا مستثنى منه؛ لأدلة أخرى تدل على أن هذه المسألة مستثناة من القاعدة، وذلك أن من اجتهد فأكل أو شرب على الاجتهاد فإن اجتهاده قائم ولا نأمره بالقضاء، إذاً: هذا مستثنى منه.

الوضوء بماء نجس ظن طهارته

الوضوء بماء نجس ظن طهارته ومن الصور أيضاً: رجل توضأ من ماء، وظن أن الماء طهور، فصلى بهذا الوضوء ثلاث صلوات، الظهر والعصر والمغرب، ثم انتقض وضوءه وأراد أن يتوضأ للعشاء، فنظر في الماء فوجده نجساً، أي: تيقن واستبان له أن هذا الماء نجس، فنقول: هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، لكن الصحيح الراجح أنه ظن طهورية الماء، ولما ذهب للعشاء استبان له وتيقن نجاسة الماء، فنقول: الصلوات السابقة كانت على ظن، واليقين خالف الظن، فالقاعدة تقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فعليه القضاء. ولا يمكن أن نقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، لأن الأول كان ظناً، والثاني كان يقيناً، فاليقين جاء على الظن فمحاه، فنقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه، ولا بد أن تعيد الصلوات الثلاث.

دفع الزكاة لغني ظنه فقيرا

دفع الزكاة لغني ظنه فقيراً رجل معه مال بلغ نصاباً وحال عليه الحول، فذهب فقال: إن الله قد افترض علينا فروضاً، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم). فقال: هذا المال ليس حقاً لي، هذا المال حق للفقراء، فنزل في الأرض يبحث عن الفقير، فرأى رجلا يرتدي الثياب المرقعة فظن أنه من الفقراء، فقال: هذا صنف من أصناف الزكاة فأعطاه الزكاة، وبعد ثلاثة أيام رآه يركب مركباً ضخماً ورأى خدماً وحشماً خلفه، فلما رآه اندهش، فسأل عنه فقالوا: هذا من أثرياء البلد، فهنا لا تجزئ الزكاة لأنه لا عبرة بالظن البين خطؤه. لا سيما وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا في شرع من قبلنا أن رجلاً تصدق على زانية، وتصدق على غني، فوقعت الزكاة ولم يأمر بغيرها، ولا بد أن نعلم أن المسألة خلافية بين العلماء، لكن نحن نطبق القاعدة، وهذا هو الراجح الصحيح، وهو أن الزكاة لا تجزئه؛ لأنه لا عبرة بالظن البين خطؤه؛ لأنه قد استبان له بيقين أنه ليس من أصناف الزكاة، وهو قد أمر شرعاً بأن يخرج الزكاة لصنف من أصناف الزكاة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] وهو ليس من الفقراء فنقول: لا عبرة بالظن البين خطؤه، ولا إثم عليه، لكن عليه إخراج الزكاة مرة ثانية. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الخراج بالضمان والجواز الشرعي ينافي الضمان

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - الخراج بالضمان والجواز الشرعي ينافي الضمان القواعد الفقهية يندرج تحتها كثير من المسائل أو الفروع الفقهية، فهي تسهل للطالب معرفة الحكم الشرعي، ومن هذه القواعد الفقهية قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والميسور لا يسقط بالمعسور، والزعيم غارم، وقاعدة الأجر والضمان لا يجتمعان، وقاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان.

الحث على طلب العلم

الحث على طلب العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو من خذلهم حتى يأتي أمر الله). قال الإمام أحمد: هم أهل الحديث. وقال النووي في شرحه لهذا الحديث: هم أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل الأصول. فحيهلاً بمن ينشغل بالعلم، ويحرص عليه، والأمة تحتاج لطلبة العلم، وبعض طلبة العلم الآن يضيع أوقاته في أمور تافهة، وهذا لا ينبغي لطالب العلم، فعليه أن يسهر على طلب العلم، ويثبت علمه بسماع الأشرطة العلمية، وينشغل بمراجعة القرآن والأذكار والاطلاع على الكتب.

قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب

قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب

معنى القاعدة ودليلها

معنى القاعدة ودليلها توجد قاعدة أصولية تتعلق بمسائل كثيرة من الفقه، ولابد من الاطلاع عليها، وهي قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والمعنى: أن الله جل في علاه إذا أمر بشيء فقد أحب أن يرى هذا الشيء قد فعله العبد، وائتمر به المكلف، وإذا أمر بشيء فقد أمر بكل السبل التي توصل إلى هذا الشيء، وحرم كل السبل التي تمنع من الوصول إلى هذا الشيء. فمثلاً: أمر الله جل في علاه بأن يسارع المرء إذا سمع النداء يوم الجمعة إلى المساجد حتى يقيم هذه الشعيرة الإسلامية صلاة الجمعة؛ ولذلك يسر كل الطرق والوسائل التي توصل إلى تحقيق هذا، وحرم كل الطرق والوسائل التي تقطع المرء عن أن يصل إلى ذلك، فقد حرم البيع وقت النداء الثاني لأنه يشغل المكلف عن أن يذهب إلى صلاة الجمعة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والوسائل لها أحكام المقاصد. ومعنى هذه القاعدة: أن كل واجب لا يتم إلا بشيء معين فهذا الشيء يكون واجباً، سواء أكان شرطاً أو كان سبباً، وما الفرق بين الشرط والسبب؟ الصحيح الراجح أنهما يتفقان ويفترقان: يتفقان لأن الشرط خارج عن ماهية الشيء، والسبب خارج عن ماهية الشيء. ويفترقان؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم، كالوضوء للصلاة لا يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم. أما السبب فهو كالركن يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم، كقول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، فدلوك الشمس سبب لفرضية صلاة الظهر، فكلما حدث الدلوك وجبت الصلاة، فيلزم من وجود السبب الوجود، ويلزم من عدمه العدم.

تطبيقات على قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب

تطبيقات على قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب من الفروع التي تتفرع على هذه القاعدة المهمة: رجل له زوجتان: هند وسعاد، وحدث بينه وبين سعاد شيء، وحدث بينه وبين هند شيء، فطلق إحداهما وهو خال طلقة بائنة، ثم حدث له ذهول في عقله فنسي هل طلق هنداً أم طلق سعاد؟ فالواجب عليه عدم النظر إلى من طلقها، وعدم إمساكها، وهذا لا يمكن إلا إذا امتنع عن الاثنتين؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهو قد اختلط عليه الأمر. ومن فروع هذه القاعدة: لو بنى بعض المسلمين عمارة، وفيها طابق للمسلمين وطابق لأهل الكتاب، فقدر الله وأصيبت البناية بالزلازل فوقعت البناية بأسرها على كل من فيها من أهل الإسلام ومن أهل الكفر، فيجب على أهل الإسلام تغسيل موتاهم وتكفينهم، والصلاة عليهم، فرأوا رجلاً ميتاً فتحيروا هل هو مسلم أم كافر؟ وتغسيل الميت المسلم واجب، والصلاة عليه واجبة، وهو فرض كفاية إن قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين. فنقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيغسل الجميع ويكفن الجميع، ويصلى على الجميع إلا من علمنا أنه كافر. فإن قيل: كيف أصلي على كافر؟ وكيف أدعو لكافر والله قد نهى عن الاستغفار للكافر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك؟! ف A ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم تغسيل المسلمين إلا بتغسيل من معهم، فقلنا بوجوب التغسيل لهم جميعاً؛ لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعندما تصلي تنوي أن هذه الصلاة على المسلم فقط. ومثل هذه المسألة ما لو تزوج مسلم امرأة نصرانية من أوروبا، ثم ماتت والحمل في بطنها، فهل تدفن في مقابر المسلمين أم تدفن في مقابر الكافرين؟ وهل يصلى عليها أو لا يصلى عليها؟ لا يصلى عليها إن كان الجنين في بطن أمه صغيراً، لكن لو كانت على مشارف الولادة في الشهر التاسع فيصلى على الجنين. ومن فروع هذه القاعدة: إذا صلى المكلف خلف الإمام، وكان الإمام في الركعة الثالثة، والمشهور أن سترة الإمام سترة للمأموم، فلما سلم الإمام أصبح المأموم منفرداً، فكان يصلي بجانب السارية، والناس يمرون من أمامه فخشي على صلاته من البطلان، بل خشي أن يمر الشيطان من أمامه ويقطع عليه الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فيجب عليه أن يمشي إلى السارية، وهو في صلاته من أجل أن يصلي إلى سترة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة)، وهذا أمر وظاهر الأمر الوجوب، بل قال: (وليدن منها)، وهذا الوجوب لا يتم إلا بالمشي إلى السارية. وهذا الذي قاله مالك في المدونة، قال رحمه الله: المسبوق إذا قام ليتم صلاته فأصبح منفرداً فله أن يمشي إلى السارية، وهذا الذي طبقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عندما دخل فوجد رجلاً يصلي منفرداً إلى غير سترة فأخذه بأذنه فجره إلى السارية، وجعلها سترة له. فهذا تقرير لهذه القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن هذه الفروع أيضاً: رجل سافر براً إلى أرض الحجاز يريد العمرة، فجلس في الصحراء ليرتاح، فدخل وقت صلاة الظهر أو صلاة العصر، فبحث عن الماء فلم يجده، فيعدل إلى التيمم، وإن كان الماء وهو الأصل في التطهير غير موجود! فلا تسقط عنه الصلاة ما دام عقله معه، فإن كان كل الجسد لا يتحرك فيومئ برأسه وإلا بعينه. فإن وجد رجلاً معه زجاجات الماء ويبيعها بثمن المثل، فيجب عليه أن يشتريها ويتوضأ لتصح صلاته؛ لأن الصلاة مع وجود الماء لا تصح إلا به، وهذا من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. كذلك إن كان في الصحراء -مثلاً- فسرق سارق ثيابه وأصبح عارياً، ووجد رجلاً يبيع هذه الملابس، فيجب عليه أن يشتري هذه الملابس ستراً للعورة حتى تصح الصلاة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

أدلة قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

أدلة قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور القاعدة الفقهية: الميسور لا يسقط بالمعسور. وهذه القاعدة لها أصل أصيل من كتاب ربنا ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. فمن الكتاب قول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. وقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم). والله جل في علاه كلما شق الأمر على الناس خففه عنهم، فالميسور لا يسقط بالمعسور.

الفروع التي تتعلق بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور

الفروع التي تتعلق بقاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور والفروع التي تتعلق بهذه القاعدة كثيرة، منها ما يلي: رجل كان في بيته ودخل عليه السارق فسرق ما عنده من ملابس وفرش، وكان صاحب البيت في الحمام يغتسل فخرج عارياً، وأراد الصلاة وخشي ضياع الوقت، وبحث في البيت بأسره فما وجد إلا رداءً يستطيع أن يغطي به كتفيه ونصف البدن من فوق السرة، ويترك باقي الأعضاء ظاهرة حتى العورة، ومن المعسور أن يغطي كل البدن، ومن الميسور أن يغطي الكتفين أو السوأتين، فإن غطى الكتفين فالسوأتان ظاهرتان، وإن غطى السوأتين فالكتفان والبدن بأسره غير مغطى. فالأولى أن يغطي السوأتين؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. أيضاً من الفروع لهذه القاعدة: رجل من أوروبا أسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله -نسأل الله أن يدخل جميع الغرب في الإسلام رحمة بهم من النار- فبعد أن نطق بالشهادتين فإنه يجب علينا أن نبين له فرائض الإسلام، ولا بد أن يتقبلها. وأول أركان الإسلام وفرائضه الصلاة، فنعلمه كيفية الصلاة بأركانها وشروطها، ومن ذلك قراءة الفاتحة فيها، وأن البسملة آية منها. فلو حفظ نصفها فقط وما استطاع أن يحفظ النصف الآخر أو يتقنه، فإن صلاته تصح ولو لم يكمل قراءة الفاتحة؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، قال الله جل في علاه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال أيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]. ولو أن رجلاً يستطيع القيام في الصلاة، أما الركوع والسجود فلا يستطيعهما، فالميسور لا يسقط بالمعسور، فيجب عليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ويقرأ الفاتحة قائماً، وعند الركوع والسجود يومئ، ويكون إيماؤه للسجود أخفض من إيمائه للركوع، ففي ذلك تيسير الله على العباد، فالميسور لا يسقط بالمعسور. أيضاً: رجل شج في رأسه، ثم أصبح جنباً إما بالجماع أو بالاحتلام، وأراد أن يصلي صلاة الفجر، فلو اغتسل لرفع الحدث الأكبر فإن الماء سيضره وقد يؤدي به إلى الوفاة، فإن أعضاء الغسل كلها تنزل منزلة العضو الواحد، ويعسر عليه أن يمر الماء على رأسه فقط وما عدا ذلك فميسور له، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، فيجب عليه أن يمر الماء على كل الجسد، ويأتي على رأسه فيتيمم؛ لأنه بالنسبة للرأس غير واجد للماء؛ لأن الماء لا بد أن يوجد حقيقة وحكماً، وهو غير موجود حكماً؛ لأنه لا يستطيع استعمال الماء؛ فلو استعمله فقد يضيق على نفسه أو يقتل. والحديث فيه ضعف وإن صححه بعض العلماء، وهو أن رجلاً كان في رأسه شجةً فاحلتم، ثم سأل بعض الصحابة عن ذلك فقالوا له: ما نرى لك إلا الاغتسال لأنك واجد للماء، فلما اغتسل مات شهيداً بسبب هذه الفتوى التي جانبت الصواب. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الجهل (اتخذ الناس رءوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). فاستحق هؤلاء الصحابة الذين أفتوا الرجل بذلك أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال: (قتلوه قاتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال)، فالغرض المقصود في هذه المسألة هو أن الميسور لا يسقط بالمعسور. كذلك صاحب الجبيرة إذا كانت في إحدى يديه، وعليه فإنه يتوضأ فيغسل وجهه ويده السلمية، أما التي فيها الجبيرة فإنه يمسح عليها ويغسل الباقي، وإن لم يغسله لا يجزئه؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.

قاعدة الزعيم غارم

قاعدة الزعيم غارم والقواعد الأخرى في المعاملات وهي قواعد مهمة في الضمان، أولها: الزعيم غارم، والزعيم هو الضامن. والأصل في هذه القاعدة كما في سنن أبي داود أن رجلاً قبض غريماً له بعشرة دنانير فقال له: إما أن تقضي؛ وإما أن تأتيني بحميل -يعني: بكفيل أو زعيم- فتحملها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الرجل ببعض الدنانير فقال له النبي: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لنا فيها وليس فيها خير) فتحملها النبي صلى الله عليه وسلم وقضى عن الرجل. فالشاهد أن الرجل قال له: إما أن تقضي، وإما أن تأتيني بحميل، أي: كفيل أو زعيم، فكان الكفيل هو النبي صلى الله عليه وسلم فضمنه، فلما لم يستطع الرجل إلى ذلك وفاء قضى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية صريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الزعيم غارم).

قاعدة الخراج بالضمان

قاعدة الخراج بالضمان وهذه القاعدة لها فروع فقهية كثيرة جداً، ويتفرع عليها قاعدة مهمة، وهي قاعدة: الخراج بالضمان، أو الغنم بالغرم. فمثلاً: رجل رهن بقرة عند رجل آخر فكان يحلبها كل يوم، فلو ماتت في يد المرتهن فإنه يضمن، وله أن يستفيد من لبنها؛ لأن الخراج بالضمان. وذلك لحديث عائشة رضي الله عنه وأرضاها أن رجلاً اشترى عبداً، واستعمله عدة أيام ثم وجد به عيباً، فرده إلى البائع، فقال البائع: يا رسول الله، لقد استغله أو استفاد منه أي: أخذ الخراج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان). وكذلك لو اشترى رجل سيارة أجرة، وأخذها في اليوم الأول فاستعملها وأخذ أجرة اليوم، ثم استعملها في اليوم الثاني والثالث والرابع، ثم ظهر فيها عيب أخفاه البائع عن المشتري، فيصح للمشتري أن يفسخ البيع ويرد السيارة للبائع، وأجرة السيارة في هذه المدة تكون للمشتري وليس للبائع؛ لأنها لو تلفت قبل أن يردها فإن المشتري يضمن؛ فإن الخراج بالضمان. وكذلك لو أن مجموعة من الناس أرادوا بناء شركة مواد غذائية، أو شركة سيارات، وكل واحد منهم دفع مبلغاً معيناً، وصار لكل واحد منهم أسهم معينة، فربحوا في السنة الأولى، فقسمت الأرباح فيما بينهم على حسب الأسهم، ثم ربحوا في السنة الثانية فوزعت حصة كل واحد منهم على حسب الأسهم، ثم جاءت السنة الثالثة فخسروا فإنهم يوزعون الخسارة على أنفسهم بنفس الحصص وبنفس الأسهم، فإن الغنم بالغرم والخراج بالضمان. وهذا يبين لنا خطأ وظلام من يستعمل هذه المسألة بأن يأخذ من الناس الأموال ويوظفها، ويأخذ عليها نسبة مئوية معينة على مدار السنة كمائة جنيه في الشهر، وهذا ربا محض؛ لأن المسألة كلها مسألة ربح وخسارة مقسمة على نسبة مشاعة، فقد تكون في المائة أربعين أو خمسين أو غير ذلك، فتوزيع الربح والخسارة على الأسهم. ومن الأمثلة في هذا الباب أيضاً: اشترى رجل شقة في مبنى، واشترى رجل آخر شقة أخرى في نفس العمارة، وهذا البيت أصبح اسمه عند العامة (اتحاد ملاك)، وتحتاج العمارة إلى صيانة، فيتحملها كل حسب نصيبه وحصته؛ لأن الغنم بالغرم والخراج بالضمان.

قاعدة الأجر والضمان لا يجتمعان

قاعدة الأجر والضمان لا يجتمعان وهناك قاعدة أخرى، وهي: الأجر والضمان لا يجتمعان. وهذه مهمة جداً، فمثلاً رجل عنده معرض سيارات للإيجار فيأتيه رجل يستأجر السيارة لمدة يوم أو يومين أو ثلاثة أيام، وبعد ما أعطاه الأجرة أخذ السيارة فسار بها ساعة ثم حصل لها حادث فتلفت، فلا يضمن المستأجر شيئاً؛ لأن الأجر والضمان لا يجتمعان، وذلك بشرط عدم التعدي وتكون قد تلفت بقدر الله جل في علاه، كالجائحة التي تقع على الثمر. ومثلاً: رجل وجد سيارة فأعجبته، وكان عنده مفتاح ففتح الباب، ثم دخل فأخذ السيارة غصباً وذهب بها إلى الفقراء من أجل أن يبيعها ثم يوزع عليهم ثمنها، فتلفت قبل أن يفعل ذلك، فيعتبر غاصباً لها فيضمنها، ولا تنطبق هنا قاعدة: الأجرة والضمان لا يجتمعان. وأيضاً: رجل عنده مكتبة فوجد أن طلبة العلم عجزوا عن الشراء، فجعلها للإجارة لا للبيع، فجاء أحد الطلبة فاستأجر أحد الكتب بثمن معين ولمدة معينة، فحصل لهذا الكتاب بعض التلف من دون تفريط من المستأجر، فلا يلزم المستأجر قيمة الكتاب؛ لأن الأجرة والضمان لا يجتمعان. وكذلك في مسألة استئجار الأشرطة، فلا يجوز للإخوة الذين يؤجرون الأشرطة أن يلزموا المستأجرين لها بأنها لو تلفت عندهم فعليهم أن يأتوا بشريطين عقاباً؛ فهذا لا يصح بحال من الأحوال. أيضاً: رجل استأجر شقة وأقام فيها شهراً كاملاً مع أهله وأولاده، لكن الأولاد الصغار أتلفوا بعض الأشياء في الشقة، فإن المستأجر لا يضمن؛ لأن الأجرة والضمان لا يجتمعان.

قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان

قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان القاعدة الأخيرة التي تتفرع على هذه القواعد هي قاعدة: الجواز الشرعي ينافي الضمان. والمعنى: إذا تصرف الشخص في شيء أقره الشرع عليه فحدث إتلاف فإن هذا الإتلاف لا يضمن. فمثلاً: رجل حفر بئراً في ملكه، فوقع فيه رجل فمات، فلا يضمن صاحب البئر لأن الجواز الشرعي لا ضمان فيه. ولو استأجر رجل سيارة، وحملها فوق طاقتها فتلفت، فعليه الضمان؛ لأنه حملها فوق طاقتها، وفي التفريط ضمان. وكذلك: لو أنّ رجلاً أباح لرجل أن يأكل طعاماً فأكله فلا يضمن؛ لأنه مأذون شرعاً، فإنه يباح له أكل طعام المالك بعد الإذن؛ والجواز الشرعي لا ضمان معه. ومن فروع هذه القاعدة: لو أن هنالك بناية لخمسة من الشركاء، فسكن أحدهم في أحد الأدوار، فحدث حريق في البناية بأسرها بدون تعدٍ منه فهدمت، فلا يضمن هذا الشريك، لأنه يجوز له أن يسكن في ملكه وإن لم يستأذن؛ والجواز الشرعي ينافي الضمان، ولا يجتمع الجواز الشرعي مع الضمان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

ضوابط فقهية في الطب والقرض والنكاح

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - ضوابط فقهية في الطب والقرض والنكاح لا تقتصر القواعد الشرعية على أبواب العبادات، بل تدخل في المعاملات والأنكحة، فتدخل في الطب والربا والقرض والشروط التي تقع في النكاح.

قاعدة من تطبب بغير طب فهو ضامن

قاعدة من تطبب بغير طب فهو ضامن

معنى القاعدة ودليلها

معنى القاعدة ودليلها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني الكرام: زادكم الله حرصاً على الطلب، فإن الذي يميز طالب العلم من غيره هو الحرص على الطلب. فطالب العلم لن يكون طالباً للعلم إلا بشدة الحرص على الطلب، وبالمتابعة؛ لأن الانقطاع يدل على قلة العلم، والمعلومات التي تترتب بعضها على بعض تنقطع بالانقطاع، فمن رأى في نفسه همة، وأعطاه الله جل في علاه الموهبة، وعنده القدرة على التحصيل، فلا يقطع التحصيل بالانقطاع، ولا يشغل نفسه بأمور إدارية أو دنيوية، خصوصاً أنه قد بدأ في فرض الكفاية هذا، وربما قد أصبح عليه فرض عين، فلا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. من القواعد الفقهية المشهورة قاعدة: (من تطبب بغير طب فهو ضامن)، وهي نص حديث شريف. أقول: التداوي قد أمر به الشرع وحث عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة أن تأخذ بالأسباب الصحيحة؛ لأن ترك الأسباب يعتبر قدحاً في التشريع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله! ولا تتداووا بحرام، فما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء). وفي مسند أحمد -زيادة عن الصحيح- قال: (علمه من علمه وجهله من جهله). هناك أدلة أخرى تدل على أن التداوي ليس بواجب، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله جل في علاه إذا أحب قوماً ابتلاهم، وأبي دعا الله ألا يشفى من الحمى، فما رآه أحد إلا وكانت الحرارة تعلوه، بيد أنه دعا الله ألا يحبسه عن القتال، فكان يبتلى بهذا المرض ولا يتداوى منه، وذلك لرفعة الدرجات عند الله جل في علاه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى الشوكة يشاكها إلا كانت كفارة له)، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي، ولم ينكر عليه، فهذه دلالة واضحة جداً على أن التداوي ليس بواجب. إذاً: فالراجح الصحيح أن التداوي مستحب وليس بواجب. ثم هناك خلاف مشهور بين العلماء: هل التداوي ينافي التوكل أو لا ينافي التوكل؟ ولسنا بصدد هذه المسألة. إذاً يستحب لكل إنسان مرض أن يذهب إلى الطبيب المتخصص، فإذا ذهب إلى الطبيب المتخصص فعالجه فأتلف فيه عضواً من غير تفريط فلا ضمان عليه؛ لأنه طبيب. أما إذا ذهب إلى طبيب غير متخصص، كأن يكون عنده مرض في بطنه فذهب إلى أطباء العيون فكتبوا له علاجاً أتلف له عضواً داخلياً، فإن الطبيب في هذه الحالة يضمن إن كان هذا المريض يجهل عدم التخصص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب بغير طب فهو ضامن)، يعني: يضمن العضو الذي يتلف، ويضمن دية العضو، بل لو قتله فإنه يضمن ديته كاملة. وهذه القاعدة -كما قدمنا- هي نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأوسع منه دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور). فلهذا فإن من فعل ذلك يترتب عليه أمران: الأمر الأول: أنه لا يستحق الأجرة؛ لأنه ليس ماهراً في عمله، فهو غاش، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من غشنا فليس منا). الأمر الثاني: أنه يضمن عند حصول الضرر.

الأمثلة التطبيقية على القاعدة

الأمثلة التطبيقية على القاعدة انتشر في زماننا الآن أن كثيراً من الممرضين يستخدمون المشرط، ويجرون عمليات جراحية بالممارسة والدربة، فهل هؤلاء يدخلون تحت عموم الحديث أم لا؟ أقول: إن أتقن مسألة الفتح أو الغلق بالدربة والممارسة، وعرف كيف يعالج المريض، فهذا يغرم عند ولي الأمر، أما شرعاً فلا جرم عليه؛ لأن الطب ليس حكراً على كليات الطب، بل يمكن للإنسان أن يتدرب ويتعلم الطب بدون أن يدرس في هذه الكليات النظامية. وهذا الواقع في القانون الأوربي، فإن أي إنسان يريد أن يتخصص، وعنده مهارة في تخصص معين، فيمكن أن يذهب إلى جامعات خاصة أو إلى طبيب ماهر يعلمه هذا، فإذا كان هذا الرجل قد أتقن هذه العملية فلا ضمان عليه، وإن لم يتقن فالضمان عليه، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تطبب بغير طب فهو ضامن). مثال ذلك أيضاً: إذا كان هناك رجل يعمل في إصلاح السيارات، وجاءته سيارة لا يعرف عنها شيئاً، وأخذ يعمل فيها فأتلف فيها أشياء، فهو هنا ضامن؛ لأنه غير متقن لهذا العمل.

قاعدة كل قرض جر نفعا فهو ربا

قاعدة كل قرض جر نفعاً فهو ربا

بيان المنفعة الجلية والمنفعة الخفية

بيان المنفعة الجلية والمنفعة الخفية ومن القواعد الفقهية المشهورة قاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، وهذا لفظ حديث لكنه ضعيف باتفاق المحدثين، والصحيح أنها قاعدة متفق عليها في باب المعاملات، فالإجماع قائم على هذه القاعدة. ولها صور خفية وصور جلية: أما الصور الجلية فكأن يعطيه مائة، وبعد عام أو شهر أو غير ذلك يأخذ مائة وعشرين مثلاً، فهذا قرض جر نفعاً جلياً. وكذلك إذا أعطاه شيئاً رديئاً بشرط أن يرد له شيئاً جيداً، فهذا أيضاً قرض جر نفعاً جلياً فيدخل تحت القاعدة. أما الخفي: فكأن يذهب ليشتري من الصائغ ذهباً، ومن شروط صحة بيع الذهب التقابض في المجلس، فإذا لم يجد المشتري كامل المبلغ، فقال له البائع: خذ هذا المبلغ قرضاً ثم اشتر به الذهب، وفيما بعد سدد إلي القرض، فإن هذه المعاملة لا تصح؛ لأن هذا قرض يجر نفعاً خفياً، وهذا النفع صورته أن المشتري لو ذهب إلى البيت ليأتي بالمال، فإنه يمكن أن يشتري من محل آخر، ولا يشتري من هذا المحل، فلما أعطاه البائع المال فإنه ضمن أنه سيشتري منه، فيكون هذا القرض قد جر نفعاً، فلا يصح، ويقع في الربا. من أمثلة ذلك أيضاً: رجل ليس عنده عمل وهو غني، لكن يريد أن يعمل ويكسب بيده، فما وجد عملاً حتى جاءه رجل فقير عنده وجاهة بين الناس، ويمكن أن يشفع له في عمل، والرجل الفقير هذا يحتاج مالاً، فأعطاه الغني مالاً قرضاً -أي: يعيده بدون زيادة ولا نقصان- على أن يشفع له في عمل، فلما أخذ الرجل القرض فرح به جداً، واشتدت همته بالشفاعة حتى يعمل هذا الرجل الغني. فهذه المعاملة يلام عليها؛ لأن هذا القرض جر نفعاً، فقد شفع ازدادت همته في الشفاعة له عندما أقرضه هذا القرض، مع أنه سيقضي القرض بدون زيادة ولا نقصان، ولكنه قرض جر نفعاً خفياً. فإذاً (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فلا يصح القرض الذي يجر منفعة، سواء كانت هذه المنفعة جلية أم خفية، والمنفعة الخفية قد تدخل في التحليل على شرع الله، كما قال صلى الله عليه وسلم عن اليهود: (قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحم فجملوه ثم أذابوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه).

حكم رد القرض بزيادة بدون شرط مسبق

حكم رد القرض بزيادة بدون شرط مسبق وهناك مسألة وهي: إذا اقترض رجل قرضاً ثم رده بزيادة دون شرط مسبق، وإنما المقترض زاد هذه الزيادة من نفسه إكراماً للمقرض الذي أقرضه في وقت الضيق. المسألة فيها أقوال ثلاثة: الجواز مطلقاً. والمنع مطلقاً. والتفصيل. أما المنع مطلقاً فقال به بعض العلماء؛ وذلك لعموم هذه القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فسواء كان مشروطاً أو غير مشروط. قالوا: ولأن هذا قد يكون ذريعة إلى الربا، فإنه إذا اشتهر عن رجل ما أنه جواد كريم لا يقترض قرضاً إلا ويرده بزيادة، فالناس سوف يسارعون إلى إقراضه للنفع الذي سيأتي منه، فهو ذريعة إذاً إلى الربا. وهذا القول من القوة بمكان. القول الثاني: الجواز مطلقاً، أي: كماً أو كيفا، ًوهذا القول قول الجماهير من الفقهاء، كالشافعية والأحناف، واستدلوا على ذلك بحديث أبي رافع: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، إن خيار الناس أحسنهم قضاء). وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا يدل على الجواز، وهذا مخصص لعموم القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا). ومن الأدلة: حديث جابر رضي الله عنه، حيث قال: (فقضاني النبي وزادني) يعني: أعطاني الثمن الذي قاله لي وزادني عليه، فهذا فيه دلالة أيضاً على أن الزيادة جائزة. وفي السنن بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فاستسلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه، فجاء الرجل يتقاضاه فأعطاه وسقاً، وقال: نصف لك قضاء، ونصف لك نائل من عندي). فهذه الأدلة فيها دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى زيادة كماً وكيفاً، أما كيفاً فكما في حديث أبي رافع، وأما كماً فكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين. القول الثالث: التفصيل: وهو قول المالكية حيث قالوا: نقول بالتفريق والتفصيل، أي: أنه تجوز الزيادة كيفاً ولا كماً، والسبب أن حديث الجمل -حديث أبي رافع - الذي في الصحيح، واقعة حال لا تعمم. والرد عليهم أن هذه الأدلة قد غابت عنكم، فقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى زيادة في الكم وزيادة في الكيف. لكن إذا كانت هذه ذريعة وعلمنا أن الرجل الذي يعطي القرض يريد الزيادة فلابد أن يمنع، لقاعدة ستأتينا فيما بعد وسنختم بها إن شاء الله تعالى، وهي شبيهة بهذه.

قاعدة إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم

قاعدة إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم ومن القواعد المشهورة في البيع قاعدة (إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم). هذه القاعدة مشتقة من نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء)، وقال في بعض الروايات: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد). واختلاف الأصناف يعني اختلاف الأجناس وإن اتحدت العلة، كأن يبيع ذهباً بفضة، فهنا اختلفا في الجنس واتحدا في العلة -الثمنية والنقدية- ففي هذه الحالة نقول له: بع كيفما شئت من حيث القلة والكثرة لكن يداً بيد. أما إذا اختلفا في الجنس والعلة معاً، كذهب وتمر، فهذا لا يدخل معنا في هذا الباب؛ لأن مثل هذا البيع لا يشترط فيه التقابض ولا الحلول ولا التماثل، إنما القاعدة التي معنا كأن يبيع قمحاً بشعير، أو براً بتمر، أو براً بملح، أو ذهباً بفضة، فهذه الأصناف متفقة علتها. فهذه القاعدة ليست على الإطلاق، وإنما يجب أن تقيد باتحاد العلة، فتصبح القاعدة كما يلي: إذا اختلفت الأصناف المتفقة في العلة فبيعوا كيف شئتم، ولكن بشرط وحيد هو التقابض في المجلس، ولا يشترط أن يكونا سواء بسواء.

قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الربا

قاعدة الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في الربا من القواعد الفقهية المشهورة في البيع والربا كذلك قاعدة (الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل). وتمثيل هذه القاعدة كأن يكون مع رجل كومة من تمر وأراد تبديلها بكومة أخرى من التمر غير معلومة الكمية، فهذا لا يجوز؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. فنحن لا نعلم هل هذه الكومة تساوي الكومة الأخرى، فإنه لو زادت حتى تمرة واحدة فقد وقع في الربا. وبهذا المثال اتضح معنى قاعدتنا (الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل)، والعلم بالتفاضل حرام -كما هو معلوم- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سواء بسواء)، وهذا كله بشرط أن يتحد كل من العلة والجنس. ويدخل في هذا كذلك القلائد التي فيها ذهب وفضة ولا يعلم مقدار كل منهما، فلا يجوز تبديل بعضها ببعض أو حتى تبديلها بذهب أو فضة. وكذلك لا يجوز تبديل الذهب عيار ثمانية عشر بعيار أربعة وعشرين؛ لأن الشوائب تقلل من الذهب، فالذهب الذي عياره أربعة وعشرون أكثر من الذهب الذي عياره ثمانية عشر، ولكن لا يعلم مقدار الفرق، فلا يجوز مثل هذا التبادل؛ لأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فلا يجوز مبادلة العيار بالعيار المختلف. وبهذا انتهينا من القواعد في المعاملات.

قاعدة كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل

قاعدة كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل هنا نتكلم عن بعض القواعد في النكاح، أول هذه القواعد وأهمها قاعدة: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل). فهذه القاعدة مهمة جداً، ومتعين على كل إنسان أن يتعلمها، وهي مشتقة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة بريرة، وذلك عندما أرادت عائشة أن تشتري بريرة من الذين كاتبوها، فقالوا: نشترط أن الولاء يكون لنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بذلك غضب غضباً شديداً ثم قال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط). ومثال ذلك: أن تشترط المرأة على زوجها في العقد عدم الزواج من غيرها، وهذا هو الأصل الأصيل في هذه القاعدة، وقبل أن نتحدث على هذه المسألة نذكر أقسام الشروط، حيث قسم العلماء الشروط إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول: شروط متفق على صحتها، وعلى جوازها، وعلى العمل بها. القسم الثاني: شروط متفق على منعها وتحريمها وعدم العمل بها. القسم الثالث: وسط بين الطرفين: شروط اختلف العلماء فيها: هل تجوز أو لا تجوز؟ أما الشروط التي اتفق العلماء على جوازها فهي مثل أن تشترط المرأة على زوجها أن يعطيها المهر كاملاً لها، إذ إن المهر يجب لها. أو يشترط الزوج أن تمكنه من نفسها، فهذا أيضاً شرط يوافق العقد، أو تشترط أن يطعمها حيث أكل، وأن يسكنها من حيث سكن، فهذا كله موافق للعقد، وهذه شروط صحيحة بالإجماع. وكذلك مثل أن تشترط عليه ألا يبعد عنها، فهذا أيضاً يوافق العقد وهذه شروط لابد من الوفاء بها بالإجماع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم)، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، ومن علامة الإيمان أن تفي بهذه العهود والشروط. الصنف الثاني: شروط اتفق العلماء على حرمتها، وعلى عدم جواز العمل بها: كأن تشترط عليه أن العصمة في يدها، فهذا لا يجوز بالإجماع، إذ إن الطلاق بيد الزوج، أما إن قال لها: أمرك بيدك، فهذه مسألة أخرى ليست أصلاً أصيلاً. وكذلك كأن تشترط ألا يجامعها، فهذا شرط محرم كذلك، بل إنه لا يدفع المهر إلا أن تمكنه من نفسها، فإذا اشترطت ألا تمكنه من نفسها فهذا شرط محرم، ولا يجوز العمل به بالإجماع. وهكذا حكم كل الشروط التي على نفس هذا السياق، كأن تقول: لا تدخل بي حتى تطلق امرأتك الثانية، فهذا أيضاً من الشروط المحرمة، والدليل على أنه إذا طلبت منه طلاق أختها فهي آثمة ولا يحل لها ذلك حديث في الصحيح، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تطلب طلاق أختها حتى تكفأ صحفتها وتأخذ ما في إنائها)، فيحرم عليها أن تطلب طلاق أختها. الصنف الثالث: الشروط التي اختلف العلماء فيها: وأشهرها: أن تشترط المرأة على زوجها ألا يتزوج عليها، فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: قول جماهير أهل العلم، قالوا: هذا شرط محرم، فيترتب على ذلك أن تأثم المرأة بهذا الشرط. يعني: لو كتبت في العقد أن لا يتزوج عليها، فهي آثمة بذلك، قالوا: هذا شرط محرم ولا وفاء به. والدليل على أنه لا يجب الوفاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لـ عائشة: (اشترطي لهم الولاء)، مع أن الولاء أصبح بعد ذلك لـ عائشة، فهي لم توف بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك كالمنكل بهم، فلذلك قال الجماهير من العلماء: إن اشترطت فالشرط لا عبرة به والعقد صحيح، واستدلوا على ذلك بالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً)، قالوا: وهذا الشرط يمنعه من الحلال، فهو يحرم عليه أن يتزوج أكثر من واحدة، إذاً هذا شرط قد حرم حلالاً، فلا يجوز لها أن تشترط ذلك؛ لأنها تكون قد حرمت عليه الحلال، فالله جل وعلا قال: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، فالصحيح أن هذا الشرط محرم؛ لأنه يمنع حلالاً على الرجل، فلا عبرة به. القول الثاني: وهو قول الحنابلة، حيث قالوا: هذا الشرط صحيح، ويجب الوفاء به، وللمرأة أن تطلب الطلاق إن لم يوف بالشرط، فإذا كتبت: لا يتزوج غيري، فتزوج غيرها، فلها أن تفسخ العقد. واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج). واستدلوا كذلك بما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: أن امرأة كانت قد اشترطت على زوجها ألا ينتقل بها، فأراد أن ينتقل بها، فقال: مقاطع الحقوق عند الشروط، ففسخ العقد أو طلق المرأة من الرجل. والراجح من القولين هو قول الجماهير، أي: أن هذا الشرط شرط غير معتبر؛ لأنه يحرم حلالاً، فلا يجوز للمرأة أن تشترط هذا الشرط، فإن اشترطت فهي آثمة، وعلى الرجل أن يلغي هذا الشرط ولا يعتبره، وله أن يتزوج على امرأته. وعلى المسلم أن يذكر امرأته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، ويقول لها إنها ليست بأفضل من عائشة، ولا أغير من عائشة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليست بأفضل من أم سلمة التي رفضت الزواج بالنبي في بادئ الأمر بسبب أنها امرأة لها شدة في الغيرة، ومع ذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لها أن يذهب عنها غيرتها.

قاعدة الأصل في الأبضاع الحرمة

قاعدة الأصل في الأبضاع الحرمة القاعدة الثانية في النكاح: (الأصل في الأبضاع الحرمة). وأصلها استنبط من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واستحللتم فروجهن بكلمة الله)، ومعروف أن من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها حفظ العرض. وهذه المسألة مسألة شائكة ومهمة جداً، ولها فروع منها لو كان هناك رجل وامرأة، وادعى الرجل أنه زوجها، وهي ادعت أنه ليس بزوج لها، فنقول: الأصل في الأبضاع الحرمة ما لم يدل دليل قوي صريح صحيح ينقلنا من الأصل إلى غيره، والأصل هو عدم الزواج، وما دام لا يوجد دليل فنقول: الأقوى هو الموافق للأصل لا الناقل عن الأصل، فإذا أراد أن يقوي حجته فعليه بالدليل الذي ينقل الحكم عن الأصل، وهذا الدليل هو وجود شاهدي عدل. فإذاً: إذا ادعى رجل أنه تزوج امرأة، والمرأة أنكرت ذلك، فالقول قولها تطبيقاً لقاعدة (الأصل في الأبضاع الحرمة). ومن فروع هذه القاعدة: إذا اختلطت زوجة بأكثر من امرأة شبيهات بها، ولم يميز الزوج امرأته من بينهن، ففي هذه الحالة نقول له: الأصل في الأبضاع الحرمة، فلا يجوز أن تجامع أي امرأة منهن حتى تميز زوجتك من غيرها. ومن فروع هذه القاعدة أيضاً: إذا ادعت امرأة أنها أرضعت رجلاً وامرأته -عندما كانا صغيرين- خمس رضعات مشبعات، ففي هذه الحالة نقول للرجل: هذا فرج محرم عليك، ولا يجوز أن تبقى معه، وينفسخ العقد بذلك، ونأخذ بقول المرأة تطبيقاً لقاعدة: (الأصل في الأبضاع الحرمة).

قاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر

قاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر

لمن ينسب ولد الزنا؟

لمن ينسب ولد الزنا؟ ومن القواعد الفقهية في النكاح: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). وهذه القاعدة مهمة جداً في استلحاق الولد، وقد أصل النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً عظيماً في النسب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (من انتسب إلى غير أبيه فقد كفر)، أي: وهو يعلم ذلك. فهذا يدل على أنه لا يجوز أن تختلط الأنساب، فقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وزاده قوة بقوله: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). فإذا زنى رجل بامرأة فولدت، فهل الولد ينسب لهذا الزاني أم لا؟ نقول: لا، تطبيقاً لقاعدة: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). وقد اختلف العلماء في معنى الفراش، فقال الشافعية والأحناف والمالكية وأحمد: الفراش هو العقد، وهنا كلام الأئمة الأربعة يبين أن المعقود عليها يجوز وطؤها، فمن قال: بأن العاقد عليها لو قبلها وقع في الزنا، أو لو سلم عليها فقد وقع في الحرام، فهذا افترى حراماً على الله جل في علاه، فهو بالعقد قد استحل منها ما كان حراماً، غير أن العرف يقف صاداً له. أما شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -وكلامهما أرجح- فقد قالا: الفراش هنا المقصود به الدخول. والعجب كل العجب أن ابن تيمية رجح ذلك، مع أنه يرجح قول الحنابلة في مسألة: إذا ألقي الستر فقد وجب المهر، يعني: الحكم هنا حكم بالدخول، وهنا شدد في الأمر وقال: الفراش لا يكون فراشاً إلا بالدخول، وهذا هو الراجح الصحيح، فالمرأة التي دخل بها بعقد صحيح هي الفراش، فكل ولد ولدته بعد ذلك ينسب لأبيه، لكن هناك بعض الشروط والقيود منها: ألا يولد في أقل من ستة أشهر، لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، وفي الآية الأخرى قال سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] فالفرق بينهما ستة أشهر. إذاً: الشرط الأول هو ألا يولد في أقل من ستة أشهر؛ لأن الشبهة تكون موجودة إذا ولد في أقل من ستة أشهر.

حكم استلحاق الزاني والزانية لولدهما من الزنا بعد أن يتوبا ويتزوجا

حكم استلحاق الزاني والزانية لولدهما من الزنا بعد أن يتوبا ويتزوجا أما إذا زنى بامرأة وولدت، ثم تاب وتابت، وأرادا أن يتزوجا من بعض وأن يستلحقا الولد، ويكفرا عما فعلا، فنقول: له أن يتزوج بها إذا تاب وتابت؛ لأن الله تعالى قال: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، ومعروف أن التوبة تجب ما قبلها، فالمؤمن يتزوج المؤمنة، فمسألة الزواج لا إشكال فيها. لكن هل يحل له أن يستلحق الولد، أي: أن ينسب الولد له؟ فهذا فيه خلاف بين الفقهاء، فالأئمة الأربعة قالوا: لا يجوز أن يستلحقه، عملاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وهذا قاطع عام. وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد رجح الاستلحاق، فقال: يجوز أن ينسب لأبيه إن تاب وتابت وتزوجها، واستدل على ذلك بالنظر، فإن الولد من مائه، وهو قد تاب عن معصيته فيستلحق. أقول: قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيه نظر -مع أنه أرحم ما يكون في عصرنا هذا- لكن لا أدين الله بذلك، إذ النظر لو خالف الأثر فإننا لا نأخذ به، ولا بأي شيء يصادم الأثر حتى ولو كان من القوة بمكان؛ لأننا نتعبد لله بقال الله قال رسوله، ونحن نأخذ بالمعاني ونأخذ بالنظر، لكن هذا النظر سيلغي لنا كل الأثر، فلا يجعلنا نعمل بظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، فلا يجوز استلحاقه، بل يسمى تسمية مطلقة مثل: صالح بن عبد الله، أو زيد بن عبد الرحمن، أو نحو ذلك، أما الاستلحاق فلا يجوز لهذه القاعدة العظيمة: (الولد للفراش وللعاهر الحجر). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

ضوابط في العبادات والأيمان والنكاح

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - ضوابط في العبادات والأيمان والنكاح يوجد في الفقه الإسلامي قواعد كثيرة تدخل في أبواب متفرقة، وإلى جانب هذه القواعد توجد ضوابط فقهية كثيرة، وهذه الضوابط هي قواعد فقهية، لكنها تكون محصورة في باب من الفقه.

قاعدة تلازم الحكم مع العلة

قاعدة تلازم الحكم مع العلة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: نختم الكتاب اليوم ببعض الضوابط وبعض القواعد المتفرقة؛ فكل قاعدة ضابط، وليس كل ضابط قاعدة؛ لأنها أعم من الضابط. القاعدة: الحكم يدور مع علته حيث دارت وجوداً وعدماً، طردا ًوعكساً. والعلة: هي الوصف الحقيقي الذي أناط الشرع الحكم به، لكن الوصف لا بد أن يكون وصفاً حقيقياً يؤثر في الحكم. وقولهم: الحكم يدور مع علته حيث دارت، يستقى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) وهذا يعتبر هو الدليل الرئيسي الأصيل لهذه القاعدة العظيمة. قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91]. وهذا أمر جازم على الانتهاء، فحرمت الخمر بسبب الإسكار، ووجه الدلالة من الحديث (كل مسكر خمر) وكأنه إشارة إلى أن الخمر حرمها الله في كتابه لأنها مسكرة، لكن التصريح في الآية، قال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]. إذاً: الذي يشرب الخمر لا يعلم فهو يهذي؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب الخمر كل ما خامر العقل بنشوة، وهذا قيد مهم جداً، فالخمر كل ما خامر العقل، يعني: غطى العقل بنشوة. ولذلك يجوز للإنسان أن يستعمل البنج في العمليات الجراحية؛ لأنه لا ترافقه نشوة. فالحكم يدور مع علته حيث دارت وجوداً وعدماً، فإذا وجد الإسكار وجد الحكم، وإذا انتفى الإسكار انتفى الحكم. نبيذ العنب يسكر قليله وكثيره فحكمه حرام؛ لأنه يسكر؛ ولأن العلة موجودة في الحكم. لكن شرب الرجل للكأس الواحدة من نبيذ العنب ولم يحدث الإسكار، وشرب الكأس الثانية ولم ير اختلالاً في عقله، نقول: إذاً هذا النبيذ ليس فيه إسكار، إذاً العلة انتفت والحكم انتفى، فهو حلال؛ لأن علة الحرمة هي الإسكار وقد انتفت. شرب الرجل كأساً واحداً من ماء الشعير فتخبط فيمن يراه، وعقله اختل وكان بنشوة يترنح، فحكم ماء الشعير حرام؛ لأنه وجد منه علامة الإسكار. ورجل رأى امرأة فأعجبته، فذهب ليخطبها فتكلم مع أبيها ورآها، فجاء رجل آخر يريد خطبتها، فالحكم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه). والعلة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أو يخطب شخص على خطبة أخيه؛ لأن الخطبة على خطبة تحدث بها المشاحنة، ويتولد بها العداوة والبغضاء، والحكم يدور مع علته حيث دارت، فإذا وجدت العداوة والمشاحنة وجد التحريم. ولو انتفت العداوة والبغضاء انتفى الحكم، يقرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -حتى تعرف أن القاعدة قاعدة صحيحة سديدة سليمة- فقد قال في آخر الحديث: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن) وإذا حدث الإذن انتفت العداوة والبغضاء وانتفت الحرمة. أيضاً من الأمثلة على ذلك: أن الأصل في الصلاة أن يصليها الرجل قائماً، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فهذا دليل واضح جداً على أن الصلاة الأصل فيها أن يقوم المرء ولا يقعد. فإذا وجد المرض وجدت الرخصة، وهي الصلاة جالساً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فصل قاعداً، فإن لم تستطع فصل على جنب) وإذا انتفى المرض انتفت الرخصة، فإذا صلى الرجل جالساً وهو يستطيع القيام، قلنا له: صلاتك باطلة. كذلك إذا سافر الرجل في رمضان، فهذا السفر -وهو الرخصة- يبيح الفطر بمشقة أو بدون مشقة، فإذا وجد السفر وجدت الرخصة بإباحة الفطر، وإذا انتفى السفر انتفت الرخصة. إذاً: الحكم يدور مع علته حيث دارت وجوداً وعدماً، طرداً وعكساً. أيضاً: الجهالة في البيع هي سبب حرمة البيع، فإذا وجدت الجهالة حرم البيع وفسخ العقد، وإن انتفت الجهالة صح البيع. أيضاً: القرض الذي جر نفعاً بشرط فهو ربا. فرجل أعطى رجلاً ألفاً، وقال للرجل: اقضني ألفاً وعشرة جنيهات، فهذه الزيادة تسمى ربا. أيضاً: البيع للسلع المباحة يجوز بشرط ألّا تستخدم في الحرام، فإذا وجدت من تشتري البنطال لتتبرج به، قلنا: حكم البيع حرام، وإذا علمنا أنها لم تفعل ذلك قلنا: يرجع الأمر إلى أصله، فالحكم يدور مع علته حيث دارت وجوداً وعدماً. هنا قاعدة أخرى، وهي: من شرع في عبادة تلزمه بالشروع ثم فسدت عليه قضى بنفس الصفة التي فسدت عليه. إذا شرع في عبادة تلزم بالشروع، ثم فسدت فعليه القضاء، وهذا القضاء لا بد أن يكون على نفس الصفة التي لزمته بها، هذه العبادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها). وأيضاً: إذا دخل يصلي الظهر ففسدت عليه الصلاة فما زال مطالباً بإقامة صلاة الظهر. معنى هذه القاعدة: أن المرء إذا دخل في عبادة، وهذه العبادة مرخص له أن يتعبد بها بغير هذه الصفة، لكن دخل على هذه الصفة وفسدت عليه، فإذا أراد أن يقضي فلا يقضي بالترخيص الذي رخص له، بل يقضي بنفس الصفة، ومن المثال يتضح المقال: من سافر فله أن يقصر، فصلى خلف مقيم سيصلي العصر أربعاً، فلزم عليه الإتمام، ولكنه في الركعة الثالثة خرج منه ريح أو رعف دماً فخرج من الصلاة، فبعدما ذهب يتوضأ ويجدد وضوءه وجد الإمام قد انتهى من صلاته، فشغلت ذمته بهذه العبادة على صفة التمام، وهو مرخص له بالقصر في السفر، فإذا أراد قضاءها قصراً، قلنا: تأتي هذه القاعدة، فإن ذمتك قد شغلت بهذه العبادة على صفة التمام فلا يكون القضاء إلا على هذه الصفة.

قاعدة الحلف بغير الله لا يعتبر يمينا

قاعدة الحلف بغير الله لا يعتبر يميناً القاعدة الثالثة: الحلف بغير الله لا يعتبر يميناً شرعياً، يعني: فلا ينعقد اليمين. أولاً: القسم قسمان: قسم من الخالق، وقسم من المخلوق. أما الخالق فيقسم بذاته، وأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، بل ويقسم بمخلوقاته، فقد أقسم الله بنفسه وبربوبيته، قال الله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23]، وقال الله جل في علاه: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]. ويقسم أيضاً بمخلوقاته سبحانه جل في علاه، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]، وقال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2]، بل أقسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. فأقسم الله بالمخلوق لعلتين وحكمتين ظاهرتين لنا: العلة الأولى والحكمة الأولى: التشريف والتعظيم. العلة الثانية: أن هذا فيه دلالة عظيمة على ربوبية الله جل في علاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقيم الليل يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل) هذه فيها دلالة على عظمة خلق هؤلاء، وعظم خلق هؤلاء دلالة على عظمة الخالق جل في علاه. أما القسم الثاني: وهو قسم المخلوق، فالمخلوق لا يجوز له بحال من الأحوال أن يقسم إلا بالخالق، فلا يقسم بشيء غير ربه جل في علاه، أو بأسماء الله الحسنى، وبصفاته العلى، وله أن يقسم بأفعال الله. ولا يجوز بحال من الأحوال أن تقسم بغير الله جل في علاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمع عمر رضي الله عنه وأرضاه يقسم بأبيه: (لا تحلفوا بآبائكم). وأيضاً في المسند عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وفي رواية: (فقد كفر) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله ومن قال لأخيه: تعال أقامرك، فليتصدق). فإذاً: القسم بغير الله لا يجوز؛ فإن كان لا يجوز، فهو أيضاً لا ينعقد، أي لا كفارة فيه، فلو قال: أقسم برحمة أبي، أو بشرف أمي إنه لا يأكل، ثم أكل، فليس عليه كفارة؛ لأن اليمين لا تنعقد. لكن يستثنى من هذه مسألة من قال: عليّ الطلاق، هذه المسألة لنا فيها نظر: النظر الأول: أن هذا من باب النذر. يعني: يلزمه طلاق امرأته، فقوله: عليّ الطلاق ليس قسماً وإنما هو نذر بمنزلة اليمين، وتدور المسألة على نيته، فلو قال: عليّ الطلاق ما تذهبي إلى أبيك، وذهبت إلى أبيها، قال شيخ الإسلام خلافاً لجماهير أهل العلم: المسألة دائرة مع نيته حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). ولو كان يفعل ذلك تهديداً فهذا نذر نزل منزلة اليمين فعليه كفارة يمين. إذاً: القسم ينعقد إذا كان بالله، أو بذات الله، فإذا أقسم رجل وقال: وروح الله لأتزوجن هنداً، فلم يتزوج هنداً. إذا قصد بذلك عيسى، فهذه إضافة تشريف فلا ينعقد اليمين.

قاعدة ما كان أكثر فعلا كان أكثر فضلا

قاعدة ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً القاعدة الثالثة: ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً. وشرط هذه القاعدة: تساوي الفعلين. الأمثلة على هذه القاعدة: فصل الوتر أفضل من وصله؛ لأن الوتر له صورتان: الأولى: ثلاث ركعات بتشهد واحد، وهذا مما فعله النبي صلى الله عليه وسلم. والحالة الثانية: أن تصليها بالفصل، فتصلي ركعتين، ثم تتشهد، وتسلم، ثم تأتي بالركعة الثالثة، وهنا يأتي تطبيق القاعدة: ما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً وثواباً، فالفصل فيه قراءة وركوع وسجود، وفي الركعة الثانية تشهد، ثم تسليم، ثم يقوم بالركعة الثالثة، فيجدد النية ثم تكبيرة إحرام، ثم القراءة، ثم بعد ذلك تشهد أخير، ثم سلام، فزادت النية مع التكبير، وزاد تشهد، وزاد سلام، وكل هذه الزيادات فيها زيادة في الأجر، فما كان أكثر فعلاً كان أكثر فضلاً وثواباً وأجراً، لكن بقيد وشرط هو: تساوي الفعلين. كذلك الصوم في الصيف أفضل من الصوم في الشتاء، لأن اليوم في الصيف يكون أطول، وأيضاً: شدة الحر والمشقة في الصيف أكثر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجرك على قدر نصبك ونفقتك). وأما في الشتاء فالنهار قصير، وأيضاً لا يوجد الحر فلا يكون شاقاً على الإنسان كالصوم في الصيف، ولذلك نحن دائماً ننصح المسافر بالفطر في رمضان إن كان في الصيف، وعليه القضاء في الشتاء عندما يكون النهار قصيراً. ولذلك يكون أجر الصيام في الصيف أفضل من أجر الصيام في الشتاء. أيضاً من صور هذه القاعدة: قيام الليل في الثلث الأخير أفضل من القيام في أول الليل، وهذا الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم. والوتر أيضاً في آخر الليل أفضل منه أول الليل، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). وأيضاً قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6]، هذا فيه دلالة على أن صلاة القيام في الثلث الأخير أفضل من الصلاة في أوله؛ لما في ذلك من ترك الفراش والقيام بين يدي الله. وهذا الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يأمره إلا بالأفضل، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء:79]، والتهجد لا يكون إلا بعد قيام من نوم، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]. ومن الأمثلة كما قال السيوطي: إفراد النسكين خير من القران، أي: أن يفرد العمرة في سفرة، ثم يحج في سفرة أخرى، فهذا يكون أفضل، وهذه وجهة نظر أبي بكر وعمر وعثمان؛ لأنهم كانوا يمنعون المتعة ويفضلون الإفراد؛ حتى يكثر عمَّار بيت الله الحرام.

قاعدة القرعة وسيلة شرعية عند الالتباس

قاعدة القرعة وسيلة شرعية عند الالتباس القاعدة الأخيرة: القرعة وسيلة شرعية عند الاشتباه: فإذا اشتبه على المرء أمور لا يستطيع الترجيح بينها، فعليه بالقرعة، وهذا أصل أصيل في شرعنا كما قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:44]، فهذه قرعة؛ حتى يُرى هل زكريا هو الذي يكفل أم غيره، فكانت القرعة عند عدم الترجيح. وقال الله تعالى عن يونس: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] أي: حدثت قرعة. وفي السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها سافر بها) أي: أخذها النبي صلى الله عليه وسلم معه في سفره. وقد يقول قائل: هل تقام قرعة في الأحكام الشرعية؟ A الأحكام لا تشتبه؛ لأنك لا بد أن تفصل فيها، فالقرعة لا تدخل في الأحكام بحال من الأحوال. قال الله تعالى يبين لنا فصل الخطاب في مسألة الاشتباه في مسألة الأحكام: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُم} [النساء:83] وهم العلماء، {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء:83]، وهذا لتفاوت بين عالم وبين عالم آخر في الترجيح والرد على المخالف.

ضابط الدخول بالأمهات يحرم البنات والعقد على البنات يحرم الأمهات

ضابط الدخول بالأمهات يحرم البنات والعقد على البنات يحرم الأمهات ضابط: الدخول بالأمهات يحرم البنات، والعقد على البنات يحرم الأمهات. ودليله من الكتاب قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] فإذاً: الدخول بالأمهات يحرم البنات، والعقد على البنات يحرم الأمهات. وحكمة التفريق بين أن الأم اشترط فيها الدخول، والبنت اشترط فيها العقد؛ لأنه إذا عقد على البنت فإنه لا بد له من الاحتكاك بالأم، فإذا لم تحرم الأم شق عليه ذلك، والمشقة تجلبت التيسير، فالعقد على البنت دون الدخول يحرم الأم، ولو حدث بعد العقد كلام وطلقها ولم يدخل بها، تصبح الأم محرماً يسافر بها، ويحج بها، فتعطى حكم المحرمية.

ضابط تحريم الجمع بين المرأتين في النكاح

ضابط تحريم الجمع بين المرأتين في النكاح ومن الضوابط: يحرم الجمع بين كل امرأتين لو فرض أحدهما ذكراً، لم يجز له أن يتزوج الأخرى. فإذا فرضنا أن هنداً أخت لسعاد، وإذا جاء رجل يريد الزواج بهما وهما أختان فنقول له: افرض أن سعاد ذكر فهل يجوز له أن يتزوج هنداً؟ لا؛ لأن الأخ لا يتزوج أخته. فإذاً: إذا فرضت البنت الأولى ذكراً لا يجوز لها أن تتزوج الثانية، فلا يجوز لك أن تجمع بينهما. مثال ثان: سعاد عمة زينب، فجاء الرجل يريد الزواج بسعاد وزينب، فنقول له: افرض أن زينب أصبحت ذكراً وسمّي عمراً، وعمرو أراد أن يتزوج من سعاد فلا يصح؛ لأنها عمته فلا يتزوج عمته، فنقول: إذا فرضنا الأول ذكراً لا يصح أن يتزوج الثانية، فلا يصح أن يجمع بين سعاد وزينب؛ لأن إحداهما إذا فرضناه ذكراً لا يجوز أن يتزوج الثانية. قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23]. وأيضاً: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع المرء بين البنت وخالتها، وبين البنت وعمتها قال: وإن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) بأبي هو وأمي.

ضابط تدرك صلاة الجماعة بإدراك السلام مع الإمام

ضابط تدرك صلاة الجماعة بإدراك السلام مع الإمام ومن الضوابط: قول مستقى من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ذهبتم إلى الصلاة فاذهبوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وهذا حديث عظيم جداً، فهو يبين لنا أن المرء يدرك الجماعة بأدنى شيء، ولو بالتشهد الأخير؛ لأنه قال: ما أدركتم، وهذا اللفظ يدل على العموم، يعني: سواء أدركت التشهد أو أدركت الركوع أو أدركت السجود أو أدركت التسبيح، أو أدركت لحظة قبل السلام. وهذا الحديث عمل به الجمهور، وقالوا: إذا أدرك المسبوق الإمام في التشهد الأخير فليجلس ويكون قد أدرك الجماعة، وله ثواب الجماعة. وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: لا تدرك الجماعة إلا بركعة تامة، والركعة التامة تدرك بالركوع عند الجمهور. فكأنه قال: إذا دخل محمد على الإمام أحمد فوجد الإمام في التشهد الأخير فلا يدخل معه، بل ينتظر حتى يسلم الإمام، ثم ينشئ جماعة أخرى، وهذا الذي أخذ به علماء الحجاز، ودليلهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة). وفي رواية: (من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة)، أو قال: (من أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة). مفهوم المخالفة: أنه إذا لم يدرك الركوع لم يدرك الصلاة، فلا يعتد بهذه الجماعة، وهذا المفهوم قوي جداً، لكنه مردود عليه بفضل الله سبحانه وتعالى؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة) أي: كتبت له الركعة، ولا يقصد بالصلاة الجماعة، أو الصلاة كلها. فإذاً: الجماعة يدركها المسبوق ولو بالتشهد الأخير خلافاً للحنابلة، وتطبيقاً لهذا الضابط.

ضابط الاستخارة لا تكون إلا في المباح

ضابط الاستخارة لا تكون إلا في المباح القاعدة الأخيرة: الاستخارة لا تكون إلا في المباح. والاستخارة لغةً: طلب الخير. وفي الاصطلاح: طلب الخير من الله جل في علاه في الأمر المبهم، يعني: الأمر الذي لا يعرف خيره من شره. فالقاعدة تقول: لا استخارة في المندوبات أو في العبادات، أو الواجبات، فلو قلت لأحد الناس: تعال يا أخي صل الظهر فقال: أنا سأستخير، فأنظر هل فيه خير أم شر. فنقول: هذا عطل في فهمك فالواجبات لا استخارة فيها؛ لأن الخير قد علم فيها من الوحي، حيث بين الله جل وعلا أن الخير كله خير في الائتمار بأمره جل في علاه. أيضاً: المندوبات، رجل نقول له: صل في الليل، فقال: سأستخير الله لأرى هل قيام الليل خير لي أم لا؟ قلنا: أيضاً هذا عطل في الفهم، فالاستخارة تكون في الأمور المباحة، وليست في العبادات ولا في الواجبات، ودليل ذلك حديث جابر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن). إلى آخر الحديث. هذا الحديث يثبت لنا أن الاستخارة في كل الأمور، وهذا عام يراد به الخصوص، أي أن قوله: (في الأمور كلها) يعني المباحات، لا العبادات، ولا المندوبات، ومن باب أولى الاستخارة في الحرام. المهم والغرض المقصود: الاستثناء في مسألة: لا استخارة في الواجبات ولا المندوبات، فإنه عند تعارض المصالح في المندوبات لك أن تستخير بأيهما تقدم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

§1/1