القطعية من الأدلة الأربعة
محمد دكوري
مقدمة
القطعية من الأدلة الأربعة تأليف: محمد دكوري مقدمة إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يأَيُهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ} 1. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2. {يَأَيهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفرْ لَكُمْ ذنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولُهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فقد كان الناس في جاهليةٍ انطمست فيها معالِمُ السبيل، يتخبطون ولا يُرشِدُهم إلى الصراطِ المستقيمِ دليل، حَيَّرَتْهم السبلُ المتفرقة بأماراتها الكاذبةِ ومعالمِها الخادعة، وإن فقدانَ الدليلِ المرشد، واختلاطَ الأمارات، وانطماسَ المعالم لمن أخطرِ ما يلقاه سالكُ الطريق.
ثم أنعم الله على عبادِه بالهدايةِ إلى الإسلام، فأنار به سبيلاً ذاتِ معالمَ واضحة، وبدَّد به ما أَطْبَق من الظلمات، وأنزل عليهم كتابَه العزيز دليلا مرشدا، وقد حذّر به من اتباعِ السبلِ المتفرقة بما أقام من الحجةِ البالغة، فمن اعتصم به ظَفِر بعلم اليقين، ومن زاغ عنه فقد قطع على نفسه سبيلَ المعذرة إذ عرَّضها للمهانةِ والمذَمَّة. فكان من أعظم النعم - بعد نعمة الهداية - ما منحَ الله تعالى من نَصْبِ الأدلة والأمارات التي بها يطمئن سالك الطريق، ويرجع بها الضالُّ والتائِهُ إلى جادة السبيل. وكان أهمَّ ما هدى الله به إلى أحكامِ شريعتِه واتباعِ سبيلِه كتابُه العزيز الذي هو مرجع الأدلة ومعينها الذي لا ينضب، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي بينت الكتاب وأوضحته، ثم سبيل المؤمنين التي عليها أمرهم جميعا، فهي عصمة الشريعة وحصنُها المنيع، ثم رحم الله عبادَه بما فتح لهم من أبوابِ الاجتهادِ في الأدلة، وإن أوسعَ ما وقع من ذلك الاجتهادُ في الملماتِ النوازل بالنظر في ميزان القياس والاعتبار. فالكتابُ والسنة والإجماعُ والقياس أهمُّ معالمِ السبيلِ وأحقُّ منارات الشريعة، وقد اهتم العلماء - رحمهم الله- بالأدلة الأربعةِ وغيرِها، فكانت مدارَ البحث في أصول الفقه وغيرِه من علوم الشريعة. وأصلُ ما يبحث في الأدلة إثباتُها أدلةً يجب العملُ بها، وطُرُقاً يلزمُ
سلوكُها إلى الأحكامِ الشرعية، وذلك البحث في حجيتها. ثم فرّع أهلُ العلمِ على هذا الأصلِ مباحثَ كثيرة، بيَّنوا فيها حقيقةَ الأدلة، وطرقَ العملِ بها، وكيف يستنبط الناظرُ فيها أحكامَ الشريعة. ومن فروع البحثِ في الأدلة الشرعية النظرُ في الاختلاف الواقعِ بينها من حيث القوة في الثبوتِ أو الدلالة، حتى يكونَ منها ما ينتهي في القوة إلى حيث يَفصِلُ كلَّ احتمال، فيلزم عالِمَه العملُ به ولا تجوز مخالفتُه بما يَقطع من العذر ويَدفع من الشبهة. وقوةُ الدليلِ ووضوحُهُ في المراد من الاحتجاج أو المحاجَّة من أعظم الأسبابِ التي تورث الطمأنينةَ في القلب وتُوجِبُ - لمن حصَّلها - مزيدَ إقبالٍ على العمل، لما تُضْفِي على الحكم من أمن الخطأ، وتُقْصِي عنه من احتمال الزَّلَل، فمن ظَفِر على مطالبه بقواطع الأدلة، وكان طريقَه إلى الأحكامِ سواطعُ الحجج كان على يقين من أمره بسلوك الطريق الصحيحِ الموصلِ إلى ما يصبو إليه، وذلك من أسبابِ الرسوخِ في العلم والإمامةِ في الدين. القطعية في الأدلةِ الشرعية من المباحث الأصيلةِ في أصول الفقه، لتعلقِه بصفةٍ من صفات الأدلة، وتفرُّعِه عن مبحث الحجية، وإن لعلماء أصول الفقه فيه تصريحات وإشارات. وإن الوصول في البحث العلمي إلى اليقين المُستَنِد إلى الدليل القطعي يظل مطلبا مهما في غير العلومِ الشرعية أيضا، فكثيرا ما بقيت نتائجُ
المطلب الثاني: جهة الدلالة. المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية. المبحث الثاني: فيما يفيد القطعيةَ في الدليل، وفيه مطلبان: المطلب الأول: إفادة الإجماعِ القطعيةَ في الدليل. المطلب الثاني: أثر القرائنِ في إفادة القطعية. المبحث الثالث: فيما يمنع القطعيةَ عن الدليل، وفيه مطلبان: المطلب الأول: أثر الخلافِ في منعِ القطعية. المطلب الثاني: الاحتمالُ وأثرُه في منع القطعية. الفصل الثاني: أثر قطعيةِ الدليل، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: أثر القطعية في الاصطلاح، وفيه مطلبان: المطلب الأول: في الدليلِ والأَمارة. المطلب الثاني: في الفرضِ والواجب. المبحث الثاني: أثرُ القطعيةِ في الاجتهادِ والتَّخْطِئَة. المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح. الباب الثاني: أحكامُ القطعيةِ في الأدلة الأربعة، وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: أحكام القطعيةِ في الكتاب والسنة، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الكتاب والسنة أصلُ الأدلةِ القطعية.
المبحث الثاني: أحكام القطعيةِ في السنةِ من جهة الثبوت، وفيه مطلبان: المطلب الأول: قطعيةُ الخبرِ المتواتر. المطلب الثاني: قطعيةُ خبرِ الواحد. المبحث الثالث: أحكامُ القطعيةِ في الكتاب والسنة من جهة الدلالة وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: قطعية النص. المطلب الثاني: قطعية العموم. المطلب الثالث: قطعية المفهوم. الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع، وفيه مبحثان: المبحث الأول: قطعية الإجماع. المبحث الثاني: الإجماع القطعي. الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: قطعية القياس. المبحث الثاني: القياس القطعي. المبحث الثالث: القطعي من مَسالِكِ العلة. ثم أَرْدَفْتُ بِخاتِمةٍ ذكرتُ فيها أهمَّ النتائج وبعضَ مَجالِ البحث في القطعية.
ثم ذكرتُ من الفهارس العلمية: - فهرسَ الآيات القرآنية. - وفهرسَ الأحاديثِ النبوية. - وفهرسَ الآثار. - وفهرسَ الأعلام. - وفهرسَ المراجع. - وفهرسَ الموضوعات. منهجي في البحث: ويتبين المنهجُ الذي سرت عليه في البحث بما يلي: أ - في الوصول إلى مادةِ الموضوع جَمَعْتُ ما ذكره أهلُ العلمِ من المصادر الأصوليةِ الأصيلة وما ذكره العلماء من غير الأصوليين بما أَقْدَرَ اللهُ من الجُهدِ في البحث والتنقيب، ثم وَزَّعْتُ ذلك على الجُزَيْئاتِ السابقةِ من خطة البحث. ب - ذكرت أقوالَ أهلِ العِلمِ حَسَبَ التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ لوفاتهم رحمهم الله، إلا أن يكونَ قولُ بعضِهم أوضحَ للفقرة فأقدمُه ثم أنقلُ من أشار إلى ذلك. ج - للقطعية سوابقُ ولواحقُ من البحث تتَّصِلُ بها أحيانا وليس من صَمِيمِها، مثلُ بحثِ حجيةِ الدليل السابقِ لقطعيته، ومثلُ بحثِ الضروريةِ أو النظريةِ في الدليل اللاحقِ لبحث القطعيةِ فيه، واقْتَصَرْتُ على البحث في
الدراساتِ في العلوم الكونية قضايا قابلةً للنقضِ لأدنى شبهةِ احتمال، بل قد تَكشفُ بحوثٌ جديدةٌ ما يُبْطِل نظرياتٍ كانت تُعَدُّ من الحقائق العلمية! لكن الأحكامَ الشرعيةَ المُسْتَنِدةَ إلى أدلتِها الصحيحة تختلف عن تلك العلوم من حيث المصدر وطرق الوصول، فإن مصدرَ علومِ الشرع - على اختلافها وتنوعها - الوحيُ من السماء، وأصلها الإيمان بالله الحكيمِ العليم، وأنه أنزل كتابا فيه ذِكْرٌ تكفَّل - سبحانه وتعالى - بحفظه، وكلَّف رسولَه صلى الله عليه وسلم التبيين، وهو الناصحُ الأمين، الحريصُ على حَسْمِ مواردِ اللبسِ وقطعِ موجباتِ الخطأِ ومواردِ الضلال. فكان الفرضُ في الابتداء - من أجل هذا المُسَلَّمِ الإيمانيِّ - أن قضية القطعِ في العلوم الشرعية لا يجوز بحثها معزولةً عن مصدرها، وأنها مختلفة عن بحث القطعيةِ في العلومِ الكونية والمعارفِ الإنسانيةِ الأخرى. ولما عرَض لي بحثُ موضوعٍ في أصول الفقه لمرحلة العالمية (الماجستير) - وبعد أن استشرت بعضَ أساتذتي - وفَّقني الله إلى اختيار هذا البحث موضوعا في هذه المرحلة. أسباب اختيار الموضوع: كان لاختيار الموضوع دوافع: منها: ما تقدم من أهمية اليقين وأن القطعَ بأدلةِ الأحكام يورث الطمأنينةَ وأمنَ الزلل.
ومنها: أنه موضوعٌ في صميم الأدلة الأربعة التي هي أهم موضوعات علمِ أصولِ الفقه. ومنها: أنه موضوعٌ يدخلُ في كثيرٍ من أبوابِ أصولِ الفقه، فيقف الطالب على كثيرٍ من مسائلِ هذا العلم. والبحث في (القطعية) متفرقٌ في ثنايا كلامِ أهلِ العلمِ في أصول الفقه لا يجمعه باب، ولا تُرشِد إلى الوقوف عليه مظان، وإنما يُلفَى من خلال إشاراتِ العلماءِ في مواضعَ غير مطردةٍ، وعند استطرادِ البحثِ والتأصيل، أو إيرادِ الأسئلةِ والأجوبةِ في المناقشات، على أن بعضَ موادِّ هذا الموضوع توجد كذلك متفرقة في غير المشهورِ من كتبِ أصول الفقه الخاصة، مثل مؤلفاتِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية، وكتبِ شمس الدين ابنِ القيم، وفي تحقيقات الشيخِ أبي إسحاق الشاطبي وغيرِهم من العلماء رحمة الله عليهم أجمعين. فلما بدا من ذلك ما بدا ولاح أنّ مما يمكنُ فيه البحث جمعَ ما تفرق في ذلك من كلام أهل العلم -رحمهم الله- وتأليفَ بعضِه إلى بعض في مكان واحد، استعنت بالله مُقدِما على ذلك، عسى أن تَخْرُجَ صورةٌ قريبةٌ لموضوع القطعية في الأدلة الأربعة. والله المستعان. وقد شدّ من عزمي على اختياره ما أشار به بعضُ الأساتذةِ الفضلاء من جِدَّةِ الموضوعِ في بابه وأن الكتابةَ في مثلِه صالحةٌ في هذه المرحلةِ المُبَكِّرةِ.
خطة البحث: جاء البحث في مقدمة، وفصل تمهيدي، وبابين، ثم خاتمة. المقدمة في الخطبة، وبيان أهمية الموضوع، ودوافع اختياره، وخطة البحث، ومنهج الباحث فيه. أما الفصل التمهيدي: ففيه خمسةُ مباحث: المبحث الأول: ماهية القطع، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف القطعِ لغة. المطلب الثاني: القطعُ عند الأصوليين. المطلب الثالث: معنى القطعية في الدليل. المبحث الثاني: الأدلة الشرعية من حيث القطعيةُ وعدمُها. المبحث الثالث: وجوب العملِ بالأدلة الشرعية القطعيةِ وغيرِ القطعية. المبحث الرابع: أهميةُ الدليلِ القطعي. المبحث الخامس: قطعية أصول الفقه. والباب الأول: قطعية الدليل وأثرُها: وفيه فصلان: الفصل الأول: قطعية الدليل، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: جهة القطعيةِ في الدليل، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: جهة الثبوت.
مستوى القطعيةِ نفسِه منعاً لانتشارِ البحث ووفاءً لِحَدِّ الموضوع. د- فَرَّقْتُ - عند الإحالةِ إلى المراجعِ الأصولية - بين كتبِ الحنفيةِ وكتبِ غيرِهم من الأصوليين، ثم رتَّبْتها حسب تقدمِ وَفاةِ مُؤَلِّفيها، إلا أن يكونَ من المراجع ما يكون أساسَ الإحالة فأقدمه، ثم أذكرُ المراجعَ الأخرى التي أشارت إلى الفقرة. وأحيل على المرجع ب (انظر) إلا إذا كان النقلُ منه نصا فأجعل النصَّ المنقول بين قوسين مزدوجين ""ثم أحيل بذكرِ اسمِ المرجعِ مباشرة. هـ- بينت مواضعَ الآياتِ من المصحف بذكر رقمِ الآية واسمِ السورةِ. و خرّجت الأحاديث: فإن كان الحديثُ في الصحيحين أو أحدِهما اكتفيت بالإحالة على موضعِه من ذلك، وإلا خرَّجتُه من السُّنَنِ الأربعة ومسندِ الإمام أحمد، أو خرَّجته - عند الحاجة - من مصادرِ السنةِ الأخرى مُبَيِّناً ما وقفتُ عليه من حكم العلماء عليه صحة أو ضعفا. ز - ترجمت لمن وَرَدَ في البحث من الأعلام إلا الرسلَ عليهم الصلاة والسلام، وذلك باختصارٍ واطِّراد. ح - عرَّفت من المصطلحات، وبينت من الغريب ما دَعَتِ الحاجةُ إلى تعريفِه وبيانِه. شكر وتقدير: هذا، والحمد لله من قبلُ ومن بعد على فضلِه ومنّه، وله الشكر أبدا
شكراً أرجو به ما وعد الشاكرين من مزيدِ نعمِه، وسوابغِ آلائِه. وجدير في هذا المقام بأن أُقَدِّم جزيلَ الشكرِ وخالصَ العرفانِ لهذه المؤسسةِ العلميةِ المباركة إن شاء الله تعالى، الجامعةَ الإسلاميةَ بالمدينةِ النبوية، لما تقدمه من خدمة جليلة للإسلام والمسلمين في تعليم أبنائهم وإعدادهم للدعوة الصحيحة إلى الله تعالى، فجزى الله جميعَ القائمين عليها خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبةَ في الدنيا والآخرة! كما لا يفوتني أن أشكر الوالد الشيخ أحمدِ بنِ محمود بن عبد الوهاب لما بذل في متابعة هذا العمل، ودأب في تقويمه من لدن بدأ حتى جاء في هذه الصورة، فكان نِعْمَ الناصحُ المرشد يُمسك بِرِفْقٍ عند بوادر الاندفاع ثم يَسوق بيُسْرٍ عند أوائل الكلل والسآمة، فجزاه الله عني خيرا وبارك في علمه وعمله! كما لا يفوتني أن أقدم جزيلَ الشكر، وخالصَ العرفان لشيخيّ الفاضلين: الدكتور محمدِ بنِ صالح بنِ عبيد النامي الحازمي، والدكتور سلامة بنِ ضويعن الأحمدي! على قبولهما مناقشةَ هذه الرسالةِ وتقويمها، فجزاهما الله خيرا وأجزل لهما المثوبة! وجزى الله خيرا جميعَ الأساتذة والمعلمين، وكلَّ من تعلَّم طالبٌ على يديه علما نافعا. وشَكَر الله لجميع من ساعد في هذا العمل بفكرةٍ صواب، أو إعارةِ كتاب، أو تنبيهٍ على وجه خلل، فجزى الله الجميع خيرا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
تمهيد
تمهيد ... المطلب الأول: تعريف القطع لغة. قال ابن سِيدَه1: "القطع: إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا، قطعه يقطعه قطعاً وقَطيعةً وقُطوعاً"2. والفصل يكون في الأمور المحسوسة كقطع الحبل. ويكون في الأمور المعقولة كقطيعة الرحم ومن ذلك قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَولَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا في الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 3، وكالقطع في الحكم على أمر ومن ذلك قوله تعالى: {قَالَتْ يَأَيهَا الْمَلأُ أَفْتُوني في أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} 4 5، وكالقطع أو قطع الدابر: بمعنى الإهلاك أو استئصال النوع، ومن ذلك قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ
طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} 1 أي: ليهلك أمة منهم2، وقوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} 3. وفي اللغة استعمالات كثيرة للقطع منها: - قولهم: قطع زيد لسان عمرو: إذا أسكته بعطائه وإحسانه إليه. - وقولهم: انقطع لسانه: إذا ذهبت سلاطته. - وقولهم: أَقطع الرجلُ: إذا انقطعت حجته وبُكِّت بالحق فلم يجب، فهو مُقطع. - وقولهم: قطع زيد عمرا بالحجة: إذا بكّته. - وقولهم - على سبيل المثل -: كلام قاطع: أي نافذ4.
المطلب الثاني: القطع عند الأصوليين قبل ذكر استعمال الأصوليين للقطع يحسن هنا التعرض لبعض الاصطلاحات المتعلقة بالقطع في علوم أخرى غير أصول الفقه. 1- فمن ذلك: (القطع) في علم قراءة القرآن. وهو مرادف للوقف والسكت عند بعض العلماء، وجعل بعضهم القطع: "قطع القراءة رأسا، فهو كالانتهاء، فالقارئ به كالمُعرِض عن القراءة والمنتقل منها إلى حالة أخرى سوى القراءة كالذي يقطع على حزب ... أو في ركعة ثم يركع، أو نحو ذلك مما يؤذن بانقضاء القراءة والانتقال منها إلى حالة أخرى ... ولا يكون إلا على رأس آية لأن رؤوس الآي في نفسها مقاطع "1. 2- ومن ذلك: (الحديث المقطوع) في اصطلاح المحدثين. وهو المتن المنتهي إلى التابعي فمن دونه من قول أو فعل أو تقرير، حكما أو تصريحا، ويجمع على (المقاطيع) و (المقاطع) 2.
3- ومنه (النعت المقطوع) عند علماء النحو. وهو النعت الذي خرج من حالة التبعية للمنعوت في الإعراب إلى حالة الاستقلال بالإعراب لأغراض بلاغية، كقولك: جاء الرجلُ العدلَ، ورأيت الرجلَ العدلُ. وحقيقة القطع في ذلك أن يُجعل النعت خبرا لمبتدأ، أو مفعولا لفعل. وقد يطلق القطع في النحو على قطع الاسم عن الإضافة أي: كونه غير مضاف، فالاسم على ذلك (مقطوع عن الإضافة) 1. 4- ومن ذلك (القطع) في بعض بحور الشعر عند علماء العروض. وهو: أن يحذف آخر وتده المجموع ويسكن ما قبله، ويسمى البحر بذلك (مقطوعا) لأنه قطعت حركة وتده. والوتد المجموع: حرفان متحركان بعدهما حرف ساكن، والوتد المفروق: حرفان متحركان بينهما حرف ساكن2. 5- ومنه (همزة القطع) أو (ألف القطع) عند علماء التصريف.
وهي: الهمزة التي تثبت في الابتداء بالكلمة ولا تسقط في دَرَج الكلام، أي: عند وصل الكلمة بغيرها، ومثالها: الهمزة في (إبراهيم وإخراج وأَعطى وأحمد وأحمال وأقِمْ) ، وهذه الهمزة في مقابلة همزة الوصل التي تثبت في الابتداء دون الوصل1. 6- وقد يطلق في كتب الفقه (القطع) و (قاطع) و (مقطوع) على قطع الطَرَف جناية أو قصاصا وما يتعلق به2، وربما أطلق ذلك على قطع الطريق3. ومن الاستعمال المعاصر للقطع في معناه الأصولي: عبارة (ممنوع الوقوف والانتظار قطعيا) في إشارات تنظيم المرور والسَّير، والمقصود منها سلب العذر عن الواقف والمنتظر في المحل المشار إليه بذلك مهما كان احتمال وقوفه وانتظاره4.
عبارات القطع في أصول الفقه: القطع معنى يصف به علماء أصول الفقه رحمهم الله، أمورا كثيرة: فيصفون به الدليل كقولهم: (دليل قطعي) ونحو ذلك1. ويصفون به الحكم مثل قولهم: (حكم قطعي) و (حكم مقطوع به) 2. ويصفون به المسألة كقولهم: (مسألة قطعية) أو (مسألة مقطوع بها) 3. بل ويصفون به الجواب عن الاعتراض ومن ذلك قولهم: (جواب قطعي) أو (جواب قاطع) 4. ويصفون بالقطع أمورا أخرى غير ذلك5. غير أن مدار كل ذلك على قطعية الدليل لأن قطعية الحكم بحسب الدليل القطعي عليه، والمسألة تكون قطعية لأن الدليل المستدل به فيها
قطعي، والجواب قاطع إذا أُتي فيه بما يفيد القطع، فوصف هذه الأمور بالقطع يدور على قطعية الدليل وينتهي إليها. وأما القطع في الدليل فإنهم رحمهم الله يعبرون عنه بعبارات متنوعة، وقفت منها على أربع: العبارة الأولى: صوغ اسم الفاعل من القطع: (الدليل القاطع) 1. العبارة الثانية: صوغ اسم المفعول من القطع: (الدليل المقطوع به) 2. العبارة الثالثة: صوغ الاسم المنسوب من القطع: (الدليل القطعي) 3. العبارة الرابعة: وصف الدليل باقتضاء القطع، أو إيجابه، أو إفادته،
أو نحو ذلك، مثل: (الدليل المقتضي، أو الموجب، أو المفيد القطع) 1. أما العبارة الأولى وهي قولهم: (الدليل القاطع) فيجمع على (أدلة قاطعة) أو (أدلة قواطع) وقد يقدّم الوصف ويضاف إلى الموصوف فيقال: (قواطع الأدلة) 2 وقد يحذف الموصوف فيقال (القواطع) . والقطع في هذه العبارة صفة للدليل حقيقة بإسناده إليه، فالدليل هو الذي يَقطع، أما الذي يقطعه الدليل فالعلماء يذكرون أمورا كثيرة، إذ يقولون في الدليل: إنه قاطع أو يقطع (العذر) 3 أو (الاحتمال) 4 أو نحو ذلك مما يضعف الدليل ويوهن قوته ثبوتا أو دلالة، كالتردد والشك فيه أو
الشبهة1 أو الخلاف2. وأما العبارة الثانية وهي قولهم: "الدليل المقطوع به" فيجمع على (أدلة مقطوع بها) ، والدليل فيها موصوف بالقطع لكنه - في الحقيقة - الأمر الذي حصل به القطع كأنه آلة القطع وليس القاطع نفسه، فيكون تقدير هذه العبارة: (يَقطع موردُ الدليل أو المستدلُ به العذرَ أو الاحتمال بالدليل) ، فالقاطع مورد الدليل أو المستدل به، والعذر أو الاحتمال مقطوع، والدليل مقطوع به. وقد يحذف الجار في هذه العبارة - وهو الباء من (به) - فيستتر الضمير بعد حذف الجار فيقال: (دليل مقطوع) توسعا بالتعدية إلى الضمير بدون توسط حرف الجر3. وقد يُعبّر بالقاطع عن المقطوع به فيقال: (دليل قاطع) ويراد (دليل مقطوع به) من باب إسناد ما للفاعل إلى المفعول، لأن القاطع حقيقة - كما سبق - هو مورد الدليل أو المستدل به، لكن يسند فعله (وهو القطع)
إلى الدليل (وهو المفعول به) لملابسة فاعل القطع والمفعول به كليهما لفعل القطع، كما ورد مثل ذلك في قوله تعالى: {فَهُوَ فيِ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} 1 أي: مرضية2. ويعدّي أهل العلم - رحمهم الله تعالى - القطع بالباء كما في الأمثلة السابقة، وقد تكون تعدية القطع في هذه العبارة ب (على) ، فيقال: (دليل مقطوع عليه) أو (دليل مقطوع على مُغَيَّبِه) 3 أو نحو ذلك، وذلك محمول - والله أعلم - على أحد أمرين: الأول: أن ذلك من باب تعدية القطع إلى مدلول الدليل دون ضميره كما في أصل العبارة، فيكون تقدير العبارة - على هذا -: (يُقطع بالدليل على مغيبه) ، فالدليل مقطوع به على مغيبه4.
الأمر الثاني: أن تكون تعدية القطع ب (على) والباء في الاستعمال بمعنى، فيقال: جوازا (دليل مقطوع به) أو (مقطوع عليه) . وهو استعمالٌ كثير عند أبي الحسين البصري1 في المعتمد وشرح العُمَد2. وموافقة (على) للباء في المعنى استعمال سائغ في اللغة، ومن ذلك قوله تعالى - عن موسى عليه السلام -: {حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} 3 قال النحاس رحمه الله4: في بيان معنى {حَقِيقٌ} : " ... بمعنى جدير وخليق، يقال: فلان خليق بأن يفعل وجدير بأن يفعل وعلى أن يفعل
بمعنى واحد "1. ومن ذلك ورود (على) في المعاوضات المحضة، كالنكاح والبيع والإجارة2، ومنه قوله تعالى - عن شعيب عليه السلام -: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} 3، وتقول: "بعتك هذا الثوب على درهم " ونحو ذلك: أي بدرهم، وذلك من باب تناوب حروف الجر4. وأما العبارة الثالثة وهي قولهم: (الدليل القطعي) فيجمع على (أدلة قطعية) ، وقد يحذف الموصوف فيقال (قطعيات) . والدليل في هذه العبارة موصوف بالقطع لكن النسبة هنا مطلقة لا
تشعر بكون الدليل هو القاطع كما في العبارة الأولى، أو بكونه المقطوع به كما في العبارة الثانية. وأما العبارة الرابعة وهي نحو قولهم: "الدليل المقتضي أو الموجب أو المفيد القطع" فيجمع على (أدلة مقتضية أو موجبة أو مفيدة القطع) . وهي قريبة من العبارة الأولى (الدليل القاطع) ، لأن اقتضاء الدليل القطع وإيجابه له ظاهره أنه يُلزم من ينظر فيه القطع ويلجئه إليه، وذلك يخرج الدليل عن كونه مثل الآلة المجردة في القطع كما هو ظاهر العبارة الثانية (الدليل المقطوع به) . والله تعالى أعلم. ألفاظ بمعنى القطع في استعمال الأصوليين: 1- العلم: وقد اختلف استعمال العلماء للعلم والقطع: - فالعلم عند بعضهم مرادف للقطع واليقين مرادفة مطلقة، فلا يستعمل لما دون القطع واليقين إلا على سبيل التجوز في الاستعمال، بل ذلك عند بعضهم ضرب من التناقض في القول وعدم التحقيق فيه1، وعلى
هذا جاء تعريفهم للعلم كقولهم: "هو عبارة عن أمر جازم لا تردد فيه ولا تجويز "1، أو أنه "عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه"2. - والعلم عند بعض آخر من العلماء أعم إطلاقا من القطع، فالظاهر الراجح عند هؤلاء علم وإن لم يكن علما مقطوعا به3، فالعلم على هذا يطلق على القطع، وعلى ما دونه، وهو العلم الظاهر أو علم غالب الرأي. وعلى هذا ظاهر استعمال الشافعي4 - رحمه الله - للعلم في كتابه (الرسالة) ، يدل على ذلك قوله: "العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر "5، ومثّل للأول باستقبال الكعبة إذا
كان المصلي في المسجد الحرام، وبفرضية الصلاة والزكاة والحج، ومثّل للثاني باستقبال القبلة إذا كان المستقبل بعيدا عن المسجد الحرام حيث لا يقطع بإصابة البيت، وبقبول عدالة المسلم بما ظهر من إسلامه فيناكح ويوارث، وقد يكون غير عدل في الباطن فلا يقطع من ظاهر حاله أن باطنه كذلك1! وهو -رحمه الله- إذا أراد العلم القطعي قيد مطلق العلم ب (الإحاطة) كقوله: "والعلم يحيط "2 وقوله: "أحاط العلم"3 وقوله: "يعلم بإحاطة"4، فالدال على القطع في عبارته كلمة: (إحاطة) المقيِّدة لمطلق العلم، ومعناها: إحاطة العلم بظاهر الدليل وباطنه، كقوله فيما سبق: "علم إحاطة في الظاهر والباطن "وقوله: "حق في الظاهر والباطن "5،
وقد يستثني - رحمه الله - بالمشيئة فيقول: "فالعلم - إن شاء الله - يحيط"1 أو "فالعلم يحيط إن شاء الله"2. وتقييد العلم بالإحاطة أوتمييزه بها أسلوب ورد في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَلاَ يحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 3 وقوله: {وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} 5 وقوله: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُّ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} 6، وقد ذكر العلماء - رحمهم الله - في تفسير هذه الآيات معنى مقاربا لما سبق من استعمال الشافعي رحمه الله تعالى7، كما ذكر أهل اللغة أن معنى (أحاط بالشيء علما) : أنه بلغ أقصى العلم به ظاهرا وباطنا8.
والعبارة ورد استعمالها في المعنى نفسه عند بعض من جاء بعد الشافعي من الأصوليين كالسرخسي1 2. وكل ما سبق يجعل تقييد العلم بالإحاطة - للدلالة على قوته - أسلوبا أصيلا في اللغة وفي أصول الفقه، كما أن في ذلك إشارة إلى جواز استعمال مطلق العلم في ما دون القطع. ويؤيد قول من جعل العلم أعم إطلاقا من القطع ما ورد من استعمال العلم في ذلك في النصوص نحو قوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} 3 ومعرفة إيمانهن هي بحسب ما ظهر مع احتمال خلاف ذلك، ونحو قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 4 ويجب اتباع ما لا يفيد القطع من الأدلة وغيرها إذا أفاد ظنا غالبا وكان ظاهرا راجحا. وهذا وأمثاله على رأي الفريق الأول من باب التوسع والتجوز مثل: استعمال الظن بمعنى العلم5، أو يجعلون العلم في الآية الأولى بمعنى العلم
بالتلفظ بالشهادة وذلك عندهم ظاهر الإيمان1، وفي الآية الثانية أن وجوب اتباع ما ليس بقطعي هو فيما دل الدليل القطعي على وجوب اتباعه2. - وجمع بعض العلماء بين الرأيين بأن للعلم إطلاقين هو في أحدهما خاص بالقطعي، وفي الآخر للقدر المشترك بين القطع وما دونه من الرجحان3.
والذي تطمئن إليه النفس هو الرأي الثاني، وهو أن العلم أعم من القطع، لقوة ما يدل على ذلك كما سبق، والله أعلم. 2- اليقين1: إلا أن أبا الوليد الباجي2 - رحمه الله - فرق بين العلم واليقين، بأن اليقين أعم من العلم، قال: "لأن العلم يتضمن التيقن ومن علم شيئا تيقنه وقد يتيقن بغير علم.. "3، ونقل عن الإمام مالك4 - رحمه الله - عبارة تشير إلى ذلك، وهي قوله: "إن لغو اليمين هو: أن يحلف الرجل على الشيء يتيقنه وهو على خلاف ما حلف عليه "5.
وفُرِّق بينهما - أيضا - بأن اليقين خاص بالعلم الحاصل عن نظر واستدلال، ولذلك لا يوصف به علم الله تعالى1، ولعل من هذا تعريف علماء اللغة اليقين: بأنه العلم وزوال الشك2. ويجعل بعض العلماء لليقين ثلاث درجات في القطعية، هي: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، ويمثل في التفريق بين تلك الدرجات بأن كل من عقل الموت فهو يعلمه علم اليقين! فإذا احتُضر وعاين مقدمات الموت وأخذته سكراته ورأى الملائكة ... فقد رأى الموت عين اليقين! فإذا انقضى روحه وذاق الموت فقد تحققه حق اليقين3! 3- الجزم: ومن الألفاظ المرادفة للقطع في استعمال بعض الأصوليين: الجزم4.
معنى القطع في اصطلاح الأصوليين: والقطع في اصطلاح الأصوليين يطلق على معنيين: الأول: الحكم الجازم مع عدم احتمال النقيض مطلقا1. الثاني: الحكم الجازم مع عدم احتمال النقيض احتمالا ناشئا عن دليل. والقطع بالمعنى الأول أخص منه بالمعنى الثاني، لأنه على المعنى الثاني لا يمنع من القطع الاحتمالُ البعيد الذي لا ينشأ عن دليل فيكون الحكم قطعيا مع مثل هذا الاحتمال2. وفرق بعض العلماء بين المعنيين في التعبير، وذكر أن المعنى الأول الأخص يسمى: علم اليقين، والمعنى الثاني الأعم يسمى: علم الطمأنينة3.
ورُدَّ بأن الطمأنينة تطلق على المعنيين، إذ تطمئن النفس إلى كليهما، فيكون معنى علم الطمأنينة على المعنى الأخص للقطع: سكون النفس بكمال اليقين، وإطلاق علم الطمأنينة في المعنى الأعم حيث قارب غيرُ القطع حدَّ اليقين1. ويتفرع على هذا الاختلاف في معنى القطع الاختلاف في الاعتداد بالاحتمال في رفع القطعية عن الدليل، أيعتد بمطلق الاحتمال أم لا يعتد منه إلا بما كان قريبا له ما يؤيده2.
المطلب الثالث: معنى القطعية في الدليل اشتقاق القطعية من القطع عند الأصوليين: يصاغ من القطع مصدر مصنوع1 فيقال: (القطعية) أو (قطعية الدليل) للدلالة على السمات والخصائص التي يشتمل عليها القطع في الدليل من القوة الفاصلة في الثبوت والدلالة، واليقين بما دل عليه من الأحكام، وعدم جواز مخالفته، وعدم احتماله التعارض، ونحو ذلك2. ومن استعمال القطعية بهذا المعنى قول السبكي3 رحمه الله تعالى:
" ... ومنع بعضهم قطعية هذا الدليل"1. ول (القطعية) نظائر في أصول الفقه، منها: (الحجية) أو (حجية
الدليل) أي كونه حجة يجب العمل به، ومنها: (العلية) أو (علية الوصف) بمعنى كونه علة. معنى القطعية في الدليل: من معنيي القطع عند الأصوليين يكون معنى القطعية في الدليل عندهم، فعلى المعنى الأول الأخص للقطع يكون معنى القطعية في الدليل: كون الدليل بحيث لا يكون في ثبوته ولا في دلالته1 احتمال مطلقا، وعلى المعنى الثاني الأعم يكون معنى القطعية في الدليل: كون الدليل بحيث لا يكون في ثبوته ولا في دلالته احتمال ناشئ عن دليل. فالقطعية في الدليل الشرعي معناها: بلوغ الدليل أقصى القوة في ثبوته وإضافته إلى مصدره، وأقصى القوة في دلالته على المراد منه ولا يبقى فيه شك ولا احتمال، فيُسكت هذا النوع من الدليل المعاندَ اللدود، ويذهب سلاطة لسانه وحدّته، وسلاقة منطقه ولحن قوله، ويبكّته بالحق المبين وفصل الخطاب، ويبيّن زيف شبهه ويبطلها، وينقطع عذر من خالفه بعد الوقوف عليه، ويتوجه إليه الذم والمؤاخذة، إذ خالف ما ليس له في مخالفته حق ولا عذر. وذلك مثل الدليل على توحيد الله، فقد بلغ من القوة أقصاها حتى
سماه المولى - سبحانه وتعالى - الحجةَ البالغة، فقال عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْء كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تُخْرِصُونَ. قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البَالِغَةُ} الآية1. وفي كلام علماء التفسير ما يدل على أن المراد بالحجة البالغة هنا الدليل القطعي بالاصطلاح السابق، قال ابن جرير الطبري2: "ويعني بالبالغة: أنها تبلغ مراده في ثبوتها على من احتج بها عليه من خلقه وقطع عذره إذا انتهت إليه"3، وقال القرطبي4 في تفسير الحجة البالغة: "أي التي تقطع عذر المحجوج وتزيل الشك عمن نظر فيها"5.
المبحث الثاني: الأدلة الشرعية من حيث القطعية وعدمها مذهب جماهير أهل العلم أن الأدلة الشرعية السمعية1 منها ما يفيد العلم القطعي واليقين، بحيث لا يبقى عند من نظر فيه في ثبوته ولا في دلالته على المراد منه احتمال ولا تردد ولا اشتباه، وتثبت به أحكام قطعية، وأن منها - دون ذلك - أدلة ظاهرة عرضة للاحتمال وقابلة للتردد في ثبوتها ودلالتها أو أحدهما، ويثبت بها أحكام ظاهرة وراجحة محتملة، وهي مع
ذلك واجب العمل بها على من ثبتت عنده حجيتها. فمن أقوال العلماء في ذلك ما يلي: - قال الإمام الشافعي رحمه الله: "العلم علمان: علم عامّةٍ لا يَسَعُ بالغا غيرَ مغلوبٍ على عقله جَهْلُه ... مثل: الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهر رمضان، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرّم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر ... وهذا الصنف كله من العلم موجود نصا في كتاب الله، وموجود عاما عند أهل الإسلام، ينقله عوامُّهم عمَّن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع"1. وقال في الوجه الآخر من العلم: هو "ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يُخَص به من الأحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا في أكثره نص سنة وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل التأويل ويدرك قياسا"2.
- وقال القاضي أبو بكر الباقلاني1 رحمه الله: "إن جميع ما يستدل به على الأحكام على ضربين: فضرب منها أدلة يوصل صحيح النظر فيها إلى العلم بحقيقة المنظور فيه ... والضرب الثاني: أمر يوصل صحيح النظر فيها إلى الظن2 وغالب الظن "3. - وقسم أبو بكر الجصاص4 - رحمه الله - الأحكام إلى قسمين: "أحدهما: ما كان لله تعالى عليه دليل قاطع يوصل إلى العلم ... والثاني:
ما كان طريق الاجتهاد وغالب الظن ليس عليه دليل قاطع يوصل إلى العلم بالمطلوب ... "1. - وقسّم أبو زيد الدبوسي2 - رحمه الله - الأدلة إلى "موجبة للعلم قطعا "، وإلى أخرى "لا توجب إلا غالب الرأي "3. - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله4: "والصحيح أن المسائل تنقسم قسمين: إلى ما يقطع فيه بالإصابة وإلى ما لا ندري أصاب الحق أم أخطأ، بحسب الأدلة وظهور الحكم للناظر" قال: "ولا أظن يخالف في هذا من فهمه"5. وقال في موضع آخر: "والعلم بالكائنات وكشفها له طرق متعددة:
حسية وعقلية، وكشفية1 وسمعية، ضرورية ونظرية2 وغير ذلك، وينقسم إلى قطعي وظني وغير ذلك "3. وقال ابن القيم رحمه الله4: "إن ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام: نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا، وظواهر تحتمل غير معناها احتمالا مرجوحا، وألفاظ تحتاج إلى بيان فهي بدون البيان عرضة الاحتمال ... فالأول يفيد اليقين بنفسه، والثاني يفيده باطراده في موارد استعماله،
والثالث يفيده إحسان رده إلى القسمين قبله"1. اهـ. وهذا التقسيم ظاهر في مؤلفات أهل العلم من الأصوليين وغيرهم2 حتى حكى أبو إسحاق الشاطبي3 الاتفاق على أن أدلة الشرع ليست كلها قطعية4. ومن هذا الباب التقسيمات المذكورة في أصول الفقه للدليل الواحد بحسب القطعية وعدمها، كتقسيم الإجماع إلى قطعي وغير قطعي، وكذلك تقسيم القياس والعموم والمفهوم ومسالك التعليل5 ونحوها. ويشير إلى ما سبق من تقسيم الأدلة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابَ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الآية6، قال
القرطبي في تفسيرها: "المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال ... والمراد بالمحكم في مقابلة هذا وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا "1، وقال ابن كثير2: "يخبر الله تعالى أن في القرآن {ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه على كثير من الناس أو بعضهم ... {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة الحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد"3. وقد نقل العلماء مذاهب أخرى في قطعية الأدلة الشرعية تخالف ما سبق من مذهب جمهور أهل العلم رحمهم الله: - فذهب بعض العلماء إلى أن جميع الأدلة الشرعية قطعية، وما لا يفيد العلم القطعي منها فهو مطروح غير معدود فيها، وعلى هذا المذهب تكون جميع الأحكام الشرعية قطعية، وهذا القول منسوب لبشر المريسي4
وابن علية1 وأبي بكر الأصم2 ونفاة القياس من الإمامية3 والظاهرية4. يدل على مذهب الظاهرية قول ابن حزم5: "والله تعالى يقول: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 6 فصح أن من لا برهان له على صحة قوله
فليس صادقا فيه أصلا! وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى فإن البرهان قائم ظاهر فيه، وحرم القول بما عدا هذا لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه وقد حرم الله تعالى القول بالظن وأخبر أنه خلاف الحق1 وأنه أكذب الحديث2، فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله ... وهذا أيضا برهان واضح في إبطال القول بالقياس والتعليل والاستحسان3 في جميع الجزئيات"4.
وهذا الدليل الذي ذكر انحصار الأدلة في مثله وطرح غيره دليل قطعي من الجهتين، أما من جهة الثبوت فلكونه من القرآن وهو قطعي، أو بنقل الثقات متصلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قطعي مطلقا عند ابن حزم رحمه الله1، وأما من جهة الدلالة فلكونه نصا على الحكم أو دليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا. ومما استُدِل به لهذا المذهب: "أن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع، فما أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع، وما لم يثبته فهو باقٍ على النفي الأصلي قطعا، ولا مجال للظن فيه"2. وعلى هذا القول تكون سائر الأدلة غير القطعية خارجة من جملة الأدلة الشرعية، كالقياس والعموم وجميع مدارك غلبات الظنون وظهور الرجحان3. أما الإمامية فوجه القول بقطعية جميع الأدلة الشرعية عندهم أنه لا يخلو عصر من العصور من إمام معصوم من الخطأ! وقول المعصوم دليل قطعي في الدين كقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسقط بقوله سائر الأدلة الظنية إذ لا تعارض
بين قطعي وظني1. وهذا المذهب يتبين ضعفه بواقع الشريعة ضرورة، يجده الناظرون في الأدلة الشرعية عند الاستدلال على الأحكام الشرعية، وعند الاجتهاد في طلب الأدلة على أحكام الحوادث والنوازل، فليس كل ما يستدلون به على أحكام تلك النوازل يقطعون به وبأن ما أثبتوا هو حكم الله قطعا2، وأما مذهب الإمامية فهو مفرع على مسألة الإمامة عندهم، وهو قول باطل فما فرع عليه كذلك3. - وذهب بعض العلماء إلى أن الأدلة الشرعية السمعية ليس شيء منها يفيد القطع مطلقا، وأن أقوى ما يمكن أن تصل إليه هو غالب الظن4. ولم أجد من نسب هذا المذهب بهذا الإطلاق إلى قائل معين5. أما السوفسطائية6 فهم ينكرون اليقين مطلقا، ولا يرون العلوم
القطعية أصلا1! لكنهم من غير فرق المسلمين. ويلتحق بهذا المذهب قول من أنكر وجود النص القطعي، لأنه نفي لوجود القطعي من جهة الدلالة، وكمال القطعية في الدليل أن يكون قطعيا من جهتي الثبوت والدلالة، وقد نسب هذا القول - أي إنكار وجود النص مطلقا - إلى أبي محمد ابن اللبان2،3. واستُدل لهذا المذهب بأن الدليل لا يكون قطعيا إلا إذا علمت سلامته من المعارض، والعلم بعدم المعارض مستحيل لأن غاية الأمر فيه ألا يعلم بالمعارض وعدم العلم بالمعارض ليس علما بعدم المعارض، وهو المشترط في القطع4. ويبين ضعف هذا الدليل أن العلم بعدم المعارض مستفاد من الإيمان
بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم والعلم بأنه صادق فيما أخبر وبلّغ، ولا يجتمع مع اليقين بذلك احتمال مغمور أو تجويز مظلم من العقل المجرد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ووراثة النبوة، فعدم المعارض يعلمه العلماء الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم1، وإذا انتفى المعارض المزعوم لم يبق لهذا المذهب وجود، لأنه قائم على أنه يحتمل كل دليل أن يكون له معارض لا يعلم، ووجه الرد أن عدم المعارض معلوم من دين الله ضرورة للعلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق ما أخبر به، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل. مذهب الرازي في قطعية الأدلة الشرعية: ومذاهب آخر: أن الأدلة الشرعية السمعية لا تفيد اليقين، لما يتطرق إليها من الاحتمالات التي تزيل القطع عن الدليل عند ورودها عليه، إلا أن يكون هناك ما يقطع تلك الاحتمالات من القرائن المشاهدة، أو المنقولة نقلا متواترا، وهذه الاحتمالات هي على سبيل الإجمال والتفصيل كما يأتي: 1- احتمال عدم الوضع: وذلك إذا لم يرو عدد يفيد خبرهم العلم القطعي من نقلة اللغة والنحو والصرف: أن العرب وضعت لفظا معينا لمعنى معين، فيكون اللفظ على هذا محتملا عدم دلالته على معناه الظاهر
لعدم القطع بصدق النقل. 2- احتمال إرادة المتكلم معنى غير ما ظهر من كلامه، فيكون اللفظ مع ظهوره فيما وضع له أولا محتملا للمجاز1 والنقل2 الشرعي أو العرفي. ومع ظهوره في أنه لمعنى واحد محتملا للاشتراك3. ومع ظهور اللفظ في أنه للعموم4 أو الإطلاق5 يكون محتملا
للتخصيص1 والتقييد2. ومع ظهوره أنه للأبد محتملا للنسخ3. ومع ظهوره في أن ليس فيه شيء مضمر محتملا لذلك. ومع ظهوره في أنه على ما ظهر من الترتيب محتملا للتقديم والتأخير. فمع ظهور الدليل في عدم ذلك كله فإن تلك الاحتمالات تمنع من القطع والتيقن بمعنى الدليل لأنها تؤثر في إضعاف الجزم بمعناه الظاهر 4. 3- احتمال معارضة الدليل العقلي للدليل السمعي، والعقلي مقدم على السمعي على هذا المذهب، لأنه أصله الذي به ثبت والأصل مقدم على
الفرع عند المعارضة. وكذلك احتمال أن يعارض الدليل السمعي دليل سمعي آخر فيصار إلى التراجيح الظنية، وكل ذلك مفيد للظن مانع من القطع. وتكون جملة الاحتمالات: احتمال الخطأ في اللغة أو النحو أو الصرف، واحتمال المجاز، والنقل، والاشتراك، والتخصيص، والتقييد، والنسخ، والإضمار، والتقديم والتأخير، واحتمال المعارض العقلي أوالنقلي. هذا هو المذهب الذي صرح به فخر الدين الرازي1 في المحصول، فقد ذكر ورود هذه الاحتمالات على الأدلة اللفظية (السمعية) وأخذ في ذلك وردّ ثم خلص قائلا:"واعلم أن الإنصاف أنه لا سبيل إلى استفادة اليقين من هذه الدلائل اللفظية إلا إذا اقترنت بها قرائن تفيد اليقين سواء كانت قرائن مشاهدة أو كانت منقولة إلينا تواترا"2.
..............................................................................
ووافقه الأصفهاني1 في شرحه للمحصول، وقرر ورود الاحتمالات بالبيان والتفصيل، ثم قال بعد أن ذكر اختيار الرازي كما سبق: "وهذا الذي اختاره المصنف هو الحق "2. وهذا المذهب يجعل وجود الدليل القطعي السمعي عزيزا، بل إنه ربما استنبط من كتب الرازي ما يجعله قريبا من النفي المطلق لوجود القطعي في الأدلة السمعية. ومما يبين ذلك أمور: - أنه ذكر أن كل سمعي يحتمل أن يعارضه دليل عقلي أو أحد الاحتمالات الأخرى، وأن ذلك مخرج له عن القطعية! مع أنه لا يمكن العلم بنفيها بعدم الوجدان لأن الاستدلال بعدم الوجدان لا يفيد إلا الظن3. - أنه نفى أن يكون غرض المتكلم أن يَفهم السامع من خطابه القطع واليقين، وأنما غرضه الإفهام مطلقا، بمعنى إفادة الاعتقاد الراجح والظن الغالب، مع تجويز نقيضه في الواقع.
واستدل على أن ذلك هو الغرض من الخطاب بأن الأدلة اللفظية متوقفة على تلك الاحتمالات العشرة المذكورة وأنها ظنية وأن ما توقف على الظني فهو أولى أن يكون ظنيا1. - أنه أطلق القول بعدم إفادة الأدلة اللفظية القطع في مواضع كثيرة، بل ورتب على ذلك القول بظنية بعض الأحكام والمسائل مخالفا فيه الجمهور، مثل القول بظنية كثير من المسائل الأصولية التي يرى الأكثرون أن عليها أدلة قطعية، ككون الأمر للوجوب2 ووجود صيغ للعموم3. ومن المواضع التي صرح فيها الفخر الرازي بالإطلاق قوله في سياق بعض المناقشات: "لكنا بينا أن التمسك بالأدلة اللفظية - أينما كان - لا يفيد إلا الظن "4. - ونسب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم إلى الفخر الرازي القول بنفي وجود القطعي من الأدلة السمعية مطلقا، قال ابن تيمية: "فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين وفي إفادة الأخبار العلم"5، وجعل ابن القيم نفي وجود القطعي في الأدلة السمعية أحد
الطواغيت التي هُدمت بها معالم الدين، والتي كَسر بها المعطلة أصحاب التأويل عصمةَ الكتاب والسنة! قال ابن القيم: "ولا يعرف أحد من فرق الإسلام قبل ابن الخطيب1 وضع هذا الطاغوت وقرره وشَيَّد بنيانه وأحكمه مثله! "إلى أن قال مشيرا إلى بعض الطوائف التي لم تلتزم مذهب السلف "وإن كان بعض هذه الطوائف يوافق صاحب هذا القانون في بعض المواضع فلم يقل أحد منهم قط إنه لا يستفاد اليقين من كلام الله ورسوله البتة"2. موقف العلماء من مذهب الرازي: واختلفت مواقف العلماء من مذهب الفخر الرازي هذا: - فقد سبق عن ابن تيمية وابن القيم في أن مذهب الرازي فيه الطعن في الأدلة الشرعية اللفظية، وأنه هدم لمعالم الدين وكسر لعصمة الأدلة3. - وجعله بعضهم تشكيكا في أمر معلوم قطعا، كما في تشكيكه في اللغة وطرق معرفة الوضع، لأن الدليل السمعي اللفظي لا يفيد حتى يعرف أن الألفاظ الواردة فيه موضوعة لمعانيها والقدح في قطعية طريق معرفة ذلك
قدح في قطعية الدليل السمعي1. وقد أجاب الفخر الرازي عما ذكره من أمور مشكلة ترد على نقل الوضع وطرق معرفته، سواء المتواتر منها والآحاد2، وجعلُ بعض من جاء بعده ما ذكره تشكيكا يدل إلى أن ما أجاب به الرازي بعد ذلك التشكيك لم يكف لرفع ما طوّل الكلام فيه من إيراد المشكلات على طرق نقل اللغة. - وجعل بعضهم مذهبه أن الأدلة اللفظية تفيد اليقين إذا انتفت تلك الاحتمالات العشرة بالقرائن3، فأخذوا بما صرح به وكأنهم لم يعتدوا بما يدل على النفي المطلق في مواضع أخرى، ولعل ذلك من حمل المطلق من كلامه على المقيد منه4، والله تعالى أعلم.
- ونقل الزركشي1 عن القرطبي2 أن ما ذكره الرازي لا يعني اشتراطه حصول انتفاء هذه الأمور مفصلة في الذهن، بل إن اليقين يحصل من الأدلة السمعية اللفظية من غير شعور بتفصيل انتفاء تلك الاحتمالات كما يحصل القطع بالخبر المتواتر من غير شعور بتفصيل شروطه، "قال - يعني القرطبي - وإنما نبهنا على ذلك لئلا يسمع القاصر هذا فيظن أنه لا يحصل العلم بالدليل اللفظي حتى يخطر له تلك الأمور بباله فيعتبرها واحدا واحدا فتشك نفسه مما حصل له من اليقين من الأدلة، ولا شك أن ظن تلك الأمور أو بعضها بالدليل ظن إلا أن يقترن به قرائن عقلية أو حالية فيحصل
اليقين منها "1. - وجعل بعضهم مذهب الرازي في نفي إفادة الألفاظ اليقين: أنه يريد القطعي بالمعنى الأخص، وهو ما لا احتمال فيه أصلا، وأنه لا ينفي أن تفيد الأدلة اللفظية القطع بالمعنى الأعم للقطعي وهو ما يكون فيه احتمال غير معتضد بدليل2. ويستخلص مما ذكر في مذهب الرازي أنه لا ينكر في الأدلة الشرعية أمرين، أحدهما: ظهور المراد منها وأنه يجب العمل في الجملة بالظاهر الراجح3، والآخر: جواز أن تكون الأدلة الشرعية قطعية من حيث الثبوت4. فيرجع الكلام في مذهبه على موقفه من جواز أن تكون الأدلة الشرعية قطعية من جهة الدلالة، وكلامه في كتبه محتمل، واختلف العلماء في مراده من ذلك، فإن كان مذهبه أن اللغة فقط لا تكفي في القطع بمدلول الأدلة
اللفظية حتى ينضم إليها قرائن نقلها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهموا بها المراد من تلك الألفاظ فانقطعت الاحتمالات - فذلك قريب من مذهب الجمهور، وإن كان مذهبه نفي جواز أن يكون الدليل اللفظي - ومنه الأدلة الشرعية السمعية - قطعيا مطلقا من حيث الدلالة! فذلك خلاف الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وإنه باطل. لكنه لا يَسْلَم - رحمه الله - من أن كلامه في مسألة قطعية الأدلة اللفظية غير مطرد، وظاهره التناقض إذا أُخِذ مجموعا1. عدد الاحتمالات في هذا المذهب: وقبل تفصيل الكلام فيما رَدَّ به العلماء مذهب الرازي يحسن التعرض لأمر يتصل بجملة الاحتمالات المذكورة ههنا، وهو العدد الإجمالي للاحتمالات فإن عدم الاطراد فيما ذكر من الاحتمالات - سواء في العدد أم
في التعداد - مما يبين وهن هذا المذهب. فقد أوصل الرازي وغير واحد من العلماء الذين حكوا مذهبه تقريرا له أو إبطالا عدد الاحتمالات إلى عشرة! لكنه لم تتفق حكايتهم لها بالاطراد جملة وتفصيلا. - أما الرازي نفسه فقد صرح في المحصول بأن الاحتمالات تسعة، وعدها واحدا واحدا وهي: احتمال واحد من عدم نقل اللغة والنحو والصرف، وثمانية احتمالات من الاشتراك، والمجاز، والنقل، والإضمار، والتخصيص، والتقديم والتأخير، والناسخ، والمعارض العقلي1، وقال في موضع آخر من المحصول: "عدم المعارض العقلي والنقلي"2، وصرح في المحصِّل3 بأنها عشرة، ولكنه لم يزد فيه على ما في المحصول إلا بقوله: "عدم التخصيص بالأشخاص والأزمنة "ولم يذكر في المحصّل مما ذكر في المحصول احتمال عدم النقل واحتمال الناسخ! وإذا عُدَّ احتمال الناسخ المذكور في المحصول داخلا في احتمال التخصيص بالأزمنة المذكور في المحصل4 كان الحاصل أن في المحصول زيادة على المحصل باحتمال واحد، وهو احتمال
النقل، وقد عدها في المحصول الذي فيه الزيادةُ تسعةً وفي المحصل عشرة. - وقال الأصفهاني في شرحه على المحصول بعد أن ذكر التسعة الاحتمالات: "وزاد في الأربعين آخر1: وهو عدم المعارض الظني، وذلك لأنه بتقدير وجوده لا بد من العود إلى التراجيح الظنية وذلك لا يفيد إلا الظن "قال الأصفهاني: "والحق أن المجموع عشرة "2، وقد سبق أن الرازي ذكر المعارض النقلي مع المعرض العقلي في موضع من المحصول. - وأما ابن القيم فقد ذكر كون الاحتمالات عشرة ونقل في حكايتها ما ذكره الرازي في المحصل3.
والحاصل أنه ليس هناك ضبط لإجمالي عدد الاحتمالت، وإن كان آخر ما وصلت إليه عند الرازي وغيره عشرة، والظاهر أن ذكر عدد العشرة لبيان الكثرة لا الحصر، يؤيد ذلك أمور: الأول: أن الرازي ذكر في المحصول احتمالات أكثر مما ذكر في المحصل، لكنه عدها في المحصول تسعة احامالات، وفي المحصل عدها عشرة، واقتضى ذلك أن يُعَدَّ احتمال (عدم الوضع والتصريف والنحو) ثلاث احتمالات في المحصّل مع أنه عدها بصريح كلامه احتمالا واحدا في المحصول. الأمر الثاني: أنه لم يُذكر في تفصيل الاحتمالات العشرة أمورا معينة، بل ذكر بعضهم ما لم يذكره غيره، ونقص بعضهم عما ذكره غيره، مع أن أكثرهم يذكرون عدد العشرة، ولو عُدَّ جميع ما ذكروه لجاوز العشرة. الأمر الثالث: أن وجوه الاحتمال التي يتغير بها معنى الكلام وطرقَ التوسع التي يمكن تطريقها بمجرد الوهم والتجويز العقلي إلى الألفاظ في الكلام العربي كثيرة جدا، فيبعد حصرها في عشرة1!
وجوه الرد الإجمالي على هذا المذهب: الوجه الأول: المنع، أي: عدم التسليم بأن القطع في الأدلة السمعية متوقف على القطع بنفي الاحتمالات العشرة، وإنما القطع في الأدلة السمعية يتوقف على أمر واحد وهو الطريق الذي يعرف به مراد الشارع، وقد عرف العلماء الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم مراده، فعرف الصحابة المراد من الألفاظ الشرعية التي نقلوها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تناقلته الأجيال خلفا عن سلف، فوقعت عناية المسلمين بمعاني الكتاب والسنة كما وقعت عنايتهم بألفاظهما، وليست اللغة وحدها وفهمها هي المعول عليها في ذلك حتى يُطَرَّق الاحتمالات إلى ألفاظ الكتاب والسنة. فقوله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} 1 كما نقل لفظه وقطع بأنه
كلام الله تعالى، فكذلك نقلت معانيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع بأن المراد ب (الله) : هو رب العالمين الذي نعبده، وب (الناس) : بنو آدم الذين نحن من جنسهم، وب (البيت) : هذه الكعبة التي يحجها الناس بمكة، وكذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} 1 كما يقطع بثبوت لفظه يقطع بأن المراد برمضان: هذا الشهر الذي بين شعبان وشوال، وبالقرآن: هذا الكتاب الذي بين دفتي المصحف في أيدي المسلمين بمشارق الأرض ومغاربها. وليس التعويل في مثل هذا على نقل أهل اللغة لمعاني (الناس) و (الله) و (البيت) و (رمضان) ، بل على المنقول نقلا متواترا المفيد علما قطعيا2. فالرازي بنى مذهبه في نفي القطع على لفظ مجرد عن كل ما يمكن أن يبين مراد الشارع منه غير اللغة وما فيها من معاني ذلك اللفظ المنقول! ثم طرق إليه احتمالات لا يمكن دفعها بمجرد اللغة! أما إذا أُخذ هذا اللفظ مع كمال الاستقراء المشتمل على القرائن الحالية والمقالية المنقولة فتسقط
الاحتمالات بها ويسلم اللفظ منها ابتداء، ويصفو من شوائب الاحتمال1. الوجه الثاني: أن الاحتمال المجرد عما يعضده لا يؤثر في القطع، بل يبقى الدليل قطعيا بالمعنى الأعم، وإن طرّق العقل المجرد إليه احتمالات بدون دليل2. الوجه الثالث: أن بعض هذه الاحتمالات لا يطرد وروده على كل دليل سمعي، من ذلك احتمال التخصيص فإنه إنما يرد في اللفظ العام وليس جميع الأدلة الشرعية من قبيل الألفاظ العامة فيطرد فيها احتمال التخصيص، ومن ذلك احتمال النسخ فإن الأخبار التي لا تحتمل التغيير لا يرد فيها احتمال النسخ3، فكان القول بأن جميع هذه الاحتمالات واردة على كل دليل لفظي تعميما غير صحيح. الرد التفصيلي: أما الرد التفصيلي فقد أطال فيه شمس الدين ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة) ، ولأن مدار هذا المذهب على تحميل اللفظ ما ليس
ظاهرا منه فإن عماد الرد التفصيلي إبطال ذلك التحميل، قال ابن القيم: "إن جميع ما ذكروه من الوجوه العشرة مرده إلى حرف واحد: وهو احتمال اللفظ لمعنى غير ما يظهر من الكلام، فإنه لا ينازع عاقل أن غالب ألفاظ النصوص لها ظواهر هي موضوعة لها ومفهومة عند الإطلاق منها، لكن النزاع في أن اعتقاد المعنى يقيني لا يحتمل غيره أو ظني يحتمل غيره "1، ثم ذكر أن من الممكن معرفة عدم وجود أي احتمال آخر غير ما ظهر من الكلام بطرق أخرى أضمن من استقراء الاحتمالات العشرة ثم محاولة نفيها، وذلك بالنظر في القرائن ابتداء، فسبب ورود الاحتمال قد يكون عدم مؤالفة السامع للفظ ! أو كون اللفظ له معنى آخر في لغته هو! أو أن اللفظ قد بينته أمور أخرى خفيت عليه! فكان السامع إذا تأكد من أن ليس لديه سبب يوجب ورود الاحتمال في اللفظ ضمن أن يكون ما ظهر له من المعنى هو المراد2. وتفصيل الجواب عن ورود الاحتمالات يكون كما يلي: - أما الاحتمال القادح في عصمة رواة اللغة والوضع ونقلتهما فيندفع بكون الصحابة - رضي الله عنهم - الذين خوطبوا بالنصوص - أولا - عرفوا القصد من تلك الألفاظ بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكن بهم حاجة
إلى نفي احتمال أن يكون معنى تلك الألفاظ غير ما ظهر إذ علموا قصده صلى الله عليه وسلم من ألفاظه بفضل صحبتهم له، ومعايشتهم لحوادث الأحكام، ووقوفهم على مراده بالمشافهة، ثم ورث عنهم التابعون - رحمهم الله - فمن بعدهم ذلك العلم1. - أما الاحتمال القادح في معرفة الإعراب والصرف فيندفع بأن معنى اللفظ قد يُعرف دون معرفة إعرابه وتصريفه، فيعرف أن اسم (الله) يدل على المعبود حقا وإن لم يعرف الخلاف في اشتقاق هذا اللفظ وإعرابه2، على أن القرآن الكريم مثلا نقل إعرابه ومعانيه كما نقلت ألفاظه3. كما يندفع الاحتمالان السابقان بأن اللغة لم يرد فيها الكذب كورود الوضع في الحديث، فالمشهور في اللغة معتمد عليه كالاعتماد على ما نَقَل
عن أئمة المذاهب أصحابُهم، كل ذلك لضعف احتمال الكذب1. - أما احتمال التخصيص في العام فمثل احتمال النسخ في النصوص الثابتة، وذلك احتمال لا يعول عليه إلا بدليل، وإلا لاحتملت الحقائق أن تكون على غير حقيقتها، وذلك سفسطة ظاهرة. مثل ذلك يقال في احتمال الاشتراك والمجاز، فكل ذلك مندفع بما فهم من المراد من الأدلة مما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن الاعتداد بالاحتمال المجرد في ذلك مبطل للأدلة ورافع للثقة عنها، وذلك عظيم الخطر2. - أما احتمال الإضمار فيندفع بأن ما شهد السياق له من الإضمار فكأنه مذكور في اللفظ، وهو من ضروب ما يحسن في الكلام، مثل قوله تعالى: {فَأَوْحيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبحْرَ فَانْفَلَقَ} 3 فمعلوم أن هناك مضمرا وهو (فضرب - أي البحرَ - فانفلق) ، وما كان من الإضمار غريبا على السياق ويعلم انتفاؤه قطعا فتحميل اللفظ له يفسد نظام التخاطب! ويبطل العقود والإقرارات والطلاق والعتاق!.. إذ يمكن تطريق الاحتمال إليها، والإضمار فيها بما ينفي معناها المعلوم! كما لو قال: طلقت زوجتي، فيقال: المراد طلقت أخت زوجتي! أو نحو ذلك من حذف
المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وما كان من الإضمار محتملا قريبا - وهو ألصق بالمسألة - فيندفع بكون الدليل قائما على أن الشارع ناصح مرشد، قد قصد البيان والدلالة والإيضاح، وأنه حريص على الهداية وحسم موارد اللبس وأسباب الخطأ، فإذا أُلف ذلك في خطابه علم قطعا أن مراده ظاهر كلامه، دون ما يحتمله باطنه من إضمار ليس عليه دليل1. - أما احتمال التقديم والتأخير فيدفع بأن لسان العرب قائم على أنهم لا يعمدون إلى التقديم والتأخير إلا حيث كان ذلك مفهوما من قرائن الكلام أو سوابقه أو لواحقه، فإذا قالوا: ضرب عمراً زيدٌ، عُلم المقدَّم والمؤخَّر، وإذا قالوا: ضرب عيسى موسى، ولم يكن ثمة قرائن تبين المراد، كان المقدم في اللفظ هو المقدم في المعنى والمؤخر فيه هو المؤخر2. - أما احتمال معارضة العقل لما ظهر من الدليل السمعي فيدفع بأنه لا يصح أن يعارض عقل صحيح نقلا صريحا! وتقدير الدليل العقلي القاطع على خلاف ما دل عليه الدليل السمعي هو أصل ما وقع من الإعراض عن الأدلة الشرعية إلى أدلة عقلية، زعم محرروها أنها قطعية، ثم زعموا أنها تعارض ما دل عليه الدليل السمعي، فهذا تجويز عقلي محض لا يقدر على الإتيان فيه بما يثبت وقوع ذلك من أدلة نقلية صحيحة صريحة تعارض
مقتضى أدلة عقلية صريحة. وبين أئمة الإسلام وأعلام الهدى - رحمهم الله - أن كل ما ثبت بالأدلة الشرعية من أمور الدين أصولا وفروعا، خبرا وطلبا، ليس في شيء منه ما يعارضه العقل! بل كله بالاستقراء التام المقتضي للقطع واليقين جارٍ على مقتضيات الفطرة السليمة1، وكون الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول قاعدة عظيمة ساق أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله- في تقريرها أوجها منها:
- أن الأدلة الشرعية إنما نصبت لتتلقاها عقول من كُلِّفوا العمل بما تقتضيها من الأحكام الشرعية، فإذا كانت منافية لما تقتضيه عقولهم كان تكليفهم بالعمل بها مع ذلك تكليفا بما لا يقدرون فهمه ولا يطيقون تعقله، فلا تحصل بها هداية ويستحيل في الواقع العمل بما دلت عليه الأدلة على الحقيقة. - أن العقل شرط في التكليف، فإذا عدم العقل ارتفع التكليف كما في المجنون والصبي والنائم، فكان ما كُلّف به الناس غير مناف لما هو مورده أصلا! وإلا ارتفع التكليف رأسا. - لو كانت الأدلة الشرعية تنافي قضايا العقول لكان أول من يرُدّ الشريعة بذلك الكفار الذين نزل القرآن لهدايتهم، وقد حاجّهم بما يقطع عذرهم، ولو أن ما فيها مناف لعقولهم لحاجُّوا بذلك ولم يحتاجوا إلى اختلاق الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ورميه صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون ونحوهما. - أن الاستقراء التام للأدلة الشرعية دل على أن ليس فيها ما ينافي العقول، كيف وقد صدَّقتها العقول الراجحة وانقادت لأحكامها طوعا في الابتداء أو كرها في الانتهاء، بما ألزمهم من السلطان المبين والحجة الساطعة والبراهين القاطعة، من لدن عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم1. فوجه دفع هذا الاحتمال هنا أنه لا تجوز معارضة العقل للسمع، لسبق
الإيمان والقطع بما تفيده الأدلة الشرعية وأنها لم تقع1. وخلاصة هذا المبحث: أن الأدلة السمعية (النقلية اللفظية) منها القطعي الذي يفيد اليقين ولا مجال فيه للاحتمالات بل يحتف به ما يدفعها ويسلم الدليل خالصا للقطعية، وأن القول بأن الأدلة السمعية كلها ظنية والقول بأنها كلها قطعية قولان ضعيفان.
المبحث الثالث: وجوب العمل بالأدلة الشرعية القطعية وغير القطعية إن تقسيم الأدلة الشرعية إلى قطعية وغير قطعية هو تقسيم لها من حيث تفاوتها في القوة، وما يترتب على ذلك من أولوية التقديم في البحث وعند التعارض وترجيح الأقوى على غيره1، أما من حيث وجوب العمل فكل ما ثبت كونه دليلا شرعيا فهو واجب العمل به قطعا، سواء أكان دليلا قطعيا أم كان دليلا ظاهرا راجحا محتملا2. أما القطعي فهو واجب العمل به قطعا من غير إشكال3 لأنه دليل ثبتت نسبته إلى الشرع بلا احتمال، فمن تيقن نسبة الدليل إلى الله عز وجل، أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أنه سبيل جميع الأمة، أو تيقن مساواة محل آخر لما ثبت بواحد مما سبق وجب عليه العمل به، وكذلك إذا تيقن المراد منه وجب عليه العمل بذلك، لأن ذلك هو مقتضى الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم4 والإيمان بما جاء من النهي عن اتباع غير سبيل المؤمنين الذين لا
يجتمعون إلا على هدى1، وترك العمل بدليل هذا وصفه مناقض لمقتضى الإيمان! وأما الدليل غير القطعي مما ترجحت نسبته إلى الشرع - ثبوتا أو دلالة - فهو كذلك واجب العمل به قطعا، ومن الأدلة على وجوب العمل بالأدلة الظاهرة ما يلي: أولا: إجماع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - ومن بعدهم على العمل بظواهر الكتاب والسنة، والأقيسة، والعمومات، ونحوها مما لا يقطع به دون الاقتصار على اليقينيات من الأدلة2. ثانيا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار " 3.
فهذا أصل في إجراء الأمور على الظاهر، ولزوم اتباع ما ظهر وترجح وإن لم يرق إلى درجة القطع واليقين، بل الاكتفاء بالظاهر الراجح مع احتمال النقيض1، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأدلة الأحكام لا بد فيها من هذا، فإن دلالة العموم في الظاهر قد تكون محتملة للنقيض وكذلك خبر الواحد والقياس ... ولا يوجد من يستغني عن الظواهر والأخبار والأقيسة، بل لا بد من العمل ببعض ذلك مع تجويز نقيضه"2. ثالثا: الواقع في الشريعة، فإن كثيرا من الأحكام أنيطت بظواهر الأمور مع احتمال النقيض، ومن ذلك: ا- التوجه إلى القبلة، وهو من الشروط التي لا تصح الصلاة إلا بها، فإن المعاين للكعبة قاطع من أمره بأنه متوجه إليها، أما من بَعُد عنها فالمطلوب منه الاجتهاد في التوجه شطرها، وذلك بالأمارات والأعلام
المعِينة، حتى تظهر له جهتها وإن لم يقطع بإصابته الكعبة في التوجه، واحتمل أن يكون توجه إلى غير جهة الكعبة في حقيقة الأمر. 2- الشهادة في الخصومات والدعاوى، فإنه يكتفى فيها بما ظهر من عدالة الشاهد وصدقه مع احتمال كونه غير عدل في الحقيقة وغير صادق فيما أدلى به من الشهادة. 3- سائر الأحكام الشرعية التي نُصَّ فيها على القاعدة وتُرِك تحقيق مناط الحكم فيها على الجزئيات إلى اجتهاد العلماء، ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى قسّم زكاة الأموال على الثمانية الأصناف المذكورة في قوله جل شأنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلفَةِ قُلُوبُهُم وَفيِ الرِّقَابِ والْغَارِمينَ وَفيِ سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1 فلا تصرف الزكاة إلا في هذه الأصناف قطعا، أما معرفة أن هذا فقير أو مسكين أو غارم ... فيعلم ذلك بما ظهر من أمرهم مع احتمال عدم كونهم كذلك في حقيقة أمرهم. ومن ذلك تقييم المتلفات وأروش الجنايات ونحو ذلك2.
قال الطوفي1: "وبالجملة فقد أريقت الدماء، واستبيحت الفروج، وملكت الأموال شرعا بناء على ظواهر النصوص، والعمومات، والأقيسة، وأخبار الآحاد، والبَيِّنات المالية، وإنما يفيد ذلك جميعه الظن"2. فتبين من واقع هذه الشريعة المباركة أن من مقاصدها في الأحكام إجراءَ غلبة الظن وظواهر الترجيحات مُجرى اليقين والقطع في العمل، منةً من الله وفضلا ورحمة منه وتوسعة3. رابعا: أن العمل بالظاهر من الأدلة عمل بعلم، لأنه اتباع لما قام الدليل القطعي على اتباعه من الظهور وغلبة الظن والرجحان، وهي أمور تعلم، فإن المجتهد الناظر في الأدلة يعلم أن هذا الدليل أرجح وأغلب على الظن من ذاك، فإذا اتبع ما علمه كان عمله بعلم4. قال ابن تيمية: "وذلك أن في المسائل الخفية، على المجتهد أن ينظر في
ويعمل بالراجح ... وهذا اتباع للعلم لا للظن، وهو اتباع الأحسن كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1 وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِن رَّبكُمْ} 2، والذي جاءت به الشريعة وعليه عقلاء الناس أنهم لا يعملون إلا بعلم بأن هذا أرجح من هذا فيعتقدون الرجحان اعتقادا عمليا، لكن لا يلزم إذا كان أرجح أن لا يكون المرجوح هو الثابت في نفس الأمر3 ... وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بنحو ما أسمع " 4، فإذا أتى أحد الخصمين بحجة - مثل بينة تشهد له - ولم يأت الآخر بشاهد معها كان الحاكم عالما بأن حجة هذا أرجح، فما حكم إلا بعلم ... وهكذا أدلة الأحكام"5. ومما يقوي الثقة بغلبة الظن في الأدلة الشرعية وصحة الاعتداد بظواهرها أن الألفاظ الشرعية لا يجوز أن يكون المراد منها غير ما ظهر
منها من غير أن تكون ثمت قرينة تدل على ذلك1، فمن ظهر له حكم من دليل ثم لم يكن هناك ما يدل على خلاف الظاهر عنده أو كان ولكنه مرجوح - كان على بينة من أمره في العمل بذلك الظاهر، بل إن كثيرا من ظواهر الأدلة قد عززتها القرائن، وتكاثرت عليها الشواهد حتى رفعتها عن موارد الاحتمالات وعوارض التردد في الثبوت أو الدلالة إلى قمم القطعية وأوثق اليقين2. وقد نقل القرافي3 - رحمه الله - إجماع العلماء على عدم اعتبار الاحتمال المرجوح ووجوب الاعتماد على الظاهر من الأدلة4. ففي الأحكام الشرعية أمران: خاص وعام، أما الأمر العام فهو أنها يجب العمل بها جميعا قطعا، أما الخاص لكل حكم فهو أنه قد يكون الطريق إليه قطعيا وقد يكون راجحا ظاهرا5.
المبحث الرابع: أهمية الدليل القطعي ثبت أن مذهب جماهير أهل العلم أن الأدلة الشرعية منها القطعية ومنها غير القطعية، وأن القسمين سواء من حيث وجوب العمل. وللدليل القطعي مكانة خاصة بين سائر الأدلة تبين أهميته، ويبين ذلك وجوه منها: الأول: أن الدليل إذا ارتفع إلى درجة القطع واليقين اطمأنت إليه النفوس واستراحت إليه القلوب وزاد نشاط الجوارح في العمل بما أثبته من أحكام، لما يضفيه القطعي على الدليل ومدلوله من أمن الخطأ والسلامة من الزلل. وطمأنينة القلوب من المطالب الشريفة، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 1، قال القرطبي: "أراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فهو سأل ليطمئن قلبه بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا"2، فالنفوس جبلت على طلب رؤية ما أُخبرت عنه، ولهذا ورد عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله أخبر موسى بما فعل قومه في العجل فلم يلق الألواح، فلما عاين ألقى الألواح فانكسرت" 1، فإذا اجتمع دليل العيان إلى دلائل الإيمان الأخرى حصل فضل طمأنينة للقلب2. وإذا عثر الباحث في أدلة الأحكام على الدليل القطعي اطمأنت إليه نفسه لأنه ينفي الاحتمال، ويزيل الشك والتردد، فيكون على بينة ويقين من أمره فيما يأتي ويدع من أحكام ذلك الدليل، قال الزركشي: "اعلم أنه من حق على المجتهد أن يطلب لنفسه أقوى الحجج عند الله ما وجد إلى ذلك سبيلا، لأن الحجة كلما قويت أمن على نفسه من الزلل"3. ولم يزل العلماء - رحمهم الله - يذكرون على المطلب الواحد أدلة كثيرة ومتنوعة، حتى يتزايد ظهور المطلب ويحصل القطع بالحكم فيه، وتطمئن القلوب إلى ذلك الحكم لقوة الدليل4، فيذكرون للحكم الواحد أدلة من الكتاب والسنة والإجماع ...
الوجه الثاني: أن الأدلة القطعية هي من أقوى ما ذُبَّ به عن الشريعة، ومن أمنع ما حفظت به الشريعة من زيغ المبطلين المبتغين الفتنة بالتأويل، فإنها التي تقطع ألسنة المؤولين، وتقصم ظهور المعاندين المتشبثين بمتشابه النصوص الذين يجدون في المحتملات ما يلوون ألسنتهم به في مطالبهم، فكم من ظواهر امتدت إليها أيدي المؤولين! وحرَّفها الملحدون إلى مرادهم! وأنزلوها على أهوائهم! وخرجوا بها عن منهاج الله وشرعته! لكن القواطع المحكمات تستعصي على هؤلاء وأولئك، فدون تأويلها حصن منيع من البيان، وفصل مبين من الخطاب، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُءَاياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهَ وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبنَا وَمَا يَذَّكر إِلاَّ أُولُوا الأَلبابِ} 1، قال ابن كثير عند قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} : "أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم وحجة عليهم"2. وبين الشاطبي أن هذه الشريعة معصومة كما أن رسولها صلى الله عليه وسلم معصوم،
وكما أن أمتها مجتمعة معصومة، بسبب ما يسّر الله من دواعي الذب عنها، وبما قيض من المدافعين عنها جملة وتفصيلا، ثم قال: "فإن عارض دين الإسلام معارض، أو جادل فيه خصم منافق غبروا في وجه شبهاته بالأدلة القاطعة، فهم [أي المدافعون الذابون] جند الإسلام، وحماة الدين"1، والقواطع المحكمات سلاحهم الصارم وحسامهم البتار. فبالأدلة القواطع يحفظ الدين في ميدان المحاجة باللسان كما يحفظ بالجهاد في ساحة الكفاح بالسنان2، وبها تقوى عصمة الشريعة ويُحكم أساسها وركنها، وبها تدك معاقل البدع والانحراف وتؤتى بنيانها من القواعد، وعند حصنها يقف المعاند اللدود. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ويجب أن يعلم أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه ... فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن قد أعطى الإسلام حقه، ولا وفَّى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين"3.
الوجه الثالث: أن العلم وقوة اليقين من فضل الله على الناس، قال الله عز وجل: { ... يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} 1 وقال تبارك وتعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٍ} 2. والعلماء الذين ثبتت عندهم الأحكام بالأدلة القطعية وبنوا عليها مذاهبهم هم على يقين من أمرهم ورسوخ عظيم في العلم، وذلك فضل لهم على من لم يكن له نصيب من الأدلة إلا الظنون الراجحة وبقي في احتمال وتردد لضعف أدلته3. الوجه الرابع: أن الدليل القطعي هو ما يبدأ به البحث عن أدلة الأحكام، وهو الذي إذا حصّله المجتهد لم يعدل عنه إلى غيره، إذ لا بعارضه غيره لأنه الأقوى. الوجه الخامس: أن الله تعالى أمر عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة فقال عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 4.
ومن رد عند التنازع إلى دليل قطعي ثبوتا ودلالة كان على يقين من أمره أنه رد إلى الله ورسوله، وذلك صلة عظيمة بين الأمة في عصورها المتلاحقة وبين مصدر التشريع، وكأنهم عايشوا التنزيل وسمعوا القرآن والسنة من فيِّ النبي صلى الله عليه وسلم1. ولكل هذه الأهمية كان القول بنفي وجود القطعي في الأدلة الشرعية قولا عظيم الخطر! فإنه يتوجه بالنقض إلى حصن الشرع المعصوم! ليتركه بعد ذلك هدفا لكل مبطل مؤول أو معاند، وذلك ينتهك حرمة النصوص ويرفع الثقة عنها2. القطعية والحجية في الدليل: تتبين العلاقة بين حجية الدليل وبين قطعيته بأمرين: الأمر الأول: القطعية في الدليل فرع عن الحجية فيه، أي أن البحث في قطعية الدليل يكون بعد ثبوت كونه حجة ودليلا شرعيا يجب العمل به في إثبات أحكام الشريعة، إذ من لم تثبت عنده حجية الدليل وصحة الاعتماد عليه أصلا في الشريعة لا يرد عنده بحث قوة ذلك الدليل، وكيف يبحث في قوة أمر غير ثابت أصلا؟! وما يأتي - إن شاء الله تعالى - من مسائل هذا البحث مبني على
هذا، فالخلاف في حجية دليل ليس مما يعنى - بالضرورة - عند البحث عن القطعية في ذلك الدليل. الأمر الثاني: حجية الدليل أهم من قطعيته بالنظر إلى ما يأتي: - أن مناط وجوب العمل بالدليل على حجيته، والقطعية بالنظر إلى العمل فضل قوة، فإذا ثبت كون الدليل حجة شرعية لزم العمل به، سواء أفاد الناظرَ فيه القطعيةَ أم لم يفده، فكان عدم القطعية في الدليل غير مانع من العمل به، والعمل هو الغرض الأعظم ونهاية المقصِد من الشرع، وإنما يتعلم العلم ليعمل به1. - أن القطعية وصف غير مطرد في الأدلة الشرعية أو بالنسبة لجميع المجتهدين، فليست وصفا مطلقا في الأدلة الشرعية، إذ في الأدلة الشرعية ما لا يكون دليلا قطعيا بل يكون دليلا ظاهرا راجحا، أما الحجية فهي وصف سائر الأدلة الشرعية2.
المبحث الخامس: قطعية أصول الفقه هذا المبحث يتصل بجانب مهم من جوانب منهج البحث في أصول الفقه1، وهو منهج الاستدلال فيها، وهل يشترط أن يكون الدليل المستدل به في أصول الفقه قطعيا أم أنه يستدل بكل دليل ثبتت حجيته وكان ظاهرا في دلالته على المستدل فيه، فيستدل بالقطعي من الأدلة وبالظاهر الراجح منها، وجميع قواعد أصول الفقه على المنهج الأول قطعية، أما على المنهج الثاني فبعض قواعد الأصول غير قطعية. ولم تحظ هذه المسالة من البحث بما يتفق مع ما سبق من أهميته، فلم أقف على بحث مفصل للمسألة فيما رجعت إليه من كتب أصول الفقه، وإنما يكتفي العلماء - رحمهم الله تعالى - بالإشارة عند تعرضهم للمسألة، حتى يبدو من بعض كلامهم أن المسألة قد بحثت مفصلة في موضع آخر من كتب الأصول أو كتب علوم أخرى2، ومن تلك الإشارات:
- قال في تلخيص التقريب إشارة إلى استدلال بعض العلماء بخبر الواحد في إثبات حجية القياس: "وهذه هفوة عظيمة، وسنذكر في كتاب الاجتهاد أن أصول الشريعة لا تثبت إلا بما يقتضي العلم من الأدلة القاطعة، ومن قال غير ذلك فقد زل زلة عظيمة"1. وأحال في موضع آخر على باب التقليد2. أما في كتاب الاجتهاد فإنما كان البحث هناك في ذكر تقسيم المسائل إلى قطعية وغير قطعية وضابط مسائل الأصول وما إلى ذلك، ولم يستدل - فيما وقفت عليه من كتاب الاجتهاد - على أن أصول الشريعة لا تثبت إلا بما يقتضي العلم من الأدلة القاطعة3، كما أشار من قبل. أما في باب التقليد فقد وقعت إشارة إلى ذلك في معرض الرد على المجوزين لتقليد العالِم للعالِم، فأبطل ذلك بأنه لو جاز تقليد العالم للعالم لكان قول العالم المقلَّد عَلَما منصوبا على الحكم حتى يساوي سائر الأدلة
الشرعية! ثم أبطل هذا بأنه يستحيل إقامة الدليل العقلي أو الشرعي على إثبات قول العالم المقلَّد دليلا شرعيا، لأن الدليل المثبت لذلك لا بد أن يكون قطعيا كما ثبت القياس وغيره من طرق الاجتهاد بالأدلة القاطعة على حجيتها، وليس على صحة كون قول المقلَّد دليلا شرعيا شيءٌ من الأدلة القطعية كنص الكتاب أو نص سنة أو إجماع. ثم قال: "وتتأكد هذه الدلالة بأصل نوضحه فنقول: لا ينتصب الشيء دليلا وعَلَما في الشرعيات إلا بدلالة قاطعة، فإنه لو ثبت بما لا يقطع لاحتيج إلى إثبات مثبته ثم يتسلسل القول فيه إلى ما لا يتناهى" قال: "فهذه هي الدلالة السديدة وما عليها معترض"1. - وقال الغزالي2 - رحمه الله - عند الكلام على حجية قول الصحابي: "ونحن أثبتنا القياس والإجماع وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد، وجعل قول الصحابي حجةً كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره
أصلٌ من أصول الأحكام ومداركه، فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الأصول"1. - وقال الآمدي2 - رحمه الله - بعد ذكر الخلاف في حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد: "وبالجملة فالمسألة دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعا به وعدم اشتراطه: فمن اشترط القطع منع كون خبر الواحد مفيدا في نقل الإجماع، ومن لم يشترط ذلك كان الإجماع المنقول على لسان الآحاد عنده حجة"، قال: "والظهور في هذه المسألة للمعترض من الجانبين دون المستدل فيها"3. وزاد البحث في هذه المسالة إشكالا - إضافة إلى قلة التفصيل فيه - صعوبة ضبط مذاهب العلماء فيها، فقد يبدو من بعضهم التزام القطعية في محل ثم في محل آخر لا يسلِّم اشتراط القطع في أصول الفقه4، وأشار الشيخ
الطاهر بن عاشور1 - رحمه الله - إلى مثل هذا قائلا: "وأنا أرى أن سبب اختلاف الأصوليين في تقييد الأدلة بالقواطع هو الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعية كأصول الدين السمعية ... فهم قد أقدموا على جعلها قطعية فلما دونوها وجمعوها ألْفَوا القطعي فيها نادرا ندرة كادت تذهب باعتباره في عداد مسائل الأصول2 ... كيف وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه! "3. وقد اختلف العلماء في قطعية أصول الفقه وجواز الاستدلال بالدليل غير القطعي في إثبات قواعدها على قولين: القول الأول: أن مسائل أصول الفقه قطعية، فلا يستدل عليها إلا
بدليل قطعي. وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني1 وأبي المعالي الجويني2،3 وأبي حامد الغزالي فيما ظهر من كلامه في المستصفى4، وهو مذهب القرافي
ونقله عن العلماء1، وهو الذي قرره أبو إسحاق الشاطبي وأيده وجعل في الاستدلال عليه أُولى مقدمات كتابه (الموافقات) 2. ومن أدلة هذا المذهب ما يلي: الدليل الأول: أن مسائل هذا العلم من الأصول، والأصول لا يستدل في إثباتها إلا بدليل قطعي لأنها من المواضع التي يطلب فيها القطع واليقين، والدليل غير القطعي لا يفيد القطع فلا يفي ما دون القطعي بالغرض المطلوب في هذه المسائل3.
وهذا الدليل يشتمل على ثلاثة أمور: أولها: أن في الدين مواضع هي أصول، ومواضع أخرى هي فروع. وثانيها: أن كل مسألة تعين كونها من مواضع الأصول فهي مطلب لا يكتفى فيه بما دون القطع واليقين، أما مسائل الفروع فيجوز فيها الاستدلال بغير القطعي. وثالثها: أن أصول الفقه من تلك الأصول التي يجب فيها القطع واليقين. وجميع تلك الأمور مما قد لا يسلم: أما الأمر الأول فلأنه يرد على تقسيم الدين إلى أصول وفروع أمور: - أهمها عدم وجود حد وضابط مسلَّم يميز الأصول القطعية من المواضع التي لا يشترط فيها القطع من الدين، قبل النظر في الأدلة. وهذا القاضي أبو بكر الباقلاني ذكر حدّين للأصول ولم يرضهما لما يلزم منهما من الباطل1، ثم عوّل بعد ذلك على ما رآه الحد الصحيح
للأصول وهو: أن "كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافه جاهلا فهي من الأصول، سواء استند إلى العقليات أم لم يستند إليها"1، مع أن الأصل على هذا فرع عن الدليل الشرعي، لأن تحريم الخلاف حكم شرعي لا بد فيه من الدليل الشرعي عليه2، فكانت معرفة كون المسألة من الأصول تابعة لمعرفة دليل تحريم الخلاف فيها. وذكر الشاطبي - رحمه الله - ضابطا آخر لأصول الدين وفروعه يرجع إلى النظر في المصلحة الشرعية المترتبة على الفعل فقال: "فما عظَّمه الشارع في المأمورات فهو من أصول الدين وما جعله دون ذلك فهو من فروعه، وما عظّم أمره في المنهيات فهو من الكبائر وما كان دون ذلك فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المصلحة والمفسدة"3. وقريب من هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن أصول الدين
ما يكون مصلحته عامة1، أما ما يكون من الحقوق خاصا مثل برّ كل إنسان والِدَيْه، وقيامه بحق زوجته وجاره، فهو من فروع الدين، ثم قال معللا: "لأن المكلف قد يخلو عن وجوبها عليه ولأن مصلحتها خاصة فردية". فأصول الدين في المأمورات مثل الكبائر في المنهيات، يجمعهما عظم المصلحة وعمومها في الأولى، وعظم المفسدة في الثانية في أفعال القلب واللسان والجوارح. والظاهر أن هذا ضابط محكم في تحديد أصول الدين وفروعه، لأنه يجعل الدليل الشرعي - وهو راجع إلى قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم - متبوعا لا تابعا، فما كان من الأحكام قويا دليله يُظهِر أهميته وعظم شأنه في الدين فهو من أصول الدين في أي موضع كان ذلك الحكم، وما كان من الأحكام الشرعية دليله دون ذلك ويظهر بعض التوسعة في أمره أو تكون مصلحته خاصة فهو من فروع الدين، وكل ذلك تابع للدليل. وهو قريب مما استقر عليه أمر القاضي في التعريف بالنسبة للدليل الشرعي، لأن حد القاضي راجع إلى الدليل المحرِّم للخلاف في المسألة، وتحريم الخلاف في مسألة من المسائل دليل على عظم تلك المسألة في الدين وحرمته. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر من (مجموع الفتاوى) أن
الدين نوعان: أمور خبرية اعتقادية، وأمور طلبية عملية، ومثّل للنوع الأول بالعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويسمى هذا النوع أصولَ الدين والعقد الأكبر، كما يسمى عقائد واعتقادات، ويسمى الجدال فيه كلاما، والنوع الثاني أمور الطلب من أعمال الجوارح كالواجبات والمحرمات1. وذكر في موضع آخر أن الاصطلاح على تسمية الأمور العلمية الخبرية الاعتقادية بأصول الدين، أو الأصول اصطلاح المتكلمين المتأخرين وكثير من المتفقهة، وأما الغالب على اصطلاح أهل الحديث والتصوف، والذي عليه أئمة الفقهاء وطائفة من المتكلمين فهو تسمية الأمور التي اتفقت فيها الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير بأصول الدين سواء كان من الأمور العلمية أم من الأمور العملية، وذكر أن مصطلح (الشريعة) جامع للقسمين معا2. وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في أوائل كتابه (درء تعارض العقل والنقل) 3 على هذه المسألة وعلى اشتراط القطع فيها وهل يكفي فيها الظن؟ فذكر أن جميع ما هو من أصول هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهي وأدلتها الشرعية القطعية عقلية أو سمعية مُبَيَّنة في الكتاب والسنة قد
نقلت عن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمها أهل العناية بالعلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمونها ويقطعون بها، وأن ما لم يصرَّح فيه من تلك المسائل بطلب القطع واليقين وعجز الناظر فيها عن الوصول إلى القطع واليقين فإنه يكفيه الاعتقاد الغالب على ظنه لعجزه عن التمام، لأن الاعتقاد الراجح المطابق للحق ينفع صاحبه عند عدم القدرة على الدليل السمعي أو العقلي المفضي إلى القطع واليقين، على أن عامة الضلال أو العجز عن اليقين في هذا الباب سببه الإعراض عن الاستدلال والنظر في أدلة تلك المسائل الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإعراض عن اتباع طريقة السلف في تلك المسائل وأدلتها ومنهجهم في الاستدلال عليها اهـ. هذا، ويؤخذ من استدلال العلماء القائلين بالتقسيم وبقطعية الأصول - في المراجع التي ذُكرت سابقا من كتب المتكلمين في أصول الفقه وفي الكلام - أنهم يذهبون إلى وجود الدليل العقلي القطعي في تلك المسائل، فإذا استُدل فيها بدليل سمعي غير قطعي ردوا على الاستدلال بأن المسألة قطعية لوجود دليل عقلي قطعي فيها، وغاية ما يفيده السمعي غير القطعي هو الظن الذي لا يجدي نفعا مع وجود القاطع العقلي، فيمنعون الاستدلال به ابتداء. فيرجع الكلام في المسألة إلى أن ما يذهبون إليه من وجود القاطع العقلي - مخالفا للسمعي - غير مسلم، وأن ظواهر النصوص السمعية لا
تخالفها الأدلة العقلية1، فمدار الكلام في هذه المسألة ليس على تقسيم الدين إلى فروع وأصول، فذلك أمر من أمور الاصطلاح لا يبعد أن يكون هيِّناً وقد وقع في كلام كثير من العلماء. وإنما عدم التسليم بالتقسيم راجع إلى أمر آخر ينبني عليه، وهو: دعوى وجود القطعي العقلي في مسائل الأصول مخالفا لما تفيده ظواهر النصوص السمعية النقلية، ثم تقديم ما يزعم أنها القواطع العقلية المخالفة على النصوص الشرعية وما يتبع ذلك من إقصاء كثير من الأدلة الشرعية في أهم مواضع الدين. والحق أن الوحي قد بيَّن الدين أصولا وفروعا بما لا يضطر معه المسلم إلى اضطراب الاستدلالات العقلية في أمور غيبية تتعلق بالله تعالى وصفاته والنبوة والمعاد ... - ومما يرد على التقسيم أن مما يعد من الأصول مسائلَ غير قطعية2، فكان تحديد الأصول بما يقصرها فيما المطلوب فيه القطع واليقين غير جامع لجميع مسائلها3.
أما الأمر الثاني من الأمور التي اشتمل عليها الدليل الأول وهو: أن الأصول يجب فيها القطع، فهو مفرع على الأمر الأول، ويرد عليه ما في الأمر الأول من النظر، فإنه إذا لم تتحدد الأصول ولم تتميز عن الفروع قبل النظر في الأدلة وكانت الحدود فيها غير مسلمة لم يصح ما يترتب على ذلك من اشتراط القطعية في الأصول. وعلى التسليم بتقسيم الدين إلى أصول وفروع لا يسلم دعوى وجوب القطعية في جميع مسائل الأصول، لأن ذلك مما ليس عليه دليل صحيح، ولم يعرف إلا من المتأخرين، وكان من أسباب رد كثير من الأدلة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم1! وأما الأمر الثالث وهو: أن أصول الفقه من تلك المواضع المشترط فيها القطع واليقين، فلا يسلم أيضا، فقد جعل بعض العلماء أصول الفقه واسطة بين أصول الدين وفروعه لكونها - مع تسميتها أصولا واستمدادها من (أصول الدين) - وسيلة للعمل بفروع الدين، ولهذا أضيفت الأصول إلى (الفقه) 2، بل صرح بعضهم بأن أصول الفقه أقرب إلى الفروع من أصول
الدين1، ويؤخذ ذلك إشارةً من صنيع بعضهم2. الدليل الثاني: أن الأصل عدم جواز العمل بما لا يفيد القطع واليقين بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} 3 وقوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 4، فلا يجوز العمل بما لا يفيد القطع إلا إذا دلت دلالة قاطعة على جواز العمل به، وعلى هذا فما كان من أصول الفقه قطعيا فعدم جواز إثباته إلا بدليل قطعي أمر ظاهر إذ الدليل غير القطعي لا يمكن أن يَثبُت به أصل قطعي، وما كان منه لا يفيد القطع فلا يثبت العمل به إلا بدلالة قاطعة من الشارع على العمل به، وإنما ورد الدليل القاطع على العمل بالظن في الفروع فبقيت الأصول على المنع. ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع الأصوليين على هذا5. وهذا أيضا غير مسلم.
قال الطوفي: "أما قولهم: الأصل عدم العمل بالظن، فممنوع أيضا في الشرعيات، لأن مبنى الشرع على غلبة الظن، ولهذا كانت أكثر أدلته ظنية، كالعموم وخبر الواحد والقياس، فلو كان الأصل عدم العمل بالظن لكان أكثره واقعا على خلاف الأصل، وذلك خلاف الأصل إذ الأصل في الفنون جريان جميعها أو أكثرها على وفق الأصل"1. وهذا الدليل مبني على مذهب القائلين بالتقسيم إلى أصول وفروع، فهو لذلك وارد عليهم، وإلا فلا يسلم أن أكثر أدلة الشرع ظنية ولا أن مبناه على غلبة الظن عند أئمته المحصلين للأدلة مع استقراء قرائنها2. الدليل الثالث: قياس أصول الفقه على أصول الدين، "لأن نسبة أصول الفقه إلى أصل الشريعة كنسبة أصول الدين، وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة، وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات"3، ووجه كونها داخلة في حفظ الدين قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4 والمراد حفظ الكليات لأن الجزئيات قد وقع فيها ما ليس بقطعي ويقع فيها الخطأ5.
ويرد على هذا الدليل أن جميع أصول الفقه ليس كما وُصف، ففيها مسائل لا يمكن وصفها بأنها كليات معتبرة في كل ملة1 ولا أنها داخلة في حفظ الضروريات من الدين، على أنه مبني على تقسيم الدين إلى أصول وفروع وقد سبق ما فيه2. الدليل الرابع: أن الواقع في الأدلة المستدل بها على أصول الفقه أنها كلها قطعية، فإنها إما أصول عقلية أو استقراءات كلية من أدلة الشريعة وجزئياتها معززة بقرائن حالية ومقالية3. ويرد على هذا ما سبق من أن جميع أصول الفقه لا يسلَّم أن أدلتها كذلك، بل إن الشاطبي نفسه - وهو ممن ذكر هذا الدليل - اعترف في آخر بحثه في هذه المسألة بذلك فقال: "وهذا كافٍ في اطِّراح الظنيات من الأصول بإطلاق، فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعا عليه بالتبع لا بالقصد الأول"4، ومن أصحاب هذا المذهب من يرى - حتى يستقيم له هذا الدليل - أن كل ما ليس بقطعي مما يذكر في الأصول فلا يعد من الأصول5!
ويرد على هذا الدليل: أن فيه تسليما بكون بعض أصول الفقه ليس قطعيا بالنسبة لمن لم يطلع على ما ذكر من الاستقراءات. ورُدَّ - أيضا - بأن من أصول الفقه مسائل مهمة توفرت الدواعي على بحثها والاستدلال لها في مظانها، وذلك لا يتفق مع ادعاء احتياج القطع فيها إلى استقراءات في شتى المواضع1. الدليل الخامس2: أن أصول الفقه راجعة كلها إلى كليات الشريعة، وأن ما كان راجعا إلى كليات الشريعة فهو قطعي. ففي هذا الدليل أمران: أولهما: أن جميع أصول الفقه راجعة إلى كليات الشريعة، وثانيهما: أن كل ما كان كذلك فهو قطعي. أما الأمر الأول فذكر أن الدليل عليه الاستقراء التام القطعي. واستدل على الأمر الثاني بثلاثة أوجه: الأول: أن كليات الشريعة مبنية إما على أصول عقلية، أو على
الاستقراء الكلي من أدلة الشرع. الثاني: أن الكليات لو رجعت إلى الظن للزم من ذلك تعلق الظن والشك بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول، وذلك باطل!. الثالث: قياس أصول الفقه على أصول الدين، فكما لا يجوز فيها الظني، فكذلك لا يجوز في أصول الفقه، والجامع أن أصول الفقه وأصول الدين كليات معتبرة في كل ملة، وأنها داخلة في الضروريات من حفظ الدين، فكانت نسبتهما إلى أصل الشريعة نسبة واحدة1. فمما اشتمل عليه هذا الدليل أن أصول الفقه راجعة كلها إلى كليات الشريعة والأصول المعتبرة في جميع الأديان، وهذا ما ردّه الشيخ الطاهر بن عاشور2 وذكر أن أدلة الشاطبي على هذا الأمر: "مقدمات خطابية3 وسفسطائية أكثرها مدخول ومخلوط4 وغير منخول".
ذلك أنه لا يتأتى في الواقع اعتبار جميع مسائل أصول الفقه مما وصفه من الكليات والضروريات التي تستوي فيها الملل كلها. الدليل السادس: أنه لو أثبتت هذه القواعد التي تنتصب أعلاما وأدلة على الأحكام الشرعية بدليل غير قطعي لاحتيج إلى إثبات ذلك الدليل المثبِت، ثم يتسلسل الاستدلال إلى ما لا يتناهى1. ويَرِد على هذا أنه يمكن منع التسلسل، بأن يكون الدليل الثاني المثبت للدليل الأول قطعيا، كأن يستدل على إثبات القياس بخبر واحد غير قطعي، ثم يستدل على إثبات خبر الواحد بدليل قطعي2. القول الثاني: أن أصول الفقه منها ما هو قطعي، ومنها ما ليس بقطعي، فيجوز أن يستدل على مسائلها بكل دليل صحيح، فما كان دليلا قطعيا كانت القاعدة الأصولية عليه قطعية وما كان دليلا ظنيا ظاهرا فلا تخرج القاعدة بذلك من عِداد أصول الفقه.
وهذا مذهب أبى الحسين البصري في المعتمد1، والقاضي أبي الطيب الطبري2 على ما نقله عنه تلميذه أبو إسحاق الشيرازي3 في مواضع من كتابه شرح اللمع4، وهو مذهب القاضي أبي يعلى5 في كتابه العدة6 وفخر الدين الرازي في المحصول7، ونجم الدين الطوفي في شرح مختصر
الروضة1، ومجد الدين ابن تيمية2 في المسودة3، وتقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية4، وتلميذه ابن قيم الجوزية5، وصرح به الكمال بن الهمام6،
وغيرهم1. ومن أدلة هذا المذهب ما يلي: الدليل الأول: أن أصول الفقه ومسائله من جملة مسائل الشريعة، فطرق إثباتها هي طرق إثبات جميع المسائل الشرعية، وذلك بالدليل الصحيح قطعيه وظنيه، لأنه - كما سبق - ليس ثمة دليل على التفريق بين المسائل الشرعية في طرق إثباتها، فكل دليل شرعي صحيح حجةٌ يجب العمل به، فإذا أثبت أصلا من أصول الفقه فالواجب أن يعمل به في إثبات ذلك الأصل وإن كان ظنيا2. الدليل الثاني: أن أصول الفقه وسيلة إلى العمل وطريق إلى الأحكام الفقهية التكليفية، فكيف يشترط في إثباتها ما لا يشترط في إثبات الأحكام العملية الفقهية؟! فإذا كانت أحكام البيع والشراء، ومسائل الدماء والأبضاع، وأحكام الجنايات والحدود، وغير ذلك من الأحكام العملية
يجوز إثباتها بالدليل غير القطعي فكيف لا يجوز أن يثبت به أصل هو وسيلة إلى إثبات تلك الأحكام؟! 1. وليس هذا من باب إثبات دليل غير قطعي بدليل غير قطعي فيكون من إثبات الدليل بنفسه أو يؤدي إلى تسلسل الاستدلال2، لأن الأمر ينتهي إلى القطع، فإذا أثبت مثلا بدليل قطعي وجوب العمل بخبر الواحد، ثم أثبت بخبر الواحد الصحيح وجوب العمل بالقياس كان القياس معتمدا على قطعي بدرجتين3! الدليل الثالث: الواقع في أصول الفقه، فإن بعض مسائله لا يُقدر فيها على دليل قطعي4، فكيف يشترط القطع فيه مع ذلك! 5. وقد اعترف بعض من اشترط القطع في أثناء بحثهم في مسائل أصول الفقه بعدم قطعية بعض المسائل الأصولية لعدم الدليل القطعي، فاكتفى فيها بالظن والرجحان الظاهر أو لجأ إلى التوقف عن النفي والإثبات.
ومن ذلك مسألة (هل يجوز تخصيص الدليل من الكتاب بخبر الواحد؟) فقد توقف فيها القاضي أبو بكر الباقلاني لعدم الدليل القطعي على أي من طرفي النفي والإثبات، ومع ذلك فقد جزم إمام الحرمين بطرف الإثبات فاختار جواز تخصيص دليل الكتاب بخبر الواحد وقطع بذلك، واختار الغزالي طرف الإثبات مثل إمام الحرمين لكنه لم يقطع بذلك، فألحق المسألة بالمجتهدات التي لا دليل قطعي فيها ويكتفى فيها بالظن الراجح1. ومن ذلك قول الغزالي عند الكلام على تقسيم النظريات إلى قطعية وظنية في أواخر (المستصفى) بعد أن ذكر أمثلة للقطعيات من أصول الفقه، قال: "وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول"فهذا اعتراف صريح بوجود الظني والقطعي في أصول الفقه. وسبق أن مذهب بعض من العلماء في قطعية أصول الفقه لم يكن من الجلاء بحيث يسهل أن ينسب إليه أي من القولين في أصل هذه المسألة. وذلك إما لكونه يردد القول فيها ويذكر وجهي المسألة بالنفي والإثبات، وإما لكونه يؤيد أحد وجهي المسألة عند الاعتراض ويؤيد الوجه الآخر عند الاستدلال. وممن سار على هذا النهج الآمدي، فمن ذلك أنه ذكر الأدلة على حجية
خبر الواحد، وبعد أن ناقشها قال: "وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك، ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة، والله أعلم بالصواب"1، وذكر مثل ذلك في مسألة حجية القياس وذهب إلى أن أدلتها ظنية2، وظهر منه تأييد قطعية الأصول في مواضع3 كما ظهر منه في مواضع أخرى تأييد خلاف ذلك4. وغالب ما يكون ذلك أنه يلتزم باشتراط القطعية في أدلة الأصول عند الاعتراض على المخالف المستدل بدليل غير قطعي ولكنه لا يسلم اشتراط القطعية عند الرد على من يعترض عليه بمثل ذلك، بل صرح في موضع بأن الظهور والغلبة في مسالة اشتراط القطع في أصول الفقه للمعترض من جانبي النفي والإثبات دون المستدل فيها5.
وقد سار على هذا النهج ابن الحاجب1، فهو يقلب المسألة على وجهيها ويذكر ما يترتب على كل وجه2، ثم يختلف مذهبه عند الاستدلال عنه عند الاعتراض3، بل إنه صرح - كما سبق عن الآمدي - أن القوة في مسألة قطعية الأصول للمعترض على النفي أو الإثبات دون المستدل عليهما4. وعلّل عضد الدين الإيجي ذلك بأن المسألة عليها "دلائل واعتراضات مشكلة من الجانبين"5. وحاصل هذه المسألة عند هؤلاء التوقف فيها عن النفي والإثبات "لأن أدلة النفي والإثبات ضعيفة ووجوه المنع والدفع قوية"6. وكذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي - رحمه الله - ذكر أن ما كان من مسائل الأصول مختلفا فيه سائغا فيه الاجتهاد فهو ملحق بالفروع أو
بمنزلتها، فيجوز إثباته بغير قطعي1، مع أنه قد يعترض - في مواطن الخلاف - على بعض الأدلة بأنه غير قطعي فلا يجدي في الأصول2، وإذا اعترض عليه في الاستدلال بدليل غير قطعي في أصول الفقه فقد يجيب بمذهب شيخه القاضي أبي الطيب الطبري، وهو جواز الاستدلال على الأصول بخبر الواحد3، بل ربما أطلق ذلك دون نسبته إلى شيخه4. والظاهر - والله أعلم - أن اشتراط الدليل القطعي في أصول الفقه لا يَسلم فيه دليل، وعليه فيجوز الاستدلال في مسائل أصول الفقه بما يجوز أن يستدل به في غيرها من المسائل الشرعية، فما كان عليه دليل قطعي من قواعد هذا العلم فهو من القطعيات، وما لم يُقدر على إثباته منها إلا بالدليل الظني الراجح فليس قطعيا وإنه حجة وهو من أصول الفقه. بيد أن أمهات المسائل المذكورة في علم أصول الفقه قطعية، كحجية الكتاب والسنة عموما، وحجية خبر الواحد العدل المتصل خصوصا، وحجية الإجماع، وحجية القياس، وحجية العموم، وأن الأمر للوجوب والنهي للتحريم، ووجوب الترجيح عند التعارض والتعادل، ووجوب العمل
بالراجح من ذلك، وحجية قول المفتي للمستفتي ونحو ذلك، فكل ذلك عليه أدلة يقطع بها المحققون من علماء أصول الفقه وغيرِهم، ممن يستقرئ أدلتها من الكتاب العزيز، والسنة النبوية، وعمل الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين من بعدهم رحمة الله عليهم. وهذا ما ذكره القرافي ونقله عن العلماء وأيده، وهو أن أصول الفقه قطعية لمن استقرأ أدلته ووقف على أقضية الصحابة واطّلع على مناظراتهم وفتاويهم في مظان الاستدلال بتلك المسائل وفي غير مظانها من مصادر الشريعة الواسعة، فإن المستقرئ لما ورثه الخلف عن السلف من الصحابة ومن بعدهم من فتاويهم وأقضيتهم، وما كان عليه عملهم عند البحث عن أدلة الأحكام وعند الاختلاف في الأحكام، يقطع بكثير من القواعد الموصلة إلى الفقه، أما من قصر عن استقراء ذلك ولم يقف إلا على نزر يسير مما هو مسطور في مظان الاستدلال على تلك المسائل فلا يضيره إذ عجز عن القطع أن يعمل بما ثبت عنده بغالب الظن والراجح الصحيح من الأدلة الشرعية، لأنه ربما استدل العلماء على أصول الفقه بقدر من أدلتها ليثبتوا أصل المسألة وتكون تفاصيل ذلك متفرقة في مواضع أخرى1.
الباب الأول: قطعية الدليل وأثرها
الباب الأول: قطعية الدليل وأثرها الفصل الأول: قطعية الدليل المبحث الأول: جهة القطعية في الدليل المطلب الأول: جهة الثبوت ... المطلب الأول: جهة الثبوت1 الكتاب والسنة والإجماع أدلة نقلية، فيكون بين المستدل بها الذي لم يشهد ورود الدليل وبين مورد الدليل وسائط ناقلة، ومن أجل ذلك يحصل التفاوت في ثبوت الدليل عند من نقل إليه تبعا لاختلاف الوسائط والطرق الناقلة للدليل، وقد تثبت هذه الأدلة بطرق قوية ينتهي بها المستدل إلى
القطع بصحة نسبتها إلى موردها، فيقطع بنسبة الدليل من الكتاب إلى الباري جل شأنه، ويقطع بنسبة الدليل من السنة إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه قاله، ويقطع بنسبة الدليل من الإجماع إلى أهله وأن المجمع عليه سبيل المؤمنين، والقطع بهذا الأمر هو القطع بالدليل من جهة ثبوته، أي ثبوته عند المستدل الناظر فيه منسوبا إلى مصدره ومورده1. ويترتب على النظر في هذه الجهة من القطعية وما يحصل فيها من تفاوت الخلاف في حجية ما نقل من القرآن بالآحاد لعدم القطع فيه من جهة ثبوته قرآنا2، كما ترتب على النظر فيها كون السنة منها متواتر قطعي الثبوت، ومنها آحاد مختلف في قطعيتها من جهة الثبوت3، وكون الإجماع منه ما هو قطعي لنقله بالتواتر ممن أجمعوا ومنه ما نقله الآحاد فاختلف في حجيته4.
فوقع كل هذا التفاوت والتنوع في تلك الأدلة لاختلافها في الثبوت قطعا أو ظاهرا1. أما القياس فهو دليل لا تتأتى فيه هذه الجهة على التحقيق، لأن المجتهد هو الذي يظهره بنظره وإثباته له فلا تحصل فيه واسطة ولا يؤثر في قوته وثبوته نقل ولا سند، وقد يكون من القياس ما يتأتى فيه النقل والوسائط كالأقيسة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم2 أو الأقيسة التي ينقل أن العلماء أجمعوا عليها 3، والصحيح أن مثل هذه الأقيسة راجع إلى الأدلة النقلية السابقة، فالأقيسة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من جملة أدلة السنة النبوية والأقيسة المجمع عليها تلتحق بدليل الإجماع، أما ما كان من القياس مرويا عن آحاد العلماء فصحته بصحة اعتباره ووضعه وسلامته من القوادح4، فينظر فيه كما ينظر في آحاد الأقيسة وليس في ثبوته عن ذلك العالم، لأنه لو فرض ثبوته عنه
بالقواطع فذلك لا يكفي لصحته إذ ليس قوله حجة بدون مستند! فالدليل من القياس لا تتأتى فيه جهة الثبوت كما تتأتى في الأدلة النقلية الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع.
المطلب الثاني: جهة الدلالة
المطلب الثاني: جهة الدلالة1 كما أن في الدليل تفاوتا من جهة الثبوت ففيه تفاوت من جهة الدلالة، فقد يكون الدليل بحيث يقطع بأنه متناول لحكم معين وأن ذلك الحكم مراد بالدليل قطعا2، وتلك قطعية الدليل من جهة الدلالة. وأظهر ما يكون ذلك في الأدلة اللفظية (كالكتاب والسنة) ، لأن فهم المراد منها قد يعتمد على فهم اللغة التي وقع بها التخاطب3، والألفاظ متفاوتة في دلالتها: فقد يكون اللفظ نصا في معنى واحد وقد يكون دالا على معنيين بالسواء وقد يكون ظاهرا راجحا في معنى مع احتماله لمعنى آخر مرجوح، وكل ذلك موجب لاختلاف قوة دلالة الدليل على الحكم.
ودلالة القياس على حكم الفرع المقيس عليه تلحق بجهة الدلالة، وهي متفاوتة فقد يقطع بالقياس وقد لا يقطع به، وكل ذلك يجري على حكم الفرع1. أما الإجماع فالظاهر أن الاتفاق فيه يكون على حكم معين، فلا تتفاوت دلالته على ذلك الحكم من ذلك الوجه2. وللشافعي - رحمه الله - إشارة إلى الجهتين في قطعية الدليل، فقد قسم العلم قسمين: قسم ينقله العامة عن العامة ولا يمكن فيه غلط ولا تأويل، وقسم لا يكون من نقل العامة لكونه من أخبار الخاصة أو يكون مما يحتمل التأويل3. فنقل العامة عن العامة إشارة إلى قطعية الدليل من جهة الثبوت، وعدم إمكان التأويل فيه إشارة إلى القطعية من جهة الدلالة على المدلول منه بحيث لا يمكن أن يصرف عن مدلوله، فيكون القسم الأول من قسمي العلم عند الإمام الشافعي دليلا قطعيا ثبوتا ودلالة. كما أشار إلى عدم القطعية - في القسم الثاني - بعدم القطعية ثبوتا بكونه من أخبار الخاصة أو دلالة بكونه محتملا التأويل.
المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية
المطلب الثالث: مسائل في جهة القطعية وتتعلق بجهتي القطعية مسائل تتبين بها أحكام القطعية فيهما: المسألة الأولى: ليس بين جهتي القطعية في الدليل تلازم، فكون الدليل قطعيا من جهة الثبوت لا يلزم منه أن يكون قطعيا من جهة الدلالة والعكس كذلك، ولذا قد يتقابل دليلان كل منهما قطعي من جهة دون الأخرى فيتعادلان في القوة لتساويهما في القطعية، من ذلك العام1 من الكتاب، والنص الخاص من السنة الأحادية غير القطعية، فالأول قطعي من جهة الثبوت ظني من جهة الدلالة، والثاني قطعي من جهة الدلالة ظني من جهة الثبوت23. المسألة الثانية: تمام قطعية دليل كونه قطعيا من الجهتين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية
عند كلامه على الحديث القطعي في السند والمتن: "وهو ما تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله وتيقنا أنه أراد تلك الصورة"1. واليقين الأول هو قطعية الثبوت، وهو القطع بنسبة الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واليقين الثاني هو قطعية الدلالة، وهو القطع بالمراد من الدليل. فترتيب الأدلة في القوة - بالنظر إلى جهتي القطعية - يكون هكذا: الرتبة الأولى: القطعية التامة في الجهتين ويكون فيها الدليل قطعيا في الثبوت والدلالة، ومثال الدليل في هذه الرتبة: الدليل من القرآن الكريم أو الخبر المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان نصا صريحا في الحكم المراد منه. ومن ذلك قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} 2 فهو قطعي الثبوت وأنه من كلام الله، وقطعي الدلالة على نسبة الإرسال من الله إلى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم3. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من كذب علي متعمدا فليتبوَّأ مقعده من النار". روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون نفرا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين4، ورواه عنهم جمع كثير من مشاهير التابعين
رحمهم الله جميعا1، فهو حديث قطعي الثبوت، وهو كذلك قطعي الدلالة على أن من كذب متعمدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه معرض لما ذكر صلى الله عليه وسلم من الوعيد2. الرتبة الثانية: قطعية الدليل بالنسبة لإحدى الجهتين دون الأخرى، ويكون الدليل في هذه الرتبة قطعي الثبوت دون الدلالة، أو قطعي الدلالة دون الثبوت، ففي هذه الرتبة نوعان من الدليل القطعي: النوع الأول: الدليل القطعي من جهة الثبوت دون جهة الدلالة، ومنه قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثةَ قُرُوءٍ} 3 فهو قطعي الثبوت لأنه من القرآن الكريم، لكنه في دلالته على ما به يكون التربص غير قطعي، وقد اختلف العلماء في هل يكون ذلك بالحيض أو بالأطهار4؟ النوع الثاني: الدليل القطعي من جهة الدلالة دون جهة الثبوت، ومنه حديث أبي هريرة5 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل
تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد شيئا فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من يمر بين يديه" 1. فهذا الحديث نص قطعي في دلالته على أن الخط سترة من لم يجد ما يجعله تلقاء وجهه ولم يكن معه عصا ينصبه، لكنه قد لا يقطع به من جهة ثبوته على فرض ثبوته، وقد ضعّفه بعض العلماء2. ومنه - أيضاً - ما جاء من أخبار الآحاد قطعيا في الدلالة على الحكم، وذلك عند من يرى أن خبر الواحد لا يفيد القطع مطلقا أو عند عدم القرائن. وعدم القطعية من جهة الثبوت هنا أعم من كون الدليل ظاهرا غير قطعي، فقد يكون الدليل غير ثابت عند مستدل لعلة من العلل التي يُردّ الخبر من أجلها عنده بحيث لو ثبت لكان قطعيا في دلالته على محل الخلاف ولم
يكن فيه أدنى تردد، ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" 1، فهذا قطعي في دلالته على رد الصاع من الطعام مع الشاة المصراة إذا سخطها المشتري، لكن الحنفية يردون الحديث من جهة عدم ثبوته عندهم لمعارضته لقياس الأصول فلا يثبت2، فالرد لعدم الثبوت لا لعدم الدلالة. الرتبة الثالثة: عدم قطعية الدليل من الجهتين ويكون فيها الدليل غير قطعي لا ثبوتا ولا دلالة، وهذا الدليل خارج من حدود هذا البحث لعدم قطعيته مطلقا، ومنه أن يكون الدليل خبر واحد غير قطعي ولا يكون نصا في الحكم، ويمكن أن يمثل للدليل في هذه الرتبة بما رواه عبادة بن الصامت3 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 4، فالحديث غير
قطعي الثبوت عند من لا يرى قطعية خبر الآحاد، وليس قطعي الدلالة على نفي الصحة لاحتمال أن يكون المراد نفي الكمال فذلك وارد1. هذا وللدليل في كل رتبة من هذه الرتب حكم خاص بالنظر إلى الوصف بالقطعية، فإنه يوصف الدليل في الرتبة الأولى بالقطعية مطلقا فيقال: (دليل قطعي) لأنه قطعي من جهة الثبوت والدلالة، كما يوصف الدليل في الرتبة الثانية بالقطعية لكن مقيدا بالجهة التي هو فيها قطعي فيقال: (دليل قطعي الثبوت أو من جهة الثبوت) أو يقال: (دليل قطعي الدلالة أو من جهة الدلالة) أو نحو ذلك، وقد يطلق الوصف توسعا فيقال دليل قطعي، أما الدليل في الرتبة الثالثة فلا يمكن وصفه بالقطعية مطلقا لعدمها في جهتيه والله تعالى أعلم. المسألة الثالثة: الثبوت والدلالة في قطعية الدليل جهتان متكافئتان في القوة، فلا يترجح دليل قطعي الثبوت فقط على دليل آخر قطعي الدلالة فقط، ولا دليل قطعي الدلالة على دليل آخر قطعي الثبوت من أجل القطعية، لتساويهما فيها. هذا هو الظاهر من صنيع العلماء فيما إذا اجتمع دليلان أحدهما عام
ظني من القرآن والآخر خاص نص من خبر الواحد، فإنهم لا يرجحون أحد الدليلين على الآخر لجهة القطعية فيه، وإنما يصيرون إلى ما يصيرون إليه بأمر خارج عنهما، كتغليب إرادة الخاص على إرادة العموم في مثل ذلك، أو الترجيح بأن ذلك هو المنقول من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فتسكن نفس المستدل إلى ما فعلوا ونحو ذلك، فدل على أن جهة الثبوت تعادل جهة الدلالة في القوة 1. بل توقف القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره في هذه المسألة، لأنه لم يجد مرجحا لأحد الدليلين على الآخر مع تقابلهما في أن كل واحد منهما راجح من جهة ومرجوح من جهة أخرى، قال الجويني: "ورأى القاضي الوقف في المحل الذي يتعارض فيه الخبر ومقتضى لفظ الكتاب، فإن أصل الخبر يتطرق إليه سبيل الظنون والمراد بالعموم في الكتاب في مظنة الظنون، فضاهى معنى الكتاب في التعرض للتردد2 أصلَ الخبر الناص، فمن ذلك الوجه وجب التوقف في قدر التعارض وإجراء اللفظ العام من الكتاب في بقية المسميات"3، ثم خالف إمام الحرمين شيخه القاضي فاختار القطع
بتخصيص العام من القرآن الكريم بالخاص من السنة، واستدل على ما اختاره بسيرة الصحابة رضي الله عنهم، قال: "وما ذكره القاضي وإن كان متجها في مسلك العقل فالمتبع في وجوب العمل ما ذكرناه، ومن شك في أن الصديق رضي الله عنه1 لو روى خبرا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في تخصيص عموم الكتاب لابتدره الصحابة قاطبة بالقبول فليس على دراية في قاعدة الأخبار"2. وخالف بعض العلماء ما سبق، فمال إلى ترجيح جهة الثبوت على جهة الدلالة، وعلل ذلك بأن جهة الدلالة مفرعة عن جهة الثبوت فكان عدم قطعية الدليل من جهة الثبوت يورث شبهة في جهة الدلالة وإن كانت قطعية، وذلك أن معنى الدليل ودلالته مُودَعان في اللفظ فهما تَبَع له وفرع عن ثبوته. وعلى هذا القول فإذا تعارض دليل عام من القرآن ودليل خاص نص من السنة الأحادية قدِّم العام من القرآن على الخاص من خبر الواحد لأنه راجح عليه، فإن القطعية في العام من جهة الثبوت، وهي على هذا المذهب أقوى من قطعية الخاص التي هي من جهة الدلالة3.
ورُدَّ بكون الشبهة المنسحبة من جهة الثبوت إلى جهة الدلالة شبهة واحدة: في الثبوت بالذات وفي الدلالة بالتبعية، فتبقى الجهتان متساويتين لأن في كل دليل شبهة واحدة فقط1.
المبحث الثاني: فيما يفيد القطعية في الدليل
المبحث الثاني: فيما يفيد القطعية في الدليل المطلب الأول: إفادة الإجماع القطعية في الدليل ... الميحث الثاني: فيما يفيد القطعية في الدليل قد يكون الدليل قطعيا بدون انضمام أمر آخر إليه، كأن يكون نصا من كتاب الله عز وجل لا يحتمل إلا وجها واحدا، أو خبرا متواترا، أو إجماعا مستكمل الشروط، أو قياسا قطع فيه بالتعليل ثم قطع بوجود العلة في الفرع. وقد يكون الدليل غير قطعي بالنظر إليه مجردا لكن تنضم إليه أمور أخرى تفيد القطعية فيه، فخبر الواحد المجرد قد لا يفيد القطع، وقد ينضم إليه إجماع العلماء عليه وتلقيهم له بالقبول، أو تحتف به من القرائن فيصير بما انضم إليه قطعيا1. المطلب الأول: إفادة الإجماع القطعية في الدليل الإجماع المفيد القطعية في الدليل هو ما كان قطعيا2، إذ ما لا يكون من الإجماع قطعيا لا يتصور أن يُكسب غيرَه قطعيةً! والإجماع على الدليل يمكن أن يكون إجماعا عليه من حيث الثبوت أو من حيث الدلالة، فالإجماع على الدليل من حيث الثبوت مثل الإجماع على ثبوت خبر الواحد والإجماع على ثبوت إجماع المتقدمين على أمر.
والإجماع على خبر الواحد متصور في ثلاث حالات: الحالة الأولى: الإجماع على أن الخبر صدق وصحيح. الحالة الثانية: الإجماع على العمل بالخبر. الحالة الثالثة: الإجماع على حكم موافق لخبر لم يعلم أن الإجماع وقع عليه. أما الحالة الأولى: وهي ما إذا أجمعت الأمة على تصديق الخبر فلم أطلع على من أنكر أن يكون ذلك الخبر صدقا قطعا ممن يرى أن الإجماع حجة قطعية، وإلا لكان الإجماع على أمر باطل، وهو تصديق ما ليس بصدق، وذلك يخالف قول كل من جعل الإجماع حجة قطعية، وقد صرح في تلخيص التقريب بكون مثل هذا الخبر صدقا قطعا1. أما الحالة الثانية: وهي الإجماع على العمل بالخبر، وإن لم يقطع كل المجمعين بصدق الخبر فمنها2: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث "3، ومنها: نهيه صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها أو
خالتها1، ومنها الخبر المروي عن المغيرة بن شعبة2 ومحمد بن مسلمة3 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورّث الجدة السدس4. ومن ذلك الأحاديث المتفق عليها في صحيح البخاري وصحيح مسلم عند ابن الصلاح5 وجماعة من العلماء، لأن الأمة قد تلقت أحاديثهما بالقبول إلا أحرفا يسيرة تكلم فيها بعض النقاد6.
ومن ذلك - أيضا - الحديث المشهور على اصطلاح بعض الحنفية1. واختلف أهل العلم في قطعية مثل هذا الخبر على قولين: القول الأول: أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول وأجمعت على العمل به يكون قطعيا في الثبوت، وهذا القول نسبه غير واحد إلى جمهور الفقهاء والأصوليين2، وذكره ابن حزم3 وأبو الحسين البصري4. ومن أدلة هذا المذهب ما يلي: أولا: أن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يكون إلا صوابا، والأمة المجتمعة على العمل بالخبر معصومة من الخطأ، فإذا أجمعت على العمل بالخبر وظنت صحته وصدقه كان كما ظنت، وإلا كانت قد أجمعت على أمر باطل5. ثانيا: القياس على الإجماع على حكم مستند إلى ظاهر أو قياس غير قطعي، فكما يجعل الإجماع ذلك الحكم قطعيا وإن لم يكن مستنده قطعيا
القول الثاني: أن الإجماع على تلقي الخبر بالقبول والعمل به لا يجعله قطعيا. وهذا قول القاضي أبي بكر الباقلاني3، لكن نقل الزركشي عن ابن القشيري4 أنه حكى عن القاضي أبي بكر الباقلاني أن ذلك يكون دليلا على الصحة5. ومنع القطعية في هذه الصورة هو قول الآمدي6.
وحجة هذا القول: "أن تصحيح الأئمة للخبر مجرى على حكم الظاهر، فإذا استجمع خبرٌ مِن ظاهره عدالةَ الراوي وثبوت الثقة به وغيرهما مما يرعاه المحدثون فإنهم يطلقون فيه الصحة، ولا وجه إذاً للقطع بالصحة والحالة هذه ... فإنهم لا يتوصلون إلى العلم بصدقه ولو قطعوا لكانوا مجازفين وأهل الإجماع لا يجتمعون على باطل"1. أما الحالة الثالثة: وهي الإجماع على حكم هو مقتضى خبر غير قطعي ولم يعلم أن الإجماع حصل من أجله - فالظاهر أنه لا يفيده القطعية، لأن ما ذكره الجمهور هو أن الإجماع على الخبر وتلقي الأمة له بالقبول مفيد القطعية فيه، وذلك فيما لو وقع الإجماع على العمل بالخبر وعلم ذلك، وفي هذا الصورة لم يعلم أن الإجماع وقع عليه فيحتمل أن يكون للإجماع مستند آخر غير ذلك الخبر2!
والظاهر - والله أعلم - أن الإجماع في الحالتين الأولى والثانية مفيد للقطعية في الدليل، أما في الحالة الأولى فلأن الإجماع على تصديق الخبر لا يمكن أن يكون خطأ فيجب أن يكون الخبر كما أجمعوا عليه، وأما في الحالة الثانية فلأن الإجماع على تصحيح الخبر يجعله قطعيا، وإن كان تصحيح كل واحد له هو بحسب ظنه، وقطعيته لذلك الإجماع لا لنفس الخبر، فهو أمر ظني أجمع عليه فارتفع بكونه سبيل المؤمنين إلى اليقين وعدم جواز الخُلف، أما الحالة الثالثة فالظاهر أن الخبر فيها غير قطعي، لأنه خبر لم يعلم أن الإجماع وقع عليه. والله أعلم. وأما كون الإجماع مفيدا القطعية في الدليل من حيث الدلالة فذلك فيما كان من الأدلة غير قطعي الدلالة واحتمل أن يراد منه غير ظاهره من حيث اللفظ فوقع الإجماع على المراد منه، فيصير الدليل قطعيا في أن المراد منه هو ذاك الذي وقع عليه الإجماع. ومن ذلك الإجماع على القياس1، فإنه يجعله قطعيا وإن لم يكن كذلك بالنظر إليه مجردا، وقد ذكر أهل العلم جملة من الأقيسة التي أجمع
عليها العلماء رحمهم الله، منها: إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه قياسا للإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى في الصلاة، ومنها: الإجماع على قتال مانعي الزكاة قياسا لها على الصلاة، والإجماع على تحريم شحم الخنزير، قياسا على لحمه، والإجماع على وجوب الزكاة في الجواميس قياسا على البقر1.
المطلب الثاني: أثر القرائن في إفادة القطعية
المطلب الثاني: أثر القرائن في إفادة القطعية تعريف القرينة: فعيلة بمعنى فاعلة من (قرن) ، ومن معانيه جمع الشيء إلى شيء، ومنه القران بين الحج والعمرة في النسك، والقران بين تمرتين في الأكل، وقرينة الرجل: نفسه التي معه أو زوجه، ودور قرائن: إذا كانت تستقبل بعضها بعضا. والقرينة: ما يشير إلى المطلوب، ومن أمثلتها في اللغة: القرائن اللفظية، كما في قولك: "ضربت موسى حبلى" المتأخر، لأن التاء من (ضربت) قرينة من اللفظ على أن فاعل الضرب هو (حبلى) المتأخر، ومنها: القرائن الحالية، كما في قولك: (أكلت الكمثرى موسى) 1، فإن الحال تدل على أن الذي يحتمل أن يكون الآكل هو موسى أما الكمثرى ففاكهة مأكولة. قرائن القطعية في الدليل: ولكن المراد بالقرائن هنا أخص من ذلك، فإن القرائن التي تفيد
القطعية في الدليل: جميع ما يؤثر في الدليل ويزيده قوة في الثبوت أو في الدلالة مما ليس داخلا في حجيته وصحته ولا في حده وحقيقته، لأن من القرائن ما تكون لازمة لحجية الدليل وشرطا في قبوله وصحته مثل عدالة الراوي في خبر الواحد، فإنها شرط في قبول الخبر، وكل خبر حجة يلزم أن يكون راويه عدلا، فلا يكون مثل هذه القرائن مرادا به ها هنا، لأن القطعية فرع عن الحجية، ولا يبحث في قطعية دليل لم يثبت كونه حجة. وإنما المراد الأمور التي تقارن الدليل أو تسبقه أو تلحقه، ويكون لها أثر في ازدياد قوة الدليل والثقة به، وهي أمور قد تخفى على بعض المجتهدين دون بعضهم فيقطع بالدليل من اطلع عليها أو على قدر منها يفيده القطعية ولا يقطع بالدليل من لم يطلع عليها أو اطلع على قدر منها لا يفيده القطعية، وذلك مثل كثرة الطرق المروي بها الخبر، وكون رواته من الأئمة المشهورين المعروفين بمزيد عدل وصدق، وكون الخبر له شواهد معززة في الأدلة الأخرى1. ومن ذلك - أيضا - ما يذكر من القرائن المؤثرة في العدد المفيد العلم القطعي في الخبر المتواتر2، لأنها ليست لازمة للحجية ولا هي داخلة في
حقيقة الخبر المتواتر، فإن حقيقته -كما سيأتي - خبر عدد يستحيل على مجموعهم الكذب، وربما كثر العدد وقل بالنسبة إلى هذا أو ذاك لاختلافهم في الوقوف على القرائن المؤثرة في العدد، ولأن تلك القرائن المؤثرة في العدد ربما خفيت على بعض فلا يكفيه عدد يكفي من اطلع على تلك القرائن. وقد تكون القرينة لازمة وغير لازمة بحسب المواضع، فمن ذلك العدد في رواة الخبر، فإنه ليس لازما للحجية في مطلق الخبر، إذ الخبر يحتج به إذا كان صحيحا وإن لم يروه أكثر من واحد، لكن العدد لازم لحقيقة الخبر المتواتر، وذلك أن تعدد الرواة في الخبر المتواتر قرينة لازمة لحقيقة الخبر المتواتر وهو في مطلق الخبر قرينة غير لازمة. والله تعالى أعلم. والقرائن قد تفيد القطعية في الدليل من جهة الثبوت وقد تفيدها فيه من جهة الدلالة، أما من جهة الثبوت فذلك أثر القرائن في قطعية خبر الواحد من جهة الثبوت1، وأما من جهة الدلالة فذلك كل ما يذكر من الأمور المفيدة للمراد من الأدلة زيادة على ظهور المعنى حتى يقوى ويصل إلى القطع، كأن تكون صيغة الدليل مثلا ظاهرة في العموم أو في الوجوب أو في النهي ... ويقف الناظر في الدليل على قرائن وشواهد أخرى تقوِّي ظاهر هذه الصيغ حتى يقطع بأن المراد من الدليل ما ظهر منه2.
وللاعتداد بالقرائن في الأدلة أهمية كبيرة، فقد كان عدم النظر فيها وعدم الاعتداد بها سببا في نفي القطعية عن أدلة كثيرة. فمن جهة الثبوت نفى كثيرٌ القطعيةَ عن أخبار هي قطعية عند المطلعين على القرائن التي خفيت على من نفى القطعية، كالنظر في أحوال الرواة وسيرهم وطرق الرواية1، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك الخبر المروي من عدة جهات يصدق بعضها بعضا من أناس مخصوصين قد يفيد العلم اليقيني لمن كان عالما بتلك الجهات وبحال أولئك المخبِرين وبقرائن وضمائم تحتف بالخبر، وإن كان العلم بذلك الخبر لا يحصل لمن لم يشركه في ذلك، ولهذا كان علماء الحديث الجهابذة المتبحرون في معرفته قد يحصل لهم اليقين التام بأخبار وإن كان غيرهم من العلماء قد لا يظن صدقها فضلا عن العلم بها"2. ومن جهة الدلالة أدت الغفلة عن النظر في القرائن المحيطة بالنصوص الشرعية إلى أن نفى بعض من لم يحط بها القطعيةَ عن كثير من الألفاظ الشرعية، إذ أخذها منفردة فتطرقت إليها عنده احتمالات كثيرة صعب عليه من أجلها القطع بها، مع أن القرائن التي تسبقها أو تلحقها أو تقارنها تنفي عنها تلك الاحتمالات3.
قطعية القرائن: مذهب كثيرٍ من العلماء1 أن القرائن تؤثر في الدليل وقد تفيد فيه القطع، وأطلق القاضي أبو بكر الباقلاني نفي أن يكون للقرائن أثر في جعل خبر الواحد قطعيا2. ولكن كون القرائن مفيدة للقطعية في الدليل إنما هو في الجملة ولا يلزم منه أن كل قرينة تفرض مفيدة للقطعية أو لكل أحد، لذا اختلف في جملة من القرائن هل تفيد العلم القطعي في ثبوت خبر الواحد مثلا، كأن يكون الخبر قد تلقاه بعض الأمة بالقبول وأوَّله بعضهم، أو يكون الواحد أخبر به في جماعة لم يكذبوه مع جواز تواطئهم على الكذب3. قرائن الأحوال: هذا القسم الأول من القرائن. ويصعب تحديدها بعبارات وافية 1، قال الجويني: "وهى تنقسم إلى
قرائن مقال وقرائن أحوال: أما الأحوال فلا سبيل إلى ضبطها تجنيسا وتخصيصا، ولكنها إذا ثبتت لاح للعاقل في حكم طرد العرف أمور ضرورية"2، وقال في موضع آخر: "إن العلوم الحاصلة على حكم العادات وجدناها مرتبة على قرائن الأحوال، وهي لا تنضبط انضباط المحدودات"3، وقال الغزالي: "إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز ... وأمور معلومة من عادته [أي المتكلم] ومقاصده وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف"4، وقال الرازي: "إن القرائن لا تفي العبارات بوصفها، فقد تحصل أمور يعلم بالضرورة عند العلم بها كون الشخص خجِلا أو وجِلا، مع أنا لو حاولنا التعبير عن جميع تلك الأمور لعجزنا عنه"5. وضرب أهل العلم لقرائن الأحوال أمثلة تفيد في تقريبها إلى الذهن وفهم المقصود منها، ومن تلك الأمثلة: - أحوال رواة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاداتهم وما عرف من سيرهم، وأحوال المخبَر عنه، وأحوال المخبِر المبلغ، فكل ذلك يؤثر في
ازدياد قوة ثبوت الخبر عمن روي عنه1. - العلامات التي تظهر على الإنسان الخَجِل أو الوَجِل أو الغضبان، فإذا أخبر عدل عن خجله أو وجله أو غضبه مع ظهور تلك العلامات فقد نقطع بما أخبر2. - حركة المتكلم، وأخلاقه، وعاداته، ومقاصده، وتغيرات وجهه، وحركات رأسه المقارنة لكلامه، والمعينة على قوة بيان مراده من كلامه3. - إذا علم المرء بامرأة حامل قد اكتملت مدة حملها، ثم سمع الطلق من وراء الجدار مع ضجة النسوان حول تلك الحامل، ثم سمع صراخ الطفل، ثم خرجت نسوة يُعْلِنَّ أنها قد ولدت وأخبرن بذلك، فإنه لا يستريب المخبَر في خبرهن، بل يحصل له العلم به قطعا4. - قال بعض العلماء ممثلا لقرائن القطعية في بعض أمور زمانه: "لو أن سفيرا من خواص الخدم رفع جانب الستر الشريف عن باب الحرم، وأومأ بالإشارة إلى المنصوب في دست الوزارة5: أن انهض بحرمتك فقد
استُغني عن خدمتك! لَقَطع الصدر والحاضرون بصدق قول السفير، وصحة عزل الوزير ... ولو حضر غريب لا يعرف اختصاصَ المخبِر وسطوةَ السلطان أو عظم قدر المنصوب لم يشاركهم في الاضطرار إلى العلم به ... "1. قرائن السياق:وهي قريبة من قرائن الأحوال القرائنُ التي تستنبط من سياق الدليل، ومَثَّل بعض العلماء لذلك بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيِّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 2، فإن "السياق في بيان شرفه صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يحصل بإباحة لفظ الهبة له في النكاح دون غيره فقط، بل بأنه صلى الله عليه وسلم يجوز له النكاح بلا مهر"3، فيتبين ضعف احتمال من حمل اللفظ على أن الخصوصية المشار إليها هي كون النكاح بلفظ (الهبة) خاصة به صلى الله عليه وسلم دون غيره، لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 4. فقرائن الأحوال هي كل ما يلابس الدليل مما يفهم من سياقه وحال وروده ويؤثر في زيادة قوته ثبوتا أو دلالة، وهي تفيد القطعية في الدليل ثبوتا كما في قرائن الأحوال المحيطة بخبر الواحد5، وتفيد القطعية فيه من حيث الدلالة، كالإشارات والحركات والمقاصد والعادات التي شاهدها الصحابة
عند نزول القرآن وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم للأحاديث، ففهموا الوجوب والطلب الجازم من بعض صيغ الأمر وفهموا الندب من أخرى، وفهموا العموم من بعض صيغه والخصوص من أخرى، وفهموا الإطلاق والتقييد ونحو ذلك1. قرائن المقال (أو القرائن اللفظية) : هذا القسم الثاني من القرائن، وهي ما كان من قرائن الدليل لفظا معينا في بيان المراد منه، وذلك في جهة الدلالة كالألفاظ المخصِّصة للعموم أو المقيِّدة للمطلق أو المبيِّنة للمجمل، فقد تكون من الكثرة أو القوة بحيث يقطع من وقف عليها بالمراد بالدليل، وفي جهة الثبوت كتواتر الخبر على ثبوت إجماع الأمة. ومن الأمثلة على القرائن اللفظية: - تأكيد المعنى الظاهر من الكلام، كما إذا قال قائل: "اضرب الجناة وأكرم المصلحين"، فإن ظاهر هذا العموم2، فإذا قال: "كافتهم، صغيرهم وكبيرهم، شيخهم وشابهم، ذكرهم وأنثاهم، كيف كانوا، وعلى أي وجه كانوا، لا تغادر منهم أحدا، بسبب من الأسباب ووجه من
الوجوه" ... حصل علم قطعي بأن مراده من الصيغة العموم1. - اطراد اللفظ الظاهر في موارد استعماله على معنى واحد، فتجري مجرى النصوص التي لا تحتمل غير مسماها، بتلك الموارد التي هي قرائن مفيدة زيادة بيان في الظاهر2. - وقريب من قرائن المقال القرائن الخارجية، وهي الأدلة المنفصلة من نص أو قياس أو عمل، التي تبين المراد من الدليل المحتمل، مثالها أن قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثةَ قُرُوءٍ} 3 يحتمل في جهة الدلالة أن يكون التربص بالحيض أو بالأطهار، فيستدل من يرى أنه بالحيض بقرائن وأدلة أخرى تعزز ذلك الاحتمال كقوله تعالى: {وَالَّلائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتهُنَّ ثَلاَثةُ أَشْهُرٍ وَاللاَئِي لَمْ يَحِضْنَ} 4، فجعل عدة المرأة التي لا تحيض لصغر أو يأس بالأشهر بدلا من الحيض، فدل على أن الأصل في العدة أن يكون بالحيض، وبأن القصد من العدة استبراء الرحم من الحمل والعلامة الدالة على براءة الرحم في العادة هي الحيض لا الطهر! فإن الطهر تشترك فيه الحامل والحائل، والحيض في غالب
العادة خاص بالحائل، فكان النظر المناسب للمقصد الشرعي من ذلك أن تكون العدة بالحيض1. ومثال قرينة موافقة العمل: أن قوله تعالى في آية الوضوء: {يَأَيهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُمْ إِلى الْكَعْبَيْنِ} 2 يحتمل أن يكون {أَرْجُلكُمْ} معطوفا على قوله: {رُؤُوسِكُمْ} ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: {وُجُوهَكُمْ وَأَيديَكُمْ} ، وهو على الاحتمال الأول ممسوح، وعلى الثاني مغسول، لكن عمل الصحابة فمن بعدهم قرينة تؤيد الاحتمال الثاني، إذ المنقول عن عامتهم هو الغسل لا المسح3. تقسيم آخر للقرائن: قسم بعض العلماء القرائن إلى عادية وعقلية وحسية. فالعادية: كالقرائن التي تكون على من يخبر بموت ولده من التفجع وشق الجيوب!
والعقلية: كخبر جماعة تقتضي البديهة أو الاستدلال صدقه 1. والحسية: كالقرائن التي تكون على من يخبر بعطشه2. (الاستدلال بالقرائن) في كلام الشيرازي والباجي: في كلام الباجي وأبي إسحاق الشيرازي وغيرهما عبارة: "الاستدلال بالقرائن"، وليس المراد بالقرائن في هذه العبارة ما في هذا المبحث، وإنما المراد بها عندهم أن يقرن الشارع بين شيئين في اللفظ فيختلف في أن ذلك يقتضي التسوية بينهما في الحكم3، ويسمى أيضا (دلالة الاقتران) 4 أو (الاستدلال بالقِران) 5.
ووردت هذه العبارة في الأثر عن ابن عباس1 - رضي الله عنهما -
في الاستدلال على وجوب العمرة وأنها مثل الحج، قال: "إنها - أي العمرة - لقرينة الحج في كتاب الله تعالى: {وَأَتمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 1"2.
المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل
المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية ... المبحث الثالث: فيما يمنع القطعية عن الدليل تقدم الكلام في المبحث السابق عن الأمور التي تضفي القطعية على دليل غير قطعي على فرض خلوه عن تلك الأمور، فهل ثمة أمور إذا كانت في الدليل غير القطعي منعته من القطعية، أو أزالت القطعية عنه إذا حلت فيه؟ وهل كون الدليل مختلفا فيه يثبت العذر، ويرفع القطعية عنه، أو يمنعه منها؟ وهل الاحتمال مخرج للدليل عن القطعية، وما حدود ذلك؟ فمدار هذا المبحث على الاختلاف والاحتمال وأثرهما في رفع القطعية عن الدليل. المطلب الأول: أثر الخلاف في منع القطعية المقصود من الخلاف في الدليل هنا الخلاف فيه من جهة ثبوته ومن جهة دلالته، والخلاف الذي يلزم منه ذلك كالخلاف في حجيته. أما الخلاف في الدليل من جهة ثبوته، فكالخلاف في ثبوت إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على العمل بالقياس1، وكالخلاف في ثبوت التواتر في الأخبار المستدل بها على حجية الإجماع2، وأما الخلاف في الدليل
من جهة دلالته، فكالخلاف في دلالة قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 على حجية الإجماع2 ومن ذلك الخلاف في دلالة آيات كثيرة من الكتاب العزيز على بعض المسائل الفقهية، كدلالة قوله تعالى في آية الوضوء: {يَأَيهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلى الْمَرَافِقِ} 3 على وجوب غسل المرفق مع اليد، ودلالة قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثةَ قُرُوءٍ} 4 على أن الاعتداد بالأطهار أو بالحيض5. والخلاف في حجية الدليل يلزم منه الخلاف في قطعيته مطلقا، لأن القطعية فرع عن الحجية، فمن لا يرى الدليل حجة أصلا فهو لا يراه قطعيا! فيدخل ههنا بالتبع الخلافُ في حجية خبر الواحد والإجماع والقياس، فقد خالف في ذلك بعض الفرق البعيدة عن اتباع السنة6.
ولكِلاَ طَرَفَي الإثبات والنفي في هذه المسألة ما يعززه من الأمارات وإشارات أهل العلم: كون الخلاف مانعا من القطعية أو رافعا لها يدل عليه ما يلي: أولا: أن مسائل الخلاف قد كثر فيها الخلو من الدليل القطعي، قال الزركشي: "لما غلب على مسائل الخلاف الظن ظُنَّ أن جميعها كذلك ... "1، لأنه لما كان وجود الدليل القطعي يجعل الباحثين في الأدلة يتفقون على القول بموجبه، ويطمئنون إليه كان خلافهم موهما بعدم وجود دليل قطعي في المسألة، وأن جميع المختلفين اعتمدوا فيما ذهبوا إليه على أدلة غير قطعية. ثانيا: أن في عبارة كثير من أهل العلم ما يشير إلى ذلك: - قال الشافعي - إشارة إلى القسم القطعي من الحجج -: هو "ما كان نص كتاب بيِّن أو سنة مجتمع عليها ... "، وقال في القسم غير القطعي منها: هو "ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه"2،
فما ذكره - رحمه الله - يحتمل أن يكون معناه أن اجتماع الخبر مظنة القطعية واختلافه مظنة عدمها. - وفرق أبو الحسين البصري بين ما هو من مسائل الاجتهاد وما ليس منها بقوله: "إن مسائل الاجتهاد التي لا لوم على المخطئ فيها هي ما اختلف فيه أهل الاجتهاد من الأحكام الشرعية"1. - وقال الغزالي - إشارة إلى مسألة هل البسملة آية من القرآن -: "الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية، ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم"2. - وقال الرازي: "إنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دورانا على ألسنة المسلمين اختلافا لا يمكن القطع فيه بما هو الحق"3. - وقال الطوفي - إشارة إلى مسألة الحقيقة الشرعية -: "والدليل على أنها ليست قطعية أنها لو كانت قطعية لنصب عليها دليل قاطع ... لكن الدليل القاطع منتف قطعا وإلا لما وقع هذا النزاع"4.
- ويقول ابن السبكي1 - إشارة إلى مسألة جواز النسخ بمفهوم الموافقة -: "والمسألة خلافية ولا قاطع مع الخلاف"2. - ومن ذلك أن الإجماع القطعي عند بعض العلماء هو الإجماع الذي لا يختلف فيه أحد من القائلين بحجية الإجماع3، فكان الخلاف في الإجماع على هذا رافعا أو مانعا من كونه قطعيا. - ومن ذلك أن الواقفية في صيغ العموم والأمر4 يستدلون على نفي وجود دليل قطعي على حجية تلك الصيغ بدليل مشهور لهم، وهو أنه لو وجد دليل قطعي لما خالفوا، فيجعلون خلافهم دليلا على عدم القطعية في جميع ما استدل به الجمهور على حجية تلك الصيغ5.
كون الخلاف لا يمنع القطعية ولا يرفعها يدل عليه ما يلي: أولا: أن المعول عليه في إثبات الأحكام الشرعية ونفيها هو الدليل وما يفيده وليس موقف الناظرين في ذلك الدليل، إلا أن يدل دليل شرعي على ذلك كما في الإجماع، فقد ثبت بالأدلة القاطعة أن إجماع الأمة على أمر يجعل ذلك الأمر صوابا وينقطع فيه احتمال الخطأ، ومن ذلك إجماع جميع المجتهدين على قبول الدليل، أما الخلاف فليس كذلك إذ ليس الخلاف حجة1، فلا يرفع القطعية ولا يمنعها. ثانيا: أن كثيرا من الأدلة والمسائل القطعية عند جمهور المسلمين قد خالف فيها مخالفون، كحجية الإجماع وقطعيته وحجية خبر الواحد وجواز قطعيته وحجية القياس، ومن ذلك ما ينقل من خلاف السمنية2 في قطعية الخبر المتواتر، ولو كان الخلاف رافعا للقطعية لما وقع القطع من الأئمة بأن
هذه أدلة وحجج على الأحكام الشرعية1. ثالثا: أن من الخلاف ما لا يعتد به لبعده وكونه مبنيا على مخالفة الصريح الصحيح، فكيف يكون مثل ذلك مانعا من القطعية! قال الشاطبي: "إن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف ... ، لأن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تَجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت، وما ضلت إلا وهي غير معتبرة القول فيما ضلت فيه فخلافها لا يعد خلافا، وهكذا ما جرى مجراها من الخروج عن الجادة"2، وقال في موضع آخر: "إن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب: فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي من نص متواتر أو إجماع قطعي في حكم كلي ... فأما المخالف للقطعي فلا إشكال في اطراحه، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه دون الاعتداد به"3. وقال إمام الحرمين مشيرا إلى من خالف في بعض أنواع القياس القوية
كإلحاق صب البول في الماء الراكد بالبول فيه: "وقد قال القاضي لا يعتد بخلاف هؤلاء ولا ينخرق الإجماع بخروجهم عنه، وليسوا معدودين من علماء الشريعة"1. وذلك أن الخلاف قد يكون عن عناد أو عن خلل، كخلاف السمنية في قطعية الخبر المتواتر، فكيف يكون مثل هذا الخلاف رافعا للقطعية أو مانعا لها2! بل قد يكون الخلاف بسبب الجهل وعدم الاطلاع على الدليل أو على القرائن المعززة له التي ترفعه عن الظهور إلى اليقين والقطع3، أو يكون الخلاف عند التحقيق راجعا إلى الاتفاق، "وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة، فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالا مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد"4. رابعا: أن كثيرا من المسائل يقع فيها الخلاف، ثم إن كل فريق من
المختلفين يذهب إلى القطع في المسألة ويرى أن دليله قطعي فيما ذهب إليه وأن مخالفه مخطئ قطعا1، لذا يتطرق أهل العلم عقب بعض المسائل الخلافية إلى النظر في كونها من مسائل القطع أم لا، بمعنى أن الأدلة فيها قطعية أم أنها متقاربة غير بالغة مبلغ القطع2. خامسا: أن القطعية في الدليل ليست صفة لازمة ومطردة حتى يكون عدم قطع بعض من نظر فيه رافعا القطعية عنه بالنسبة لغيره، فليس كل دليل قطعي يجب أن يشترك جميع الناظرين في القطع به، فلا يكون خلاف زيد من المستدلين يزيل القطعية عن الدليل بالنسبة لعمرو منهم، قال ابن القيم: "إن كون الدليل من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل، ليس صفة للدليل في نفسه ... ، فقد يكون قطعيا عند زيد ما هو ظني عند عمرو"3، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن العلوم على اختلافها وتباين صفاتها لا توجب اشتراك العقلاء فيها لا سيما السمعيات والخبريات، وإن زعم أقوام من أولي الجدال أن الضروريات يجب الاشتراك فيها، فإن هذا حق في بعض الضروريات لا في جميعها، مع تجويزنا
عدم الاشتراك في شيء من الضروريات، لكن جرت سنة الله بوقوع الاشتراك في بعضها فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها فجحدوا كثيرا من العلم الذي اختص به غيرهم 1. يبين ذلك أن القطع وعدمه ربما كان بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال، والناس يختلفون في هذا وذاك"2. فقد لا يقطع مستدل ناظر في الدليل لأنه لم يصله ما يكفي من ذلك للقطع أو يصله ما يكفي ولا يكون عنده القدرة على استنباط القطع من الأدلة، فكيف يكون خلافه مانعا لغيره من القطع!. ومما يشير إلى هذا الطرف ما ذكره الغزالي في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة مشيرا إلى القول بعدم صحة الصلاة فيها، قال: "وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله وأن الحادث منه أكوان اختيارية هو معاقب عليها عاص بها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص"3، فالذي غلب عليه علم الكلام يقطع بهذا لما اعتاده من مباحث وحقائق في العلم الغالب عليه، ولا
يقطع به غيره ممن لم يمارس الكلام 1. قطعية الدليل بالنسبة للخلاف نوعان: ويستخلص مما ذكر في هذا المطلب أن القطعية في الأدلة نوعان: النوع الأول: القطعية المطلقة، وهي: ما يكون سبب القطع فيها واضحا صريحا، كأن يكون الدليل نصا من كتاب الله تعالى لا شبهة فيه، ثم يجمع عليه المسلمون عامتهم وخاصتهم، فهذا لا يتصور فيه خلاف معتد به، إلا مع فرض كونه عن عناد أو اتباع هوى، لأن الكتاب العزيز قطعي من جهة الثبوت، وكون الدليل فيه نصا يجعله قطعيا من جهة الدلالة أيضا، فيقطع به وبما يدل عليه كل من عرف لغة العرب. ولا يمكن أن يقال في مثل هذا النوع من القطعية إنه نسبي! إذ لا يمكن أن يوجد من هو أهلٌ للنظر في الأدلة الشرعية وطَلَبِ الأحكام منها يجهل دليلا هو نص في كتاب الله تعالى مثبت لحكم شرعي مجمع عليه!. ولعل هذا النوع هو ما يفيد العلم القطعي الذي ذكر الإمام الشافعي - رحمه الله - أنه عِلْمُ عامّةٍ المسلمين الذي لا يَسَعُ بالغا غيرَ مغلوبٍ على عقله جهلُه2.
النوع الثاني: القطعية المقيدة، وهي: ما يكون سبب القطع فيها غير قريب، معتمدا على قرائن متفرقة يحتاج الناظر للوقوف عليها إلى استقراء وتتبع ونظرٍ في وجه استنباط القطع منها، ثم يوفق في النظر في ذلك حتى يحصل له القطع واليقين منة من الله وفضلا، يرفعه بذلك درجات بما أوتي من اليقين، وقد لا يطلع غيره من المستدلين الناظرين على كل تلك القرائن أو يطلع عليها ولا يوفَّق في الاستنباط فيقف دون اليقين عند حد الرجحان. فمثل هذا الاختلاف يرفع صفة الاطراد واللزوم عن القطعية في الدليل حتى يكون دليلا قاطعا في حق من وُفِّق إلى الوصول إلى اليقين، وغير قاطع في حق غيره ممن لم يصل إلى ذلك، ولا يكون عدم القطعية بالنسبة إلى من لم يقطع في هذا يمنع القطعية بالنسبة إلى غيره، بل تكون القطعية نسبية. وكون الغالب في مسائل الخلاف بين أهل العلم عدم القطعية المراد به القطعية بالمعنى الأول، وإلا فلا يبعد أن يكون الغالب فيها القطع واليقين عند الأئمة الأعلام الجامعين لشتات الأدلة الواقفين على قرائنها في مظانها وغير مظانها1. وعلى هذا يكون الدليل القطعي نوعين: النوع الأول: دليل قطعي قطعا مطلقا، وهذا قطعية الدليل بالنسبة
للناظر المحتج لنفسه وللمناظر1 المحتج به على غيره، لكون الدليل قطعيا لذاته. والنوع الثاني: دليل قطعي قطعا نسبيا: أي بالنسبة لمن حصَّل أسباب القطعية وحققها2، وهذه قطعية الدليل بالنسبة للناظر دون المناظر، لأن قرائن القطعية واختلاف نظر المجتهدين في الدليل سبب في القطعية، فهو قطعي لغيره. والقطعية في هذا النوع تحصل بالبحث عن الأدلة في الكتاب والسنة واستقراء قرائنها من النصوص وعمل الصحابة ومن تبعهم وتتبع ما ورثوا من
ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في مظانها وغير مظانها والنظر فيها بما يؤدي إلى العلم بمقاصد الشريعة والقطع بثبوت الدليل وبمراد النبي صلى الله عليه وسلم به1. وما سبق نقله من بعض العلماء من جعل الخلاف رافعا للقطعية فذلك حيث كان مرادهم القطعية المطلقة المطردة التي لا يعذر من يخالفها ويقع اللوم والإثم عليه، ولا يكون ذلك إلا فيما كان قريبا متناولا لكل المستدلين حتى يعد خلافه عن هوى أو عناد. - قال الشافعي عند كلامه على قسمي الحجة: "أما ما كان نص كتاب بين أو سنة مجتمع عليها فالعذر فيها مقطوع ولا يسع الشك في واحد منهما ومن امتنع عن قبوله استتيب، فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا للتأويل وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم ردُّ ما كان منصوصا منه كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله"2. فهذا ظاهر أن الإمام الشافعي يريد القطعي المطلق، على أن المراد بالاجتماع والاختلاف هنا: اجتماع الرواة على رواية الخبر واختلافهم،
أي أن يرويه بعض دون بعض. والله تعالى أعلم. - ويحمل ما ذكره أبو الحسين البصري على أن الخلاف السائغ المعتد به يرفع اللوم عن المخالف في الدليل القطعي النسبي، ولا يرفع أصل القطعية بالنسبة إلى غيره1. - وقال الغزالي بعد مسألة (هل الشيء الواحد يكون طاعة ومعصية) : "فإن قيل هذه المسألة اجتهادية أم قطعية، قلنا هي قطعية والمصيب فيها واحد"2، فأثبت القطعية مع التصريح بالخلاف. - وقال الرازي بعد ذكر الخلاف في الألفاظ اللغوية: "ومن تأمل أدلتهم ... علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين"3، فعوّل في نفي القطعية وما دونها على الأدلة دون مجرد الخلاف. - وقال الطوفي بعد تقسيمه المسائل إلى قطعية واجتهادية: "والظن والقطع فيهما تابع للدليل"4، فعوّل أيضا على الدليل. فمن عوّل من العلماء على الدليل كان ذلك إشارة إلى أن حقيقة نفي القطعية راجعة إلى النظر في الدليل، ومن كان منهم أثبت القطعية مع وجود
الخلاف دل على أن منعه للقطعية حيث منع ليس لمجرد الخلاف، فوجب حمل ذلك على نفي القطعية المطلقة التي يجب أن يستوي فيها الناظرون، وكل ذلك راجع إلى الدليل دون مجرد الخلاف. والله أعلم. وكذلك من أثبت القطعية مع الخلاف ذكر أن سببها أمور ربما خفيت على من لم يقطع أو لم تكن عنده المقدرة على الاستنباط المؤدي إلى القطع، مع أن كل دليل قطعي ليست هذه صفته. فما يجتمع عليه أكثر أقوال العلماء هو أن الخلاف المعتد به يرفع الإطلاق واللزوم والاطراد عن القطعية، ولا يلزم منه رفع أصل القطعية1.
المطلب الثاني: الاحتمال وأثره في منع القطعية
المطلب الثاني: الاحتمال وأثره في منع القطعية معنى الاحتمال: أصل الاحتمال في اللغة يدل على إقلال الشيء وتقلّده، يقال: (حمَل الشيء يحمِله حملا واحتمله) إذا أقله، و (حمّلته فاحتمل) إذا طاوع في التحميل، ويقال: (احتَمَله الغضب) إذا أقله، ومنه: (احتُمِل فلان) : إذا غضب1. والاحتمال في الاصطلاح يأتي بمعنيين: الأول: بمعنى الجواز والإمكان، مثل قولهم: "يحتمل هذا الوجه أن يكون هو الصواب"، أي يجوز ويمكن، والاحتمال على هذا المعنى لازم. الثاني: بمعنى الاقتضاء والتضمن، مثل قولهم: "يحتمل الدليل وجوها كثيرة"، أي يقتضيها ويتضمنها، والاحتمال على هذا المعنى متعد2. ومن الاحتمال بالمعنى الأول الإمكان الذهني وهو: "ما لا يكون تصور طرفيه كافيا بل يتردد الذهن في النسبة بينهما"3.
والمعنيان متقاربان بالنظر إلى المراد بالاحتمال في هذا البحث، فيقال بالنظر إلى المعنى الثاني المتعدي: (يحتمل هذا الدليلُ التحريمَ والندبَ) أي يتضمنهما، فالدليل محتمِل والندب والتحريم فهما محتمَلان، والفعل متعدّ، ثم يقال بالنظر إلى المعنى الأول اللازم: (يحتمل الندب والتحريم أن يراد بهما في هذا الدليل) ، أي يجوز ويمكن أن يراد بهما، فالتحريم والندب محتمِلان، والفعل لازم. ويكون الفرق بين المعنيين اللازم والمتعدي اختلاف النظر عند المتكلم في إرادة المحتمَل فقط أو إرادته مع المحتمِل، فإذا عبر عن المحتمَل فقط كان الفعل لازما، وإذا عبر عنه وعن المحتمِل كان الفعل متعديا. والله تعالى أعلم. ألفاظ مرادفة للاحتمال: وقد يعبر أهل العلم رحمهم الله في موضع استعمال الاحتمال بألفاظ أخرى مرادفة له في المعنى، مثل الإمكان1 والجواز2 والتردد3.
وقد سبق أن من معاني الاحتمال الجواز والإمكان، أي إمكان حمل الدليل أو اللفظ على أيٍّ من الأمور المحتمَلة وجواز ذلك، أما التردد فالظاهر أن معناه في ذلك تردد الدليل بين المحتمَلين أو المحتملات من غير قطع ولا ثبات، أو تردد المستدل في حمل الدليل على أحد المحتملين. أما مناسبة المعنى الاصطلاحي للمعنى اللغوي فهي أن الدليل يُقِلّ الأمور التي يحتملها ويتقلدها بتضمنه إياها واقتضائه لها، إذ كان جائزا في الاستعمال أن يحتملها. وإذا احتمل الدليل - من حيث الدلالة - أكثر من وجه جاز أن تكون تلك الوجوه كلها متساوية وأن يكون بعضها راجحا وبعضها مرجوحا، فإن تساوت الوجوه كان الدليل مجمَلا، وإذا كان بعضها مرجوحا فالراجح الظاهر1. أثر الاحتمال في الدليل: من القواعد المتبعة عند العلماء في الجملة تأثير ورود الاحتمال على الدليل - ثبوتا أو دلالة - في إضعافه وإضعاف الاستدلال به، سواء أكان ذلك التأثير في جهة الثبوت أم في جهة الدلالة2 أو كان التأثير في الترتيب
بين الأدلة، فإذا احتمل الدليل معنى آخر غير ما ظهر للناظر احتمالا مبرَّرا ولم يكن من القرائن ما يدفع ذلك الاحتمال فإن مثل ذلك يضعف قوة الدليل ويجعل غيره مما ليس فيه احتمال راجحا عليه عند التعارض، وإذا كان الاحتمال ظاهرا مساويا للمعنى الظاهر ضعف الاستدلال مطلقا واحتاج الدليل إلى بيان من خارج. وهو أمر ظاهر في أصول الفقه. فهذا الإمام الشافعي - رحمه الله - قسّم دليل الكتاب إلى نص لا يحتاج إلى بيان، وإلى ما يحتمل أمورا عديدة فهو بسبب الاحتمال محتاج إلى البيان، قال: "فمنها قول الله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} 1 فاحتمل قول الله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 2 أن يتزوجها غيره وكان هذا المعنى الذي يسبق إلى من خوطب به أنها إذا عقدت عليها عقدة النكاح فقد نكحت، واحتمل حتى يصيبها زوج غيره لأن اسم النكاح يقع بالإصابة ويقع بالعقد، فلما قال رسول الله لامرأة طلقها زوجها ثلاثا ونكحها بعدُ رجل: "لا تحلين حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتكِ "3، يعني حتى يصيبك زوج
غيره، فالإصابة النكاح"1. وذكر الشافعي نحوا من هذا في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةَ لِلْوَالدَينِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2، وفي قوله {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} 3، قال: "فكانت الآيتان محتملتين لأن تثبتا الوصية للوالدين والأقربين والوصية للزوج والميراث مع الوصايا ... ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا ... فلما احتملت الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله ... "4. ومن الاعتداد بالاحتمال وتأثيره الترتيب بين الأدلة أو بين الأمور المتعلقة بها حسب وجود الاحتمال فيها وعدمه أو قربه فيها وبُعده أو كثرته فيها وقلته.
قول الراوي: (سمعت) لعدم احتمال غير السماع في ذلك، ودون ذلك قوله (قال) لاحتمال الواسطة بين الراوي وبين المروي عنه، وهكذا على هذا الترتيب إلى آخر المراتب حسب عدم الاحتمال أو وروده ثم حسب قلته وكثرته1. 2- ومن ذلك تقديم بعض العلماء الإجماع على سائر الأدلة الشرعية في الترتيب لأنه يرد بعد انقضاء عهد الوحي والنص فلا يبقى فيه احتمال النسخ الذي يكون في النصوص2. 3- ومن ذلك تقديم قياس الضرب على التأفيف في التحريم على قياس القتل العمد على الخطأ في وجوب الكفارة، لأن الثاني يحتمل أن يكون العمد لعظمه لا ينجبر بالكفارة فيفارق الخطأ، فهذان قياسان كان أحدهما أقوى من الآخر بسبب عدم الاحتمال في الأقوى وورود الاحتمال في الأضعف3. 4- ومن ذلك التفريق بين (النص) و (الظاهر) بالاحتمال الوارد
ولو مرجوحا في الظاهر وعدم الاحتمال - مطلقا أو مع قيد البعد - في النص1. وترتيب الحنفي في الدلالة بين الظاهر والنص والمفسر والمحكم بحسب الاحتمال، فالظاهر أدوَنها لاحتمال إرادة غير الظاهر واحتمال التخصيص أو التقييد والنسخ، ثم النص لعدم احتمال إرادة غير الظاهر مع ورود الاحتمالات الأخرى، ثم المفسَّر لعدم احتمال التخصيص أو التقييد مع احتمال النسخ، ثم أعلاها المحكم لانقطاع جميع الاحتمالات2. ومن اعتداد العلماء بالاحتمال وتأثيره في القطعية استدلالهم على تحقق القطعية بانتفاء الاحتمال واستدلالهم على انتفائها أو ما دونها بتحققه. فمن الأول الاستدلال على قطعية الخبر بانتفاء احتمال الكذب ونحوه كالخطأ والغلط3، والاستدلال على النصية بعدم احتمال إرادة غير الظاهر4، ومن الثاني العبارة المنقولة عن الإمام الشافعي رحمه الله: "قضايا
الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال"1، فاستدل - رحمه الله - على انتفاء القطع والظهور بوجود الاحتمال2.
ومما يدل على الاعتداد بالاحتمال أن موجب الإجمال في اللفظ هو استواء الاحتمالين أو الاحتمالات فيه بحيث لا يترجح أحدها، كاستواء الاحتمال في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} 1، فيحتمل أن يكون الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو ولي المطلقة. وهذا من الأدلة على تأثير الاحتمال في رفع القطعية، لأن سبب الإجمال وجود الاحتمالات مع استوائها وحكمه التوقف وطلب المفسِّر المبيِّن للمراد منه من خارج2. ومما يدل على الاعتداد بالاحتمال قول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة ... ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك دلالة لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان"3. وقول ابن القيم: "إن ألفاظ القرآن والسنة ثلاثة أقسام: نصوص لا تحتمل إلا معنى واحدا، وظواهر تحتمل غير معناها احتمالا بعيدا مرجوحا، وألفاظ تحتاج إلى بيان فهي بدون البيان عرضة الاحتمال"4.
فبان بما سبق أن من الأصول الثابتة والقواعد المتبعة في الأدلة: أن احتمال الدليل نقيض ثبوته أو نقيض مدلوله يؤثر ذلك في قطعيته ثبوتا أو دلالة، نفيا للقطعية عند وجود الاحتمال أو إثباتا لها عند نفيه. مسالك العلماء في الاعتداد بالاحتمال: ما سبق من أثر الاحتمال هو في الجملة، وتختلف مسالك العلماء بالنظر إلى حدود قوة الاحتمال في قطعية الدليل وقوته، فمضيِّقٌ لحدود ذلك وموسع. المسلك الأول: أن الاحتمال المؤثر في القطعية هو ما كان منه قريبا معتضدا بما يؤيده، أما ما بعُد من الاحتمال فلا يرفع القطعية ولا يمنعها. وهذا هو المسلك الذي نُص عليه في كتب الحنفية، أنه مذهب الجمهور منهم1، لذا كانت دلالة العموم عندهم قطعية وإن احتمل اللفظ العام غير ظاهره احتمالا بعيدا غير مؤيد بدليل، بل ذهب بعضهم إلى قطعية الظواهر إذا لم يكن هناك ما يعضد الاحتمال المرجوح فيها2. ويؤيد هذا المسلك أمور منها: أولا: أن الاحتمال المرجوح الذي لم يقم عليه دليل ملحق بالمعدوم حكما فلا يمنع القطعية، فلا يمتنع العاقل من دخول الدار مثلا وإن احتمل
عقلا أن يسقط سقفه، إذا كان الاحتمال غير معزز بدليل من الواقع، مع أنه يقطع بورود الاحتمال العقلي المجرد في كل بيت مسقوف أن يسقط سقفه1. ثانيا: أنه لو أوجب مطلق الاحتمال رفع القطعية لانتزعت الثقة من النصوص ولم يبق ثمة دليل قطعي، فإن كل دليل فيه احتمال قريب أم بعيد من نسخ أو خصوص أو مجاز أو نحو ذلك2. ثالثا: أن القواطع العادية قد تحتمل أمورا عقلية ولا يؤثر ذلك بمنع القطعية عنها، ومن ذلك أن مياه الأنهار والبحار تحتمل عقلا انقلابها إلى دماء جارية، كما تحتمل جبال الأرض وجدران المساكن والأودية والسهول أن تنقلب إلى كُتل من ذهب وفضة، ومع كل ذلك يقطع بما استقر في العادة من نقيض ذلك3. المسلك الثاني: أن الاحتمال إذا ورد على الدليل في ثبوته أو في دلالته منع القطعية فيه ورفعها عنه مطلقا قَرُب الاحتمال أو بَعُد ما لم يقطع ببطلان ذلك الاحتمال.
وهذا المسلك ظاهر في كتب المتكلمين ومن سار على طريقتهم في أصول الفقه، ومن أمثلة ذلك: - قال إمام الحرمين - مضعِّفا وجه الاستدلال على أن الأمر المطلق للوجوب بما نقل من تمسك الصحابة رضوان الله عليهم بالأوامر المطلقة -: "وهذا المسلك لا يصفو من شوائب النزاع، ويتطرق إليه أنهم كانوا يفعلون ذلك فيما اقترن به اقتضاء الإيجاب"، إلى أن قال مقررا القاعدة في ذلك: "وكل مسلك في الكلام تطرَّق إليه إمكان1 لم يفض إلى القطع"2. - وقال في موضع آخر - إشارة إلى الاستدلال بالظاهر فيما المطلوب منه القطع -: "ثم إذا فرض ذلك في المستدِل فليس من حق المستدَل عليه أن يشتغل بالتأويل، بل يكفيه أن يبين تطرق الاحتمال وخروج اللفظ عن القواطع، وإذا وضُح ذلك التحق الظاهر في محل طلب العلم بالمجملات التي لا تستقل بأنفسها"3، فاعتد بالاحتمال البعيد المرجوح في اللفظ الظاهر، حتى ألحقه -إذا ورد في المسائل القطعية -بالمجمل الذي لا يفيد شيئا. - وذكر في موضع آخر استدلال بعض العلماء على حجية الإجماع
بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّن لَهُ الْهُدَى وَيتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1، ثم اكتفى في إبطال الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع بأن طرّق إليه احتمال أن يكون المراد بمشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين الكفر أو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "ثم إن سلَّم المعترض ظهور ذلك فذلك، وإلا فهو وجه في التأويل لائح ومسلك في الإمكان واضح، فلا يبقى للتمسك بالآية إلا ظاهر معرَّض للتأويل، ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القطع، وليس على المعترض إلا أن يظهر وجها في الإمكان، ولا يقوم للمحصل عن هذا جواب إن أنصف"2، أي أن احتمال الدليل غير الوجه الذي ذكره المستدِل يكفي في رفع القطعية عن دليله مطلقا، سواء أكان الاحتمال الذي ذكره المعترض ظاهرا راجحا على ما ذكره المستدل أم كان مرجوحا في أوائل الإمكان. - ورجح الغزالي أن أولى المعاني بإطلاق اسم (النص) : ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا عن قرب ولا عن بعد3.
- وقال الرازي: إن العلم اليقيني "إن قارنه احتمال النقيض ولو على أبعد الوجوه كان ظنا لا علما"1. وهذا من أسباب القول بظنية العام عند بعض من قال بذلك، لاحتمال الخصوص مطلقا وإن لم يستند إلى دليل خاص. ويظهر هذا المسلك عند ذكر الأدلة ومناقشتها في المسائل التي يكون المطلوب فيها القطع عندهم، فإنهم يظهرون عدم قطعية الدليل بتطريق الاحتمال إليه، سواء أكان الاحتمال قريبا أم كان بعيدا في الاستعمال العادي أو الشرعي للألفاظ 2. الظني المقارب للقطع: وهذا المسلك يوسِّع مجال تأثير الاحتمال في منع القطعية، فينتج من ذلك تقليل وجود القطعي، ولذلك يذكر أصحاب هذا المسلك مرتبة وسطا بين القطعي المطلق وبين الظني المطلق، وهي مرتبة (الظني القوي المقارب للقطع) ، وهو عندهم ما كان فيه احتمال لكنه بعيد جدا، فيبقى معه الدليل ظنيا لورود أصل الاحتمال المؤثر، لكن يكون الدليل قريبا من القطع لبعد
الاحتمال بُعدا أضعف تأثيره في القطعية1. والله تعالى أعلم. مطلق الاحتمال لا يرفع الحجية: الاحتمال مهما كان من القرب لا يرفع الظهور عن الدليل المستند إلى احتمال أقوى وأرجح منه، إلا أن يكون عليه دليل يجعله راجحا، فالظواهر لا تصرف عن المتبادر منها بمجرد الاحتمال، فإذا علم مع ذلك أن الظهور يكفي لحجية الدليل في الجملة، ووجوب العمل به لم يكن للاحتمال تأثير في وجوب العمل بها. وفي هذا العبارةُ المنقولة عن الإمام الشافعي رحمه الله: "قَلَّ شيء إلا ويَطرُقه الاحتمال، ولكن الكلام على ظاهره حتى تقوم دلالة على أنه غير مراد"2، وقال الزركشي معلقا: "فأبان بذلك إلى3 أنه لا نظر إلى
احتمال يخالف ظاهر الكلام"1. وبيَّن إمام الحرمين - وهو الذي سبق النقل عنه في بيان المسلك الثاني المتوسع في الاعتداد بالاحتمال - أن الاحتمال وإن كان يرفع القطع فإنه لا يرفع الظهور، ثم قال: "فإن قيل أليس تأويل الظواهر مقبولا بالاحتمال؟ قلنا ليس الاحتمال مقتضيا قبول التأويل، ولكن رأينا الأولين على الجملة يتمسكون بالتأويلات، وكما رأيناهم متفقين على التأويل مع التعويل على دليل يعضده رأيناهم غير مكتفين بهذه الإمكانات، وهذا بمثابة دعوى النسخ من غير ثَبَت، فإن من ادعى نسخا فقد ادعى ممكنا، ولكن لا يقبل منه بالإجماع إلا بثبت يعول عليه"2. وقال الآمدي: "الظاهر لا يترك بالشك والاحتمال"3. وذكر ابن القيم أنه لا نزاع في "أن غالب الألفاظ لها ظواهر هي موضوعة لها ومفهومة منها عند الإطلاق، لكن النزاع في قطعية ذلك أم لا، للاحتمال"4.
وقال القرافي عند شرحه قول الرازي في المحصول: "اعلم أن الخلل إنما يحصل في فهم السامع بناء على خمس احتمالات: الاشتراك والنقل والإضمار والمجاز والتخصيص" قال القرافي: "اعلم! أن المراد بالخلل ها هنا اختلاف القطع بمراد المتكلم، لأن الظن حاصل مع هذه الاحتمالات، فاحتمال المجاز لا يمنع الظن بل القطع"1. فالقول بتأثير الاحتمال لا يتجاوز القطعية إلى الظن الغالب والظاهر الراجح، سواء على المسلك المضيِّق لحدود الاحتمال، أم على المسلك الموسع لذلك. والله تعالى أعلم. الاسترسال في تطريق الاحتمال: إن الاسترسال في إيراد الاحتمالات على الأدلة الشرعية ليس مما يستحسن في الشرع، لأنه يؤدي إلى توهين الأدلة الشرعية عند من يعجز عن دفع تلك الاحتمالات، ويوقعه في الإشكال، ويقلل ثقته بالأدلة، وقد يسوقه ذلك إلى ترك الأدلة الشرعية عند الاستدلال على المطالب، والدخول في الأدلة العقلية، وربما هَوَتْ به الريح في حضيض الشك والحيرة، وذلك طريق إلى الفتنة والأهواء، نسأل الله العافية!
وذمَّ العلماء الإكثار في طَرْق الاحتمال واعتباره: قال ابن القيم: "وفتح باب التجويزات لا آخر له ولا ثقة معه البتة، وهذا الباب قد دخل معه على الإسلام مدخل عظيم وخطب جسيم، وأهل الباطل على اختلاف أصنافهم لا يزالون يتعلقون به ... ومن أعطى التأمل حقه وجد أن أكثر ما ادعاه أهل التأويلات المستشنعة وأهل الباطل من جهة إخراج الألفاظ عن حقائقها، وفتح أبواب الاحتمالات والتجويزات عليها"1. وقال الشاطبي: "إن مجرد الاحتمال إذا اعتبر أدَّى إلى انخرام العادات والثقة بها، وفتح باب السفسطة وجحد العلوم ... بل ما ذكره السوفسطائية في جحد العلوم منه يتبين لك أن منشأها2 تطريق الاحتمال في الحقائق العادية أو العقلية3، فما بالك بالأمور الوضعية؟! ... ولأجل اعتبار الاحتمال المجرد شُدِّد على أصحاب البقرة، إذ تعمَّقوا
في السؤال عما لم يكن إليه حاجة مع ظهور المعنى ... 1 بل هو أصل في الميل عن الصراط المستقيم، ألا ترى أن المتَّبعين لما تشابه من الكتاب إنما اتبعوا فيه مجرد الاحتمال، فاعتبروه وقالوا فيه وقطعوا على الغيب بغير دليل، فذُمُّوا بذلك، وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالحذر منهم ... 2 وإلى هذا فأنت ترى ما ينشأ بين الخصوم وأرباب المذاهب من تشعُّب الاستدلال وإيراد الإشكالات عليها بتطريق الاحتمالات، حتى لا تجد عندهم بسبب ذلك دليلا يعتمد، لا قرآنيا ولا سُنِّيًّا3، بل انجر هذا الأمر
إلى المسائل الاعتقادية فاطَّرحوا فيها الأدلة القرآنية والسنية لبناء كثير منها على أمور عادية ... واعتمدوا على مقدمات عقلية، غير بديهية ولا قريبة من البديهية، هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية، فدخلوا في أشد مما منه فروا"1اه. فالأدلة الشرعية ترجع في الأصل إلى الكتاب والسنة، وأوسع طرق الاستنباط منهما طريق الألفاظ التي وقع بها الخطاب، ونحو ذلك من الأمور العادية، وفهم مراد المتكلم من خطابه معتمد أولا على العادة والعرف، ولا يستحيل ورود احتمال مستند إلى التجويز العقلي ومجرد الإمكان على القواطع العادية والثوابت العرفية، فالاعتداد بالاحتمال في مثل هذه الحالة تعسف وإفراط لا يحمد2.
الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل
الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل المبحث الأول: أثر قطعية الدليل في الإصطلاح المطلب الأول: في الدليل والأمارة ... الفصل الثاني: أثر قطعية الدليل كان لقطعية الدليل أنواع من الآثار في مواضع كثيرة من أصول الفقه، فقد كانت القطعية والاعتداد بها في الأدلة سببا في تميز بعض الاصطلاحات الأصولية، كالتفريق بين الدليل والواجب، وبين الفرض والواجب، كما كان للقطعية آثار في بعض أحكام الاجتهاد في الأدلة والترجيح بينها وما يترتب على ذلك من الخطأ والصواب.
المبحث الأول: أثر القطعية في الأصطلاح المطلب الأول: في الدليل والأمارة - فرّق بعض العلماء في الاصطلاح بين الطرق الموصلة إلى الأحكام الشرعية، فما كان منها طريقا مفيدا للعلم القطعي خصوه بإطلاق اسم (الدليل) ، وما كان دون ذلك من الحجج الموصلة إلى الأحكام الشرعية أطلقوا عليه اسم (الأمارة) 1، ولم يصح عندهم إطلاق اسم (الدليل) على ذلك إلا على سبيل التجوّز، قال أبو الحسين البصري: "والدلالة ما النظر الصحيح فيه يفضي إلى العلم، والأمارة هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى غالب الظن"2، وقال في موضع آخر - بعد أن عرَّف الأمارة بنحو ما سبق -: "وبذلك تتميز [أي الأمارة] من الدلالة"3. - ولم يفرق آخرون بين اللفظين، بل الدليل عندهم شامل لما كان من تلك الطرق مفيدا للعلم القطعي وما لم يكن منها كذلك، فالدليل على هذا القول: ما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. والمطلوب الخبري أعم من أن يكون قطعيا أم ظنيا، أو يعرفون الدليل بأنه:
"المرشد إلى المطلوب" سواء أكان المطلوب علما قاطعا أم ظنا1. واختلف في ثلاثة أمور في المسألة: في نسبة هذين المذهبين إلى قائليها، وفي محل الخلاف أهو الطرق الشرعية أو هي والعقلية، وفي أثر الخلاف. نسبة الأقوال: - أما في النسبة فقد نسب القاضي أبو بكر الباقلاني القول بالتفريق إلى "الفقهاء والمتكلمين"2، وكذا في تلخيص التقريب ذُكر أنه مذهب "معظم المحققين"3، ومن ذلك أن جعل الغزالي تسمية (الأمارة الظنية) دليلا من المجاز4. - وأما أبو الحسين البصري فقال بعد تعريف الأمارة: "والمتكلمون يسمون كل ما هذه سبيله أمارة، والفقهاء يسمون الأمارة الشرعية، كالقياس وخبر الواحد أدلة"5، فجعل المسألة بين الفقهاء والمتكلمين،
ومثله أبو المظفر السمعاني1، فقد جعل التفريق مذهب أكثر المتكلمين وقلة من الفقهاء، وأما عامة الفقهاء فذكر أن مذهبهم عدم التفريق2. - وأما الآمدي وغيره فقد جعلوا التفريق مذهب الأصوليين3. - وخالف الزركشي فيما ذكره من نسبة ذلك إلى الأصوليين وقال: "بل المصنفون في أصول الفقه يطلقون الدليل على الأعم من ذلك، صرح به جماعة من أصحابنا، كالشيخ أبي حامد4، والقاضي أبي الطيب، والشيخ أبي إسحاق5، وابن الصباغ6، وحكاه عن أصحابنا،
وسُلَيم الرازي1، وأبي الوليد الباجي من المالكية، والقاضي أبي يعلى، وابن عقيل2، والزاغوني3 من الحنابلة"4. محل الخلاف: أما محل الخلاف فقد جعل أبو الحسين البصري ما تقدم من الخلاف في التفريق بين الدليل والأمارة قاصرا على الأدلة الشرعية، أما العقليات فذكر أن من لا يفرق في الشرعيات يفرق في العقليات فلا يسمي الأمارة العقلية دليلا، كالأمارة على القبلة وقيم المتلفات5، وعلى هذا تكون تسمية الظني
العقلي أمارة ليست من محل الخلاف. ويخالف ما ذكره تمثيل بعض العلماء لـ (الدليل الظني) بالغيم الرطب الموصل بصحيح النظر في حاله إلى ظن وقوع المطر،1 فالظاهر أن ذلك ليس أمارة شرعية. ومن ذلك قول الغزالي: "إن الدلالة قد يُعبَّر بها عن الأمارة التي توجب ولا تؤثر، فالغيم الرَّكَم دليل على المطر ... والكوكب دليل على القبلة ... "2. أثر الخلاف: - أما أثر الخلاف فقد جعل بعض العلماء الخلاف المتقدم في التفريق بين القطعي وغيره راجعا إلى خلاف في اللفظ، دون أن يكون وراء ذلك خلاف في المعني. قال أبو الحسين البصري مشيرا إلى الخلاف المتقدم: "والكلام في ذلك كلام في عبارة، لا طائل تحت الإكثار منه"3.
وذكر في تلخيص التقريب أن المفرقين إنما اصطلحوا على ذلك للتفريق بين الجنسين ثم قال: "وهذا اختلاف هَيِّن المدرك"1. وقريب مما سبق ما ذكره الخطيب البغدادي2 فقال بعد أن ذكر الخلاف في التسمية بين العلماء: "قلت: وما غلط الفقهاء ولا المتكلمون! أما المتكلمون فقد حكوا الحقيقة في الدليل والحجة، وأما الفقهاء فسَموا ما كُلِّفوا المصير إليه بأخبار الآحاد وبالقياس وغيره مما لا يكسب علما وإنما يفضي إلى غلبة الظن من طريق النظر، فسَمَّوه حجة ودليلا للانقياد بحكم الشرع إلى موجبه، وقد قيل: إنما سَمَّوْا ما أفضى إلى غلبة الظن دليلا وحجة في أعيان المسائل لأنه في الجملة معلوم أعني أخبار الآحاد والقياس، وإنما يتعلق بغلبة الظن أعيان المسائل، فأما الأصل فإنه متيقن مقطوع به". وعزز ذلك بأنه ربما يسمى ما ليس بحجة في الحقيقة حجة كما قال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُون لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمَ} 3 إشارة إلى قول اليهود حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس: لو لم يعلم محمد أن
ديننا حق ما صلى إلى قبلتنا، مع أن قولهم هذا ليس حجة في الحقيقة1. - وقيل إن تفريق المتكلمين بين الدليل والأمارة وتخصيص الدليل بالقطعي مبني على ما ذهبوا إليه من أن الأدلة الظنية لا تحصِّل صفات تقتضي الظن بأنفسها كما تقتضي الأدلة القطعية العلم واليقين بأنفسها، وإنما يأتي الظن من الأمارة الظنية عادة اتفاقا2. ويدل على ذلك ما يلي: 1- قال في تلخيص التقريب عند تقسيم الأدلة: "وكذلك السمعي ينقسم إلى ما يفضي إلى القطع وهو يتضمن العلم، وإلى ما لا يقتضيه كأخبار الآحاد والمقاييس السمعية، فكما لا يوصف باقتضاء العلم لا يوصف باقتضاء غلبة الظن، هذا مما يَزِلّ فيه معظم الفقهاء ... ووجه التحقيق في ذلك بدا فيما قدمناه من عدم إفضاء الشبهة إلى الجهل ... ولكن تعم العادة بحصول غلبة الظن في أثرها من غير أن تكون مقتضية لها"3. 2- وقال الجويني: "أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملا لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العلم بالعمل وهي الأدلة القاطعة
على وجوب العمل عند رؤية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة"1. 3- وقال الغزالي: "إن تسمية الأمارات أدلة مجاز، فإن الأمارة لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة"2. وقال العضد: "الدليل ما يرتبط به ثبوت مدلوله ارتباطا عقليا، والأمارة ما يحصل به الظن ولا يرتبط [به] ارتباطا عقليا"3. وعلى هذا فلا تعدو الأدلة الظنية - كخبر الواحد والقياس الشرعي -عن أن تكون علامات مجردة أنيط تعَيُّن الحكم بظهورها، من غير أن يكون لها تأثير في تعين ذلك الحكم. ويكون الخلاف على هذا ذا معنى، لأن الأمارة إذا كانت لا تفيد الظن والرجحان لذاتها بل بما اتفق من العادة، وكانت الأمارة الشرعية عندهم هي أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر والعمومات، كانت أكثر الأدلة الشرعية غير مفضية إلى مدلولاتها إلا على سبيل الاتفاق العادي. وبين شيخ الإسلام ابن تيمية مأخذ العلم من ذلك بأن العمل بالراجح الحاصل من الأدلة غير القطعية عمل بعلم ويقين، لأن الرجحان أمر معلوم عند المجتهد المستدل، وهو اعتقاد الرجحان الذي هو اتباع الأحسن كما
قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وأُولَئِكَ هُمُ أُولُوا الأَلْبَابِ} 1 وقال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَّبكُمْ} 2، فالأدلة غير القطعية يُعلم منها الرجحان، وهو كاف في وجوب العمل، فهي مفضية إلى العلم من ذلك الوجه3. الترجيح: الخلاف في التفريق بين الدليل القطعي وغير القطعي في التسمية - بالنظر إلى ترتب الآثار عليه - لا يخلو من أحد احتمالين: أولهما: أن يكون الخلاف لفظيا راجعا إلى الاختلاف في الاصطلاح بين العلماء، وثانيهما: أن يكون خلافا مبنيا على معنى، يختلف فيه العلماء. الاحتمال الأول: أن يكون الخلاف في الاصطلاح، فالأمر هين وقريب، إذ إن مذهب جمهور العلماء - كما سبق - أن الأدلة الشرعية منها القطعي ومنها أدلة ظاهرة راجحة4، والتفريق في التسمية بين قسمي الأدلة بعد ذلك أمر لا يبعد، لأنه تفريق بين أمرين متفق عليهما عند الجمهور. إلا أن الاصطلاح بالتفريق يتوجه عليه أمران:
الأمر الأول: أن تخصيص كلٍ من قسمي الأدلة الشرعية (القطعي والظني) بما خصوه به من الاسم لا يستند إلى ما يبرره شرعا أو لغة، إذ لم يذكر المفرقون أن الاستعمال الشرعي يفرق بين اللفظين بما ذكروا، ولا أن في اللسان العربي ما يبرر ذلك التخصيص، فلم يذكر من رجعت إلى كتبهم من أهل اللغة أن في الاستعمال العربي تقييدا للدليل بالقطعي دون الأمارة، بل عرّف بعضهم الدليل بقوله: "الدال واللام أصلان، أحدهما إبانة الشيء بأمارة تتعلمها ... والدليل: الأمارة في الشيء"1، فليس الدليل على مثل هذا التعريف غير الأمارة لغة. هذا، وقد اعترف بذلك المصطلحون على التفريق. قال القاضي أبو بكر الباقلاني عن التفريق بين اللفظين بما ذكر: "وليس من موجب اللغة، لأن أهلها لا يفرقون بين الأمارة والدلالة والسمة والعلامة"2، وفي تلخيص التقريب: "إن العرب لا تفصِل في هذا المقصد بين الأمارة والدلالة، ولو قلب قالب ما قدمناه في الترتيب فسمى الدلالة المفضية إلى العلم أمارة وما يفضي إلى غلبة الظن3 دلالة لم
يكن مبعِدا"1. فيكون في هذا الاصطلاح مثل الذي أخذوا على الحنفية في التفريق بين الفرض والواجب، فذكروا أنه ليس في الشرع واللسان العربي ما يبرر ذلك التفريق2. الأمر الثاني: أن الذين ذكروا التفريق في التسمية وأيدوه لم يطرد التزامهم بذلك الاصطلاح دائما، فإن المتتبع لكتب بعض المفرقين يقف على مواضع كثيرة أطلقوا فيها الدليل على غير القطعي، تصريحا أو تلميحا. قال الرازي عند الاستدلال في مسألة (هل لله في كل واقعة حكم) بأنه لو كان في الواقعة حكم لكان إما أن يكون عليه دليل أم لا: "وأعني بالدليل القدر المشترك بين ما يفيد الظن وبين ما يفيد اليقين"3، وأطلق (الدليل) على غير القطعي في مواضع أخرى من المحصول4. وعرف الآمدي التأويل بأنه حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع
احتماله له لدليل يعضده، ثم قال عند شرح التعريف: "وقولنا (بدليل) يعم القاطع والظني"1، بل عرف الدليل في موضع آخر من كتابه الإحكام بقوله: "إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا أو ظاهرا"2. وقد يظهر من بعض العلماء عكس ذلك، فيصرح بعدم التفريق في موضع، ثم يقع منه التفريق في موضع آخر، كالقاضي أبي يعلى الفراء 3، وتلميذه أبي الخطاب45. ومما يمنع اطراد هذا الاصطلاح أن الدليل القطعي قد لا يكون مطردا
ولازما عند جميع من نظر فيه من المستدلين، بسبب أنه يحتاج للقطع به إلى قرائن ربما خفيت على بعضهم1، فيكون الدليل قطعيا عند زيد من الناظرين غير قطعي عند عمرو منهم، وعليه يقال إنه دليل بالنسبة لزيد مثلا، وأمارة بالنسبة لعمرو. أما الاحتمال الثاني - وهو أن الخلاف في التفريق راجع إلى ما ذكر من أن الأدلة الظنية عند المفرقين لا تفيد لذواتها ظنا ولا رجحانا - فقد سبق ما فيه، وأنه غير مسلم2. واعتذر بعض المعاصرين للمفرقين من المتكلمين، بأنهم فرقوا لأن معظم مسائل أصول الدين لا تثبت إلا بأدلة قطعية، فحدوا الدليل إذاً بما هو الغالب عندهم في مسائلهم3. وعلى هذا يكون منشأ التفريق في غير أصول الفقه بل من آثار علم الكلام فيه، فإن المتكلمين لا يقبلون الدليل غير القطعي فيما هو عندهم من أصول الدين، فناسب عندهم أن يفرقوا في التسمية بين ما هو حجة عندهم في علم الكلام وما ليس بحجة، أما الفقه - الذي أدلته الإجمالية موضوع علم أصول الفقه - فكل دليل شرعي صحيح حجة في إثبات أحكامه، فلا
يحتاج فيه إلى التفريق بين القطعي وغيره كحاجة المتكلمين إلى ذلك1. تفريق آخر بين الدليل والأمارة: وقد فُرِّق بين الدليل والأمارة بغير القطعية، فقال ابن حزم: "والدليل قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى وعبارةً يتبين بها المراد ... والأمارة علامة بين المصطلحين على شيءٍ ما، إذا وجدت عَلِم الواجد لها ما وافقه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه يستذكر بها ما يخاف نسيانه"2. كما فُرِّق بينهما بأن (الأمارة) خاص بالمعاني و (الدليل) يسمى به المعاني والألفاظ3. تخصيص السرخسي (الآية) بالدليل القطعي: وخص السرخسي لفظ (الآية) بما يوجب العلم القطعي من الحجج عند الإطلاق، قال: "ولهذا سميت معجزات الرسل آيات قال تعالى: {وَلَقَدْ
ءَاتَينَا مُوسَى تِسْعَءَايَاتٍ} 1 وقال: {فَاذْهبَا بآيَاتِنَا} 2"3. أما الدليل والحجة والبينة، فتطلق عنده على القطعي وغيره4. فيكون (الدليل) عند من سبق من المفرقين مثل (الآية) فيما ذكره السرخسي. ويرد على ما ذكره من الإطلاق أن الآية العامة من القرآن الكريم التي خصت بدليل موجب لذلك لا يكون قطعي الدلالة عندهم. إلا أن يكون مراده مما ذكر قطعية الثبوت فقط، أو ما هو أعم من الآية المفردة5، مع أن الكلام على الآية المفردة دون عموم القرآن هو ألصق ببحث أصول الفقه. والله تعالى أعلم.
المطلب الثاني: في الفرض والواجب
المطلب الثاني: في الفرض والواجب أصل الفرض في اللغة يدل على التأثير في شيء من حز أو قطع1، وأصل الوجوب السقوط والوقوع، ويأتي بمعنى الخَفَقان والاضطراب2. غير أن بعض أهل اللغة عرفوا الفرض بالواجب: فقال الجوهري3: "الفرض ما أوجبه الله تعالى، سمي بذلك لأن له معالم وحدودا، وقوله تعالى: {قَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضاً} 4 أي مقتطعا ومحدودا ... "5. وقال أحمد ابن فارس6: " ... ومن الباب اشتقاق الفرض الذي
أوجبه الله تعالى"1. وقال ابن منظور2: "فرضت الشيء أفرضه فرضا وفرّضته للتكثير: أوجبته"3. الخلاف في المسألة: - الفرض والواجب في اصطلاح الحنفية مختلفان غير مترادفين، واتخذوا القطعية أساسا للتفريق بينهما، فإنهم لاحظوا التفاوت بين الأدلة المثبتة للأحكام الشرعية في القوة، فخصوا الفرض بما كان من الأحكام ثابتا بدليل قطعي لا شبهة فيه، والواجب بما ثبت من الأحكام بما دون القطعي من الأدلة. قال الشاشي4: "الفرض لغة هو التقدير ... وفي الشرع ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، والوجوب هو السقوط يعني ما سقط على العبد بلا اختيار منه، وقيل: من الوجبة وهي الاضطراب، سمي الواجب بذلك
لكونه مضطربا بين الفرض والنفل، فصار فرضا في حق العمل حتى لا يجوز تركه، ونفلا في حق الاعتقاد فلا يلزمنا الاعتقاد جزما، وفي الشرع: ما ثبت بدليل فيه شبهة، كالآية المؤولة والصحيح من الآحاد"1. وقال السرخسي: "والفرض: اسم لمقدر شرعا لا يحتمل الزيادة والنقصان، وهو مقطوع به لكونه ثابتا بدليل موجب للعلم قطعا من الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع ... فأما الواجب فهو: ما يكون لازم الأداء شرعا ولازم الترك فيما يرجع إلى الحل والحرمة ... من غير أن يكون دليله موجبا للعلم قطعا"2. فأساس هذا الاصطلاح هو النظر إلى الدليل المثبت للحكم، والتفريق بين القطعي منه والظني بتخصيص ما يثبته كلٌ منهما باسم خاص. والتفريق بين الفرض والواجب على ما سبق هو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد3.
واستدل المفرقون بين اللفظين بأمور منها: أولا: أن الفرض في الأصل التقدير والقطع، ومنه قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَافَرَضْتُّم} 1 أي قدرتم، وقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} 2 أي قطعنا الأحكام فيها قطعا، والوجوب السقوط، قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 3، فكان كل من الفرض والواجب فيه معنى اللزوم ولكن تأثير الفرض أكثر، لأنه يسمى به ما بقي له أثر على كل حال، والسقوط على الأرض وجوب وقد لا يبقى له أثر على الأرض، فكان في الفرض ما ليس في الوجوب من القوة ولذلك أثّر، فلذلك اختص بـ (الفرض) ما ثبت من الأحكام بالدليل القطعي لمزيد قوة فيهما، واختص بـ (بالواجب) ما ثبت بدليل غير قطعي لنزولهما عن درجة التأثير القطعي، كما أن الواجب يأتي بمعنى الوجبة وهي الاضطراب فاختص به ما ثبت بدليل غير قطعي لنوع شبهة فيه حتى كان فيه اضطراب4. ثانيا: أن التسوية بين ما ثبت بدليل قطعي وبين ما ثبت بغيره حَطٌّ
للقطعي من رتبته ورفع لغير القطعي عن رتبته، والتفريق بين الموضعين مراعاة لكل دليل في رتبته فكان أولى1، قال السرخسي: "إن فرضية القراءة في الصلاة ثابتة بالنص بدليل مقطوع به وهو قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} 2 وتعيين الفاتحة ثابت بخبر الواحد3، فمن جعل ذلك فرضا كان زائدا على النص ومن قال: يجب العمل به من غير أن يكون فرضا كان مقررا للثابت بالنص على حاله وعاملا بالدليل الآخر بحسب موجبه"4. ومثلوا للفرض أيضا بالإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج، وغيرها من العبادات التي هي أركان الدين، ومثلوا للواجب بقراءة الفاتحة في الصلاة كما سبق، والطهارة في الطواف والسعي5. ثالثا: أن الواقع في الشرع كون بعض الواجبات آكد من بعض،
فصلاة الظهر آكد من صلاة النذر وإن كانتا واجبتين، فوجب أن يفرق بينهما في التعبير عن هذا الواقع بكون الفرض لما هو في أعلى منازل الوجوب والواجب بما دون ذلك1. - وذهب الجمهور إلى عدم التفريق بين الفرض والواجب، ولم ينظروا في التسمية إلى الفرق بين الأدلة القطعية والظنية المثبتة للأحكام الشرعية2. ونقضوا ما ذكره الحنفية من الاصطلاح بأمور منها: أولا: أن التفريق في التسمية، وتخصيص كل من الموضعين باسمٍ أمرٌ لا يستند إلى لغة ولا شرع ولا عقل. أما اللغة فلأن علماءها عرفوا الفرض بالوجوب، كما سبق عن الجوهري وغيره3، بل قد يكون الوجوب وهو السقوط أقربَ إلى التحقيق في أصل الاشتقاق من الفرض الذي هو التقدير والقطع4، ولأن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقا سواء أكان تقديرا مقطوعا به أم غير مقطوع به والوجوب هو السقوط أعمّ من أن يكون سقوطا مقطوعا به أو غير مقطوع به5.
أما الشرع فلأنه لم يرد في لسان الشرع ما يبين هذا التفريق بين الموضعين في التسمية، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} 1 أي أوجبه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه "2، كما يطلق العلماء اسم (الفرض) على ما أُدِّي من الصلاة المختلف في صحتها بينهم بقولهم: "أدِّ فرض الله تعالى"والأصل في الإطلاق الحقيقة3،4. أما العقل فلأنه ليس فيه ما يقتضي هذا التفريق، فإن اختلاف طرق إثبات الحكم - حتى يكون هذا الطريق معلوما قطعا وذاك الطريق دون ذلك - لا يوجب اختلافا في الأحكام الثابتة بها في الحقيقة، فاختلاف طرق الواجبات في الظهور والخفاء والقوة والضعف - حتى يقتل المكلف بترك بعضها دون بعض - لا يوجب اختلاف الواجب في حقيقته من حيث هو
واجب، كما أن اختلاف طرق النوافل والحرام بالقطع والظن غير موجب لاختلافها في نفسها من حيث هي نافلة وحرام1. فإذا كان هذا الاصطلاح في التفريق بين الفرض والواجب لا يستند إلى اللغة ولا الشرع ولا العقل فهو تحكم محض لا أساس له. ثانيا: أن اصطلاحهم منقوض عليهم بأنهم أطلقوا اسم (الفرض) على أحكام ثبتت بأدلة غير قطعية، من ذلك إطلاقهم الفرض على الوضوء اللازم على من افتصد، وعلى الصلاة الواجبة على من بلغ في الوقت بعد أدائه إياها، وإطلاق الفرض على العُشر الواجب في غير الأقوات وفيما دون خمسة أَوْسُق، وإطلاقه على القِعْدة في الصلاة، وعلى مسح رُبع الرأس2. ثالثا: أنه يلزم على ما ذكروه أن تسمى النوافل الثابتة بطريق مقطوع به فروضا لكن ذلك غير جائز فبطل ما ذكروا3. رابعا: أنه لا مناسبة بين كل من (الفرض) و (الواجب) وبين ما خصوه به من الأحكام، ولو عُكس ما ذهبوا إليه فسُمي ما ثبت بقطعي واجبا وما ثبت بظني فرضا لم يكن ممتنعا ولا بعيدا، وذلك خلل ظاهر في الاصطلاح4.
وأجاب المفرقون عن هذه الأمور: أما الأول - وهو أن الاصطلاح تحكم لا أساس له لغة ولا شرعا ولا عقلا - فدفعوه بأن بينوا أساس التفريق عندهم فلا يكون تحكما، قال عبد العزيز البخاري1: "إنا نخص الفرض بقسم باعتبار معنى القطع ونخص الواجب بقسم باعتبار معنى السقوط ... ولا يوجد معنى القطع في الواجب ولا معنى السقوط ... في الفرض فأنى يلزم التحكم وسائر الأسماء الشرعية والعرفية بهذه المثابة"2. فالتفاوت المتحقق بين الأدلة الشرعية حتى يكون منها القطعي والظني مطرد في الأحكام الثابتة بتلك الأدلة حتى يكون فيها الفرض والواجب3، بل إن بعضهم التزم التفريق في التحريم أيضا، فما ثبت بدليل قطعي منه فهو الحرام وما ثبت بما دون القطعي فهو المكروه كراهة تحريم4.
أما عدم التفريق بين اللفظين في لسان الشارع فلأن الأدلة إنما تنقسم إلى قطعي وظني في حق غيره، فكان التفريق غير وارد في حقه لاستواء الأدلة بالنسبة إليه1. أما الثاني - وهو أن اصطلاحهم منقوض بأحكام سموها فرضا مع عدم ثبوتها بالقطعي - فدفعه بعض الحنفية بأن الفرض على نوعين: فرض قطعي وفرض عملي ظني وهو في قوة القطعي في العمل بحيث يفوت الجواز بفواته، ومن الفرض العملي الظني المقدارُ في مسح الرأس والوتر2، قال الشيخ ابن عابدين3: "إن المجتهد قد يقوى عنده الدليل الظني حتى يصير قريبا من القطعي4، فما ثبت به يسميه فرضا عمليا، لأنه يعامل معاملة الفرض في
وجوب العمل، ويسمَّى واجبا نظرا إلى ظنية دليله، فهو أقوى نوعي الواجب وأضعف نوعي الفرض"1، أو أن ذلك محمول على أن ما بيَّن من الأدلة غير القطعية دليلا قطعيا مجملا فالحكم الثابت بالقطعي وبيانه الغير القطعي حكم قطعي، ومنه المقدار في مسح الرأس2. وحاصل هذا الجواب أن جميع ما سماه الحنفية فرضا مما لم يثبت بالدليل القطعي: فإما أنه في مرتبة وسط بين الفرض المطلق والواجب المطلق، وإما أنه محمول على القطعي تبعاً، وذكر الزركشي أن إطلاق الفقهاء لفظ (الفرض) في مثل هذا قد يكون من باب المشاكلة3. أما الثالث - وهو إلزامهم تسميةَ النافلة فرضا - فهو مدفوع بأن كلا الموضعين في التقسيم مشترك أولاً في أنه مما يلزم ويتحتم ولا يجوز تركه في العمل، فلا يدخل في ذلك النوافل ابتداء، حتى التي تثبت بالقواطع لأنها ليست لازمة في العمل، فالفرض هو ما ثبت بدليل قطعي مما يلزم فعله ولا
يجوز تركه، والواجب ما ثبت بظني مما يلزم فعله ولا يجوز تركه، وليست التسمية في مطلق الأحكام فيدخل فيها النافلة1. أما الرابع - وهو أنه لو عكس اصطلاحهم لم يبعد - فهو قريب من الاعتراض الأول، وقد أجيب عن ذلك ببيان وجه ذلك في اللغة والشرع والعقل2، ومن عكس ما فعلوه فهو مطالب ببيان وجه ما عكس. مسألة: هل للخلاف أثر: اختلف أهل العلم في أن هذا الخلاف المتقدم له أثر في الأحكام أم أنه خلاف لفظي: - فذهب بعضهم إلى أن الخلاف نزاع لفظي. قال الغزالي: "وأصحاب أبى حنيفة3 - رحمه الله - اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا، ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، ولا حجر في
الاصطلاحات بعد فهم المعاني"1. ومما يؤيد كون النزاع لفظيا أن كثيرا من المفرقين وغير المفرقين قد بنوا أحكام الفروع على التفريق، فإن الفقهاء يذكرون أن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات وفرقوا بين الموضعين بجعل الفرض أقوى من الواجب2، وقال الزركشي مشيرا إلى ذلك: "وهذا ليس في الحقيقة فرقا يرجع إلى معنى تختلف الذوات بحسبه وإنما هي أوضاع نسبت للبيان"3. - وذكر بعض العلماء آثارا للخلاف:
يفرق بالتسمية، لأن التكفير وعدمه من أجل الدليل المثبت للحكم ووصوله للجاحد وإقامة الحجة عليه وغير ذلك، وليس مبنيا على مجرد التسمية. 2- ومنها: أن جميع الأحكام عند من لم يفرق قطعية، وليس الأمر كذلك عند من فرق1. وهذا فيه نظر لأن القطعية في الأحكام تابعة للقطعية في الأدلة، وقد تقدم أن مذهب الجماهير من المذاهب الأربعة أن الأدلة الشرعية فيها أدلة قطعية وأدلة غير قطعية، فإذا ثبت الحكم بدليل غير قطعي لم يكن قطعيا سواء أفُرِّق بين الفرض والواجب أم لا. والله أعلم. 3- ومنها: أنه على مذهب التفريق يجوز أن يكون بعض الواجبات آكد من بعض، وليس كذلك على مذهب الجمهور2. ويرد على هذا ما ذكره بعض العلماء من أن بعض الواجبات آكد من بعض سواء أقيل بالتفريق في التسمية أم لا3، وذكر الغزالي أن غير المفرقين لا ينكرون أن بعض الواجبات ثابتة بدليل قطعي وبعضها بدليل غير قطعي4، وعلى ذلك فما ثبت بدليل قطعي من الواجبات كان آكد من
جهة ثبوته مما لم يثبت بدليل غير قطعي. 4- ومما ذكر من الآثار المترتبة على الخلاف السابق أن من فرّق بين الموضعين لا يكون عنده تَرْك قراءة الفاتحة في الصلاة مفسدا لها، ومن لم يفرق من الجمهور كان تركها فيها مفسدا للصلاة عندهم. ورُدَّ بأن الخلاف في فساد الصلاة بترك قراءة الفاتحة لا يضر في كون الخلاف لفظيا، لأن ذلك أثر فقهي لا مدخل له في الخلاف في التسمية، فظنية الدليل عند الحنفية تسبب عنها أمران: التسميةُ بالواجب وعدمُ فساد الصلاة بترك ما أثبته، ولا يلزم إذا تسبب عن الخلاف أمران أن يكون أحدهما سببا للآخر1. ويؤيد ذلك أمور: منها أن ما سبق من الخلاف في قراءة الفاتحة مبني على مسألة (الزيادة على النص وهل هي نسخ أم لا) وليس مبنيا على مجرد الخلاف في التسمية2، ومنها أن الحنفية قد يطلقون الواجب كما يطلقه
الجمهور على الحكم الجازم مطلقا سواء أثبت بدليل قطعي أم لا1، وقد أطلق علاء الدين السمرقندي2 من الحنفية على الفرض اسم "الواجب القطعي" وسمى الموضع الآخر "الواجب مع الاحتمال"3. ويرد على هذا الاصطلاح ما ورد على اصطلاح التفريق بين الدليل والأمارة، فإن الدليل قد لا يكون مطردا في القطعية عند جميع العلماء، وعلى ذلك يكون الحكم فرضا عند من ثبت عنده بدليل قطعي واجبا عند من ثبت عنده بدليل غير قطعي، وذلك يمنع اطراد الاصطلاح4. والله أعلم.
تفريق آخر بين الفرض والواجب: وفرق بعض العلماء بين الفرض والواجب بفرق آخر غير ما سبق، وذلك بأن الفرض ما ثبت بالقرآن والواجب ما ثبت بالسنة، وهو رواية عن الإمام أحمد قال عنها في المسودة: "وهذه هي ظاهر كلام أحمد في أكثر نصوصه"1.
والفرق بين هذا وبين ما سبق أن ما يظهر هنا أن النظر إلى وجود الحكم في القرآن أو في السنة مطلقا، أما ما سبق فالنظر إلى القطعية فما أثبته الدليل القطعي فهو فرض سواء أكان ذلك الدليل القطعي من القرآن أو من السنة المتواترة، وكذا الواجب هو الثابت بالظني مطلقا. قال الزركشي ردا على هذا التفريق: "وألزمهم القاضي أن لا يكون شيء مما ثبت وجوبه بالسنة - مثل كيفية الصلاة ودية الأصابع والعاقلة - فرضا، وأن يكون الإشهاد عند التبايع ونحوه من المندوبات الثابتة بالقرآن فرضا"1. ويمكن توجيه هذا الاصطلاح بأن يكون المراد بالفرض فيه الواجبات الثابتة بالقرآن والواجب خاصا بالواجبات الثابتة بالسنة، أو يكون المراد بالفرض فيه كل ما ثبت بالقرآن سواء أكان واجبا أم نفلا والواجب ما ثبت بالسنة من الواجبات والمندوبات، ولا يكون الفرض والواجب على هذا الاصطلاح متفرعا على الطلب الجازم الذي لا يجوز تركه2، والأمر في الاصطلاحات واسع، والله أعلم.
ابن عبد البر يفرق بين الفرض والواجب في العبارة: وقال الحافظ ابن عبد البر1: "وأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل ... ولا أقول إن حفظه كله فرض، ولكن أقول إن ذلك واجب لازم على من أَحَبَّ أن يكون عالما، وليس من باب الفرض"2. فكأنه تحاشى - رحمه الله - أن يسمي ذلك فرضا فاكتفى بأنه واجب، وذلك تفريق لطيف مبني على أن الفرض أقوى من الواجب وأثقل في العبارة منه. أثر آخر لقطعية الدليل في الاصطلاح: ومن آثار قطعية الدليل في الاصطلاحات غير ما سبق من الدليل والأمارة والفرض والواجب: تفريق بعض العلماء بين مصطلحي المفسر والمؤول بأن المفسَّر ما تبين المراد منه بدليل قطعي، والمؤول ما تبين المراد منه بدليل غير قطعي3.
فعلى هذا الاصطلاح يكون معنى التفسير تبيين المراد من الكلام على سبيل القطع، ومعنى التأويل تبيين المراد منه على سبيل دون القطع من الظن الراجح1.
المبحث الثاني: أثر القطعية في الاجتهاد والتخطئة
المبحث الثاني: أثر القطعية في الاجتهاد والتخطئة تعريف الاجتهاد والتخطئة: الاجتهاد لغة: افتعال من الجُهد وهو الطاقة والجَهدُ بالفتح المشقة والاجتهاد: بذل الوسع والطاقة1. أما في الاصطلاح فهو: "بذل الفقيه وسعه بالنظر في الأدلة لأجل أن يحصل له الظن أو القطع بأن حكم الله في المسألة كذا"2. فهو عند الإطلاق يراد به الاجتهاد في الأحكام الفقهية3. والتخطئة: تَفْعِلة من الخطأ وهو ضد الصواب، يقال: (خطَّأه تخطئة وتخطيئا) إذا قال له: أخطأت ونسبه إلى الخطأ4.
قطعية الدليل مانعة من الاجتهاد وموجبة لخطأ مخالف الدليل القطعي، لأن معنى كونه قطعيا اليقين والجزم بنسبته إلى الله تعالى أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تجوز مخالفة أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن يتبين بيقين، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُون لَهُمُ الخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِمْ} 1، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فتْنةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. ولذا كانت الأحكام الشرعية الثابتة بقواطع الأدلة غير قابلة للاجتهاد المؤدي إلى مخالفتها، ومن فعل ذلك فهو مخطئ في اجتهاده قطعا، فكل مسألة فيها دليل قطعي مسألةٌ قطعية، والحق فيها متعين فيما أفاده الدليل القطعي، ومخالفه مخطئ سواء أقَصّر في طلب الدليل أم لم يقصر3. وما يظهر من نقل بعض العلماء الخلاف في تخطئة مخالف الدليل القطعي إذا لم يقصر وأن ذلك داخل في مسألة التصويب والتخطئة4 -
ليس كما يظهر، بل الصحيح أنه لا خلاف في تخطئة مخالف الدليل القطعي بمعنى أن ما أفاده الدليل القطعي هو الصواب والحق، وأنما الخلاف في تأثيم المخطئ في المسألة التي فيها دليل قطعي إذا لم يقصر في طلب الدليل، بكونه أدى ما عليه من الاجتهاد1، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الأحكام الشرعية التي نصبت عليها أدلة قطعية معلومة - مثل الكتاب والسنة المتواترة والإجماع الظاهر كوجوب الصلاة والزكاة والصيام وتحريم الزنا والخمر والربا - إذا بلغت هذه الأدلة المكلف بلاغا يمكنه من اتباعها فخالفه تفريطا في جنب الله وتعديا لحدوده فلا ريب أنه مخطئ آثم وأن هذا الفعل سبب لعقوبة الله في الدنيا والآخرة، فإن الله أقام حجته بالرسل الذين بعثهم {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُون لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2 ... "3. الاجتهاد والقطعية النسبية: خالف أبو الحسين البصري في تعريف المسألة الاجتهادية بأنها التي ليس فيها دلالة قاطعة، واختار أن المسألة الاجتهادية هي كل مسألة خلافية، فقال: "إن مسائل الاجتهاد التي لا لوم على المخطئ فيها هي ما اختلف فيها أهل الاجتهاد من الأحكام الشرعية"4، فأدخل في
الاجتهاديات المسائل الخلافية مطلقا سواء أكان فيها دليل قاطع أم لم يكن فيها دليل قاطع، وهو يثبت مع ذلك جواز الخطأ، أي أن الذي يرتفع عنده عن المجتهد في المسائل الخلافية هو اللوم دون جواز الخطأ. ومن نوع ما ذكره أبو الحسين البصري عدم تسليم شيخ الإسلام ابن تيمية تعريف المسألة الاجتهادية بأنها المسألة التي ليس فيها دليل قاطع، وقال إشارة إلى تعريف الاجتهاد بذلك: "تضمن هذا أن ما يعلم بالاجتهاد لا يكون قطعيا قط، وليس الأمر كذلك فرب دليل خفي قطعي"1، وفي كلامه أمر آخر: وهو أن كون قطعية الدليل مانعة من الاجتهاد وموجبة للتخطئة لا يعني الاجتهاد وبذل الوسع في الوصول إلى الدليل القطعي، فإن القطعية ربما كانت مستندة إلى قرائن يستدعي تحصيلها استقراءً وبذلَ جهد في الوقوف عليها2. والتحقيق أن معنى كون القطعية مانعا للاجتهاد أن الدليل القطعي إذا أثبت حكما معينا في مسألة لم يجز الاجتهاد في طلب حكم آخر فيها، فالقطعية إنما تمنع الاجتهاد بعد تحققها، أما الاجتهاد للوصول إلى الدليل القطعي الخفي فهو اجتهاد قبل تحقق القطعية عند الناظر المستدل فلا يكون ممنوعا.
ولعل هذا هو مراد من عرّف المسائل الجائز فيها الاجتهاد بما ليس فيه دليل قطعي، أي دليل تحققت عند الناظر قطعيته، وإلا فكيف تمنع القطعية وهي لم تثبت بعدُ!. والله تعالى أعلم. فخلاصة ما سبق أن من جوّز الاجتهاد فيما فيه قاطع فمراده القطعية المقيدة، أي يجوز الاجتهاد في مسألة فيها دليل قطعي لمن لم تتحقق عنده القطعية، ومن أطلق القول بمنع الاجتهاد للقطعية فمراده القطعية المطلقة أو المقيدة بالنسبة لمن تحققت عنده القطعية، أما القطعية من حيث هي فلا يلحقها الاجتهاد عند ناظر واحد. والله تعالى أعلم ومن هذا الباب أنه يشترط لصحة القياس شرعا ألا يوجد نص في المسألة، فإذا وجد لم يجز القياس، ويكون إذا خالفه خطأ قطعا1، والقياس من أنواع الاجتهاد، بل "هما اسمان لمعنى واحد"2 كما ذكره الإمام الشافعي رحمه الله. الجهتان في منع القطعية للاجتهاد وفي التخطئة: إذا كان الدليل قطعيا من جهة الثبوت والدلالة فمنعه الاجتهاد منع
مطلق، أما إذا كان الدليل قطعيا من جهة دون أخرى فمنع القطعية للاجتهاد يكون في الجهة التي الدليل مقطوع به فيها دون الأخرى. ومثال ذلك كما سبق: أن يكون الدليل من القرآن فيكون قطعيا من جهة الثبوت ولا يكون قطعيا من جهة الدلالة، فيجوز الاجتهاد فيه من جهة الدلالة، ومنه قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثةَ قُرُوءٍ} 1، فقد اجتهد العلماء - رحمهم الله تعالى - في هذه الآية من جهة دلالتها على ما فيه يكون التربص أفي الأطهار أم في الحيض، إذ كانت الآية وحدها غير قطعية الدلالة على شيء من ذلك، وهي قطعية الثبوت اتفاقا2. وكذلك التخطئة، فإن الذي يخطئ في مسألة التربص أيكون بالحيض أو بالأطهار لا يوصف بأنه أخطأ في الآية من جهة الثبوت بل من جهة الدلالة. والله تعالى أعلم. نوعا القطعية في منع الاجتهاد وفي التخطئة: إذا كان الدليل قطعيا مطلقا فمنع القطعية الاجتهاد فيه يكون لجميع الناظرين المستدلين، أما إذا كان الدليل من القواطع المقيدة - أي التي يمكن ألا يطلع عليها بعض الناظرين في الدليل3- فمنع القطعية للاجتهاد في مثل
ذلك يكون في حق من تحققت قطعية الدليل عنده، بل إن المطلوب من الذي لا يقطع الاجتهادُ وبذل الوسع في النظر في الدليل ليقف على مسببات القطعية وقرائنها فيصير الدليل قطعيا عنده1. أما التخطئة فالظاهر أن من ثبتت عنده قطعية الدليل كان كل من خالفه مخطئا عنده، لأنه على يقين بالصواب بالدليل القطعي، فإذا احتمل أن يكون الصواب مع مخالفه لم يجتمع مثل هذا الاحتمال مع قطعية دليله، والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح
المبحث الثالث: أثر القطعية في التعارض والترجيح تعريف التعارض والترجيح: ذكر الفَيّومي1 في المصباح المنير أن الاعتراض معناه: المنع، قال: "ومنه ... تعارض البينات، لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها"2. وقال الزركشي: "التعارض حقيقته: تفاعل من العُرض (بضم العين) وهو الناحية والجهة، وكأن الكلام المتعارض يقف بعضه في عرض بعض أي في ناحيته، فيمنعه من النفوذ إلى حيث وجِّه"3.
أما التعارض اصطلاحا: فهو تقابل الدليلين على سبيل الممانعة. وذلك بأن يقتضي كل منهما عدم مقتضى الآخر1، مثل أن يكون أحد الدليلين يدل على الجواز والآخر يدل على التحريم، فدليل الجواز يمانع دليل التحريم ودليل التحريم يمانع دليل الجواز2. أما الترجيح فهو لغة تفعيل من الرجحان وهو جعل شيءٍ راجحا، وأصل الرجحان الزيادة والميلان، ومنه (رجحان الميزان) إذا مال إلى جانب الزيادة3. والترجيح في الاصطلاح: تقوية أحد الدليلين المتعارضين على الآخر4. وذلك لمعرفة أقواهما للعمل به واطراح الآخر5.
أثر القطعية في التعارض والترجيح: مذهب أكثر أهل العلم أن القطعية مانعة من التعارض بين الأدلة القطعية، وأنها لامتناع التعارض بينها لا يتأتى الترجيح بينها1، بل نقل غير واحد من العلماء اتفاق العقلاء على عدم جواز تعارض الدليلين القطعيين2 أو تعادلهما3. أما امتناع التعارض بين دليلين قطعيين فلأمور منها: أولا: أن قطعية الدليل تنبني على أمور يستحيل حصولها في موضعين متعارضين، لأن القطعية لا تتأتى إلا عند اجتماع أربعة علوم: أحدها العلم الضروري بحقيقة المقدمات المتركب منها الدليل القطعي، إما ابتداء أو إسنادا4، ثانيها: العلم الضروري بصحة تركيبها، ثالثها العلم الضروري بلزوم النتيجة عن تلك المقدمات، رابعها العلم الضروري بأن ما لزم من
الضروري لزوما ضروريا فهو ضروري1، ويستحيل حصول هذه العلوم في موضعين متعارضين. ثانيا: أن الدليل القطعي إذا عارض دليلا آخر قطعيا لزم من ذلك أمور كلها باطلة: فإما أن يُعمل بهما معا وذلك باطل لأنه جمع بين النقيضين في الإثبات، أو يُمتنع عن العمل بهما معا وذلك باطل لأنه جمع بين النقيضين في النفي، أو يعمل بأحدهما دون الآخر وهو باطل أيضاً لأنه لا أولوية لأحدهما مع كونهما متساويين في القطعية، فهو ترجيح بلا مرجح2. ثالثا: أن التعارض بين الدليلين القطعيين يؤدي إلى أن يكون أحدهما كذبا قطعا وذلك غير جائز، فإن الأدلة الشرعية كلها صدق وعدل3. وأما امتناع الترجيح بين الدليلين القطعيين: - فلأن الترجيح إنما يتأتى بين الدليلين المتعارضين4، والتعارض غير جائز بينهما5.
- ولأن المقصود من الترجيح جلب زيادة قوة وغلبة ظهور لأحد الدليلين المتعارضين على الآخر، والدليل القطعي قد بلغ غاية القوة والظهور حتى انفصل منه كل احتمال فهو لا يقبل الزيادة إذ لا غاية وراء اليقين1، قال الطوفي: "وهذا كمن يمشي على جبل أو سطح، فلا يزال المشي مُمْكِنا منه حتى ينتهي إلى حافته فيستحل منه لانتهاء غاية المشي، فلو زاد بعد انتهائه إلى الطرف خطوة لصار مشيه في الهواء وهو محال، بل يقع الماشي فيهلك أو يتأذّى"2. وذهب بعض العلماء إلى جواز وقوع التعارض بين الأدلة القطعية، وأنه يتأتى الترجيح بينها. وعللوا ذلك بأمور منها: أولا: أنه إذا كان المراد من التعارض والترجيح وقوعهما في حقيقة الأمر فالأدلة الشرعية كلها سواء في امتناع ذلك فيها، لأن وقوع ذلك في أي دليل شرعي قطعيا كان أم غير قطعي يلزم منه التناقض إذا كان في حقيقة الأمر، وذلك غير جائز، وأما إذا كان المراد من ذلك وقوع ذلك في ذهن المجتهد أو في ظاهر الأمر فذلك واقع بين الأدلة الشرعية القطعية، فقد
يتعارض عند المجتهد قطعيان بحيث يعجز عن القدح في أحدهما1. ثانيا: أن عدم جواز الترجيح بين الأدلة القطعية مبني على القول بمنع وقوع التفاوت في القطعيات، وذلك مسألة خلافية: - فمذهب فريق من العلماء جواز وقوع التفاوت في القطعيات، قال الزركشي: "إنه أصح الوجهين عن الشافعية"قال: "ولذا فرق بعضهم بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين"، وعليه حديث "ليس الخبر كالمعاينة" 2 فإن موسى عليه السلام لم يلق الألواح لما سمع عن قومه وألقاها لما رآهم، ويؤيده أن علم الأنبياء أقوى من علم أممهم. - وذهب آخرون إلى عدم التفاوت في القطعيات وأن القطع واليقين إذا استقر تساوى ولم يكن لبعضه فضل قوة على بعض، ونسب ابن السبكي هذا القول إلى المحققين، وأن معنى ذلك أن بعضها ليس أقوى من بعض في الجزم، وعلى هذا المذهب فما يظهر من تفاوت بين القطعيات فبكثرة المتعلقات أو بسبب أن النفس قد ألِفت أحد المعلومين دون الآخر3.
وعلى القول بجواز التفاوت في القطعيات يتفرع جواز الترجيح في القواطع، قال الزركشي في البحر المحيط1: "ولهذا يجد الإنسان تفرقة بين علمه بأن الواحد نصف الاثنين وأن الكل أعظم من الجزء وبين علمه ثبوت الجوهر الفرد والخلاء2 وغيرها من المسائل النظرية اليقينية مع أن كل واحد يقين". والذي يظهر أنه لا يمكن أن تتعارض القواطع ويكون تعارضهما في واقع الأمر، أما ما كان من القواطع مبنيا على نظر المستدل في قرائن القطعية
واستقراءات الشواهد فيمكن أن ينظر المستدل في دليلين مع قرائنهما وشواهدهما ويتقويان في نظره حتى يبلغا القطع أو قريبا منه مع تعارضها في الظاهر عنده، ويكون واقع الأمر إما أن أحدهما ليس قطعيا وإما أنه لا تعارض بينهما إلا في نظر المستدل في ظاهر الأمر، قال ابن تيمية بعد نفى جواز تعارض القطعيات: "وحينئذ، فلو تعارض دليلان قطعيان وأحدهما يناقض مدلول الآخر ... فلا بد من أن يكون الدليلان أو أحدهما غير قطعي أو أن لا يكون مدلولهما متناقضين"1. وهذا الأمر يتأتى في النوع الثاني من القطعيات وهو المبني على النظر في قرائن القطعية، أما النوع الأول منها - وهو ما كان من القطعيات قريبا سببه واضحا مأخذه ولا يحتاج إلى كبير نظر واستقراء - فلا يتصور فيه ذلك، ومن هذا ما يُذكر من التفاوت بين قطعية خبر الواحد وقطعية غيره من الأدلة بأن القطعية في خبر الواحد المحتف بقرائن القطعية لا يمنع من الترجيح بين أخبار الآحاد المفيدة للعلم إذا تعارضت، أما القسم الآخر من القطعيات فلا يبقى فيه مسلك للترجيح2.
الباب الثاني: أحكام القطعية في الأدلة الأربعة
الباب الثاني: أحكام القطعية في الأدلة الأربعة الفصل الأول: أحكام القطعية في الكتاب والسنة المبحث الأول: الكتاب والسنة أصل الأدلة الشرعية القطعية وغيرها ... الدليل من الكتاب1 أو السنة2 دليل لفظي والقطعية فيه تكون من الجهتين: الثبوت والدلالة. أما من جهة الدلالة فتعلق القطعية بالدليل منهما مطرد فيهما إذ قطعية العام والخاص وقطعية النص والمنطوق وقطعية المفهوم ونحوها - تتعلق بعمومهما ونصهما ومفهومهما ... 3. وأما من جهة الثبوت فليس حكم القطعية فيها متعلقا بهما بدرجة
واحدة، إذ لا خلاف في قطعية الدليل من القرآن من جهة الثبوت1 وكذا السنة المتواترة، وقد وقع الخلاف بين العلماء في قطعية خبر الواحد من جهة الثبوت. المبحث الأول: الكتاب والسنة أصل الأدلة الشرعية القطعية وغيرها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أصل الأدلة الشرعية كلها سواء منها ما كان قطعيا وما كان دون ذلك، والدليل على ذلك أمور: أولا: أن الأدلة الشرعية الأخرى إنما يثبت كونها حججا شرعية بدلالة الكتاب والسنة أو أحدهما على حجيتها، فلا يعتمد على أي دليل في إثبات الأحكام الشرعية إلا إذا قامت أدلة صحة الاعتماد عليه من الكتاب والسنة، فالكتاب والسنة هما عمدة الأدلة الشرعية من وجهين: أحدهما: جهة دلالتهما على أهم الأحكام الجزئية كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والحج والجهاد والصيد والذبائح وغيرها. الثاني: جهة دلالتهما على حجية الأدلة الأخرى والقواعد الكلية التي
تستند إليها بعض الأحكام الجزئية، كدلالتهما على حجية الإجماع1 ودلالتهما على حجية القياس2 وعلى قاعدة (الضرر يزال) 3 وغيرها4، فهما عمدة الأحكام الشرعية بدرجة أو بأكثر. ثانيا: أن الأدلة الشرعية هي حجج الله تعالى التي يثبت بها أحكامه على المكلفين، والحكم كله من الله وحده كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} 5، فكان أصل ما يُثبِت حكم الله تعالى الوحي المتلو في كتاب الله
العزيز والوحي غير المتلو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 1، وما عدا هذا لا يكون حجة إلا حيث كان مستندا إليهما، فالقياس مثلا لابد فيه من أصل ثبت حكمه بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع الذي ثبتت حجيته فيهما2. ثالثا: قول الله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 3، قال ابن كثير رحمه الله: "قال مجاهد4 وغير واحد من السلف: أي كتاب الله وسنة رسوله"قال: "وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُم فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللهِ} 5، فما حكم به الكتاب والسنة
وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال"1. وأصلية الكتاب والسنة هي في التقديم على غيرهما في الجملة للوصول إلى الحكم الشرعي، وهي في القوة كذلك من حيث بناء غيرهما عليهما وعدم بنائهما على غيرهما. وأما العقل المجرد فليس من أدلة الفقه وطرق الأحكام الشرعية، فإنه إنما يستعمل معينا في طرق الأدلة الشرعية أو محققا لمناطها أو ما أشبه ذلك كأن يدل على نفي الحكم لانتفاء الأدلة لكون الثمر معدوما لعدم المثمِر، وإن الأحكام الشرعية إنما تعلم بالسمع والنقل وأصله الكتاب والسنة2. ويذكر بعض العلماء أن العقل أصل النقل من حيث إن النقل يثبت صحته بالعقل، فهو أصله الذي يقدم عليه إذا عارضه3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رد ذلك: "إن أردت أنه أي العقل أصل في ثبوته أي النقل في نفس الأمر فلا يقوله عاقل، فإن ما هو ثابت في نفس الأمر بالسمع أو بغيره هو ثابت سواء علمنا ثبوته أم لم نعلم ثبوته لا بعقل ولا بغيره، إذ عدم العلم ليس علما بالعدم، وعدم علمنا بالحقائق لا
ينفي ثبوتها ... وإن أردت أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته - وهو ما أراده - فيقال: أتعني بالعقل هنا الغريزة التي فينا أم العلوم التي استفدناها بتلك الغريزة؟ فالأول لم ترده ... لأن تلك الغريزة ليست علما يتصور أن يعارض النقل ... وإن أردت بالعقل الذي هو دليل السمع وأصله المعرفةَ الحاصلة بالعقل فيقال لك: من المعلوم أنه ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر، والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ذلك يعلم بما يعلم به أن الله تعالى أرسله ... فليس جميع المعقولات أصلا للنقل"1. فالكتاب والسنة أصل الأدلة السمعية والنقلية الموصلة إلى الأحكام الشرعية مطلقا، وأما العقل فإنه وإن كان آلة في معرفة صدق الرسالة فذلك ليس دليلا على إطلاق القول بأنه أصل ثم إطلاق القول بتقديم العقل عند التعارض على الأدلة السمعية النقلية التي أصلها الكتاب والسنة، لأن قدرا فقط من العلوم العقلية هو المستعمل في الاستدلال على صدق الرسالة، وذلك لا يجعل العقل أصلها مطلقا، مع أنه لا يسلم جواز التعارض بينهما أصلا أي بين الدليل النقلي الصحيح الصريح والعقل السليم2.
المبحث الثاني: أحكام القطيعة في السنة من جهة الثبوت
المبحث الثاني: أحكام القطيعة في السنة من جهة الثبوت المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر ... المطلب الأول: قطعية الخبر المتواتر تعريف (الخبر) و (المتواتر) : الخبر بتحريك الباء: واحد الأخبار، وهو النبأ1. أما تعريفه عند علماء الشريعة فذكر فخر الدين الرازي أنه غني عن الحد والرسم لكونه ضروريا2، وعرفه غيره من علماء أصول الفقه، فذكر إمام الحرمين أنه: "الذي يدخله الصدق والكذب"3، وقال الغزالي: إنه "القول الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب"4، وقال الآمدي: هو "عبارة عن اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم أو سلبها على وجه يحسن السكوت عليه من غير حاجة إلى تمام مع قصد المتكلم الدلالة على النسبة أو سلبها"5. والخبر عند علماء الحديث مرادف للحديث6، وقيل الحديث ما جاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم والخبر ما جاء عن غيره، ومن ثم سمي المشتغل بالتواريخ بالاخباري والمشتغل بالسنة النبوية بالمحدث، وقيل كل حديث خبر من غير عكس، فيكون بينهما عموم وخصوص مطلق1. وأما المتواتر فهو في اللغة: اسم فاعِل من التواتر وهو التتابع مطلقا أو التتابع إذا كان بين الأمور المتتابعة فترات، ومن أصله (تترى) في قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} 2 أي واحدا بعد واحد3. ومن تعريفات الأصوليين للخبر المتواتر: - أنه "خبر أقوام بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم"4. - أنه "عبارة عن خبر مفيد بنفسه العلم بمخبره"5. - أنه "خبر عدد يمتنع معه لكثرته تواطؤ على كذب عن محسوس"6.
وعرف الحافظ ابن حجر العسقلاني1 الخبر المتواتر بأنه في اصطلاح المحدثين الخبر الجامع لأمور أربعة: أحدها: عدد كثير أحالت العادة تواطؤهم على الكذب. الثاني: روايتهم ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء. الثالث: كون مستند انتهائهم الحس. الرابع: أن يصحب خبرهم العلم لسامعه2. قطعية الخبر المتواتر: والخبر المتواتر يفيد العلم القطعي واليقين بما تضمنه عند جميع
المسلمين، قال ابن حزم - رحمه الله - عن الخبر المتواتر: "وهو ما نقلته الكافة بعد الكافة حتى تبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه مقطوع على مغيبه1، لأنه بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم"2، وقال الآمدي رحمه الله3: "اتفق الكل على أن خبر التواتر مفيد العلم بمخبره، خلافا للسمنية4 والبراهمة5".
أما الخلاف في كون العلم القطعي المستفاد من الخبر المتواتر ضروريا أو نظريا 1 فليس خلافا في أصل القطعية، لأن الضرورية والنظرية من أوصاف القطعية، فهما زائدتان على أصل القطعية. وكذا ما ينقل عن النظَّام2 من أن قطعية المتواتر هي بسبب قرائن فيها، خلافا لما عليه الجمهور من أن قطعية المتواتر بسبب العدد الكثير الذي
يحيل عادة تواطؤ المخبرين على الكذب1، فأصل القطعية هنا أيضا ثابت، والخلاف في سبب القطعية أهو العدد أم القرائن، بل ذكر أبو الحسين البصري أن مراد النظام بذلك القرائن اللازمة للخبر كامتناع اتفاق الكذب منهم ونحوه، فإن مثل ذلك لازم لكل خبر متواتر، كما أن قرائن أخرى تجعل حصول القطعية أسرع في حال دون حال: كالأحوال الراجعة إلى المخبر المتكلم والمخبر السامع ونحوها2. وحمل أبو المعالي الجويني قول نفاة قطعية المتواتر من السمنية على أنهم نفوا حصول القطع من العدد وجعلوا القطع من أمور أخرى كالقرائن3. وجعل السرخسي إنكار قطعية مطلق الخبر قول فريق ممن ينكر رسالة المرسلين4. وجعل شيخ الإسلام ابن تيمية التفريق بين المعلوم بالتواتر والمعلوم عن طريق الحس - من أصول الإلحاد والكفر، لأنه سبيل إلى إنكار المنقول عن الأنبياء بالتواتر من المعجزات وغيرها5.
والقول بنفي القطعية عن الخبر المتواتر أيا كان قائله وحقيقة قوله ومحل النزاع معه - قول مردود وباطل، والتحقيق في الرد على منكر ذلك أن يقال: إنا نجد نفوسنا قاطعة ومتيقنة بما يخبر به أهل التواتر كعلمنا وجزمنا بما نحسه ولا سبيل إلى دفع ما نجده، فرجعت حقيقة الاحتجاج على هؤلاء المنكرين في قطعية المتواتر إلى وجدان السامعين للخبر المتواتر - وهم جميع المسلمين - بالقطعية، ولا سبيل للمنكر في دفع ما يجدونه بإنكاره1. قال أبو الحسين البصري في إبطال قول منكري قطعية الخبر المتواتر: "والذي يبطل قولَهم وِجدانُنا أنفسَنا معتقدة وجود مصر وخراسان ساكنة إلى غير ذلك، عند تواتر الأخبار علينا بها، فجرى مجرى المعرفة بالمشاهدات ... ومن خالف في أنا معتقدون لذلك واثقون به فقد دفع ما نجده فلا وجه لمكالمته"2. وقال الآمدي مستدلا على قطعية المتواتر: "ودليل ذلك ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم الضروري بالبلاد النائية والأمم السالفة والقرون الخالية والملوك والأنبياء والأئمة والفضلاء المشهورين والوقائع الجارية بين السلف الماضين - بما يرد علينا من الأخبار حسب وجداننا كالعلم بالمحسوسات عند إدراكنا لها بالحواس، ومن أنكر ذلك فقد سقطت
مكالمته وظهر جنونه أو مجاحدته"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن معرفة الإنسان بكونه يعلم أو لا يعلم مرجعه إلى وجود نفسه عالمة، ولهذا لا يحتج على منكر العلم إلا بوجود أنفسنا عالمة كما احتجوا على منكري الأخبار المتواترة2 بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك جازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه"3. ومن الشبه التي تمسك بها المنكرون: 1- أنه لو أفاد الخبر المتواتر العلم القطعي لاشترك الجميع في العلم به ولما خالف من نُقل خلافه في ذلك. والجواب: أنه لو كان خلافهم مزيلا للقطعية عن الخبر المتواتر لأزال خلاف السوفسطائية4 القطعية عن المحسوسات وذلك باطل، بل إن مجرد الخلاف لا يزيل القطعية ولا يمنعها5، كيف والخلاف في قطعية المتواتر لا يتصور - عند من يجدها - إلا عن جاحد معاند أو عن مختل العقل ساقط
المكالمة كما ذكره أهل العلم رحمهم الله. 2- أن الخبر إذا جاز أن يكون كذبا حالة الانفراد بنقل الآحاد جاز أن يكون كذلك حالة التواتر باجتماع عدد كثير في نقله، لأن الاجتماع من الانفراد. والجواب: أن للاجتماع ما ليس للانفراد كما هو مشاهد في المحسوس، فرب شيء ثقيل لا يقدر الواحد على حمله فإذا اجتمع عليه مع غيره يحمله، فلا يقال إن عدم قدرته على الحمل منفردا يلزم منه عدم قدرته على ذلك مع غيره، فقد يدعوه إلى الكذب في حالة الانفراد داع، ولكن يستحيل اتفاق الدواعي على الكذب عند اجتماع عدد التواتر مع الكثرة واختلاف الهمم. 3- أن الجم الغفير قد يجتمع على الكذب في الأمور المدركة بالاجتهاد كالفلاسفة1 وغيرهم، فكذا في الأمور المدركة بالحس كالمتواتر. والجواب: أن الاجتهاد مظنة الخطأ بخلاف المدرك بالحس كالخبر المتواتر، فإنه يدرك بالسماع أو المشاهدة.
4- أن الكذب مع التواتر واقع في اجتماع الجمع الكثير من اليهود والنصارى على الكذب على أنبيائهم. والجواب: أن شرط المتواتر وقوع الكثرة المذكورة في الخبر من أوله إلى آخره، وذلك غير متحقق في ما ذكر فإن أول ذلك أخبار منقولة بعدد يسير غير متواتر1. قطعية المتواتر المعنوي: الخبر المتواتر إذا كان لفظيا فما يفيده اللفظ هو القطعي، وأما المتواتر المعنوي2 فالمقطوع به فيه القدر المشترك بين الأخبار المتواترة في ذلك المعنى لا فيما انفرد به كل خبر عن بقية الأخبار المتواترة، فإن ذلك غير متواتر3. وربما كانت قطعية المتواتر اللفظي أسرع لاتحاد لفظه ومعناه من قطعية المتواتر المعنوي لاختلاف ألفاظه وما طابقها من المعاني وإن اتضح
مدلولها من جهة التضمن1والالتزام23، فدلالة المتواتر اللفظي على الحكم المدلول عليه بالمطابقة، ودلالة المتواتر المعنوي إما بالتضمن أو بالالتزام. التفاوت بين المتواتر والمحسوسات: جعل بعض المنطقيين4 قطعية المتواتر أدنى درجة من قطعية المحسوسات، لأن قطعيته غير مشتركة بل تختص بمن علمها، أما قطعية المحسوسات فهي مشتركة يُحتج بها على المنازع مطلقا5، ولأن الخبر مهما كثر عدد رواته يتطرق إليه إمكان التواطؤ عقلا فلا بد من نوع من الفكر في الوصول إلى قطعيته، بخلاف المحسوس ونحوه6.
وليس هذا التفريق مسلما، لأن قطعية المتواتر قد تكون عامة ومشتركة بين الناس كاشتراك الناس بوجود مكة ونحوها من البلاد المشهورة واشتراكهم في العلم بوجود البحر وأكثرهم ما رآه، وقد تكون خاصة يعلمها من شارك في تحصيل الأخبار المسببة في القطعية، وكذلك الأمور الحسية قد تكون مشتركة كاشتراك الناس في رؤية الشمس والقمر والكواكب، وأخص من ذلك اشتراك أهل البلد الواحد في رؤية ما عندهم من جبل أو نهر، وقد تكون خاصة كما في ذوق الأمور، فإن المعيَّن الذي ذاقه شخص ليس هو المعين الذي ذاقه غيره، إذ كل إنسان يذوق ما في بطنه وإن اشتركوا في جنس ذلك، فإذا كان كل من المحسوس والخبر المتواتر قد يكون خاصا وقد يكون عاما مشتركا فلا وجه للفرق بينهما حتى يكون هذا محتجا به على المخالف دون ذاك1. أما تطرق الاحتمال العقلي ثم الاحتياج في نفيه إلى نوع من الفكر فَبَعد نفيه يستوي العلم القطعي به، وذلك لا يوجب فرقا بينه وبين غيره في الاحتجاج2، على أن من العلماء من ذكر أن المتواتر يفيد علما ضروريا لا يحتاج لشيء من ذلك. هذا، وقد يُرتَّب بين القطعيات من المحسوس والخبر المتواتر وغيرهما
بتقديم بعضها على بعض دون إشارة إلى كون المقدَّم أقوى من المؤخر1، ولعل ذلك راجع إلى كون بعض اليقينيات أسرع من بعض كتقديم الأوَّلِيّات على المجرَّبات2. ندرة التمثيل للمتواتر عند الأصولين، والكلام عليه عند المحدثين: تفصيل الكلام في الخبر المتواتر وشروطه لا يخلو منه كتاب من كتب أصول الفقه المشهورة، ولكن ذكر مثال للخبر المتواتر لا يكثر فيها كثرة البحث فيه. وأخرج بعض أهل الحديث الكلام في المتواتر من مباحث علم الحديث لندرته وغرابته عن طبيعة ذلك العلم. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عند كلامه على الحديث المشهور: "ومنه المتواتر الذي يذكره أهل الفقه وأصوله، وأهل الحديث لا يذكرونه باسمه الخاص المشعر بمعناه الخاص ... ولعل ذلك لكونه لا تشمله صناعتهم
ولا يكاد يوجد في رواياتهم ... ومن سئل عن إبراز مثال لذلك أعياه طلبه ... "1، وقال النووي2: "ومنه [أي المشهور] المتواتر المعروف في الفقه وأصوله، ولا يذكره المحدثون، وهو قليل لا يكاد يوجد في رواياتهم"3. فهما يجعلان سبب قلة أمثلة الخبر المتواتر ندرته في الأحاديث المروية. وقال السخاوي4 إشارة إلى البحث في الخبر المتواتر: "وليس من مباحث هذا الفن فإنه لا يبحث عن رجاله لكونه لا دخل لصفات المخبرين فيه ولذلك لم يذكره من المحدثين إلا القليل كالحاكم5 والخطيب في أوائل
الكفاية1 وابن عبد البر2 وابن حزم3"4. فهو يعزو سبب القلة إلى أن الخبر المتواتر خارج عن موضوع صناعة المحدثين وهو النظر في الأسانيد. ففيما ذكروا أمران: أحدهما أن البحث في الخبر المتواتر بحث غريب في علوم الحديث، والثاني أن الخبر المتواتر يعِزُّ وجوده في الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الأمر الأول فهو واضح، لأن أهم خصائص علم الحديث النظر في الأسانيد والرجال وصفاتهم وصيغ الأداء ونحو ذلك ليحكم بصحة الحديث أو ضعفه، أما الخبر المتواتر فهو يجب العمل به من غير بحث في تلك الأمور، لوقوع العلم منه بكثرة عدد المخبرين5. أما الأمر الثاني - وهو عزة الأخبار المتواترة في الأحاديث المروية -
فقد منعه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وعلل من وجه آخر عزة أمثلة الخبر المتواتر بأن ذلك "نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطأوا على الكذب أو يحصل منهم اتفاقا"، قال: "ومن أحسن ما يُقرَّر به كون المتواتر موجودا وجودَ كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقا وغربا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب ... إلى آخر الشروط أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير"1. وجمع بعض أهل العلم بين ما ذكر من ندرة الخبر المتواتر وكثرته، فذكر أن القول بعزته وندرته محمول على المتواتر لفظا ومعنى، وأن القول بالكثرة محمول على المتواتر معنى فقط2. فمن الأمثلة القريبة للخبر المتواتر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "، فقد رواه جمع كثير من الصحابة - رضي
الله عنهم - عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ورواه عن الصحابة عدد غير قليل من مشاهير التابعين وأعلامهم رحمة الله عليهم أجمعين1.
المطلب الثاني: قطعية الخبر الواحد
المطلب الثاني: قطعية الخبر الواحد ... المطلب الثاني: قطعية خبر الواحد أهمية مسألة قطعية خبر الواحد: من أهم مباحث القطعية في الأدلة الأربعة الخلاف في إفادة خبر الواحد العلم القطعي، وهو من مباحث القطعية التي يذكرها العلماء في غالب كتب أصول الفقه1، يشترك في ذلك مع مبحث قطعية العموم والخلاف فيها، والفرق بينهما أن الخلاف في قطعية العموم هو من حيث الدلالة والخلاف في قطعية خبر الواحد هو من حيث الثبوت. ووجه أهمية مبحث قطعية خبر الواحد أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن في المسائل ما يجب الاستدلال فيها بالقطعي من الأدلة دون غيره ومسائل أخرى يجوز أن يستدل فيها بالقطعي وغير القطعي من الأدلة الشرعية، فإذا كان خبر الواحد - وهو معظم الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يمكن البتة أن يفيد علما قطعيا فلا جرم كان غير مفيد عند أولئك فيما المطلوب منه القطع، ومن ذلك عندهم مسائل العقيدة2، فتكون النتيجة أن معظم الأخبار المروية عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبْعَدة عن موضع من أهم مواضع الدين. غير أن تقسيم الدين إلى ما سبق أمر غير ظاهر وقد لا يُسلم، وأما ما فُرِّع على التقسيم من التفريق في الاستدلال فأمر غير مسلم وهو غير صحيح1. وعلى القول بعدم التقسيم وصحة الاحتجاج بكل دليل شرعي في كل مسألة شرعية يمكن القول بعدم قطعية خبر الواحد دون أن يكون لذلك ما سبق من الخطورة. تعريف خبر الواحد: أما تعريف الخبر فقد تقدم عند أول الكلام على قطعية الخبر المتواتر2. وأما تعريف خبر الواحد عند الأصوليين فمن ذلك: ما عرفه به الغزالي بأنه: "ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم"3. وقال الآمدي: "خبر الواحد ما كان من الأخبار غير منْتَهٍ إلى حد التواتر"4. وذكر الحافظ ابن حجر أنه في اصطلاح المحدثين: الخبر الذي لا يجمع شروط المتواتر5.
وعلى هذا فلا واسطة بين الخبر المتواتر وبين خبر الواحد، إذ عُرِّف خبر الواحد بكونه كل ما ليس متواترا، فيدخل في جملة خبر الواحد الخبر المستفيض والمشهور1، وهو قول كثير من الأصوليين2. وقد جعل بعض العلماء الخبر المستفيض واسطة دون الخبر المتواتر وفوق خبر الآحاد.
وألحق آخرون الخبر المستفيض والخبر المشهور بالمتواتر1. وجعل الماوردي2 الخبر المستفيض أعلى رتبة من الخبر المتواتر وقال إنه "أقوى الأخبار حالا وأثبتها حكما"، لكنه سوَّاهما في القطعية3. والأمر بالنظر إلى القطعية أن ما أُلحق من هذه الأخبار بالمتواتر فحكمه في القطعية عند الملحِق حكم المتواتر، وما ألحق منه بخبر الواحد فالخلاف في قطعية خبر الواحد يجري فيه، ومن جعل منه واسطة بين الخبر المتواتر وبين خبر الواحد فالنظر فيه متردد، فإن منهم من جعل المستفيض مفيدا للعلم
القطعي، ومنهم من جعله مفيدا للظن الغالب دون العلم القطعي، ومنهم من جعله مفيدا ظنا قويا مقاربا لليقين والقطع1، وسبب هذا التردد اختلاف النظر في الاستفاضة والشهرة وهل هما من القرائن المفيدة للعلم القطعي في خبر الواحد أم لا. والله تعالى أعلم. تحرير محل النزاع: تظهر الحاجة إلى تحرير محل النزاع في هذه المسألة بالنظر في أدلة المتنازعين فيها، فربما استدل بعضهم على قطعية خبر الواحد بأدلة حجيته، وإن حجيته غير قطعيته، وربما استدل بعضهم بما يوهم أن مخالفه يقول بقطعية مطلق خبر الواحد، وهو ما لا يقول به أحد كما سيأتي. وتحديد المحل المتنازع فيه يكون ببيان أمور: الأمر الأول: ليس مطلق خبر الواحد هو محل الخلاف، وإنما الخلاف في خبر واحد مقيّد بكون الخبر الذي رواه الواحد متصلا بنقل العدول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحديث الصحيح2 الذي يجب العمل به دليلا على الأحكام الشرعية.
قال ابن حزم: "أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز الكذب عليه والوهم فهو كما قالوا، إلا أن يأتي برهان حسي أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برّأ بعض الأخبار من ذلك، فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم، وإنا حين نأخذ - إن شاء الله تعالى - في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم ولا يجوز فيه البتة الكذب والوهم ... "الخ1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فصل، يتعلق بمسألة خبر الواحد المقبول في الشرع هل يفيد العلم، فإن أحدا من العقلاء لم يقل إن خبر كل واحد يفيد العلم، وبحث كثير من الناس إنما هو في رد هذا القول"2. وقال ابن القيم: "كذب بعض الأصوليين كذبا صريحا لم يقله أحد قط، فقال: مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه أن خبر الواحد يفيد العلم
من غير قرينة، وهو مطرد عندهم في كل خبر1" قال منكرا: "فيا لله العجب! كيف لا يستحي العاقل من المجاهرة بالكذب على أئمة الإسلام، لكن عذر هذا وأمثاله أنهم يستجيزون نقل المذاهب عن الناس بلازم أقوالهم، ويجعلون لازم المذهب في اصطلاحهم مذهبا"2. وقريب من هذا قول الغزالي: "فإن قيل: فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد، قلت: حكي عن الكعبي3 جوازه، ولا يُظَنّ بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن"4. ومنه ما نقله الزركشي عن ابن دقيق العيد5 أنه قال: "قد أكثر
الأصوليون من حكاية إفادته [أي خبر الواحد] القطع عن الظاهرية أو بعضهم، وتعجب الفقهاء وغيرهم منهم لأنا نراجع أنفسنا فنجد خبر الواحد محتملا للكذب والغلط ولا قطع مع هذا الاحتمال"، ثم وجّه ابن دقيق العيد القول بالقطعية بأنه في الأخبار التي معها قرينة خارجة عن الخبر، وقال: "وإنما ذكرنا هذا لأن كثيرا من الفقهاء والأصوليين يعتقدون أن مذهبهم خارج عن ضروب العقل، فبَيَّنّا هذا دفعا لهذا الوهم، وتنبيها لما ينبغي أن ينظر ويبحث معهم فيه"1. والحاصل أنه ليس مطلق خبر الواحد محل الخلاف، بل الخلاف فيما كان من أخبار الآحاد مقيدا على الأقل بكونه حجة شرعا. الأمر الثاني: الخلاف في قطعية خبر الواحد وإفادته العلم معناه هل يَقطع المستدل الناظر في الخبر المتصل الذي يرويه الواحد العدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ويتيقن بذلك جازما أم هو يعمل به لظهور احتمال ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ورجحان ذلك مع احتمال ضعيف بغلط الراوي الواحد أو وهمه أو نحو ذلك. فليس أصل الخلاف هنا في وجوب العمل بخبر الواحد وأنه دليل من الأدلة الشرعية التي يتوصل بها إلى الأحكام الشرعية في الجملة، فذلك
حجية خبر الواحد وهي غير قطعيته. والقطعية فرع عن الحجية، فمن لا يثبت أن طريقا من طرق الأحكام حجة - لا يبحث معه عن قطعيته، فجميع من يرد هنا من المتنازعين في القطعية هم من القائلين بالحجية1. الأمر الثالث: بعض الأخبار ليست من محل النزاع لأدلة خاصة، وذلك كخبر الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وخبر أهل الإجماع، فهؤلاء لا يجوز في حقهم الكذب لأدلة خاصة، وهي أدلة حجية الكتاب والسنة والإجماع. وإنما الخلاف في خبرٍ وصل المستدل بنقل الواحد، فمن نفى القطعية عن مثل هذا الخبر فهو ينظر إلى ما نقله الواحد وليس أن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفيد القطع واليقين، إذ هو حين ينفي القطعية لم يتيقن كونه خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو حكم جازما بصدق الناقل عنه صلى الله عليه وسلم كان الخبر صدقا قطعا. يدل على ذلك أن كثيرا من المصنفين في أصول الفقه يذكرون في صدر الكلام على الأخبار أخبارا قطعية لأدلة خاصة ومنها خبر الرسول صلى الله عليه وسلم2.
ويدل على ذلك أيضا أن الغزالي أخرج خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد، لقطعيته، فقال: "قول الرسول عليه السلام لما علم صحته لا يسمى خبر الواحد"1. فمبنى الخلاف في قطعية خبر الواحد: على أنه هل يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، وليس أنه هل يقطع بقول الرسول صلى الله عليه وسلم وحديثه2. أمور موضِّحة: وهناك أمور إذا اتضحت ساعدت في توضيح محل النزاع وفي توجيه الأدلة ومناقشتها: - منها: أن بعض أدلة من نفى القطعية مطلقا لا ترد إلا على من أثبت القطعية مطلقا، كما أن بعض أدلة من أثبتها مطلقا لا ترد إلا على من نفاها مطلقا، ومن توسط بينهما فقال بالقطعية عند وجود قرائنها يسلم من كثير من اعتراضات أدلة الفريقين. - ومنها: ذهب بعض العلماء إلى أن خبر الواحد يفيد العلم الظاهر. ونفى وجود العلم الظاهر من كلا طرفي النفي والإثبات في المسألة.
فمن النافين: قوله في تلخيص التقريب: "فإن قيل: فالذي أطلقتموه هو العلم الباطن والذي أطلقناه هو العلم الظاهر، قلنا: هذا الكلام خلو من التحقيق فإن العلم مهما تحقق استحال أن يجامع الرَّيْب سواء كان علما بظاهر أو باطن ... اللهم إلا أن يعنوا بالعلم الظاهر سماعهم الخبر فمسلم لهم ذلك، فإنه يعلم ضرورة ... وإن حملوا العلم بالظاهر على غلبة الظن فيرتفع الخلاف في المعنى فيؤول الكلام إلى المناقشة في العبارة"1. ومن المثبتين مطلقا: قول ابن حزم: "وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب: خبر الواحد يوجب علما ظاهرا، قال أبو محمد: وهذا كلام لا يعقل، وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر، بل كل علم متيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معا، وكل ظن يتيقن2 فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا"3. فالقول بإفادة خبر الواحد العلم الظاهر يرد عليه سؤال الاستفسار، فإنه إن كان هو اليقين والقطع فالقائل به يُجمع مع القائلين بالقطعية، وإن كان دون اليقين فهو مع النافين، وإن كان غير ذلك فلا بد من بيانه، كأن يكون مرتبة الظن القوي المقارب للقطع.
والأقرب أن يكون المراد بالعلم الظاهر أمرا دون اليقين والقطع، لما سبق في استعمال الشافعي وغيره للعلم الظاهر دون الباطن أنه يرادف الظن الغالب والرجحان، وبين بعض العلماء المراد بالعلم الظاهر: فقال أبو الحسين البصري عند الكلام على الخلاف في قطعية خبر الواحد: "وحكي عن قوم أنه يقتضي العلم الظاهر وعنوا به الظن"1، وقال الغزالي: "وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل أو يسمي الظن علما، ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن"2، وحمل السرخسي القول بأن خبر الواحد يفيد العلم على أن المراد بالعلم علم طمأنينة القلب وقال: "وطمأنينة القلب نوع علم من حيث الظاهر"3. - ومنها: من أقوى أدلة نفاة القطعية في هذه المسألة أن خبر الواحد فيه احتمال أن يكون الواحد الراوي للخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم غير عدل في الواقع، لأن الحكم بعدالة المرء هو بحسب الظاهر من أمره مع احتمال خلاف ذلك في الباطن.
ولكن هذا الاحتمال وارد في حق غير الصحابة رضي الله عنهم، أما عدالة الصحابة فمقطوع بها بتزكية الله إياهم في غير ما موضع من كتابه وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة من القرآن على تزكيتهم قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 2 وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3 وقوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 وقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةً وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 5.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق، على أنه لو لم يرد من الله ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد ونصرة الإسلام وبذل المُهَج والأموال وقتل الآباء والأبناء والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين - القطعَ على تعديلهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم كافة أفضل من جميع الخالفين بعدهم ... هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتمد قوله"1. كما ورد في ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير وأثنى عليهم. قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم"2. ومن الأحاديث المروية في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي! فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفه" 3، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ... "الحديث4.
أما احتمال النسيان فقد استبعده بعض العلماء كذلك في حقهم بسبب "صحبة النبي صلى الله عليه وسلم واختيار الله تعالى إياهم لحفظ دينه ... وما عرف منهم من بذل الجهد في ذلك ... فصار احتمال النسيان كاحتمال المجاز في الخاص والتأويل في النص فلا يعتد به"1. ولا يقوى هذا قوة ما قبله من قطعية العدالة، على أنه جارٍ على أحد مذاهب العلماء في الاعتداد بالاحتمال2. والله أعلم. الخلاف في المسألة: وقد اختلف العلماء في إفادة خبر الواحد العلم القطعي إلى ثلاثة أقوال: النفي المطلق والإثبات المطلق والإثبات في الأخبار التي احتفت بها قرائن القطعية دون التي لم تحتف بها تلك القرائن. القول الأول: أن خبر الواحد لا يفيد العلم القطعي بحال، فكل خبر لم يتواتر نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحصل العلم القطعي واليقين بأنه قاله، غاية ما يمكن أن يفيده مثل ذلك الخبر غلبة الظن ورجحان أنه صلى الله عليه وسلم قاله. فكان أصل هذا القول: أن الخبر لا يمكن أن يحصِّل العلم القطعي إلا من حيث كثرة العدد كثرة يستحيل معها احتمال الكذب والوهم، وما دون
ذلك لا يمكن أن يحصل العلم حتى مع احتفاف القرائن به، ويبين هذا الأصل عندهم أنهم يذهبون إلى أن خبراً ما إذا أفاد العلم القطعي في واقعة لشخص وجب أن يفيد العلم القطعي في كل واقعة ولكل شخص، لأن سبب حصول العلم القطعي فيه هو العدد فقط، وقد استوت الوقائع والأشخاص في ذلك. وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني فيما نقله عنه غير واحد1، وفي تلخيص التقريب بعد نفي إفادة خبر الواحد العلم مطلقا وأن ما كان من الأخبار يفيد العلم تارة فإنه يفيده تارة أخرى قال: "ومقصدنا بما ذكرنا الرد على النظام، فإنه صار إلى أن خبر الواحد قد يقترن في بعض الأحوال بقرائن يفضي إلى العلم الضروري"، ثم رد على ذلك وقال: "ولا يَغرّنك تمويهه وتصويره في الواحد المخبر مع قرائن تقترن به، فإن كل ما يصوره قد يتقرر في العادة تصوير مثله مع تعمد الخلف أو تصور الغلط"2. وذكر بعض العلماء أن هذا القول مذهب الأكثر3.
ونازع في تلك النسبة شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره1. ونسب ابن القيم هذا القول إلى الطوائف المخالفة للسلف وقال: "وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء ولا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك"2. أدلة هذا القول3: الدليل الأول: استدلوا بأن خبر الواحد لو أفاد القطع للزم من ذلك أمور باطلة وما يلزم منه الباطل باطل، ومن تلك اللوازم الباطلة: أ- أنه يلزم منه تصديق كل خبر يُسمع، فإنه لن يخرج ذلك الخبر عن كونه خبر واحد. وهذا خروج عن محل النزاع، لأن بطلان القول بقطعية مطلق خبر الواحد لا يختلف فيه، ولا يلزم من ذلك بطلان القول بقطعية بعض أخبار الآحاد المقيدة، فمحل الاتفاق في بطلان القطعية خبر واحد مطلق كان هذا الواحد فاسقا أو صادقا كافرا أو مسلما ... وأما محل الخلاف في القطعية
فخبر واحد متصل بالعدول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فافترقا، وقد سبق في تحرير محل النزاع تغليظ ابن القيم القول على من زعم أن الخلاف في مطلق الخبر1. ب- أنه يلزم من قطعية خبر الواحد ألا يقع تعارض بين خبرين مطلقا لأن القطعيين لا يتعارضان، لكن التعارض بين الأخبار واقع. والجواب عن هذا أنه لا يسلم إمكان تعارض خبرين مفيدين للقطع على وجه لا يتبين الأمر فيهما بترجيح أو جمع أو نحو ذلك2. جـ- أنه يلزم من قطعية خبر الواحد جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة به، وذلك غير جائز. والجواب عن هذا من وجهين: الأول: أنه لا يسلم عدم جواز نسخ الدليل من القرآن أو من السنة المتواترة بالدليل غير القطعي مثل خبر الواحد، فإن ذلك محل متنازع فيه3،
ولا يصلح الاحتجاج بمحل الخلاف1. الوجه الثاني: أنه - على التسليم بعدم جواز نسخ القرآن والسنة المتواترة بالدليل غير القطعي - لا يتحقق المانع من ذلك على القول بقطعية خبر الواحد، لأنهما يستويان إذا في القطعية فيقوى خبر الواحد القطعي على نسخ القطعي، فجواز نسخ الدليل من القرآن أو السنة المتواترة بالدليل من خبر الواحد هو فرع عن مسألة قطعية خبر الواحد، فإذا قيل بالقطعية في المسألة لم يلزم من نسخ القطعي بخبر الواحد شيء محظور، لاتحادهما في القوة المجوز لذلك. د- أنه يلزم من القول بقطعية خبر الواحد جواز الحكم بشاهد واحد دون الحاجة إلى شاهد ثان ولا يمين، لأن العلم إذا حصل بقول الشاهد الواحد لم تكن ثمة حاجة إلى سوى ذلك إلا تحصيل حاصل، وهو عبث. والجواب عن هذا ببطلان الملازمة بين صدق خبر الواحد وبين صدق الشاهد الواحد.
ذلك أن هناك أوجه فرق بين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الشهادة في الخصومات والأقضية، وحقيقة الفرق بينهما راجعة إلى أن ما يترتب على احتمال الكذب أو الوهم في الرواية من المحظورات لا يترتب على احتمال كذب الشاهد، بل إن مدار الحكم في الأقضية على الظواهر دون القطع واليقين بما في باطن الأمر والواقع في الحقيقة، كما في حديث أم المؤمنين أم سلمة1 - رضي الله تعالى عنها - أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم وقال: "إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها"2، أما الرواية فإنه يلزم من احتمال كذب بعضها - كالخبر الذي تلقته الأمة بالقبول - أن يكون الناس قد ضلوا الحق واعتمدوا الكذب وقالوا على الله بغير علم، وذلك باطل. والله سبحانه وتعالى لم يتكفل بحفظ الدماء أن تهرق ولا بصيانة الأموال أن تؤخذ ولا الفروج أن تستباح بغير حق في الخصومات والأقضية
بل ذلك واقع، ولكنه تكفل بحفظ الدين عن أن يختلط به ما ليس منه عند المسلمين1. هـ- أنه يلزم من القول بقطعية خبر الواحد أن يستوي خبر العدل والفاسق في الإخبار، لأنه إذا حصل بالخبر العلم لم ينظر إلى عدالة قائله من فسقه كما في الخبر المتواتر، وباطل أن يستوي خبر العدل والفاسق وقد قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 2. والجواب عن هذا أنه خروج عن محل النزاع أيضاً، فإن الخلاف ليس في مطلق خبر الواحد حتى يتناول خبر الفاسق، بل في خبر العدل خاصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. على أن هذا جمع بين موضعين مختلفين، إذ لا يلزم من كون خبر العدل صدقا قطعا أن يكون خبر الفاسق صدقا كذلك، فالعدل غير الفاسق. و أنه يلزم من القول بقطعية خبر الواحد تصديق قول مدعي النبوة، لأنه خبر واحد.
والجواب بالفرق بين دعوى النبوة عن الله سبحانه وتعالى وبين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باطراد العادة باستحالة صدق دعوى النبوة من مخبر واحد دون ضميمة معجزة، إذ هو يخبر عن الله سبحانه وتعالى بما لا يُعلم إلا من جهته، وثبوت النبوة له يستلزم أمورا عظيمة من الموالاة والقطع على طهارته ظاهرا وباطنا والتصديق في جميع ما يخبر به ونحو ذلك، وذلك يستدعي معجزة خارقة تدل على صدقه، بخلاف الراوي المخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم1. الدليل الثاني: واستدل على القول الأول بأن الواحد العدل ليس معصوما من الخطأ والنسيان والوهم ونحوه مما يعرض للبشر، فاحتمال تلك العوارض وارد في حقه قطعا، بل إن الحكم بالعدالة هو بحسب الظاهر من حاله وليس يُقطع بأنه عدل في باطن أمره وسريرته، فاحتمال الكذب غير مدفوع عنه قطعا، ومع ورود هذه الاحتمالات لا يمكن القطع واليقين بأن ما قاله صدق وحق، بل ذلك على الظاهر واعتقاد الرجحان مع احتمال خلافه. قال إمام الحرمين: "والقول فيه أنه قد زَلَّ من الرواة الأثبات جمع لا يعدون كثرة، ولو لم يكن الغلط متصورا لما رجع راو عن روايته، والأمر
بخلاف ما تخيلوه"1، ولذا توعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الكذب في الحديث عنه وقال: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"23. والجواب أن هذا الاحتمال يرد على خبر رواه عدل واحد لم يعرف عنه إلا عدالته وحفظه في الظاهر من أمره، أما من كان من الرواة قد تتبع النقاد الجهابذة المدققون سيرتهم ووقفوا على أحوالهم الخاصة في سرهم وعلنهم أو أجمعوا على عدالتهم وتعزز ذلك بورود خبر آخر مثل ذلك الخبر، مع رسوخ في العلم، وانضاف إلى ذلك تلقي الأمة للخبر بالقبول ونحو ذلك من القرائن التي لا تزال تحتف بالخبر حتى ينقطع فيه احتمال النسيان والخطأ والكذب ونحوها، ويفيد الخبر القطع واليقين بالنسبة لمن وقف على ذلك4. هذا وقد استدل أصحاب القول بنفي القطعية مطلقا في هذه المسألة بأدلة خاصة على أن احتفاف القرائن بالخبر لا يفيده القطعية، ومن ذلك:
تكون دليل الصدق، فإن أحدهم قد يريد أن يُمَوِّه على الناس ليعتقدوا موت ولد له مثلا، وذلك لغرض ما كالفرار من مسئوليته أمام سلطان أو نحو ذلك، فيذهب المذاهب المختلفة في البكاء والعويل والصراخ ويتصنع بإحضار الجنازة والأكفان ولا يألوا جهدا في ضرب خده وشق جيبه ... بل قد يكون أُخبر عن موت ولده فقام بكل ذلك مع أن الولد في الواقع أغمي عليه أو أصابته سكتة1. والجواب عن هذا: أن غاية ذلك أن هذه القرائن المذكورة والمعينة لا تفيد علما، ولا يلزم من ذلك أن كل قرينة لا تفيد العلم القطعي، لأن القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كل الصور2، على أن القرائن المحتفة بالخبر الذي هو الحجة شرعا ليس من قبيل ما سبق3. 2- أنه لو كانت القرائن هي المفيدة للعلم لجاز ألا يقع العلم القطعي بالخبر المتواتر، لعدم لزوم تلك القرائن فيها، وذلك باطل4. والجواب: أن العلم القطعي لا يستفاد من القرائن فقط، بل تارة من كثرة العدد كما في المتواتر ومن الخبر مع قرائن القطعية تارة أخرى كما هو القول هنا5.
3- أن العلم المستفاد من الخبر المحتف بالقرائن إما أن يكون سببه القرائن وحدها أو القرائن بشرط وجودها مع الخبر أو الخبر وحده أو الخبر بشرط وجوده مع القرائن. أما أن يكون سبب القطعية القرينة وحدها أو هي مع الخبر فباطل، لأن القرينة لا تتناول المخبر عنه وإنما المتناول لذلك الخبر، وأما أن يكون سبب القطعية هو الخبر وحده فذلك غير مسلم، لأن الخبر يقتضي القطعية عند التجرد عن القرينة إذاً وذلك ممنوع، وأما أن يكون سبب القطعية هو الخبر مع القرائن فباطل، لعلمنا أنه لو تجردت هذه القرائن عن الخبر لكان اعتقادنا المخبَر كاعتقادنا مع وجودها1. والجواب: أن الخبر قد يكون من القوة بحيث لا يبقى من إفادته القطع إلا قدر يسير وتقوم القرينة مقام ذلك القدر، والقرينة تتناول ما تناوله الخبر - وهو المخبر عنه - لتعلقها به، كالصراخ في بيت من أخبر بموته ونحو ذلك فإنه يدل على الموت كالخبر بذلك2. القول الثاني: أن خبر الواحد العدل إذا اتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد العلم القطعي، ولا يجوز أن يكون كذبا بحال.
وهذا قول ابن حزم الظاهري رحمه الله، قال: "خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم، ولا يجوز فيه ألبته الكذب والوهم"1. وعلى هذا فسواء اتصل بالخبر قرائن أم لم تتصل به يكون قطعيا، لكونه لم يقيد الخبر القطعي إلا بما هو المقيد به في الأخبار المقبولة شرعا من العدالة والاتصال، فكانت حجية الخبر عنده مستلزمة لقطعيته. ونسب ابن حزم - رحمه الله - هذا القول إلى أبي سليمان داود الظاهري2، والحسين بن علي الكرابيسي3، والحارث بن أسد المحاسبي4،
وابن خويزمنداد1 رحمهم الله. ونازعه الزركشي في نقله عن الحارث المحاسبي فقال: "وفيما حكاه عن الحارث نظر، فإني رأيت كلامه في كتابه (فهم السنن) ، نقل عن أكثر أهل الحديث وأهل الرأي والفقه أنه لا يفيد العلم ثم قال: "وقال أقلهم يفيد العلم"ولم يختر شيئا، واحتج بإمكان السهو والغلط من ناقله كالشاهدين يجب العمل بقولهما لا العلم"2. كما نقل الزركشي عن المازري3 أنه نازع ابن خويز منداد في نقله عن مالك أنه يفيد العلم لعدم وجود نص لمالك في ذلك، وأنه ربما اعتمد على مقالة له مشيرة إلى ذلك غير صريحة4.
ونُسب هذا القول إلى الإمام أحمد بن حنبل وأصحاب الحديث1. وخرّج القاضي أبو يعلى قول الإمام أحمد على أن المراد خبر واحد تلقي بالقبول أو احتفت به قرائن أخرى2. أدلة هذا القول: الدليل الأول: أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقول إلينا بخبر الواحد وحيٌ من الله تعالى وبيان للوحي كما قال عز وجل: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 3 وقال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4، وقد قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5 وقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمَتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} 6 وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} 7، فكان الذكر والوحي كله محفوظا بضمان الله تعالى، ومثل ذلك لا يضيع منه شيء ولا يُحرّف
ولا يختلط اختلاطا "لا يتميز بيقين عند أحد من الناس"1. وإذا كان كذلك فلا سبيل إلى ضياع شيء مما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في بيان الذكر، لأن ضياع ذلك من ضياع الذكر وذلك باطل، فكل خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مقطوع به غير مختلط ولا محرَّف ولا مكذوب ولا مخطوء فيه2. ويرد على وجه الاستدلال بهذا الدليل على القطعية المطلقة: أن هذا الدليل إنما يفيد في بعض أخبار العدول ولا يفيد أن جميع أخبار الآحاد يلزم أن تكون قطعية. وبيان ذلك: أن خبر الواحد العدل إذا اقترن به أن أجمعت الأمة على العمل به لزم من كونه غير صحيح أن يكونوا قد عملوا بما ليس صحيحا، ولزم من ذلك أن يكون بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للذكر المنزل قد اختلط به ما ليس منه مما وقع فيه الخطأ ولم يتميز، أما إذا فرض خبر واحد اختلف في صحته أولم يعمل به بعض الأمة فاحتمال كون مثل هذا الخبر غير صحيح لا يلزم منه شيء مما ذكر.
فعليه يقال: إن خبر واحد معيَّناً1 إذا وصل إلى مستدلين ناظرين في الأدلة الشرعية فصححوه وجب عليهم العمل به وإن كان غيرهم لم يصححه، مع أنه يحتمل أن يكون الصواب مع الذين ضعفوه، فيكون المصححون قد عملوا بما ليس صحيحا، ولا يلزم من ذلك محظور أن الأمة عملت بالباطل أو أن بيان الذكر قد ضاع ... فخبر الواحد العدل لا يلزم من عدم صحته شيء مما ذكر، إلا أن يقترن به مثل تلقي الأمة له بالقبول والعمل، والتلقي بالقبول قرينة زائدة على مطلق الخبر الحجة وهو خبر العدل المتصل، والله تعالى أعلم. وهذا وارد على كثير من أدلة هذا القول المطلق. الدليل الثاني: أن العمل بخبر الواحد واجب، فدل على أنه يفيد العلم القطعي، إذ لو لم يكون مفيدا العلم القطعي لما وجب العمل به، لأن العمل بما ليس علما غير جائز، قال الله تعالى: {ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 2، ونهى الله أن يقال عليه ما لا يعلم فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإِثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} 12. والجواب أن العمل بما لا يفيد القطع من طرق الأحكام هو من العمل بالعلم، لقيام الأدلة القطعية على صحة الاعتماد على تلك الطرق في الوصول إلى الأحكام ووجوب العمل بها، فذلك مستند إلى القطع على الحجية، وليس ذلك من باب اتباع ما لا يعلم3. الدليل الثالث: أن احتمال كون الخبر المحتج به كذبا أو وهما أو خطأ في واقع الأمر - يلزم منه أمور باطلة في الشرع، ومن تلك الأمور: أ- اختلاط الحق بالباطل بدون تمييز، فلا يتميز ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته من أمور دينهم ودنياهم مما افتراه الوضّاعون أو غلط فيه الواهمون أو أخطأ فيه المخطئون، وذلك باطل شرعا لأن ضمان الشرع مكفول من الله تعالى. ب - لزوم أن يكون الله سبحانه قد أمر بالكذب والعمل بالباطل، لأنه أمر بالعمل بما أخبر به الواحد العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان ذلك يحتمل أن يكون كذبا لزم منه أنه تعالى أمر بذلك وكل ذلك غير صحيح4.
جـ- تبدّل الدين وتغيّر سنة الله وتحوّلها، لأن ما علّمه الرسول صلى الله عليه وسلم من شرائع الدين وبيان الذكر هو من سنة الله وكلماته، وقد أخبر الله تعالى أنها لا تبدل فقال: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} 1 وقال: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} 2 وقال: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} 3. د- إضلال الخلق، لأنه لو أمر بالعمل بخبر الواحد العدل ثم ثبت كونه كذبا أو خطأ لزم من ذلك ضلال العاملين به، بسبب ما أمروا من العمل به4. هـ- عدم تحقيق التبليغ، لأن التبليغ يكون بما تقوم به حجة الله على عباده، والحجة تحصل بما يحصل به العلم، وقد قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 5 وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينَ} 6، وعليه فإما أن يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ إلا القرآن وما رواه عدد التواتر من أخباره، وإما أن يقال إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علما ولا يقتضي قطعا ويقينا، وكلاهما باطل7.
ويرد على جميع ما ذكر في هذا الدليل من اللوازم الباطلة شرعا على عدم القول بالقطعية المطلقة أن العمل بالدليل لا يشترط فيه أن يكون الدليل المعمول به قطعيا، فليس كل ما أوجب العمل يوجب العلم القطعي، لأن بعض الأدلة الصالحة للاحتجاج شرعا - كالأقيسة - يجب العمل بها عند جماهير العلماء وقد لا تفيد العلم القطعي1، ومن ذلك أيضا العمل بما ترجح عند المجتهد من وجوه الأدلة المختلفة، فإنه واجب عليه قطعا مع جواز أنه قد لا يقطع به، بل قد يكون خطأ2، فلا يمكن أن يُستدل بحجية الدليل على قطعيته مطلقا. على أن كل هذه الأمور يلزم على خبر واحد مقيد كالخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وإلا فلا تلزم هذه الأمور في خبر صححه مستدل وهو غير صحيح عند غيره وقد يكون هو على خطأ. وسيأتي إن شاء الله تعالى - عند الكلام على القول الثالث - أن أغلب أدلة العلماء من جميع الأقوال تشير إلى أن المفيد للقطع خبر واحد احتف به - زيادة على قيود الحجية (العدالة والاتصال) - قرائن أخرى من تلقٍّ بالقبول أو شهرة رواته أو تعدد طرقه ونحو ذلك3.
الدليل الرابع: واستدل لهذا القول بما حدث من الوقائع الكثيرة التي قُبِل فيها خبر الواحد، بحيث دل على أنه أفاد العلم القطعي1، حدث ذلك من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومن الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تلك الوقائع: أ- قبول موسى عليه السلام خبر الذي جاءه من أقصى المدينة، قال الله تعالى في ذلك: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2، فقبل خبر الواحد وجزم به هاربا من المدينة خائفا من أن يدركه من أخبره الواحد عن ائتمارهم لقتله. ب- قبول موسى عليه السلام خبر ابنة صاحب مدين، كما ورد في قوله عز وجل: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَومِ الظَّالِمِينَ} 3. جـ- قبول موسى عليه السلام خبر أبيها فيما حكاه الله تعالى من
قوله: {قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمَتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} إلى قوله: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} الآية1. د- قبول يوسف عليه السلام خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك، وذلك في قول الله عز من قائل: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّ كَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونَ. يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} إلى قوله: {قَالَ ارْجِعْ إِلى رَبِكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية2. هـ- وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض المعاهدين له مواثيقهم، فيغزوهم النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أولئك الآحاد ويستبيح دماءهم وأموالهم وذراريهم. ومما ورد من ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قصة فتح مكة، فقد روي أن سببه أن بني بكر (حلفاء قريش) أغارت ليلا على خزاعة (حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم) وأعانهم قريش على ذلك بالسلاح وغيره خلافا لما كان المتفق عليه بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فذهب عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستنجده وأخبره في أبيات بنقض قريش الميثاق وإخلافهم العهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"نُصِرتَ يا عمرو بن سالم"، ثم استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة1. وفي الآثار عن الصحابة: و قبول أبي طلحة الأنصاري2 خبر الذي أتاهم بتحريم الخمر، وذلك في حديث أنس بن مالك3 رضي الله عنه قال: "كنت أسقي أبا عبيدة4وأبا طلحة وأُبيّ بن كعب5 من فَضيخ زهو وتمر6، فجاءهم آت فقال: إن
الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فاهرقها، فهرقتها"1، فأتلفوا مالهم الذي كان لهم حلالا يقينا بخبر واحد. ز- بل إن الصحابة أثبتوا بأخبار الآحاد الفروض والشرائع والتحليل والتحريم وجعلوا ذلك دينا يدان به، كما في إثبات أبي بكر الصديق رضي الله عنه ميراث الجدة بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة، وذلك فيما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما جاءته الجدة تسأل ميراثها، قال لها: ما لكِ في كتاب الله شيء وما علمت لكِ في سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم سأل الناس فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فأنفذه لها2. وأثبت عمر بن الخطاب3 رضي الله عنه دية الجنين بخبر حمل بن مالك4،
وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان1 وحده رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وذلك في حديث سعيد بن المسيب2 قال: "كان عمر يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى قال الضحاك بن سفيان: كتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورِّث امرأة أشيم الضبابي3 من دية زوجها، فرجع عمر"4. فكل أولئك لم يرتبوا على تلك الأخبار ما رتبوا من أمور ذات خطر عظيم وهم يجوزون أن تكون تلك الأخبار كذبا5.
ويرد على وجه الاستدلال بما سبق على أن خبر الواحد يفيد مطلقا العلم القطعي أمور: منها: أن ما نقل هو عملهم بخبر الواحد، ووجوب العمل بخبر الواحد ليس هو محل النزاع هنا، لأن الراجح أن خبر الواحد إذا صح بنقل العدول والاتصال لزم العمل به، مهما كان الحكم الذي يفيده قد بلغ من الخطورة والعظم، سواء أفاد القطع عند المستدل أم لم يفد، كيف ويجوز إثبات الحدود التي فيها القطع وهتك العرض - بالقياس عند كثير من العلماء1 مع أن القياس قد لا يقطع به. ومنها: أنه ليس فيما نقل من الوقائع ما يدل على أن الذين عملوا بتلك الأخبار قد قطعوا بمدلولها، بل قد يكون ذلك جاريا على ما استقر في العادة من وجوب العمل بالظواهر في المعاملات والأقضية عند اعتقاد الرجحان من دون قطع. ومنها: أنه ليس في تلك الوقائع أنه لم يكن مع الأخبار التي فيها قرائن القطعية. فما يفيده هذا الدليل هو حجية خبر الواحد ولزوم العمل بما يفيده مهما كان من العظم، وليس يلزم إذا عمل بالخبر في أمر عظيم أن يكون العامل به قد
قطع بمدلوله وحصل عنده يقين جازم بمغيبه. والله تعالى أعلم. القول الثالث: أن خبر الواحد الواجب العمل به في الشرع قد يفيد العلم القطعي إذا احتف به قرائن القطعية، وذلك كتلقي الأمة له بالقبول والعمل وكون رواته من المجمع على عدالتهم ورجوع الخبر في معناه إلى القرآن الكريم، ونحو ذلك من المعززات للخبر في سنده ونقَلَته أو في معناه ومتنه، فكل ذلك لا يزال يُبعد احتمال الكذب والنسيان ونحوهما عن رواته ويُقصي احتمال الوهم والخطأ ونحوهما في متنه ومعناه بما يعزز ثبوته حتى تستقر في مثل هذا الخبر القطعية عند المطلع على ذلك ويتيقن نفي كل احتمال في ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم1. رجوع أقوال العلماء إلى القول الثالث: وهذا القول هو الذي يرجع إليه - بعد التحقيق - قول أكثر العلماء، يستفاد ذلك ليس من إطلاقاتهم فقط ولكن منها ومن استدلالاتهم وردودهم وأجوبتهم عند المناقشة، ولكي يتبين هذا التحقيق ينبغي توضيح أمرين: تحقيق المراد بالقرائن ههنا، ثم أن مذهب أكثر العلماء راجع إلى الإقرار بهذا القول على الجملة.
الأمر الأول: قرائن القطعية في كل دليل تكون من جنس ما يجعل ذلك الدليل أقوى في الثبوت أو في الدلالة، وليس كل ما يفرض من قرائن يمكن أن يقوّي كل دليل، فليست قوة إسناد القياس إلى المجتهد القائس بمقوٍّ له، وإنما الذي يقويه هو ما من شأنه أن يقوي ثبوت كون الوصف علةَ الأصل أو يقوي وجودها في الفرع. والمراد بقرائن القطعية في خبر الواحد هنا كل ما من شأنه أن يقَوّي الخبر في ثبوته وينفي عنه احتمالات النسيان والخطأ والوهم أو الكذب مما ليس لازما للخبر المقبول شرعا كالعدالة والاتصال، فتكون قرينة القطعية هنا أخص من مطلق القرائن التي يمكن احتفافها بالدليل1، بل وأخص من مطلق القرائن التي يمكن أن تحتف بمطلق خبر الواحد، لأن المراد هنا خبرُ واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرائن هنا ما كان من قبيل الأمور المتعلقة برجال السند من قوة أو كثرة والأمور المتعلقة بما يعزز الحكم الذي أفاده الخبر كأن يوجد في معناه آية أو خبر آخر. وجعل الحافظ ابن حجر - رحمه الله - الخبر المحتف بالقرائن راجعا إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: خبر الصحيحين أي صحيح الإمام أبي عبد الله
البخاري1 وصحيح الإمام مسلم بن الحجاج2رحمهما الله، وذلك لما لكتابيهما من مزايا وخصائص عند المسلمين. النوع الثاني: خبر دون المتواتر له طرق متعددة مشهورة. النوع الثالث: خبر تسلسل في روايته الأئمة الحفاظ المتقنين وتعاقب في نقله من المشهود لهم بالأمانة والورع والتقوى والفضل والحفظ والإتقان. ثم نبه الحافظ على أن تلك القرائن لو اجتمعت في خبرٍ واحد فإن ذلك يضفي عليه من القوة ما قد يُسرع كثير ممن وقف عليها إلى القطع بذلك الخبر3. هذا، ويقع التمثيل في كثير من كتب الأصول ببعض أنواع القرائن التي تحتف بالخبر: مثل خروج والد الذي أَخبر العدل عن وفاته حاسرَ الرأس حافي القدمين وما يتلو ذلك من مشاهدَ غيرِ معتادة في نفسه وحشمه4،
ونحو ذلك من القرائن. والظاهر أن المقصود من ذلك تقريب صورة قرائن القطعية في الخبر، وإلا فلا يظهر كيف يمكن أن تحتف عين هذه القرائن أو مثلها بخبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتطريق الاحتمالات إلى مثل هذه القرائن التي وقع التمثيل بها بذكر أمور قد تقع في بعض الأزمان المتأخرة وفي شئون هذه الدنيا حيث الأطماع والأغراض ... لا ينفي ذلك كون قرائن القطعية في خبر الواحد الذي هو من الأدلة الشرعية التي يثبت بها الحلال والحرام ... مفيدةً العلم القطعي لمن وفّقه الله للوقوف عليها وأنار قلبه لاستنباط اليقين منها1.
الأمر الثاني: ويبين أن هذا القول الوسط هو الذي يرجع إليه قول كثير من العلماء أمور منها: أولا: أنه قد تجد أحدهم عند الكلام على المسألة المعقودة لقطعية خبر الواحد يوحي كلامه بالنفي المطلق، ثم تجده في مواضع أخرى يذهب إلى أن خبر الواحد يفيد العلم القطعي إذا تلقته الأمة بالقبول أو كان بحضرة جماعة كثيرة لم ينكروا سماعه ممن ادعى سماعه منه أو نحو ذلك مما قد لا يسميها قرينة، مع أن كل ذلك أمور زائدة على مطلق خبر الواحد، فهي داخلة في المراد بالقرائن ههنا1. ثانيا: أنه قد ينفي أحدهم قطعية خبر الواحد مع قرائن معينة من غير أن يدل كلامه على نفي أصل قطعية خبر الواحد مع القرائن2، لذا قال القرافي لما أورد اعتراضا على قطعية خبر الواحد بوقوع قرائن كثيرة مع أخبار لم تفيد القطع: "إنا نمنع أن الحاصل من تلك الصور علم بل اعتقاد، ونحن لا ندعي أن القرائن تفيد العلم في جميع الصور بل في بعضها"3.
ثالثا: أنه تجد أحدهم قد توهم عباراته بالإثبات المطلق في مواضع ثم تجده في مواضع أخرى يبين أن سبب القطعية بعض الأمور التي خفيت على من نفى القطعية، ولا يمكن أن تكون تلك الأمور إلا زائدة على مطلق خبر الواحد الحجة. فهذا ابن القيم لما استدل بقصة قباء على قطعية خبر الواحد قال: "وغاية ما يقال أنه خبر اقترنته قرينة ... ومعلوم أن قرينة تلقي الأمة له بالقبول وروايته قرنا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها، فأي قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها"1، بل جاء مصرحا في مختصر الصواعق المرسلة أن الكلام في هذه المسألة "في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرب وأفعاله"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصحيح أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتف به قرائن تفيد العلم ... ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يَعلم علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله تارة لتواتره وتارة لتلقي الأمة له بالقبول ... وتارة يكون علم أحدهم لقرائن تحتف بالأخبار توجب
لهم العلم، ومَن عَلِم ما علموا حصل له من العلم ما حصل لهم"1. فتعليق القطعية في خبر الواحد بأمور اطلع عليها القاطع بالخبر وجهلها من لم يقطع به - دليل على أن القطعية ليست مطلقة، بل سببها تلك الأمور وهي قرائن القطعية في خبر الواحد بمعناها المناسب هنا. وبهذا النظر خرّج القاضي أبو يعلى الفراء قول الإمام أحمد بن حنبل في المسألة فحمله على أن مراده بالخبر القطعي خبرٌ نقله آحاد الأئمة المتفق على عدالتهم وثِقَتهم وتلقته الأمة بالقبول2. وبه أيضا ذهب الشيخ أبو عمرو بن الصلاح إلى أن ما أسنده البخاري ومسلم في صحيحيهما يفيد العلم القطعي، "لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ"3.
وبه رَدَّ النووي ما ذكره ابن الصلاح وخالفه، لأنه لم ير قرينة رواية الشيخين للحديث بالغة قدرا يفيد مع الخبر العلم القطعي، لذا قال معقبا على ما ذكره: "ولا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم"1. وبه صحَّح الحافظ ابن حجر وغيره مذهب ابن الصلاح وردّ ما ذكره النووي بأنهم إذا أجمعوا على العمل به ولم يكن صحيحا كانوا قد أجمعوا على العمل بالباطل، وذلك غير ممكن2. فكل ذلك من باب الخلاف في قرينة معينة هل هي من قرائن القطعية أم لا؟ رابعا: أن الحافظ ابن حجر جعل الخلاف في قطعية خبر الواحد لفظيا، بناء على أن العلم الذي أثبته القائل بالقطعية ليس هو العلم الذي نفاه غيره فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد، وذلك أن المثبت في رأي الحافظ أثبت علما نظريا حاصلا عن استدلال والنافي نفى علما قطعيا3، لذا
فهو يفرق في العبارة بين أن يقال: إن خبر الواحد يفيد العلم النظري وبين أن يقال: إنه يفيد العلم اليقيني القطعي، وذكر أن خبر الصحيحين يفيد الأول دون الثاني لأن خبرهما يقبل الترجيح قال: "فلو كان الجميع مقطوعا به ما بقي للترجيح مسلك"1. وهذا - وإن كان قد لا يُسلم أن الخلاف لفظي2 - يدل على أن أقوال العلماء في هذه المسألة تتقارب، إذا حقق النظر في حقيقة كل قول. خامسا: أن القول بأن خبر الواحد قد يفيد العلم مع القرائن في الجملة هو اختيار طائفة من مشاهير علماء أصول الفقه من المتكلمين وغيرهم،
منهم الجويني1 والغزالي2 والرازي3 والآمدي4 وغيرهم5، وذكر الزركشي أن قطعية خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول هو قول كثير من الأصوليين6. وقد يرد لأولئك عبارات تشير إلى خلاف ما سبق عنهم، وذلك محمول إما على الخلاف في قرائن معينة وإما على الوفاق في أصل المسألة مع عدم القول بالوقوع لقلة التجربة. فمن ذلك أن الغزالي قال مشيرا إلى المسألة: "أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرائن" قال رحمه الله: "فهذا مما لا يُعرف استحالته ولا يُقطع بوقوعه فإن وقوعه إنما يعُلم بالتجربة ونحن لم نُجَرِّبه7،
ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدنا جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله ثم انكشف أنه كان تلبيسا"1. ومن ذلك أن عبد العلي الأنصاري2 استَبْعَد تحققَ قرائن القطعية في خبر الواحد مع التسليم بجواز احتفاف قرائن القطع به، فقال في بيان أنواع القرائن التي يمكن أن تحتف بالخبر: " ... وإن كانت القرائن قرائن صدق المخبر فإن كانت دالة عليه قطعا فإذا أخبر مع وجود تلك القرائن حصل القطع بصدق الخبر وتحقق مضمونه قطعا"قال: "لكن الكلام في تحقق مثل هذه القرائن في غير المعصوم وأهل الإجماع، فإنه لم يدل دليل على تحققها في مادة من المواد فلا بد من إثبات تحققها، ودونه خرط القتاد"3.
فتبين أن أصل جواز أن يكون مع الخبر قرائن القطعية مسلم عند كثير من العلماء، وإن كانوا ربما نفوا القطعية مع قرائن معينة أو مثلوا ببعض القرائن التي يمكن احتفافها بمطلق الخبر لا خبر الواحد العدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استبعدوا اجتماع قرائن القطعية لانتفاء التجربة. أدلة القول الثالث: الدليل الأول: أن مجرد الخبر قد يفيد العلم بدون قرائن وذلك عند كثرة المخبرين كما في الخبر المتواتر، والقرائن المجردة قد يفيد العلم أيضا وإن لم يكن معها خبر، وذلك كما إذا رأينا شخصا يكثر من النظر إلى آخر مستحسَن فإنا نظن حبه له، فإذا اقترن بذلك ملازمته له زاد الظن، ولا يزال الظن يتزايد بزيادة خدمته له وبذل ماله له وتغير حاله بسببه إلى غير ذلك من
القرائن حتى يحصل العلم بحبِّه، كما في تزايد الظن في أخبار الآحاد حتى يصير تواترا"، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيعزز بعضها بعضا وتقوم بعض القرائن مقام بعض المخبرين فيكون كالكثرة في الأخبار. ومن ذلك أيضا أنه قد يخبر عدد من المخبرين عن موت ولد ولا يحصل العلم بصدقهم "لكن إذا انضم إلى خبرهم خروج والد المخبَر عن موته من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثوب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة - فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد". كما أن القرائن قد تكون من الكثرة قد بلغت حدا لم يبق بينها وبين إفادتها العلم القطعي إلا قرينة واحدة فيقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة1. الدليل الثاني: الوقوع أي أنه قد وقع العلم بالخبر المحتف بالقرائن: - وأشرف ما وقع من ذلك وألصقها بالمسألة حصول العلم القطعي ببعض الأحاديث غير المتواترة لأهل الحديث وغيرهم ممن اطلع على ما اطلعوا من القرائن التي ترجع إلى طرق الحديث وعددها ورواته
واختلاف مخارجه وموقف العلماء قاطبة من الخبر ونحو ذلك1. - ومن ذلك أيضا إذا أخبر واحد مع كمال عقله وحسه بحياة نفسه وكراهيته الألم وهو في أرغد عيشه نافذ الأمر قائم الجاه - أنه قتل من يكافئه عمدا وعدوانا بآلة يقتل مثلها غالبا من غير شبهة له في قتله ولا مانع له من القصاص، كان خبره مع هذه القرائن موجبا صدقه عادة2. - ومن ذلك أنه قد يعلم كون الشخص خجلا أو وجلا بقرائن تكون عليه3. - ومن ذلك أن المريض قد يخبر عن ألم في بعض أعضائه مع أنه يصبح وتُرى عليه علامات ذلك الألم ثم إن الطبيب يعالجه بعلاج لو لم يكن صادقا في قوله لكان ذلك العلاج قاتلا له، فيحصل العلم بصدقه في خبره عن الألم في عضوه4. الدليل الثالث: أن مدار نفي القطعية في الخبر على احتمال الخطأ أو الوهم أو الكذب في المخبِر لعدم عصمته، والقرائن التي تحتف بالخبر تؤثر في إزالة هذا الاحتمال ورفعه حتى يصبح احتمال كذب المخبِر العدل مع تلك
القرائن بعيدا مطرحا قريبا من احتمال كذب الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما أخبروا1. الدليل الرابع: أن هناك قرائن معينة لا يمكن أن تكون كذبا حتى لو انفردت، فكيف إذا كانت مع خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل تلقي الأمة للخبر بالقبول والعمل فإن ذلك لا يكون إلا حقا، لأنهم وإن استند كل واحد إلى ظن فباجتماعهم يتقوّى ظنهم2. الراجح: بعد ذكر الأقوال وأدلتها وما أمكن من إيراد الاعتراض على بعضها يظهر - والله أعلم - أن الراجح في هذه المسألة هو القول الثالث، وهو أن خبر الواحد العدل المتصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قد يفيد العلم القطعي إذا احتفت به من قرائن القطعية قدر يكفي الناظر في الخبر وتلك القرائن من القطع واليقين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قاله وأن نقلة الخبر لم يهموا ولا نسوا فيه، بل أدَّوْه كما سمعوا كلٌ ممن نقل عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يلزم أن يكون مثل هذا القطع حاصلا لكل أحد سمع الخبر مجردا
من قرائن القطعية أو وقف منها على قدر لا يكفيه في القطع بالخبر واليقين، فلا عليه عندئذ أن يكتفي باعتقاد الرجحان والظن الغالب الموجب للحجية ووجوب العمل، فإن العلم في مثل هذا منة من الله وفضل، وقد أوجب جلت حكمته العملَ بما دون ذلك. فالقطعية في خبر الواحد من القطعية المقيدة التي لا يلزم اطرادها لجميع من وقف على الدليل، ذلك أن سبب القطعية ليس الخبر وحده حتى يكفي مجرد سماع الخبر المحتج به في أن يقطع السامع، بل سببها الخبر مع قرائن القطعية التي يحتاج الناظر للاطلاع عليها إلى جهد واستقراء وبحث عن الرجال والطرق والشواهد. ولا مجال هنا للعقل المجرد عن شهادة الواقع أو الشرع ليطرّق إلى القطعية من هذا النوع الاحتمالات العقلية التي لا تشهد لها العادة بالوقوع
فيقال: إن ذلك احتمال عقلي في مطلق الخبر الذي يرويه مطلق العدل، أما إذا كان المراد خبر الواحد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحب ذلك الاطلاع على خاصة الرواة وأحوالهم وسِيَرهم وما كانوا عليه من الصلاح والضبط والإتقان والحفظ وعزّز ذلك ورود الخبر من طرق أخرى مع تلقي الأمة له بالعمل ... فإن ذلك يرفع الاحتمالات ويتركها ضعيفة بعيدة في ضعف أوائل الإمكان، فلا يصيب هذا الدليل القول بقطعية خبر الواحد مع قرائنها، لوروده على خبر مطلق غير محفوف بقرائن. ومن أقرب أدلة القول بالإثبات المطلق: أن الخبر المقبول شرعا الذي يجب العمل به إذا احتمل أن يكون كذبا أو وهما لزم من ذلك ضياع الحفظ المضمون للذكر وبيانه وكان تقولا على الله بغير علم. فيقال: إن تلك اللوازم لا تلزم على مجرد خبر الواحد، بل على خبر واحد تعزز بتلقي الأمة له بالقبول والعمل به، وذلك خبر واحد مع قرينة التلقي بالقبول. ومنها: أن هذا القول هو الذي يرجع إليه قول كثير من العلماء، إذا اعتبر بلواحق كلامهم وقرائنه وسوابقه والله تعالى أعلم. أثر اختلاف منهج البحث في المسألة: ويبقى هنا التنبيه على أمر قد يكون من سبب انتشار الخلاف في هذه المسألة، وهو أنه ربما تكون المسألة مبنية على اختلاف في منهج البحث في
قواعد الأدلة الشرعية: وهو أن نفي قطعية خبر الواحد مبني على النظرة التجريدية إلى أصول الفقه وأدلته عند تأصيل القواعد المتعلقة بتلك الأصول والأدلة، وإثبات القطعية ربما كان مبناه النظرة الشاملة للأدلة وأصول الفقه عند تأصيل قواعد الأدلة، أي النظر في القرائن واستقراء ملابسات الدليل أو القاعدة والنظر إلى جميع ما من شأنه أن يبين ذلك من الجزئيات والمقاصد الشرعية. والنظر الأول هو الغالب في كتابات المتكلمين ومن نهج طريقتهم في أصول الفقه، فيكثر عندهم نفي القطعية ويعنون بذلك مطلق خبر واحد عدل، بل ربما أُخِذ من كلام بعضهم أنه ينازع في مطلق خبر واحد عدل أو فاسق1. والنظر الثاني هو نظرة من يأخذ في الاعتبار شواهد الدليل ويستقرئ قرائنه عند الكلام عليه، ومحققو المحدثين - ممن ينظر في الشواهد والمتابعات2 وأحوال السند والطرق المختلفة للأخبار - يقفون على القرائن الكثيرة المعززة للخبر، فيكثر عندهم القول بقطعية خبر الواحد ويعنون به خبرَ واحدٍ احتف به قرائن اطلعوا عليها3، وهذا النظر من أهم خصائص منهج الإمام
أبي إسحاق الشاطبي1 - رحمه الله تعالى - في بحث أصول الشريعة وقواعدها. والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث: أحكام القطعية في الكتاب والسنة من جهة الدلالة
المبحث الثالث: أحكام القطعية في الكتاب والسنة من جهة الدلالة المطلب الاول: قطعية النص ... سبق أن بحث القطعية في الدليل من الكتاب أو من السنة - وهما من الأدلة اللفظية - يرد فيه الجهتان من القطعية، وقد تقدم الكلام على أحكام القطعية فيهما من جهة الثبوت، وتبين أن حقيقة بحث القطعية في ذلك راجع إلى بحث أحكام القطعية في السنة النبوية من قطعية المتواتر وقطعية خبر الواحد، والكلام هنا في القطعية فيهما من جهة الدلالة، وتعلق أحكام القطعية في ذلك يكون في الكتاب والسنة جميعا. المطلب الأول: قطعية النص تقسيمات الدلالة وموقع النص منها: قبل الكلام على قطعية النص نعرض لتقسيمات الدلالة عند العلماء حتى يتبين موضع النص من ذلك، فقد قسم العلماء - رحمهم الله - دلالة اللفظ على المعنى تقسيمات متعددة بتعدد العلاقة بين اللفظ وبين ما يدل عليه من المعنى. فهناك تقسيم بالنظر إلى تعدد مدلول اللفظ أوتوَحُّده فيكون اللفظ إما عاما أو خاصا. وتقسيم بالنظر إلى أن المدلول في محل النطق أو أنه يفهم في غير محل النطق، فيكون اللفظ إما منطوقا أو مفهوما، ثم ينقسم كل ذلك تقسيمات
كثيرة تبعا لتعدد النظر في الأمر الذي ينبني عليه التقسيم كموافقة المفهوم للمنطوق أو عدم موافقته. وتقسيم بالنظر إلى وضوح المدلول من اللفظ أو عدم وضوحه، وهو الذي ينقسم به اللفظ إلى نص وظاهر ونحوهما، وهو موضوع هذا المبحث. وتقسيم بالنظر إلى "وجوه الوقوف على المراد والمعاني على حسب الوسع والإمكان وإصابة التوفيق"1، وهو الذي تتفرّع عليه عند الحنفية دلالة العبارة ودلالة الإشارة ودلالة النص ودلالة الاقتضاء. وتقسيم بالنظر إلى أن المدلول مستعمل في ما وضع له أوَّلاً أو لا ... 2 ثم إن العلماء - رحمهم الله تعالى - لم تتحد مناهجهم في النطر إلى تلك العلاقة بين اللفظ وبين مدلوله، وقد اشتهر خلاف الحنفية للجمهور في
تقسيم دلالات الألفاظ1. لكن التقسيم الذي انبنى على النظر في وضوح المعنى من اللفظ حتى يصل إلى القطعية أو عدم وضوحه فيكون دون القطعية من الظهور - هو تقسيم الجمهور اللفظ إلى نص وظاهر وما يقابله من تقسيم الحنفية اللفظ إلى ظاهر ونص ومفسر ومحكم. فتقسيم دلالة اللفظ - بالنسبة لمطلق قطعية الدلالة وعدمها - هو ما سبق، لأنه التقسيم الذي انبنى النظر فيه على وجود احتمال في دلالة اللفظ على غير ما ظهر منه أو عدم احتمال ذلك، ثم النظر - بعد ذلك عند الحنفية - إلى قلة الاحتمال المؤثر في وضوح الدلالة أو كثرته. فاللفظ المحتمل لغير المعنى الذي هو راجح فيه هو (الظاهر) ، والصريح الذي لا يحتمل غير ما دل عليه هو (النص) ، هذا عند الجمهور. أما الحنفية فالاحتمالات الواردة على اللفظ في هذا النظر ثلاثة: احتمال اللفظ غير ما ظهر منه واحتماله التخصيص واحتماله النسخ، فإن احتمل اللفظ الثلاثة الاحتمالات فهو (الظاهر) ، وإن احتمل التخصيص والنسخ دون الاحتمال الأول فهو (النص) ، وإن احتمل النسخ دون الاحتمالين السابقين فهو (المفسر) ، وإن لم يحتمل أيا من الاحتمالات الثلاثة فهو (المحكم) .
غير أن مما اختص به جمهور الحنفية أن الاحتمالات الواردة في اللفظ هنا إذا لم يكن لها ما يعضدها فلا يعتد بها، فيكون (الظاهر) فما فوقه قطعيا إذا لم تتعزز الاحتمالات الواردة عليه بدليل، ثم تبقى فائدة التقسيم في الترتيب عند التعارض1. فحقيقة تقسيم دلالة الألفاظ - بالنظر إلى اختلاف القطعية - ترجع إلى تقسيم الجمهور، والدلالة القطعية فيه هي دلالة (النص) 2. تعريف النص: قال ابن فارس: "النون والصاد أصل صحيح يدل على رفع وارتفاع وانتهاء في الشيء، ومنه قولهم: (نصّ الحديث إلى فلان) رفعه إليه، والنص في السَّير: أرفعه ... ونصُّ كل شيء منتهاه"3. ومنه منصة العروس: وهي ما تظهر عليه لترُى4.
وأما إذا أخذ النص في اصطلاح من يستعمله فيما لا احتمال فيه1 فله تعريفان: الأول: أنه اللفظ الذي لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا عن قرب ولا عن بعد. الثاني: أنه اللفظ الذي لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل2. فكون الدليل (نصا) هو قطعيته من جهة الدلالة وبلوغه غاية الوضوح والظهور ومنتهى البيان بارتفاعه فوق موارد الاحتمالات ومتطرق الشبه في الدلالة، وإلى هذا تشير تعريفات أهل العلم له3. وما سبق من اختلاف تعريف النص مبني على اختلاف التعريف في القطع واختلاف مسالك العلماء في الاعتداد بالاحتمال في إزالة القطعية4.
على أن ما دون النص من الظهور والرجحان قد تحتف به قرائن القطعية فتدفع عنه الاحتمالات ويستوي غير النص وضعا بالنص في قطعية الدلالة، فإن القطعية كما يكون سببها مجرد اللفظ وهي القطعية القريبة المطلقة، كذلك قد يكون سببها القرائن المحتفة بغير القطعي والتي ترفعه إلى القطعية والنصية1. مثّل لذلك بعض العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع الرطب بالتمر، قال: "أينقص الرطب إذا جف؟ "، قالوا: نعم، قال "فلا إذا"2، فإن قرائن السياق تدل قطعا على أن المراد من النفي في قوله (فلا) نفي الجواز أي المنع من البيع، من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم إنما سئل عن الجواز فالنفي في الجواب للجواز الواقع في السؤال إذ السؤال يقع على الجواب، ومن ذلك التعليل بالنقص فإن نقص أحد العوضين مناسب للمنع في الربويات وليس الجواز. وبه يتبين ضعف قول من ذكر أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا إذا" يحتمل أن يكون المنفي الجواز بتقدير: (فلا يجوز إذا) وأنه يحتمل أن يكون المنفي البأس فيقدر:
(فلا بأس إذا) 1 ويكون المعنى على الاحتمال الثاني جواز البيع. مثال النص: قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "والبيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع ... وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدِ بيانٍ من بعض ... فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه مما تعبدهم به ... من وجوه: فمنها ما أبانه لخلقه نصا مثل جمل فرائضه في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما وأنه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبين كيف فرض الوضوء"2. ومثل الإمام الشافعي لذلك من الأدلة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 3، قال: "فكان بَيِّناً عند من خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبعة في المرجع عشرة كاملة"4، ومثّل بقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} 5.
فكل هذا قطعي في وجوب صيام عشرة أيام على المتمتع وأن ميقات الرب تعالى لموسى أربعون ليلة. وفي الآيتين زيادة في تبيين جملة العدد في السبع والثلاث وفي الثلاثين والعشر. ومثل القاضي أبو بكر الباقلاني للنص بقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ} 1 قال: "وأمثال ذلك من النصوص الظاهرة التي لا إشكال ولا احتمال في المراد بها"2.
المطلب الثاني: قطعية العموم
المطلب الثاني: قطعية العموم من مباحث القطعية في الكتاب والسنة قطعية ما وقع فيهما من الألفاظ العامة1، وبحث القطعية في العموم هو من حيث الدلالة، لأن العموم قد يكون من جهة الثبوت قطعيا كما إذا كان اللفظ العام في الكتاب أو في السنة المتواترة أو في خبر الواحد الذي احتفت به قرائن القطعية، وقد لا يكون العام قطعيا من جهة الثبوت كما لو وقع في خبر واحد لم تحتف به قرائن القطعية فترجحت صحته على ضعفه مع احتمال. قطعية الخاص: وقبل البدء في بحث القطعية في العموم يحسن ذكر رأي العلماء في قطعية الخاص. والخاص: هو اللفظ الدال على مسمى معلوم بعينه أو على كثير محصور، والخصوص: هو كون اللفظ كذلك2، كألفاظ العدد.
ولا خلاف في قطعية الخاص من حيث كان العام غير قطعي، فيتفق العلماء على جواز إطلاق القطعية على الخاص1، لكن قطعية اللفظ الخاص هي بالنظر إلى مقابلته للفظ العام لأن الخاص لا يحتمل التخصيص من حيث هو خاص والعام قد يحتمله، أما إذا كان اللفظ خاصا من وجه وعاما من وجه آخر فالقطعية فيه من حيث هو خاص، والخلاف في قطعية العام جار فيه من حيث هو عام. وذلك كلفظ (المسلمين) ، هو عام بالنسبة لأفراد المسلمين خاص بالنسبة لأفراد بني آدم، فإذا قيل: "أَكْرِم المسلمين" كان قطعيا في عدم شموله لغير المسلم ولم يكن في ذلك احتمال مطلقا بل كان الأمر بالإكرام خاصا بالمسلمين قطعا، ولكنه ظاهر في دخول جميع المسلمين في الأمر فيجري فيه الخلاف في قطعية العام، هل شمول لفظ (المسلمين) لكل فرد مسلم يقطع به أم لا؟ 2 والله تعالى أعلم.
تعريف العام: قال الجوهري: "العامة خلاف الخاصة ... عَمَّ الشيء يعم عموما: شمل الجماعة، يقال: عمهم بالعطية"1، وقال ابن فارس: "العين والميم أصل صحيح واحد يدل على الطول والكثرة والعلو ... ومن الجمع قولهم: (عَمَّنا هذا يعمنا عموما) إذا أصاب القوم أجمعين"2. أما في اصطلاح علماء الأصول فهو: كلام مستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة بلا حصر3. فخرج بقيد الاستغراق نحو قولك: (بعض الحيوان إنسان) فإنه لا
يستغرق، وخرج بقيد (بحسب وضع واحد) مثل المشترك كلفظ (العين) فإنه يتناول ما يصلح له من العين الجارية والعين الباصرة ... لكن بوضعين فصاعدا، وخرج بقيد (دفعة) النكرة في سياق الإثبات مثل (اضرب رجلا) فإن استغراقها بدلي لا دفعة واحدة، وخرج بقيد (بلا حصر) ألفاظ العدد كلفظ (عشرة) فإنه محصور باللفظ. فمعنى قطعية العام: هل يتيقن أن اللفظ العام مجردا شاملٌ لجميع ما يصلح له أم أن شموله لذلك على سبيل الظهور والرجحان دون اليقين والقطع. مثال العام قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 فإن حَدّ القطع شامل لكل سارق استنادا إلى حجية العموم عند جميع القائلين بحجيته، والخلاف في القطعية بعد ذلك معناه هل يقطع بدخول كل سارق في هذا الحدّ استنادا إلى مجرد لفظ (السارق) مع فرض خلوِّه من جميع القرائن المبينة أم أن ذلك معمول به مع احتمال التخصيص بالنسبة لأي فرد من أفراد السارقين. تحرير محل النزاع: ويتحرر محل الخلاف في قطعية العام بأمور:
الأمر الأول: أنه ليس الخلاف هنا في حجية العام، أي دلالة الصيغ والألفاظ الموضوعة للعموم عليه، وصحة الاحتجاج بها في إثبات الأحكام الشرعية، لأن القطعية فرع عن الحجية، فمن خالف في وجود صيغ موضوعة للعموم فعدم كونه قائلا بقطعية تلك الصيغ في العموم أمر ظاهر، لذا ينحصر الخلاف في هذه المسألة في القائلين بالحجية دون المانعين1. الأمر الثاني: ليس الخلاف في دلالة اللفظ العام على معناه الأصلي في وضع اللغة، فلفظ (الرجال) موضوع في اللسان لجَمْع الرجال، وإنما الخلاف في هل يتيقن أن المتكلم بذلك يريد كل ما يصلح له اللفظ أم أنه يحتمل أنه يريد به بعض ذلك، أي أن الخلاف في إرادة المتكلم الشمول من اللفظ لا في معنى اللفظ وضعا2. الأمر الثالث: الخلاف في العام المطلق أي الذي لم يقترن به ما يدل على كونه مرادا به بعض ما يصلح له اللفظ أو كله على سبيل القطع، فما دلت القرائن على قطعية العموم أو عدم قطعيته فيه لا يختلف في أنه على
حسب ما دلت القرائن. ومن العام القطعي بالقرائن قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 وقوله جل شأنه: {لِلَّهِ مَا في السَّمَوَاتُ وَمَا في الأَرْضِ} 2 وقوله عز وجل: {وَمَا مِنْ دَابَةٍ في الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ في كِتَابٍ مُبِينٍ} 3، فكل ذلك مما علم قطعا عمومه. ومما دلت قرائن القطعية على عدم العموم فيه قول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 4، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "باب بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص" وذكر الآية السابقة ثم قال: "فإذا كان مَن مع رسول الله ناساً غير من جَمع لهم الناس وكان المخبرون لهم ناساً غير من جَمع لهم وغير من معه ممن جُمع عليه معه وكان الجامعون لهم ناسا - فإن الدلالة بيِّنة مما وصفت من أنه إنما جَمع لهم بعض الناس دون بعض، والعلم يحيط5 أنه لم يَجمع لهم الناسُ كلُّهم ولم يخبرهم الناسُ كلُّهم ولم يكونوا هم الناسَ كلَّهم ... وإنما هم جماعة غير
كثير من الناس الجامعون منهم غير المجموع لهم والمخبرون للمجموع لهم غير الطائفتين، والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرين"1. فهذا مما علم بقرائن القطعية أن المراد به غير العموم. فمدار عدم القطعية على احتمال الخصوص مع رجحان العموم، فإذا كان معلوما بالقرائن والأدلة الأخرى انتفاء احتمال الخصوص خلص اللفظ للقطعية، وكذلك إذا علم بقرائن القطع أن المراد من العام بعض مما يصلح له قطعا لم يرد الخلاف في هل هو قطعي أم لا2. الأمر الرابع: العام الذي خُصّ بدليل موجب للتخصيص قابل للتعليل لا يدخل في محل النزاع بين الجمهور والحنفية، لأن الحنفية لا يقولون بقطعية العام في مثل ذلك، إلا ما نقل عن بعضهم من أن التخصيص إذا كان بقطعي وكان المخصوص معلوما قطعا - أن العام يبقى قطعيا فيما بقي بعد التخصيص، وإذا خص منه مجهول لم يبق قطعيا3.
الأمر الخامس: ليس مما يتنازع فيه ورود الاحتمال في اللفظ العام عقلا، لذا كان العام عند الحنفية قطعيا نصا غير مُحكَم لاحتمال التخصيص عقلا، فقطعيته عندهم بالمعنى الأعم للقطعية وهو مبني على طرح الاحتمال الذي لا يعضده دليل1. الأمر السادس: عدم قطعية العام يعني احتمال ألا يراد بحكمه أي فرد من أفراده الداخلة فيه وضعا، وربما دلت القرينة على عدم احتمال الخصوص في فرد معين من أفراده، فلا يكون ذلك الفرد المعين من جملة ما يحتمل ألا يراد في حكم العام. وذلك مثل الصورة التي ورد العام عليها، فهي قطعية الدخول فيه عند أكثر العلماء، ونُقل عن تقي الدين السبكي أنه يذهب إلى أن صورة السبب ليست قطعية الدخول في العموم كغيرها من أفراده إلا إذا دل دليل آخر - غير كونها صورة السبب الوارد عليها العام - على دخولها فيه، لأن المقطوع هو بيان حكم السبب وذلك معلوم مع تقدير خروجه من اللفظ العام2.
ولعل الخلاف في هذا راجع إلى الخلاف في قرينة كون هذا الفرد صورة السبب وهل ذلك من قرائن القطع على تناول العام له أم لا؟ فعند السبكي ليست هذه القرينة من قرائن القطعية في العموم، خلافا لأكثر العلماء1، وذلك لا يمنع من أن السبكي يرى كون بعض أفردا العام قطعي الدخول فيه إذا دلت القرينة على ذلك، وفي كلامه ما يشعر بذلك. فالحاصل أن العام الذي اقترن به ما يدل على دخول بعض أفراده فيه قطعا خارج من محل الخلاف، لأن العام ليس مطلقا من القرينة بالنسبة لذلك الفرد. والله تعالى أعلم. الأمر السابع: أدخل الزركشي في محل النزاع اللفظ المطلق وهل ماهيته وشيوعه في جنسه قطعية أم ظاهرة، لأن الإطلاق عموم على سبيل البدل وماهيته صالحة لعموم أفراده2، وأخرجه الأنصاري من محل النزاع، فجعله من باب الخاص فهو قطعي الدلالة بالنسبة لاحتمال التخصيص3. والتحقيق أن النظر الأول في صلوحه وهو عام فيدخل في محل النزاع، والنظر الثاني صدقه في الواقع وهو في ذلك خاص بفرد مما يصلح له فلا يدخل في النزاع في قطعية العام، فقوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن
نسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 1 (رقبة) عام باعتبار صلوحه لسائر أنواع الرقاب على سبيل البدل، وليس عاما بالنظر إلى أنه لا يجب عتق جميع الرقاب2. وعليه يمكن أن يختلف في كون لفظ (رقبة) صالحا لجميع الرقاب قطعا أو أنه يحتمل عدم صلوحه لبعض الرقاب فترتفع القطعية ويبقى الظهور والرجحان في صلوحه لذلك، لكن كونه يصدق على رقبة واحدة فقط بمعنى إجزاء عتق رقبة واحدة ليس من محل النزاع لأنه خاص. فالمطلق يخرج ويدخل في محل النزاع بحسب هذين النظرين. الخلاف في المسألة: وقد اختلف العلماء في قطعية دلالة العام على قولين: القول الأول: أن دلالة العام على كل فرد من أفراده غير قطعية، فكل عام يحتمل أن يكون المراد به بعض أفراده دون بعض، ما لم يدل دليل خاص على إرادة كل الأفراد أو بعضها. وهذا مذهب الجمهور وبعض الحنفية3.
أدلة هذا القول: الدليل الأول: أن العام يحتمل تخصيص أي فرد من الأفراد الداخلة فيه، ومع الاحتمال لا يقطع بكون أي واحد منها داخلا في العموم، غاية ذلك أن دخول الأفراد ظاهر وراجح على عدم دخولها1. واعترض المخالف على هذا الدليل بأن هذا الاحتمال وإن كان واردا عقلا فإنه مجرد عن دليل يعضده فكان كلا احتمال، فمراد المتكلم إذا لم يكن عليه دليل لم يجز أن يكون غيرَ ما دل عليه ظاهر لفظه2. وأجاب أصحاب القول الأول عن هذا الاعتراض بأن الدليل على
الاحتمال الوارد في دلالة العام على أفراده كثرة وقوع التخصيص في العمومات الشرعية حتى شاع أنه لم يرد عام إلا خص إلا يسيرا، فذلك يورد الاحتمال في كل لفظ عام أن يراد به بعض أفراده1. ورد المخالفون على ذلك بعدم التسليم بكون ما ذكر دليلا على ورود الاحتمال في كل عام وذلك لأمور: أ - أن التخصيص وقع في كل تلك المواضع بما يسوّغه من الأدلة والقرائن المخصصة، وذلك لا يوجب الاحتمال فيما لم يرد فيه دليل ولا قرينة على التخصيص. ب - أن كثرة التخصيص إنما تكون موجبة لورود احتمال التخصيص في كل عام لو أن المخصص الوارد في تلك المواضع مخصص واحد، فيصبح كل عام محتملا لذلك المخصص المعين، وليس كذلك فلا يلزم أن يكون ورود مخصص معين في عام موجبا لاحتمال ورود مخصص آخر غير ذلك في عام آخر. ج - لو كانت كثرة التخصيص موجبة احتمال التخصيص في كل عام لما صح أن يريد المتكلم من اللفظ العام دخول جميع ما يتناوله مع أن قصده إلى ذلك صحيح2.
د - أن مثل هذا الاستدلال يجري في اللفظ الخاص أيضا، لأن الاستعارة1 كثيرة في الكلام حتى إنه يعاب شعرٌ خالٍ منها، فعلى ما سبق من الاستدلال يكون كل لفظ محتملا للمجاز وهو غير صحيح2. وأجيب عن هذا بأن "المجاز لا يكون أصلا بقرينة منفصلة لا تعلم حالة النطق باللفظ، بخلاف العام فإنه يتخصص بالأدلة المنفصلة ... وتلك الأدلة قد تخفى"3. هـ - عدم التسليم بما ذكر من كثرة التخصيص لأن التخصيص لا يكون إلا بكلام مقارن مستقل مساوٍ للمخصوص في دلالته، وذلك غير كثير4. وأجيب عن هذا أن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض أفراده، وذلك أعم من أن يكون تخصيصا عند الحنفية أم لا5. و غاية ما في كثرة التخصيص على التسليم بها أن يكون بقاء العموم على عمومه قليلا، والقليل إنما يحمل على الكثير إذا كان مشكوكا
فيه غَيرَ بيِّن، والعام المجرد عما يصرفه عن عمومه موضوع للعموم لغة فهو بين، فلا يحمل على الكثير1. الدليل الثاني: صحة تأكيد العموم، كما في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلَّهُمْ أَجْمَعُونَ} 2 ولو كان العام قطعيا في تناوله لجميع أفراده لما احتيج إلى تأكيد، فتأكيده لقطع ما في مجرد اللفظ العام من الاحتمال حتى يثبت اليقين بتناوله الكل. واعترض على هذا بما ورد من تأكيد المعلوم قطعا مثل قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} 3 فظاهره أنه تأكيد للعشرة وهو خاص معلوم قطعا. وأجاب المانعون للقطعية عن هذا الاعتراض بتأويل التأكيد إلى غير العدد كالثواب4. الدليل الثالث: واستدل القائل بعدم القطعية بأن التخصيص بالمتراخي لا يكون نسخا ولو كان العام قطعيا في تناوله جميع أفراده نصا لكان
إخراج بعضها منه بعد قطعية التناول - نسخا1. وجواب المخالف عن هذا بالتزام كون إخراج فرد من أفراد العام منه على نحو ما ذُكر - نسخا غير تخصيص، لأن التخصيص عندهم إنما يكون بمقارن مستقل مساوٍ للمخصوص في دلالته2. الدليل الرابع: واستدل لهذا القول بأن العام يجوز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد ودليل العقل، ولو كان العموم كالنص على كل فرد لم يجز تخصيصه بما ذكر، لعدم جواز إخراج ما تيقن دخوله في الحكم بما لا يفيد اليقين بخروجه منه3. وأجاب المخالف عن هذا بوجهين: الوجه الأول: أن الخاص يجوز صرفه عن حقيقته الثابتة له بخبر الواحد والقياس مع أن ثبوته على حقيقته قطعي عند عدمهما، فكذلك العام. الوجه الثاني: أن مذهب أكثر الحنفية عدم جواز تخصيص العام بخبر
الواحد والقياس ما لم يخصص من قبلُ بدليل موجب للتخصيص، فيكون القياس وخبر الواحد حينئذ مرجحين لإدخال الفرد المخصوص بهما في جملة دليل الخصوص الموجب1. القول الثاني: قطعية اللفظ العام، أي العلم القطعي بشموله كلَّ فرد من أفراده. وهذا مذهب جمهور الحنفية2. ونقل ذلك عن الإمام الشافعي3، وحمله الزركشي على أن الناقل ربما استند إلى أن الإمام الشافعي - رحمه الله - قد يسمي الظواهر نصوصا فيقول في العام: إنه (نص) ولا يكون ذلك بمعنى أنه قطعي، لأن اصطلاح الشافعي في (النص) أعم من القطع4. ونَقل إمام الحرمين أن مذهب الشافعي قطعية العموم حيث كان نفي قرينة الخصوص قطعيا5، وذلك واضح، فإن عدم القطعية سببه احتمال
الخصوص فإذا قطعنا بنفي ما يخصص العام كانت دلالته على أفراده قطعية. أدلة هذا القول: الدليل الأول: أن إرادة المتكلم بكلامه ما هو موضوع له حقيقة أمر معلوم وهو الأصل، وإرادته به المجاز لا يعارض المعلوم لأنه موهوم لعدم الدليل عليه، ومراده غيب على غيره فلو لم يدل عليه لفظه لكان في طلب معرفته حرج ومشقة، وذلك مرفوع عن المسلمين1. واعترض بأن الاحتمال هو في إرادة المتكلم كل ما يتناوله لفظه وضعا، ودليله كثرة التخصيص2. الدليل الثاني: لو لم يكن العام قطعيا لجاز إرادة بعض ما يتناوله اللفظ في العرف بلا دليل صارف، وذلك يؤدي إلى ارتفاع الأمان عن الألفاظ الشرعية ويلزم منه التلبيس والتجهيل والتكليف بالمحال3.
اعترض على هذا الدليل بأمور: أولا: أن الأمان لن يرتفع بذلك، لأن العمل لازم حتى على القول بعدم القطعية، فإن الحجية مسلمة لرجحان إرادة العموم وظهورها1، فالحجية ثابتة وكذا وجوب العمل، وإنما المنفي هو أن تكون إرادة الكل مقطوعا بها. ثانيا: أن الجهل يتأتى على ما سبق في حق من قطع بإرادة الكل، لا في حق من لا يقطع بذلك، لأن المطلوب على القول بنفي القطعية اعتقادُ رجحان العموم مع الاحتمال، فإن قطع قاطع مع ذلك ثم انكشف الأمر عن عدم إرادة الكل كان هو المجهِّل نفسه بنفسه والملبس عليها2. ثالثا: أن المدّعَى هو خفاء القرينة المبينة للتخصيص على المجتهد لا نفيها، فلا يلزم من ذلك تلبيس ولا تجهيل3. رابعا: أن المكلَّف به هو اعتقاد ظاهر اللفظ وهو مقدور عليه، أما المراد على القطع فليس مكلفا به فلا يلزم التكليف بالمحال4.
الدليل الثالث: القياس على النص المطلق، فإنه يحتمل التقييد إذا دل على ذلك دليل مع أنه على حقيقته قطعا حتى يظهر الدليل الصارف، والأصل في العموم إرادة الكل فلا يصرف عن ذلك إلا بدليل1. وقد تقدم أن الزركشي أدخل المطلق في محل النزاع2، وعلى ذلك لا يصلح المطلق أصلا لمحل الخلاف لاحتمال دخوله فيما ينازع فيه في هذه المسألة. أثر الخلاف في هذه المسألة: وقد كان الخلاف في هذه المسألة سببا للخلاف في مسائل أخرى أصولية وفقهية. فمن المسائل الأصولية: مسألة تخصيص العام بالقياس غير القطعي وخبر الواحد غير القطعي، فإن القول بقطعية العام يمنع تخصيصه ابتداء بما ليس بقطعي. ومنها: العمل عند ورود العام والخاص في حكم، هل يتعارضان إذا جهل تاريخ الورود وينسخ المتقدم منهما المتأخر إذا علم التاريخ أم أن العام يحمل على الخاص ويخصص به مطلقا لأن العام إذا كان قطعيا ضاهى الخاص
في قوة تناوله لما تحته من الأفراد فيتعارضان ويرجح أحدهما على الآخر1. وأما المسائل الفقهية فالخلاف فيها مفرع على الخلاف في المسألتين الأصوليتين. ومما تفرع على المسألة الأولى: الخلاف في مباح الدم خارج الحرم إذا التجأ إلى داخله، فهل يعصمه التجاؤه إلى الحرم أم أنه يُقتصّ منه داخل لحرم، فإن عموم قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَءَامِناً} 2 يمنع القصاص، وقد يجوز ذلك بقياس ذلك على من جنى داخل الحرم، الجائز قتله بقوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} 3. ومما ذكر من الخلاف المتفرع على المسألة الثانية جواز بيع العرايا:
وهو بيع الثمر على النخل بخرصه تمرا، لأن عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "والتمر بالتمر ... مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد" 1 يمنع من ذلك للجهل بالمثلية، ولكن ذلك جائز بخصوص الأحاديث المُرخِّصة لذلك مثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم "رخص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر "، وفي لفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها2. أساس الخلاف في قطعية العموم: - الخلاف في قطعية العام على الكيفية التي يقع البحث بها في كتب الأصول يرجع إلى أمر: وهو هل كَثُر التخصيص في العمومات الشرعية على وجه يوجب ورود احتمال التخصيص في كل عام شرعي عند المستدل الناظر في الدليل العام، وإن لم يقف على القرينة الخاصة بالتخصيص في ذلك العام؟.
ومن أهم ما يرد على دعوى كثرة التخصيص أن اللفظ العام له اعتباران: قياسي واستعمالي، أما الاعتبار القياسي ففيه يشمل اللفظ كلَّ ما يصلح له عقلا بالنظر إلى لفظه لغة، وأما الاعتبار الاستعمالي فلا يشمل اللفظ فيه إلا ما يمكن دخوله في الاستعمال عادة، فإذا قال قائل: "أكرمتُ الناس"، فلفظ (الناس) عام يشمل على الاعتبار الأول جميعَ بني آدم ثم يخص منه من يستحيل حسا أن يلقاهم القائل ومن أشبههم من الموتى والمفقودين ... أما على الاعتبار الثاني فلا يدخل في لفظ (الناس) ابتداء إلا من يصح عادة أن يلقاهم القائل. وإذا قال: "من دخل داري أكرمته" لم يدخل فيه نفسه لأنه خلاف العادة1. - ثم إن الخلاف في قطعية العام له تعلّق بالخلاف في الاعتداد بالاحتمال الذي لا يعضده دليل في رفع القطعية، لأن الحنفية يعترفون بورود الاحتمال لكنهم لا يعتدون به إذ لم يستند إلى دليل2. أثر اختلاف المنهج في المسألة: والنظر في هذه المسألة إلى الوضع القياسي والوضع الاستعمالي ينبه على
أمر مهم في بحث العموم بل المباحث الأصولية عموما وهو تعدد مناهج البحث في الأدلة والقواعد الأصولية، فمنهج يبحث في الدليل أو القاعدة مفردة عن القرائن وجميع ما يمكن أن يؤثر فيه، ومنهج النظر الشامل للقاعدة ومقاصد الشريعة والقرائن المؤثرة من واقع الشريعة. فعلى الأول يدخل في اللفظ العام كل ما يحتمله حسا وعقلا وعادة وشرعا، مع فرض اللفظ العام مطلقا من كل قرينة تبين المراد من تعزيز للعموم أو بيان وجه للخصوص، وعلى الثاني لا يدخل في اللفظ العام إلا ما اعتاده الناس عند استعمالهم له في العرف، ولا يدخل فيه إلا ما يناسب المقاصد والكليات الشرعية في استعمال الألفاظ الشرعية. ويكون الفرق بين اللفظ في المنهجين: أن اللفظ على الأول ضَعُف لثقل ما احتمل من الممكنات الحسية والعقلية والشرعية، وأن اللفظ على الثاني قَوِي إذْ لم يحتمل إلا ما يمكن دخوله فيه في الاستعمال العادي في اللغة والمقاصد الشرعية. والأول هو المنهج السائد في أصول الفقه عند الجمهور، والثاني هو المنهج الذي سار عليه الإمام أبو إسحاق الشاطبي1. أما الحنفية فهم - وإن كانوا يقولون بالقطعية - يقرون بورود
الاحتمال في اللفظ العام ثم يطرحونه لعدم الدليل المؤيد له على مسلكهم في الاعتداد بالاحتمال، فهم يتفقون مع جمهور الأصوليين في أصل ورود الاحتمال في الفظ العام لكنهم يلغونه في الاعتبار بعد ذلك لعدم الدليل المؤيد، وقد عرف من منهجهم النظر في الحصيلة الفقهية لأئمتهم عند البحث في القواعد الأصولية1. هذا، والظاهر أن طريقة الشاطبي إنما تناسب الناظر الخبير بالوضع الاستعمالي للفظ والمطلع على مقاصد الشريعة وكلياتها والمحصل للقرائن المبيِّنة2، أما المستدل الذي ليس له طريق إلى الحكم إلا لفظ عام وما قرب من القرائن المبينة فالقطع على الحكم الذي يفيده اللفظ العام مجردا حينئذ لا يسهل على مثله مع احتمال أن يكون في المقاصد والكليات الشرعية من القرائن المنفصلة ما يخصص اللفظ.
فيبقى الخلاف على حاله في لفظ عام مجرد من جميع القرائن حتى ما يذكر من الوضع الاستعمالي والمقاصد الشرعية ونحوها، إذا فرض أن الفاقد لكل ذلك يجوز له النظر في الأدلة، أو في لفظ عام ليس عند المستدل به إلا القرائن القريبة، فهذا مما يتردد فيه النظر وتتداخل فيه المسائل، فلا يسهل الترجيح في هذه المسألة، فالله تعالى أعلم بالصواب.
المطلب الثالث: قطعية المفهوم
المطلب الثالث: قطعية المفهوم تعريف المفهوم وبيان أنواعه ومثاله: المفهوم لغة: مفعول من فهمت الشيء فهما: أي علمته، والفهم: معرفة الشيء وعلمه وعقله1. وهو في الاصطلاح: "ما دل على الحكم لا في محل النطق"2. وهو نوعان: مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة. أما مفهوم الموافقة فهو: أن يكون المسكوت عنه موافقا للمنطوق في الحكم، وهو قسمان: أحدهما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، والثاني أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق في الحكم. وأما مفهوم المخالفة فهو: أن يكون المسكوت عنه مخالفا للمنطوق في الحكم3 وهو كذلك أقسام.
ومن أمثلة المفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة الزكاة"1 فلما وصف الغنم الواجب فيها الزكاة بالسوم فُهم من ذلك عدم الزكاة في الغنم المعلوفة. ويسمى مفهوم الموافقة فحوى الخطاب ولحن الخطاب2، وهو دلالة النص عند الحنفية3. المفهوم القطعي: ويكون المفهوم قطعيا إذا تحقق فيه أمران قطعيان: أحدهما أن يقطع بمعنى الحكم في المنطوق أي أن يعلم علما قطعيا أن الحكم الذي أفاده الدليل قد شرع لمعنى معين، والثاني أن يقطع بأن ذلك المعنى أشد في المسكوت أو مساو له. ومن أمثلة المفهوم القطعي:
1- قول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَاهُ وَبالْوَالِدَين إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمُا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهرْهُمَا} 1، فكل عالم بلسان العرب إذا سمع هذا قطع بأن حرمة التأفيف والنهر هنا معناها إكرام الوالدين ودفع الأذى عنهما، ويقطع أن الضرب والشتم أشد في إيذائهما من التأفيف وأن من ترك التأفيف ولم يتركهما لم يكن أكرمهما، فإذا قطع بهذين الأمرين لم يبق احتمال في كون الضرب والشتم حراما استدلالا بالنهي عن التأفيف2. 2- قوله تعالى عن أهل الكتاب: {وَمِنْهُم مَّنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} 3 فيفهم من سياق هذا أنه لا يؤدي ما فوق الدينار قطعا. 3- قوله عز وجل: {أَلمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ يُزَكونَ أنَفْسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مِنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} 4 فيفهم من ذلك أنهم لا يُظلَمون أكبر من فتيل قطعا5.
4- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْ كُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْ كُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 1 فيفهم أن إحراق أموالهم وإغراقها مساويان في التحريم للأكل قطعا2. 5- حديث علي بن أبي طالب3 رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ... وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" 4 فيفهم من ذلك ثبوت الذمة لأعلاهم قطعا5. 6- حديث عبد الله ابن عمر6 - رضي الله عنهما - عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن تناله أيديهم1، احتج به الإمام أحمد - رحمه الله - على تحريم رهن المصحف عند الذمي، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية والفتوحي2 أنه مفهوم قطعي3، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لأنه إذا نهى عما قد يكون وسيلة إلى نيلهم إياه فهو عن إنالتهم إياه أنهى وأنهى"4. جهة قطعية المفهوم: لا خلاف - حسب اطلاعي - في قطعية مفهوم الموافقة على ما سبق سوقه من الأمثلة. وهو حجة يجب العمل به قطعا بنوعيه القطعي والظني5، وإنما الخلاف
الذي ينقل في ذلك هو هل دلالته لفظية أم قياسية1 وذلك لا يؤثر في القطعية، إذ كان القياس - عند من جعل دلالة المفهوم قياسية - قياسا قطعيا، وكانت دلالة النص - عند من جعل دلالة المفهوم لفظية - قطعية، لأن في كل ذلك يقطع بالأمرين السابقين2.
وجهة القطعية في المفهوم جهة الدلالة1 مثل قطعية العموم، وعليه فيمكن أن يكون المفهوم من الدليل قطعيا ويكون من جهة الثبوت غير قطعي، إذ لا تلازم بين جهتي القطعية. القطعي من نوعي المفهوم: الظاهر من كلام العلماء - رحمهم الله - في قطعية المفهوم وأمثلتهم أن القطعية في المفهوم إنما تتأتى في مفهوم الموافقة، وهو الذي يسمى أيضا فحوى الخطاب، قال الزركشي معللا للتسمية بذلك "لأن فحوى الكلام ما يفهم منه على سبيل القطع، وهو [أي مفهوم الموافقة] كذلك"2. أما مفهوم المخالفة فالظاهر من كلام أهل العلم أن أعلى ما يصل إليه هو الظن والرجحان ولا يرتقي إلى القطع. لكن الزركشي ذكر أن كلام إمام الحرمين يقتضي أن مفهوم المخالفة قد يكون قطعيا ولم يذكر قوله المقتضي لذلك3، ولعله من قوله في البرهان: "والمفهوم ينقسم إلى ما يقع نصا غير قابل للتأويل ويغلب ذلك
في مفهوم الموافقة إذا انتهى إلى المرتبة العليا، وإذ ذاك يسمى عند أرباب الأصول: الفحوى" قال: "والغالب على مفهوم المخالفة الظهور والانحطاط عن رتبة النصوص"1، فجعل الغالب في مفهوم المخالفة الظهور دون القطع، وذلك يقتضي أن منه - على خلاف الغالب فيه - ما يكون قطعيا، كما اقتضى جعله الغالب من مفهوم الموافقة القطع والنصية أن يكون منه ما لا يكون قطعيا على خلاف الغالب فيه، غير أن إمام الحرمين - رحمه الله - لم يذكر مثالا للقطعي من مفهوم المخالفة ولا ذكر وجه كونه قطعيا. والله تعالى أعلم. وللقاضي أبي بكر الباقلاني عبارة قد تحتمل، فإنه قسّم الأدلة إلى قسمين قطعي وظني، ثم قال إشارة إلى القسم القطعي: "ودخل فيه جميع أدلة السمع الموجبة للقطع والعلم من نصوص الكتاب والسنة ومفهومها ولحنها وإجماع الأمة ... "2. فالعطف في قوله: "مفهومها ولحنها" يحتمل أن يكون مراده بالمفهوم مفهوم الموافقة وباللحن مفهوم المخالفة، كما يحتمل أن يكون مراده باللحن مفهوم الموافقة أو نوع منه، فاحتملت عبارة القاضي هذه أن يكون ممن يرى جواز كون مفهوم المخالفة قطعيا3.
لكن في كلام القاضي - رحمه الله - ما يجعل الاحتمال الثاني - وهو كون مراده باللحن مفهوم الموافقة أو نوع منه - هو الراجح قطعا، وعليه لا يكون في عبارته ما يوهم قطعية مفهوم المخالفة. والذي يؤيد هذا الاحتمال وأن القاضي يريد باللحن غير مفهوم المخالفة أمور: أولها: تصريحه بأن مراده بـ (المفهوم) و (اللحن) معنى واحد، قال: "وقولنا مفهوم من معناه ولحنه وفحواه بمنزلة واحدة"1. الثاني: أن القاضي لما ذكر أقسام الخطاب من حيث إفادته لمعناه قال في بعض الأقسام: "ما يستقل بنفسه من جهة مفهومه ولحنه وفحواه"، والأمثلة التي ذكرها داخلة بالأصالة في هذا القسم كلها أمثلة مفهوم الموافقة التي يذكرها أهل العلم2.
الثالث: أن القاضي أطلق على مفهوم المخالفة (دليل الخطاب) وأشار إلى الخلاف في حجيته، وفي ذلك إشارة إلى أن اصطلاح (اللحن) عنده غير مفهوم المخالفة1. الرابع: أن لحن الخطاب عند أكثر العلماء يطلق على مفهوم الموافقة مطلقا أو مفهوم الموافقة المساوي، وأما إطلاقه على مفهوم المخالفة فنادر2. فظهر أن الذي أوهمت عبارته جواز قطعية مفهوم المخالفة هو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، أما القاضي أبو بكر الباقلاني فالظاهر أن ليس في كلامه - إذا أخذ مجموعا بلواحقه - ما يدل على أن مذهبه جواز قطعية مفهوم المخالفة، كما يفهم من عبارة محقق التقريب. والله تعالى أعلم.
مفهوم الموافقة ودلالة النص: وقد أشار غير واحد ممن بحثوا في قطعية دلالة النص أنه لم يرد عند متقدمي الحنفية تقسيم دلالة النص إلى قطعي وغير قطعي وأن ذلك التقسيم إنما ذكره بعض متأخريهم1 وأن من المتأخرين من غيرهم مَن ينكر تقسيم (دلالة النص) إلى قطعية وظنية، لأن حقيقة دلالة النص عند الحنفية أنها تفهم بمجرد اللغة من غير احتياج إلى رأي واجتهاد، وذلك مشكل على القسم الظني من المفهوم، فكان الأولى عند هؤلاء عدم التقسيم2. ويمكن أن يقال: إنه إذا كان المراد من القطع - في مفهوم الموفقة - معناه الأخص المبرّأ من الاحتمال مطلقا، فلا يبعد أن تنقسم دلالة النص إلى قطعي وغير قطعي، لأن بعض ما مثلوا به لدلالة النص لا يخلو من احتمال، وإذا كان المراد من القطع في ذلك معناه الأعم - الذي لا يعتد فيه بالاحتمال حتى يكون معززا بالدليل - دخلت تلك الأمثلة في القطعية، لأن الاحتمال في تلك الأمثلة لا يَعتد به مَن ذكرها في عداد دلالة النص ولو اعتد به غيره، فتكون تلك الأمثلة عند موردها قطعية بالمعنى العام3.
على أنه لا يجب إذا كان المعنى في (دلالة النص) مدركا بمجرد اللغة من غير استنباط - أن يكون قطعيا، إذ ليس كل ما يشترك العامة والخاصة في فهمه من اللغة قطعيا، فإن اللغة فيها الألفاظ المشتركة والظاهرة. والله تعالى أعلم.
الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع
الفصل الثاني: أحكام القطعية في الإجماع المبحث الأول: قطعية الإجماع ... المبحث الأول: قطعية الإجماع تعريف الإجماع: الإجماع في اللغة يأتي بمعنى العزم، ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} 1، وقوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} 2، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له"3. ويأتي الإجماع بمعنى الاتفاق4. أما الإجماع في الاصطلاح فهو: اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته، في حادثة، على أمر من أمور الدين، في عصر من الأعصار5.
معنى قطعية الإجماع وجهتها: ومعنى قطعية الإجماع أنه دليل قطعي على صواب الحكم المجمع عليه وخطإ خلافه، فالحكم مقطوع به ودليل القطع فيه الإجماع الذي لا يحتمل في دلالته إلا صحة الحكم. فتكون قطعية الإجماع ملحقة بجهة الدلالة، أما قطعيته من جهة الثبوت فذلك تابع لطريق نقله، فقد ينقل بالخبر المتواتر وقد ينقل بخبر الواحد، والكلام في قطعية المتواتر وقطعية خبر الواحد جارٍ فيه. فرجعت حقيقة البحث في قطعية الإجماع إلى البحث في قطعيته من حيث الدلالة. هذا هو المراد من قطعية الإجماع ههنا، وهناك وجه آخر لقطعيته يقصد به قطعيته من حيث الحجية أي هل الأدلة المستدل بها على كون الإجماع حجةً شرعيةً أدلةٌ قطعية، وقد وقعت الإشارة - غير مرة في هذا البحث - إلى أن بحث الحجية غير بحث القطعية وأن بحث القطعية مفرع على الحجية،
فمن لا يرى حجية الإجماع لا يقع البحث معه في قطعيته. قطعية الإجماع: مذهب جماهير أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم أن الإجماع دليل قطعي1، وإن اختلفوا في تحديد القطعي منه كما سيأتي إن شاء الله2. وذكر القرافي أن هذا القول مذهب كل من تقدم الرازي3. والحجة للجمهور على قطعية الإجماع أن أدلة حجيته دلت على أمرين: الأمر الأول: اليقين بأن الإجماع حجة شرعية يجب العمل بما دل عليه من الأحكام كسائر الحجج الشرعية من الكتاب والسنة والقياس. الأمر الثاني: اليقين بأن الحكم المجمع عليه حكم قطعي لا يحتمل غير كونه صوابا.
ذلك أن أدلة الحجية تضمنت نفي الخطأ عما أجمعت عليه الأمة وما انتفى فيه احتمال الخطأ كان صوابا قطعا، وهذا هو معنى قطعية الإجماع1. 1- ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى وَيتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2 فالحق يتعين أن يكون في سبيلهم إذا كان غير سبيلهم قد وقع التوعد على اتباعه. 2- ومنه قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتنهوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ} 3 فيكون ما أجمعوا عليه من جملة المعروف من غير احتمال، لأنهم إذا أجمعوا على أمر فلن يوجد من ينهى عنه، ولو لم يكن معروفا لوجد من ينهى عنه كما أخبر الله تعالى. 3- ومنه قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} 4، فكان نهيه عز وجل عن التفرق دليلا على أن ما أجمعوا عليه يتعين فيه الصواب وإلا لما وقع الأمر بالاعتصام به. 4- وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية على حجية الإجماع بأدلة يدل
وجه الاستدلال بها على قطعية الإجماع: كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1 وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانَوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ} 2 وقوله تعالى: {يَأَيهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 3، قال ابن تيمية في بيان وجه الدلالة: "فإنهم إذا كانوا مطيعين لله بذلك مرحومين فلا يكون طاعة الله ورحمته بفعل لم يأمر الله به من اعتقاد أو قول أو عمل، فلو كان القول أو العمل الذي أجمعوا عليه لم يأمر الله به لم يكن طاعة لله ولا سببا لرحمته"4 اهـ فانتفى احتمال كون الأمر المجمع عليه خطأً لم يأمر الله به، فتثبت قطعية الإجماع كما ثبتت حجيته. 5- ومن أدلة القطعية في أدلة الحجية قوله تعالى: {يأَيُهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1 فما لم يكن فيه تنازع وكان محل إجماع تعين أن يكون هو الصواب. ومن أدلة السنة على حجية الإجماع أدلة على قطعيته. 1- ومن ذلك ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بألفاظ تدل على نفي احتمال أن تجتمع هذه الأمة على الخطأ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"أو "إن الله عز وجل لا يجمع أمتي إلا على هدى "2. 2- ومن ذلك ألفاظ دلت على أن الحق يلزم أبدا هذه الأمة ولو في طائفة منها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك"3 فإذا أجمعت كل الأمة قُطع بأن الحق فيما أجمعوا عليه، لأنها حينئذ مشتملة على الطائفة الظاهرة. 3- كما أن أحاديث لزوم الجماعة والنهي عن مفارقتها تدل على أن الصواب في الأمر المجمع عليه، لأنه الذي يلزم اتباعه ويحظر تركه4.
فهذه الأمة معصومة فيما أجمعت عليه من أن يكون ذلك المجمع عليه خطأ أو ضلالة. وقد استدل الشاطبي على حجية الإجماع بعصمة الأمة1 وفي ذلك وجه للقطعية أيضا. واستدل بعض العلماء على حجية الإجماع بأدلة عقلية أو عادية فيها دلالة على قطعية الحكم المجمع عليه، ومن ذلك أن للإجماع صورتين: أولاهما أن يجمع علماء العصر على حكم مظنون ويكون ذلك الحكم مما يتطرق إليه الاحتمال ويمكن فيه الخلاف واضطراب الآراء، فيكون قطعهم بالحكم في مثل ذلك دليلا قاطعا على استنادهم إلى مصدر سمعي قطعي وإن لم ينقل مستندهم. وثانيهما: أن يجمع علماء العصر على حكم مظنون ويعلم أن مستندهم في ذلك دليل ظني، ودليل القطعية في هذا الصورة أن العصور المتلاحقة بعد عصر الإجماع يجمعون على تبكيت المخالف للإجماع ونسبته إلى الخروج عن الجادة وإلى الضلالة والعُقوق، ولا يجمعون على ذلك إلا بأنهم استندوا إلى قاطع شرعي كالأخبار المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما فيه دلالة على تحريم مخالفة الحكم المجمع عليه وإن لم ينقل ذلك بطريق قطعي2.
المخالف في قطعية الإجماع: وخالف الفخر الرازي في (المحصول) ما سبق من مذهب الجمهور فذهب إلى أن الإجماع حجة غير قطعية، لأن مسألة حجية الإجماع نفسها غير قطعية بمعنى أن الأدلة على أن الإجماع حجة لا ترتفع إلى القطع1. وتبعه شمس الدين الأصفهاني في ذلك وأيده وانتصر له ورد على من خالفه ثم قال: "واعلم أن إقامة دليل قاطع على أن الإجماع حجة قطعية قد عرفت صعوبته وعدم انتهاض القاطع في ذلك"2. وفصّل نجم الدين الطوفي فقال: "ليس المراد بكونه حجة قاطعة القطع العقلي وهو الجزم الذي لا يحتمل النقيض في نفس الأمر ... "قال: "فدل على أن المراد بكونه قاطعا القطع الشرعي لا العقلي"3، ثم بيَّن قصر قطعيته في كونه مقدما في البحث عن الدليل على سائر الأدلة الشرعية، لعدم احتمال النسخ4، بل صرح باختياره أن الإجماع ظني بعد أن ضعَّف أدلته وطرَّق إليها الاحتمالات5، ومما استدل به على عدم قطعية الإجماع الخلافُ
في عدم تكفير مخالف الحكم المجمع عليه قال: "لأن القواطع العقلية لا يختلف فيها ولا في تكفير من أنكر أحكامها المعتبرة شرعا"1. أما الآمدي فقد نقل غير واحد من أهل العلم عنه القول بعدم قطعية الإجماع2، وذكر بعض العلماء أنه مقتضى كلامه في كتابيه الإحكام والمنتهى3. أما في (الإحكام) فقد صرح في موضع منه بالقطعية، فإنه لما اختار المنع في مسألة صحة الإجماع بعد الخلاف قال معللا اختياره:"وذلك لأنا بينا أن اتفاق الأمة على الحكم ولو في لحظة واحدة كان ذلك مستندا إلى دليل ظني أو قطعي أنه يكون حجة قاطعة مانعة من مخالفته ... "4، ويدل على ذلك أيضاً صنيعه عند الاستدلال على حجية الإجماع في الإحكام، فقد عوّل على السنة وذكر أن مجموع ما ورد فيها من أحاديث مفيدة للقطع لأنها من المتواتر المعنوي5.
أما في (منتهى السول) فظاهر كلامه فيه عدم القول بالقطعية، فقد قال عند الاستدلال على حجية الإجماع: "وقد احتج المثبتون بحجج نقلية وعقلية ... أما الحجج النقلية فكلها ظنية"1، وذكر أن الأحاديث الواردة في ذلك تفيد "الظن الغالب المقارب للقطع"وأنه - أي الظن الغالب المقارب للقطع - هو المطلوب في مسألة حجية الإجماع، ثم ذكر أن الدليل العقلي لا يفي بالغرض المقصود من المسألة2. فالآمدي - وإن صرح في (الإحكام) بالقطعية لدلالة السنة - فهو في (المنتهى) مثل الرازي في المحصول في تضعيف أدلة حجية الإجماع والقول بعدم قطعيتها. والله تعالى أعلم. ترجيح مذهب الجمهور: والذي يترجح - والله أعلم - هو ما ذهب إليه الجمهور من أن الإجماع حجة قطعية مقطوع بصواب ما دل عليه وبخطأ ما خالفه، وذلك لما يأتي: أولا: لقوة ما استدلوا به على ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على لزوم اتباع سبيل المؤمنين والحذر من مخالفتهم ونفي احتمال الخطأ عن الأمر الذي عليه جماعتهم، وهي أدلة - وإن أمكن تطرق أطراف
الاحتمالات العقلية في دلالتها على قطعية الإجماع مع حجيته إلى بعض منها منفردة أو بالنسبة لمستدل بها - فإنها تأبى الاحتمال بمجموعها عند من حققها واطلع على مجموعها وأخذ بها مع كافة قرائن القطعية. وهذا أصل عظيم في وجه دلالة هذه النصوص من القرآن والسنة على قطعية الإجماع مع حجيته، وهو مبني على تتبع وراثة النبوة التي تلقاها السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - فمن بعدهم ممن نهج منهجهم قرنا بعد قرن - رحمة الله عليهم- في مسائل الدين وطرق الاستدلال عليها وكيفية استفادة العلم واليقين فيها، فكل ذلك يدل على أن ما عليه أمر المسلمين جميعا من أمور الدين هو الحق قطعا وأنه لا تجوز مخالفته. وقد بالغ بعض علماء أصول الفقه في الرد على دعوى الرازي عدم قطعية الإجماع، وأن سببها عدم الالتفات إلى هذا الأصل. قال التبريزي1 إشارة إلى أحد الأسئلة التي أوردها الرازي على حجية الإجماع: "أما السؤال الرابع عشر فقد انقاد له المصنف وكاع2
عن دعوى القطع وتفسيق المخالف، ومن المعلوم الواضح إطباق التابعين وكل قائل بالإجماع على القطع بأن الإجماع حجة قاطعة ... "ثم بيّن - رحمه الله - الأصل السابق في مأخذ القطعية1. وقال القرافي في شرحه على المحصول عن الرازي وإنكاره القطعية وأن سببه عدم أخذ الأدلة مجموعة: "إن المصنف قد أكثر من التشنيع في هذا المقام، وأداه صعوبة هذا الموضع إلى أن قال: الإجماع ظني، وهو خلاف إجماع من تقدمه كما حكاه ههنا، وما سببه إلا عدم النظر في هذا البحث"2. وقال الشاطبي - رحمه الله - في إشارة إلى قطعية الحجية: "وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل ... إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الإجماع حجةً ظنيٌ، إذ لم يجد في آحاد الأدلة ما يفيده فأداه ذلك إلى مخالفة مَن قبله من الأمة ومَن بعده3، ومال بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة
اللفظية والأخذ بأمور عادية1 أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع"2. ثانيا: أن عمدة المخالف في القطعية أن الأدلة المستدل به على الحجية يحتمل أن يكون المراد منها غير حجية الإجماع أو قطعيته، وذلك مدفوع بأنه احتمال منبوذ عند الأخذ بالأدلة مجموعة، فإنها لا تزال تغلّب على الظن أن المقصود من آحادها أن ما أجمعت الأمة عليه لا يحتمل إلا الصواب حتى يقطع الناظر فيها - مع قرائن القطعية والكليات الشرعية - بحجية الإجماع وقطعيته، وقد سبق رد القرافي وغيره على الرازي في قوله بظنية
الإجماع وأن سببه عدم النظر في الأدلة مجموعة1. أما ما ذكره نجم الدين الطوفي - رحمه الله - من عدم الاتفاق على تكفير منكر حكم الإجماع فهو مدفوع بأن التكفير لا يلزم من مخالفة القطعي مطلقا، فربما خالف للجهل أو لشبهة عنده أو لعدم الوقوف على مأخذ القطعية من الأدلة لكونه مما يحتاج إلى نظر2، على أن التوقف في التكفير حتى يتبين أولى من الهجوم عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما، إن كان كما قال وإلا جاءت عليه" 34، والأولى ترك تكفير المخطئ المخالف في المسائل المختلف فيها الخلاف بين الأئمة ولو كانت قطعية عند بعضهم، فإن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من الأصول والفروع ولم يكفر فيها بعضهم بعضا بمجرد الخلاف مع قطعهم بأحكام تلك المسائل5، والاختلاف في مسألة التكفير لا ينفي القطعية في الإجماع، لأن
الخلاف لا يرفع أصل القطعية من مسألة التكفير نفسها فكيف يرفعها في مسألة الحجية! والصحيح أن الخلاف لا يمنع من القطع بالحكم وإن كان المعتد به منه يمنع دعوى اطراد القطعية لجميع الناظرين في الدليل1. والله تعالى أعلم.
المبحث الثاني: الإجماع القطعي
المبحث الثاني: الإجماع القطعي صور الإجماع: اختلف القائلون بحجية الإجماع في جملة كبيرة من الشروط والقيود في الإجماع الذي هو حجة صحيحة، فكانت من ذلك الخلاف صور كثيرة من الإجماع المختلف فيه، ومن ذلك الإجماع السكوتي1، والإجماع المنقول بخبر الواحد، والإجماع المستند إلى دليل غير قطعي، والإجماع الذي يخالف فيه بعض قليل من الأمة أو بعض معين منهم كالعامي والأصولي غير الفقيه والفقيه غير الأصولي أو المتكلم، والإجماع المنعقد بعد الخلاف، والإجماع المنعقد ما لم ينقرض عصر المجمعين ... وكل ذلك منه ما قوي فيه الخلاف وقربت مآخذ الأدلة فيه، ومنها ما ضعف الخلاف فيه وكان بعيدا فيه وجه الاستدلال2. ما يطلق عليه اسم الإجماع: وليس كل ما سمي إجماعا يكون قطعيا، فقد نقل بعض العلماء الاتفاق
على أن الإجماع المنقول بالآحاد ليس من الإجماع القطعي حتى عند القائلين بحجية مثل ذلك الإجماع1. نقل الزركشي أن بعض أهل العلم رحمهم الله يرى أن اسم (الإجماع) لا يطلق إلا على ما كان قطعيا 2، فعلى هذا الاصطلاح لا يكون ما يسمى (إجماعا) إلا قطعيا، ولكن المتبع في هذا البحث إطلاق الإجماع في الاصطلاح على ما هو أعم من القطعي منه. والله أعلم. الإجماع القطعي: اختلف مسلك أهل العلم - رحمة الله عليهم - في تحديد القطعي من الإجماع: المسلك الأول: أن القطعي من الإجماع هو الإجماع الذي يشتمل على جميع الشروط والقيود المتفق عليها والمختلف فيها، بحيث لا يخالف فيه أحد من القائلين بحجية الإجماع، فيكون إجماعا قوليا غير سكوتي مستندا إلى دليل قطعي منقولا بالتواتر عن جميع الأمة بعوامها وخواصها وذلك بعد انقراض العصر من غير سبق خلاف ... وهكذا حتى يكون إجماعا لا يخالف فيه أحد من القائلين بحجية الإجماع. وهذا أضيق مسالك تحديد الإجماع القطعي، وهو مبني على أن الخلاف
في صحة الإجماع والاعتداد به يرفع القطعية عن المختلف فيه منه. ويدل على هذا المسلك قول الموفق ابن قدامة1: "الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون، فالمقطوع ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها ونقله أهل التواتر ... والمظنون ما اختلف فيه أحد القيدين بأن توجد مع الاختلاف فيه كالاتفاق في بعض العصر وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين أو توجد شروطه لكن ينقل آحادا"2. وقال الطوفي: "والقطعي: هو النطقي المتواتر المستكمل للشروط"3. وقال الشاطبي في إشارة إلى هذا المسلك: "إن الإجماع إنما يكون قطعيا على فرض اجتماعهم على مسألة قطعية لها مستند قطعي، فإن اجتمعوا على مستند ظني فمن الناس من خالف في كون هذا الإجماع حجة"4، فنفى القطعية عن الإجماع المستند إلى غير قطعي، ثم علل ذلك
بمخالفة بعض الناس في الحجية، فذلك إشارة إلى أن الخلاف في الحجية مانع من القطعية. فمقتضى هذه الأقوال أن الإجماع القطعي هو ما وجد فيه جميع القيود والشروط، المتفق عليه والمختلف فيه حتى يجتمع جميع القائلين بالإجماع على القول به. المسلك الثاني: أن الإجماع القطعي هو الذي توجد فيه القيود والشروط التي يَعتد بها المستدل ويقطع ببطلان خلافها قطعا، فالإجماع القطعي على هذا هو ما وجد فيه جميع الشروط والقيود التي عليها أدلة راجحة أو مرجوحة مع الاحتمال، أما الشروط التي أدلتها باطلة قطعا عند المستدل فيَقطع بالإجماع مع عدمها. والفرق بين هذا المسلك والذي قبله أن في المسلك الأول اشتُرط في قطعية الإجماع وجود جميع القيود اعتدادا بمجرد الخلاف، أما في هذا فإنما اعتُد بالشروط المحتملة للصحة دون الباطلة قطعا تبعا لأدلتها. ويدل على هذا المسلك قول الغزالي بعد ذكر الخلاف في صحة الإجماع الذي خالف فيه النحوي أو المتكلم: "فإن قيل: فهذه مسألة قطعية أم اجتهادية؟ قلنا: هي اجتهادية، ولكن إذا جوّزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة، وإنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء"قال: "أما خلاف العوام فلا يقع
ولو وقع فهو قول باللسان وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول، فبطلان قوله مقطوع به كقول الصبي"1. فالإجماع قطعي عنده مع خلاف العوام للقطع ببطلان اشتراط وفاقهم في الإجماع، وكان الإجماع غير قطعي مع خلاف النحوي أو المتكلم لأن أدلة طرفي الخلاف في تلك المسألة غير قطعية وإنما يصار إلى القول فيها بشيء من الترجيح. وعليه فمن كان يرى أن بطلان تأثير خلاف العامي في الإجماع غير قطعي كان الإجماع الذي يخالف فيه العامي غير قطعي عنده خلافا لما قطع به الغزالي، وذلك كالآمدي فإنه لم يقطع ببطلان اعتبار قول العامي في الإجماع فقال بعد المسألة "وبالجملة، فهذه المسألة اجتهادية، غير أن الاحتجاج بالإجماع عند دخول العوام في الإجماع يكون قطعيا وبدونهم يكون ظنيا"2. فتحَصَّل أن الإجماع إذا خالف فيه العوام كان قطعيا عند الغزالي لقطعه ببطلان اعتبار قول العامي، وهو ظني عند الآمدي لعدم قطعه ببطلان اعتبار قول العامي في الإجماع. ومن النظر على هذا المسلك كان الإجماع السكوتي غير قطعي عند
بعض من قال بحجيته لأنه لا يقطع ببطلان الاحتمالات في أن يكون السكوت لدواعي أخرى غير الموافقة1، ويكون إجماعا قطعيا عند من قطع ببطلان تلك الاحتمالات. والله أعلم. المسلك الثالث: وسلك بعض العلماء في بيان الإجماع القطعي مسلكا قريبا مما سبق، فرتبوا الإجماع مراتب حسب قوته، وكان بعض تلك المراتب عندهم قطعيا، وأساس الترتيب نبذ الاحتمالات البعيدة غير المعضدة حتى يخلص الإجماع للقطعية، والاعتداد بالاحتمالات القريبة فترتفع القطعية. قال الشاشي: ثم الإجماع على أربعة أقسام:
وقال االسرخسي: "إن ما أجمع عليه الصحابة فهو بمنزلة الثابت بالكتاب والسنة في كونه مقطوعا به يكفر جاحده1، وهذا أقوى ما يكون من الإجماع، ففي الصحابة أهل المدينة وعترة الرسول2 ولا خلاف بين من يعتد بقولهم أن هذا الإجماع حجة موجبة للعلم قطعا"3، ثم ذكر مرتبة خلاف الصحابة على أقوال وأنه بمنزلة الخبر المشهور4. وقال عبد العلي في (فواتح الرحموت) عند بيان الفرق بين هذه المراتب: "وجه الفرق أن الصحابة كانوا معلومين بأعيانهم فتعلم أقوالهم بالبحث والتفتيش ... وأما من بعدهم فتكثَّروا ووقع فيهم نوع من الانتشار فوقع شبهة في اتفاقهم واحتمل أن يكون هناك مجتهد لم يطلع على قوله الناقلون، لكن لما كان هذا الاحتمال بعيدا - لعدم وقوع الانتشار كذلك مع كون الناقلين جماعة تكفي للعلم - صار بمنزلة المشهور الذي فيه احتمال بعيد5 وصار أدون درجة من إجماع الصحابة"6.
ووجه قرب هذا المسلك مما قبله أن فيه اعتدادا ببعض الشروط لقوتها ونبذا لبعضها لبعدها، ولم يُشترط فيه لقطعية الإجماع أن يستكمل جميع الشروط كما في المسلك الأول. والظاهر أن تحديد الإجماع القطعي يتفرع على مسألتين: أثر الخلاف في رفع القطعية وأثر الاحتمال في رفعها، فمن كان عنده مطلق الخلاف في الدليل رافعا للقطعية عنه كان كل ما اختلف في صحته من الإجماع غير قطعي، واقتصر القطعي عنده على ما لا يختلف فيه القائلون بالحجية وذلك المستكمل لجميع الشروط والقيود، ومن كان مذهبه أن الخلاف البعيد الباطل قطعا بالنظر إلى الأدلة لا يمنع القطعية لم يشترط لقطعية الإجماع ألا يختلف فيه. ومن كان يعتد بأدنى شبهة احتمال في رفع القطعية كان كل إجماع احتمل عدم اتفاق الجميع - ولو احتمالا بعيدا غير معتضد - غير قطعي، أما من كان لا يعتد من الاحتمال إلا ما كان قريبا مناسبا في العادة والعرف الشرعي لم يمنع من القطع الاحتمالُ البعيد الغريب عن العرف الشرعي. وعلى هذا قول ابن تيمية: "والإجماع قطعي الدلالة أو ظني الدلالة، فإن من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا ومن يطلق النفي لهذا أو لهذا، والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع ويعلم يقينا أنه ليس فيه
منازع من المؤمنين أصلا، فهذا يقطع بأنه حق ... "1. وأقرب ما ذكر في تحديد الإجماع القطعي أنه "القولي المشاهد أو المنقول بعدد التواتر"2، لأن فيه الاعتداد بما هو المؤثر حقيقة في القطعية نظرا إلى الأدلة، وهو أن يَعلَم من حَضَر بالمشاهدة ومن بعُد أو تأخر بالنقل المتواتر اتفاقَ المجمعين بالقول على حكم من الأحكام. وهو ملحق بالمسلك الثاني والثالث من مسالك العلماء. والله تعالى أعلم.
الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس
الفصل الثالث: أحكام القطعية في القياس المبحث الأول: قطعية القياس ... المبحث الأول: قطعية القياس تعريف القياس: القياس في اللغة يأتي بمعنى التقدير تقول: (قست الشيء بالشيء) إذا قدرته على مثاله و (فلان يقتاس بفلان) أي يَقتدي به ويسلك سبيله1. أما القياس في الاصطلاح فهو: "مساواة فرع لأصل في علة حكمه"2. أو هو: "إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لاشتراكهما في علة حكمه عند المثبت"3. والتعريفان ينبئان عن اختلاف في كون المراد بالقياس إما فعل الناظر
فيعرَّف بأنه إثبات الناظر للمساواة بين الفرع والأصل لاشتراكهما في العلة، وإما أن القياس دليل شرعي مستقل نظر فيه المجتهد أم لا فيعرَّف بأنه المساواة نفسها بين الفرع والأصل في الحكم للاشتراك في العلة1. ولا يختلف الأمر نظرا للقطعية على كلا الرأيين، لأن معنى قطعية القياس على الأول كون الُمثبِت جازما في إثباته لحكم الفرع حملا على حكم الأصل، ومعناه على الثاني اليقين بأن الفرع يساوي الأصل في حكمه، فالأمر المقطوع به في قطعية القياس هو إثبات المجتهد حكمَ الأصل في الفرع، أو مساواة الفرع للأصل في الحكم2. معنى قطعية القياس: وقد سبق في الفصل المتعلق بالإجماع بيان المراد بقطعيته والفرق بين بحث القطعية فيه وبين بحث الحجية، والقول في المراد بقطعية القياس على نحو ما
سبق هناك، مع فرق أن أدلة حجية القياس لا تدل باللزوم على قطعيته1. والقياس إذا كان حجة كان معنى حجيته كونه طريقا مشروعا لإثبات الأحكام الشرعية، وبحث قطعيته القياس بعد ذلك يعرض لما إذا كانت الأحكام الشرعية الثابتة عن طريق القياس يجوز كونها قطعية أم لا2. فمعنى الخلاف في قطعية القياس هو هل يمكن للقائس الجزم والقطع بمساواة حكم الفرع لحكم الأصل عن طريق القياس؟ وهو القول بقطعية القياس، أو أنه لا يمكن له ذلك وهو القول بعدم قطعية القياس مطلقا3. الخلاف في قطعية القياس: اختلف العلماء في قطعية القياس على قولين: القول الأول: ذهب بعض العلماء إلى أن القياس لا يمكن أن يكون
قطعيا بحال وأن غاية ما يمكن التوصل إليه عن طريق الاستدلال به على الأحكام هو الظن الغالب مع الاحتمال لا القطع واليقين1. لذا لم يعد الجويني القياس من أصول الفقه وقصر القطعية فيه على حجيته وهو وجوب العمل به2.
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية أن مذهب أهل المنطق نفي جواز قطعية القياس، وأنهم يسمون قياس الفقهاء - وهو القياس الذي تثبت به الأحكام الشرعية - قياس التمثيل، وأنه لا يفيد القطع وإنما يفيده القياس المنطقي1. أدلة هذا القول: الدليل الأول: أنه يرد على كل قياس احتمالات كثيرة تجعل القطع به غير ممكن، إذ لا يمكن القطع بحكم مع احتمال ثبوت نقيضه2. وقد أجمل الغزالي مثارات الاحتمال في كل قياس في ستة مواضع: الأول: احتمال أن يكون الأصل الذي وقع عليه القياس غير معلل أصلا، فيكون القائس علل ما لم يجعله الله معللا، وذلك كأن يعلل نقض الوضوء بلحم الجزور بأنه حارّ فيلحق به لحم الظبي في نقض الوضوء، مع احتمال أن يكون نقض الوضوء بلحم الجزور تعبديا غير معلل أصلا. الثاني: جواز أن يكون الوصف الذي توصل إليه القائس ليس هو العلة الحقيقية أي احتمال أنه أخطأ ولم يصب العلة، وذلك كأن يعلل
تحريم الربا في البر بالطعم، مع احتمال أن علة التحريم هو الكيل، فعلى على تقدير صحة التعليل بالكيل يكون قد أخطأ العلة في الحقيقة. الثالث: احتمال أن يكون قد فاته بعض أوصاف العلة فيعلل بوصف ناقص، وذلك كأن يعلل القصاص بالقتل العمد فينقصه قيد العدوان، وذلك يوجب القصاص من ولي الدم إذا اقتص من القاتل لأنه قتل عمد. الرابع: احتمال أن يكون قد زاد على أوصاف العلة ما ليس داخلا في تعليل ذلك الحكم، وذلك كأن يعلل وجوب الكفارة في الفطر في نهار رمضان بجماع الأعرابي فيزيد قيد كون المجامِع أعرابيا، وذلك يوجب عدم وجوب الكفارة على الحَضَري إذا جامع في نهار رمضان. الخامس: جواز ألا يكون الوصف موجودا في الفرع، وذلك كأن يلحق التفاح بالبر في تحريم الربا بجامع الكيل، مع أن التفاح غير مكيل. السادس: احتمال أن يكون طريقه إلى العلة طريقا غير صحيح أي أنه اعتمد على مسلك باطل في التعليل1، وذلك كأن يعلل بالطرد وهو مجرد وجود الوصف مع حكم بدون مناسبة، فإن ذلك مسلك باطل عند أكثر أهل العلم2.
وأضيف إلى ما ذكره الغزالي من الاحتمالات احتمال سابع وهو جواز أن يكون الوصف قاصرا على الحكم، بأن يكون محل الأصل شرطا في تأثير الوصف في الحكم أو يكون محل الفرع مانعا من الحكم1. الدليل الثاني: أن حكم القياس مما يجوز للعلماء الخلاف فيه، فإنه إنما يلزم المجتهد القائس دون غيره، ولو كان القياس قطعيا لما جاز أن يخالف فيه2. الدليل الثالث: أن استقراء الأقيسة المخرجة عن طريق الاجتهاد والاستنباط يدل على أن عللها مظنونة ولا يمكن أن يكون القياس قطعيا مع ظنية علته3، وعلى هذا يكون ما يذكر من القطعي في القياس - مثل قياس الضرب على التأفيف في الحرمة بجامع الإيذاء - ليس من القياس بل مما استفيد الحكم فيه عن طريق اللفظ4.
القول الثاني: أن القياس الشرعي قد يفيد القطع واليقين بالحكم. ونسب شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول إلى الجمهور وقال: "وهو الصواب"1، ونقله الزركشي عن الأبياري2 وابن دقيق العيد3. وعمدة هذا القول: جواز أن يُقطع في القياس بأمرين: أحدهما أن وصفا معينا علة حكم شرعي معين، وذلك بالطرق القطعية الدالة على العلية4، والثاني أن ذلك الوصف المعين موجود في محل معين آخر، فيقطع بأن المحل الثاني مثل المحل الأول في الحكم الشرعي، وذلك قطعية القياس5. وقد سلم الفخر الرازي بقطعية القياس عند هذاين الأمرين، ولكنه قال: "البحث ينبغي أن يقع في هل يمكن تحصيل هذين اليقينين في الأحكام الشرعية أم لا؟ "6، فهذه إشارة إلى استبعاد تحقق شروط القطعية في
القياس مع التسليم بالقطعية عند تحققها. ومثال تحقق ذلك أن يقطع الناظر مثلا بأن علة تحريم الخمر الإسكار، ثم يقطع بوجود الإسكار في النبيذ، فيقطع بأن النبيذ مثل الخمر في التحريم، استنادا إلى حجية القياس قطعا. والراجح - والله أعلم - أن القياس يكون قطعيا إذا توفرت فيه الصفات التي سيأتي الكلام عليها في المبحث اللاحق إن شاء الله تعالى، وذلك لما يأتي: أولا: أن ما ذكره القائلون بجواز القطعية في القياس الشرعي أمر صحيح يؤيده الوقوع1. ثانيا: أن ما استدل به النافون للقطعية في القياس الشرعي يرد عليه أمور: أ- أن الاحتمالات التي ترد على القياس تُفرض مع عدم القطع بوجود العلة في الأصل والفرع بالإضافة إلى القطع بحجية القياس ووجوب العمل به دليلا شرعيا عند عدم الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع. ب- أن جواز خلاف بعض العلماء في قياس معين لا يرفع عنه صفة القطعية مطلقا، إذ لا يلزم اطراد القطعية عند كل المجتهدين، فقد يتوصل
مجتهد إلى ما لم يتوصل إليه غيره لاختلاف القرائح والقدرة على الاستنباط وتتبع الأدلة والتوفيق في الوقوف على القرائن1. جـ- أما أن الاستقراء دلّ على عدم القطعية في العلل المستنبطة، فيرد عليه أن من مسالك العلة النص والإجماع وهما قطعيان، وذكر العلماء أن بعض المسالك المستنبطة قد يكون قطعيا2، فالاستقراء على هذا لا يكون تاما. د- أن القياس الشرعي المستعمل عند الفقهاء يرجع إلى ما يرجع إليه قياس الشمول المنطقي، أما كون النتيجة قطعية أو غير قطعية فذلك راجع في كل منهما إلى المقدمات التي يتركب منها الدليل3، فقول الفقهاء: (الذرة يحرم فيها الربا قياسا على البر بجامع الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار) يمكن أن يصاغ صوغا يجعله من قياس الشمول فيقال فيه: (الذرة مكيلة وكل مكيل يحرم فيه الربا ينتج: الذرة يحرم فيها الربا) 4، ثم يستدل على أجزاء الدليل بنحو ما يستدل به على القياس الشرعي، فقصر قطعية القياس على المنطقي منه دون الشرعي المستعمل عند الفقهاء لا وجه له، إذ كان مفاد النوعين من القياس يرجع إلى أساس واحد.
المبحث الثاني: القياس القطعي
المبحث الثاني: القياس القطعي إذا كان الراجح من أقوال أهل العلم أن القياس الشرعي يكون قطعيا فليس كل قياس فُرض يكون قطعيا بل قد يكون القياس فاسدا باطلا، فكان لزاما بيان القياس القطعي ليزداد مبحث قطعية القياس وضوحا. وقد ذكر العلماء - رحمهم الله - أنواعا من الأقيسة القطعية، والذي وقفت عليه من ذلك يرجع إلى أربعة أنواع: النوع الأول: وهو أشرفها وأولاها بالتقديم القياسُ الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مقطوع به لعدم تطرق الاحتمال إلى شيء مما ينبني عليه القطعية في القياس، فإنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعلل الأحكام الشرعية وأحكامها، وأعلم بوجود تلك العلل في الفروع على الوجه الذي يوجب تسويتها بالأصول المقيس عليها في تلك الأحكام، وإذا عُلم ذلك كان القياس الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم قياسا قطعيا1. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أقيسة كثيرة2 منها:
1- قياسه صلى الله عليه وسلم قُبلة الصائم على مضمضته في عدم إفساد الصوم، وذلك في الحديث الذي رواه عمر رضي الله عنه قال: هششت1 يوما فقبَّلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني صنعت اليوم أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم؟ "، قلت: لا بأس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففيم؟ "23. 2- قياسه الخالة على الأم في أحقية الحضانة، وذلك في حديث البراء4 في قصة اختصام علي وجعفر5 ابْنَي أبي طالب وزيد6 أيهم يحضن
ابنة حمزة1 بن عبد المطلب رضي الله عنهم جميعا، وفيه: "فاختصم فيها علي وزيد وجعفر فقال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وهي زوجة جعفر2 وقال صلى الله عليه وسلم: "الخالة بمنزلة الأم"الحديث34. 3- القياس الذي ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: "لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ "قال: نعم، قال: "فدين الله أحق أن يقضى"56. 4- ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ولد لي غلام أسود، فقال: " هل لك من إبل؟ "قال: نعم، قال: "ما ألوانها؟ "قال: حُمر، قال: "هل فيها من أورق7؟ "قال:
نعم، قال: "فأنى ذلك؟ "قال: لعله نزعه عرق1، قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق "23. 5- قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه"45. 6- حديث أبي ذر6 رضي الله عنه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدُّثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: "أو ليس قد جعل الله لكم ما تصّدّقون؟ إن كل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان يكون عليه وزر؟ "قالوا: نعم، قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون
له أجر" 1، قال ابن القيم: "فهذا من قياس العكس الجلي البين، وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه"2. ففي جميع هذه الأقيسة يعلم بأن أحكام الفروع المقيسة مساوية لأحكام الأصول المقيسة عليها، من الوجه الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك على سبيل القطع واليقين في الدلالة. وهذا النوع راجع إلى السنة النبوية3. النوع الثاني: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق من طريق الأولى4. فقد ذهب بعض العلماء إلى أن مثل ذلك من القياس، وهو اختيار إمام الحرمين5 والرازي6 وبعض الحنفية7. ومذهب الحنفية أنه من دلالة النص8، وهو منسوب إلى المالكية9
والحنابلة1، واختاره الغزالي2 والآمدي3. والقطعية متحققة على كلا القولين، فالخلاف لفظي بالنظر إلى القطعية، قال إمام الحرمين وهو ممن اختار كونه من القياس: "وهذه
مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية"1، وقال الغزالي بعد أن اختار كونه من اللفظ دون القياس: "ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي، فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الإلحاق يشمل هذه الصورة فإنما مخالفته في عبارة"2. وذكر عبد العزيز البخاري أن من سماه من الحنفية قياسا لم يثبت به الحدود والكفارات، ومن لم يسمه كذلك بل كان عنده كالنص أثبت به ذلك، ثم نقل أن من سماه قياسا قد يثبت الحدود بهذا النوع من الأقيسة3، فالخلاف على نقله الثاني لفظي عند الحنفية، معنوي على الأول. ولفظية الخلاف هي الأولى بالنظر إلى قطعية القياس أو الدلالة اللفظية. والله تعالى أعلم. النوع الثالث: القياس الذي يقطع فيه بعدم الفارق المؤثر بين الأصل والفرع، وهو قياس المساوي أي الذي يقطع فيه بمساواة الفرع للأصل في مناسبة الحكم4. "وضابط هذا النوع أن لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير قطعا"5، ولا بد من القطع بهذين الأمرين وهما: عدم وجود فارق إلا فارقا معينا وعدم تأثير ذلك الفارق المعين في الحكم، فإن تطرق الاحتمال إلى أحد هذين الأمرين لم يكن القياس قطعيا. ويتطرق الاحتمال إلى الأمر الأول بإمكان أن يكون ثَمّ فارق آخر غير الذي عيّنه المجتهد القائس فلا يقطع بقوله: (لا فارق إلا كذا) ، كما يتطرق الاحتمال إلى الأمر الثاني بإمكان أن يكون للفارق المعين مدخل في التأثير في الحكم فلا يقطع بقوله: (لا مدخل لهذا الفارق في التأثير في الحكم) 6.
مسألة لفظية ليس وراءها فائدة معنوية"1، وقال الغزالي بعد أن اختار كونه من اللفظ دون القياس: "ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي، فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الإلحاق يشمل هذه الصورة فإنما مخالفته في عبارة"2. وذكر عبد العزيز البخاري أن من سماه من الحنفية قياسا لم يثبت به الحدود والكفارات، ومن لم يسمه كذلك بل كان عنده كالنص أثبت به ذلك، ثم نقل أن من سماه قياسا قد يثبت الحدود بهذا النوع من الأقيسة3، فالخلاف على نقله الثاني لفظي عند الحنفية، معنوي على الأول. ولفظية الخلاف هي الأولى بالنظر إلى قطعية القياس أو الدلالة اللفظية. والله تعالى أعلم. النوع الثالث: القياس الذي يقطع فيه بعدم الفارق المؤثر بين الأصل والفرع، وهو قياس المساوي أي الذي يقطع فيه بمساواة الفرع للأصل في مناسبة الحكم4. "وضابط هذا النوع أن لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير قطعا"5، ولا بد من القطع بهذين الأمرين وهما: عدم وجود فارق إلا فارقا معينا وعدم تأثير ذلك الفارق المعين في الحكم، فإن تطرق الاحتمال إلى أحد هذين الأمرين لم يكن القياس قطعيا. ويتطرق الاحتمال إلى الأمر الأول بإمكان أن يكون ثَمّ فارق آخر غير الذي عيّنه المجتهد القائس فلا يقطع بقوله: (لا فارق إلا كذا) ، كما يتطرق الاحتمال إلى الأمر الثاني بإمكان أن يكون للفارق المعين مدخل في التأثير في الحكم فلا يقطع بقوله: (لا مدخل لهذا الفارق في التأثير في الحكم) 6. من أمثلة هذا النوع من القياس7: 1- قياس الأمة على العبد في سراية العتق8، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أعتق شقصا له في عبد - أو شِرْكا أو قال: نصيبا - وكان له ما يبلغ بقيمة العدل فهو عتيق، وإلا فقد عتق منه ما عتق"، وفي لفظ آخر: "فإن لم يكن له مال استسعي العبد غيرَ مشقوق عليه"1. فيقاس الأمة على العبد، إذ لا فارق بينهما إلا الذكورة والأنوثة ولا تأثير لذلك في اختلاف أحكام العتق في عرف الشارع وتصرفاته، فهما وصفان طرديان في باب العتق كالسواد والبياض والطول والقصر في سائر الأبواب. ويمكن أن يقال: إن فارق الذكورة والأنوثة يحتمل أن يكون له تأثير في سراية العتق والاستسعاء، لأنه يحتمل أن يكون للعبد خصوصية بعد العتق وهي أنه إذا عتق استحق أن يزاول من مناصب الرجال ما لا تزاوله الأنثى ولو كانت حرة، ولأن الأمة ربما لا تكون كالعبد في القدرة على الاستسعاء والكسب، فيحتمل قصر الحكم على الذكر دون الأنثى.
فمن ورد عنده هذا الاحتمال وكان له وجه يعتضد به لم يقطع بالقياس، ومن كان لا يرد عنده الاحتمال أو كان بعيدا غريبا على المقاصد الشرعية في باب العتق قَطَع بالقياس. وترجم البخاري - رحمه الله تعالى - لهذا الحديث وغيره بقوله: "باب إذا أعتق عبدا بين اثنين أو أمة بين الشركاء"وروى عن ابن عمر أنه كان يفتي في العبد والأمة بذلك. ونقل ابن حجر عن بعض العلماء أنه كان يفرق بين العبد والأمة ويجعل الحكم مختصا بالذكور، وذكر الحافظ أن لفظ (الأمة) قد ورد في بعض الطرق1. والفرق بين هذا القول وبين ما تقدم من ذكر الاحتمال أن الحكم يثبت للأمة بدون قطع على ما سبق، وعلى هذا القول لا يثبت الحكم للأمة. والله أعلم. 2- قياس الأمة على العبد في أن ماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع"2.
3- قياس العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا، كما في قوله سبحانه: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 1. 4- قياس الزيت على السمن في أن موت الفأرة فيه يوجب إلقاء ما حوله وإباحة أكل ما وراء ذلك، "إذ ... لا أثر للفارق بكون هذا سمنا أو زيتا لأنه فرق لفظي غير مناسب"2.
وذكر إمام الحرمين والغزالي أن هذا النوع من القياس قد يختلف العلماء أيضا في تسميته قياسا1. وهو قطعي على كل تقدير، فلم يضر الاختلاف في تسميته، كما سبق في النوع الثاني. النوع الرابع: القياس الذي قطع فيه بأمرين: أن وصفا معينا في الحكم هو علته قطعا، وأن ذلك الوصف موجود في الفرع قطعا2.
القطعية كالنص القطعي والإجماع القطعي1، وأما الأمر الثاني فيكون السبيل إليه الحس أو العقل ... 2 وهذا النوع كالضابط للقياس القطعي، ويمكن أن تندرج الأنواع الأخرى تحته ولو بشيء من البعد في بعضها3، لكن اختص كل نوع بما أوجب التنويع إلى ما سبق. والله تعالى أعلم. هل القطع بحكم الأصل شرط في قطعية القياس: معنى قطعية القياس القطع بمساواة الفرع للأصل في حكمه مطلقا، أي سواء أكان حكم الأصل إيجابا أم تحريما أم كراهة ... وسواء أكان حكمه قطعيا أم غير قطعي4.
وقال الأصفهاني1 في شرح مختصر ابن الحاجب: "اعلم أن القياس المقطوع هو ما كان حكم أصله والعلة ووجودها في الفرع قطعيا"2، فاشترط لقطعية القياس قطعية حكم الأصل. وهذا مخالف لما سبق، لأن التقرير الأول شرط قطعية القياس فيه أمران: قطعية التعليل في الأصل وقطعية وجود العلة في الفرع، وما ذكره الأصفهاني فيه إضافة شرط ثالث وهو قطعية الحكم في الأصل المقيس عليه. ولكلا القولين وجه، لأن القياس القطعي: - قد يكون قياسا يقطع فيه بحكم الفرع إضافة إلى القطع بمساواته لأصله، وذلك في قياس قطعي حكمُ الأصل فيه قطعي أيضا. - وقد يكون قياسا يقطع فيه بمساواة الفرع للأصل دون القطع بحكم الفرع، بأن يكون الحكم في الأصل المقيس عليه ظنيا ثم يقطع بأن الفرع مثل الأصل، فيثبت الحكم ظنيا في الفرع كما في الأصل مع القطع بالتسوية بين الحكمين.
والظاهر أن القطع بحكم الأصل ليس شرطا في قطعية القياس، إذ حقيقة القطعية في القياس القطع بالمساواة، أما قوة الفرع المساوي أو ضعفه فذلك تابع لقوة الأصل المساوي وضعفه، ولا مدخل لذلك في عملية القياس، لأن القياس يؤخذ فيه الأصل على حاله قوة وضعفا. بيان ذلك: أن قياس الخالة على الخال في حكم الميراث قياس قطعي، لكن حكم الأصل ثابت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كَلاًّ فإلي - وربما قال فإلينا - ومن ترك مالا فلوارثه، والخال وارث من لا وارث له ... " 1، فحكم الأصل وهو ميراث الخال ثابت بخبر واحد، فلا يكون قطعيا عند من لا يرى قطعية الآحاد مطلقا أو عند عدم قرائن القطعية، ولا يمنع عدم قطعية خبر الواحد من القطع بأن الخالة مثل الخال في الميراث2.
المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة
المبحث الثالث: القطعي من مسالك العلة تعريف العلة ومسالكها: المسالك جمع مسلك وهو الطريق الذي يسلكه المجتهد في إثبات العلة1، ومسالك العلة الأدلة على أن الوصف علة2، والعلة: الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، وهي الوصف الذي يجمع بين الأصل المقيس عليه والفرع المقيس في الحكم3. فمسالك العلة: الطرق الشرعية المؤدية إلى معرفة كون وصف من الأوصاف مشتملا على حكمة التشريع ليكون الجامع الرابط بين الأصل والفرع في حكم القياس. مسالك العلة أدلة شرعية: تقدم أن قطعية القياس تقوم على ركنين رئيسين: أولهما القطع بكون
الوصف في الأصل علة، والثاني القطع بوجود هذا الوصف في الفرع، فلكي تستقيم القطعية في القياس لا بد من الدليل القطعي على التعليل في الأصل وعلى وجود العلة في الفرع. أما وجود العلة في الفرع يثبت بسائر الأدلة من الحس والعقل والعرف كما يجوز أن يثبت بالشرع1، فكون النبيذ مسكرا أو كون الذرة مطعوما أو الأرز مطعوما مقتاتا مدخرا ... يمكن إقامة الدليل القطعي عليه إما حسا أو عقلا أو غيرهما كما يمكن إثبات الوصف في الأصل بذلك، كالإسكار في الخمر والكيل أو الطعم أو الادخار مع الاقتيات في البر أو الشعير2. وأما كون وصف معين في الأصل علةَ الحكم فيه فهو الذي لا يمكن أن يثبت إلا بالأدلة الشرعية، لأنه دعوى بأن الشرع حَكَم في الأصل بالحكم لأجل ذلك الوصف، وذلك غير مقبول إلا بدليل من الشرع3. والدليل على العلية كسائر الأدلة الشرعية يختلف قوة وضعفا، بيد أن
القياس لا يكون قطعيا حتى يكون الدليل على علية الوصف في الأصل قطعيا وذلك ليس طريق جميع العلل، فقد لا تسهل إقامة الدليل القاطع على أن علة تحريم الربا في الأصناف الربوية الستة كونها مطعومة أو مكيلة أو مقتاتة مدخرة. وقسم الفخر الرازي مسالك العلة إلى نقلية وعقلية 1، ولعل النظر في ذلك إلى أن في بعض المسالك قدرا من استعمال العقل أكبر من غيره كما في مسلكي الدوران والسبر والتقسيم2، لكن ذلك لا يخرجهما عن كونهما أدلة شرعية عند إثبات علية الوصف بهما3. والله أعلم. فالتحقيق أن طرق إثبات علية الأوصاف في الأحكام الشرعية كلها شرعية، "لأن كون الوصف علة شرعا ودليلا على حكم الله تعالى أحدُ الأحكام الشرعية، فلا يثبت إلا بما يثبت به سائر الأحكام الشرعية"4. إذا ثبت أن كون الوصف الجامع بين الأصل والفرع علة لا بد من الدليل الشرعي عليه وأن الدليل عليه - في القياس القطعي - لا بد أن
يكون قطعيا، تبين أن كل دليل شرعي قطعي يمكن أن يثبت به هذا الركن من القياس القطعي إذا دَلَّ عليه، وذلك مثل النص القطعي من الكتاب أو من السنة أو الإجماع القطعي، ومثل الأدلة الشرعية التي تحتف بها قرائن القطعية في جهتي الثبوت والدلالة، فطريق قطعية العلية كطريق قطعية الأدلة الشرعية. والمجتهد يصل إليها مباشرة بواسطة الأدلة القطعية ثبوتا ودلالة، أو بالبحث عن قرائن القطع المحتفة والشواهد المعززة حتى يقطع بأن وصفا معينا علة حكم معين. إلا أن أهل العلم - رحمهم الله تعالى - خصوا هذا المحل بالبحث عن الطرق المؤدية إلى العلية كما قسم بعضهم تلك الطرق إلى قطعية وغير قطعية. وما تجمعه حدود هذا البحث من مسالك العلة هو المتعلق منها بالكتاب والسنة والإجماع1، وذلك مسلكا النص والإجماع.
............................................................................................................................................
مسلك النص: وهو النص القاطع من الكتاب والسنة على علية الوصف الجامع. والمراد بالنص عند العلماء - رحمهم الله - في باب مسالك العلة لفظ الكتاب أو السنة، فيشمل القطعي وغيره، ومن ثم يصفونه بالقطعية أو بالصراحة إذا أرادوا تقييده فيقولون (نص قاطع) أو (نص صريح) 1. وهذا أشرف المسالك وأولى طرق العلة بالتقديم، لتعلقه بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم2. وبحث القطعية فيه من جهة الدلالة أي دلالة اللفظ من الكتاب أو السنة على أن الوصف الجامع هو علة حكم الأصل قطعا، أما من جهة الثبوت فالبحث في ذلك يدخل في عموم البحث في قطعية الثبوت فما كان من تلك الألفاظ في القرآن الكريم أو في السنة المتواترة فقطعي وكذلك ما كان من أخبار الآحاد قد احتف به من القرائن ما يفيده القطعية على ما سبق تقريره في مطلع هذا الباب.
النص القاطع والنص الصريح: المراد بالنص القاطع من طرق العلة عند فخر الدين الرازي: ما كان من الألفاظ موضوعا للتعليل بحيث لا يحتمل غير العلية لا حقيقة ولا مجازا1، وذلك عنده أربعة ألفاظ أو ثلاثة وهي (لعلة كذا) و (لسبب كذا) و (لأجل كذا) و (لموجب كذا) 2، وما عدا هذه الألفاظ فليس من النص القاطع. ودون النص القاطع عنده الألفاظ التي تكون (ظاهرة جدا) كالتي تكون موضوعة حقيقة للتعليل ويكون استعمالها في غير العلية محمولا على المجاز، وذلك كاللام والباء و (إنّ) 3. فمرتبة (الظاهر جدا) في جهة الدلالة هنا هي مرتبة الظني القريب أو المقارب للقطعي كما سبق نقله عن بعض من توسع في اعتبار مطلق الاحتمال في إزالة القطعية4.
وأضاف البيضاوي1 في المنهاج لفظ (كي) على ما ذكره الرازي فجعله من (النص القاطع) 2. وذكر بعض العلماء أن (النص القاطع) عند الرازي هو (النص الصريح) 3 عند الآمدي. والذي يؤخد من الإحكام والمحصول أن (النص الصريح) عند الآمدي أعم من (النص القاطع) عند الرازي وأوسع منه وأشمل، لما يأتي: أولا: أن الآمدي ذكر من أقسام (النص الصريح) : اللام و (إنّ) والباء4، وهذه عند الرازي من (النص الظاهر) قسيم (النص القاطع) كما
يؤخذ من صريح كلامه. ثانيا: أن الآمدي قال بعد أن ذكر الألفاظ الداخلة تحت قسم (النص الصريح) : "فهذه الصيغ الصريحة في التعليل، وعند ورودها يجب اعتقاد التعليل إلا أن يدل الدليل على أنها لم يقصد بها التعليل، فتكون مجازا فيما يقصد بها"1، مع أن الرازي عدّ ما كان خلاف التعليل فيه مجازا من الظاهر دون (النص القاطع) ، كما سبق من صريح كلامه في (اللام) آنفا. ثالثا: أن الآمدي لم يقسم النص إلى صريح وظاهر كما قسم الرازي النص إلى قاطع و، وإنما ذكر الآمدي بعد مسلك (النص الصريح) مسلك الإيماء والتنبيه2وذلك يؤكد أن (النص الظاهر) عند الرازي يدخل في
(النص الصريح) عند الآمدي. فقِسْم (النص الصريح) عند الآمدي في هذا الباب غير (النص القاطع) عند الرازي، إذ لم يكن احتمال استعمال اللفظ في غير التعليل ولو مجازا - مانعا من دخوله في النص الصريح عند الآمدي، وذلك مانع من دخوله في النص القاطع عند الرازي. والله أعلم. والذي يظهر من كتب بعض العلماء مثل كتاب تلخيص التقريب1 والمعتمد لأبي الحسين البصري2 والمستصفى وشفاء الغليل كليهما لأبي حامد الغزالي3 ومختصر ابن الحاجب4 وما نقله الزركشي عن الأبياري
وغيره1 - أن المراد بـ (النص الصريح) فيها موافق لطريقة الآمدي في كونه أعم من المراد بـ (النص القاطع) عند الفخر الرازي، فعمل هؤلاء الأصوليين في مسلك (النص) مخالف لما ذهب إليه الرازي ومن تبعه في تقسيم هذا المسلك إلى (القاطع) و (الظاهر) ، على ما هو المعروف من معنى القاطع عنده في الأدلة الشرعية اللفظية، والله تعالى أعلم. هل قطعية هذا المسلك ترد نقضا على الرازي: المذاهب في القطعية تستصحب ههنا، فمن كان لا يرى قطعيا إلا ما كان متجردا عن كل احتمال قريب وبعيد فقياس مذهبه أن يكون القاطع من هذا المسلك كذلك، ومن كان يرى القطعية مع الاحتمال البعيد الغريب عن العرف والمقاصد الشرعية في استعمال الألفاظ فكذلك قياس مذهبه أن يكون القاطع عنده ههنا مثل ذلك. ومن ثم اعترض القرافي وغيره2 على الرازي في عده بعض الألفاظ في هذا المسلك قطعيا، فإن مذهبه في الألفاظ عدم قطعيتها مطلقا أو عدم
قطعيتها إلا باحتفاف القرائن بها، فطرد مذهبه أن لا يرى أيًّا من الألفاظ المذكورة قطعيا مطلقا أو لا يرى منها قطعيا إلا لفظا احتف به من القرائن ما أزال عنه الاحتمالات العشرة التي ذكر أنها ترد على الأدلة اللفظية1. ورُدّ هذا الاعتراض بوجهين: الوجه الأول: أن مراد الرازي من (النص القاطع) في مسالك العلة الصريحُ في دلالته على العلية، ولا يقصد الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا2. 1 على ما يبدو من مذهبه في القطعية في بعض المواضع، فقد اختلف العلماء في تقرير مذهب الرازي في القطعية في الألفاظ، فمنهم من رأى أنه ينفي القطعية عنها مطلقا ومنهم من حمل مذهبه على أنه ينفي القطعية عند عدم القرائن. انظر ص (خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة.) فما بعد. والأصفهاني في شرحه للمحصول (الكاشف قسم القياس ص171-172) بعد أن أبطل الاعتراض المذكور ذكر أنه يرد على كلام الرازي في تقسيم هذا المسلك "إشكال متجه"، وذلك أنه فسر القاطع بالصريح (المحصول5/139) فيكون القسم المقابل للقاطع (وهو النص الظاهر) غير صريح مع أنه قال بعد أن ذكر اللام في ذلك القسم المقابل للقاطع: "فإن قلت: اللام ليست صريحة في العلية ... قلت: أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة"فظاهر هذا أنه عدّ اللام من (الصريح) ، فكانت اللام غير صريحة في أول كلامه صريحة في آخره. لكن الرازي بيان مراده بـ (النص القاطع) في موضع آخر من المحصول (5/452) بأنه ما كان "لا يحتمل غير العلية"، وعلى هذا يكون (النص القاطع) عنده: الصريح الذي لا يحتمل غير العلية حقيقة أو مجازا، أما اللام فذكر أن استعماله في غير العلية - مع ثبوت تصريح أهل اللغة بأنه للتعليل - يكون من المجاز (المحصول5/140، 452) ، وهذا يحقق الاعتراض الذي ذكره القرافي وغيره على الرازي. والله تعالى أعلم.
ويُشكل على هذا ما سبق من أن مراد الرازي من (النص القاطع) يخالف مراد كثير من العلماء بـ (الصريح) في مسالك العلة، وأن ظاهر كلامه في المحصول أنه يعني بـ (النص القاطع) من طرق العلة ما يعني بالقطعي في غير هذا الموضع، وهو الذي لا يحتمل غير الظاهر منه ولو احتمالا بعيدا لا حقيقة ولا مجازا1، يؤيده أنه لم يذكر في (النص القاطع) إلا ما جاء فيه ذكر لفظ (العلة) أو ما يرادفه، وجعل سائر ما يذكره العلماء في (الصريح) من اللام والباء ونحوهما في قسم (النص الظاهر) . الوجه الثاني: أن المراد بالقاطع في باب المسالك ما لم يوضع إلا 1 قال في المحصول في باب الترجيح 5/452: "وقد ذكرنا في كتاب القياس أن الطرق الدالة على علية الوصف في الأصل إما الدليل النقلي أو العقلي، أما الدليل العقلي فإما أن يكون نصا أو إيماء، أما النص فقد يكون بحيث لا يحتمل غير العلية وهو ألفاظ ثلاثة وهي قوله: (لعلة كذا أو لسبب كذا أو لأجل كذا". أما ما يدل على أن الرازي لا يَعُد من (النص القاطع) الظاهرَ الصريح الذي يكون غير التعليل فيه مجازا فهو أنه لم يعد اللام من (النص القاطع) مع أنه قال فيها: "أهل اللغة صرحوا بأن اللام للتعليل وقولهم حجة، وإذا ثبت ذلك وجب القول بأنها مجاز في هذه الصور"، إشارة إلى الصور التي اعترض بها على كون اللام من المسالك الصريحة للعلة (المحصول5/139-140) ، فأثبت أنها صريحة في العلية مجاز فيما عداها ولم يعدها من (النص القاطع) ، فكان (النص القاطع) من مسالك العلة عند فخر الدين الرازي - على ما يؤخذ من الموضعين السابقين - اللفظ الصريح في العلية الذي لا يحتمل غير العلية فيما سبق من الاستعمال ولو مجازا.
للتعليل ولم يسبق استعماله في غير التعليل ولو مجازا ولا مانع من الاستعمال اللاحق مجازا، أما الاحتمال والتجويز العقلي في غير التعليل فلا يمنع من إطلاق القاطع في هذا الباب1. وعلى هذا يكون القطعي في باب المسالك عند الرازي ومن تبعه غير ما طوّل الكلام في تأصيله في قطعية الأدلة المعتمدة على الألفاظ، فإنه صرح بأن كل دليل لفظي لا يكون قطعيا حتى تندفع عنه عشرة احتمالات وأن مطلق الاحتمال ولو على أبعد الوجوه يدفع القطعية2، ومسلك النص من الأدلة اللفظية فيرد فيه احتمال عدم الوضع على أقل تقدير. والظاهر مما ذكر من الاعتراض ووجهي دفعه أنه إذا أريد حمل ما ذكره الرازي في قطعية بعض طرق العلة على وجه لا يناقض المعروف من مذهبه في القطعية - فالمراد بالقطعية عنده في باب مسالك العلة أن الدليل اللفظي قد يكون بحيث ينتفي فيه احتمال عدم التعليل خاصة ولا يلزم من ذلك القطع بعدم الاحتمالات الأخرى فيكون إطلاق القطع مقيدا بقطع احتمال عدم التعليل، ولا يتوجه على ذلك إيراد الاحتمالات الأخرى، إذ نفي احتمال معين لا يلزم منه نفي مطلق الاحتمال.
التعليل خاصة مما يرجح التعبير بـ (النص الصريح) دون (النص القاطع) ، كما عبر به من سبق الرازي وبعض من جاء بعده لأن التعبير الثاني موهم بإطلاق القطعية لكل الاحتمالات. والله تعالى أعلم. ولا يقال في دفع الاعتراض إن مذهبه في القطعية - على ما حمله عليه بعض العلماء - القول بالقطعية عند احتفاف القرائن، فيجعل مراده بالقاطع ها هنا اللفظ الذي احتفت به قرائن القطعية، من باب حمل المطلق من كلامه على المقيد منه. فإنه يبعد أن يكون ذلك هو مراده، إذ على ذلك يدخل في القاطع الألفاظ التي أخرجها من (النص القاطع) إلى (النص الظاهر) كاللام والباء و (إنّ) ، لأن كل ذلك مما يمكن احتفاف قرائن القطعية به. والله تعالى أعلم. ألفاظ هذا المسلك: وقد ذكر العلماء رحمهم الله جملة من الألفاظ في قسم (النص القاطع) أو (النص الصريح) : الأول: (لعلة كذا) أو (لسبب كذا) أو (لموجب كذا) أو نحو ذلك. ولم أقف على مثال شرعي لذلك فيما اطلعت عليه من كتب أهل العلم، بل صرح علاء الدين السمرقندي أن النص بالتصريح على اسم العلة - مثل (لعلة كذا) - غير وارد من جهة الشارع، وإن كان مستعملا في
اللغة1، وذكر أن الوارد من جهة الشرع مما يرادف ذلك هو لفظ (معنى) ، ومثّل لذلك بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحد ثلاثة معان "2. الثاني: (من أجل) أو (لأجل) . ومن أمثلته قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} 3.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإذن من أجل البصر" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: نهيتَ أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي دَفَّت، فكلوا وادخروا وتصدقوا"2. الثالث: (كي) . ومنه قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَللرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْلاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 3، وقوله تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} 4. الرابع: (إذن) . ومنه قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيِاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الآية5. وقوله صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه لما قال له أبيّ: أجعل لك صلاتي
كلها، قال صلى الله عليه وسلم: "إذاً تُكفى همَّك، ويُغفَر لك ذنبك"1، وقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن بيع التمر بالرطب: "أينقص الرطب إذا جف؟ "، قالوا: نعم، قال: "فلا إذا "2. الخامس: بناء المفعول لأجله. ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشِرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 3 وقوله عز وجل: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً} 4 أي من أجل الإعذار والإنذار5. السادس: عَدَّ الزركشي من الصريح: التصريح بلفظ (الحكم) ، وذكر أنه - مع إهمال الأصوليين له - أعلى المسالك رتبة6.
ومثَّل له بقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} 1، قال ابن كثير في تفسيرها: " {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله ... وهذه الآية كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} 23. واعتُرض على الزركشي في ذلك بأن الكلام في هذه الآية بعيد عن التعليل، إذ ليس فيها حكم حتى يعلل بلفظ الحكمة، وإنما فيها ذكر حال المنكرين وعاقبتهم ثم وصف ذلك بأنه حكمة قد بلغت غايتها، إلا أن يكون مراد الزركشي مما ذكر أن لفظ (الحكمة) إذا ورد في مقام التعليل فإنه يكون من الطرق القطعية على العلية لا أنه في الآية للتعليل4. ولعل فيما ذكره الزركشي في كتابه (البرهان في علوم القرآن) ما يبين ما
ههنا، فإنه ذكر التعليل في القرآن الكريم وعرفه بأنه: ذِكر الشيء معللا، وأنه يكون أبلغ في الاعتبار من ذكره غير معلل، ثم ذكر أن غالب التعليل في القرآن يكون على تقدير جواب سؤال عن العلة اقتضته الجملة السابقة، ثم بدأ في ذكر الطرق الدالة على العلة فيه فقال: "الأول التصريح بلفظ الحكم، كقوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 1، قال: "والحكمة العلم النافع والعمل الصالح"2. فيمكن حمل كلامه - من مجموع ما سبق عنه ومما ذكر في تفسير تلك الآيات - على أن الآية على تقدير سؤال عن العلة بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما الحكمة من إنزال هذا القرآن المشتمل على أنباء الأولين وقصص المكذبين برسلهم وما حلّ بهم من العقاب، أو من إنزال الآية الكونية في انشقاق القمر؟ فجاء بيان الحكمة وأن في ذلك تحقيقا للحكم الكوني القاطع بهدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله، بما يؤدي إلى العلم النافع والعمل الصالح. والله تعالى أعلم. أثر القرائن في قطعية هذا المسلك: والطريق إلى القطع بكون وصف من الأوصاف هو علة الحكم أعم من
كل هذا، لأنه عين الطرق المؤدية إلى القطع في الأحكام الشرعية، وهي كثيرة، وإن كان المذكور ها هنا الطرق القريبة المعتمدة على اللفظ المجرد وما قرب من القرائن. فأدلة الكتاب والسنة والإجماع تفيد القطعية إما مباشرة وذلك أن يدل لفظ على التعليل وضعا على سبيل القطع كما هنا، وقد تفيد القطعيةَ بتتبع العُرف الاستعمالي والمقاصد الشرعية في علل الأحكام في مظانها وغير مظانها والوقوف على القرائن والشواهد وسائر ما يعين المستدل الناظر في أن وصفا من الأوصاف هو مناط الحكم الشرعي حتى يقطع بذلك، وقد لا يقطع غيره ممن لم يقف على مثل ما وقف. فالتنويع في القطعية هنا يوافق ما تقرر غير مرة في هذا البحث من خصائص القطعية في الأدلة الشرعية، وأن أوسع مصدر للقطعية في الأدلة الشرعية هو ما يؤخذ من تتبع القرائن المعززة والشواهد المعِينة والنظر في وراثة النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وشئونه في أمور الدين والدنيا مع آثار الصحابة رضوان الله عليهم ونهج السلف الماضين في الاستدلال واستنباط اليقين من كل ذلك، ففي ذلك لمن انتهج غُنيةٌ عن السبل الأخرى، وفيه لمن نظر وتحقق بلاغٌ إلى الطمأنينة والأمان بإذن الحكيم القدير. وهو تعالى أعلم.
مسلك الإجماع على العلة: وهو أن يثبت اتفاق علماء الأمة في بعض العصور على كون وصف معين هو علة حكم الأصل1، فإن ذلك يكون دليلا قاطعا على أن ذلك الوصف هو علة الحكم قطعا. ومما نقل من الإجماع على العلية: - الإجماع على كون الصغر علة ثبوت ولاية المال على الصغير. - الإجماع على أن علة تقديم الأخ من الأبوين في الإرث على الذي من أب - وجودُ النسبين في الأخ الشقيق2. - الإجماع على أن علة منع القاضي من القضاء وهو غضبان التشويشُ المانع من استيفاء النظر في القضايا3. اعتراض القاضي على قطعية هذا المسلك: والإجماع الذي يفيد ههنا هو الإجماع القطعي على ما سبق4، فإذا كان الإجماع ظنيا لم تكن دلالته على العلية قطعية، وذلك ظاهر.
ومن ثم اعترض القاضي أبو بكر الباقلاني على هذا المسلك ونفى صحة كونه من المسالك القطعية على العلة، وذهب إلى أنه لا يعدو أن يكون من المسالك الظنية لأن القائلين بالقياس ليسوا كل الأمة فلا يكون إجماعهم قطعيا، إلا إذا قدر رجوع المانعين لحجية القياس عن إنكارهم فيكون الإجماع عندئذ إجماع الكافة وتتحقق قطعيته1. فمن كان عنده الإجماع قطعيا دون اتفاق منكري القياس كان الإجماع على العلة دونهم قطعيا، وصح عدُّه من المسالك القطعية، ولذا رُدَّ هذا الاعتراض بنفي كون منكري القياس من علماء الأمة الذين يعتد بخلافهم في الإجماع2.
الخاتمة الحمد لله على ما منَّ به من التمام وعلى ما تفضَّل به من الختام، وله الشكر على نعمه وآلائه الظاهرة والباطنة، شكرا يوجبه مزيد نعمه وآلائه، ويحضرني حين الختام أمور وصل إليها البحث وتعلقت لظهورها بالذهن أُجملها فيما يلي: 1- أصالة التعبير عن اليقين في الأدلة الشرعية بـ (القطع) و (القطعية) ونحوهما من العبارات المشتقة منهما في كلام أهل العلم بأصول الفقه وغيرهم. 2- القطع في اصطلاح الأصوليين يطلق على ما لا احتمال فيه مطلقا وعلى ما فيه احتمال صار لبعده كلا احتمال، ومعنى القطع في الدليل مفرع عن ذلك. 3- مذهب عامة أهل العلم والذي يدل عليه واقع الشريعة أن الأدلة الشرعية منها أدلة قطعية وفيها دون ذلك أدلة راجحة مع احتمال مرجوح فيها. 4- الأدلة الشرعية إذا اتُّبِع فيها منهج الأخذ بالقرائن المبينة سَلِمت مما يطرق إليها من احتمال معارضة العقل وغيرها من الاحتمالات العشرة. 5- كل دليل شرعي ثبتت حجيته يجب العمل به قطعيا كان أو غير قطعي.
6- أهمية الدليل القطعي في إضفاء الأمن على الأحكام وفي حفظ قواعد الشريعة من أن يتلاعب بها مؤول أو يثير فيها من الشبهات معاند. 7- أصول الفقه لا يلزم الاستدلال على مسائله بالدليل القطعي، لكن غالب قواعدها وأمهاتها ثبتت عند المحققين من العلماء بالقواطع. 8- للقطعية في الأدلة جهتان متكافئتان غير متلازمتين: جهة ثبوت الدليل وسنده وجهة دلالته على المراد من متنه، وأعلى الأدلة بالنسبة للقطعية الدليلُ القطعي الثبوت والدلالة. 9- مما يضفي القطعيةَ على الدليل كونه مجمَعا عليه أو احتفافُ قرائن القطعية به من حال أو لفظ أو سياق، فلا يزال الدليل يَقْوَى بذلك حتى يصل إلى درجة القطعية. - وأَحكم مصادر القطعية في الأدلة الشرعية وأوسعها النظرُ مع الأدلة الشرعية المشهورة في علم وراثة النبوة وآثار الصحابة ومن تبعهم ممن جاء بعدهم - في الاستدلال على المطالب والمسائل الشرعية. 10- الخلاف الصحيح في الدليل يمنع كون الدليل مطردا في القطعية لعموم الناظرين، لكن لا يلزم منه منع أصل القطعية، فتصح القطعية في دليل مختلف فيه وذلك لبعض الناظرين. - والدليل القطعي بالنظر إلى ذلك نوعان: قطعي مطلقا وقطعي بالنسبة لمن حقَّق أسبابها.
11- من القواعد المعمول بها عند عامة العلماء أن الاحتمال إذا ورد على الدليل من وجه صحيح أنه يمنعه من القطعية، فإذا كان الاحتمال مع ذلك مرجوحا فإن الدليل يبقى حجة راجحة غير قطعية. - لكن يجب الحذر من كثرة إيراد الاحتمالات على الأدلة الشرعية. - ولا يمنع القطعَ شرعا الاحتمالُ العقلي المجرد الذي لا يستند إلى شرع أو عادة. 12- من آثار نظر أهل العلم في القطعية تفريق بعضهم في الاصطلاح بين الدليل والأمارة، وبين الفرض والواجب. 13- من أثر كون الدليل قطعيا أنه يمنع الاجتهاد بما يؤدي إلى مخالفته، وذلك بعد تحقق القطعية، وأنه يوجب خطأ من خالفه. 14- يمتنع وقوع التعارض حقيقة بين دليلين تحققت فيهما القطعية، وأنه لذلك لا يتأتى الترجيح فيها. 15- الكتاب والسنة أصل الأدلة القطعية وغيرها. 16- الخبر المتواتر لفظه أو معناه لازم القطعية فيما تواتر فيه عند جميع المسلمين. 17- خبر الواحد جائز القطعية في قول عامة أهل العلم بعد التحقيق، وذلك باحتفاف ما من شأنه أن يحتف بالخبر الذي هو حجة شرعا من قرائن القطعية.
18- القطعي المطلق من أدلة الكتاب والسنة بالنظر إلى جهة الدلالة منهما هو (النص المطلق) ، في اصطلاح من يستعمله فيما لا احتمال فيه من الجمهور، وكذلك (المفسّر) في اصطلاح الحنفية. - ومفهوم الموافقة (أو دلالة النص) جائز القطعية. - والعام المطلق جائز القطعية عند الحنفية وهو غير قطعي عند غيرهم. - وإذا نُظر في اللفظ العام إلى عرف أهل اللغة ومقاصد الشريعة في استعمال الألفاظ كان جائز القطعية عند من حصّل ذلك. 19- الإجماع حجة قطعا والحكم الثابت به قطعي وصواب، لكن مسالك العلماء مختلفة في تحديد القطعي منه، وأولى ما ذكر فيه أنه الإجماع القولي المشاهد أو المنقول تواترا. 20- القياس جائز القطعية، والقطعي منه أنواع يجمعها أن يكون التعليل ووجود العلة في الفرع قطعيين. 21- من الطرق المثبتة للعلية مسالك تدل على التعليل قطعا كالنص والإجماع. هذا، وباب القطعية أوسع مما وقع في هذا البحث، فإنه إنما كان البحث فيه فيما يتعلق منها بالأدلة الأربعة، بل إن بعض جزئيات هذا الموضوع تحتمل ببعض النظر بسطا أوسع.
فهل هناك أدلة شرعية أخرى قطعية؟ وما ضابط القطعية فيها؟ وما حقيقة القطعية في عموم الشريعة؟ وما أثر القرائن والاحتمال في المسائل الأصولية مسألة مسألة؟ وما أثر الاحتمال العقلي في القواطع الشرعية في واقع الفقه وأصوله؟ وما القواعد الأصولية التي قامت عليها أدلة قطعية مطلقة؟ فهذه بعض الأسئلة التي بقيت عالقة بأنها لا يجمعها حَدُّ هذا البحث. أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لصالح الأعمال، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه، وأن يعلمنا علما نافعا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه مجيب قريب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم، وعمل بسنته إلى، يوم الدين، آمين.... والله تعالى أعلم.