القضايا الكبرى

مالك بن نبي

مالك بن نبي مشكلات الحضارة القضايا الكبرى دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان دار الفكر دمشق - سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القضايا الكبرى

مالك بن نبي مشكلات الحضارة القضايا الكبرى بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان دار الفكر دمشق - سورية

إعادة 1420هـ = 2000م ط 1: 1991م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 الموافق 10 حزيران (يونيو) 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي). وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، رحمه الله، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979 م عمر مسقاوي

هذا الكتاب

هذا الكتاب: بقلم: عمر كامل مسقاوي ــــــــــــــــــــــــــ نقدِّمه إلى القارئ تحت عنوان (القضايا الكبرى). لم يكن هذا العنوان من اختيار بن نبي وإنما وقع في يدنا عرضاً طبعة باللغة الفرنسية تحت عنوان ( Les grands thèmes)، أصدرها بعض تلاميذ بن نبي في الجزائر عام 1976م، وقدّم له وعلَّق عليه الأستاذ نور الدين بوقروح بتكليف من السيد عمر بن عيسى. وحينما اطَّلعنا على مضمون هذا الكتاب باللغة الفرنسية، وخصوصاً مقدمته لفت نظرنا ذلك الاهتمام الكبير بفكر بن نبي، والذي يعكس المكانة اللائقة التي احتلتها أفكار بن نبي لدى الشباب. ثم تبيَّن لنا أن (القضايا الكبرى) هذه اشتملت على فصول خمسة: الثلاثة الأولى منها نشرت عام 1664م باللغة الفرنسية، وترجمت تحت عنوان (آفاق جزائرية: للحضارة، للثقافة، للمفهومية). ترجمها الأستاذ الطيب الشريف، وأصدرتها مكتبة النهضة الجزائرية. أما الفصلان الأخيران، فقد صدر الرابع منهما (الديمقراطية في الإسلام) ضمن سلسلة محاضرات بعنوان (تأملات) أصدرتها دار الفكر بدمشق، والفصل الخامس صدر مستقلاًّ في كتيب تحت عنوان (إنتاج المستشرقين). وإذ نحن في صدد إعادة نشر مؤلفات بن نبي فقد أغرتنا فكرة الطبعة

الفرنسية التي صدرت تحت عنوان ( Les grands thèmes، القضايا الكبرى) لكي نعيد طبع سائر هذه المقالات تحت هذا العنوان، وبذلك يدخل كتاب (آفاق جزائرية) ضمنها للاعتبارات التالية: ـ[الاعتبار الأول]ـ: أن عنوان آفاق جزائرية يوحي بأنه يطرح مشكلة خاصة بالجزائر فيما هو فكر بن نبي، يتناول مشكلة الحضارة في العالم المثالث عموماً. فعبارة (القضايا الكبرى) بدت لنا أكثر اتفاقاً مع توجهات بن نبي، لأنها تشتمل على تحديد منهجي للمفاهيم التي تناولتها هذه المحاضرات المجموعة بين دفتي الكتاب. ـ[الاعتبار الثاني]ـ: أن هذه الطبعة الصادرة بالفرنسية تشتمل على المحاضرات الخمس التي تترابط فيما بينها وحدة المنهج الفكري لمالك بن نبي. إذ أنها تناولت مفاهيم الحضارة والثقافة والأيديولوجية، بما ينسجم مع طرح بنية فكرية وسلوكية تتصل بأصول الحضارة الإسلامية ومكوناتها الاجتماعية، التي شرحها في المحاضرة الرابعة تحت عنوان (الديمقراطية في الإسلام). ثم جاءت هذه المجموعة تتحدث عن المدى الذي صاغته الحضارة الغربية في تكوين الفكر والثقافة في مجتمعنا الحاضر عبر (إنتاج المستشرقين). وبذلك ترتسم فكرة بن نبي في تحديد مشكلة الحضارة التي لابدّ لنا في حلِّها من أن نطرح القضايا المرتبطة بفعالية البناء، وأن نُقَوِّم جهود المستشرقين الذين ألهموا فكر النخبة فينا، ونضعها في إطار الصراع الفكري الذي من خلاله تعامل العالم الاستعماري مع العالم المثالث، تعامل استغلال لموارده واسترخاء في إرادته. ـ[الاعتبار المثالث]ـ: أن الطبعة الفرنسية اشتملت على تقديم يشير بوضوح إلى

نضوج فكر بن نبي في مدارك الشباب الجزائري المثقف، وذلك مؤشر لابدّ من دفعه إلى المدى الذي يؤهل فكر بن نبي ليكون منطلق الفكر والرؤية في جيل الشباب الذي لا يزال منغمساً في فوضى الاتجاه وضبابية الرؤى وابتسار الحلول. فالمقدمة التي وضعها الأستاذ بوقروح قد طرحت المشكلة في عمقها الحاسم، ومن أجل بناء رؤية تعيد صياغة فكر النهضة عبر جيل لا يستطيع أن يتجاهل طويلاً كما قال الأستاذ بوقروح مالك بن نبي. وأمام هذه الرؤية التي طرحها مقدِّم الكتاب والمعلِّق عليه نجد لزاماً، أن يطّلع القارئ العربي على هذه الآفاق التي تضع فكر بن نبي في موقعه الملائم. ـ[الاعتبار الرابع]ـ: إزاء هذه الاعتبارات رأينا من المفيد للقارئ العربي أن يدرك المرامي البعيدة التي طرحها بن نبي في مختلف كتبه، والتي تتمحور حول محور واحد هو مشكلة الحضارة، وقد تضافرت في هذه المحاضرات الخمس حيث ألقيت الثلاثة الأولى منها في الجزائر عام 1964م، إثر عودته إليها بعد الاستقلال مفعماً بالأمل في بناء دولة الاستقلال بعد أن تحقق استقلال الدولة. ولا نحب في هذه المقدمة أن نشير إلى الإحباط الشديد الذي أحاط ببن نبي حين ساهم كمدير للتعليم العالمي في الجزائر، مما نجد صداه في مجموعة المقالات التي نشرها في مجلة ( La révolution africaine) خلال عقد الستينات كما نجده في كتبه التي صدرت في تلك الحقبة، وبالخصوص كتاب (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي). لكننا وأمام هذا التجاهل الذي كان الأشد على نفسه، نرى في بادرة الشباب الجزائري عزاء لفكر بن نبي الذي لا يزال لاعتبارات تتصل بالصراع الفكري في البلاد المستعمرة يُسام الإغفال من مخططي الثقافة ويُلقي على فكره ستارٌ كثيفٌ يحول بين الأجيال والمنهج الفاعل في بناء نهضتها.

مالك بن نبي وقد مضى على وفاته سبعة عشر عاماً لا يزال يفتقده شبابنا المعاصر في ظلمة الشتات الفكري، ولكننا نرقب في هذه الظلمة أشعة اهتمام وإعجاب نراها في بعض المقالات والدراسات، وإن كانت لم تشكل حتى الآن تياراً فاعلاً في خطى المستقبل. ففكر بن نبي لا يزال ينادي الجيل من مكان بعيد، لكنه يقترب رويداً رويداً كلما استفحلت في عالمنا الهزيمة. فما كان غريباً على فهم القارئ من طروحات بن نبي في زمن الرومانسية المتفائلة التي ضجّ بها عالمنا منذ الخمسينات، بدا اليوم أقرب إلى إدراك الجيل، الذي أطبقت من حوله الآفاق وبات وجهاً لوجه أمام مخاطر الاجتياح الإسرائيلي، والتخلي العالمي عن قضاياه، في ظل التوافق الدولي. فبِنْ ني إذا كنا قد جحدناه في حياته أباً يرسم لنا شروط النهضة الفاعلة المستلهمة خطى الحضارات وتعاقبها؛ فإننا وكلما أفلسنا بالشعارات الرائجة في سوق العالم الغربي المعاصر نقترب من ذلك اليوم الذي يثرينا ميراثه بفعالية الإنجاز وسلامة الاتجاه. هذا الكتاب الذي يضم مجموعة محاضرات نشرت ثلاث منها في كتاب (آفاق جزائرية)، يحتوي على سائر المقدمات والتعليقات التي تضمنها ذلك الكتاب ترجمة (الطيب الشريف)، ثم إنه يحتوي على سائر المقدمات والتعليقات التي تضمنتها الطبعة الفرنسية التي يأتي هذا الكتاب ترجمة لها. وسوف نشير إلى تعليقات آفاق جزائرية التي نوردها أولاً، ثم نردفها بتعليقات الطبعة الفرنسية بإشارة ط. ف أي الطبعة الفرنسية. وإنني أشكر الدكتور بسام البركة الذي قام بجهد كبير في ترجمة تعليقات الطبعة الفرنسية وساهم في تحقيقها. طرابلس 19 رمضان 1410هـ 14 نيسان 1990م عمر مسقاوي

مقدمة الطبعة الفرنسية

مقدمة الطبعة الفرنسية ترجمة عمر كامل مسقاوي ــــــــــــــــــــــــــ كان جيلي في الثانية عشر من العمر حين أزف الاستقلال. واليوم إذا كان لم يعد على مقاعد الجامعة فهو مع ذلك يستفيق كل صباح على صوت النفير ليقدم التحية في وقفة انضباط، للعلم الوطني ساعة رفعه. وإذا كان لم يعد في المدرجات، أو في ثياب العمل، يُصَادَفُ في المصنع، في حقل، أو هو منتظم لِتَوِّه في مشروع عام؛ إلا أنه حيث يوجد، فهو يعبر عن قوة الإرادة في الجزائر، يتعلم فن العيش في حياة وطن، وهو ممتلئ بالتعاون. إنه الآن جاهز لحمل رسالة. عبر الماضي وفي أماكن أخرى من المعمورة أعطيت أجيال أخرى منحة نادرة، ساقتها العناية الإلهية المسيِّرة للعالم، حين جاءت إلى الوجود في اللحظة التي يبدو فيها أن شيئاً ما مخيفاً، يأتي ليزحزح مركز الاستقطاب والثقل، في توازن النشاط الإنساني في العالم. تلك فرصة فائقة أن تجد نفسك بين الأحياء في اللحظة الحاسمة حين تستعد الإنسانية لتشهد تجديداً، ولادة ثانية كالتي عرفت في منعطفات التاريخ حين تتوارى سريعاً حضارة لتظهر من جديد حضارة في حلّة جديدة. لطالما قيل، إن هنالك الإنسان وليس الإنسانية. ولمزيد من الإيضاح،

ففي ظل الإمبراطورية الرومانية مثلاً، فالإنسانية لم تكن جميع الشعوب المعروفة، بل النخبة المنتقاة. وبالطريقة نفسها في القرن التاسع لم يكن للإنسانية مفهوم غير ذلك الجزء الإنساني المثبت في الإطار الإسلامي. وهذا ما يفسِّر لنا أنه وحتى يومنا الحاضر حين نستدعي معنى الإنسانية نفكر في الجزء الشمالي من البسيطة وليس في القبائل الأسترالية. فالناس- الجنس البشري- لم يجتازوا يوماً كتفاً بكتف مختلف مراحل التاريخ العالمي. وظلام القرون الوسطى لم يكن شاملاً العالم كله. والقرن العشرون ليس قرن الفضاء لسائر الشعوب. والشعوب لم تصعد مجتمعة أية درجة. وهي لم تكن جميعها في العالم كله وفي وقت واحد في العلاء. القرن الحادي والعشرون، ربما كان هو الذي سوف يستطيع أن يستعمل كلمة إنسانية، التي لم تكن تشير حتى يومنا هذا، إلا إلى جزء يسير في الغالب مم المجموع الإنساني المسمى (حضارة)، بيد أن ذلك مشروط مسبقاً بقدرته على محو الفروقات النفسية والثقافية، فضلاً عن التقنية. تلك الفروقات التي ما زالت تجعل الإنسان يضع قدماً في القمر، وأخرى في جزيرة مجهولة. ... إن جيلي سيكون من أولئك الذين لا يعدهم حصر. والذين سيختمون الألف الثاني من التقويم الذي تعتمده مختلف الدول الحديثة. اختتام ألف عام!! دون أي ارتباط، أو علاقة، أو صلة، بذلك الهذيان التهديدي للألفية، فإن لدينا يقيناً مؤسساً على مؤلفات تتمتع بنفوذ معترف به، وعلى إرهاصات

الحضارة السائدة، يسمح بالتأكيد على أنه منذ الآن وإلى عام ألفين ستحدث تحولات عميقة على مستوى الشعوب، تؤدي لتجديد في أنماط حياة الإنسانية في داخلها كما في خارجها. وإلى أن يحين هذا، فإن الظّن بأن تغييراً أو انقلاباً يحدث حتماً بطرفة عين، وفجأة في ساعة الصفر صبيحة عام ألفين هو تفكير صبياني. معطيات هذا الانقلاب، هي في التطور التاريخي الذي بدأ منذ زمن ليس بقصير. فهل أدرك ذلك جيلي والذي سيعقبه والسابق عليه؟ إن عصرنا، يبدي كل أمارات الإرهاق، والانحلال البطيء. لكن في بعض أجزاء من كوكبنا قوى جديدة تتوقع تنتظر، وتعمل على سدّ الفراغ عبر أجهزة نفسية معاصرة ابتدعتها عبقريتها. وهذا ما يحدث بشكل رئيسي في الصين، وفي العالم المثالث، حيث الجزائر تحتل المركز الذي أهلتها له مواهبها أو إنجازاتها. إن عصرنا كما قيل، هو عصر مِفْصَل. إنه الوقت الملائم للتغيير، للثورة على الصعيد الكوني. وأمامنا، كما هو أمام سائر القوى، التي أشرنا إليها أمران حسب تعبير بن نبي لا ثالث لهما: رسالة أو خضوع. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد 47/ 38). وخطاب القرآن الكريم هذا موجه إلى الشباب المسلم، العربي، شباب العالم المثالث، فمجموع الطاقات الجديدة هي التي ينبغي عليها أن تعيد من جديد صنع عالم مُهان مُذَل، في ظله لم تعش الإنسانية يوماً موحدة وكلية. لقد سقط الغربما، إذ بدلاً من أن يستجيب للخطاب الإنجيلي القائل:

((لقد جعلتك لتكون نور الأمم، لتحمل الخلاص حتى أطراف الأرض)) (أعمال الرسل: 13 - 14). إذا به يبنى فوضى كونية حاملاً الحرب والعبودية والاستغلال إلى أقاصي المعمورة. وها إن أبناءه انتهوا إلى لعنه، والهروب منه، وتدميره مؤكدين نبوءةٌ أخرى للإنجيل ((سيكرهون بعضهم بعضاً. بسبب الفظائع التي ارتكبوها ولسبب سائر خطاياهم)) (قزحيا: 6 - 9). الغرب يموت، لكن بغير توبة ضمير، فها هي أميركا الكبرى تتهاوى تحت ضربات موجهة إليها من الداخل من (الشباب الغاضب)، من السود، ومن الرأي العام الذي يطرد رئيسا غير نزيه، ويمنى بالهزيمة في فييتنام. أما أوروبا، فلم تعد سوى ظل نفسها فهي قد سقطت من الزمن. إن قارِعَ منتصف الليل يقترب في الظلام. ... يحدث أكثر من مرة في حوليات الفكر، أن رجلاً عظيماً يمر وهو شبه مغمور في زمنه؛ نيتشه عرف الإهانة حين نشر مؤلفاته على نفقته. بينما مرت ستة قرون قبل أن يعترف لابن خلدون كأب لفلسفة التاريخ (بعض الطروحات تدعي عكس ذلك، إذ تعتبره أباً لعلم الاجتماع، ونحن لا نعتقد ذلك، لأننا نرى فيه، وإن كان أول عالم اجتماع أكثر من عالم اجتماع. فهو المنشئ للتوقع والرؤية المسقبلية). وفي بعض الأحيان فإن مجرى الأمور في عالمنا يؤدي إلى ظلم وإجحاف كبيرين عندما لا يبدو الفكر العالمي يستأهل بصورة مؤكدة التمجيد بعد الموت.

سنوات، عقود، بل قرون يمكن أن تمر قبل أن تأتي مصادفة سعيدة تنفض عنه غبار النسيان. وهكذا نرى، أن العبقرية الإنسانية تهيم طو يلاً قبل أن تكتشف حصاداً تركه واحد من أبرز وجوهها. أوَلم تأخذ به علماً من قبل؟ ... إن جيلي يحب أن يدرك بأنه سادر في التنكر للمفكر الوحيد، ذي المدى العالمي الذي لم تنجب مثله الأرض الجزائرية. فأولئك الذين هم من أبناء جيلي، وبالطبع من أبناء الأجيال الأخرى، الذين يبذلون أنفسهم للبحث من أجل تكوين الفكر الجزائري لم يعد باستطاعتهم أن يتجاهلوا (مالك بن نبي) أكثر من ذلك. وليس المكان هنا لإعطاء نبذة عن حياته، أو حتى القول بدقة ماذا يمثل بن نبي بالنسبة لمختلف التيارات الفكرية العالمية. ولن يستخفنا المقام، لكي نعتبر أنفسنا مؤهلين في الوقت الحاضر إلى إحلاله في المقام الذي يعود إليه بين ابن خلدون، وهردر، وبوخار، وشبنجلر، وتوينبي، وباقي المفكرين والفلاسفة في هذا الوجود. يكفينا أن نلفت الانتباه، إلى أنه من الضروري لكي نفهم الأعمال (البنابية) محتواها وتوجهاتها، أن ندرس بعناية المؤلفين الذين أشرنا إليهم هنا وفي الشروحات اللاحقة والتعليقات. ليس هذا سوى إشارة أولى. فالمطلوب عمل وبحث، بكل معنى الكلمة من أجل أوسع معرفة حول مصائر مختلف المجتمعات والحضارات المعروفة.

فعندما نستذكر بن نبي فهذا يعني أننا نتكلم عن معنى الوجود، عن فن بناء الأمة، عن مستقبلنا التاريخي، فن بناء مفهوم الإنسانية في نهاية القرن ... هذه الطبعة (القضايا الكبرى) لا تعني أننا بدأنا بأهم أعمال بن نبي بكل معنى الكلمة. فالموضوعات التي عولجت في هذا الكتاب لا تشكل في الواقع، سوى الجزء اليسير من إنجاز بن نبي. فليس هنا سوى بعض النصوص، محاضرات ألقيت في الأصل في الجزائر وفي الخارج. وقد اعتقدنا أنه من المفيد أن نضيف إليها شروحاً لبعض النقاط. لأن ذلك يضيء لقارئ بن نبي لأول مرة، ويرفده بالعناصر الوثائقية الملائمة لمزيد من البحث الجاد. ولسنا بحاجة لأن نضيف، بأننا نأمل ألا نكون قد شوهنا فكر طبيبنا طبيب الحضارة، حين نعطي تفسيرات قد تكون خاطئة، أو نقحم فيه تعليقات في غير موضعها، أو نخضعه لمقارنات تحكمية. هذا أكثر ما نخشاه. أما فيما تبقى، فنحن أول من يدرك أن عملنا لا يخلو من قصور، وعلى كل فإن ما كتبه بن نبي هو وحده المهم. ... الآن، لا بد للقارئ أن يعرف من كان وراء هذا العمل، مشروع طبع الأعمال الكاملة لمالك بن نبي. إنهما صديقان هما عمر بن عيسى، وعبد الرحمن بن عمارة، اللذان يكنان الإخلاص لبِنْ نبي ويمحضانه جهودهما، وهما بذلك يعطيان المثل لجيل باحث في العمق، في الطابع الثقافي لبناء وطننا.

إنني أحييهما، وأشكرهما على ما أولياني من شرف القيام بمهمة دقيقة هي تقديم ثمرة من ثمرات والتعليق عليها. إذ كيف يمكن أن نرى في هذا العمل، غير المهمة التي تكشف للجيل الصاعد الروح التي تضع الجزائر في رؤية عليا للتاريخ، في أفق عالمي يتمازج مع الاتجاه الشامل للعالم. نور الدين بوقروح

الإهداء

الإهداء ... إلى الأمير عبد القادر إلى البطل الأُسطوري للملحمة الوطنية الذي يجسّد شخصُه، في فترة فاجعة من تاريخنا، مصيرَ: وطن، وثقافة، وحضارة ... مالك

مقدمة

مقدمة بقلم الدكتور: عبد العزيز خالدي ــــــــــــــــــــــــــ في سنة 1939كانت الجزائر تعلم أن المقامرة على مصير العالم ستجري في ذلك الصدام الذي كان على الأبواب آنذاك. ولكي يعلم الوضعية التي تكتنف مصيره الخاص، كان الشعبُ يتتظر كلمةَ الأمر من مُسَيِّريه. ولكن (زعماءَنا) كانوا أكثر تعلُّقاً بما يُحَاك داخل: (كهف علي بابا) (¬1)، من الاهتمام بالطفرات التي كانت تَعْتَمِلُ في أعماق الوعي الشعبيِّ. فقد تُرِكَ الشعب وشأنه إلى الإدارة، حتى يُقَدَّم كَمُحْرَقَةٍ لِفُوهاتِ المدافع. ولقد أراد الاستعمار أن ينتهز الظروف لكي يضع أقفال ضمان أُخرى يغلق بها وعي (رعاياه). وعند نزول الحلفاء في الثامن من نوفبر (تشرين الثاني) سنة 1942م، بينما كان جميع الطامعين في النفوذ يتآمرون بالجزائر العاصمة، لم تبدر أقلُّ حركة عن أيِّ شخص من (مُسَيِّرينا). ولكن العاصفة التي اجتاحت العالم، طوال حمس سنوات كانت قد فككت مفاصل الأقفال. ¬

_ (¬1) يعني مقر الحكومة الفرنسية بالجزائر العاصمة في تلك الأثناء (المترجم).

فقد كان الشعب الجزائري الذي احتفظت ذاكرتُه ببعض نُبَذٍ من التصريحات المغرية التي صدرت زمن الحرب، واعياً لمصيره. ولكي يُنْسيه تلك التَّصريحات، عمد الاستعمار إلى إغراقه في حَمَّام من الدِّماء، وغَمْسِه في محفل خليع من الانْتِخابات المضلِّلَة التي كان يرمي من ورائها إلى صرف الجماهير الجزائرية عن وجهتها، وإلى تقديم بديل خادع للخارج، يجعل الرأي الدُّولي المتواطئ أو السيِّئ الاطِّلاع، يعتقد أن الجزائر كانت تُقْبِلُ على عهدٍ ديموقراطيٍّ تحت رعاية الوالي نجلان ورينه مايير ( Le gouverneur Naegelen et René Mayer) . ولكنها كانت ساعة التحدي المنقذة التي أرغمت الشعب الجزائري على أن يمتلك ذاته لكي يجد نفسه من جديد. فقد فهم أنه يتعين عليه لكي يتخلص من عهد يسوده الالتباس و (البوليتيك) (¬1)، ويبرز إلى وضح النهار، أن يستعيد القيم التقليدية التي انبنى عليها تاريخه حتى سنة 1830 (¬2). وكان ذلك يقتضي أن يوجد العقل الموضوعي الذي يستطيع تحرير هذه التقاليد من ارتهانها ((لأوشاب ما بعد عهد الْمُوَحِّدين)). لقد قام الشيخ بن باديس ومدرستُهُ بجهد محمود في هذا الاتجاه، وإن كانا لم ¬

_ (¬1) ( Boulitique) : اصطلاح شعبي محض، يطلقه الإنسان الشعي في بلدان المغرب العربي عموماً على احتراف الدجل السياسي والاعتباط ( démagogie) الرامي إلى اقتناص النفوذ لتحقيق أغراض شخصية خسيسة، عن طريق التضليل السياسي للجماهير. (المترجم). (¬2) يمثّل إنشاء منشورات مكتبة (النهضة) مساهمة في ذيوع هذه الحركة الجزائرية، كما يلتقي خطُّ سيرها مع فكرة الشيخ بن باديس التي يقولُ فيها: ((إن الذي يكوِّن الأمّة، هو العقيدة، والثقافة، والاعتزاز بالماضي: وما دام أحد الشعوب لم يفقد هذه المقوِّمات، فهو حيّ ولو كان مستعبدً)). (المقدم).

يحقِّقا ذلك التَّحرُّر تحقيقاً تامّاً، لأن طريقة سيرهما قد ظلت رهينة لكل من علم الكلام والمغيَّبات. وكان كتاب (شروط النهضة) يمثل أوَّل جهد لعقل مسلم يستعيد (للإسلام) معناه التاريخي، لأنَّ الإسلام يتكامل ضمنه مع تركيب متآلف وأساسي للإنسان، والتراب والزمن. ولقد أدرك الاستعمارُ أكثر من ساستنا، القيمة الثورية لهذا التعبير الجديد عن الإسلام؛ ويقتضينا الواجب أن نضيف إلى ذلك أنه أقدم على عمل جريء لكي لا يجد هذا التصوُّرُ طريقه إلى الوعي الإسلامي. فالمحاضرات الثلاثة المنشورة هنا تشكِّل كُلاًّ متكاملاً، كما تُسَجَّل ضمن اهتمامات المؤلف منذ حوالي عشرين سنة. وهي تأتي في وقتها المناسب لتسدَّ ثغرة في سياسة جزائريَّة تزحمها المشاكل العاجلة وتجعلها تُضيع من هنا بالذات كل فعَّاليَّتها. ذلك أن السياسة لا يمكنها أن تغيِّر مصير مجتمع معين ما لم يتم تحديدها في كنف تصوُّر عام للعالم باعتبارها التعبير العيني الملموس لثقافة حضارة مُرتَسِمة على مُخَطَّط تعبئة ( Tactique) واستراتيجيَّة وطنيَّتَيْن. وغداة انعقاد مؤتمر جبهة التحرير الوطني، أُريد أن أُلِحَّ في هذه المقدِّمة على أهمِّيّة المشكلة المفاهيميَّة، لأن: ((المفهوميَّة، ليست مجرد مجموع أفكار شتيتة، ولكنها مُسَيَّرَةُ الطاقات، والسَّهم الذي يُعَيِّن للجماعة طريقها في التاريخ)). بينما نحن نعلم منذ الاستقلال أننا نمتلك برنامجاً: هو برنامج طرابلس، ولكننا لا نمتلك مفهومية. وهذا الفراغ الذي يشغل ويحيِّر الوطنيِّين الواعين، يشبع مطامع بعض المفاميِّين المشردين من أوطاضهم ( Cosmopolites) من

الدُّخلاء الباحثين عن أرض موعودة. وإننا لنجد من بين هؤلاء (الثوريِّين!) أولئك الحانقين الذين كَبَوا في اللحاق بموكب الثورة في بلدانهم وأُولئك المنتجعين لِلْكَلأ ( transhumants) (¬1) ، الذين ليسوا من هنا ولا من هناك، والذين نجدهم يتسلَّلُون في بلادنا إلى كلِّ مكان (¬2) وهناك أيضاً الذين يتباهون بالنجاحات المشهودة لبعض النظم الاشتراكية المعينة ولكنهم لا يأخذون في اعتبارهم حساباً للحقائق الواقعيَّة الجزائريَّة بما فيه الكفاية. وإذن فالْخَطر يتهدَّدنا في عقر دارنا، ولذا يجب علينا أن نُفْهم الآخرين وَنُفْهِم أنْفُسَنا أن مفهوميَّة شعب ما لا يمكن أن تُصاغ إلا من طرف الآدميِّين الذين شكَّلت جِبِلَّتَهُمْ أحداثُ تاريخ هذا الشعب. ويزداد إلحاح ضرورة المفهوميَّة بقدر ما تشغل الجزائر مكانة خاصة في (المغرب)، والعالم العربي، وأفريقيا، وفي العالم الكادح. فقد اجتذب بالأمس النضال البطولي للشعب الجزائري تياراً ضخماً من التعاطف. واليوم أصبح العالم مُنْتَبِهاً لرسالة الجزائر الجديدة. وهذه الرسالة يجب أن لا تَتَنكَّر لتضحية شهدائنا، ولا أن تخيِّب رجاء معاصرينا. ¬

_ (¬1) يعني المقدّمُ شذّاذ الآفاق الذين لا ينتمرن إلى وطن، من المرتزقة المتمعّشين الذين يصطلح الشعبُ على تسميتهم: ((بالْخُبزيِّين)). (الترجم). (¬2) ويتعين علينا كذلك أن نقوم ذات يوم بتحديد الدور الذي تلعبه صحافة فرنسية معينة في تعمية الجزائريِّين وصرفهم عن وجهتم قبل الاستقلال وبعده. فقد تعودنا على اطلاعة الوقحة للصحافة اليمينيّة، ولكن مكيافيلية ( machiavélisme) الصحافة اليسارية أشد منها فتكاً بما لا يقاس لأنها تخفي وراء مداهنتها الدنيئة (مقاولة) ترمي إلى تَقْييم اللاّقِيَم ( les non-valeurs) ومواراة القيم الحقيقية، لمجرد أنها لا تجد السلوان أو هي تظلّ سيّئة العزاء إذ تجد نفسها قبالة ثورة تفهم أنها تُعَدُّ من أجل الشعب الجزائريّ وبواسطته هو وحده. (المقّدِّم).

وأخيراً وبالنسبة إليَّ وأنا أُقدِّم اليوم كتاب (آفاق جزائريَّة) فإنني لا أنسى أنني كنت قد قدمت بالأمس، منذ ستة عشر عاماً، كتاب: (شروط النهضة)؛ فها هنا يقوم استمرار موصول للصداقة وللفكرة. وذلك أمر جدير بالتَّنويه عبر صروف الدَّهر وتقلُّبات الأزمان؟ ... الدكتور عبد العزيز خالدي الجزا ئر العاصة في 15 مارس (آذار)

توطئة

توطئة أيها الرفيق! ها هي ذي الساعة التي يتسلل فيها شعاع الفجر الباهت بين نجوم (الشرق)! كل ما هو مقبل على الصحو، قد بدأ ينتفض ويرتعش داخل خمول الكرى وأطماره ... قريباً ويشرق (الكوكب المثاليُّ) على كدحك الذي بدأ في السهل، حيث لا تزال المدينة التي هجعت بالأمس ... نائمة! ستحمل الأشعة الأُولى للنهار الجديد، بعيداً جدّاً ... أبعد من خطاك ... ظلَّ عملك المقدَّس في السهل الذي تبذر ... وسيحمل النسيمُ الذي يهبُّ الآن، البذارَ الذي يذرّهْ يمينُك أبعد من ظلّلك ... أبذر يا أخي الزارع! في الأُخدود الذي يمتدُّ بعيداً ... من أجلِ جيلٍ قادم ... ها هي بعضُ الأصوات قد ارتفعت! ... الأصوات التي أيقظتها خطواتُك، عندما كنتَ تغدو بالحاضرة إلى كدحك المبكِّر. فهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتحقون بك بعد حين ... غَنِّ يا أخي الزارع! لكي تحدُوَ بأُنشودتك الْخُطَى المقبلة في غبش الفجر، نحو الأُخدود الآتي من البعيد ...

وليرتفع نشيدك الطروب، كما ارتفع نشيد الأنبياء قديماً، عندما كانوا يغنُّون أشعاراً أُخرى، في تلك الساعات الملائمة التي تولِّد الحضارات ... ولتُدَوِّ أُغْنيتك! أقوى من الجوقة الصاخبة التي يعلو ضجيجها هناك ... فها هم قد أخذوا الآن ينصبون بباب المدينة التي بدأت تستعيد يقظتها، سرادق سوق الملاهي مع مسلّياتها، لتلهِية واحتجاز هؤلاء القادمين صوب خطاك ... لقد أقاموا الجحوش والمنصَّات من أجل المشعبذين والبهلوانات، حتى يغطي عجيجهم على نبرات حدائك ... ولقد أوقدوا المصابيح الخادعة، حتى يحجبوا بها النهار المقبل، ويلفُّوا شبحك بالقتام في السهل حيث تسير ... لقد زيَّنوا الوثن لكي يحقِّروا الفكرة! ولكن الكوكب المثاليّ يواصل سيره الذي لا ينثني. وهو لا محالة سيضيءُ قريباً انتصار الفكرة وأُفول الأوثان، كما تمَّ ذلك بالأمس في (الكعبة). مقتطفة من كتاب (شروط النهضة الجزائرية) سنة 1948

مشكلة الحضارة

1 - مُشْكِلَةُ الْحَضَارَةِ محاضرة أُلْقِيَتْ (باللغة الفرنسية) في الجزائر العاصة بتاريخ 9/ 1/ 1964 ــــــــــــــــــــــــــ

في بعض المنعطفات المعينة من التاريخ، يتعين على المجتمع أن يعرف بأي تقويم (أو ميزانية) ينخرط في إحدى المراحل الجديدة. ومن هنا يجدر بنا أن نتساءل: أين كُنَّا غداة الأوَّل من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1954؟! فقد وُلِدَتْ أجيالٌ جزائريَّة عديدة وسط الضباب الذي يُغَشِّي المجتمعات التي تضعها بعضُ الظروف الفاجعة على هامش التاريخ. وداخل الضباب يكون من العسير على الإنسان أن يشُقَّ له طريقاً معيناً، حق لَيَنتَهِيَ الفرد نفسُه إلى فَقْدِ الصِّلة مع المجموع ومع الجماعة، الأمر الذي يُفْضِي إلى تَقَوُّضِ شبكة الصِّلات الاجماعية على هذا المنوال. فالجزائريُّ الذي وُلِدَ ضمن هذه الشروط لم يكن شيئاً آخر سوى مجرد فرد: أي كائن معزول عن جماعة وُضِعَتْ على هامش التاريخ من جراء (القابلية للاستعمار) ( Colonisabilité) (¬1) كما أصبحت مفكَّكة الأوصال بفعل الاستعمار حتى لقد كان يُشْبِهُ الفردَ الذي تَبَقَّى على قيد الحياة بعد نوع بشريٍّ مُنْقَرِضٍ عقب كارثة جيولوجية. ¬

_ (¬1) بالنسبة لبن نبي فإن تعبير (القابلية للاستعمار) ظاهرة عامة في العالم المثالث كله قد عرفها خلال حقبة معينة من تاريخه. هذا المفهوم ابتكره واستخدمه للمرة الأولى في كتابه (شروط النهضة)، الصادر في الجزائر عام 1948م. في البداية بدا التعبير مستنكراً، ثم أعيد إليه الاعتبار شيئاً فشيئاً في الصحوة العامة كمفهوم =

وكانت الفاجعة التي يَعِيشُها تُشْبِهُ فاجعةَ حيوان (الماموث) الأخير ( Mammouth) المتبقي من العصر الجليديِّ الأوَّل، تائهاً عبر البراري المتجمِّدة وغير الرحيمة، التي كان لا يعثر فيها على قوته. ¬

_ = تاريخي لحالة التخلف الذهني والسبات اللذين رزحت تحتها الشعوب قروناً عدة قبل أن تستفيق على المأساة الاستعمارية. يبقى أن مفكرين آخرين في أبحاثهم التي تناولت الأسباب التي تجعل شعباً يسقط في تاريخه من أعلى القمم إلى الحضيض، قد توصلوا إلى النتائج ذاتها. هكذا استطاع (أ. توينبي) أن يكتب في (دراسات تاريخية) أن سبب الانحطاط يجب أن لا يفسر بضياع قيادة الوسط الإنساني تحت وطأة التطاول الأجنبي على حياة مجتمع معين. إذ أن العدو الخارجي لابدَّ له أن يرتكب أشد المكر في تسديد الضربة القاضية لشعب يقدم على انتحار محقق. وتناول (د. غروسيه) في (موازنة التاريخ) هذه المواضيع فقال: ((إن أية حضارة لا تنهار من الخارج دون أن تتآكل هي نفسها في البداية. إذ إن أية إمبراطورية لا تقهر من الخارج ما لم تكن قبل كل شيء قد انتحرت. أما (مونتسكيو) فإنه يؤكد في (تأملأت في أسباب عظمة الرومان وانحلالهم) فيقول: ((ليست الثروة هي التي تحكم العالم، ويمكن أن نرى ذلك عند الرومان الذين تمتعوا لفترة مستمرة بالرخاء حينما حكموا أنفسهم بسياق معين، ثم ولفترة غير منقطعة عادوا إلى الوراء عندما انقادوا في سياق آخر ... فإذا كانت صدفة معركة، أعني سبباً خاصاً قد دمَّرَ دولة، فإن هنالك سبباً عاماً يقضي بفناه تلك الدولة في معركة واحدة. وبكلمة واحدة فإن السياق الرئيسي يجرّ معه سائر الحوادث الخاصة)). وليس من العسير أن نشير هنا إلى أن سائر المفكرين الكبار، منذ أقدم العصور وليس أولئك الذين هم في محور الفكر الغربي قد اقتربوا من تفسير الظاهرة التي أشار إليها بن نبي بكلمة (القابلية للاستعمار Colonisabilité) . لنرى ما تحدث عنه هو نفسه في كتابه (وجهة العالم الإسلامي): ((وبهذا نفهم الاستعمار باعتباره (ضرورة تاريخية) فيجب أن نحدث هنا تفرقةً أساسيةً بين بلد مغزو محتل وبلد مستعمر. ففي الحالة الأولى يوجد تركيب سابق للإنسان، والتراب، =

وكان الشعب الجزائريُّ يعيش في بلاد سُدَّ فيها المستقبل أمامه، حيث كان الفرد يولد والتشاؤُم يملأُ أعماقه وروحه، لأنه كان يفقد الدوافع الوجودية الباعثة التي تتيح للإنسان أن يُكَرِّسَ نفسَه للحياة أو الموت من أجل شيءٍ معيَّن. ففي المرحلة التي سبقت عَهْدَ اسْتعمار الجزائر، اكتفى الإنسان بمجرد الحياة الخاملة، واختلق له، لكي يُغالِطَ نفسَه بالنسبة إلى وضعه البائس، ضروباً من التَّعِلاَّت الصوفيَّة الكاذبة كان يُقِيمُها مقامَ الدَّوافع المعلِّلَة. ولقد تكفَّلت النزعة المرابطيَّةُ بمَدِّهِ بتلك التَّعِلاَّت مقابل ثمن منخفض أو مرتفع لِتَصْرِفَه عن ماضيه، وحاضره، ومستقبله. ثُمَّ ضاعف الاستعمار من خطورة هذه الوضعية، جاعلاً من الإنسان مجرد (شيءٍ) من جملة أشيائه، كما جعل من النزعة المرابطية جهازاً للإرسال مُضْطَلِعاً بإيصال توجيهاته إلى الشعب، بعد تحويلها إلى دوافع جديدة مطابقة لِمَرامِه. ¬

_ = والوقت، وهو يستتبع فرداً غير قابل للاستعمار. أما في الحالة الأخرى فإن جميع الظروف الاجتماعية التي تحوط الفرد تدل على قابلية للاستعمار، وفي هذه الحالة يصبح الاحتلال الأجني استعماراً، قدراً محتوماً. فروما لم تستعمر اليونان؛ ولكنها غزتها. وإنجلترا التي استعمرت أربع مئة مليون من الهند إذ كانت لديهم القابلية، لم تستعمر إيرلندا الخاضعة دون استسلام. وفي مقابل ذلك نجد اليمن؛ تلك التي لم تفقد استقلالها لحظة، لم تفد من ذلك الاستقلال أدنى فائدة لأنها كانت قابلة للاستعمار، أعني عاجزة عن القيام بأي جهد اجتماعي. ومع ذلك فإن هذا البلد لا يدمن باستقلاله إلا لمحض المصادفة، حيث وجدت ملابسات دولية مواتية حفظت استقلاله .. وعليه فإن المشكلة الرئيسية هي أنه لكي نتخلص من الاستعمار يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار ... )) ص 98. (نقلنا الترجمة العربية كما وردت في وجهة العالم الإسلامي ص 85/ 84 طبعة دار الفكر بينما الأصل المترجم نقل من الكتاب الأصل الفرنسي). [ط. ف].

وبعد الحرب العالمية الأُولى فحسب، استطاع الشعبُ الجزائريُّ أن يخرج من مرحلة ما قبل التاريخ المتَّفِقَة مع ما بَعْدَ عَهْدِ الموَحِّدين، لكي يَدْخُلَ إلى عالم القرن العشرين. فالحركة الإصلاحية، والحركة الوطنيَّة، قد ظهرتا إلى النُّور في هذه الفترة بالذات. وقد بدأت غشاوَةُ الأوشاب التي سادت ما بعد عهد الموحدين، في الانْفِراطِ والتَّفَتُّت، تحت تأثير جُهْدِ هذا النشاط الأخلاقيِّ والسياسيِّ المزدوج، الذي حرر الوعي الجزائريّ، وردَّه إلى جادَّة التّاريخ. كما بدأ تاريخ النهضة الجزائرية، في هذه الفترة بالذات، مع تزايد الضَّغْط الاستعماريِّ الذي كان يرمي إلى استبقاء الطاقات المستيقظة تحت مراقبته. فالتناقضُ الانفجاريّ الذي أدْخَلَ الجزائرَ إلى حيِّزِ الأزمنة العصريَّة، قد بدأ تاريخه من هذا الصِّدام القائم بين شعب اسْتَأْنَفَ سَيْرَه في الطريق، وإدارَة أجْنَبِيَّة كانت تعمل على إعاقَةِ هذا السَّير، باسْتِبْقائِها لضباب الاستعمار والقابلية للاستعمار ومحافظتها عليه. وكان هذا الصِّدامُ يقتضي أن يؤول بصورة حَتْمِيَّة إلى: الثَّورة؛ للنَّشاط المسلَّح لشعب مصمِّم على تقويض الحواجز التي تَسُدُّ مستقبلَه، عازمٍ على الخروج من مرحلة القرون الوسطى مهما كان الثَّمن. ولقد مَزَّقَ هذا النشاطُ الضَّباب الذي رانَ عليه، وإن كان لم يُزِحْهُ عنه إزاحةً تامةً، حيث تَبَقَّتْ على الطريق بعضُ الكَوْمات من هذا الضباب تُغَشّي آفاقَنا حتى هذا الحين.

بينما تستدعي المشاكل التي خلَّفَها لنا العهد الاستعماريُّ، والتي تَنْضافُ إليها مشاكل عهد الاستقلال، توفُّرَ كلِّ الوضوح الوضيء، الضروريِّ لحلولها. وضمن هذه الشروط بالذات، يواجه الجيلَ الراهن، من خلال نفس المشروع الثوري الذي يضطلع به، السؤالُ الرئيسي التالي: - ما هي الحضارة؟ ... ونحن عندما نضع هذا السؤال، ربَّما خامرتْ ذِهْنَنا آهتاماتٌ مختلفة قد يكون من بينها اهتمامُ المختصِّ في عِلْمِ الإنسان ( Anthropologue)، الذي يمثل لديه: (كلُّ شكل من أشكال التنظيم للحياة البشريَّة)، في أيِّ مجتمع من المجتمعات النَّامية أو المتخلِّفَة، نوعاً معيَّناً من الحضارة. وهذا الاستعمالُ لاصطلاح الحضارة، أوسعُ بكثير من نطاق الموضوع الذي نهْتَمُّ به، لا سِيَّما في بلاد مُنْهَمِكَةٍ - على وجه الدقة- في النِّضال ضدَّ مصاعب التخلُّف. فإذا كان شكلُ الحياة الذي وَرثَتْهُ هذه البلاد عن عهد القابلية للاستعمار والاستعمار، يُمثِّل (حضارة)، فإن السؤالَ الذي طرحناه سابقاً يصبح سؤالاً زائداً وبلا طائل ... بينما يظل هذا السؤال قائماً بالنَّظر إلى المشاكل التي تُواجِهُنا، وذلك باعتباره على الأقلِّ دعوةً تَسْتَحِثُّنا للبحث لها عن حلولها. ومن هنا يتعين علينا المزيدُ من تضييق حَيِّزِ موضوعنا، وإن كان هذا يتمُّ في نطاق اهتهامنا بامتلاك أداةٍ لعمل فعّال، وطريقة تزيد في تمكيننا من الهدف الذي نرمي إليه بحيث تضعه في مُتَناوَل وسائلنا الحقيقية، أكثر مِمَّا يتمُّ في نطاق اهتمامنا باستكشاف وإبراز حقيقة جديدة. ولكي نزيد في توضيح موضوعنا، نقول: إن المسألة

تنحصر في عمل شعب قام بإنجاز ثورته لكي يقذف بالمحتلِّ خارج حدوده، وهو يريد أن يُرْسِيَ داخل هذه الحدود، نظاماً عامّاً، وشكلاً من الحياة يمكن فيهما لكلِّ جزائريٍّ أن يجد كلَّ الدوافع وكلَّ الضَّمانات الضروريَّة لوجوده. - فهل هو يمتلك وسائل تحقيق هذه الغاية الطموحة؟ ... هذا هو السؤال الذي يفرض علينا تعريفاً أكثر انْضِباطاً للحدود التي وضعنا المشكلة في نطاقها. وإذن فالمسألة لا تتَمَثَّلُ هنا في اكتشاف حقائق جديدة، متعلقة بعلم الإنسان، وإنما تتمثَّل في تسليط الضوء بقدر الإمكان على الطريق المؤدية إلى الهدف المقصود، وفي الإشارة إلى مخرج من المصاعب الراهنة، وذلك باستفادتنا من سياسةٍ سبق لها أن قامت بصياغة آختياراتها، ومن الدلائل المتعلِّقة (بعِلم اجتماع) لا يُغْفِلُ المعطيات الخاصة بوضعيتنا الراهنة، أو بشروطنا الموضوعيَّة كما يُقال. - فما هي هذه الشروط؟ ... لقد أراد علم الاجتماع الذي كرَّس نفسَه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لدراسة قضايا العالَم الكادح ( Le tiers-monde) أن يطلق على مجموع مشاكل هذا العالم مصطلَحَ: (التَّخلُّف). ولا ريب في أن هناك ميزةً منهجيَّة معينة، في عملية تخفيض عدد هذه المشاكل بالرجوع بها إلى الوحدة التي تمكّننا من تركيز وسائل التفكير العقليِّ بدلاً من تشتيتها، وهذا في صورة ما إذا لم تُؤَدِّ بنا عمليَّةُ التَّخفيض تلك- على غير علم منَّا- إلى التَّغيير من طبيعة المشكلة، وبالتالي إلى تغيير طبيعة النتيجة النَّظريَّة، التي يجب أن تجد ترجمتها في عمل اجتماعيٍّ حقيقيٍّ، يتناول معطيات عينيَّة

ملموسة، كما يجب أن تُسجَّل ضمن برنامج واتِّجاه سياسة واقعيَّة، واعِيَةٍ لأهدافها، مدركة لوسائلها. وفي مراعاتنا لذلك الاحتراز وهذا المقصد، يكون من المشروع بالنسبة إلينا أن نتناول موضوعَنا تحت زاوية (التخلُّف)، حيث لا نفهم من هذا المصطلح معنى التفسير أو النَّتيجة لتحليل مشاكلنا، ولكن باتِّخاذنا له كمجرد تعبير شامل لها. ويتمُّ تحديد هذا المصطلح نفسه بمقابلته مع مصطلح آخر، يُشير إلى الظاهرة العكسية المتمثِّلة في: النُّمُوِّ. ونحن نعلم أن هاتيْن الظاهرتين تجدان ترجَمتَهما في صورة (مُنْحَنَيات بيانيَّة) ( diagramines) اقتصادية تميِّز بطابعها كلاًّ من الإنتاج والاستهلاك، وذلك على سبيل المثال فيما يتعلق بالورق، والفحم، والكهرباء؛ أو بالأرقام المطابقة لمتوسط المداخيل الفردية السنويَّة، وهو الأمر الذي يؤول إلى نفس النّتيجة. ويمكننا أن ننظر إلى هذه الأرقام، في اعتبارنا لها بالنسبة إلى سنة 1955، لوجودها في حَوْزَتِنا (¬1)، حيث نلاحظ أنها تتراوح بالنسبة إلى السنة المذكورة بين: 1835 دولاراً فيما يتعلق بالولايات المتحدة، وبين: 38 دولاراً فيما يخصُّ (ليبيريا) أو (أندونيسيا). وبين أقصى هذين الطرفين توجد سائر الأرقام المتوسطة لبقية البلدان الأخرى، مهما تكن درجة نُمُوِّها. وَلْنَقُم حينئذٍ بإبداء ملاحظة بخصوص الحدِّ الأدنى أو المناسب من الدخل ¬

_ (¬1) ليس مهماً أن هذه الأرقام تغيرت منذ عام 1955م. إذ أن قيمتها التوضيحية وحدها تهمنا. فنحن لا نعتقد أن النسب التي توضحها تعدلت بصورة أساسية. [ط. ف].

الذي يمكننا أن نعتبره كافياً لِتَلْبيَة حاجات بلاد متخلِّصة من جميع علامات التخلُّف، ونقص الاستخدام، والأميَّة (أو اللاأبْجَدِيَّة)، ونقص التغذية إلخ ... فهذا الدخل الذي يمكننا أن ننظر إليه باعتباره العَتَبَة المفضية إلى النموِّ، هو متوسط دخل الفرد في اليابان، حيث يبلغ بها: 200 (مئتي) دولار. والآن ولكي نجعل هذه الأرقام ذات دلالة بالنسبة إلى موضوعنا، فَلْنَقُمْ بتوزيعها على الخريطة الجغرافية، بالطريقة التي توضع على غرارها الأعلام الصغيرة على إحدى خرائط ضُباط أر كان الحرب كعلامات للمواقع الخاصة بكل جيش من الجيوش على حدة، في إحدى جبهات القتال. ومفهوم أن الأرقام الموزَّعة على هذا النحو، تصوِّر لنا بهده الطريقة المناطقَ المتحادَّة لكلٍّ من النُّموِّ والتخلُّف. وعندئذ تَتَبَدَّى أمامنا ملاحظة تفرض علينا نفسها: فَحَدَّا هاتين المنطقتين يرتسمان على الخريطة، كحديْن لقارتين متباينتين: تشمل إحداهما جميع البلدان المساهمة في مؤتمر باندونغ على وجه التقريب، أعني المساحة المُناهزة لنصف الكرة الجنوبيِّ، بينما تتضمَّن المساحة الأُخرى رقعةَ البلدان النَّامية التي تشمل بالتقريب سائر منتصف الكرة الشماليِّ (¬1). ومن شأن هذه الملاحظة أن تُدْخِلَنا بقدم راسخة إلى صميم موضوعنا، لأن تحديد مكان الوقائع الاقتصادية، يمثِّل في نفس الوقت تحديداً لمكان أسبابها أو ¬

_ (¬1) مؤتمر (الشمال- الجنوب) ضمَّ حديثاً الدول المتطورة وتلك التي تتطلع للسير في فلك المشاكل التي يقتضيها نظام اقتصادي عالمي جديد. وهؤلاء المؤتمرون قد وجدوا أنفسهم في كتلتين. وهذا ما تصوره (بن نبي) منذ عشرين عاماً في تحليله العلاقات بين مختلف شعوب العالم المعاصر. [ط. ف].

عواملها: إذِ المؤَكَّد أن كلَّ مساحة تحتوي في داخلها على حقيقتها الاقتصادية الخاصة بها، كما تحتوي في نفس الوقت سائرَ الاطرادات المتساوقة التي تفسِّرها. فالنُّموُّ والتخلُّف يُفسَّر كلٌّ منهما داخل المساحة التي تكتنفه، بمجموعة من الأَسباب المتطلبة للعرض على التحليل التاريخيِّ. فمفهوم: (حقْل الدراسة) الذي استخرجه أرنولد توينبي ( A. Toynbee) في المجال التاريخي، يمتدُّ هنا ليشمل المجال الاقتصادي كذلك (¬1). فنحن عندما نطرح السؤال التالي: ما هو النموُّ؟ - وهو سؤال يهمُّ بطبيعة الحال كل بلاد منهمكة في مواجهة مشاكل التخلف- لا نكون إذن منصرفين إلى عمل أحَد هُواة التسلية بالفنون الجميلة. إذ أننا نطرح السؤال على النقيض من ذلك ضمن اهتمامنا باستخلاص درس من تجربة معاشة غنيَّة وحيَّة، تقع نتائجها تحت أبصارنا في سائر البلدان النامية، مع بقائنا أحراراً في تحوير حدودها إذا ¬

_ (¬1) في فكر توينبي فإن مفهوم حقل الدراسة يشمل مجتمعاً فوق القومية ( Supra-nationalè) ومؤلف من عدة طوائف أثنيّة؛ جغرافية وسياسية، مجموعة دول قومية تنتمي إلى عالم ثقافي واحد، بحيث أن تاريخ إحداها لا يعني سيئاً إذا نظرنا إليه على حدة بل يقتضي وضعه في إطار أكثر اتساعاً، وأكثر تعبيراً؛ إنه مداه الثقافي وحقل دراسته. توينبي يقول في هذا الخصوص: ((أسئلة كثيرة تجد جوابها هناك حيث أن أي تفسير تام لا يمكن أن يقدم إذا نحن اتبعنا مبدأ العزل)) ... فمن أجل الإمساك جيداً بأية حالة، لا بدَّ أن نوجه انتباهنا إلى المجموعة، فالمجموعة وحدها تقدم حقل دراسة يمكن فهمه بذاته)) (توينبي، التاريخ، محاولة توضيح مختصرة، من D.C. Somervell ومترجمة من P 10.11.22 E. Julia) . هذه هي نفسها المفاهيم التي كتبها H. Massis في أحد مؤلفاته (الغرب وقدره): (((الغرب) إنه فكرة تعني لنا شيئاً نشير إليه. لأن (الغرب) منطقة للفكر الإنساني أكثر من أي جزء من العالم. إذ الذي يميزه بشكل رئيسي هو الصبغة المسيحية)). (مدى حضارة) عند بن نبي (حقل دراسة) عند توينبي (منطقة فكر) عند ماسيس، تلك تعابير قابلة للتبادل للمبدأ نفسه في التحليل [ط. ف].

لَزِمَ الأمر حتَّى نتمكَّنَ من تكييفها مع حالتنا الخاصة، وهذا بشرط أن نحترم قانونَها مع ذلك. وتَمْثُلُ هذه التجربة في أساسها بالنسبة إلى البلدان المتخلِّفة، تحت المظهر النوعيِّ للتصنيع الذي أصبح بالفعل مَناطَ جميع مطامح كل البلدان (الأفريقا سيويَّة) وسائر مؤسَّساتها. إلا أن هذا المفهوم لا يحقَّق بطريقة واحدة؛ فهناك الطريقة التي تمَّ بها تصنيع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، حيث وضع لينين ( Lénine) قاعدة ذلك التصنيع عندما أعلن الشعار الشهير الذي نادى فيه بأن: ((الشيوعية هي السوفيات (¬1) ( Soviets) مع الكهرباء))، وهو الشعار الذي يقتضي قاعدة انطلاق مفاهيمية معينة. ويمكن أن يُنجَزَ التصنيع كذلك على النحو الذي تمَّ في اليابان، باقتصارها على مجرد تبنِّي مناهج ومطامح مناوئيها، أي بصنع أُسطول مثل إنكلترا، وإعداد صناعة مثل فرنسا أو ألمانيا، وبطريقة احتلال المستعمرات كما هي الحال بالنسبة إلى هولندة، وإيطاليا إلخ ... إلا أن تجربة التصنيع لا تقترن بالإفادة النظرية المرجوَّة منها، إلا حيث أُتيح لها أن تطَّرد ضمن شروط عاديةٍ، ودونما إرغام من الخارج. وفي أوروبا الغربية بالذات تتبدَّى هذه التجربة أمامنا في شكلها النقيِّ، أي في صورتها المتخلِّصة من كل الأعراض المفاهيميَّة، وفي ارتباطها فقط بالوقائع الاقتصادية المحضة. ¬

_ (¬1) أي مجالس مندوبي العمال، والفلاحين، والجنود بالاتحاد السوفياتي. (المترجم).

وعلى هذا يجب علينا متابعة اطرادها المتساوق في أوروبا بالذات، إذا أردنا أن نستخلص منها درساً يفيدنا. ويمكننا النظر إلى هذا الاطراد بصورة مشروعة باعتبار أنه قد بدأَ نقطة انطلاقه بالآلة البخارية. كما أنه من المشروع أن نقوم بعَزلِ مثل هذا الواقع، ليس فحسب لأن جميع نتائجه المترتبة عليه فيما بعد؛ الاقتصادية منها والاجتماعية، هي التي تكوِّن الواقع القابل للترقيم الذي يشار إليه بمصطلح النُّموِّ، ولكن لأن ظروف تكوينه الخاص كذلك- وأعني بها سائر سياق ذلك التَّسلسل الذي سبقه، والواقع في نطاق اختصاص علم الاجتماع- تظلُّ هي نفسها بالنسبة إلى جميع الوقائع المماثلة التي تَنْدَرِجُ هي الأُخرى داخل نفس الاطِّراد، قبل الآلة البخارية أو بعدها. وبناء على ذلك فإن سائر تلك الوقائع تجد جميع أسباب نموِّها، وجميع تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية داخل نفس تلك المساحة التي سبق لنا تحديدها منذ قليل بأرقام متوسط الدخل الفردي السنوي، المنحصرة بين: 200 (مئتي) دولار، و 1835 دولاراً، أعني مساحة ظلت مستمرة الامتداد منذ عهد (غوتنبيرغ) (أ)، وأصبحت تشمل اليوم ما يناهز نصف الكرة الشمالي. وحتَّى الوجوه المحيطة بالوقائع الكبرى لهذا الاطّراد، نجدها تنْتَمِي لنفس ¬

_ (أ) (يوهان غنز فلايش) المدعوّ: غوتنبيرغ ( Yohann Gensfleisch) dit: Gutenberg: مطبعي ألماني، ولد في ميّانس ( Mayence) حوالي سنة 1400م. وتوفي سنة 1468م. استقر في ستراسبورغ ( Strasbourg) سنة 1434م. وفي سنة 1440م اكتشفت الطباعة بالأحرف المنفصلة؛ وفي (ميّانس) اشترك منذ سنة 1448م، مع زميله الصائغ والمطبعي يوهان فوست ( Yohann Faust) ( ولد حوالي 1400م، وتوفي حوالي 1466م) وطبع (الكتاب المقدّس اللاتيني ذا الـ 43 سطراً) الشهير، كما يُعْزى إليه كذلك طبع (كتاب مقدّس ذي 36 سطرًا)، ورزنامة إلخ ...

هذه المساحة: فالعالمان اللذان أنجزا الآلة البخارية على سبيل المثال هما: (دنيس بابان) و (وات) (ب) ويمكننا أن نختار وقائع أُخرى من مثل: القنبلة الذرية، أو القطن المصقول كيميائياً ( le coton mercerisé) ، فنجد ظروف تكوينها تشغل نفس الرقعة الجغرافية. وكذلك الشأْن بالنسبة إلى النموِّ الذي يشمل داخل اطراده جميعَ هذه الوقائع، والذي أصبحنا اليوم نحدد عن طريق المقابلة معه مجموع المشاكل التي نشير إليها بكلمة (التخلُّف)، فهو يمثل ظاهرة أُوروبية: كالحروب الصليبية، وعهد الإصلاح، والنهضة، والرأسمالية، والاستعمار إلخ .. فجميع الأسباب التي أنتجت هذه الوقائع، تشغل منذ أربعة قرون على الأقل، رقعة ما انفكَّت متواصلة الامتداد منذ عهد كريستوف كولومب ( Christophe Colomb) . والنموُّ الذي يتمُّ ضمن البعد الاقتصادي، ليس سوى فترة زمنيَّة من النموِّ العام لحضارة أوروبا داخل المكان والزمان؛ إنه المظهر الماديُّ لهذه الحضارة. وإذن فإن جميع الوقائع التي تتساوق في تسلسل ضمن اطرادها منذ الآلة ¬

_ (ب) ( Denis Papin) : فيزيائي فرنسي. ولد في بلوا ( Blois) سنة 1647م، وتوفي حوالي سنة 1714م. كان أول من تحقق القوة المطاطة للبخار المائي. وفي سنة 1707م أجرى في ألمانيا - حيث أقصي إليها نتيجة لحدث إلغاء منشور نانت ( édit de Nantes) سنة 1685م- تجربته على السفينة البخارية، كما ابتدع أيضاً المرجل المعروف باسمه. - جيمس وات ( James Watt) ميكانيكي ومهندس إنكليري من إيقوسيا ( Ecosse) ، ولد في غريوك (( Greenock) (1736 م - 1819م). ابتدع مبدأ الآلة البخارية ذات التأثير المزدوج؛ وأدخل مصطلح (الحصان) باعتباره: وحدة قياس للقوة، كما سميت باسمه وحدة الطاقة الكهربائية المعروفة (بالوات).

البخارية، أو ابتداء من آلة الطباعة، تُعَدُّ وقائع حضارة. كما أن جميع الأسباب التي تُنْتِجُ هذه الوقائع، وجميع ظروف تكوينها ناجمة عن نفس السبب العام، وعن نفس الظرف الرئيسيِّ، اللذين هما بكلمة واحدة: حضارة أوروبا التي تعدُّ الرّحِم الحقيقيَّ لكل جزئيَّة من تفاصيل النموِّ الأخلاقي والاجتاعي للإنسان المنتمي إلى مساحتها. ومن ثَمَّ فالحضارة هي التي تمنح إذن للمجتمع مع هذه القدرة الاقتصادية التي تميِّزه بخاصيتها كمجتمع نام، إرادة استخدام هذه القدرة في حلّ جميع المشاكل، وخاصة المشاكل التي تواجه المجتمع المتخلِّف بمدىً أشدُّ من القسوة. كما أن الحضارة هي التي تشكل هذه القدرة وهذه الإرادة اللَّتَين لا تقبلان الانفصال عن وظيفة المجتمع النَّامي، داخل المساحة الخاصة به، في إشعاعه الثقافي، والاقتصادي وحتَّى في تَوَسُّعه السياسيِّ أو الإمبرياليِّ كذلك. ولهذا يجب علينا الآن أن نَتَثَبَّتَ من أمر تعريف الحضارة الذي سبق لنا اقراحه فيما سلف من وجهة نظر متعلقة بعلم الإنسان، وهي الوجهة التي لا نريد تناول الموضوع من زاويتها؛ لأن الحضارة يجب أن تحدَّد من وجهة نظر وظيفيَّة: فهي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيحُ لمجتمع معين أن يقدِّم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموِّه. فالمدرسة، والمعمل، والمستشفى، ونظام شبكة المواصلات، والأمن في جميع صوره عبر سائر تراب القطر، واحترام شخصية الفرد، تمثل جميعُها أشكالاً مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضِّر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. ولكن إذا كانت هذه الإرادة ملازمة لجوهر الحضارة ذاته، ومتضمِّنة في معطياتها الأصلية، في شكل إحسان، أو صدقة، أو زكاة إلخ ... مثلاً، فإن قدرتها تتشكل بصورة تدريجيَّة، لأنها لا تَكون في البداية سوى معطى مُضْمَر.

فالمجتمع النامي الراهن، أي المجتمع الغربي ضمن حدوده الحاضرة، أعني مع المجتمعات التي استوحت نموذَجَه، لم يكن منذ بضعة قرون مضت سوى معطى مُضْمَر في ذاتيَّة مجتمع القرون الوسطى المسيحيِّ؛ فإرادة هذا المجتمع كانت تحمل بذرة قدرة المجتمع الأوَّل. ولهذا فنحن عندى ما نريد أن نضع أصلَ النموِّ الاقتصادي للحضارة الراهنة موضعه، لا يتعين علينا أن نضع هذا الاختراع أو ذاك- من مثل الآلة البخارية، ونَوْل (جكار) (جـ)، والبوصلة، وآلة الطباعة- باعتباره مصدراً لذلك الأصل، ولكن جميع الظروف التاريخيَّة التي تَخَلَّقَتْ فيها بذورُ كلِّ الأفكار، وكل ضروب الخلق والإنشاء، وكل إنتاجات هذه الحضارة. فجميع ضروب الخلق هذه، لا تقبل التصور إلا ضمن الشروط العامة لحضارة معينة، وليس ضمن أبعاد عبقرية إنسان مفرد، ولا حتَّى بضع مئات من العباقرة ة فأمثال: غاليليه ( Galilée) ، وليونارد دي فانشي ( Léonard de Vinci) ، وميكال آنج ( Michel-Ange) ، ودانتي ( Dante) ، ومن لفَّ لَفَّهُم، ليسوا هم الذين صنعوا النهضة، ولكن شروط هذه الأخيرة هي التي صنعتهم. وههنا يكون من الملائم أن نتوقف عند خلاصة ذات أهمية نظرية وعملية بالنسبة إلى بلاد كالجزائر جنَّدتْها مشاكلُ التخلُّف؛ فإبداع شيء ما، أو إنشاؤُه، أو اكتشافه، لا يسبق الظروف العامة التي تصبح فيها العبقرية البشرية منتجة ضمن مساحة محدَّدة، ولكنه يتلو هذه الظروف. ذلك أن اطرادات التاريخ لا تقبل النكوص على أعقابها، وبعبارة أخرى فالزمن لا يدور في حلقة مغلقة. ¬

_ (جـ) جوريف - ماري جكار ( Joseph - Marie Jacquard) : ميكانيكي فرنسي، ولد في ليون ( Lyon) (1752 م- 1834م)، مخترع نَوْل النَّسيج الذي يحمل اسمه: ( Métier à la Jacquard) .

(فابن سينا) لم يكن يعدو مجرَّدَ مُعطىً مُضْمَرَ ضمن أحَدِ (الصَّبْغِيَّات) (¬1)، والظروف العامة للمجتمع الإسلامي في عصره هي التي حقَّقتْه بالصورة التي برز عليها إلى الوجود. ويمكننا أن نترجم ذلك بطريقة أخرى، بالاستناد إلى تلك القاعدة المعروفة في المنطق الدَّارج، والقائلة بأن النَّتيجة لا تسبق سببها، أو بالاستناد كذلك إلى مجرد الإدراك السليم للفلاح الذي يعلم أن المحراث لا يوضع أمام الثيران. وكل ذلك يسمح لنا باستخدام صيغة تكوِّن بديهيَّة أساسية بالنسبة إلى هذا العرض: فالحضارة هي التي تصنع منتجاتها (الآلة البخارية، والثلاجة، أو الطائرة سواء)، وليست منتجاتها هي التي تصنعها. ولقد تمَّ التَّثَبُّث من أهمية هذه البديهية المقرَّرة في علاقتها بكل من علم المناهج ( Méthodologie) وعلم الاجتماع، بطريقة الْخُلْف ( par l'absurde) على نحو من الأنحاء، في المجتمع الإسلامي منذ قرن من الزمان، كما سنقوم ببيان ذلك فيما يلي: فلو كانت النهضة الإسلامية قد اعتمدت أقلَّ منهج نقديٍّ إزاءَ ما استعصى عليها حله من مشاكل، لاتَّضح لها ذلك الخُلْفُ (أو تلك اللاَّمعقوليَّة)، بطرحها لمجرد هذا السؤال البسيط: - ((هل كان هناك قبل الآلة البخاريَّة، وقبل ليونارد دي فانشي، وقبل القديس توما اللإكويني ( Saint Thomas D'Aquin) ، شيء ما، واطراد تاريخيٍّ معين، انْطَوَى في داخله على بذرة جميع اللحظات الزمنيَّة لفكر المجتمع الغربيِّ ونشاطه ابتداء من تَشَكُّل هذا المجتمع الذي لا زال ينطوي حتى هذا الحين على بذور نجهلها؟)). ¬

_ (¬1) يترجم المعرّبون كلمة (كروموزوم Chromosome) : بالصّبْغِيّ، أي: بتذكير المفرد، ويجمعونها على (صَبْغِيَّات). (المترجم).

وإذا كان الجواب على هذا السؤال بالإثبات فهلاَّ يتعيَّن علينا عندئذٍ أن نُعْطِيَ اسْماً خاصاً لهذا الاطراد، وأن نطلق عليه بالتالي اسم: الحضارة الغربية؟ ... والبديهيَّة التي اكتفينا بإبراز أهميتها فحسب، عن طريق هذه الملاحظات البسيطة، تخوِّل لنا التمكن بصورة أفضل من الخصائص الأساسية للتجربة التي بدأت في المجتمع الإسلامي مع حركة النهضة منذ قرن من الزمان. لقد بدأت هذه النهضة غداة حَدَثٍ غريب في ظاهره، عن تاريخ هذا المجتمع، وأعني بذلك: تمرُّد السِّيبايْ (أو الجنود الهنود بالجيش الإنكليزيّ) (د) الذي حدث سنة 1858م، وكان لما ترتَّب عليه من نتائج بالنسبة إلى (الوضعية القانونية) الإسلامية للهند، دويّ هائل في العالم الإسلامي، لأن (جمال الدين الأفغاني) قد قام بتجميع أصدائه، كما تولى مع تابعه (الشيخ محمد عبده) شرح هذه الأصداء وبثّها بإضفاء الطابع المأْساويّ عليها أثناءَ تقديمها للجيل الذي عاصره. ولقد بدأ تاريخ حركة الإصلاح منذ هذا العصر. فكيف أتيح لها أن تجد ترجمتها ضمن وقائع العالم الإسلامي التاريخية، والاجتماعية، والسياسية، وخاصة بالجزائر؟ ¬

_ (د) السيبايْ ( Cipaye) : كلمة أخذتها اللغة البرتغالية عن إحدى اللغات الهندية، ودخلت عن طريق البرتغالية إلى الفرنسية؛ وهي تعني: الجندي من سكان الهند الأصليين (بالشركة الإنكليزية) أولاً، قبل أن تتنازل هذه الأخيرة عن حقوقها بالهند للتاج البر يطاني؛ ثم أطلقت فيما بعد على الجندي الهندي الأصل بالجيش البريطاني في الهند. - أما تمرد السيباي ( Révolte des C'ipayes) فهي الحرب التي شنها في الهند سنة 1857م الجنود الهنود المتمردون بالجيش الإنكليزي ضدَّ الإنكليز؛ وقد تمت على مرحلتين: انتهت المرحلة الأولى منهما: بالاستيلاء على (دلهي)؛ ثم استؤنفت المرحلة الثانية، نتيجة لتحريض نانا صهيب ( Nana-Sahib) للمقاومة التي استمرت على الاستيلاء على لوكْنو ( Lucknow) سنة 1858م.

إننا لا ندعي أن نقدم لذلك كله في الإطار الضيق لمحاضرة، دراسة متقصِّية مستوعبة لجميع التفاصيل (¬1). وإنما نقتصر على القول بأن هناك تطوراً معيناً قد بدأ بالفعل منذ ذلك الحين، في العوائد، والأفكار الدارجة، وفي بعض الوقائع الاجتماعية المعينة، متخذاً في بعض الأحيان أشكالاً سياسية تعمل بمقتضى النزعة (اللاَّيِيكيَّة) غير الدينيّة في كثير أو قليل، من قبيل (ثورة تركيا الفتاة) سنة 1908م، أو هو يتخذ أحياناً أخرى سياقاً إصلاحياً ينصرف اهتمامه إلى استخدام القيم التقليدية للإسلام في النزاع المفاهيمي والسياسي للقرن العشرين، بعد تجديده لها في قليل أو كثير. ولكن هذه الحركة كانت ترمي من كلا جانبيْها في نهاية الحساب إلى أن تَمْهَرَ المجتمع الإسلامي بالوسائل الملائمة للدفاع عن ذاته أو لتبرير نفسه، بدل أن تقوم بتحويل الشروط الواقعية والأساسية لهذا المجتمع. ومن أجل الدفاع عنه كانت المشاكل توضع ضمن حدود كمية، أي باعتبار: (كميّات الأشياء) الضرورية. وقد كان نفس شعار (جمال الدين) الذي يقول فيه: ((لو أن جميع الهنود يبصقون معاً، لأغرقوا الْجُزُرَ البريطانية في بحر من اللُّعاب! .. ))، يشير إلى أن (النهضة) كانت تنزلق في طريق (الشَّيْئِيّة) ( Choséisme) . إلا أنه يجب علينا أن نضيف إلى هذا أن (الأفغاني) العظيم قد ترك لنا أفكاراً كذلك، فيما كتبه من أجل الدفاع عن العالم الإسلامي. وفي النهاية، ابْتُدِعَتْ من أجل تبرير هذا العالم، آلةٌ ذات مقطع مزدوج؛ فقد تمّت المحافظة ¬

_ (¬1) انظر للكاتب نفسه (وجهة العالم الإسلامي). [ط. ف].

على ذائِقَة القيم الإسلامية أو أُعيد إنشاؤُها لمواجهة سيطرة الغرب الثقافية عليه. ولكن في الوقت الذي كان يُواجَهُ فيه الاستعمار على هذا النحو، كان يُحْتَفَطُ بمعطيات القابليّة للاستعمار، أو هي كانت تُتْرَكُ دون مساس بها. وأشخاصُ الجيل الذي عاصرتُه ممن قرؤوا كتاب (الإفلاس الأخلاقي للسياسة الغربية في الشرق) لمؤَلِّفه التركي (أحمد رضا)، أو كتابات (شكيب أرسلان)، كانوا في الحقيقة يقرؤون أعمالاً للدفاع والتَّبرير، وليس أعمالاً للبناء والتوجيه. فبدل أن تُتَرْجم الجهود الذهنية عن نفسها في صورة مذهب دقيق للنهضة، ومنهاج منسجم، كانت تنْطلق في صورة شعلات دفاعية أو جداليَّة. وكان المؤَلَّف المنهجيُّ الوحيد الذي خلَّفه (جمال الدين) يتمثل في مجادلة ضدّ (الماديّة) - أو (النَّاشوريّة) حسب تعبير كاتبه- وهو الكتاب الذي يتعين علينا أن نقرن به المجادلة المدوِّية لتلميذه (محمد عبده) ضدّ (رينانْ) ( Ernest Renan) . والإصلاحُ الجزائريّ نفسُه، لم يكن بالإجمال سوى مجادلة ضدّ المرابطية والاستعمار. إلا أن فكرة المذهب كانت تساور العقول في ذلك الجيل أو الذي يليه، كما يشهد بذلك مؤَلَّفٌ لكاتب ليس معروفاً بما فيه الكفاية، وأعني به (الكواكبي) (هـ)، الذي كان كتابه (أمّ القُرى) يمرّ طَيَّ التكتّم بالجزائر حوالي سنة 1920. ولكنه لم يكن سوى عمل من صنع الخيال، أُعِدَّ كمُفَصَّلِ المشاهد ¬

_ (هـ) عبد الرحمن الكواكبي (1849م- 1902م): ولد في حلب، وقد اضطهده الأتراك لحريته في القول والكتابة، جال (زنجبار) و (الحبشة)، وأقام في مصر. له كتاب (أمّ القرى)، و (طبائع الاستبداد).

( Scénario) لضرب من (المجمع الدينيّ) التخيّليّ المنعقد في (مكَّة) من طرف علماء جميع بلدان الإسلام. على أن الموضوع لم يُتَناوَل هنا أيضاً إلا من زاوية الدفاع عن هذه البلدان، دون أي اهتمام بالتخطيط، أو بالإعداد للتَّخطيط. ولكي نتمثّل ما ينقص جميع هذه الجهود الذهنية، يجب أن نتصور أحد أعمال ماركس ( Marx) أو أنغلز ( Engels) أو لينين في اقتصاره على مجرد نقد المجتمع الرأسمالي، دونما نظر إلى نواقص الطبقة العمّالية، أو انفتاح على بناء المجتمع الاشتراكي. وأخيراً فإن المشكلة التي كان يجب أن تطرح في العالم الإسلامي منذ ما يزيد عن نصف القرن. ضمن حدود حضارة معينة، ولكن على مستوى أُسس هذه الحضارة وإرادتها وقدرتها، قد تم وضعها على مستوى منتجاتها. أو إذا أردنا التعبير عن ذلك بصورة أخرى، نقول إن المشكلة قد وضعت على مستوى حاجات مجتمع انخرط مُنْذُئِذٍ في طريق الخيال ( l'utopie)، والشَّيْئِيَّة، والتَّكْديس الذي سنقوم بتحليله. فبدل تناول الموضوع بطريقة (جبريّة) ( algébrique) تمكّن من الإشارة إلى حلّ قابل للتطبيق على مستوى مجتمع تقوم فيه نفس المشكلة، كالمجتمع الغربي طوال عصر النهضة، تمّ تبنِّي طريقة سير (حسابية) تعالج كلَّ حالة على حدة؛ فعوض معالجة وضعية تاريخية عامة، تمت معالجة قضايا سياسية مختلفة. بينما العوامل التي أثَّرتْ منذ قرون على وضعية البلدان الإسلاميّة، لم تتشكَّل داخل الحدود الوطنية لبلاد معينة، ولكن داخل المجال الذي تكتنفه رقعةُ الحضارة الإسلامية، أي الرقعة التي يطلق عليها توينبي: (حقل الدراسة). وإذا كانت الأسباب المحلية هي التي تحدد المظاهر السياسية لكل بلد، وهي التي تدين لها الجزائر مثلاً بما جعلها تؤُول إلى مستعمرة فرنسية على وجه

التخصيص، بدل أن تصبح مستعمرة إنكليزية أو برتغالية، خلال مئة وثلاثين عاماً؛ فإن الأسباب التاريخية العامة هي التي تحدّد الشروط الواقعية للتخلُّف في أي بلاد متخلفة. وليس من عمل الصدفة أن تمَّ إدماج (ليبيا) و (تونس) و (مصر) على سبيل المثال وبالتوالي، ضمن النظم السياسية لكل من: إيطاليا، وفرنسا، وإنكلترا في قليل أو كثير، ولكنها لم تندمج داخل النظم الاجتماعية- الثقافية لهذه البلدان النَّامية. فقد كان لهذه البلدان العربية الإسلامية والإفريقية الثلاثة طوال العهد الاستعماري، ثلاث وضعيات قانونية سياسية مختلفة، ولكن وضعيتها الاجتماعية- الثقافية كانت هي نفسها على وجه التقريب. ذلك أن العوامل المحلية تحقق التباين، بينما تعمل العوامل العامة على الوحدة. ومشاكل الإنسان تظل متوقفة على هذه العوامل الأخيرة بالخصوص، ذلك أنها مشاكل حضارة. ولقد ترتَّبَتْ على الواقع المتمثل في إهمال العالَم الإسلامي لهذا المظهر، النتيجة التي نشاهدها: حيث اقتحم الزِّيُّ الأوروبي، والبوقُ، والطنبور، والهاتف، والسيارة، شتى بلدان العالم الإسلامي بصورة مفاجئة منذ خمسين سنة، ولكن مشاكل التخلُّف ظلت راسخة القدم داخل هذه البلدان. فقد أردنا بدل الاضطلاع بتشييد حضارة، أن نقوم بتكديس منتجاتها. ولم يكن عملُ النهضة الإسلامية طوال السنوات الخمسين الأخيرة، يمثل تشييداً، ولكن تكديساً للعتاد. فعملية البناء لم تبدأ بالعالم الإسلامي إلا سنة 1952م في مصر، ومع ثورة أول نوفبر سنة 1954م بالجزائر. ولكن روح التكديس و (الشيئية)، التي يجب التخلُّص منها، ما انفكَّت مستمرة البقاء، وهي قد تَتَبَدَّى أحياناً تحت مظهر مشتطّ في الْهَزْلِ: وذلك عندما

نلاحظ- إذ نعبر العالم الإسلامي- أربعة أجهزة للتكييف الهوائي في مقصورة أحد رؤساء المصالح، أو خمسة أجهزة هاتفية على مكتبه (¬1) ... وهذا التكديس للأشياء يزدوج على العموم مع تكديس للأشخاص؛ فالمكان الذي يجب أن يشغله خمسة موظفين أو مستخدمين، يوضع فيه أحياناً خمسة عشر أو عشرون، بطريقة تزدوج بها مشكلة البطالة العادية مع بطالة خاصة ناشئة عن الواقع الماثل في استحداثنا لموظفين دون أن نستحدث وظائفهم. ومفهوم جيداً أن جميع ذلك يتبدَّى في حسابات التقويم الاقتصادي والنفساني لبلاد تبحث عن التملص من شروط التخلف، ويتعين عليها أن تستخدم لبلوغه جميع ما يقع تحت طائلتها من الآدميّين، والأفكار، والأشياءَ المادية. وعندئذ تتجلَّى لا معقولية المنهاج المعتمد بصورة تامة التأَكد، لأنه لكي يتسنى لنا صنع حضارة ابتداء من منتجاتها، حتى ولو كان هذا الأمر قابلاً: للتصور من وجهة نظر متعلقة بعلم المناهج- ونكرر أن هذا أمر غير معقول .. ¬

_ (¬1) (فكر الشيئية) عند بن نبي يبرز في طبيعة إنسان (ما بعد الوحدين) وهذا يعادل شيئاً ما الإنسان الكتلة L'homme-masse عند. J.Ortega J.gasset و Bildungse Philister ونيتشيه و Zelote وتوينبي وهناك وصف بنفس التعابير تقريباً لـ J.Ortega J.gasset الذي أبرز عوارضها في علم النفس الانحطاطي في Senorito-satiofait للإنسان الكتلة وهو يستعيد تماماً مفهوم إنسان ما بعد الموحدين عنهد بن نبي. في (ثورة الجماهير) المؤلف الإسباني وضع اللوحة التالية ((إنه يهتم طبيعياً بالمخدرات، بالسيارات وببعض الأشياء النادرة ولكن هذا يؤكد عدم اهتمامه أساساً نحو الحضارة، لأن سائر هذه الأشياء ليست سوى نتاجها .. لا يرى فيها الحضارة ولكن يستخدمها كما لو أنها إنتاج الطبيعة نفسها. إنه يرغب في سيارة وهو يتلذذ بها ولكنه يعتقد أنها ثمار عفوية من شجرة الفردوس. في قرارة نفسه إنه يجهل الخصائص الصناعية للحضارة، وهو لا يجد الحكماس لمعرفة هذه الآلات ولا للمبادئ التي تجعلها ممكنة)). [ط. ف].

فهلا يزال يتعين علينا أيضاً أن نكون قادرين على اقتناء جميع منتجاتها. الأمر الذي يعدّ استحالة محضة من وجهة النظر الاقتصادية. إن هناك ما يدعونا إلى الإلحاح على هذة النقطة هنا، فالواقع الماثل في امتداد نهضة العالم الإسلامي عبر قرن كامل من الزمان، دون أن تتوصل حتى الآن إلى النتيجة التي بلغتها مجتمعات أخرى انطلقت من نفس النقطة، لا يعزى لفقدان الوسائل، وإنما يرجع إلى فقدان الأفكار. ولكي نستشهد بمثال لنجاح يمكنه أن يوحي لنا بلا فعّاليّة منهاجنا، نستطيع اتخاذ (اليابان) كحدّ للمقارنة. فقد كانت هذه البلاد سنة 1853م- وهي الفترة التي تلقَّتْ فيها النذير الذي تهددها بالانفتاح لتوسُّع الغرب- في نفس النقطة التي كان يوجد بها العالم الإسلامي حوالي سنة 1858م، (وهو التاريخ الذي اخترناه منذ حين كنقطة انطلاق للنهضة الإسلامية). ويُعَدُّ الفارق بين هذين التاريخين زهيداً عندما نُضْفيه على ما يناهز القرن من الزمان. وإن كانت النهضة اليابانية لم تبدأ في الواقع إلا عقب سنة 1868م؛ مع عهد الحكومة المستنيرة، الذي يسمى فيها بعهد (الميجي) ( Meïji) ( و). وقبل نهاية القرن الأخير كانت اليابان قد دخلت أسرة القوى الكبرى. ولقد أمكن التحقق من ذلك، ولا سيما منذ الحرب الروسية- اليابانية الشهيرة، ¬

_ (و) الميجي ( Meïji) : اصطلاح يشار إليه في اليابان إلى العهد الجديد الذي بدأ بها سنة 1868م، أي عهد (الحكومة المستنيرة) إبان حكم موتسو- هيتو ( Mutsu-Hito) الإمبراطور الياباني المولود في كيوتو ( Kyoto) (1852 م- 1912م)، والذي تولى العرش بعد الإمبراطور كومايي ( Koméi) سنة 1867م، فتخلص من الوالي الإقطاعيين الأقوياء المدعوين بالتايكون أو الشوغون ( Taïkouns ou Shogouns) وهم الذين حكموا اليابان عملياً من سنة 1186م، حتى عهد الثورة سنة 1868م، وذلك بوضعهم للميكادو ( Mikados ا) (أو أباطرة اليابان) تحت وصايتهم؛ وألغى النظام الإقطاعي، ثم منح لليابان دستورها سنة 1889م؛ كما أدخل الحضارة الغربية إلى بلاده، واضطلع بالحربين الصينية- اليابانية، والروسية- اليابانية.

التي بلغ منها أن سَرّبَتْ نفحةً ملحميّة للشعر العربي في ذلك الأوان، كما تذكرنا بذلك قصيدة لحافظ إبراهيم ... - لكم نظمنا من قصائد جميلة حول نهضتنا، في الوقت الذي كانت فيه اليابان تتوّج نهضتها بانتصار أَراق ما لا يُسْتهانُ به من المداد في أوروبا، حيث كان (غليوم الثاني) (ز) يتحدث عن (الخطر الأصفر)، وعن (الرجل المريض) .. ! وقد كان (الإنسان المريض) في ذلك العصر، يعني العالم الإسلامي بالذات. فقد انتقلت اليابان من عهد القرون الوسطى إلى العصر الحديث في مرحلة استغرقت خمسين حولاً تقريباً، وقد أنشأت جميع الشروط التي تجعل منها اليوم مجتعاً منتمياً (للنموذج النَّامي). وفي إمكاننا أن نجد في الرقم الذي ذكرناه لمتوسط دخلها الفردي السنوي موضوعاً للتأمل. فالواقع أنه يبين لنا العلاقة القائمة بين أخلاق معينة، خاصة بسياسة تقشفية في مجتمع معلوم، وبين شروط نموّه الاجتماعي والاقتصادي. فقد توصلت اليابان إلى الإنقاص من جميع مشاكل التخلف بفضل تنظيم معين للمجتمع على قواعد أخلاقية، يجعله يبلغ مستوى القدرة على مواجهة جميع أعبائه بواسطة وسائل تعدّ منقوصة على وجه الإجمال إذا قارناها ترقيمياً بالوسائل التي تقع في حوزة بلدان أخرى نامية. ¬

_ (ز) غليوم الثاني ( Guillaume II) : (1859 م- 1941م) ملك بروسيا، وإمبراطور ألمانيا (1888م- 1918م)؛ وقد ولد في برلين، وتنازل عن العرش عقب الحرب العالمية الأولى، ثم لجأ إلى البلدان المنخفضة (أي هولندة).

وهذان المظهران للقضية هما اللذان يقدمان لنا الدرس المفيد، كما أنهما مظهران مترَابطان. فنحن نرى ضمن حالة ملموسة، وبصورة تلقائية، أن مشكلة التجهيز مرتبطة بقضية الإنسان والأفكار، وأن المحصول الاجتماعي للآلات مرتبط بفعالية وسلوك الفرد الذي يستخدمها. ونحن هنا، ندرك ضمن حدّ معين، الصلة القائمة بين إرادة وقدرة مجتمع يبني ذاته على قاعدة حضارة، وليس على قاعدة منتجاتها. وهذا ما يفسر لنا كيف أن اليابان قد نجحت حيث لم يحقق العالم الإسلامي، حتى هذا الحين، نصراً حاسماً على التخلف، لأن نشاطه قد طبق في عالم الأشياء والمنتجات، بدل أن يطبق ضمن النسق البشري ونسق الأفكار. وفي ضوء هذه الاعتبارات يصبح من الضروري أن نحول السؤال المثار بصورة ضمنية من خلال موقف العالم الإسلامي منذ قرن من الزمان:- كيف نصنع منتجات الحضارة؟ .. إلى سؤال صريح:- كيف نصنع الحضارة؟ .. تلك هي المشكلة في انضباطها التام. ولكي نتناول هذه المشكلة على هذا الشكل، يتعين علينا اللجوءُ إلى الطريقة المعتمدة في مختبر التحليلات. فنحن لكي نقوم بتحليل مادة ما، لا ننقلها برمّتها إلى المختبر، ولكننا نقتصر على اقتطاع (عيّنات) منها فحسب. وعيّنات حضارة ما، هي منتجاتها الاجتماعية في جميع أشكالها. فالصباح الذي نستنير به، والأفكار التي وجهت أمر تجهيزه، والآدميون الذين قاموا بعملية إنجازه، تمثل جميعها منتجات اجتماعية لحضارة معينة. ونحن لو حللنا من وجهة نظر علم الاجتماع هذه (العيّنة)، لوجدنا أن

محتواها أو مادتها الجوهرية المتعلقة بعلم الاجتماع تؤول إلى ثلاثة حدود هي: التراب، والزمن، والإنسان. فالتراب يتمثل ضمنها في صورة مواد أوّليّة واصلة أو عازلة. أما الزمن فيندمج داخل سائر الاطراد العلمي والفني الواقع بين اكتشاف الظاهرة الكهربائية، حوالي نهاية القرن الثامن عشر، وبين تطبيقه في ميدان الإنارة حوالي منتصف القرن التاسع عشر؛ ذلك أن الزمن يمثل نفس الركيزة التي يقوم عليها هذا الاطراد. وأما الإنسان فينخرط ضمن التدخل البشري: (اليدوي والذهني) في هذا الاطراد ابتداء من غالفاني ( Galvani) حتى أديسون ( Edison). وإذن فالمصباح باعتباره نتاجاً للحضارة، يمثل في الواقع إنتاجاً للإنسان، والتراب والزمن. وكل عينة أخرى- وليس هناك محلّ لمضاعفة الأمثلة- تُحلَّل على نفس المنوال: فهي نتيجة للإنسان باعتباره صانعاً لجميع الوقائع الاجتماعية، وصانعاً لنفسه أولاً وبالذات بوصفه كائناً اجتماعياً؛ وللتراب الذي يجسّم سائر هذه الوقائع، ويدخلها إلى حيّز الملموس بمنحها الركيزة الطبيعية (أو الفيزيائية) والاقتصادية؛ وللزمن الذي يقدم للاطرادات المتعلقة بعلم الاجتماع الامتداد الضروري لنموّها واكتمالها. فإذا ما طبقنا الآن الطريقة (الجبريّة) الكلاسيكية على جميع منتوجات الحضارة تلك، بجمعنا لحدودها المتجانسة فيما بينها- حدّاً لِحَدٍّ- في سائر مركباتها ابتداء من مجرد الإبرة إلى الصاروخ. ومنذ الفكرة الأكثر شيوعاً حق معادلات (النظرية النسبية)، ومن مجرد الراعي باعتباره ذاتية اجتماعية إلى شخص أكبر عالم، توصلنا إلى هذه النتيجة الدالة المتمثلة في أن مجموع

منتوجات حضارة ما، يُساوي مجموع الأشخاص، بزيادة مجموع ضروب التراب، وزيادة مجموع الأزمنة. ولكي نترجم هذه الصياغة إلى لغة عادية، يجب أن ندلي بملاحظة تخص كل حدّ من حدودها: 1 - فمجموع منتجات حضارة ما، ليس سوى هذه الحضارة نفسها، ولكن ضمن حالة شتيتة وسائبة، أعني دونما اعتبار لصلاتها الداخلية أو لتركيبها المتآلف، ما دامت خاصة التحليل ماثلة في شجب هذه الصِّلات. 2 - ومجموع الأشخاص ليس إلا: (الإنسان) باعتباره كائناً اجتماعياً. 3 - ومجموع ضروب التراب، ليس غير التراب ولكن مع كامل (مَشْروطِيَّتِه) المتعلقة بعلم الاجتماع ( Son conditionnement sociologique) ، ( أي رضوخه لضرورات فنية معينة) بما في ذلك وضعيته القانونية، و (تَوْضيبُه) الفنيّ: Son aménagement technique (¬1) 4 - ومجموع الأزمنة ليس هو إلا الزمن الذي يتم تكييفه اجتماعياً حيث يحول إلى زمن اجتماعي بإدماجه ضمن جميع العمليات الصناعية، والاقتصادية، أو الثقافية، باعتباره ركيزة تقوم عليها سائر اطرادات هذه العمليات. وليست الملاحظات التي أدلينا بها حول النقط الثلاثة الأخيرة سوى ملاحظات توضيحية؛ وإن كان يتعين أن نضيف إليها ملاحظة ذات أهمية خاصة على علاقة بعلم الاجتماع، ويمكن استخلاصها من هذا التحليل، وهي المتمثلة في أن فاقَةَ البلدان المتخلِّفة لا تعدو كونها فاقة ظاهرية، حيث إن كلا من هذه البلدان ¬

_ (¬1) تحمل عبارة (التوضيب) هنا معنى العملية المثلى لتجهيز وتوزيع التراب ضمن الإطار الجغرافي بما ينتظمه من الآدميين الذين يعيشون عليه، وما يدور فيه من نشاطات اقتصادية في علاقتها الوظيفية بالموارد والإمكانيات الطبيعية والفنية. (المترجم).

تمتلك عدداً من الآدميين يكفي لتحويلها، كما تمتلك أحياناً أخصب وأغنى تراب في العالم - كما هي الحال بالنسبة إلى (أندونيسيا) مثلاً-، وهي تمتلك بطبيعة الحال الزمن الذي يعدّ هو نفسه بطريقة صارمة بالنسبة إلى الجميع. وعلى النقيض من ذلك فإن الملاحظة المتعلقة بالنقطة الأولى تضعنا في مواجهة مشكلة جديدة، لأن الحضارة حيثما تكون في حالة شتيتة أو تَمْثُلُ على صورة سائبة، لا تمثّل حضارة، ولكن ركاماً مكدَّساً من الأشياء المشتتة، الفاقدة للتآلف في قليل أو كثير، حتى ليمكن أن نتمثّلها في صورة متحف من الطُّرَف المستغربة والمثيرة للاستطلاع، أو سوق للسِّلَع الزهيدة القيمة والبضائع الكاسدة البائرة. وهذه الملاحظة تقدم لنا عن طريق المراجعة، المعنى الحقيقي المتعلق بعلم الاجتماع لظاهرة التكديس التي أشرنا إليها فيما سلف أثناءَ حديثنا عن الطريق الذي لا يفضي إلى مخرج، والذي انخرطت فيه نهضة العالم الإسلامي منذ قرن من الزمان. فهذه العناصر الثلاثة التي هي: الإنسان، والتراب، والزمن، لا تمارس مفعولها ضمن حالة شتيتة، ولكن ضمن تركيب متآلف، يحقق بواسطتها جميعاً إرادة وقدرة المجتمع المتحضّر. وإذن فإن مشكلة هذا التركيب المتآلف هي التي توضع أمامنا. وأنا لا أعتقد أن هناك طريقتين لتناول هذه المشكلة، فالتجارب البشرية المعاشة هي التي يمكنها أن ترشدنا بدروسها، إما بطريقة مباشرة ضمن التاريخ، وذلك ما لم تعترض بعض الأسباب الثانوية كحائل بين الأسباب الأساسية ونتائجها، وإما من خلال الاطرادات التي توجب علينا أن نرجع عن طريق التحليل إلى الأسباب الأولى ذاتها. ولذا يجب علينا حسب اقتضاء الظروف أن نَتَبَنَّى هذا المنهاج أو ذاك في

عملية استقصائنا، وإن كانت النتيجة العملية تظل هي نفسها، وهي التي تهمنا من حيث التطبيق؛ إذ إن الشروط الخاصة بحضارة ما لا تقبل الانفصال فيما بينها، بحيث يحقق تركيبها المتآلف بطريقة تلقائية شروط قيامها بوظيفتها كإرادة وقدرة. والواقع أننا عندما نسائل التاريخ، نجد أن الحضارات قد تشكلت ضمن ظروف هيمنت عليها فكرة الخلاص، وسيطرت على وعي الإنسان حتى غيرت اتجاهه. وهذه الفكرة لا تشكل صياغتها، ولا تصبح حاسمة إلا أمام خطر مرعب. ويمكن للخطر أن يَمْثُلَ في شكل تَحَدٍّ من طرف الطبيعة نفسها (في صورة جفاف، أو طوفان إلخ ... )، أو تَحَدٍّ من طرف التاريخ في صورة غَزْوٍ، أو حرب، أو تهديد بالاسترقاق. وإلى هذا الشكل من التحدّي بالذات، يُرْجِعُ توينبي ( Toynbee) (¬1) الظروف العامة التي تتشكل ضمنها الحضارات. فتشكل الحضارة المصرية، يدخل في رأيه ضمن هذه المقولة. ¬

_ (¬1) مفهوم تحد- رد Defi-riposte هو مفتاح فهم وشرح تاريخ توينبي في مصير كل حضارة. يوازن بين اطرادين نموذجيين؛ الأول: حول النمو، والثاني: حول التخلف والانحلال. فإذا كان هنالك ولادة وثبات، إذن هنالك نمو مجتمع باتجاه الحضارة، عندما تأخذ بالتغلب باسمرار على التحديات (الطبيعية- الاقتصادية- الديمغرافية- الأخلاقية) عبر ردود أفعال ملائمة. الحضارات تولد عندما يقدم الوسط شروطاً للحياة قاسية (مزايا المحن) والانتصار على تلك المصاعب هو واقعة نمو، والرزوح تحت وطأتها عند الانطلاق أو في الطريق تلك علاقة انحلال وسقوط. هذه هي بالإجمال الظروف التاريخية لكل حضارة في طرح توينبي. من خلال الطروحات (البنابية) حول تكون وأفول المجتمعات المتحضرة يلاحظ أن مفكرنا قد تجاوز نظريات توينبي المبنية على جدلية (تحد ورد). انظر تحديداً (الخط البياني لدورة الحضارة في شروط النهضة). [ط. ف].

ولكن هذا التأويل لا يمدنا بتفسير لما حدث على وجه الدقة، عند الهجرة السكانية التي تمت في بداية الأزمنة التاريخية، عقب ذلك الجفاف الذي اجتاح المناطق المتاخمة للجزائر، فغير شروطها المناخية؛ وصيرها إلى مناطق صحراوية؛ إذ لابدَّ أن يكون قد حدث ضمن هذا الخروج ( exode) شيءٌ ما يظل خارجاً عن متناول التفسير بالتحدّي الطبيعيّ، ما دام جزء من السكان قد بقي بنفس المكان وتكيف مع الشروط الجديدة لحياته، والتحق جزء آخر بأعالي (النّيل) ليجد من جديد شروط حياته القديمة، واتجه جزء واحد من هؤلاء السكان إلى مستنقعات (الدّلتا)، فروّض الطبيعة الجديدة؛ وهكذا ولدت الحضارة المصرية، كنتيجة مترتبة ليس عن الظاهرة الطبيعية وحدها فحسب، ولكن عن اختيار حرّ وقاصد، أعني عن إرادة جماعية وأوّليّة وجَّهت خطى هذا الجزء من (الخروج العام) نحو صقع محدّد. ونحن لا نفسر آلية هذه الإرادة، ولكننا نقتصر على إثباتها باعتبارها في الوقت ذاته ظاهرة تظل خارجة عن متناول التفسير الطبيعيّ، ومظاهرة تدشينيّة مع ذلك لمجتمع جديد وحضارة جديدة. ويمكننا أن نستند لدعم وجهة نظرنا على التاريخ اليهودي، الذي يمدّنا فعلاً بمثال لخروج آخر .. وإن كان هذا الخروج لا يُفَسِّرُ حضارة إسرائيل، إلا في الحد الذي يُفَسَّرُ فيه هو ذاتُه بالعمل الأوّلي (لموسى) الرسول. ويبيّن لنا (الكتابُ المقدَّس) أيَّ صعوبات لاقاها هذا الأخير في كنف شعب حَرونٍ عَنُودٍ من أجل تشكيل إرادته وقيادته قبل هذا الخروج وبعده. (فموسى) بالذات هو الذي يفتح لنا النافذة المطلَّة على المظهر الآخر من القضية، أعني عندما تُنْهِضُ فكرةُ الخلاص شعباً ما وتشكل إرادته بصورة عامة،

لا أمام خطر ناتج عن الطبيعة، ولكن إزاءَ خطر (أُخْرَوِيّ) وغَيْبِيّ. ولقد ولدت المجتمعات التي ما تنفك تسلَّط حتى هذا الحين انعكاسات حضاراتها على الخارطة الجغرافية، وأعني بها: الهندوسية، والبوذية، والموسويّة، والمسيحية، والإسلامية، من هذه الانطلاقة الروحية التي أقامت هياكل (براهما) و (يَهْوَهْ) ( Brahma et Jéovah) ومعابد البوذية، والكنائس القوطية، والمساجد الإسلامية. فكل هذه الحضارات المعاصرة لنا، قد شكلت تركيبها المتآلف الأصليّ للإنسان والتراب والزمن، في مهد فكرة دينيّة. وإذا اقتضى الأمر أن نصدر حكماً بشأن المجتمع الذي هو بصدد التشييد حالياً باتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، باعتباره شكلاً من الحضارة- وأنا أعتقد أنه يمثل بالفعل شكلاً لحضارة- نجد أن تكوينه ونموّه يفسّران بنفس الطريقة. فمن وجهة النظر التاريخية، يتعين علينا ملاحظة أن الأفكار (الماركسية) قد استخدمت لنموّها واكتمالها كلَّ البنية التَّحْتِيَّة ( L'infrastructure) النفسانية والمفاهيمية المسيحية للإنسان الذي حوَّل إنجيل (يسوع المسيح) إلى إنجيل (لماركس)، وجميع المطامح التوّاقة إلى (ملكوت الربّ الإله)، إلى مطامح متشبّثة (بالفردوس الأرضي)! .. ومن وجهة النظر النفسية فإن العقيدة التي أقامت في الماضي (كاتدرائيات) إمبراطورية (إيفيان الرابع) (الملقب بإيفيان الرهيب)، هي التي تتولى اليوم تشييد المصانع والسدود في بلاد (خروتشوف) (¬1) ... فالفكرة الدينية تتدخل إما بطريقة مباشرة، وإما بواسطة بديلاتها ¬

_ (¬1) انظر بهذا النطاق كتاب (ن بردييف) منابع واتجاهات الشيوعية الروسية. [ط. ف].

اللادينية نفسها، في التركيبة المتآلفة لحضارة ما، وفي تشكيل إرادتها. فهل يتعين علينا أن نستخلص في ذلك أنه يلزمنا أن ننتظر أو نستثير وحي فكرة دينية جديدة، في كل مرة توضع في مواجهتنا مشكلة نهضة؟ لقد حسمت أوروبا حالتها الخاصة منذ بضعة قرون، داخل الإطار المسيحيّ دون ريب، ولكن مع مبادرات في الميدان الفني، والأدبي، والفلسفي، كانت تذهب إلى ما وراء المبدأ الإنجيليّ. فقد تشكل الفكر الأوروبي المعاصر في جوّ العقلانية ( Rationalisme) الفرنسية، والجماليّة ( Esthétisme) الإيطالية. ومع ذلك ففي كل مرة كانت تنتاب فيها هذا الفكر استثارة أو تحدّ وافد من الخارج، كان يرجع من جديد إلى أصله المسيحيّ كما يبيّن لنا ذلك التصريح الشهير الذي أعلنه (شارل العاشر) على أمم أوروبا غداة احتلال الجزائر. ولكن حالتنا نحن تمثل حالة شعب استلم عن سلفه السامي ( Sémitique) ميْسِمَ أقوى انطلاقة دينية. ففي أوروبا كانت الحركة الدينية للنهضة حركة مُبْعِدَة عن المركز ( Centrifuge) على وجه العموم؛ ومن ثَمَّ فقد كانت تبتعد عن المسيحية. وتمثل (الماركسية) ضمن اعتبار معين، نتيجة لهذه العملية الإقْصائِيَّة التي أبعدت الفكر الأوروبي عن المركز المسيحيّ؛ وعلى النقيض من ذلك، فإن الحركة الدينية للنهضة الإسلامية تمثل حركة مقرّبة من المركز ( Centripète) ومن أجل تحقيق الشكل الجديد لحضارته، كان المجتمع الإسلامي يبحث بطريقة مُنْبَهِمَة، ولكن في تشبّث لا ينثني منذ قرن من الزمان، عن القبس الديني الضروري لتركيبته الحيوية، التاريخية المتجانسة. ولا يعد عملاً من أعمال الصدفة، ولكن بفعل منطق داخلي آمِر، أن تكون الجهود الذهنية الأولى لنهضة هذا المجتمع قد وجدت تعبيرها المحظوظ والملائم في قليل أو كثير، ضمن أعمال من قبيل (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، وأن يكون نفس مجهود الإنهاض

الاجتماعي في هذه البلاد بين سنة 1920 وسنة 1936، والذي حمل اسم: (الإصلاح)، مُسْتَوْحًى من الدين. وأخيراً، فقد سجلت الثورة الجزائرية ضمن ميثاق طرابلس (الإسلام) ( Islamisme) بين مبادئها الموجِّهة لها، ذلك أنها كانت تطيع المنطق نفسه، لِعِلْمِها أنها قد اسْتَقَتْ هي نفسُها أصفى جوهرها وأقوى عناصر مفهوميتها ( Idéologie) من هذا الدين. وهكذا سجلت على هذا الغرار مبدأ (مُحَضِّراً) سامِقاً ضمن مفهوميتها، عِلماً منها بأنها تستطيع أن تستمدّ منه الشرارة الضرورية لتركيبة الإنسان، والتراب، والزمن، المتماسكة بالجزائر. ومن جهة أخرى فقد بدأنا نشاهد على الصعيد السياسي، والفني، أوّليات مثل هذا الجهد ضمن إجراءات فعلية؛ فقد تمَّ بالفعل على صعيد التربية مثلاً وضع مشكلة الإنسان ضمن اتجاه حضارة، كما أن الهيئات التي اضطلعت بالدفاع عن المناهج التربوية سائرة في نفس هذا الاتجاه، حيث نضجت موجّهاتها في بوتقة الروح التي قامت على إعداد ميثاق طرابلس. والواقع أننا عندما نضع مشكلة الإنسان تحت زاوية النموّ، يبدو لنا الزمن كبُعد من أبعاد فعّاليته. فالمشكلتان (أعني مشكلتي الإنسان والزمن) مترابطتان فيما بينهما، والموجهات التي تقدم حلاًّ لأولاهما، تحلّ الثانية معها. وفيما يتعلق بالمشكلة المثالثة (أعني مشكلة التراب)، فإن الإجراءات المتخذة في ميدان الإصلاح الزراعي، وعملية التشجير، والتّنقيب المنجمي، تضعها وضعها الصحيح، كما تحدد أمر (التَّوضيب) الجديد للتراب في علاقته الوظيفية بحاجات بلاد تريد اجتياز عتبة نموِّها (¬1). ¬

_ (¬1) الاثنا عشر سنة السابقة تؤكد لنا بشكل أفضل النتائج الناشئة عن تلك الإرادة الوطنية. وبصورة أخص ابتداء من الخطة الرباعية الأولى. [ط. ف].

وبكلمة واحدة، فإن التركيبة المتجانسة للإنسان والتراب والزمن بصدد التحقق، بالرغم من المصاعب الملازمة لتحولات اجتماعية لَمَّا تزل في بدايتها، مع ما ينضاف إليها من المصاعب المصطنعة التي تقام أمام خطانا، لكي تبرهن لنا أننا غير قادرين على السير وحدنا. ولكن الثورة قد شحذت إرادة شعب يرمي إلى التحرر مهما كلفه الثمن، من ارتهانه الثقيل الوطأة للتخلف، ويعتزم في كلمة واحدة، أن يَنْضَوي إلى الحضارة.

مشكلة الثقافة

2 - مُشْكِلَةُ الثَّقَافَةِ محاضرة أُلقيت باللغة الفرنسية في الجزائر العاصة بتاريخ: 15 - 1 - 64. وباللغة العربية في مدينة قسنطينة بتاريخ: 30 - 1 - 64 ــــــــــــــــــــــــــ

في نهاية المحاضرة الأخيرة توصلنا إلى بضعة نتائج منها: 1 - أن المشاكل العديدة التي نطلق على مجموعها مصطلح (التَّخلُّف)، هي في الواقع تعبيرات مختلفة عن مشكلة واحدة ومفردة تواجه كلَّ بلاد متخلِّفة، أي أنها مشكلة (حضارة)، وذلك بشرط أن نتقبَّل هذه العبارة في استخدامنا لها، بصورة محدودة، وأعني بهذا أن تكون أقلَّ تعميماً من المعنى الذي اعتاد علم الإنسان ( Anthropologie) أن يفهمها عليه. وبعبارة أخرى فالحضارة ليست كلَّ شكل من أشكال التَّنْظيم للحياة البشرية، في أيِّ مجتمع كان، ولكنها شكلٌ نوعيٌّ خاص بالمجتمعات النامية، بحيث يجد هذا الشكل نوعيته في استعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة ليس المجتمع المتخلف في حالة تكيُّف معها لا من حيث رغبته، ولا من حيث قدرته، أو بعبارة أُخرى: لا من حيث أفكاره، ولا من حيث وسائله. 2 - وأن هذه الرغبة، وهذه القدرة لدى المجتمع المتحضِّر، ناتجتان ليس عن تكديس منتجات الحضارة، ولكن عن تركيب أصيل لعناصر: التراب، والإنسان، والزمن. 3 - وأننا إذ نفترض أن مشكلة التراب قد وجدت حلها، أو هي في طريقها إلى هذا الحل، كما هي الحال بالنسبة إلى الجزائر، حيث يتمُّ تحوير وضعيتها القانونية، وإعدادها الفني في علاقتهما الوظيفية بالاختيار الاشتراكي - فإن المشكلتَيْن الأُخْرَيَيْن مرتبطتان بطريقة عضوية بالمشكلة الأُولى، لأننا منذ مواجهتنا لمشكلة الإنسان المطروحة في نطاق النموِّ، نجد أن الزمن يواجهنا بالضرورة كَبُعْدٍ لفعَّالية الإنسان. هذه هي مجموعة النتائج التي سبق أن توصلنا إليها. وهي تدلّنا منذ عثورنا عليها على الاتجاه الذي ينبغي لنا أن نسلكه إزاءَ مشكلة الثقافة التي تجابهنا

اليوم، والتي نتخذ منها موضوعاً لمحاضرتنا الثانية. فهذه المشكلة لا تواجهنا ألبتة في دائرة المجرَّدات، أي في: المسرح، أو السينما، أو مكتب عمل أحد الروائيِّين، أو في أسلوب إحدى الرقصات الفلكلورية، ولكنها تطرح أمامنا في العالم العَيْنِيِّ الملموس لعملنا اليومي، في إحدى حظائر البناء، أو في حقل نقوم بزراعته، أو في المدرسة حيث نرسل بأطفالنا لتلقي المعرفة، وفي الطرقات التي نعبر بها، والقاطرات التي ننتقل بواسطتها، وأخيراً في كل مكان يوجد فيه شكل من أشكال حياتنا ونشاطاتنا اليدوية أو الذهنية. فالقضية تقوم بالنسبة إلينا ليس في مجرد إعطاء مضمون معين لأوقات فراغنا فحسب، ولكن في إعطاء هذا المحتوى لوجوه نشاطنا الأساسية أولاً وبالذات. وبكلمة واحدة فإن موضوعنا لا يقتصر على نطاق معين فحسب، ولكنه يتعلق بالإطار الاجتماعي كله، حيث تدور حياتنا، وتتساوق نشاطاتنا، وتتشكل المشكلات العديدة التي تستحوذ على أفكارنا تحت اسم (التخلُّف). وهكذا فنحن عندما نطرح هذا السؤال: (ما هي الثقافة؟)، فإننا لا نجد فكرنا حرّاً، ولكننا نراه محاطاً بكل تلك المشاكل. ومعلوم أن هذا السؤال ليس له المعنى نفسه، عندما يتعلق الأمر بمجرد اهتمام ذهني- له علاقة بجمع الوثائق أو بالناحية العلمية- وعندما يتعلق غرضه بمصلحة اجتماعية أساسية. ففي الحالة الأُولى نواجه مجرد مشكلة تصوّر لواقعٍ اجتماعيٍّ قائم، وفي الحالة الثانية تتمثل المسألة في موقف يُطلَبُ إلينا اتِّخاذه لمواجهة فراغ اجتماعي معين. ذلك أنه توجد بالتأكيد، ومهما تكن وجهة نظر بعض أصدقائنا حيال هذا الموضوع، نوعية خاصة بالمشكلة المطروحة أمامنا دون هوادة، منذ اللحظة الأُولى لصياغتها، كما أنها تزداد مواجهة لنا مع كل خطوة من سيرنا. ومنذ الخطوة الأُولى نجد أنفسنا إزاء طريقَيْن اثنَيْن: ففي الطريق الأول تقوم المسألة في إعداد التقويم الفعليِّ لثقافة معينة سبق إعدادها من قبل، كالحضارة بأثينا أو في إمبراطورية روما.

وفي الطريق الثاني تقتصر المسألة على مجرد تصورها في مجرد محتواها الْمُضْمَر، وفي الخطوط المتفاوتة الغموض التي تكوِّن مشروعها. فالفهم والعمل غير مترادفَيْن: هذا هو اليقين ذاته. ولكن هناك ما يدعو إلى أن يجد هذا اليقين ترجمته في موقفنا إزاء مشكلة الثقافة، لأنها عندما تطرح علينا من حيث المبدأ، يصبح من الضروري لنا أن نقوم بوضعها في مكانها بالنظر إلى علاقتها بوضعيتنا التاريخية الخاصة. ولهذا فإن المشكلة يمكن أن تطرح بصفة عامة ضمن ثلاثة أوضاع مختلفة: 1 - فعندما نتساءل: كيف تتكوَّن ثقافة معيّنة؟ يكون سؤالنا متضمِّناً لجواب عن مرحلة تاريخية معينة. 2 - وعندما نتساءل: ما هو الدور الذي تؤدِّيه ثقافة معيَّنة؟ أو ما هي الصورة التي تبرز فيها هذه الثقافة؟ نجدنا إزاء وجهة نظر أُخرى للمشكلة. 3 - أما عندما نتساءل: كيف يتمُّ إعداد ثقافة معيَّنة؟ فإننا نكون إزاء زاوية نظر مختلف عن الوجهتين السابقتين. وهذه الأوضاع الثلاثة للمشكلة، كلها ذات قيمة على الصعيد النظري، إلا أنه من الواضح أن الوضع المثالث هو الذي يتضن الجواب عن المرحلة التاريخية التي تنتظم بلاداً كالجزائر، باعتبارها بلاداً بصدد الخروج من العهد الاستعماري، مع كل المشاكل التي خلفها لها هذا العهد وراءه. فنحن عندما نطرح بالجزائر هذا السؤال: ما هي الثقافة؟ لا نفكر بالدرجة الأولى في ضروب التسلية التي يمكن أن تقدمها لنا الفنون الفلكلورية، والمسرح، والشعر؛ ولكننا نفكر أولاً في الحقائق المحسوسة للتخلُّف: في البطالة، والأُميّة، ونقص التغذية إلخ ...

وللتَّخلُّف جغرافيته، وتاريخه. أما جغرافيته، كما سبق أن بيَّنَّا ذلك في محاضرتنا الأخيرة، فهي تشمل المساحة التي تنتظم على وجه التقريب نصف الكرة الجنوبي، والتي تقع في نطاقها في جميع الأحوال بلدان باندونغ ( Bandoeng) التسعة والعشرون (¬1). وأما من الناحية التاريخية، فيجب علينا أن نميِّز بين شكلَيْن اثنَيْن للتخلُّف في هذه الرقعة الجغرافية: الشكل الذي يُعزَى إلى عوامل عرضية كالتَّقهقر الذي ينتاب الآن أو انتاب في الماضي تطور المجتمعات التي كانت نامية سابقاً، كما هي الحال بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي حتى آخر عهد الدولة الموحديَّة؛ والشكل الذي يعزى إلى عوامل دائمة ومزمنة من الركود، كما هي الحال بالنسبة إلى العوامل التي انتابت حتى هذا الحين حياة السكان الذين يكوِّنون ما نسميه بالمجتمعات البدائية. وعلاوة على ذلك يجب أن نأْخذ في حسابنا الاستعمار الذي يمكنه أن يصبح عامل ركود أو تقهقر راجح الكفَّة. ولكن مهما يكن مصدره التاريخي، فإن التخلُّف- عندما نعبِّر بمصطلحات اقتصادية عن الحقائق الواقعية لمجتمع في حالة ركود أو تقهقر- لا يشكل سوى مظهر من مظاهر مشكلة الإنسان الذي لم يتعلم طريقة استعمال وسائله الأولية، التي هي التراب والزمن بصورة فعالة، أو هو قد نسي ما تعلمه من هذا ¬

_ (¬1) انظر في هذا الموضوع: (فكرة الأفريقية الآسيوية)، حيث استخرج المؤلّف الاستنتاجات الأولى لمؤتمر باندونج. ونجد من جهة أخرى في هذا المؤلف الأسس النظرية لعدم الانحياز، وقد وضعت في مجال إمكانية وجود حضارة عالمية. ولم يظهر بن نبي في كتاب من كتبه كما ظهر في هذا الكتاب كمنظر سياسي في المدى العالمي. [ط. ف].

الاستعمال، مع ملاحظة أن فعَّالية الإنسان بالذات هي التي تقوم بتحديد بقية العوامل الأخرى. وإذن فإن الإنقاص من عدم فعَّالية الفرد، يعني الإنقاص من تخلُّف المجتمع ... إلا أنه يتبقَّى لنا أن نعقد الصلة بين الثقافة والفعَّالية باعتبارها صفة ملازمة للإنسان المتحضِّر. فنتيجة الفعَّالية أمر مؤكد بصورة إجمالية في الوضعية الاجتماعية والاقتصادية لمجتمع متحضر معين، باعتبار أن حضارته ليست إلا التعبير عن مستوى معين للإنسان والتراب والزمن، المتَضَمنَة جميعها في كل نتاج من منتجاتها، وفي تركيبها الأصيل بصورة عامة. كما أن نتيجة الفعالية أمر مؤكد أيضاً في بعض الحالات المعينة، وذلك عندما يوجد مجتمع معين نامٍ على الصعيد الصناعي، في بعض الظروف الخاصة من تاريخه، ضمن حالة لا يملك فيها غير وسائله الأوَّليّة، بحيث لا يستطيع أن يستعمل من أجل إعادة بنائه إلا هذه الرسائل فحسب، أي الإنسان والتراب والزمن. وهذه الحالة هي التي نقدِّم لها على سبيل المثال قضيّة إعادة بناء ألمانيا عقب سنة 1945م. فقد وجد الشعب الألماني نفسه، عقب الحرب، محروماً من جميع أبعاده الأُخرى، وخاصة فقدانه لسيادته السياسيّة، بحيث لم يعد يملك لمواجهة مشاكله إلا عضلاته وأفكاره، أو بعبارة أُخرى طاقته الحيوية، وثقافته. ولكن فعاليّة الفرد الألماني، من أجل إعادة بناء بلاده، تقتصر في نهاية الحساب، ومن وجهة النظر الاجتماعيّة، على ثقافته لا غير. وإذا ما دعينا على أية حال إلى القيام بتحديد القسط المعزوِّ إلى العضلات في هذا التحوُّل المدهش، الذي تمَّ في مدة عشر سنوات، فإننا ندعو بدورنا هؤلاء الذين يطرحون علينا هذا السؤال، إلى الالتفات لحظة ما نحو المساحة التي تعاني

التخلُّف، وإلى التساؤل عن السبب الذي أذى بالإنسان الذي يعيش على هذه المساحة إلى عدم الإنقاص من مشاكله الحيويّة بواسطة عضلاته فحسب؟ وإذن فإن مشكلة الثقافة هي التي تواجهنا على رقعة البلدان المتخلفة. ولهذا فنحن عندما نقوم بالموازنة بين النموِّ والتخلُّف، على المستوى الجماعي، أو بين الفعَّاليّة وعدم الفعَّاليّة على المستوى الفرديِّ، نكون قد قمنا بالمقارنة بين مستويات ثقافيّة معيّنة، أي بين ثقافة معيّنة من ناحية، وبين شيء معيّن يمكننا - لكي نحافظ على الروح المنهجيّة التي نعتمدها- أن نَسِمَهُ بطابع يشبه اللاثقافة، من ناحية أُخرى. وعلى هذا فنحن عندما نطرح مشكلة الثَّقافة في بلاد متخلِّفة معيّنة، لا نملك الخيار عند طرحها، لأن الثقافة محدَّدة بواسطة كل معطيات التخلُّف، وبواسطة المعطى البشري أولاً وبالذات، بحيث يتعيَّن علينا أن نطرح المشكلة بصورة حاسمة في الشكل الدقيق الذي تواجهنا عليه، أي في وضعها المثالث: - كيف يتمُّ إعداد ثقافة معيّنة؟ وهذا لا يعني وجوب اعتبار الوضعين الآخرَيْن كوضعَيْن قابلَيْن للإهمال، لأن وجهة نظرنا يمكنها على أيّة حال أن تشمل هنا حقلاً أوسع للتَّقصِّيات، وأن تنفتح على ثقافات بلدان أُخرى، حيث تمَّ إعداد الثَّقافة عبر مجرى القرون. إلا أن المشكلة بالنسبة إلينا تمثل قضيَّة ذات نسق عمليٍّ: فنحن نريد اكتساب الفعَّاليّة الضَّروريّة لنا، والتخلُّص من وجوه عدم فعَّاليّتنا الحاليّة. والمشكلة تطرح علينا تحت المظهر الإيجابيِّ والمظهر السلبيِّ معاً: حيث يتعيَّن علينا أن نكوِّن رصيدنا الثَّقافي الفعَّال، وأن نُصَفِّيَ راسِبَنا السلبيِّ. والحق أنه قد تمَّ الشروع بالجزائر في عمل مزدوج للبناء، ولإزاحة الأنقاض،

وذلك منذ ميلاد الحركة العصريَّة التجديديَّة، والحركة الإصلاحيَّة. ولكن المحاولة لم تكن في هذا الميدان بالخصوص موجهة بمقتضى عملية تخطيطيَّة، لأنها سلكت طرق الخبرة الساذجة. فقد حدث أن نسي الصبح بالمدرسة أن يقوم بإصلاح نفسه، وكان (رجل الصَّفوة المتعلِّمة) الذي تلقَّى دروسه بالمدرسة العصريَّة، والذي ربما أُتيح له أن يستكمل دراساته بباريس، منفصلاً في قليل أو كثير عن وسط آبائه، وعن المعارك الدائرة بهذا الوسط، فيما عدا بعض المعارك الانتخابيّة (¬1). إلا أنه يجب علينا على الأقل أن نعزو إلى حساب هذه الحركة الإصلاحيّة عمليّة تصفية ذلك القسط هن راسبنا الثَّقافي السلبيّ المتمثِّل في النَّزعة المرابطيّة. ولكن (الفراغ الثَّقافي) يبلغ إجمالاً في حالة المتعلِّم المستغرب، حدّاً يضاعف من خطورته فراغ اجتماعي معيّن، وذلك عندما يقوم هذا المتعلِّم بشَجْبِ جميع الرّوابط التي تصله بوسط آبائه، وأحياناً مع أُسرته نفسها. وكان هذا الانْبِتاتُ الاجتماعيُّ يتخذ في بعض الأحيان بُعْدَ الفضيحة عندما تقوم إحدى العائلات بنبذ أحد أبنائها. ومثال ذلك ما حدث حوالي سنة 1930م، عندما نشر أحد المتعلِّمين الجزائريين بباريس كتاباً أثار موجة غضب في سائر البلاد لأنه مَسَّ بكرامتها. كما كان يتَّخذ كذلك شكلاً أكثر شيوعاً وهو ما يتمثَّل في ذلك المروق الذي يدعو الأفراد إلى استبدال جنسيتهم، الأمر الذي كان رائجاً في الجيل السابق. وهكذا يبدو لنا أن نتيجة المدرسة قد كانت سلبيّة في غالب الأحيان على الصعيد الاجتماعي. ولكن هذا التَّقويم نفسه، يمكننا استخلاص فائدة معيّنة، من تجربة وطنيَّة معاشة، وذلك في اعتبارنا لحدودها في صورتها النسبيّة، ذلك ¬

_ (¬1) في هذا القسم يلمح الكاتب إلى الحياة السياسية في الجزائر قبل اندلاع الثورة. [ط. ف].

أن التجربة لم تكن وطنيّة إلا بتأثيراتها، وليس بأسبابها، لأن العائلات في الجيل السابق كانت ترسل بأطفالها إلى المدرسة لا لكي تعدّهم للقيام ببعض الواجبات المعيّنة، ولكن لكي تهيِّئهم للحصول على بعض الفوائد المعيَّنة. وعلى أيّة حال فقد أتاحت لنا تجربة المدرسة الفرنسية طوالى منتصف القرن المنصرم، أن نلمس بأصابعنا على نحو ما، وفي أكثر من مناسبة، حقيقة معيّنة: وهي أن المتعلِّم الجزائري الذي تمَّ تشكيله على مقاعد هذه المدرسة، كان من الناحية الاجتماعية أقلَّ فعَّالية من زميله الأوروبي أو اليهودي، كما لو كان مصاباً بمُعامِل معيَّن من النقص. ومع هذا فقد كان يبرهن في أكثر من حالة، على صفاته الشخصيّة، بما كان يحظى به من تقديرات متفوِّقة في ختام دراساته. ومنذئذٍ نجدنا إزاء هذه الملاحظة الأولى التي تفرض نفسها، والمتمثِّلة في أن المحصول الاجتماعيّ أو فعَّالية الفرد، ليست بالدرجة الأُولى على علاقة وظيفيَّة باستعداداته الشخصيّة؛ بالإضافة إلى ملاحظة ثانية: وهي أن المدرسة لا تحلُّ وحدها مشكلة الثِّقافة، لأن حلَّها يبدو لنا مُتَأتِّياً عن شروط أكثر عموماً. وهذه الملاحظة الأخيرة تتيح لنا إذن أن نطرح مشكلة الثَّقافة في علاقتها بالمدرسة بطريقة أفضل، ما دمنا قد عرفنا أن المدرسة لا تقدِّم للتلميذ الصفات المحدّدة للمحصول الاجتماعي أو الفعَّالية- وأعني بها الصفات التي ننتظرها من الثقافة- إلا ضمن شروط معيّنة تتجاوز الإطار المدرسي. ولكن قبل أن نقوم باستخلاص نتيجة معيّنة أصبحت الآن ماثلة في أذهاننا، يتعيَّن علينا أن نزيد في تحديد ما نعنيه بالمحصول الاجتماعي والفعَّالية، وذلك بأن نستشهد لهذه العبارات بشواهد خاصة بالإطار الجزائري. فقد أُتيح للفرد الجزائري المنتمي إلى الصَّفوة المتعلِّمة أن يبرز على المسرح السياسيِّ خلال عهد (الأمير خالد). وكان يكوِّن مجموعَ هذه الصَّفوة المتعلِّمة:

ثُلّةٌ من الأطبَّاء، وبعض المحامين، وبضعة من الأساتذة، وحفنة من المُعلِّمين. ولا ريب في أن أفراد الجيل الذي عاصرتُه لا يزالون يذكرون أصداء النضال الذي خاضته هذه الصَّفوة المتعلِّمة في سبيل الحصول على حق الالتحاق بالمدرسة. فالمؤكد أن البذور الأُولى للمطالبة بالحقوق الوطنيّة، قد تشكَّلت داخل هذه المناقشة وما دار فيها من أخذٍ وردٍّ. ولكن الذي يهمّنا هنا، ليس هو الجانب التاريخي للحركة الوطنيّة إبان بوادرها الأولى، وإنما هو النتيجة المحسوسة للموقف المتّخذ إزاء مشكلة اجتماعيّة محدَّدة، وذلك لكي نتَّخذ منها معياراً لحكمنا على فعَّالية (نُخبتنا) المتعلِّمة في ذلك العهد. فهذه النُّخبة لم توفِّر لا من رصيدها الكلامي ولا من أزواد حبرها، فقد كانت خطبها الرنَّانة تتجاوب في الآفاق، كما كانت مقالاتها تملأُ أوراق الصحافة الوطنية. ولكننا يجب أن نسجِّل أن مشكلة الالتحاق بالمدرسة قد ظلّت مطروحة مع ذلك دائماً، ما دامت هذه المشكلة لا تنفكُّ تواجه الحكومة الجزائريّة حتى هذا اليوم بالمدى نفسه من الحدّة (¬1). وهنا نجدنا إزاء واقع، ومعيار معيَّنَيْن. وفي مقابل ذلك يجب علينا أن نأخذ في اعتبارنا واقعاً آخر؛ فنحن لا نزال نذكر أن حكومة فيشي ( Vichy) قد قامت خلال سنة 1940م بتمديد تطبيق القرار الهتلري لنورمبورغ ( Décret Hitlérien de Nuremberg) على المجموعة اليهودية الجزائرية. وفي هذه الحالة الدقيقة، رأينا الفرد اليهودي المنتمي إلى الصفوة المتعلِّمة، والذي تمَّ تشكيله في المدرسة الفرنسية نفسها، يجابه المشكلة الاجتماعية نفسها. ولكن المتعلِّم اليهودي لم يتناول هذه المشكلة بالطريقة نفسها ¬

_ (¬1) مشكلة إنشاء المدارس في بلادنا لم تكن هي تلك التي كانت قبل 19/ 6/ 65م. إذ أننا لم نكن نستطيع التحدث عنها كمشكلة. فقد كان هذا القطاع امتيازاً وعملاً حكومياً يخصص له الجز الأكبر من وسائل الدولة. [ط. ف].

التي تناولها بها المتعلِّم الجزائري؛ فهو لم يجعل منها موضوعاً للمطالبة، فاتحاً بذلك باب الديماغوجية، بل جعل منها موضوعاً لالتزام شخصي، ولعملٍ مستقلٍّ بذاته. فقد قام بتحويل ذاته، خارج دائرة وظيفته، إلى معلِّم أو أُستاذ، يزاول مهمته تحت سقف بيته الخاص، بحيث كان في إمكان التلميذ أو الطالب اليهودِيَّيْن أن يواصلا دروسهما في البيت بصورة عاديّة تقريباً، حسب مواقيت وبرامج ملائمة. وفي هذه الظروف التي زادت من خطورة المشكلة بالنسبة إلى أطفالنا نحن، حتى في صورتها النسبيَّة، لأن إجراء الاستيلاء التحكُّميِّ زمن الحرب كان يمارس في حريَّة ضدَّ تعليمنا الحرّ، رأينا الأطفال اليهود ينفلتون مع ذلك من تأْثيرات صرامة الأحكام العنصريّة الخاصّة بقانون العدد المحدود لنورمبورغ ( Numérus Clausus de Nuremberg)، بفضل فعَّالية المتعلِّم اليهوديّ. وهذه حالة تمكننا عند ملاحظتنا لفعَّالية الآخرين، وكلما قمنا بإعادة النظر إلى أنفسنا، من مشاهدة لافعَّاليّتنا الخاصة على مستوى نخبتنا، أي على المستوى الذي عهدنا فيه عادة أن تحقق ضمنه ثقافةٌ معيَّنة أقصى ما تملك من جهودها ومن تأْثيراتها. إلا أن هذه الظروف نفسها تمدُّنا بحالة أُخرى، تكون عملية المقارنة ضمنها أكثر إفادة لنا في هذه المرَّة، وذلك على الصعيد السياسي. فالواقع أننا لا نزال نذكر في الثامن من شهر نوفبر سنة 1942م، وعند حلول الحلفاء بالجزائر خاصة، أن غياب نخبتنا المتعلِّمة كان ملحوظاً في هذا الظرف بالخصوص؛ بينما كان أحد الأساتذة اليهود يتقدم في ذلك الحين باسم أبناء دينه مصحوباً بعدد معين من المطالب، كما لو كانت المجموعة التي ينتمي إليها هي المضطلعة بتمثيل الشخصية الجزائرية بكل ما يناط بها من أعباء، وما يُعزَى إليها من مصالح. ويمكننا ابتداء من هنا أن نقوم بملاحظتَيْن اثنتَيْن:

1 - فالفرد لا يدين بصفاته الاجتماعيّة لتشكيله المدرسي، ولكن لشروط خاصة بوسطه. 2 - أما من حيث سلوكنا السَّلبي إزاء هذه المشكلة أو تلك، فإن جميع أسباب اللافعَّالية الخاصة بوسطنا هي التي تجعل منا أشخاصاً فاقدين للفعَّالية. وها هنا نقوم باستخلاص تلك النتيجة التي سبق أن أشرنا إليها منذ حين، والتي أصبحت الآن ماثلة في أذهاننا، كما أنها قد أصبحت مشروعة تماماً، وهي أن الثقافة ليست ظاهرة صادرة عن المدرسة، ولكنها ظاهرة ناجمة عن البيئة. ومن ناحية أخرى، فنحن لكي نقوم بتفسير كل الأسباب المتفشية في هذه البيئة، والتي تجد ترجمتها في السلوك الفعَّال أو غير الفعَّال، لا نعثر إلا على تفسيرَيْن ممكنَيْن: إذ يمكننا أن نفسِّر تلك الأسباب بمعطيات ذات نسق بيولوجي، بالطريقة التي يعتمدها غوبينو ( Gobineau) ، وهتلر ( Hitler) ، ولويس برتراند ( Louis Bertrand) أو رينان ( Renan) ، أو بالعوامل ذات النسق الاجتماعي التي تنتاب مجتمعاً معيناً خلال مرحلة معينة من تاريخه، إما في طور من أطوار تقهقره، أو في حالة من حالات ركوده. إلا أن التفسير الأول لا يمكنه أن يصمد في وجه النقد التاريخيّ، وذلك إذا لم نقم بالحكم على أحد المجتمعات في مرحلة معينة من تاريخه، ولكن في دروة كاملة من دورات تطوره. وحينئذٍ يَمْثُل أمامنا الجنس الذي يمنحه (رينان) الأوّلية (¬1)، على صورة ¬

_ (¬1) نورد بهذا الخصوص نموذجاً لمعلومات القارئ نصّاً من ( Reforme intellectuelle et morale de la France) - أرنست رينان-. ((الاستعمار إنه ضرورة سياسية في الدرجة الأولى ... إن غزو بلد من عرقٍ أدنى من قبل بلد من عرقٍ أعلى لا يدعو إلى الاستنكار ... عندما يكون الأمر بين الأعراق المتساوية فذلك أمر يدعو =

لا تبلغ شأْوَ (جنس السادة) عندما نحكم على جهده المتطاول عبر القرون من أجل التخلص من نير الموالي الذين كانوا يرضخونه لأشنع ضروب المقت والهوان، من قبيل حقّ الوَطء ( Droit de jambage) الذي يُقضِّي المولى بمقتضاه الليلة الأُولى على فرايق الزوجية برفقة عروس تابعه. ومن جهة أخرى فإن الجنس الذي يرصده (رينان) لكي يزجَّ به في غيابات أقبية عمل الرقيق (¬1)، سيتكشف له تحت ملامح مغايرة لما يتصوره عليه، عندما كان هذا الجنس يحمل مشعل الحضارة في عصور أُخرى. إلا أنه يتبقَّى لنا مع هذا أن نحسم مشكلة ضروب التباين في السلوك، التي سبق أن لاحظنا وجودها ضمن وضعيات مختلفة. فقد توصلنا إلى ثلاث نقط في هذا الموضوع، وهي: 1 - أن التخلف هو نتيجة أو حاصل ضروب اللافعَّالية الفردية؛ فهو فقدان للفعَّالية على مستوى مجتمع معيّن. 2 - وأن اللافعَّالية لا يمكن التخفيض منها بواسطة تكوين يقتصر تصوُّره على الإطار المدرسي وحده. 3 - وأن مشكلة السلوك ترجع إلى الثقافة، ولكن هذه الثقافة يجب أن يتمَّ تصورها وإعدادها ضمن إطار اجتماعي يشمل سائر المجتمع، ولا يقتصر على صنف اجتماعي معين. وهذه النقطة المثالثة الناجمة عن ملاحظاتنا المتعلقة بأحداث ¬

_ = إلى الاستهجان. لكن تجديد الأعراق المنحطة بأعراق عليا فتلك عناية إلهية للإنسانية. (¬1) الطبيعة خلقت عرق (الشغيلة)؛ إنه العرق الصيني ذو المهارة اليدوية المدهشة دون الإحساس بالمهانة من العمل. احكموه بالعدل فسوف يكون راضياً. ثم خلقت عرق عمال الأرض؛ إنه العرق الزنجي، كن معه طيباً وإنسانياً وسوف تجري الأمور كما ينبغي)). [ط. ف].

تجربة تمت في ألمانيا، وبتجربتنا الخاصة بالجزائر منذ خمسين عاماً، وبالتجربة التي احتكَّ بها جيلنا خلال السنوات الواقعة بين عام 1940م وعام 1944م، تثير أمامنا مشكلة الثقافة ضمن حدودها الصحيحة، وفي صورتها التالية: - كيف يتمُّ إعداد ثقافة معينة؟ أما السؤالان الآخران:- كيف تتكوَّن ثقافة معينة؟ وما هو الدور الذي تؤدِّيه ثقافة معينة؟ أو ما هي الصورة التي تبرز فيها ثقافة معينة؟ فهما سؤالان مهمَّان، ولكنهما ليسا بالأساسيَّيْن بالنسبة إلى موضوعنا. فالسؤال الأول يمكن أن يحظى باهتهام عالم الاجتماع في بلاد تكفَّل فيها الزمن خلال تعاقب القرون ببلورة القيم الثقافية التي تغذت منها وتشرَّبتها أجيال متوالية، بحيث تمكنت بالتدريج من تغيير عوائدها إلى آليات للسلوك. والسؤال الثاني يمكن أن يشغل بال الناقد الأدبي أو الناقد الفني، أو أحد هواة الفلكلور إلخ ... أما السؤال الذي يهمّنا والذي نطرحه بطريقة منهجية، فيجب أن نزيد من تحديده بطريقة نصوغ بمقتضاها في جلاء صريح موضوغ ثقافتنا ذاتها، بحيث يتعين أن يُثار السؤال في علاقته الوظيفية بهذا الموضوع نفسه، ضمن هذه الصورة:- كيف يتمُّ إعداد ثقافة متلائمة مع السلوك الفعَّال؟ لقد تأكد لنا من خلال التجارب التي سلف أن أشرنا إليها في دراستنا هذه، أن السلوك الذي ندعوه بالسلوك الفعَّال، لم يتم تشكيله داخل المدرسة لأن التعليم الفرنسي لم يمنح للجيل الجزائري الذي سبق جيل الثورة عادات الفعَّالية التي نجدها ضمن السلوك الذي شاهدناه في مواضع أخرى. وإذن فهذا السلوك الأخير لا يتشكل على مقاعد المدرسة، ولكن ضمن مجموع الإطار الاجتماعي- الثقافي الذي يحيط بالفرد.

ومنذئذ يصبح في الإمكان أن نحدد الثقافة باعتبارها نتاجاً للبيئة. فنحن مدعوون إلى صياغة هذا التعريف في الحدود التي نلاحظ ضمنها في البلدان النامية، أن الثقافة باعتبارها مصدراً لوجوه السلوك، ليست مقصورة على صنف اجتماعي معيّن، ولكنها جميع الطبقات الاجتماعية. فالبيئة تُعدّ إذن بمثابة الرَّحِم بالنسبة إلى القيم الثقافية. الأمر الذي يمكننا ضمن تعريف إجمالي أوَّليّ، من أن نعتبر الثقافة نفسها كبيئة مكونة من الألوان، والأصوات، والأشكال، والحركات، والأشياء المأنوسة، والمناظر، والصور، والأفكار المتفشيّة في كل اتجاه (¬1). فهي بيئة تمارس مفعولها على الراعي وعلى العالم سواء. وهي الوسط الذي يتشكل داخله الكيان النفسي للفرد، بالصورة نفسها التي يتم بها تشكل كيانه العضوي داخل المجال الجويّ الحيويّ الذي ينتظمه. فنحن لا نتلقى الثقافة، وإنما نتنفسها ونتمثلها بالطريقة نفسها التي يتم بمقتضاها تنفسنا وتمثّلنا لأكسجين الهواء. ¬

_ (¬1) أ - مالينوفكسي في (النظرية العلمية للثقافة) قد عرفها بأنها ((سيطرة الوسط على أعضاء المجتمع)). ب - نيتشه رآها ((وحدة الأسلوب في سائر المظاهر الحيوية لشعب)) ( IN (( تحديدات في غير زمانها))). جـ - إن ما ينشئ ثقافة ( Kultur) عند جوت إنما هو ((تلك العادات المشتركة في الذوق والأفكار بين الفرد والوسط الذي يعيش فيه، هذه هي طرق العيش بالتفكير الجماعي التي يتشكل منها شعب طوال احتكاكه المديد بالطبيعة)). ( Cite in: «Civilisation P le mot et I'idée» publié en 1930 par le CIS) في المعنى نفسه كونفوشيوس وضع كل ذلك في (( Li)) هذه القيم التي هي في حياة أمة ((تخلق حالة روح ملائمة، مشاركة جادة، ثقة، شروطاً لوجود متناسق في حياة أمة)). [ط. ف].

والمدرسة عامل مساعد من عوامل الثقافة، ولكننا نخطئُ في تقدير وظيفتها عندما نعتقد أن في إمكانها أن تحلَّ مشكلة الثقافة وحدها. وهي لا يمكنها أن تقوم بدور العامل المساعد إلا في الحدود التي تندمج فيها وظيفتها ضمن الخطوط الكبرى لمشروع ثقافة، على المنوال الذي تجري فيه الآن محاولة إنجاز ذلك في إطار التعليم الجزائري الذي تواجهنا جميع مشاكله، وفي مستوى التعليم الابتدائي بالخصوص، ضمن حدود التكوين بدلاً من حدود المعرفة. إلا أنه يتعيّن علينا على أيَّة حال أن لا نضيع فائدة تجربتنا، طوال نصف القرن الماضي، وهي المتمثلة في إدراكنا أن الثقافة تمثل ظاهرة بيئة، قبل أن تكون ظاهرة مدرسة (¬1). ولكي نقوم بإعداد ثقافة يجب أن نركِّز انتباهنا على مجموع الإطار الثقافي، على المنوال نفسه الذي يتمُّ فيه إنجاز ذلك خلال بعض التجارب الراهنة، وخاصة بالجمهورية الصينية، حيث شرع في تغيير البيئة على مستوى قد يثير دهشة الملاحظ الغربيِّ أحياناً، لا سيما إذا كان قد أنِسَ الوجه التقليديّ للصين القديمة، وذلك عندما يشاهد على سبيل المثال بائع الفطائر وهو يرتدي الكساء الأبيض النقيّ، ويتناول أقراص بضاعته بملاقط من النِّيكل، وكأنه أحد أطباء الجراحة. ولا يهمنا كثيراً إذا كانت هذه الجزئية، التي ينعكس من خلالها ذلك التحوُّل، ستدعو هاوِي الفلكلور إلى الابتسام حيالها، ولكن الذي يهمنا هو أن ننظر إليها باعتبارها مقابلاً واقعياً لتحوُّل شامل لوجوه السلوك. ¬

_ (¬1) بيئة، محيط، ذلك الذي يحيط، وفي إطاره نتطور. إنه الوسط في تعبير علم النفس والجو في علم الطبيعة. [ط. ف].

فكل جزئية تندرج مع علامتها السالبة أو الموجبة ضمن تقويم ثقافة معينة، لأن كل جزئية تافهة أو غير مألوفة تَشيعُ داخل البيئة التي يتطور ضمنها الراعي والعالم سواء، من شأْنها أن تدعو الطفل الناشئ إليها، وتقيم معه منذ ميلاده حواراً يظل مستمراً حتى شيخوخته، بحيث ينطبع في كل حدّ من حدوده على ذاتيته، وعلى شخصيته ووجوه الإلهام الخلاقة التي تسجِّل أعظم لحظات العبقرية البشرية، كانت مرتبطة بجزئيات تبدو في ظاهرها غير ذات معنى، من قبيل: الحوض بالنسبة إلى أرشميدس ( Archimède)، والتفاحة بالنسبة إلى نيوتن ( Newton)، وآنية غليان الماء بالنسبة إلى دنيس بابان ( Denis Papin)، وفوَّارة الماء بالنسبة إلى ليست ( List). وعلى هذا فإن مشروع ثقافة معينة، يجب أن يشمل سائر البيئة مع اعتباره للجزئية حسب علاقتها السلبية أو الإيجابية، وحسب انخراطها ضمن رصيد ثقافي فعَّال، أو ضمن ركام سالب. فمشكلة الثقافة تطرح ضمن هذا المظهر المزدوج بالذات. إلا أننا في اهتمامنا بالمنهج الذي نعتمده، لا نتناولها هنا إلا ضمن مظهرها الأول أي الموجب، تاركين المظهر الثاني السلبيّ لغيرنا من الباحثين أو لمناسبات أُخرى. ومع هذا يتعيَّن علينا أن نلحَّ على أهمية مظهرها السلبي، وخاصة عندما يجب على أحد المجتمعات أن يشرع في التخلُّص من رواسبه البالية، وفي وضع الأُسس التي يقوم عليها نظام جديد، كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام عندما كان يمسك بمِعْوَلِه ويحطِّم أوثان المدينة التي ولد فيها من بلاد الكلدانيين، لكي يُرْسي الدعائم الراسخة لعالم التوحيد. فالمسألة تقوم بالنسبة إلى الجيل الذي حقق الثورة الجزائرية، في الاضطلاع بمشروع ثقافة يكون في مستوى مهامِّ الثورة، حسب ما نُصَّ عليها في برنامج

طرابلس، مع أخذه بعين الاعتبار للمشاكل النوعية الخاصة بالتخلُّف وباللافعَّاليّة (¬1). فقد علَّمتنا تجربتنا بالجزائر أن الثقافة لا تُسْتَورَدُ بنقلها من مكان إلى آخر، بل يجب خَلْقُها في المكان نفسه، لأن البيئة ليست إحدى لوحات الرسم التي نفكُّها من مسمار الجدار الذي عُلِّقت عليه، لكي ننقلها إلى منزلنا. مضافاً إلى ذلك أن البيئة تقدِّم لنا عناصرها على صورة متراكمة وغير منظَّمة. ولهذا يتعيَّن علينا أن نقوم بترتيب عناصرها لكي ندرج احتشادها ضمن إطار موحِّد. ونحن نلاحظ في احتكاكنا للوهلة الأُولى بعملية الترتيب هذه، أنها تتمُّ في الحياة الاجتماعية بطريقة تلقائية على نحو ما، في شكل أُسلوب معيَّن للحياة خاص بالمجتمع المتحضَّر، وسلوك معيّن خاص بأفراده. ويمثل هذا تركيباً أوَّليّاً للعناصر الثقافية، ولكننا نلاحظ في الوقت نفسه وكنتيجة أُولى مترتبة على هذا التركيب المتآلف، وجود نشاط متبادَل بين أُسلوب الحياة، وبين السلوك، بطريقة تجعل أحدهما يرمي إلى الاحتفاظ بالآخر في خط مطلبه واقتضائه الخاص. وبعبارة أُخرى فإن المجتمع يقتضي سلوكاً معيناً من الأفراد، وهؤلاء يقومون بردِّ الفعل عن طريق اقتضائهم الخاص في صورة أسلوب معيّن للحياة، بحيث يتم هذا التبادل الذي يتولَّى تعديل الإطار الثقافي بطريقة ذاتية في صورة إرغام اجتماعي من ناحية، وعملية نقدية من ناحية أُخرى. فعندما يقوم مجتمع بدائي بوضع المحرمات ( tabous) حول تقاليده، ومعتقداته، وأذواقه، واستعمالاته، لا يكون (المحرَّم) مَدْعاةً للضحك في ذاته ¬

_ (¬1) عندما نشرنا هذه المحاضرات لم يكن قد أعلن الميثاق الوطني بعد. [ط. ف].

- وذلك على افتراض أن هناك ما يدعو إلى السخرية في هذا المجال- ولكنه الفراغ الثقافي، أو اللاثقافة التي يقوم بالدفاع عليها، وأعني بهذا مجموعة الأسباب التي تستبقي هذا المجتمع على ما هو عليه من ركود. أما بالنسبة إلى مجتمع تاريخيّ، فإن دفاعه عن أُسلوب حياته، هو دفاع عن شخصيته، وعن مبدأ إدماج أفراده في نطاقه، وتحديد علاقاتهم به بحيث يصبحون بمثابة التعريف به، كما يصبح مجتمعهم بمثابة المعرِّف لهم، فالإرغام الاجتماعي، والموقف النقديّ للفرد- سواء كان هذا الفرد واعظاً في جمعية إرشاد، أو صحفياً في جريدة أُسبوعية، أو شاعراً هزلياً، أو فناناً مهتماً بالجماليات، أو ناقداً أدبياً، أو ناقداً سياسياً، أو قاضياً عدلياً- هما المظهران الأساسيان لثقافة معينة في وظيفتها الاجتماعية. ففي المجتمع المتحضر يقع كل خطأ في الأسلوب تحت طائلة النقد، ويقع كل خطأ في السلوك تحت إرغام المجتمع. وبواسطة هذه الوظيفة الثنائية الجانب يحافظ المجتمع على نقاوة أُسلوبه، وعلى الصفات المميزة لفعَّاليته. وهذه الوظيفة إنما هي على وجه الدقة وظيفة الثقافة بالذات: كما أن كلَّ ثقافة تُحدَّد في أصلها على هذه القاعدة من الضمانات المتبادلة بين الجسم الاجتماعي والفرد. ومبدأ التبادل هذا هو الذي وضعه القرآن بصورة مجملة عند تعريفه للمسلمين على الوجه التالي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 3/ 110]. فوظيفة الثقافة الإسلامية هي المعنيَّة في وضوح ضمن هذا الفرض الذي يرمي في جلاء إلى الدفاع عن أُسلوب المدينة المسلمة، كما أن هذا المبدأ قد تناولته السُّنة النَّبوية في أكثر من موضع، وخاصة في مَثَلِ السفينة الرمزيِّ التي يوجد على ظهرها عدد معين من المسافرين، وكان بعضهم على جسرها، في مواجهة السماء،

وهم يمثلون هنا العنصر الواضح المرئيّ من المجتمع، أي المجتمع ذاته، وبعضهم الآخر في قاع السفينة، وهم يمثلون هنا العنصر الْمُعْتم، اللامرئيَّ، والخفيَّ من المجتمع، أي الشُّذَّاذ، وضروب السلوك الهامشية. ويقدم لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأخيرين ضمن صورة مؤامرة تواطؤوا خلالها فيما بينهم على القيام بثقب حاجز السفينة، حتى يتمكنوا من استجلاب الماء من هذا الثقب دون الصعود إلى الجسر. فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول للأولين: إذا تركتموهم يقومون بذلك، فإنهم سيهلكون وستهلكون أنتم بدوركم معهم، وإذا ضربتم على أيديهم، فإنكم ستنجون وستنجونهم بدورهم معكم. وكل ثقافة يجب أن تتولى الدفاع عن تراثها وذلك بأن تضع أولاً بين الجسم الاجتماعي والفرد ذلك التبادر الذي يُقَوِّم الأخطاء من حيثما تأتَّتْ ومهما يكن مصدرها. إلا أن هذه المبادلة لا يمكن أن تمارس إلا إذا تمَّ ربط الفرد بالجسم الاجتماعي؛ بالصورة التي تلتحم بها مادة البناء بكامل البناية، وذلك لكي نستعمل مرة أُخرى صورة مقتبسة عن الرسول. ودور الثقافة إنما يتمثل على وجه الدقة في خلق هذه اللُّحمة الاجتماعية أولاً وبالذات. وبخصوص هذه الوظيفة يبدوأن الثقافات قد تباينت فيما بينها بحيث آلت إلى نموذجَيْن، متطابقَيْن مع رسالتَيْن اثنتَيْن: فقد أسست الشعوب السامية ثقافتها على احترام القاعدة المتَّبعة، أي على القيم الأخلاقية؛ أما الشعوب الآرية، فقد أقامت حضارتها على القيم الجمالية، وعلى الصورة (أو الشكل) التي بلغت اكتمالها بأثينا، حيث قامت هذه الأخيرة بدورها بنقل شعيرتها هذه إلى عهد النهضة بأُوروبا. والراجح مما هو مشاهَد أن هناك نموذجاً جديداً بصدد التشكُّل أو هو قد

تشكَّل بالفعل، في المجتمعات التي وَسَمَتْها إرادة القوَّة بمَيسِم القيمة الفنية أو العلميَّة، حسب ما يستخلص من دراسة حديثة النشر خصصت بمجلة الأزمنة العصرية ( Les Temps Modernes) لموضوع (النمو الثقافي بالاتحاد السوفياتي). ولكن المجتمع يحدِّد باختياره لنموذجه الثقافيِّ الخاص به، جميع شروط تطوُّره حتى منتهاه الأخير- وإن كنت أعتقد أن هذا الاختيار مرتبط بأسباب لا يلتقطها وعيُه في وضوح- ذلك أن ثقافة ما يمكنها أن تَنْتَهِيَ إلى نزعة قطعية معتمة، تستغلُّها إحدى نزعات الدروشة المرابطية، أو إلى خلاعة مطلقة العنان تحكمها إحدى الامبراطوريات الماجنات، كما تمَّ ذلك في عهد الانحلال الذي شاع تحت حكم الإمبراطورة مِسَّالين ( Messaline)، ويمكنها كذلك أن تؤول إلى كارثة نوويَّة محتملة. والجزائر مدعوة اليوم للقيام باختيارها، ليس لكي تقدِّم محتوى لضروب التسلية الخاصة بصنف معين من الناس، ولكن لكي تعطي مضموناً للنشاطات الأساسية الخاصة بشعب يقف في مواجهة مشاكل حيويَّة. مضافاً إلى ذلك أنها قد أصبحت على بصيرة من أمرها في قيامها بهذا الاختيار، حيث تُنير أمامها السبيل تجربتها الخاصة، وتجربة الآخرين حتى لا تعمد إلى اختيار مجْحِفٍ بقيمها الثقافية الموروثة، وبوجهاتها المفاهيمية والسياسية، ولا إلى اختيار قاصر لاقتصاره على ذاته. وإذا كان الوفاءُ للقاعدة المتبعة، والتعلُّق بالقيمة الأخلاقية يجب أن يعملا على شدّ وحدتها الملتحمة، في ربطهما للفرد بالجسم الاجتماعي، فإن الاهتمام بالصورة (أو الشكل)، وشعيرة القيمة الجمالية، يجب أن يعملا على الاحتفاظ لأُسلوب حياتها برونقه. لأنه يتعين أن يكوّن التركيب المتآلف للحقيقة والجمال أساساً لثقافتها. فشعيرة الحق يجب أن تسود في حياة شفافة متخلصة من أوشاب

زواياها المعتمة حيث تتلاقى الأرواح الخبيثة للتآمر على أسلوبها، كما يتكاتف قُطَّاع الطرق عادة ضد أمن بلادٍ ما. وشعيرة الجمال لا يجب أن تقتصر هياكلها الخاصة على المسرح، والموسيقى أو الشعر، ولكن يتعيَّن أن تنبثَّ في سائر وجوه النشاط، حتى في طريقة زراعة (الكرنب) و (البصل) بتربة أحد الحقول. والمؤكد أن المسرح الذي يبذل في هذه الآونة جهوداً محمودة، بمعيّة فرقتنا الوطنية الفتية، وموسيقيّينا وشعرائنا الذين توفرت لهم الموهبة، وكذلك فنوننا الفلكلورية الثمينة القيمة، تكوّن بالنسبة لنا رصيداً يجب أن يحتل مكانته المرموقة ضمن مشروع ثقافة وطنية جزائرية. ولكن يجب أن تكون حياتنا جميعها لوحة جميلة، وأنشودة منغومة، قصيداً خلاباً، وحركة موقعة متناغمة، وعطراً متضوعاً آسراً، من مثل ذلك الأريج الذي أوحى إلى أحد المغنّين الفرنسيِّين، بتلك الأغنية التي طالما ردّد جيل الحرب لازمتها القائلة: ((ما أطيب أريجك العبق يا فرنسا!)) ... ونحن عندما نشاهد خرقاً في كساء أحد المتسوِّلين، يجب أن نشعر بوجود خرق في ثقافتنا. وعندما نسمع صوتاً ناشزاً، كضوضاء أبواق السيارات التي ترعد صاخبة في شوارعنا أحياناً، حتى لتكاد تمزق صماخ آذاننا، يجب علينا أن نحسَّ بوجود تمزّق في ثقافتنا، وبانتهاك يتمُّ عن حمق أو عن وعي ضدّ أسلوب حياتنا، وبتحدٍ لسُلوكنا. إلا أن هذا الشأْن الشاغل ينخرط ضمن فصل من الثقافة لا يدخل في نطاق هذه المحاضرة، وربما تناولناه مستقبلاً في مبحث مستقل تحت عنوان: المعركة المفاهيمية (¬1). ومهما يكن من شيء، فإنه يتعين على الجزائر أثناء قيامها باختيارها ¬

_ (¬1) انظر للكاتب نفسه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة). [ط. ف].

أن تأْخذ بعين الاعتبار واقعاً جديداً يتمثل في معرفة أن كل قيمة ثقافية محدَّدة في إطار وطني، قد أصبحت تمتزج من هنا فصاعداً في تيار ثقافة عالمية شاملة. مضافاً إلى ذلك أن هذا الواقع الجديد هو الذي يفرض علينا اليوم أن نضع كلَّ مشاكلنا في حدود النسبيَّة. وإذا كنا نضع إحدى هذه المشاكل- وأعني بها مشكلة الثقافة- في حدود التخلُّف واللافعَّاليَّة، فذلك لأن المجتمعات النامية تفرض علينا سُلَّم نُمُوِّها ومعايير فعَّاليَّتها. ويتعيَّن علينا نحن، أن نتولَّى بأنفسنا فرض المعايير ضمن وجوه نشاطنا، مع إدماجنا لمفهوم الزمن داخلها؛ إذ لا يكفي أن نقتصر على مجرد القيام بصنع شيء من الأشياء، وإنما يتعيَّن أن نتوفَّر على إنجازه في أقصر فترة ممكنة من الزمن. فالعمل يجب أن يقترن بتَعْليلِه الأخلاقيِّ والاجتماعيّ، كما يجب أن يتَّخذ شكلاً معيّناً، وأن يكون ملبِّياً لبعض المقاييس الجمالية المعينة: وهذا يمثِّل شرطاً من شروط فعَّاليته. وعلاوة على ذلك يجب أن يتوفَّر للعمل نَسَقُهُ الخاص أيضاً، وهذا لكي يُلَبِّي معايير الفعَّالية في عالم أصبح يسيطر فيه على وجوه النشاط من هنا فصاعداً مفهوم سرعة الإنتاج. ولهذا يتعيَّن أن نُدْخل في تحديد ثقافة ما، علاوة على المعطى الأخلاقيِّ والمعطى الجماليِّ مفهومَ المنطق العمليِّ في الوقت ذاته. فهذا المفهوم يجد تبريره بصورة ملموسة على نحو ما في المجتمعات النامية التي يمتدُّ فيها مبدأُ تطبيق المنهج (التِّيْلُورِيِّ) - باعتباره المنهج الذي يَعْمَدُ إلى تنظيم العمل بشكل مُنَمٍّ لمحصوله- ليشملَ جميع أشكال النشاط قاطبة. أما تبريره العام

فيتولَّى التاريخُ تقديمَه لنا، لأن التاريخ نفسَه ليس إلا تقويماً لحركات اليد والفكر، فهو لا يعدو أن يكون في حدِّ ذاته غيرَ ذلك فِعْلاً في نهاية الحساب. وأخيراً فإن المنطق العمليَّ ليس هو على نحو من الأنحاء إلا مدخلاً للفصل الموالي من فصول الثقافة، وهو المتمثِّل في الفنِّ الصياغيِّ الذي يتعلَّق بالعمل في مستوى التخصُّص، مع العلم بأن هذا التَّخصُّص يشمل الراعي كما يشمل فنَّ العالِم سواء. فالثقافة التي يتمُّ تصوّرها في صيغة بيداغوجية هي كل هذا جميعاً؛ فهي تركيب متآلف للأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والفنِّ الصياغي. وإذ تحقِّق بلاد كالجزائر هذا التركيب المتآلف، تكون قد حدَّدت أُسلوبَها في الحياة العامة، والسلوكَ الفعَّال لكل فرد من وَطَنِيِّيها. وتكون قد خلقت في النهاية مجموع الشروط التي تُهَيِّئُها لمواجهة مشاكل التَّخلُّف. ولكي يتمُّ إنجاز ذلك يتعيَّن أوَّلاً أن تكون البلاد المتخلِّفة على اقتناع بأن تثقيف الإنسان أكثر أهميَّة من تَثْقِيف نَباتِ الأرض من قبيل زراعة البطاطس على سبيل المثال ... ومهما يكن من شيء فإنه يتعيّن على الجزائر أن تؤول إلى حظيرة للثقافة، ومدرسة يتاح فيها لكل فرد أن يتعلَّم ويُعَلِّم، ومُخْتبَر يتمُّ فيه إعداد القيم الثقافية المتطابقة مع ضرورات النموِّ، ومُلتَقىً يتمكن الشعب داخله من إثارة قضايا الحقيقة والجمال ومناقشتها.

مشكلة المفهومية

3 - مُشْكِلَةُ الْمَفْهُومِيَّةِ DE L'IDEOLOGIE محاضرة أُلقيت (باللغة الفرنسيَّة) في الجزائر العاصة بتاريخ 24/ 2/ 1964م ونشرت كاملة بجريدة الشعب (الفرنسية) في فيفري (شباط) سنة 1964م. ــــــــــــــــــــــــــ

تكوِّن المفهومية بصورة عامة جزءاً من ظاهرة القرن العشرين الذي تَمَّ تعميده عند ميلاده، باسم: قرن البخار. إلا أن العامل الفنِّي قد حوَّل منذ ذلك الحين جميع شروط الحياة البشرية، وعجَّل حركة التاريخ؛ ومن ثَمَّ أُعيد تعميد قرننا على التوالي باسم: قرن الكهرباء، ثم الطاقة الذريَّة، وأخيراً: قرن الفضاء. ولكن هذا القرن كان يولد تحت جميع تلك المظاهر الفنيَّة حقيقة بشرية كبرى: فمفعول القوة الذي أطلق عنان الحربين العالميتين قد تمَّ وقفه بمفعوله المضادِّ، نتيجة إبرازه لبؤرة حرب عالمية ثالثة. ومنذئذ تخلَّت علاقات القوة عن مكانها لعلاقات جديدة، راضخة لمعايير الأفكار؛ بحيث أصبحت الديموقراطية، والاشتراكية، والسلام، تمثِّل فواتح لجميع الدساتير الوطنية، وتطبع بمَيْسِمها القبلة التي يتَّجه صوبها تطور البشريَّة. ويبدو أن هذه الأفكار الثلاثة، تصور مقدَّماً عناصر دستور شامل، وتكوِّن منذ الآن مبادئ مفهوميَّة عالميَّة، لكي تتوِّج عمل الإنسان وهو ينخرط في العهد العالمي (¬1). ولكن هذه المفهومية لمّا تحقِّق بعد شروط وحدتها داخل العالَم. إذ يبدو في الواقع أن هناك ثلاث جبهات: جبهة الديموقراطية مع مواقعها الاستراتيجية في ¬

_ (¬1) نلاحظ أن هذا المصطلح المستخلص من قبل بن نبي لأول مرة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً في مؤلفه (وجهة العالم الإسلامي) قد ألهم فلسفة سياسية تجد أصداءها غالباً على فم الرئيس الفرنسي الحالي. [ط. ف].

أوروبا الغربية وفي أمريكا؛ وجبهة الاشتراكية التي يقع مركزُ جاذبيتها بالمعسكر الشرقي؛ وأخيراً جبهة السلام التي جمعت أركانها ذات مرَّة في باندونغ ( Bandoeng). وتحت هذا المظهر العام بالذات توضع مشكلة المفهومية في العالم، مع تلك المناطق البيضاء المنبثَّة هنا وهناك للبلدان التي توجد في حالة تقاعد بالنسبة إلى المعركة المفاهيمية، أعني البلدان المتغيبة فعلاً عن المأساة البشرية الكبرى لعصرنا. وعلاوة على ذلك فإن مشكلة المفهومية تثار على المستوى الوطني داخل كل بلاد فرضت فيها شروطها الخامة ضمن طور معين من أطوار تاريخها، أنماطاً من العمل الجماعي، أعني حيث يطرد تأثير الشروط الفنية لنشاط مشترك على مساحة جغرافية فسيحة بما فيه الكفاية، ومخطَّطة في قليل أو كثير. ودراسة هذا النشاط ترجع بنا على أيِّ وجه إلى دراسة المقومات التي يقوم عليها تركيبه. فالنشاط الفردي الذي يمثل أحد مركبات ذلك النشاط الجماعي خاضع في حدِّ ذاته لشروط تجعله لا يستطيع التحقُّق بدونها. فقد تعودنا بالنسبة إلى الآلة على الواقع القائم في أن عملها لا يمكنه أن يتحقق إذا نقصتها حَزْقة أو صامولة ( écrou). ولكننا لم نُقِرَّ في ذهننا نفسَ القاعدة بالنسبة إلى العمل البشريِّ. بينما يبدو جيداً في حالات معينة، أن الإنسان تنقصه هذه (الحزقة) بالذات: حيثما فَقَد نشاطُه تَمكُّنَه من الأشياء، فكان نشاطاً رخْواً، أو هو لا يندمج بطريقة منتظمة مع النشاط المشترك للجماهير. ويمكننا أن نقول الكثير عن هذه الظاهرة التي تنطبع مؤثِّراتُها على أبعد الصور عن التوقع، وعلى أكثر الميادين تنوُّعاً؛ في موقف التلميذ مثلاً، حينما يتخلَّى عن دراسته في منتصف الطريق، وفي موقف الكاتب (الوجودي) الباحث عن معناه في هذا العالم، أو الذي يتخلى عن هذا

البحث كما هي الحال بالنسبة إلى (كلولن ولسن) مؤَلِّف (اللاَّمَنْتَمي) (¬1)؛ وبصورة عامة في كل مكان لا ينخرط فيه النشاط الفرديُّ ألبتَّة ضمن النشاط الجماعي. ففي جميع هذه الحالات يمكننا القول بأنه حَيْثُما تُفْتَقَدُ المفهومية، فإن الآلة الاجتماعية تظل فاقدة لإحدى الحزقات. وقد أُتيح لنا في الجزائر أن نلاحظ النشاط الفردي والنشاط المشترك في فسحة زمنية قصيرة نسبياً، ضمن مرحلتين مختلفتين: طوال الثورة، وبعدها. فقد اقتادت الثورة الجميع إلى نشاط جماعي مسلح انخرط ضمنه كل فرد بنشاطه الخاص. وعقب سنة 1962 حدث كما لو أن الثورة قد اسْتَلَّت شُعْلَتَها من نشاط الفرد؛ فنحن لكي نضطلع بالعمل على المستوى الوطني؛ وهو العمل الذي يقتضيه بناءُ حضارة، وتستدعيه مهام ثقافة، نظل نفتقد (صامولة) بالفعل. وإذن فهذه الثغرة تضع أمامنا مشكلة سياسية واجتاعية جديرة بأن تطرح في صراحة. وهي قد طرحت بالفعل عند عقد المؤتمر الأخير للطلبة الجزائريين منذ بضعة أشهر (¬2). فمن النادر أن يصارح رئيس دولة بلاده بأن قوسها السياسي ينقصه وَتَرٌ معين. ومع ذلك فقد قال الرئيس لشبيبة البلاد المثقفة المجتمعة في هذا المؤتمر: ((إننا نمتلك برنامجاً، ولكننا لا نمتلك مفهومية)). فهذا التصريح قد قضى أولاً على حكم مسبق متسلط على أذهاننا، كنا قد ورثناه عن ماض عكر، وقامت الثورة لحسن الحظ بوضع حدٍّ له. ¬

_ (¬1) L'auteur du: «Non-engagé» , Collin Wilson (¬2) هذا المؤتمر كالمؤتمرين السابقين نذكر تاريخه شباط 1964م. [ط. ف].

وقد ورثنا هذا الحكم المسبق عن ذلك (البوليتيك) (¬1) الذي يدفعه الْخَلْطُ إلى تسمية نفسه (بالسياسة) والذي يقوم بفَصْلِ الفكرة عن النشاط بطريقة تظل بها الأُولى عاجزة، ويظل الثاني أعمىً فاقداً للبصيرة والبصر. ولقد ترتب عن ذلك تلك المظاهرات المناهضة للثقافة التي أصبحت تسفر عن وجهها بصورة متكررة داخل حركتنا الوطنية. إلا أن هذه النزعة ليست قاصرة على بلادنا وحدها، فقد سبق لماركس أن عرفها، ومجادلاته ضدَّ العمَّاليِّين ( Ouvriéristes) جديرة بالتذكُّر في هذا الصدد. كما سبق لسقراط أن وسم هذه النزعة في المجتمع الأثيني وقرع ممثليها بأن أطلق عليهم اسم (مفترسي الأفكار) ( Idéophages) . وإذن فالداءُ ليس وليد هذا القرن فحسب، ولا هو خاص ببلاد واحدة. إلا أن تفكير (مفترس الأفكار) في بلادنا نحن بالذات ليس مجرد سمة من سمات سجيَّة شخصية وكفى، ولكنه علامة عامة من علائم تخلُّفنا، وخاصة في الميدان السياسي حيث تتطابق (صبيانيتنا) مع سنٍّ نفساني معين، وهو السن الذي لم يدخل فيه الطفل بعدُ إلى عالم الأفكار. ومع تصريح رئيس الدولة نجتاز على وجه الدقة خطوة حاسمة؛ فبعد أن اجتزنا بصورة لا هي بالحسنة ولا هي بالرديئة، الطور الذي تمثل فيه (الأشياء) لدينا مقياساً لجميع المعطيات، ننتقل اليوم إلى الطور الذي تتحول فيه مراكز اهتمامنا من عالم الأشخاص، إلى عالم الأفكار. وإذن فنحن نخرج من (البوليتيك) وندخل إلى (السياسة)، ولكن مع ¬

_ (¬1) البوليتيك ( Boulitique) : اصطلاح شعبي محض يطلقه الإنسان الشعبي في بلدان المغرب العربي عموماً على (احتراف الدجل السياسي). (المترجم).

امتلاكنا لبرنامج، وافتقادنا لمفهومية (¬1). وهذه الأولية التي تمت صياغتها بمؤتمر الطلبة تترتب عليها نتائج نظرية وعملية جَسيمة فهي تَسْتَحِثُّنا إلى القيام بمراجعة موقفنا العقلي، وإلى معاودة مراجعة سياستنا من جديد. ولكن لنحدِّدْ أوَّلاً معنى مصطلحاتنا: فالبرنامج، وليكن برنامج طرابلس مثلاً، يمثِّل تَعْداداً للمهامِّ المطلوب إنجازها. و (الفهومية): ما عساها تكون إذن؟ إنه في إمكاننا أن نعطيها تعريفاً حرفياً لا يقدِّمنا في شيء. كما يمكننا أن نعطيها تعريفاً عن طريق المماثلة باستنادنا إلى المناهج المفاهيمية القائمة، فلا يزيد ذلك من تقديمنا في شيء، لأنه توجد بلدان يبدو لنا منها أنها تمتلك سياسة، ومع ذلك فهي لا تمتلك مفهومية؛ وهذا المظهر من شأنه أن يخدعنا في البلدان ذات الحضارة الموطدة؛ فإنكلترا على سبيل المثال، تمثل بلاداً تبدو فيها السياسة مستوحاة دائماً من اعتبارات عملية، بدلاً من أن تكون مستوحاة من اعتبارات مفاهيمية؛ ومع ذلك فقد تساوق نمو سياستها منذ قرون بمقتضى مفهوميَّةٍ إمبراطوريةٍ، وجدت في شخص كبلنغ ( Kipling) حادِيها. وفي أيامنا هذه، يبدو لنا أن (فرنسا) تخط سياستها- بوصفها بلاداً أُخرى ذات حضارة وطيدة- حسب مجرد اعتبارات اقتصادية بسيطة. ولكن عندما ¬

_ (¬1) ((لقد كان لنا منذ البداية الشجاعة لنؤكد بأنه ليس لدينا نظرية ولكن فقط مبادئ ثابتة بحزم. لقد أكدنا بأن طريقتا ستكون طريقة التجربة والخطأ)). هذا ما قاله عبد الناصر. هذا إذن شعور منقسم ويكفينا أن نورد قول ناصر هذا لنفهم بأن القضية لا تستطيع بل لا يمكن أن تكون مطروحة على مجموعة البلاد العربية على الأقل. [ط. ف].

يستحدث دي غول ( De Gaulle) الفرنك الجديد، فإنه من العسير أن نؤوّل مبادرته هذه، باعتبارها مجرد إجراءٍ بسيط متعلق بالاقتصاد أو بالنظام المالي، إذ هو يمثل على النقيض من ذلك مبادرة مستوحاة بصورة مشاهدة من مفهومية العَظَمَة (¬1). وبصورة عامة فإن المظهر يمكنه أن يخدعنا في البلدان المتحضرة، حيث تتولى الثقافة في كلِّيتها تحريك السياسة، كما تُحَقِّقُ في دفعة واحدة جميع شروطها النفسية- الزمنية. والذي يجب أن نقوله هو أن هذه الشروط ليست هي ذاتها في بلاد سبق لها أن أصبحت في حالة حركة، وفي بلاد يتعين عليها أن تنتج الحركة الضرورية لكي تتغلب على جميع ضروب العطالة ( inerties) الخاصة بمرحلة الانتقال. فالجزائر تمثل بلاداً فَتِيَّة يتعين عليها أن تجد الدافع المحرك لسياستها في علاقته الوظيفية بشروطها التاريخية الخاصة؛ وبتعبير آخر، يجب عليها أن تجد بمجهودها الخاص أفضل الوسائل والطرق الملائمة لشروطها، مع علمها بأن ما يكون ممكنناً ببلاد في طور من الحضارة متقدم في قليل أو كثير، قد لا يكون كذلك دائماً ببلاد لا تزال في فجر حضارة، أعني عندما يتعين الانطلاق من الصِّفر. فكل شعب يجب أن يصنع تاريخه بوسائله الخاصة، وبأيديه ذاتها. والتاريخ، في أي مستوى من الحضارة يتمُّ إنجازه، إنما يمثل النشاط المشترك للأشياء، والأشخاص، والأفكار المتاحة في ذلك الحين بالذات، أي في نفس الأوان الذي يُواكِب عمليَّةَ إنجازه. ¬

_ (¬1) لقد أضحى اليوم من المعروف تقريباً اقتران اسم ديغول بعظمة فرنسا في العبير المعاصر. وقد أشار إليه بنفسه بقوة حين قال: ((أنا موجود في زمن محاط فيه من كل ناحية بالبسطاء، وينبغي علي في هذا الزمن أن أعمل بقوة من أجل العظمة)). الأمل طبعة 1970م Mémoires d'Espoir. [ ط. ف].

وهذا الحكم المسبَّق يجب أن نجعله قابلاً للإدراك بتطبيق طريقة التقسيم، والتحليل؛ ومن هنا يتعين علينا أن نحلل التاريخ إلى أجزائه الذَّريَّةَ، فالنشاط الفردي يمثل ضمن بعض الشروط المعيّنة: (ذرَّة) من التاريخ. ويمكننا أن نتمثله ضمن أكثر أشكاله بساطة، في صورة نشاط الصانع اليدوي المنْكَبِّ على عمله والمِقَصُّ في يُمْناه؛ أو في صورة نشاط الجندي المسلَّح بِبُنْدُقِيَّتِه في ميدان القتال. فهذان الآدميان يصنعان التاريخ إذا تحقق لهما توفر الشروط العادية. ونحن نلاحظ في كلا الحالتين، أن نشاط العمل اليدوي أو الفلاحي أو الحربي، إنما يتم إنجازه ابتداء من حدّيْن مشاهدين هما: الإنسان وأداته؛ وإن كان الواقع أن هذين الحدَّيْن المشاهدين يُخْفِيان واقعاً أشد تعقيداً، لأن النشاط لا يتمُّ إنجازه فعلياً إلا ضمن شروط من شأنها أن تقدّم بالضرورة جواباً عن سؤالين هما: ((كيف)) يكون ذلك؟ .. ، و ((لماذا)) يكون؟ فالإنسان لا يتصرف كيفما اتَّفق، ولا دونما أسباب، وإلا جازف بالاضطلاع بمهمة مستحيلة أو لا معقولة. والنشاط البشري لا يمكنه أن يُحدَّد بمعزل عن الطرائق التي تشرط إنجازه العملي، ولا بمعزل عن بواعثه الْمُعَلِّلَة (أ) ( Ses motivations) . ولذا فهو يتضن ¬

_ (أ) ( motivation) : يمكن ترجمتُها في حالة الإفراد (بالباعِثِيَّة)، وفي حالة الجمع (بالباعِثِيَّات)؛ ولكنني فضّلتُ ترجمتها باتفاق مع المؤلف: (بالباعِثِ الْمُعَلِّل)، تيسراً لفهمها على القارئ، على أن يُفهَم من هذا الاصطلاح هنا نفس التعريف رقم (أ) الذي وضعه له (لالانْدْ)، أي: ((علاقةُ الفِعْل بالبواعث التي تُفَسِّرُهُ أو تُبَرِّرُه)). A. «Relation d'un acte aux motifs qui L'expliquent ou le Justifient» . ولا مانع من أن تأخذ نفسُ عبارة المصطلح العربي- ولكن في مجال آخر- معنى التعريف رقم (ب) الذي وضعه (لالاند) لنفس المصطلح، أي: ((بيانُ البواعث التي يقوم عليها قرارٌ ما)). B. «Exposé des motifs sur lesquels repose une décision» . راجع: Vocabulaire technique et critique de: la philosophie par. André Lalande. (1962) . P. 658

بالضرورة مُحْتَوىً فكريًّا يتلخَّص فيه كل التقدم الفنيّ والاجتماعي، والأخلاقي لمجتمع ما. ولا ريب في أن (ماركس) كان يشير إلى ذلك بطريقة أخرى عندما قال: ((إن ما يميِّز في دفعة واحدة أسوأ المعماريين عن (النَّحْلَة) الأكثر خبرة، هو أن المعماريَّ يبني الْخَلِيَّة في دماغه قبل أن يَبْنيها داخل قفير النَّحْل، وأن عمله يفضي إلى نتيجة كانت سابقة الوجود فكريّاً في مخيِّلته)). وأعتقد أن هذا التحليل الماركسي للنشاط لا يزال غير كافٍ في حدود المعنى الذي لا يتعلق فيه بغير الطريقة التي تشرط إنجازه العملي؛ فهو يسكت عن ذكر (الباعث الْمُعَلِّل) القائم في المحتوى الفكري، بينما الباعث المعلّل بالذات هو الذي يحدد على وجه الدقة الطابع الاجتماعي أو اللاَّاجتماعي ( Anti -social) للنشاط؛ فالصانع اليدوي ومِقَصُّه يمكنهما أن ينجزا عملاً فنيّاً، أو أن يقوما بتحطيمه، والإنسان وبُنْذُقِيَّتُه يمكنهما أن يدافعا عن المجتمع، أوأن يهدِّدا أَمْنَه. وإذن فمشكلة الباعث المعلِّل داخلة بالضرورة ضمن مشكلة النشاط الفردي أو الجماعي. ففي إمكان النشاط أن يصنع المجتمع أو أن يقوم بتقويضه، وذلك حسب العلامة المقترنة بباعثه المعلِّل. إلا أن نشاط المجتمع المشترك لا يتكون في بساطة من مجرد مجموع النشاطات الفردية، حتى ولو كانت هذه الأخيرة من نفس الجنس، وحتى ولو كانت متحدة كلُّها في نفس الاتجاه؛ إذ يجب أيضاً أن يتمَّ تنظيمها في كنف النشاط الإجمالي حسب مخطَّط تنظيمي ( Organigramme) يتولى تحديد فعالية هذا النشاط. فهذا (التنظيم) للنشاطات الفردية بالذات في كنف نشاط إجمالي مشترك هو الذي يضع على وجه الدقة مشكلة المفهومية. لأن (العمل الصالح) و (العمل الصالح) لا يَنْضافانِ إلى بعضهما البعض بالضرورة، بل ويمكنهما في بعض الحالات المعينة حتَّى أن يُلْغِيا بعضَهما البعض.

فنحن قد تعوَّدنا الدقة البالغة التي يمتاز بها (النمل) أثناءَ قيامه بعمله، عند أداء كل (نملة) لعملها الخاص على حدة؛ إلا أن (النمل) يبدو لنا أحياناً عندما يتشكل في مجموعة أنه قد ضلَّ سبيله حتى لكأن غريزته تعوزه في هذا الحين بالذات، حيث نراه على سبيل المثال منهمكاً حول فريسة يحاول كما هو الشاهد أن يسحبها إلى مسكنه، ولكن بما أن كل (نملة) تمضي في سحب الفريسة إليها، فإن الذي يحدث فعلاً هو أن الفريسة تظل باقية في مكانها لا تَريم. وإذن فالعمل المشترك يستلزم بالضرورة: تنظيم وتنسيق جميع المعطيات، وخاصة جميع الأفكار التي تنهض بالنشاطات الفردية. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نرى اليوم في الميدان الديني على سبيل المثال: انعقاد مجمع في (روما) يتمثل موضوعه في تنظيم (النشاط المسيحي) بطريقة لا تؤدِّي (بنشاط صالح بروتستانتي)، و (نشاط صالح كاثوليي) إلى أن يُلْغِيا بعضَهما البعض. والواقع أن هذا الموقف المتخذ من طرف الفاتيكان ( Vatican) للبحث عن مفهومية مسيحية، يعني تطوراً مزدوجاً؛ تطور الوضعية الدولية التي تنتقل من طور التسلح الذريِّ، إلى طور التسلح المفاهيمي؛ وتطور المسيحية نفسها، التي أصبحت تجابه تحدِّياً جديداً في عالم ينتقل من (الاستعمار) إلى (تصفية الاستعمار)؛ فالنشاط المسيحي إذا تعذَّر عليه الاستناد من هنا فصاعداً إلى الحجج العسكرية أو التأييدات الإدارية في عالم يتمُّ فيه (نزع الأسلحة النوويَّة) و (تصفية الاستعمار)، يتعين عليه لا محالة أن يبحث عن وسائله الجديدة ... وهذا هو المشكل الذي يوضع حالياً (بالفاتيكان)؛ فالمجمع المنعقد (بروما) مدعوٌّ حسب كل احتمال لإيجاد وسائله الجديدة ضمن مفهومية ملائمة للطور الجديد من النشاط المسيحيِّ

ومن جهة أخرى فإن التجارة نفسها سيعرض لها مثلُ هذا التحوُّل؛ بل لقد عرض لها ذلك بالفعل، حيث لم تعد (باريس) و (لندن) توفدان أيّاً كان من (السَّماسِرَة) الأغنياء بالأقوال المنمَّقة المعسولة لتقديم بضائعهما في البلدان (الأفريقاسيويَّة)، ولكنهما أصبحتا توفدان أشخاصاً موهوبين بحس تجاريٍّ حادٍّ ولا ريب، كما أنهم مزوَّدون برصيد وازنٍ من الأفكار كذلك. وضمن هذا الاتجاه تُعَدُّ زيارة الدكتور شاخت ( Dr. Schacht) إلى الجزائر العاصمة منذ بضعة أشهر، علامة من علامات الأزمنة. وإذن فإن الجزائر تجابه اليوم: مشكلة الأفكار على مستوى النشاط المشترك لجماعة وطنية في مرحلة معينة من تاريخها. فقد توصل الشعبُ الجزائري إلى الاستقلال من خلال ثورة كَهْرَبَتْ جهدَه البطولي طوال سبع سنوات، التحمت خلالها جميعُ (النشاطات الفردية) دونما تحفُّظ ضمن الانطلاقة الثورية. وقد كانت الأشياءُ مكتفيةً بنفسها على نحو من الأنحاء، بقدر ما كانت تلك (الانطلاقة) توفِّر للنشاطات الفردية بواعثَها المعلِّلَة (من حيث كانت تفرض على العموم- وعلاوة على ذلك- ضروباً من السلوك البسيطة بما فيه الكفاية) كما توفر في ذات الوقت الباعثَ المعلِّل لنشاط مشترك مسلح، قائم على محورِ هدفٍ بسيط، مُفرَدٍ ومُحَدَّدٍ هو: الاستقلال. ولقد تمَّ اليوم بلوغ ذلك الهدف. وفي الحدِّ الذي فَقَدَ فيه (النشاط المشترك) على نحو من الأنحاء باعثَه المعلِّل المعتاد، حدث عندئذ ما يشبه الانحسار في النشاط الفرديِّ الذي انسحب من النشاط المشترك، مِمَّا نتج عنه ظهور النزعات الفردية كَرَّةً أخرى في نفس الحدود التي لم يَعِ فيها الشعبُ الجزائري بعدُ البواعثَ المعلِّلة لنشاطه المشترك الجديد.

فوجوه الإهمال في بعض المصالح، والمخالفات أو التَّعَدِّيات التي نلاحظها في بعض ضروب السلوك الفردية يمكنها أن تُفسَّر باعتبارها أعراضاً لهذه النُّقلة بين المرحلة الثورية وما بعد المرحلة الثورية. ويُعزَى الباقي في جانب منه على الأقل إلى قصور في (التَّرويض) الإداري لموظفينا، وفي (التَّرويض) المدنيِّ على وجه العموم. ويمكننا أن نضيف إلى هذا الواقع النصيبَ الْمَعْزُوَّ إلى (الميكيافيليَّة). فالاستعمار قد ارتحل، ولكنه ترك لنا أَنْسالَهُ الصغار الذين ما انْفَكُّوا يُعْرِبونَ لنا عن وجودهم بواسطة تلك الحوادث المؤسفة من قبيل حوادث (وَهْران). وعلى هذا النحو أصبح الشعب الجزائري يواجه تحدِّياً جديداً، هو: تحدِّي استقلاله. فنحن عندما نشاهد جزائريّاً قليلَ الاكتراث بدفع الضرائب المستحقَّة عليه، أو مواطناً يهمل العمل الذي يجب عليه إنجازه، أو يرفض أن يراعيَ نظاماً نافذ الفعول بحجَّة أننا لم نعد (مستعمرين) الآن، فإننا نرى في هذا علامة للأزمة الصبيانية التي نجتازها، أي علامة لذلك الهبوط الخطير في الطاقة الكامنة الذي يشير إلى أن المجتمع بصدد استرجاع أنفاسه بعد المجهود الكبير الذي بذله، حتَّى ينخرطَ في المرحلة الموالية. وفي هذه الآونة يوجد بالجزائر فراغ مفاهيميّ في نفس الحدِّ الذي لم يَعِ فيه الشعب الجزائري بعدُ بما فيه الكفاية البواعثَ المعلِّلة الجديدة لنشاطه المشترك، أو بصورة أصرح، في الحدّ الذي لم تجد فيه بعدُ المهامّ المعدِّدة في (برنامج) طرابلس جذورَها داخلَ روحه بصورة كافية. ويمكن تلخيص هذه المهامّ على هذا الغرار:

فهي تتمثل في تصفية راسب العَسْفِ المتخلِّف عن العهد الاستعماري؛ ومجموع ضروب العطالة التي ندين بها إلى القابليَّة للاستعمار؛ وفي الاضطلاع بالبناء الاشتراكي؛ وفي توجيه البلاد صوب قِبْلَةِ مُنْتَمَى جماعتها التاريخيَّة المغربية، والعربية، والإسلامية. أما الجهد الثوري فلا يجب أن يَتَباطأ، ولكن يتعين أن ينمو في علاقته الوطيفية بتأخُّرنا: ذلك أن المشاكل التي تبقى معلَّقة لا تظل في حالة عقم؛ بل هي تضاعف إنْسالَها. والواقع أنه يجب علينا اليم أن نجابه مشاكل (قصورنا) قبل الاستقلال، ومشاكل (بلوغنا) بعده. فالمشاكل لا تكتفي بالتضاعف فحسب، ولكنها تتعقَّد بمظاهر نفسانية جديدة. فمن وجهة النظر الأُولى، يكون من السهل أن نفهم ذلك في بساطة عندما نأخذ في اعتبارنا مجرد العامل السُّكَّانيِّ الذي يَبْهَظُ جميع مهامِّنا الاجتماعية في كل عام أكثر من الذي سبقه بأن يقرن بها مُعامِلاً مضاعفاً. أما من وجهة النظر الثانية، فإن المهام تتعقد في علاقتها الوظيفية ببعض العقد الجديدة، وذلك على سبيل المثال عندما تصبح كلمة (الاستقلال) مبرراً لبعض ضروب الإهمال التي تُثْقِلُ بعبئها الوازن على سَيْرِنا. إلا أنه يتعين على المجتمع في الساعات الخطرة أن يقوم بقفزة يتخطَّى بها الهاوية، أو أن يخرج من التاريخ ويتخلَّى عن مكانه لمجتمع آخر. فبعد موقعة (آليزيا) (¬1) تعيَّن على المجتمع الغالي ( Gaulois) أن يترك مكانه للمجتمع الروماني. ¬

_ (¬1) ( Alésia) : هي الساحة المحصنة (الغالية) التي حاصر فيها يوليوس قيصر ( Julius Caesar) القائد الغالي فرسنجيتوريكس ( Vercingétorix) سنة 52 ق. م، ثم أخذه أسيراً، بعد اضطراره إلى الاستسلام، حيث اقتاده إلى روما، وأعدمه عقب ستّ سنوات من الأسر. (المترجم).

وفي مثل هذه الفترات يجب أن توضع المشاكل ضمن حدود جديدة، ذلك أن التحديدات الأساسية يعاد وضعها موضع الاستفهام من جديد. فعندما يجد المجتمع نفسه أمام محنة حاسمة من مِحَنِ تاريخه لا يستطيع التفوُّق عليها بواسطة العمل الذي يتمُّ تصوره ضمن المعايير المعتادة، فإنه يكون مرغماً آنَئِذٍ على قلب هذه المعايير، وعلى إعطاء (العمل) تعريفاً ثوريّاً. وعندما يتعين على المرء القفز فوق الهاوية، يكون مرغماً على تمديد طاقته الكلية للقيام بوثبة؛ وعندئذ يصبح العمل كلَّ طاقة الشعب المحتشدة في نشاطه المشترك لاجتياز محنة حاسمة. وفي مثل هذه الفترات لا تتمثل المسألة في العمل من أجل مجرد العيش، ولكن من أجل البقاء. والواقع أن النساءَ الجزائريات اللاَّتي وَهَبْنَ حُلاهُنَّ في السنة الماضية، قد أطَعْنَ أوامِرَ مثل هذا العمل الحافِز، بِخَلْقهِنَّ لِجَوِّهِ المفاهيميِّ. فالحِليَةُ التي وُهِبَتْ قد لا تكون ذات أهميَّة من حيث قيمتها المادِّية، ولكنها تتضمن قيمة رمزيَّة، إنها إسهام المرأة التي قَدَّمَتْها في النشاط المشترك. وهي بهذا الاعتبار تحملُ فعَّاليَّة المشْحَذ ( Catalyseur) الْمُسَرِّع للطاقة الوطنية المجنَّدة في عمل حافز. فقد رأينا بالنسبة إلى مجتمع آخر كيف استطاعت ألمانيا الْمَنْزوفة الدماء سنة 1945م، أن تدهش العالم بنهوضها العجيب من جديد سنة 1955م، كما سلف أن بَيَّنَّا ذلك في محاضرة سابقة. وهذه الأعجوبة لم تحدث من تلقاء نفسها، ولا بطريق الصدفة: إنها نتيجة للعمل التطوُّعي، المتمثِّل في ذلك (العمل الآليِّ) الذي انخرط فيه الشعب بأكمله، حيث قام كل ألماني- سواء أكان رجلاً، أو امرأة، أو طفلاً- بتقديم ساعتين إضافيتين من العمل إلى وطنه وهذا الرَّأسمالُ الضخم المتجمع من ساعات العمل هو الذي صنع تلك العجزة.

فنحن نشاهد هنا، ضمن مثال ملموس، كيف لا يكتفي النشاط الفردي في الساعات الخطرة من التاريخ بمجرد المضاعفة من حِدَّتِه فحسب، ولكنه ينخرط (طوعيّاً) كذلك في النشاط المشترك لأُمة كاملة يُنْهِضُها الحكماس في قَوْمةٍ واحدة عقب أخطر هزيمة لها في تاريخها (¬1). كما أن (المفهوميَّة الألمانية) هي التي أحدثت هذا الحكماس، وقادت الشعب الألماني إلى حظائر الشغل كما يقود النشيد الوطني الفيالق إلى ميادين القتال. لأن (المفهومية) يجب أن تكون أولاً وبالذات: النشيد الذي يقود عمل الشعب بأسره، فهي الصوت الحادي الذي يضبط إيقاع مجهود الأمة، وهي تنادي الجماعة بِـ: (هَبَّا ارْفَعْ!) لكي تتضافر على إنهاض مصيرها إلى أعلى (¬2). فالعمل المشترك يستدعي إيقاعاً ووزناً يُوَتِّران الجهود الفردية، ويُفْرِغانِها في الوقت نفسه داخل الجهد الجماعي. وتقدم لنا أغاني المجذِّفين السود على أنهار إفريقيا، تلك التي تواكب مجاذيفهم في ارتفاعها وانخفاضها لدفع الزَّوارق بمزيد من السرعة، أبسطَ صورة ¬

_ (¬1) هذه ليست المرة الأولى التي تجد فيها ألمانيا في ذاتها جوهر العوامل الملائمة لنهوض سريع. في فترة أخرى من تاريخها عرفت كيف تصل إلى نهاية التجربة حين بدا أن الأرض قد مادت من تحتها، فالتاريخ حفظ ذلك الخطاب السامي لفريدريك جيوم الثاني: ((ينبغي على الدولة البروسية أن تعوض بطاقتها الروحية قوتها المادية التي فقدتها)). [ط. ف]. (¬2) يمكن أن نقارب بين المفهومية ( L'ideologie) عند بن نبي، والتوافق ( Concord) عند شيشرون. فالكاتبان استوحيا الاستعارة ذاتها. إنها الغناء، النغم. فشيشرون في معالجته لموضوع (الجمهورية) في (الكتاب الثاني الفصل العاشر السطر 11) كتب يقول: ((ما يسمى في الأغنية نغماً يسمى توافقاً في المدينة. لا يوجد في الجمهورية صلة أكثر قرباً ولا ضمانٌ أكثز تأكيداً للسلام كالتوافق)). وفي سرده لكيفية ولادة المدينة الرومانية، أوضح المؤثرات الناشئة عن سيف روميلوس ديانة نوما Numa في ولادة المدينة حيث قال: ((من كثرة تائهة ومبعثرة ... برزت مدينة)).

للعمل المشترك؛ كما تمثِّل تلك الأغاني الحانية لِنَواتِيِّ نهر الفولغا ( Volga) التي ترافق انهِماكَهُمْ في سحب الحبال الجاذبة للقوارب، صورة مُفْصِحَةً أخرى للوضع نفسه الذي ينتظم العمل البشري عندما يُنَفَّذُ بأيدٍ عديدة. وفي حالة ألمانيا تتَّحد المفهومية من حيث هَوِيَّتُها مع الثقافة الألمانية ذاتها، وهي ثقافة (الأنا) و (الإنسان الأعلى) لكلٍّ من فِخْتَهْ ونِيتْشَه ( Fichte et Nietzsche). ويمتلك العمل في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية نشيده كذلك، وهو النشيد الذي أدَّى بعمال السكك الحديدة في موسكو سنة 1921 إلى التطوع بتقديم ساعات إضافية، كما شحَذَ هِمَّة الأودارنيكيِّين ( Oudarnikis) فانقضُّوا على البريَّة ورَوَّضوها، ثم اسْتَحَثَّ الستاخانوفيِّين ( Stakhanovistes) لذلك الكدح الجبَّار الذي تَوَّجَهُ غاغارينْ ( Gagarine) بغَزوِ الفضاء ... وقد كانت للمجتمع الإسلامي الوليد نفسُ الهِمَّة عندما كان يسمع نشيد الإسلام الفتيِّ في أعماق روحه، ذلك النشيد الذي كان يسوق الأبطال إلى ميادين القتال، أو إلى حظائر الشغل سواء. فقد كان (عمَّار بن ياسر) بطلَ الشُّغل الذي سمع هذا النشيد في غور روحه، عندما كان يحمل صخرتين بدل صخرة واحدة لبناء المسجد الأوَّل للإسلام (بالمدينة). إلا أن هذا النشيد الذي يقود الشعب، عندما تتعلق القضيَّة بمصيره، إلى ميادين القتال أو إلى حظائر الشغل، لا ينبعث من العدم، أو من مجرد ارتجال أدبيٍّ أو موسيقيّ، ولا حتى من صرخة الألم التي يطلقها إنسان جريح؛ فهذا النشيد لا يمكن أن ينبعث إلا من روح الشعب ذاتها، من تقاليده، ومن تاريخه، ومن كل ما يجعل عمَلَه أو نضالَه مقدَّساً في ناظرَيْه.

ويتعيَّن عليَّ أن أُشير هنا إلى قضية فرانز فانون ( F. Fanon)، مع كل التأثُّر والتقدير اللَّذيْن يسْتَشْعِرُهُما كلُّ جزائريٍّ عند ذكر هذا الاسم. فعمل فانون - الذي سوف يبقى في نظرنا ذا قيمة لا تُقَدَّر- لا يقدم ولا يمكنه أن يقدم نشيد النِّضال والعمل للشعب الجزائري، لأنه لا يغوص إلى الجذور العميقة من ذاتية هذا الشعب، ولا هو يعانق كُلِّيَّةَ موضوعيَّته الاجتماعية والتاريخية؛ فالنشيد الذي يحشد طاقة الشعب، كما يحشد المكثِّفُ الشُّحنة الكهربائية، لا يمكنه أن يتشكَّل على سجلٍّ أجنبيٍّ، حتى في مجرد تعبيره الفنيِّ أو الموسيقي أو الأدبي؛ لأن عملية تركيبه تتمُّ داخل روح الشعب أولاً، لكي يُتَرْجَمَ فيما بعد ضمن فكر إنسان يكوِّن جزءاً من تلك الروح الجماعية. فليس رفاق (غاندي) من الإنكليزيِّين- أمثال: بيرسن والآنسة سلاد ( Pearson et Miss Slade) - هم الذين ألَّفوا النشيد العظيم الذي اقتاد الجموع الهنديَّة إلى (التحرير)؛ ولكن (المهاتما غاندي) نفسه هو الذي جمَّع جوهره من ذات روحه الْمُفْعَمَة بحَمِيَّة الهند. كما لم يكن أمريكيّاً ذلك الذي ألَّف النشيد الوطني الفرنسي المدعوّ بالمارسيليَّة ( La Marseillaise) أو نشيد تجمُّع العمال الثوريِّين المدعوّ بالدُّوليّة ( L'Internationale)؛ والمؤكد أن (فانون) يمثل الموسيقي العظيم القادر على استخراج أصفى النبرات الثورية من الروح الإفريقيَّة، فقد كان فنُّه رائع الحكمِيَّة، كما كانت شبَّابته تقدم أحياناً أشجى الألحان الثوريَّة وأشدَّها إثارة للعواطف؛ ولكن سجله الشخصيّ- البالغ الخصب من جوانب أُخرى- كان يفتقد اللَّمسة التي تهزُّ الروح الجزائرية، وتصلها بذلك الرَّعْش المقدَّس الذي دفع بالشعب الجزائري إلى النضال المحرَّر، والذي يتعيَّن اليوم أن يدعم انطلاقته الثوريَّة إلى حظائر الشغل والعمل. وإننا لنظم (فانون) نفسه، عندما نجعله- كما أُريدَ به ذلك- يلعب دور

صاحب النظرية الثوريَّة الجزائريَّة؛ فلكي يتكلم المرء لغة شعب معين يجب أن يقاسمه معتقداته: وقد كان (فانون) إنساناً مُلْحِداً. ولكنا سَنَظْلِمُه كذلك إذا ما نسينا أو قلَّلْنا من قيمة دوره في تشييد مفهوميَّة إفريقيَّة، ففي هذا الميدان يمثِّل (فانون) كُلاًّ متكاملاً، لأنه يحمل في روحه: كلَّ روح إفريقيا، وكلَّ تاريخها، وكلَّ مأساتها. ومن ناحية أخرى فالمفهومية التي يجب أن تحمل الانطلاقة، يتعين عليها كذلك أن تحمل مبدأ نظاميّاً؛ فقبل أن يُرَوِّض المجتمعُ الطبيعة، يتعين عليه أن يروِّض نفسَه، حيث ينصاعُ إلى القاعدة، وينضبط مع المعيار الضروري للعمل المشترك. صحيح أنه لا مَعْدى عن الطاقة التي تَمْهَرُ بها الطبيعةُ كلَّ فرد لإنجاز المهامِّ اليوميَّة؛ ولكن هذه الطاقة إذْ تُحرَّرُ دونَما اشتِراطٍ تكون مُكْتَسِحَةً مُجْتاحَةً، بحيث تقوِّض النظام، وتلتهم الانضباط، وتحطم القاعدة والمعيار، وتجعل العمل المشترك مستحيلاً. ومن هنا يجب أن تُصَدَّ هذه الطاقة بحواجز، وأن تَتِمَّ تَقْنِيَتُها؛ أو هي- إذ نستخدم المصطلحات البافلوفية ( Pavloviennes) - يجب أن تُرْضَخَ (لِمشْروطِيَّةٍ) تجعل منها طاقة مخصَّصة للمرامي الدقيقة التي يستهدفها مجتمع بصدد بناء كيانه. فمشكلة الحرِّيَّة إنما توضع ضمن هذه الحدود الدقيقة، وليس ضمن حدود اعْتِباطِيَّة. ذلك أن حريَّة (القِرْد) يمكنها أن تكون كليَّة دون أن تضرَّ بمصلحة النَّوع (القِرَدِيِّ)، ولكن حريَّة (الإنسان) لا يمكنها أن تكون مطلقة إلا مقابل فوضى غير متلائمة مع جميع ضرورات التنظيم الاجتماعي، والنظام العام.

وقد جاءَت كلُّ الديانات- وأعني هنا جميع المفهوميَّات الدينية- لترويض الطاقة الحيويَّة للإنسان، وجعلها مخصَّصة للحضارة. وبناءً على ذلك يضع الدين الحرية الفردية بين حدود عمل المجتمع، ومقتضيات الحرية الخاصة بهذا المجتمع. والتشريعات المدنية نفسها لا يمكنها أن تُخِلَّ بهذا المبدأ دون أن تعرِّض للخطر نظامَ المجتمع في الداخل، وكرامَتَهُ في الخارج. وتتمثل خاصِّيَّةُ المفهومية السياسية في ترسيخها لمثل هذا المبدأ بقرارة الفرد، بطريقة تجعله يدرك كيف ينخرط في حريَّة: بحريَّته ونشاطه الفرديَّيْن داخل حرية المجتمع ونشاطه المشترك (¬1) وحرية بلاد ما إنما تُشادُ مع مثل هذه التَّقييدات للحرية الفردية؛ ثم يَتَبَقَّى لهذه البلاد أن تختار جنسَ هذه التقييدات وذلك إما بفرضها عن طريق الإكراه الحكوميِّ (الذي يقدِّم مصلحة الدولة على ما عداها)؛ وإما بترسيخها في الأفراد عن طريق تربية كل فرد بصورة تجعل سلوكه راضخاً لمراقبة وازِعِه الأخلاقي الخاص. وقد أعرب الشعب الجزائري عن وجهة نظره في هذا الموضوع بتَبَنيهِ للمبدأ الديمقراطي في دستوره؛ ولذا يجب على التربية الوطنية أن تُفْهِمَ الجيلَ الفَتيِيَّ أن دربَ الحريَّة يمرُّ بين أقصى طرفين هما: المحافظة المفرطة، التي تفضي إلى تحجُّر الفكر داخل الغشاوة السياسيَّة، وتعمّد (عدم المحافظة) بطريقة منهجيَّة، مما يؤدِّي إلى فوضى الأشخاص، والأشياء، والأفكار، وبالتالي إلى انفجار الإطار السياسيِّ. ¬

_ (¬1) أتى أحدهم يوماً وسأل ( Yenorate) عما علمه لطلابه فأجاب: ((علمتهم أن يعملوا بأنفسهم ما يلزمهم به القانون)) (عن الجمهورية لشيشرون. Cète in) بالنسبة لمنتسكيو (الفضيلة السياسية) هي ((أن يذهب المرء للخير العام وهو يعتقد أنه يذهب من أجل مصلحة الخاصة)) (الكتاب الثالث الفصل السابع روح الشرائع). [ط. ف].

ففي إحدى الحالين: نصل إلى نموذج من المجتمع المُتَراصِف النَّضْدِ، العاجز عن التقدُّم كما كان المجتمع الهندي والمجتمع الصينيُّ طوال قرون طويلة؛ وفي الحالة الأخرى: نؤول إلى نسق من المجتمع الْمُذَرْذَرِ (الْمُفَكَّكِ الذَّرَّات) كما كان المجتع العربيُّ الجاهلي، مجتمعاً عاجزاً عن الاضطلاع بنشاط مشترك، وبالتالي محكوماً عليه بأن يَقْبَعَ على هامش التاريخ. ومن وجهة النظر النفسانيَّة، يجب أن تُبَيِّن تربيتُنا كذلك أنَّ خطَّ سَيْرِ نشاطنا الشخصي أو الجماعي يجب أن يَمُرَّ بين ذُهانَيْنِ ( Deux Psychoses) يبدو أنهما يَنْتابانِ سائر البلدان الإسلامية، وهما: ذُهانُ (الشيء السهل)، الذي لا يستدعي أيَّ مجهود، والذي يَسْتَمِيلُنا إلى الكسل؛ وذُهانُ (الشيء المستحيل) الذي يجعلنا نحم مُسَبَّقاً ومن أول وهلة بأنَّ النشاط فوق مستوى وسائلنا، مِمَّا يفضي بنا على هذا المنوال إلى الشَّلَلِ التَّام. فمُهِمَّةُ تربيتنا الشَّعبيَّة والمدرسية، إنما تتمثل في تبْصيرِها لنا بأن: ليس هناك (شيءٌ سهل) ولا (شيء مستحيل)، وإنما لكل مشكلة واقعية حلها الذي تنحصر القضية في تطبيقه بالجهد الذي يستلزمه. لقد حان الأوان لكي نتحرَّر من جميع ضروب العطالة التي توقف الجهد، ومن سائر أعذار العطالة التي تُبَرِّرُ كَسَلَنا. وإنه لمن المستحسن أحياناً أن نعيد التفكير في تجربة غيرنا عندما تكون قابلة للتطبيق على حالتنا نحن، لكي نكيِّفها مع شروطنا الخاصة. وضمن هذا الاتجاه نرى أن التطهير النفساني الذي استخدمَهُ النظامُ الصِّينيُّ الحالي أثناءَ بداياته، لا يخلو من بعض الفائدة إذا ما اسْتُعْمِلَ في مجتمع مُعَقَّد ينطوي على الكثير من (الْمُرَكّبات النَّفسية) القائمة في العديد من ضروب الْخَجَلِ المكبوتة؛ فقد فهم المسيِّرون الصينيُّون مدى صعوبة تحقيق الوحدة

الأخلاقية والإرادة الجماعية داخل بلادهم دون القيام بتصفية عُقَدِها المخجلة، تلك العقد التي لا يقبل المواطنون الإقرار بها، والموروثة عن النظام السابق، عندما كان الصينيُّ يُخْضِعُ مواطنَه لكي يَبْتَزَّهُ، أو هو يَتَّجِرُ على كاهله مع الاستعمار. فقد كانت مثلُ هذه العُقَد تقيم بين المواطنين ضمن النظام الجديد تُخوماً أخلاقية يزداد مَحْذورُها بالقدر الذي تتمكَّن فيه ضروبُ الخجل المكبوتة تلك من الإفصاح عن ذاتها في بساطة بالارتكاس الْمُتَمَحِّضِ إلى (الجريمة)، أو بموقف من المغالاة الاعتباطية التي تُقَنِّعُ عمليَّة (تَعْويضٍ) مُجْحِفَةٍ بانسجام العمل الاجتماعي. فالإدماج المتكامل لجميع المواطنين داخل الجماعة يستدعي إلغاءَ تلك التُّخوم؛ ولقد أدرك المسيِّرون الصينيُّون ذلك، ولذا فتحوا حملة النَّزاهة الشهيرة، التي قدَّمت لكل مواطن صينيٍّ فرصة الإقرار بأخطائه الماضية، وإراحة ضميره من عبء إثْمٍ كان يُرْضِخُهُ لِضَغْطٍ داخليٍّ لا يُحتَمل، جاعلاً منه شخصاً فاقد الصَّلاحية بالنسبة إلى النشاط المشترك. ولقد ورثت الجزائر عن العهد الاستعماري ما لا يُسْتَهان به من جِنْسِ هذه العُقَد؛ وإنه لمن الحكمة أن نفكِّر في أنَّ ضروب الارتكاس إلى (الجريمة)، ووجوه المغالاة الاعتباطية المؤذية، تظل ممكنة الحدوث ما لم تتمَّ تصفيةُ العقد المخجلة داخل مجتمعنا. ويمكننا القول بأن هذه العقد هي التي كوَّنت (رأس المال) الذي استثمره الاستعمار في جهازنا الإداري لكي يَسْتَبْقِيَ داخله ثغرات ملامئة لنشاطه المباشر، أو أسباباً للاختلال يمكنها أن تُبَلْوِرَ استياءَ من تتولَّى الإدارة شؤونَهم. ومن ناحية أُخرى فإن هذا التطهير النفساني لا يمثل ابتداعاً صينيّاً محضاً، إلا في شكل نشاطه العمومي، ومن حيث غاياته السياسيَّة. فقد سبق أن مارسه المجتمع المسيحيُّ بشكل آخر، ولغايات مغايرة، فيما يُعْرَفُ عنده (بكرسيِّ الاعتراف).

ولقد مارسه المجتمع الإسلامي الوليد كذلك، لغايات تطهيريِّة في تلك الضروب الذائعة الصيت من (الإقرار بالذَّنب، أو الإعلان عن الخطيئة) من مثل اليوم الذي اعتقد فيه الخليفة (عمر) أنه قد أثْمَلَتْهُ نَشْوَةَ السُّلطة، فما كان منه إلا أن استدعى (الصحابة) وجمعهم حذو المِنْبَر، ليعلن أمامهم ما مُؤدّاه: أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، بل هو أقلّ من اللاَّشيء؛ وأنه لا يعدو كونه مجرد راعي ماشية جعل منه الإسلام خليفة. وهكذا كان (عمر) العظيم الذي نعرف مدى حساسيته الأخلاقية المتوفِّرة، أوَّلَ من فتح طريق (النقد الذَّاتي) (¬1). ففي جميع هذه الحالات الخاصة، أو العمومية، سواءً أتَمَّتْ لغايات أخلاقية، أو سياسية، تتمثل القضية في تطهير نفساني يتكفل بإدماج الفرد، ومُكامَلَتِه أخلاقياً في قلب جماعة من المواطنين أو المؤمنين. والملاحظ أن مشكلة المكاملة الاجتماعية للفرد، تمثّل مشكلاً قائماً على وجه العموم في (جزائر) ما بعد الثورة. فقد تمَّ تفكيك المجتمع الجزائريّ من طرف الاستعمار بمقتضى المبدأ الرُّومانيِّ الذَّائع: (فَرِّقْ تَسُدْ)! ... ولقد دَحَرَتْ البِنائِيَّاتُ الاستعمارية الفردَ وألْجَأَتْهُ إلى الحياة من أجل ذاته؛ بل ولقد بلغ الأمر ببعض الأفراد أن نَما لديهم: (خُلاعُ الاحتكاك) بالآخرين، ( Phobie de Contact) ، حتى جعلهم يقضون على أنفسهم بالانعزال والانزواء، الأمر الذي يحملهم أحياناً على الانقطاع الاجتماعي التَّام في نفس كنف أُسْرَتهم الخاصة ... وهكذا تم تجريد الأفراد من إنسانيَّتهم، وانْتُزِعَ منهم حتَّى مجرد انْتواء الاحتكاك البشريّ-، بحيث مات المجتمعُ في قرارة طواياهم. ¬

_ (¬1) ليس النقدُ الذاتي ( Autocritique) مجرد النَّجْوى المحدودة التي نقوم فيها بمُسارَّةِ الزَّميل الْمُجْتَبَى ضمن خلوة حَميمة؛ ولكنه الإعلان المشهود عن الخطأ على رؤوس الملأ. (المؤلف).

ولقد تَمَّ بعثُ المجتمع الجزائري من جديد كمجتمع، بفضل الثورة التي أدَّتْ بالأفراد- وأعني أغلبيَّةَ الشعب- إلى إقامة صلاتهم الاجتماعية لخدمة القضيَّة الوطنية، إما في نطاق المقاومة المدنية التي بلغت حدَّ الرَّوْعَة، وإما ضمن النشاط المسلَّح الذي بلغ ذَرْوَةَ البطولة (¬1). ولكن ابتداءً من وقف إطلاق النار، اتَّضَحَ أن الفردية قد ولدت من جديد، ضمن تلك الحالات العديدة التي جدَّد فيها الفردُ شَجْبَ روابطه الاجتماعية لكي يَنْقَضَّ على إحدى الوظائف التي تُدِرُّ دَخْلاً دونما كبير عمل، أو لكي يَجْتازَ إحدى الملكيَّات الشاغرة؛ ولقد فَصَمَ التسابق على المغنم الشخصيِّ على نحو من الأنحاء عُرَى الروابط التي أنشأها (مَوْثِقُ) الثورة الوطنيَّة (¬2). ومن أجل الحقيقة التاريخيَّة يجب أن نضيف إلى ذلك أن أعضاء (الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية) هم الذين أعطوا المثال بأن كانوا القدوة الْمُحْتَذاةَ لهذا السِّباق المُنْهِكِ المِتْلاف! .. ¬

_ (¬1) نفس الاعتبارات قادت شبنجلر ليعرف مفهوم (الشعب) هكذا: ((الشعوب ليست وحدات لغوية سياسية أو حيوانية ولكنها واحدات نفسية. بالنسبة لي؛ الشعب إنه وحدة الروح. إن سائر الأحداث الكبرى في التاريخ لم تكن تماماً عمل الشعوب، ولكنها أنشأت تلك الشعوب. إن العمل يؤثر في روح فاعله. لا الوحدة في اللغة ولا التحدر من أصل واحد أمور فاعلة في هذا الإطار. فالذي يميز الشعب من الجمهور هو دائماً الحدث الداخلي لـ (نحن) فكلما كان هذا الشعور عميقاً كان هناك حتماً القوة الحيوية للمجتمع)) [آفاق التاريخ العالمي؛ الجز الثاني للعمل الذي ترجمه الجزائري مهند تزيروت نحو عام 1930م تحت عنوان (أفول الغرب)]. وقبله فيخته La Philosophie Toutoiius) Fiehte) كتب بان ليس العرق ولا الجغرافيا ولا اللغة هي التي أنشأت ني البداية العلامة الفارقة لأمة إنها (الفكرة الغيبية) (رسالة) قد حددت الانتماء لأمة. وهكذا يرجع فيخته (الجنسية) الألمانية إلى سائر الذين ينضوون في خدمة فكرة (رسالة) حتى ولو كانت هذه الأخيرة ليست ألمانية تماما. [ط. ف]. (¬2) ((أحياناً يحلمون بأن يصبحوا أبطالاً إنهم الآن عابثون)) هكذا تكلم زرادشت، بهذه الطريقة أنَّب نيتشه الأبطال التعبين، والذين ينتهون إلى الوقوع في مزايا الحياة السهلة دون قضية، ولا الرغبة في الذهاب أبعد ما يمكن. [ط. ف].

فقد تخلَّى البعضُ عن مشروع كامل في طرابلس، حيث لم يُستكملْ بعدُ حتَّى مجرد تحرير (البرنامج)، والتحقوا (بتونس) لترتيب (شؤونهم الشخصية)، والتفرُّغ لاسْتِتْمام (تشكيلاتهم) قبل أن يضعوا أقدامهم على أرض الوطن في لَبوس المحرِّرين وبادر البعضُ الآخر إلى السَّبْق باجتياز خَطِّ موريس ( Ligne Morice) فركضوا حثيثاً إلى قرية (بومرداس) (¬1) لمباغتة ما يقدرون عليه من سُلْطَةِ دَوْلَةٍ لم يكن مولدُها سوى مجرد احتمال، أو هي لَمَّا تخرجْ بعدُ من أقْماطِها في جميع الأحوال، دون أيّ اكتراتٍ بما إذا كان هذا السلوك الْمُسْتَغْرَبُ في بابه سوف يؤدِّي إلى قتل الوليد الغَضَّ في مهده! .. وعندما اشْتَمَّ بعضُ الذئاب أثناءَ مغادرتهم للمقاومة بالأدغال رائحة الوليمة (الزَّرْدَة) تحدَّروا من الجبل إلى المدن لاغتصاب كل ما يقدرون عليه: محطة إرسالط إذاعية هنا، ومَبْنًى إدارياً هناك! ... وعلى النقيض من ذلك اتَّجه بعضُ الضِّباع في بَزَّةِ (الْحَرْكِيِّين) أو زِيِّ المدنيِّين صوب شعاب الجبل لكي ينحدروا ثانية من هناك في صورة أبطال، بعد أن أَنْسَوْا غيرهم أنهم قد شبعوا حتَّى البِطْنَة طوال سبع سنوات ممَّا نهشوه من لحم الشعب وما امتصُّوه من دمائه! .. ونحن نعلم بقية القصة، وكيف ألقى الشعبُ بنفسه تحت تأثير قَرَفِه وتقزُّزه، دونما سلاح في قلب الاشتباك (أو الزَّحْمَة) لكي يسدَّ الطريق في وجه عصبَّة الولايات ( Le Wilayisme) . لقد قيل: إن الْحكم هو التَّبَصُّر. و (الحكومة المؤقَّتة للجمهورية ¬

_ (¬1) ( Rocher Noir) ( الصخرة السوداء)، وهو علم القرية بالفرنسيّة، أما الشعب فيسميها (بومرداس). (المترجم).

الجزائرية) لم تكتف بعدم التبصُّر بالوضعيَّة التي تَلَتْ وَقْفَ إطلاق النار فحسب، ولكنها استحثَّتْ قيام هذه الوضعيَّة بسلوك أعضائها. أجَل! إنها لم تتَبَصَّر عواقبَ هذه الوضعيَّة، وهو واقع لا نزاع فيه؛ ولكننا عندما نعيد مراجعة الاطراد المتساوق الذي اقْتادَنا إلى ذلك، نكون محولين على القول بأنها لم تكتف بالتعجيل من خَطْوِها فحسب، ولكن بلغ بها الأمرُ حَدَّ خلق هذه الوضعيَّة أثناءَ مرحلة سيادتها. فحتى اليوم الذي فَزِعَ فيه هؤلاء (المحرِّرون) إلى (بومرداس) للاستيلاء على النُّفوذ، لم تكن لِتَدورَ برؤوسهم سوى فكرة واحدة وهي: احتلال الجزائر من جديد بقدر إجلاء الاستعمار لقوَّاته الخاصة، وذلك حتى لا تتاح للشعب الجزائريّ أيَّةُ إمكانية لمحاسبتهم على تسييرهم للبلاد. ففي (القاهرة) وفي (تونس) لم تكن مشكلةُ الثورة لتُثار بالنسبة إليهم في حدود (التَّحرير) ولكن في حدود احتلال جديد. وكان الشعب هو الذي اضطلع بأعباء التحرير مع قوات (جيش التحرير الوطني) المنخرطة في النضال حَقّاً وواقِعاً. لأن جيش التحرير الوطني نفسَه، قد انْتابَهُ هذا العملُ المفَكَّكُ من طرف الحكومة المؤقَّتة للجمهورية الجزائريَّة، التي كان كلُّ عضو فيها يريد أن يضمن لنفسه ثُلَّةَ من هذا الجيش لاستخدامها في اجتياح إقطاعيَّة خاصة. فالتَّفَكُّك الذي برز لوضح النُّور منذ الوهلة الأولى التي تَلَتْ وَقْفَ إطلاق النار، قد وجد أصلَه البعيد في هذا العمل التَّقسيميِّ الذي قام به أعضاءُ الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قبل إبرام (اتِّفاقيَّات إيفيان) بوقت طويل جدّاً. وهؤلاء هم المسؤولون في نهاية الحساب عن ذلك الانفجار الذي حاقَ بالوحدة المعنويَّة للبلاد في شهر جويلية (تموز) سنة 1962، أو عن تخريب هذه الوحدة على

الأقلِّ. فالذي حصل هو أن الجماعة الوطنية التي انصهرتْ ولُحِمَتْ في نار الثورة، قد فُتِّتَتْ وذُرْذِرَت من جديد في مضمار السِّباق على المنفعة الشخصيَّة. لقد خلق الشعب بنفسه مفهوميَّتَه الخاصة طوال سنوات الثورة، باستثماره فيها لجيع قِيَمِه الأخلاقية، تلك القِيَم التي جعلت نضالَه مقدّساً في نظره الخاص ولكنَّ مفعول هذا التقديس أخذ يتدهور شيئاً فشيئاً تحت تأثير طوفان جَرَّافٍ من انتهاك الحرمات، وتدنيس المقدَّسات؛ فالأشخاص الذين استلموا سُكَّانَ القارب وَدَفَّتَهُ عقب حادثة السطو على الطائرة التي كانت تُقِلُّ (بن بلَّة) من (الرباط) إلى (تونس)، كانوا أبعد ما يكون عن تقدير الأهمية السياسية لهذا الانحطاط الذي ساد الجوّ الأخلاقي، وخاصة بالنسبة إلى حقبة ما بعد الثورة، أعني في الطور الجديد من المعركة الشعبية. وإن مسيِّرينا في تلك المرحلة الذين لم (يفكِّروا) - بالمعنى الدقيق للكلمة- في أي مشكلة من مشاكل الثورة، لا يمكنهم من باب أَوْلى أن (يفكِّروا) في المشاكل العامة التي كانت متوقَّعة في الجزائر عقب الثورة؛ وبالتالي فهم أبعد ما يكون عن الانشغال بوضع مشكلة (مفهوميَّة) ما بعد الثورة. تلك هي الوضعية الحالية للمسألة. فالمشكلة التي توضع اليوم أمام شعبنا، وأمام حكومتنا، إنما تتمثَّل في تجديد الموثق (أو الحلف) القابل للاضطلاع من جديد بإقامة الوحدة المعنوية للأُمَّة، والنهوض كَرَّةً أخرى بالطاقات التي انْتابَها التَّخاذُلُ والتَّقاعُسُ لفترة معينة من جرَّاء الاستقلال. إذ يتعين على الشعب الجزائري أن يستأنف سَيْرَهُ مجدَّداً نحو مَرامِيَ جديدة؛ كما يتعيَّن على هذه المقاصد أن تمدَّه بالبواعث المعلِّلَة الجديدة لنشاطه المشترك، و (بالقاسم المشترك) الذي سيعضد سائر النشاطات الفردية: سواء منها

نشاطات المهتمِّ بالشؤون الفكرية، أو نشاطات التاجر، أو العامل، أو الفلاح. فقد تَقَشَّعَت اليوم الهالةُ التي كانت تحجب بِطُفاوَتِها المشاكل الملموسة عن عيون الشعب الجزائري أثناءَ الثورة، كما جُرِّدَت المشاكل من ظُلامَتها المضَلِّلَة. ومن هنا فصاعداً يجب أن يُسَمَّى القِطُّ قِطّاً، بحيث لا يجب أن يوجد ألبَتَّة أمام أنظار الشعب الجزائري مُثَقَّفون زائفون، وأبطال مصطنعون، ومشاكل مفتعلة؛ إذ يجب البدءُ أولاً بتصفية مشاكل الاستقلال الطُّوباويّ (أو الخياليّ) الذي تركت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سَطْوَتَه تَنْمُو وتتفوَّق على بعض الأذهان في بلادنا؛ حتى لقد أصبحنا نلاحظ في أيامنا هذه وجود علائم قائمة قَلْباً وقالباً للتَّخاذل والتراخي في بلادنا كما لو كان يتعيَّن على (الاستقلال) أن يحلَّ جميع مشاكلنا العموميَّة والخصوصيَّة بطريقة آليَّة؛ بينما يجب علينا أن نفهم أن قطاعنا العمومي بالخصوص لا يزال يَحْيا على ما تركه لنا المستعمر بعد رحيله؛ وعندما يُسْتَنْفَذُ هذا الرَّأسمال، فما عسانا نصنع إذا كانت الضرائب لا تدخل الخزينة، وإذا أهمل الموظَّف أو المستخدم واجبه؟ ... فالمعدَّات المتنقلة من شبكة السكك الحديدية على سبيل المثال ماضية إلى النَّفاد على مَرْأى من أبصارنا، لأنه قد تمَّ إهمال صيانتها كما هو المشاهد؛ وذلك مع إغفالنا للحديث عن تكرار عدم مراعاة جدول المواقيت على خَطٍّ حديديٍّ هام مثل خط قسنطينة- الجزائر العاصمة ... وإذن فإنه من المقتضيات الملحَّة أن نعيد التفكير في مشاكل البلاد، على ضوء إدراكنا لكون المشاكل القائمة في مرحلة ما بعد الثورة إنما هي مشاكل (البنْيَة القاعِدِيَّهَ)، أعني مشاكل: الإنسان، والتراب، والزمن، وأنها هي التي يجب أن تُثار قبل غيرها؛ كما يجب أن نُوجِدَ (القاسم المشترك) لحلولها؛ وهذا القاسم المشترك إنما يتمثَّل في المفهومية التي يجب أن تكوّن (حِلفاً) بين الأشخاص، و (فَنّاً) صِياغِيّاً تجاه الأشياء، و (مَنْهَجاً) على صعيد (الأفكار).

فمن الناحية التاريخيَّة تَمَّ خَتْمُ (موثق) الجماعة في دم المليون ونصف المليون من الشهداء. ومن الجانب الرمزيِّ تُرْجِمَ هذا الموثقُ في البادرة الجميلة التي قامت بها النِّساءُ الجزائريَّات عند تطوّعهنَّ بِمَنحِ حُليّهنّ من أجل إعادة تشييد البلاد. ومن الزاوية السياسيَّة كان الرئيس بن بلة هو الذي أطلق صيغته المتمثلة في: الاشتراكية، والعروبة، والإسلام؛ وهي الصيغة التي ستوحّد الشعب الجزائري ضمن نشاطه المشترك الجديد، حيث أنها مسجلة في ميثاق الأمَّة. وهذه الكلمات الثلاثة تعرّف في دفعة واحدة المحتوى المفاهيمي لعمل الشعب الجزائري المشترك، كما تحدِّد بالتالي الطرائق التي تشرط سير هذا النشاط وبواعثه المعلِّلَة كذلك؛ وبعبارة أحرى فإن جميع المسائل المتعلقة بخط سيرنا السياسي في شكل السؤالين: (كيف يكون؟) و (لماذا يكون؟)، يتعين أن تجد أجوبتَها ضمن هذا المحتوى المفاهيميِّ. وعلى وجه التخصيص فإن (برنامج) طرابلس إذا كان قد تولَّى تَعْدادَ المهامِّ المطلوب إنجازها، وكان علينا أن نتساءَل: (كيف؟) لنا أن ننجزها، تكون الاشتراكية هي الجواب الصحيح عن سؤالنا. فالواقع أن الاشتراكيَّة تقع في مستوى العمل المشترك، كما تمثِّل أكثر الطرق فعَّالية لإنجاز العمل. وتتأتَّى فعَّاليتُها في نفس الوقت من (كَيْفِيَّتِها) باعتبارها (فَنّاً صياغِيّاً) اجتماعيّاً مُطَبَّقاً على الجماعة الوطنية ككُلٍّ؛ ومن وجهة النظر النفسانيَّة باعتبارها عاملاً لإدماج النشاط الفرديِّ ضمن النشاط المشترك بصورة متكاملة. فهي من ناحية تجنِّد إلى الحدِّ الأقصى أشخاصَ المجتمع، وأشياءَه، وأفكارَه؛ ومن ناحية أخرى تمنح جميع هذه المعطيات (مُعامِلاً) مضاعِفاً للفعَّالية، من حيث إنها تعطي للشخص البواعثَ المعلِّلَة القوية، وللشيء أفضل

شروط استخدامه، وللفكرة دَوْرَها وأفضل طرق استعمالها. فالاشتراكية قد نَمَتْ كطريقة للإنتاج والتوزيع مع التقدم الفنيِّ والمعنوي لمجتمع القرن العشرين؛ فهي النتيجة العاديَّة التي أفضى إليها التطور الاجتماعي الذي بدأ في القرن الأخير مع وسائل الإنتاج الضخم والمواصلات السريعة. وفي ميدان النظام السياسي يمثِّل حدثُها تكريساً بسيطاً لنَسَقٍ من الأشياء تكوِّن وجوده في نطاق الوقائع منذ الآلة البخارية. وعندما تختار بلاد كالجزائر الطريق الاشتراكية من أجل تنميتها لنفسها، فهي تسجل ببساطة نتيجة ذلك التطور ضمن مفكّرة أعمالها اليومية السياسيَّة. وعندما تأمر هذه البلاد بإلغاء الامتيازات، فهي تصدِّق رسميّاً وفي بساطة على واقع يجعل هذه الامتيازات غير قابلة للاحتمال، ويتمثل هذا الواقع في أن المسافات الثقافية بين الأفراد قد تضاءَلت بالقدر الذي بلغت فيه (الرسالةُ الإنسانية) بطريقة أسرع، وإلى مدىً أبعد. واليوم، فإن الطبيب، والصانع اليدويّ، يعكفان خارج نطاق مهنتهما، على المشاكل نفسها في المدينة، أو البلاد باأكملها، أو العالَم. لقد كان الشهيد (يوسف زيروت) حدّاداً؛ فمن هم الذين قاموا بالثورة، هل هم أمثالُه، أم هم بعضُ المصابين بالْهَوَسِ الفكريِّ ( Intellectomanes) من أعضاء الحكومة المؤَقَّتة للجمهورية الجزائرية؟! ... أجل! لقد تلاشت المسافات الثقافية بين الأفراد، تاركة كلمة (الطَّبَقَة) توشك أن تكون خالية من المعنى، إلا في جانب واحد هو جانب الامتيازات؛ ومن جراء هذا الواقع أصبحت المسافات الاقتصادية غير قابلة للاحتمال قَلْباً وقالباً بين الآدميِّين.

ولهذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلى أسباب أخرى كثيرة، وجب علينا أن نختار الطريق الاشتراكيَّة لتنمية أنفسنا. ولكن: في أي اشتراكية تتمثَّل القضيَّة؟ .. لقد تكرَّر ورود هذا السؤال كترديدة مرجَّعة للحياة السياسيَّة الجزائريَّة منذ الاستقلال؛ ونحن نشعر أنه يحمل نقطة استفهام خطيرة داخل ضمير الشعب؛ ولذا يجب علينا أن نقدِّم بعض التوضيحات: فقد ولدت الحركة الاشتراكية في الغرب مُتَّسِمَة بطابع تقاليد عقلية تبلغ من العمر ألفين من السنوات؛ ومنذ عهد لوكريس ( Lucrèce) لم يكُفَّ التيار العقليُّ هناك عن نَقْلِ فكرة (مادِّية النزعة) التي يبدو أنها لا تقبل الانفصال عن العبقريَّة الغربيَّة. وعندما التقت هذه الفكرة بالظاهرة الاجتماعية في القرن العشرين، فإنها لم تَتَوانَ في طبعها بخاصيتها المميَّزة؛ بحيث آلت الاشتراكية والمادِّية إلى الالتحام داخل نفس القالب من التصور. ومنذ ذلك الحين كان كل تصور شائع للاشتراكية في أوروبا يمثِّل حَتْمِيّاً تصوُّراً ماديَّ النزعة. فالمعارك التي كانت تتَّخذ شكلاً (مناهضاً للنزعة الكاثوليكية) في عصر الإصلاح مثلاً، اتَّخذت في القرن التاسع عشر شكلاً مناهضاً للدِّين بصورة عامة في العالم الاجتماعي. ولكن العوامل التاريخيَّة التي لعبت دوراً حاسماً هنا وهناك كانت هي ذاتها؛ فكارل ماركس كان سيتكلم لغة مارتن لوثر ( Martin Luther) لو أنه عاش في عصره؛ وخلال بعض انتقاداته الموجَّهة للكنيسة تهبُّ نَفْحَةٌ نشعر أنها تكاد تكون (لَوْثَرِيَّة) ... ولكن في الجزائر، حيث لا تتدخَّل نفس العوامل النفسيَّة- التاريخيَّة، لا يوجد أيُّ سبب أو حجَّة للْخَلطِ بين الاشتراكية والماديَّة.

علاوة على أن معنى اشتراكيتنا قد حُدِّد بما فيه الكفاية عن طريق حَدَّيْ مذهبنا المفاهيمي المتمثِّليْن في: الإسلام، والعروبة. فكل سياسة لكي تُعْرِّفَ نفسَها كسياسة جزائرية، يجب أن تظلَّ وَفِيَّةً لينابيعها الروحيَّة، ولرسالة الشهداء، وموثق الأحياء. ذلك أن السياسة التي لا تمتلك جذورها داخل روح الشعب، لا يمكنها أن توجِدَ نشاطاً جماعيّاً لأنها تكون عاجزة عن مَدِّ النَّشاط الفرديِّ بأسمى بواعثه المعلِّلَة. ولا ريب في أن بول فاليري (¬1) ( P. Valéry) قد أراد الإشارة إلى هذا المظهر من الأشياء عندما قال: ((كلُّ سياسة تنطوي- وإن كانت تجهل بصورة عامة أنها تنطوي- على نزعة غَيْبِيَّة كاملة، تبدأُ من الحسيَّة الأشدَّ غلظة، إلى النزعة الروحانيَّة الأكثر إقداماً)) ... ومهما يكن من أمر، فإن الشعب الجزائريَّ هو الذي صنع الثورة؛ وكان الفلاَّح هو الذي حمل عِبْئَها قبل العامل، والمهتمُّ بالشؤون العقلية؛ فقد كانت الثورة في الواقع ثورة فلاَّحين لا بمجرد عدد شهدائها فحسب، ولكن بروحها كذلك. وقد بدأت الثورة بمفهومية جدَّ بسيطة تتلخَّص في كلمة واحدة هي: (الاستقلاأل). وكان الفلاَّح الجزائري هو الذي أعطاها محتوى مفاهيمياً، في عبارات جدَّ بسيطة. وقد وضع فيها شعوره بالتضحية، وبالقِرى (أو كرم الضيافة)، وشعوره بالمقدَّسات؛ وهو الذي جعل منها معركة (مقدَّسة)؛ حيث لم يقم بذلك لا المهتمُّ بالشؤون العقلية، ولا حتى العامل الذي كان مُنْبَتَّ الجذور في قليل أو كثير عن أصوله الروحية والاجتماعية. ¬

_ (¬1) P. Valéry ( نظرات من العالم المعاصر) ص 99 Regards sur le monde actuel P 9. [ ط. ف].

وقد كان الفلاح يناضل من أجل استقلال الجزائر، وهو على وعي بأنه شخص عربي وإنسان مسلم. وإذن فههنا تتمثَّل (رسالة) المليون ونصف المليون من شهدائنا الذين بذلوا حياتهم من أجل الوطن؛ وههنا يقوم معنى (الموثق الوطني) الذي كتبوه بدمائهم. إلا أنه يتعين علينا هنا أن نطرح سؤالاً آخر: ما هي النزعة الإسلامية التي يجب علينا أن نُدْرِجَها في منهاجنا المفاهيمي؟ فعلى الصعيد الاجتماعي، لا يَنْصَبُّ الحكم على قيمة غَيْبِيَّة، وإنما ينصبُّ على نشاط إنسانيٍّ؛ ونحن نلمس هنا كرَّةً أخرى عن طريق المراجعات، وجود ثغرة تُعْزَى للنهضة الإسلامية التي وضَعتْ بطريقة ضمنيَّة مشكلة متعلِّقة بالإيمان في مكان هي غير مثارة فيه؛ فالمسألة لا تتمثَّل في تلقين أو في إعادة تلقين المسلم عقيدتَه؛ ولكنها تتمثَّل في إعادة تلقينه استخدامها وفعَّاليتَها في الحياة. إلا أن المصلحين قد أغفلوا وضع هذه المشكلة. ومن وجهة النظر الاجتماعية تجابهنا الظروف التاريخية بمأزق أحياناً، بحيث يتعين علينا أن نختار بين التمسك بحرفية الدين، أو بروحه، ما دام التمسك بروح الدين لا يضيع جانباً جوهريّاً منه؟ ... ولقد جابه (عمر بن الخطاب) ذات مرة مثل هذه الحالة التي وضعته إزاءَ هذا المأْزق بالذات. فقد أدَّى القحط الذي تفشَّى في بداية عهد حكمه، والذي يسمِّيه المؤرِّخون (بعام الرَّمادة)، بأحد مواطني (المدينة) إلى سرقة الخبز لكي يقتات. وكانت هذه الحالة واضحة في نظر الفِقْه؛ حيث يجب قطع يد السارق. ولكن الخليفة العظيم في تعلقه بروح الدين بدلاً من حرفيَّته، أطلق السارق، وقدَّم له مع ذلك نصائحه حتى لا يقع ثانية تحت طائلة العقاب، مع تمويله بالزاد الضروري لحياته في انتظار ظروف أفضل.

وكان (عمر) بعمله هذا قد فتح للفقه الإسلاميِّ طريقاً يحسن بنا أن لا ننساه. واليوم يمرُّ العالم الإسلاميُّ بأزمة من تاريخه تجعله يواجه مثل هذا المأزق في كل خطوة من خطاه؛ والغالب على الموقف المتزمِّت أنه لا يقتصر على الإخلال بالاقتصاد أو بحفظ الصحة فحسب، فالتزمُّت يخلق في حدِّ ذاته موقفاً معادياً للإسلام بصورة عامة. وفي هذه الأيام يقوم بالجزائر عراك ناشب بين الإسراف في التزمُّت الذي يدَّعي أنه يمثِّل الإسلام، وبين الإلحاد الذي يعتقد أنه يمثِّل التقدُّم. وعلى أية حال، فإن رسالة شهدائنا وموثقهم يمثِّلان الينبوعَ الذي يتعين على سياستنا أن تستقيَ منه روحانيَّتَها. وإذن فإن الرئيس بن بلة عندما صاغ سياسته في ثلاث كلمات هي: الاشتراكية، والعروبة، والإسلام، كان قد التزم بالوفاء لأرواح شهدائنا، وبالإنصاف والعدالة تجاه ورثتهم. وقد عمل على هذا النحو بالسياسة الحقيقية، في استخدامه لبرنامج معين، واستقائه من الينابيع الروحانية لمفهومية معينة. وهكذا نحقِّق الشرط الأول السياسي والنفساني لتناول مشاكل (البنْيَة القاعديَّة). ويمثل الإصلاح الزراعي الذي سبق له أن تقدَّم أشواطاً في طريقه، خطوة جدِّيَّة نحو حلِّ هذه المشاكل، من شأنها أن تفتح الطريق للمرحلة الثانية من مراحل نموِّنا الاجتماعي، وهي مرحلة التصنيع التي نحن بصدد الشروع فيها هي الأخرى، وخاصة في ميدان النَّفط ... ولكن إذا كنا نحتاج في جميع هذه الأطوار إلى سياسة واضحة لاحِبَة، وإلى مفهوميَّة ركينة وطيدة، فإنه يتعين علينا كذلك أن نمتلك أفكاراً فعَّالة باعثة. ومشكلة الأفكار توضع ضمن نفس الحدود تقريباً، في سائر البلدان الإسلامية.

فالمستشرق الإنكليزي، الأُستاذ جيب ( Gibb) ، يتَّهم الفكر الإسلاميَّ (بالذَّرِّيَّة)؛ ولهذه التهمة أساس من الصحة، ولكن مع احتراز معين: إذ يجب أن تُوَجَّه هذه التهمة ليس ضدَّ الفكر الإسلامي ذاته، ولكن ضدَّ تفكير مسلم القرن العشرين. فقد عانى المسلم على العموم مؤثرات تقهقر المجتمع الإسلامي منذ بضعة قرون؛ فهو الإنسان الذي خرج من حضارة، وكابَدَ مؤثِّرات هذا التَّقَهْقُر حتى من وجهة النظر الذِّهنيَّة. وهذا الإنسان لا يزال في السنِّ النَّفسانيَّة المتطابقة مع (الأشياء)؛ وفي هذه السِّن يكون المجتمع مجرَّداً من ثقته في (الأفكار) (¬1)؛ فالفكرة لا يتمُّ تَقْييمُها لديه كوسيلة للنشاط الاجتماعي، أو السياسي، أو الاقتصادي، باعتبارها الشبكة العقلية التي يُنْسَجُ عليها هذا النشاط، وإنما هي مجرد حِلْيَة للفكر الْمُتَمَيَّز، وترف زائد ... وعالم ما بعد العهد الْمُوَحِّدِيّ يمثل عالَماً ذا بُعدَيْن هما: الشَّيْءُ، والشخص؛ فهو عالم فاقد لبُعْدِ الفكرة ... والاتِّصال بيننا لا يتمُّ عن طريق الأفكار؛ وحتَّى الرسائل التي نتخاطب بها إنما نكتبها بلغة (الأشياء)، أي بكلمات جاهزة للاستعمال تَماماً، حسب الآوِنَةِ والظَّرْفِ ونحن نعرف ما يجب أن نقوله في الزواج وفي الدَّفْن، أو في الانتخاب، ما دام (الانتخاب) مرادفاً (للتّويزة) (ب)، أي ما بقي يمثّل شيئاً تقليديّاً. ¬

_ (¬1) انظر أكثر تفصيلاً حول هذا المفهوم (وجهة العالم الإسلامي) و (شروط النهضة) للمؤلف نفسه. (ب) (التويزة) كلمة جزائرية شعبية، تعني التضافر المشترك على أداء خدمة لمن يحتاجها، كواجب خيريّ محض ودون مقابل. ومن بين صورها في القرية: تجمع الفلاحين في موعد محدَّد، مع جميع لوازم ووسائل العمل الضرورية، لحراثة وبذر أرض مواطن مُعْوِز في موسم الحراثة؛ أو لحصاد غلتها له في موسم الحصاد، تطوعاً ودون مقابل؛ مع العلم بأن هذا المواطن لا يملك =

ولكننا لا نعرف ما الذي يجب أن نقوله أمام مشكلة جديدة تستدعي توفُّر الأفكار. وحتى فيما بين (العقول المتميّزة) فإن التجربة تظل عَصيَّة التَّبليغ في صورة رموز فكريَّة، وفي لغة مكتوبة. فنحن لكي نقتنع لا بدَّ وأن تُقَدَّم لنا التجربة برمَّتِها على نحو من الأنحاء، كأن تكون فوق طَبَقٍ من الأطباق؛ أما ترجمة هذه التجربة ضمن رموز فكريَّة فتجعلها بعيدة عن مداركنا، قاصرة عن إقناعنا. وكما هي الحال بالنسبة إلى (القِدِّيس توماس) (¬1) الذي كان يريد- لكي يؤمن بمعجزة القيامة- أن يَلْمَسَها بيديه، فإن طريقتنا في الفهم، تعدُّ أحياناً طريقة لَمْسِيَّة، بدل أن تكون عقليَّة. ولهذا فإن الاستعمار يمتلك على الصعيد السياسيِّ أهْوَنَ لُعْبَة وأيْسَرَها لبلوغ أغراضه؛ إذ ليس له إلا أن يجعل لعبته غير قابلة لِلَّمْسِ، حتى نكون منذئذ عاجزين عن فهم أيّ شيءٍ منها. وإن الاستعمار ليدرك ذلك جيداً. ¬

_ = باستثناء رقعة الأرض، لا البذور، ولا الماشية، ولا المعدّات اللازمة لحراثتها وبذرها أو حصادها؛ حيث يتضافر أهل القرية على تقديمها له جميعاً بالإضافة إلى جهدهم. كما نجد لها صورة أخرى في تضافر أهل القرية على بناء سكن لمواطن معْوز أعزب يعتزم الزواج؛ واشتراكهم في تأثيثه باللوازم الضرورية بعد تشييد بنيانه على نفس المنوال السالف، تطوّعاً ودون مقابل. ومن هنا يدرك القارئ مدى القيمة والدلالة الأخلاقية الجسيمة لهذا التقليد الاجتماعي الإيجابي. وتمثل عملية الانتخاب البرلماني- أو هي يجب أن تمثل- من حيث دلالتها النظرية وتطبيقها العملي في الأصل: شكلاً من (التويزة) بالمفهوم الذي أوضحناه، وهو المفهوم المتطابق مع الآية القرآنية المنادية بالتعاون على البر والتقوى؛ ولكن العملية الانتخابية كثيراً ما تنقلب في الحياة السياسية إلى نقيض هذا المفهوم، حيث تصبح عندما تدخلها الأغراض الشخصية، والمنافع العاجلة، مطابقة للنشاط الإبليسي، المتضافر على الشر المحض، والمتعاون على الإثم والعدوان ... (المترجم). (¬1) القدّيس توماس ( Saint Thomas) : هو غير القديس توما الإكوينيّ؛ الراهب الدومينيكاني الفيلسوف، فالمعنيّ في النصّ هو أحد رسل المسيح الاثني عشر؛ الذي يقول المسيحيون- طبقاً ملعتقدهم في الصلب- إنه لم يؤمن بقيامته إلا بعد أن رأى آثار جراحاته، ووضع فيها إصْبَعَه ... (المترجم).

وباختصار، فإن هذا هو الذي يجعل المستشرق (جيب) يقول: إن (الذَّريَّة) هي خاصية الفكر الإسلاميّ، دون أن يقوم بالاحتراز الذي أوردناه. ومع هذا الاحتراز، تمثِّل (الذَّرِّيَّة) معياراً ذا قيمة من حيث الدراسة المتعلقة بعلم الاجتماع للبلدان الإسلامية الراهنة؛ فهي تفسر لنا عدداً من مشاكلها، وخاصة منها نزعة (التكديس) التي أوردناها في المحاضرة الأولى؛ فنحن نعتقد أننا نبني إذ نقوم بالتكديس، كما لو كان (البناء) يمثل مرادفاً (لتكديس) المعدَّات والأشياء؟ ... وحتى عالَم أفكارنا لا يمثل (بِناية) ولكن مجرد (كدس) من الأفكار. (فالذَّريَّة) أعني صعوبة أو استحالةَ إقامة بنْيَة عقلية، إنما تمثِّل الانعكاس البسيط لافتقار عالَمِنا النفسيِّ لِبُعْدٍ معيَّن هو: بُعدُ الفكرة. وهذا هو الذي يفسِّر لنا كذلك: لماذا لم يَقُمْ (المصابون بالهوس الفكريِّ) من أعضاء الحكومة المؤقَّتة للجمهورية الجزائرية بالتفكير في مشكلة المفهوميَّة، التي يجب أن توضع على وجه الدِّقَّة ضمن الحدود التي كُنَّا بصدد الإشارة إليها. فالمفهومية ليست مجموع أفكارٍ شَتيتَة؛ وإنما هي المسَيِّرَةُ للطَّاقات، والسَّهْمُ الذي يُعَيَّنُ للجماعة طريقها في التاريخ. إنَّها الاقْتِضاءُ الآمِرُ الذي يطبع الحركةَ على اليد وعلى الفكرة في اتِّجاه محدَّدٍ. ويتعيَّن على مفهوميتنا أن تُحَقِّقَ هذه التركيبة المتآلفة للنشاط الفرديِّ والجماعيِّ، على صعيد أرفع مُقايَسَة نظريَّة، وفي نطاق المِراسِ العمليِّ الأكثر شيوعاً سواء بسواء. كما يتعين عليها علاوة على ذلك أن تصوغَ بَواعِثَنا المعَلِّلَة في أخْذِها بعين الاعتبار للشُّروط الدَّاخلية والخارجيَّة معاً. ولقد سبق (لرسالة) شهدائنا أن وَجَدَتْ معناها في جميع النشاطات

التَّحريرِيَّة الْمُتَساوِقَة بالقارَّة الإفريقية، حيث أصبحت فيها شارةُ (جبهة التَّحرير الوطني) تمثِّل مُرادِفاً (للتَّحرير) ذاته، وخاصةً في (أنغولا) وفي (إفريقيا الجنوبيَّة). وبالأمس قاد (خَيالُ) الثورة الفرنسيَّة المتمثِّلُ في: الحرية، والمساواة، والإخاء، جيش (نابليون) إلى قلب (موسكو) على حِداء نشيد (المارسيليَّة) (¬1) واليوم تَقومُ (أخْيِلَةٌ) يوتوبيا ( utopies) (¬2) أخرى، بصنع التاريخ في أصقاع أخرى من العالَم، بقدر ما تَقْتادُ الجماهير المتحمِّسة إلى العمل. ¬

_ (¬1) كيفما نظرنا إلى الأمر فنابليون ليس مجرد ظاهرة بسيطة للهيمنة الفرنسية. لنستمع إليه يكاشف واحداً من المقربين إليه: ((لدي طموحان، أن أرفع فرنسا إلى أعلى درجات القوة الحربية والغزو الكاسح ثم التطوير فيها، ودفع كافة أعمال الفكر إلى مستوى لم تشهده منذ لويس الرابع عشر ... إن هذه البلاد لم تعد تستطيع أن تستغني عن إعمال الفكر والعقل بقدر ما هي لا تستطيع أن تستغني عن الهواء. لذا فأنا أشغلها بمعارك تربحها، ولكن يجب الوصول إلى تعهد الروح لدى شعب كبير، عالم صناعي مقدام، عندئذٍ ترتفع باريس عاليةً في أعين الناس التي ستعجب بها بحيث تصبح كاتدرائيتها بشكل طبيعي كاتدرائية العالم الكاثوليكي بأسره)). [ط. ف]. (¬2) يجب فهم اليوتوبيا هنا بمعنى (المرافعة والإيديولوجيا) ومن بين هؤلاء الذين أعطوا هذا المعنى لمفهوم تاريخي واجتماعي أكثر مما هو فلسفي نذكر Cioran ( التاريخ واليوتوبيا) فهو يقول: ((تملأ اليوتوبيا في حياة المجتمعات وظيفة تعود إلى فكرة الرسالة ني حياة الشعوب)) [ص:156] ويقول: ((إن مجتمعاً لا يستطيع أن ينجب (يوتوبيا) وأن يكرس نفسه لها مهدد بالجمود والدمار)) [ص:139]. وكذلك غوستاف لوبون في (النتائج الأولى للحرب) (التحول الذهني عند الشعوب) طبعة 1920م الذي يرى في اليوتوبيا (قوة عاطفية وصوفية) قمينة بأن تغير وجه العالم. وهو يذكر كمثال على ذلك الجرمانية والشيوعية والصليية إلخ. [ط. ف].

ورسالةُ شهدائنا يجب أن يكون لها معناها في الجزائر وفي العالَم؛ حيث يجب أن تَعنيَ (البِناءَ) هُنا، و (الْحُضورَ) و (المساهمةَ) هناك. ففي الداخل يُطْلَبُ إلينا أن نَبْنِيَ، أو أن نعيد بناءَ حضارتنا؛ وفي الخارج، يجب علينا أن نساهم في النشاط المشترك للإنسانيَّة، في عالم صار قابلاً لإيصال التاريخ، حيث أصبح الفكر يتَّجه إلى الوحدة، وحيث يرى مالْرُو ( Malraux) مَوْلِدَ فَنٍّ عالَمِيٍّ. وبقدر ما يزداد ارتفاعُ الغاية، وبُعدُ مسافتها، بقدر ما يتعيَّن على الإنسان السائر صَوْبَ هذه الغاية: أن يمتدَّ طبقاً لمقياس مُهِمَّاتِه. فعندما كان القرآنُ يوجِّه هذا الأمْرَ إلى الجماعة المسلمة لكي يدفعها إلى السَّيْر، كان يَلْذَعُ بسياط آستهزائه كذلك أولئك المتخلِّفين عن التَّوقيت، حيث قال للرَّسول في شأنهم: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} (¬1). ولقد بدأ سيرنا في الجزائر على نداء شهدائنا وحتَّى إذا تعيَّن أن تطول علينا الشُّقَّةُ، فإنَّنا سنواصل السَّيْر لا محالة. فهناك نشيدٌ عظيم يرتفع في أعماق روح الشَّعب الجزائري، وهو الذي سَيَزِنُ وَقْعَ خَطْوِنا على دروب التَّاريخ. أجل! ها قد بلغ هبوبُه المحرِّر- الحاملُ لرسالة شهدائنا- أقصى الآفاق النَّائية من إفريقيا وآسيا. ولسوف تسمع الأجيالُ الجزائرية المقبلة أصداءَه دون ريب؟ ... ¬

_ (¬1) التوبة 9/ 42: وبقية الآية: { ... وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

الديمقراطية في الإسلام

4 - الدِّيمُقْرَاطِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ محاضرة ألقيت بنادي الطلبة المغاربة سنة 1960م وقد نشرت مع مجموعة مقالات كتاب تأملات ــــــــــــــــــــــــــ

سادتي: ورثنا نحن معشر الشعوب الإسلامية، كما ورثت معنا وفي الظروف نفسها الشعوب الأفريقية الآسيوية التي خضعت مثلنا للدول الاستعمارية واحتكت بثقافتها وحضارتها في إطار الاستعمار، ورثنا من هذا الاتصال وبحكم القانون الذي يفرض على المغلوب عادات وتقاليد الغالب، ورثنا المقاييس المرتبطة بحياة العالم الغربي وبتجربته التاريخية، وتقبلنا بعضها لنقيس بها الواقع الاجتماعي لدينا، ونقارن على ضوئها ماضينا بما يسحر أبصارنا في حاضر هذه الأمم الغربية. هذه الأمم التي فرضت علينا عاداتها ومفاهيمها ومصطلحاتها وأسلوب حياتها، وهكذا رأينا هذه الأشياء كمسلمات يقتدي بها فكرنا ويهتدي بها اجتهادنا، ويستدل بها منطقنا، دون أن نحقق في درجتها من الصحة واتفاقها مع جوهر شخصيتنا، وفلسفة حياتنا. وكان أثرها في تفكيرنا أن أصبحنا نتناول في كتابتنا وفي حديثنا موضوعات جديدة مثل موضوع هذا الحديث أي الديمقراطية في الإسلام. إننا حينما نقدم عنواناً كهذا لا نشعر عادة بأنه يتضن مسلمة لم يسلم بها تسليم المقتنع، وإنما نسلم بها خضوعاً لمسايرة العرف الذي فرضته علينا الحضارة الغربية، حتى أصبحنا نضم إلى الإسلام كل ما نعتقد أنه ذو قيمة حضارية دون أي تمحيص فيما يربطه أو يحدد درجة ارتباطه بالإسلام أو ينزِّه عنه الإسلام. فالديمقراطية من تلك العناصر التي نتقبلها لنضيفها إلى التراث الإسلامي، مقتنعين بما يبرر هذه الإضافة ولو بصورة شكلية حتى يصبح الموضوع لا يفتح

بابه على نقطة استفهام: ((هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟))، بل ندخل فيه مباشرة من باب المسلمات، فنقول: ((صفوا لنا الديمقراطية الموجودة في الإسلام)). إن مشكلة الربط بين هذين المصطلحَيْن هي في نظري المشكلة الأساسية في الموضوع، يجب أولاً أن نميز بينهما وأن نعطي لكليهما ما تستحق شخصيته من التعريف، حتى يتبين في ضوء هذا التعريف أي قرابة توجد بين المصطلحَيْن. وعليه يجب في خطوتنا الأولى أن نوضح وأن نعرف مصطلحاتنا: ما هو الإسلام؟ ما هي الديمقراطية؟ ولا بد هنا من ملاحظة: أن كل مصطلح كان في زمن ما كلمة محدثة، وإننا نعرف بالضبط متى حدثت كلمة (إسلام) في اللغة العربية وبمعناها الدارج، إنها لا شك من ابتكار القرآن. ولكننا على جانب أقل من المعرفة فيما يخص مصطلح (ديمقراطية)، فنحن لا نعرف متى درجت في اللغة العربية كمفردة مستوردة، ولا نعرف حتى تاريخ حدوثه في لغته الأصلية، إنما نعرف أنه صيغ في اللغة اليونانية قبل عصر بركليس (¬1)، إذ أن المؤرّخ توسديد يذكره على لسان هذا القيصر في إحدى خطبه الموجهة إلى شعب أثينة. أي منذ خمسة قرون قبل الميلاد. ¬

_ (¬1) في خلال احتفال جنائزي اختير بركليس ليؤبن فيه الضحايا الأولى لحرب بيلوبونيز التي وقعت بين أثينا وأسبرطة مجد بهذه الكلمات الأعمال الطيبة للديمقراطية التي كانت منتصرة على النظام الأرستقراطي: ((بما أن الدولة عندنا تدار لمصلحة العامة وليس لمصلحة الخاصة اتخذ نظامنا اسم الديمقراطية. وفيما يختص بالنزاعات الخاصة هناك المساواة التي تؤمنها القوانين للجميع، ولكن فيما يخص المشاركة في الحياة العامة، يحصل كل فرد على تقديره بحسب جدارته، وما يهم هنا ليست الطبقة التي ينتمي إليها وإنما قيمته الشخصية، هذا دون أن يشعر بالحرج من بؤس وضعه الاجتماعي واسوداده إذا كان يستطيع أن يخدم المدينة ... )) (تاريخ حرب بيلوبونيز، الكتاب الثاني، فصل 37). =

هكذا نرى الصلة مفقودة بين المصطلحَيْن بالنسبة إلى الزمان وإلى المكان، وربما أمكن القول مجازفة، نظراً لهذا التباعد من حيث التاريخ ومن حيث الجغرافية، بأن ليس هناك (ديمقراطية في الإسلام). ومن جهة أخرى فبقدر ما يكون اللفظ مشحوناً بالتاريخ، أي بقدر ما تكون له جذور في واقع وتاريخ البشر كما هو شأن الكلمتَيْن اللتَيْن نحلِّلهما، يكون شيء من التباس في هذا اللفظ التباساً يلبسه أحياناً معاني متعددة. يجب إذن أن نرفع هذا الالتباس باختيار أي هذه المعاني نقصد بالضبط. إن كلمة إسلام وكلمة ديمقراطية تحتوي كلاهما على مضمون ثري يجب من الناحية العملية تبسيطه إلى أقصى ما يمكن حتى تتيسر المقارنة بينهما. ما هي الديمقراطية في أبسط معانيها؟ إن أي قاموس اشتقاق في اللغة الفرنسية يدلنا على أن الكلمة، مركبة من مفردتين يونانيتين، وتعني (سلطة الشعب) أو سلطة الجماهير، كما تعودنا أن نقول اليوم، أي بتعبير تحليلي موجز (سلطة الإنسان). ومن جهة أخرى ما هو (الإسلام)؟ في أبسط معاني الكلمة لعلنا لا نجد جواباً أفضل على هذا السؤال، من أن نستعيره من جواب النّبي - صلى الله عليه وسلم - ذاته على سؤال ورد في حديث مشهور، رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد والبخاري عن ¬

_ = ويذكر في مكان آخر: (( .. على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس، وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون، وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن. ومن واجبها أن تساعد الضعيف وتضع الجدارة في مكانها الأول. إن التوازن المتناسق بين مصلحة الدولة ومصالح الأفراد الذين يكونونها تؤمن الانطلاق السياسي والاقتصادي والفكري والفني للمدينة، وذلك بحماية الدولة من الأنانية الشخصية، وبحماية الفرد عبر الدستور من تعسف الدولة)). [ط. ف].

أبي هريرة، في روايات متقاربة قال أبو هريرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزاً يوماً للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ ... إلخ ... إلى أن قال ما الإسلام؟ قال: «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان». فإذا قصرنا الأمر على ما يتصل بموضوعنا، ووضعنا أعيننا في هذا النص الجواب، الذي يستحق ثقة أكثر كجواب للسؤال المطروح، نرى أن الإسلام هو الإيمان بالله وحده، والقيام بالصلاة وأداء الزكاة والصيام. وقد يقول من يشرح هذا الحديث أنه لم يذكر الحج لأنه ورد قبل أن يحدد فرض الحج. ومهما يكن الأمر، فها نحن وضعنا للكلمتين التحديد المتفق مع أبسط معانيهما. فهل يوجد وجه مقارنة بينهما بعد هذا التبسيط؟ أي وجه مقارنة بين مفهوم سياسي يفيد جمله تقرير (سلطة الإنسان) في نظام اجتماعي معين وبين مفهوم ميتافيزيقي يفيد مجمله تقرير (خضوع الإنسان) إلى سلطة الله في هذا النظام أو في غيره. هكذا ينتهي الأمر فيما يبدو إلى مناقضة أو ما يشبه مناقضة كالتي ظهرت بكل وضوح في الشعارات التي نادت بها الثورة الفرنسية في نضالها ضدّ الكنيسة (لا نريد ربّاً ولا سيِّداً)، فهذه المناقضة الصورية تزيد طبعاً في تباعد المصطلحَيْن، وفي صعوبة المقارنة التي نريد عقدها بينهما. ولكن الصعوبة هذه ليست نتيجة الواقع الذي يدل عليه كلا المصطلحَيْن، بل إنها تنتج من كيفية تعبيرنا عن هذا الواقع.

إننا قد اخترنا مثلاً للتعبير عن الديمقراطية المعنى اللغوي كما يعرفه لنا أي قاموس اشتقاق، وهو مرتبط بتقاليد الثورة الفرنسية حيث يعتبر هذا المصطلح من إنتاجها اللغوي في هذا العصر. ولكن ينبغي علينا في الواقع أن نعيد الكرة في تحديد الديمقراطية، ونحددها دون ربطها مسبقاً بأي مفهوم آخر كالإسلام، فننظر إليها على أعم وجوهها، أي في إطار عمومياتها قبل أن نربط الموضوع بأي مقياس مسبق. ففي مثل هذا الإطار، الذي ستتضح مبرراته فيما بعد، يجب أن نعتبر الديمقراطية من ثلاث وجوه: 1 - الديمقراطية كشعور نحو الـ (أنا). 2 - الديمقراطية كشعور نحو الآخرين. 3 - الديمقراطية كمجموعة الشروط الاجتماعية السياسية اللازمة لتكوين وتنمية هذا الشعور في الفرد. فهذه الوجوه الثلاثة تتضمن بالفعل مقتضيات الديمقراطية الذاتية والموضوعية، أي كل الاستعدادات النفسية التي يقوم عليها الشعور الديمقراطي، والعدة التي يستند عليها النظام الديمقراطي في المجتمع، فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية كواقع سياسي إن لم تكن شروطها متوفرة في بناء الشخصية وفي العادات والتقاليد القائمة في البلد. فهذه الاعتبارات تكوِّن العموعيات التي تتحدد في نطاقها المشكلة بما تقتضيه من الوضوح، فهي تدلُّ بالخصوص على أن الشعور بالديمقراطية مقيد بشروط معينة لا يتحقق بدونها، وهذه الشروط ليست من وضع الطبيعة ولا من مقتضيات النظام الطبيعي، على خلاف ما كانت تتصوره الفلسفة الرومانتيكية في عهد جان جاك روسو، بل هي خلاصة ثقافة معينة وتتويج لحركة

الإنسانيات وتقدير جديد لقيمة الإنسان، تقديره لنفسه وتقديره للآخرين. فالشعور الديمقراطي هو نتيجة لهذه الحركة عبر القرون، ولهذا التقدير المزدوج لقيمة الإنسان (¬1). إن المؤرخ الفرنسي جيزو يتيح لنا في كتابه أوروبا من نهاية الإمبراطورية الرومانية إلى الثورة الفرنسية تتبع هذه الحركة أي التطور الذي أدى إلى ظهور الديمقراطية في أوروبا. ونمو الشعور الديمقراطي في البلاد الأوروبية. فالمؤرخ الكبير يبين كم كانت أصول الديمقراطية الغربية بعيدة وبسيطة، وكيف تكون الشعور الديمقراطي ببطء، قبل أن يتفجر بالتالي في التصريح بحقوق الإنسان والمواطن؛ ذلك التصريح الذي يعبر عن التقويم الجديد للإنسان وعن التتويج الأسطوري والسياسي للثورة الفرنسية. فالشعور الديمقراطي الغربي، قد بدأ يعبر عن نفسه، وهو لم يتخلص بعد من الغموض الملازم لكل ما هو في حالة تخلق ونشوء، خلال الحركتين التاريخيتين الكبيرتين، حركة الإصلاح وحركة النهضة. بل إن هاتين الحركتين هما أول تصريح بقيمة الإنسان الأوروبي في مجال الروح وفي مجال العقل. فمن الواضح، أن هذا الدرس عن تاريخ أوروبا، الذي نقرؤه في كتاب جيزو، نجد الواقع الاجتماعي مطبوعاً ومغلفاً بخصائص المجتمع الغربي، مثل حركة الإصلاح والنهضة. ولكن الحقيقة العامة بالنسبة إلى الشعور الديمقراطي، مهما يغشاها من قلة ¬

_ (¬1) يقول مونتسكيو في مقدمة كتاب (روح القوانين) ((في زمن يوسد فيه الجهل لا يوجد عندنا مجال للشك ولا حتى عندما نفعل أكبر الخطايا، وفي زمن النور نرتجف حتى عندما نقوم بأفضل الأعمال)) [ط. ف].

وضوح، حيث تلبس هنا ظواهر التاريخ الغربي وخصائصه التي لا يمكن أن تتكرر في تاريخ الأجناس والشعوب الأخرى، فإنها تبرز رغم ذلك تحت هذا الغلاف الخاص، أي عندما نخلص الموضوع من قيود التاريخ والسياسة ونعبر عن الأشياء بمصطلح علم النفس وعلم الاجتماع. إن الشعور الديمقراطي في أوروبا كان النتيجة والمآل الطبيعي لحركة الإصلاح والنهضة. فهذا هو معناه التاريخي الصحيح، ولكن هذا المعنى لا يفصل عن تاريخ أوروبا ليطبق على أمم أخرى. ولكن القانون العام بالنسبة إلى طبيعة الشعور الديمقراطي، سواء في أوروبا أو في بلد آخر. هو أن هذا الشعور نتيجة لاطِّراد اجتماعي معين، فهو بالمصطلح النفسي، الحدّ الوسط بين طرفين كل واحد منهما يمثل نقيضاً بالنسبة للآخر، النقيض المعبر عن نفسية وشعور العبد المسكين من ناحية، والنقيض الذي يعبر عن نفسية وشعور المستعبد المستبد، من ناحية أخرى. فالإنسان (الحر) أي الإنسان الجديد الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها، هو الحدّ الإيجابي بين نافيتين تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات: نافية العبودية، ونافية الاستعباد. ولهذا التطور ناحية شكلية لها دلالتها عندما يضفى على هذا الإنسان (الحر) لقب يعبر عن قيمته الجديدة؛ فبعد أن كان يعتبر ( Sujet) أي التابع إلى الملك أو مولاه، تسميه الثورة الفرنسية ( Citoyen) المواطن، وتحاكم الملك لويس السادس عشر فتسميه (المواطن كأبيه) أثناء المحاكمة، وبعد أن كان الفلاح الروسي يسمى (موجيك) في العهد القيصري، أصبح (الرفيق) بعد ثورة أكتوبر 1917، التي علقت على باب العهد الجديد صورة (الرفيق) ستالين. ومن أثر هذه الشكليات أن يكون من بين أكبر الأسماء التي حلقت في سماء

الثورة الفرنسية اسم روبسبيير ( Robespierre)، حفيد أولئك الذين كانوا من قطيع ( SerFs) أي الخدم، و ( Mirabeau) حفيد أولئك الإقطاعيين ( Seigneurs) الذين مثلوا العهد البائد في فرنسا قبل الثورة. فهذه هي الحقيقة العامة، الخالصة من ظروف البيئة والمطابقة لكل وسط إنساني مهما كانت ظروفه التاريخية الخاصة. وهذا هو المقياس العام الذي تقاس به الأشياء بالنسبة إلى أي تطور ديمقراطي، سواء كواقع اندثر في طيات التاريخ، أو كمشروع نريد تحقيقه في واقع مجتمع. فكل تطور من هذا النوع هو في جوهره عملية تصفية، تصفي الإنسان حتى يصبح الإنسان الجديد في صورة (المواطن) أو صورة (الرفيق) أي الإنسان الذي تخلص من رواسب العبودية ومن نزعات الاستعباد، التي تكون الصورة السلبية للشعور الديمقراطي. والتاريخ يعطينا نماذج كثيرة من هذه الصور السلبية أي الصور المعبرة عن نفسية العبد ونفسية المستعبد. إنه لا يخلو من الفائدة أن نذكر بعض هذه النماذج توضيحاً للموضوع وربما وجدنا بعضها حتى في الأدب. فالإراشادات التي يعطيها شخص أورسوس إلى شخص جوينبلين في قصة فيكتور هوجو (الرجل الذي يضحك)، هي في الواقع إرشادات تنطق فيها روح العبد. حيث يقول أورسوس لزميله: ((هناك سنة يتمسك بها الكبار، فإنهم لا يعملون شيئاً، وسنة يتمسك بها الصغار، فإنهم لا يقولون شيئاً، إن الفقير ليس له صديق إلا صديق واحد: الصمت، إنه لا يجوز له أن يتفوه إلا بكلمة واحدة: نعم، فالاعتراف والرضا هو كل حقه، نعم إلى القاضي، نعم إلى الملك.

فالكبار ينهالون علينا ضرباً بالعصا، إذا ما حدثتهم نفوسهم .. إن هذا من حقهم، وإنهم لا يخسررون شيئاً من عزتهم إذا ما دكّوا عظامنا ضرباً .. )). فمن البيّن أن فيكتور هوجو وصف فى هذا الحوار وبكل دقة نفسية العبد الذي يقول (نعم) في كل الظروف، ونشعر كم في هذه الكلمة الإيجابية في لفظها من سلبية في معناها، إذ إن (نعم) هنا تساوي نافية، تلغي قيمة الـ (أنا)؛ أي أنها تنفي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها الديمقراطية في نفس الفرد. ولا يخلو الأدب العربي من هذه النماذج المعبرة عن نفسية العبد، إننا نجدها بالخصوص في كتاب ألف ليلة وليلة، حيث نرى في كل صفحة الأمير يأمر أو يهدد بضرب عنق، والجلاد يقول (نعم) السمع والطاعة يا مولانا. وإننا لنجد صورة أخرى للنافية التي تنفي الشعور الديمقراطي نجدها في صورة المستعبد المستبد، كما يصفه القرآن الكريم لنا في الحوار المشهور الذي دار بين فرعون وموسى حيث يسأل الأول: - {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؟} [طه: 20/ 49]. فيرد الثاني: - {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 20/ 50]. إننا نرى كم يعبِّر هذا السؤال عن نفسيّة الجبار المستبد الذي يريد استعباد الخلق، وكان ينتظر من موسى الاعتراف بمزاعمه في الربوبية، حتى أتى جواب الرسول فأثار غضبه لأنه كان رفضاً لمزاعمه. ولكن المشهد يستمر فيزيد وضوحاً في تصوير المستبد، فنراه يندفع في كبريائه، ويرجئ الرسول إلى يوم الزينة ليكون موعداً له وللسحرة، فيتزايد غضب الطاغية المستبد عندما رأى كيد الشيطان مهزوماً والسحرة سُجَّداً:

{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}. فغضب الطاغية: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه: 20/ 70 - 71]. ليس من الضروري أن نتابع المشهد إلى آخره، فقد أعطانا صورة كافية للاستبداد في شخص فرعون بقدر ما يزداد غضبه على الرسول وعلى السحرة، فالموقف لا يعبر هنا عن (نافية) إزاء الـ (أنا)، بل عن نافية إزاء الآخرين أي أنه ينفي جانباً من الشعور الديمقراطي. ولكن قد نجد أحياناً موقفاً يعبر عن النافيتين معاً. إن تاريخ روسيا القيصرية ترك لنا قصة ذات دلالة في الموضوع إذ نرى أحد القياصرة، وهو فيما أعتقد القيصر إسكندر الأكبر، وقد كان في ضيافته أمير من الغرب، فأراد القيصر أن يبرهن لضيفه عن مقدار سلطانه على رعيته، فأشار بأصبعه إلى جندي كان يقوم بدور حراسة بأحد ممرات الدوريات المشرفة على هاوية سحقية، فبمجرد الإشارة ألقى الجندي بنفسه من ذلك العلو، كأنه آلة تحركت بالضغط على زر ... فهذا المشهد يتضن بكل وضوح موقف العبد وموقف الرجل المستبد، أي نافيتي الشعور الديمقراطي. ويمكن جمع الكثير من هذه النماذج، مثل رئيس الحشاشين؛ حسن السفاح، أو شيخ الجبل كما كان يلقب، فإنه كان أيضاً يتصرف في حياة أتباعه فيقوم أحدهم لمجرد الإشارة ليلقي بنفسه في هاوية معنوية، يلقي فيها ضميره. وعلى كل فإن ما ذكرنا يكفي لتكوين إطار العموميات التي تحيط بالموضوع، وتكون مرجعاً يرجع إليه في هذا السياق.

فالقضية إذن عندما نتحدث عن الديمقراطية في الإسلام منوطة بهذه العموميات وهذا المرجع، أي بالعناصر الثلاثة التي قدمناها على أنها الشروط العامة لوجود الشعور الديمقراطي في أي بيئة. وبالتالي فالسؤال هو: هل الإسلام يتضمن ويتكفل هذه الشروط الذاتية والموضوعية، أي هل يكون نحو (الأنا) ونحو (الآخرين) الشعور الذي يطابق الروح الديمقراطي كما بيَّنا، وهل يخلق الظروف الاجتماعية المناسبة لتنمية هذا الشعور؟ وعلينا من وجهة عملية، وقبل الجواب على السؤال؛ هل يخلق الإسلام الشعور الديمقراطي؟ أن نتساءل: هل يخفف الإسلام حقيقة من كمية ومن حدة الدوافع السلبية، والنزعات النافية للشعور الديمقراطي، التي تطبع سلوك العبد وسلوك المستعبد؟ لا بدّ إذن وفي البداية على الخصوص أن نقدر كل مشروع يهدف إلى تأسيس ديمقراطية، على أنه مشروع تثقيف في نطاق أمة بكاملها، وعلى منهج شامل، يشمل الجانب النفسي، والأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي. فالديمقراطية ليست إذن، كما نفهمها فهماً سطحياً عندما نتناول معناها الدارج، أي في حدود اشتقاق المفردة، ليست مجرد عملية سياسية، عملية تسليم سلطات إلى الجماهير، إلى شعب يصرح بسيادته نص خاص في الدستور. وقد يكون هذا النص نفسه غير موجود في بلد معين إما لأن هذا البلد، لم يوضع في دستوره نظام دستوري، وإما لأن جباراً مستبداً جاء يلغيه، مثل نابليون في فرنسا، ومع ذلك لا تفقد الديمقراطية معناها في هاتين الحالتين، لأن معناها مرتبط بشعور، وبعادات، وتقاليد لا يكونها نص ولا يلغيها جبار. فإنجلترا تتمتع بحياة ديمقراطية ممتازة، دون أن يكون في أساسها نص

دستوري خاص، يحمي الحقوق والحريات التي يتمتع بها فعلاً الشعب الإنجلنري، وإنما تحميها تقاليد الشعب ذاته وعاداته وأوضاعه النفسية، وعرفه الاجتماعي، أي في نهاية التحليل يحميها ما يمكن ان نسميه الروح الإنجليزي بالذات. فليست الديمقراطية إذن في أساسها عملية تسليم سلطات تقع بين طرفين معينين، بين ملك وشعب مثلاً، بل هي تكوين شعور وانْفعالات ومقاييس ذاتية واجتماعية، تشكل مجموعها الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية في ضمير شعب، قبل أن ينص عليها أي دستور، والدستور ما هو غالبا إلا النتيجة الشكلية للمشروع الديمقراطي عندما يصبح واقعاً سياسياً يدلُّ عليه نص توحي به عادات وتقاليد، ويمليه شعور في ظروف معينة، ولا يكون أي معنى لهذا النص إن لم تسبقه التقاليد والعادات التي أوحت به، أو بعبارة أخرى المبررات التاريخية التي دلَّت على ضرورته. ومن هنا تبدو بكل وضوح تفاهة تلك الاستعارات الدستورية التي تستعيرها اليوم بعض الدول الإفريقية الآسيوية الناشئة، التي تريد إنشاء الوضع الجديد في بلادها، بالقياس على المنوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد الديمقراطية العريقة، إن هذه الاستعارة تكون تارة لازمة ولكنها لن تكون بكل تأكيد وحدها كافية، إن لم تصحبها الإجراءات المناسبة لبثّ ما يستعار في نفسية الشعب الذي يستعيره. ومهما يكن في الأمر، فقد تبيَّن من الآن، أن الجواب على السؤال المعروض في هذا البحث؛ هل توجد ديمقراطية في الإسلام؟ لا يتعلق ضرورة بنص فقهي مستنبط من السُّنة والقرآن، بل يتعلق بجوهر الإسلام بصفة عامة وعلى وجه الخصوص، ومن الوجهة التي تهمنا هنا، فإنه لا يسوغ لنا أن نعتبر الإسلام كدستور يعلن سيادة شعب معين، ويصرح بحقوق وحريات هذا الشعب، بل ينبغي أن نعتبره، في سياق حديثنا، كمشروع ديمقراطي تفرزه الممارسة، وترى

من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يكون محيطه، وهو في الطريق نحو تحقيق القيم والمثل الديمقراطية، بحيث ترتبط حركته التاريخية بالمبادئ العامة، التي أقرها الإسلام في صورة بذور غرست في الوعي الإسلامي، وفي صورة شعور عام ودوافع تكون المعادلة الإسلامية في كل فرد من المجتمع. ويجب أن نعتبر هذه الحركة الناشئة والمنشئة في لحظة بدايتها، أي في اللحظة التي تبتدئ تحقق شروط المشروع الديمقراطي الأولية، لأنها الشروط التي تتحقق بمقتضاها كل النتائج الاجتماعية المقبلة لهذا المشروع. غير أننا أوضحنا فيما سبق، أن مرحلة التخلق والنشوء ترتبط بصورة شكلية، بتعبير جديد نطلقه على الإنسان، أي بتقويمه تقويماً جديداً ليصبح (المواطن) في الثورة الفرنسية، أو (الرفيق) في الثورة الروسية وتظهر، طبقاً لهذا التقويم، الاختلافات الأولى بين النماذج الديمقراطية المعروفة في التاريخ، حتى في المصطلح السياسي حيث نصبح نتكلم اليوم على (الديمقراطية الغربية) بأوروبا، و (الديمقراطية الشعبية) في الشرق، و (الديمقراطية الجديدة) في الصين (¬1). فبصورة تزيد أو تنقص وضوحاً، نجد أنفسنا أمام نماذج ديمقراطية يختلف بعضها عن بعض، بمقدار تقويمها الجديد للإنسان بالقيمة التي تعطى له في صورة شكلية، تعبر بصورة رمزية عن بداية أو تدشين المشروع الديمقراطي في البلد، ووضعه في الطريق نحو القيم والمثل الديمقراطية. وهذا التقويم الجديد للإنسان، يطبع من البداية فعالية المشروع وأثره في ¬

_ (¬1) يمكن لتقويم الإنسان هذا أن يخضع لتغيرات غريبة كما تبيّنه لنا هذه الجملة التي يقولها لينن: ((ليس من المهم أن تموت ثلاثة أرباع الإنسانية إذا كان الربع الحي الباقي شيوعياً)) (يذكرها كيسرلنج Keyserling في التحليل الطبقي لأوروبا، ص 329). [ط. ف].

المجال النفسي، بالنسبة إلى الدوافع السلبية التي تقاوم المقومات الديمقراطية في نفس العبد ونفس المستعبد، فهو يكون إذن مقياساً تقاس به الأشياء في هذا السياق، وتميز به النماذج المعروفة في التاريخ، من النموذج الذي حققته أثينة منذ ثلاثة آلاف سنة، إلى النموذج الذي تحققه الصين اليوم. ولكننا عندما نعتبر هذه النماذج، عدا النموذج الإسلامي وبالنسبة إليه، نجد أنها تستهدف في أساسها، إما منح الإنسان بعض الحقوق السياسية التي يتمتع بها (المواطن) في البلاد الغربية، وإما الضمانات الاجتماعية التي يتمتع بها (الرفيق) في البلاد الشرقية. أما الإسلام، فإنه يمنح قيمة تفوق كل قيمة سياسية أو اجتماعية. لأنها القيمة التي يمنحها له الله في القرآن في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 17/ 70]. فهذا التكريم يكون- أكثر من الحقوق أو الضمانات- الشرط الأساسي للتعبير اللازم في نفس الفرد، طبقاً للشعور الديمقراطي سواء بالنسبة للأنا أم بالنسبة للآخرين، والآية التي تنص على هذا التكريم تبدو وكأنها نزلت لتصدير دستور ديمقراطي يمتاز عن كل النماذج الديمقراطية الأخرى، دون أن تعبر عنه نصوص قانونية محددة، فنظرة النموذج الإسلامي إلى الإنسان، هي نظرة إلى التكريم الذي وضعه الله فيه، أي نظرة إلى الجانب اللاهوتي فيه، بينما النماذج الأخرى تمنحه النظرة إلى الجانب الناسوتي والجانب الاجتماعي، فالتقويم الإسلامي يضفي على الإنسان شيئاً من القداسة، ترفع قيمته فوق كل قيمة تعطيها له النماذج المدنية. والفرق ليس في المفردات ولكن في معناها، في واقع الأشياء بالنسبة إلى شعور الإنسان نحو نفسه ونحو الآخرين. فالإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشعر بوزن هذا

التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأن الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه. ثم إن الإسلام الذي وضع في نفسية المسلم هذا التوجيه العام، قد وضع عن طريقه- يميناً وشمالاً- حاجزين، كي لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد. وهذان الحاجزان مذكوران بالإشارة في آيتين، تذكر الواحدة الهاوية ذات اليمين والأخرى تذكر الهاوية ذات الشمال، فيقول عزّ وجلّ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:28/ 83]. فهذا الحاجز وضع بكل وضوح على حافة الاستعباد، حتى لا يقع فيه المسلم، أما الحاجز الآخر الذي يحفظه من هاوية العبودية، فهو مذكور في قوله عز وحلّ: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 4/ 96 - 98]. ومجمل القول، إن المسلم محفوظ من النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، الموجودة أو المدسوسة في طينة البشر، بما وضع الله في نفسه من تكريم مقدس، وما جعل عن يمينه وشماله من معالم، ترشد طريقه حتى لا يقع في وحل العبودية أو وحل الاستعباد. ومما يدعم شعوره بهذا التكريم العام الذي منحه كإنسان، فإنه يشعر بتكريم خاص قد منحه كمؤمن في قوله عزّ وجلّ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 63/ 8].

وهذه العزهّ الموهوبة للمؤمن لا تعرضه للكبرياء، لأنها لا تعني المجد التالف المتصل بالأشياء المادية، بل هي العزة في سموّ الأخلاق، وعلوّ الهمة. وهكذا نرى أن الدوافع السلبية التي من شأنها أن تدفع المسلم إلى الهاوية، من ناحية أم من أخرى، يسيطر عليها الشعور الإيجابي الذي وضعت في نفسه بذوره بصفته مسلم. وعليه فإن (الديمقراطية) مغروسة أولاً في ضمير المسلم، مع التقويم الجديد الذي حدّد في نظره قيمته وقيمة الآخرين. ولا شك أن عبارة (الديمقراطية الجديدة) في الصين الشعبية، تعني أولاً هذا التقويم الجديد للإنسان، قبل أن تعني قوانين جديدة ومصانع جديدة وطرقاً جديدة .. فهي تهم (أولاً عالم الأشخاص قبل أن تهمّ عالم الأشياء). وإذا أردنا أن نعرف شيئاً هو الديمقراطية الإسلامية، فإن هذا الشيء يعني أولاً (تطعيم) الإنسان، وتحصينه ضدّ النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، وتصفية هذه النزعات في نفسه. أما الديمقراطية العلمانية أو اللائكية، فإنها تمنح الإنسان أولاً الحقوق والضمانات الاجتماعية، ولكنها تتركه عرضة لأمرين فهو إما أن يكون ضحية مؤامراتٍ لمنافع معينة، ولتكتلات مصالح خاصة ضخمة؛ وإما لأن يجعل الآخرين تحت ثقل دكتاتورية طبقية، لأنها لم تصف في نفسه دوافع العبودية والاستعباد، لأن كل تغيير حقيقي في المجتمع لا يتصور دون تغيير ملائم في النفوس. طبقاً للقانون الأعلى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 13/ 11]. وهكذا تظهر بوضوح أكثر، العلاقة العضوية بين الإسلام والديمقراطية؛

العلاقة التي لم يكن من السهل توضيحها في صدر هذا الحديث، عندما كنا نحاول تحديد وجه التشبيه والمقارنة بكلمة ديمقراطية مأخوذة في معناها الاشتقاقي، أي باعتبار المشروع الديمقراطي على أنه مجرد مشروع تسليم سلطات إلى الشعب بمقتضى نصوص دستورية معينة. وهكذا يظهر أيضاً بوضوح أكثر، الخطأ الذي نقع فيه عندما نستعير من بلاد معينة دستوراً ديمقراطياً جاهزاً، لأننا في مثل هذه الحالة لا ننقل مع النصوص الدستورية المستعارة كل الأُسس النفسية، والتجربة التاريخية التي أملت هذه النصوص في بلاد مولدها، كأنما نقوم بمشروع ديمقراطي على غير أساس في صميم الواقع. إن هذه الملاحظات تتيح لنا، منذ الآن، التقرير بشرعية الحديث عن (الديمقراطية في الإسلام) كما وردت عبارتها في عنوان هذا الحديث. ولكن يجب أن نتساءل، كيف تتحقق هذه الديمقراطية المؤسسة بالصورة التي بيَّناها في عالم النفس المتصل بالضمير والشعور، كيف تتحقق في عالم الواقع المحسوس، في الأعمال الخاصة والعامة، في نطاق الأفراد والحكومات، وفي حياة النظم والمنظمات؟ وبالخصوص يجب أن نتساءل، هل تكفل هذه الديمقراطية ما تكفله الديمقراطية اللائكية للفرد من حقوق وحريات سياسية، ومن ضمانات اجتماعية؟ هذا هو الجانب الآخر، الجانب الموضوعي، وقد يلاحظ أن مبررات هذا الفصل، يجب أن تكون مستقاةً من واقع المسلمين اليوم، لا من نصوص دينهم. ولكن ليس لهذه الملاحظة إلا قيمةً شكليةً، لأننا عندما ندرس ديمقراطية أثينا، على وجه المثال، فإننا لا نبحث عن مبرراتها في واقع الشعب اليوناني

اليوم، دون أن يعني هذا، أن الجيل اليوناني المعاصر قد فقد القيم التي تميزت بها الديمقراطية في عصر أفلاطون. فلا حرج إذن في اعتبار الديمقراطية في الإسلام، لا في الزمن الذي تحجرت فيه التقاليد الإسلامية وفقدت فيه إشعاعها، كما هو شأنها اليوم بصورة عامة. ولكن في زمن تخلقها ونموها في المجتمع. فمما يتعارف عليه الناس ويؤكده التاريخ، فإن التقاليد الإسلامية نشأت في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الخلفاء الراشدين. فإذا اتفقنا على وجهة النظر هذه؛ وهي وجهة نظر فقهاء الإسلام، فالمشروع الديمقراطي الذي وضعه الإسلام، قد أخذ طريقه للتحقيق نحو الأربعين سنة تقريباً. ففي هذه المدة، وضعت كل الأصول النفسية التي تقدم ذكرها تكملها وتدعمها مقدمات جديدة، لتكون الأساس المعنوي للديمقراطية الإسلامية. فإحدى هذه المقدِّمات يجب ذكرها بالخصوص، لأنها تكمل تقويم الإنسان في نقطة رئيسية تتصل بالعبد في المجتمع الإسلامي. إننا نعلم، أن ديمقراطية أثينا لم تعطِ أي أهمية لهذه القضية؛ قضية الرقيق، إلا من الوجهة الانتفاعية حيث كان الرقيق من مقومات النظام الاقتصادي، حتى إن أحداً لم يفكر في إطار هذا النظام في وضع مبدأ لتحرير الرقيق فيكتمل بذلك تقويم الإنسان فيه. بينما يأتي الإسلام فيقرر هذا المبدأ بكل وضوح: فيشمل بذلك تقويمه الإنسان الذي وقع في قيد الرق، بمقدمات أو أصول فقهية نجدها في القرآن وفي السُّنة، وتكون في الواقع تشريعاً لعتق الرقيق بصورة تدريجية.

ومن بين هذه المقدمات التي يمكن ذكرها، قوله عزّ وجلّ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ... } [البلد: 90/ 10 - 13]. فهذا التقريع للإنسان الحرّ كأنما يهدف إلى وضع قضية الرقيق في ضميره، كي تأخذ هكذا طريقها إلى الحلّ، أي طريق التحرير التدريجي. وهذا التوجيه العام يظهر في آيات أخرى، كالآية التي تحدد موضوع الصدقات حيث يقول عز وجلّ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ... } [التوبة: 9/ 60]. كما يظهر أيضاً في الأحاديث مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النّار». وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه». وفي حديث آخر حيث يوصي - صلى الله عليه وسلم - بشأن الرقيق: «إنهم إخوانم وضعهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون». وفي حديث يقول فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق، حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم». فهذه النصوص كلها تكمل، من نواح مختلفة، التقويم الأساسي للإنسان، التقويم الذي يقوم عليه- كما قدمنا- المشروع الديمقراطي، تكميلاً يجعل هذا المشروع يضم في خطوطه العامة مصير الرقيق إلى مصير الإنسان الحر، وبحيث يضيف الرقيق إلى عالم الآخرين، أي عالم الأشخاص بعد أن كان من عالم الأشياء، وذلك لأول مرة في التاريخ.

ثم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام، هذه التوجيهات كلها في حجة الوداع، في خطبته بهذه المناسبة، وهي الخطبة التي وضعت فيها ظروف هذه الحجة وملابسات التاريخ معنى الوصية الروحية التي خلفها الرسول لمن يأتي بعده من أجيال المسلمين. ومعنى التصريح بحقوق الإنسان حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «يا أيّها الناس إن ربّكم واحد. وإن أباكم واحد. كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر، فضلٌ إلا بالتقوى ... ». فهذا الحديث يكمل في مناسبة يملؤها الجلال والتأثير، فلسفة ومنهج الإنسان في المشروع الديمقراطي الإسلامي. ولكن إذا كانت لهذا المشروع هذه الأسس النظرية، فلا بد أن يكون له من ناحية أخرى، آثاره الملموسة في صيم الواقع: في الأعمال الفردية والحقوق والضمانات التي يتمتع بها الفرد، وفي الأعمال الصادرة من الحكم وفي امتيازاته، وحدود سلطته، وفي كيفية تكوينه أو صورة شرعيته، أي في جميع الصفات الظاهرة للديمقراطية. ولا شك أن لهذه الآثار وضوحاً أكثر، في فترة التخلق الدستوري، التي تصب خلالها النصوص النظرية في الحقائق الاجتماعية، في أعمال وسلوك الجيل الذي وضع المشروع الديمقراطي الإسلامي في طريق التحقيق، من اليوم الذي أشرقت فيه الهداية المحمدية إلى يوم صفين. وتأثير المبادئ في هذا المجتمع الناشئ يظهر أكثر ما يظهر في الجانب المحسوس، كما تظهر حدودها المتصلة بهذا الجانب في واقع الحياة الاجتماعية.

فمدى تأثير المبادئ يظهر فعلاً مع حدودها في واقع الحياة، في الفترة المطابقة لطور التخلق والتكو ين الديمقراطي. وإذا راجعنا هذا الطور، سنجد عدة مبادئ نظرية مع حدودها في التطبيق، كالمبدأ الذي يؤسس الحكم الإسلامي على طاعة المحكومين لأولي الأمر، كما ورد في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. } [النساء: 4/ 59]. فهذا المبدأ يقرر، طبقاً للنص، امتيازات الحكم. ولكن في اليوم ذاته، الذي يستم فيه عمر رضي الله تعالى عنه مقاليد هذا الحكم نراه يبيّن هو نفسه الحدود، الواقعية للمبدأ النظري، إذ يبيّن للمؤمنين الذين بايعوه، أي عاهدوه على الطاعة، حدود هذه الطاعة في خطبته المشهورة: (( .. من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومني .. )). فنرى هكذا، كيف تتصور فكرة الحكم، في ضمير حاكم في اللحظة البارزة من التاريخ الإسلامي، التي يستلم فيها مقاليد الديمقراطية الإسلامية. ولكن هذه اللحظة تعطينا أيضاً صورة لفكرة الطاعة في ضمير محكوم، إذ نرى أعرابياً يرد على الخليفة فيقول: ((والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بسيوفنا)). إننا نرى الطاعة والحكم محدودين بالاعتبارات نفسها في ضمير المواطن البسيط وضمير رجل الدولة. وهكذا تبرز في صميم الواقع الذي سجّله التاريخ، فكرة الحاجزين اللذين وضعهما الإسلام على يمين وشمال المسلم، في طريقه نحو تحقيق الديمقراطية

الإسلامية، كما بيَّنا، حتى أنه في مقابل الشعار الذي رفعته الثورة الفرنسية (لا نريد ربّاً ولا سيّداً)، يمكنه أن يعلن شعار الثورة الإسلامية (لا نريد عبودية ولا استعباداً). وكذلك تبرز في هذه الفترة الخلاقة المبادئ لتي تحمي الحريات المعنوية، فحرية الضير تبرز في هذه الآية: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 2/ 256]. أما حرية العمل والتنقل، فإنها مقررة في قوله عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ .. } [الملك: 67/ 15]. أما حرية التعبير، فإنها دخلت في العرف منذ الأيام الأولى من العهد الإسلامي، فالنَّبي عليه الصلاة والسلام كان يعود أصحابه على مناقشة آرائه وتقاريره، ففي يوم بدر، نراه - صلى الله عليه وسلم - يحدد ميدان المعركة في المكان الذي ظهر له الأنسب لذلك، ولكن أحد أصحابه من الأنصار اقترح مكاناً غيره، قد ظهر له أصلح بالنسبة إلى الحاجة الحربية، وتقول السُّنة التي تروي لنا هذا الخبر، أن النَّبي عليه الصلاة والسلام قد عدل رأيه طبقاً لوجهة نظر صاحبه، وقد شرع هكذا سنة نجد أثرها البليغ في توجيه الرأي الإسلامي فيها بعد، كما نرى ذلك في قضية تحديد الصداق مثلاً، عندما أراد عمر في أيامه أن يضع حدّاً أعلى لتقدير المهور، حتى يتيسر الزواج لكل مسلم، فأبدى رأيه في الموضوع على المنبر، ولكن امرأة عجوز خالفته في الرأي مستشهدة بآية تترك تحديد الصداق إلى تقدير الزوجين أنفسهم، وما كان موقف الخليفة إلا أن قال: ((أصابت امرأة وأخطأ عمر)). وكذلك يقرر القرآن مبدأ حصانة المنزل، في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 24/ 27]. ولكن هذا التوجيه العام، الذي يقرر ويحمي الحريات الفردية في كل اتجاه، يضع في الوقت نفسه الحدود اللازمة لهذه الحريات في حديث مشهور، إذ يقول عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري: «مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً». فهذا الحدّ الموضوع لكل حريةٍ فرديةٍ في ظروفٍ معينة، يكون أساساً مهمّاً في التشريع الإسلامي، حيث تقدم فيها مصلحة المجتمع على مصلحة الأفراد. ولكن العمل يجري على أساس التخفيف الأدبي والمادي من حدة الاستثناء المسلط على حريات الفرد في مثل هذه الظروف. ومما يحكي بهذا الصدد: ((أن امرأةً يهوديةً أرادت أن تحتفظ بملك لها يقع داخل الحدود التي عيّنها التخطيط لبناء مسجد عمر في بيت المقدس، فأراد القائم بالمشروع تنفيذ المخطط دون التفات إلى وجهة نظر المدعية، على اعتبار أسبقية المصلحة العامة، ولكن المدعية رفعت قضيتها إلى الخليفة الذي أوفاها رغبتها)) .. وربما كانت وجهة نظره مقررة على أساس أن بناء مسجد لا يكون مصلحة عامة بالنسبة إلى يهودية. وهذه المعاملة في القضاء الإسلامي، تدخل أولاً في نطاق التقويم العام للإنسان، بصفته إنساناً وضع في طينته التكريم، بقطع النظر عن كونه رجلاً أو امرأةً، مسلماً أو يهودياً، ثم يحددها ما ورد في نطاق القضاء، في قوله عز وجل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 4/ 58].

ولا ريب أن آثار المبادئ الظاهرة بكل وضوح في الأعمال والمواقف، تظهر خلال الفترة التي يدخل فيها المشروع الديمقراطي الإسلامي في قيد التحقيق. فإذا وجدنا في الآية السابقة النص النظري الذي تقوم عليه عدالة القضاء الإسلامي، فإننا نجد في وثيقة أخرى الصورة الواقعية لهذه العدالة، فهذه الوثيقة التاريخية التي من شأن القضاء الإسلامي أن يعتزّ بها، هي وصية عمر رضي الله عنه للقاضي أبي موسى الأشعري، الذي كان بمثابة النائب العام للجمهورية في أيامنا، إذ يقول له: ((آسِ- أو ساو- بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك)). إن هذه الوصية لم تبق رسالة مهملة، بل كان أثرها بليغاً في الواقع. كما تدلُّ على ذلك الأمثال الكثيرة في عهد التخلق الديمقراطي الإسلامي. وهذه التفاصيل كلها، تكون في الحقيقة السمات العامة لا يسمى ديمقراطية سياسية، أي سمات النظام الذي يمنح الفرد الضمانات اللازمة ضدّ كل تعدّ من جانب الحكم. والإسلام نظام من هذا النوع حتى في الصورة الشكلية، التي يتكون عليها الحكم الإسلامي، حيث إن رئيس الدولة يستلم سلطاته بمقتضى مبايعة الأمة- أو الشعب كما نقول اليوم- ممثلةً في بعض الرجال البارزين خلقاً وعقلاً، يمثلون هيئة على نمط مجلس شيوخ، يعينون الخليفة بالمبايعة طبقاً لمبدأ الشورى الذي يقرره القرآن بصورة خاصة، عندما يوصي النّبي - صلى الله عليه وسلم - {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 3/ 159]. أو بصورة عامة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 42/ 38]. فعلى هذه الاعتبارات، يصح القول بأن الحكم الإسلامي ديمقراطي في مصدره وفي عمله، كما قدمنا. والإسلام يتضن كل السمات التي تطبع الديمقراطية

السياسية، التي تمنح الفرد مسؤولية في تأسيس الحكم والضمانات اللازمة التي تحميه من جور هذا الحكم. ولكن التجربة التي تجري للديمقراطية السياسية في العالم منذ عهد الثورة الفرنسية، تدلُّ على ضعف حريات الفرد، في الواقع، عندما لا تحميه في الوقت نفسه الضمانات الاجتماعية التي تكفل حريته المادية. ولقد رأينا في البلاد المتطورة، كيف يصبح (المواطن الحر) عبداً مجهولاً لمصالح كبيرة تتحد ضده، وكم تضيع عليه بهذا السبب المنافع المنتظرة التي يمنحها إياه، بصورة نظرية، تصريح بحقوق الإنسان ودستور لا يكون لهما أثر ظاهر في حياته. كما رأينا، كيف أن البلاد التي يحدث فيها هذا الاختلاف بين القيم السياسية والقيم الاجتماعية، تعاني صراع الطبقات الذي ربما ينتهي إلى تأسيس نوع من الديمقراطية، يعطي (المواطن) الضمانات الاجتماعية اللازمة. ولكن على حساب حرياته السياسية. ولكن الإسلام تلافى هذا المعوق، لأنه أتى لمشكلات الحياة المادية المتصلة بالنظام الاقتصادي، بالحلول المناسبة، دون أن يمسّ الفرد في حرياته الذاتية. وعليه، فالإسلام يبدو وكأنه جمع موفق بين مزايا الدطقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. فالتشريع الإسلامي يتمم فعلاً السمات السياسية التي قدمناها، بسمات ديمقراطية أخرى، متصلة بالجانب الاقتصادي. فالمشروع الديمقراطي، في المجال الاقتصادي، يقوم على مبادئ عامة، تهدف إلى توزيع الثروة حتى لا تصبح دُولة بين أيدي بعض المترفين.

فعندما يقرر القرآن الزكاة، فإنه يضع أساس تشريع اجتماعي عام، قبل أن تدرج في العالم الأفكار الاجتماعية التي ألفناها فيه اليوم. فعندما يصف الرسول ضرورة هذا المبدأ، فإنه يصفه بمبررات تزعم الاشتراكية أنها تنفرد بها اليوم، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله اقتطع من أموال المسلمين الأغنياء نصيباً هو نصيب الفقراء، لأن الفقراء، لا يجوعون ولا يعرون إلا بسبب الأغنياء)). وهذا المبدأ، كالمبادئ التي يقررها القرآن والسُّنة، لا تحققه أعمال الأفراد فحسب- حيث أن كل مسلم يحاول القيام بهذا الواجب حتى في أيامنا- بل أعمال الحكم أيضاً، وآثاره المرئية تظهر في التوجيهات الحكومية في عهد التخلق الديمقراطي وفي السيرة، حيث نجد هذه الآثار واضحة؛ فعمر رضي الله تعالى عنه سمع مولوداً يبكي، وقد علم أنه يبكي لأن أمه قد فطمته، لتحصل على منحة يدفعها بيت المال للأمهات اللواتي فطمن أولادهن، فأذاع الخليفة في المدينة لائحةً خاصةً بالأمهات المرضعات، يقول لهن: ((ألا لا تعجلوا صبيانكم على الفطام فإنا نفرض لكل مولودٍ في الإسلام)). فهذه اللائحة تعطينا فكرة عن تنظيم الحضانة الرسمية للأطفال، هذه الحضانة التي لم تتحقق بهذه الصورة حتى اليوم في أوروبا، إذ أن مثل هذه المنح عندما تدفعها حكومة أوروبية، فإنها لا تكون باسم الطفل مباشرة، كالمنحة التي يقدمها بيت المال في زمان عمر، وإنما تقدمها باسم (منحة الأمومة)، فالنتيجة واحدة لا شك، ولكن بين الطريقتين شيء من الاختلاف يميز الطريقة الإسلامية في العهد الديمقراطي. ولا شك أننا نعجب بهذا المثل، لا يبدو فيه لرجل الدولة مثل عمر من سمو الضمير، ومن اهتمام بواجباته نحو الجمهور، ولكن في مناسبة أخرى نرى أن الجمهور

نفسه يشعر بحقوقه، كما يتبين من خلال قصة المرأة المسكينة التي أبدت استياءها من الفقر، راميةً عمر بأسبابه، حتى تتهمه دون أن تدري أنها تتحدث معه، بالإهمال في شؤون الأمة. إننا في الواقع لسنا أمام ضمير خليفة في حالة، وضمير امرأة مسكينة في حالة أخرى، بل نشعر بأننا أمام الضمير الديمقراطي الذي صاغه الإسلام. وأن ما يتحرك في هذا الضمير أو ذاك، إنما هو الشعور بالقيمة الأساسية التي قدر بها الإنسان، ووضعت في ضمير المسلم كأساس لكل البناء الإسلامي، في الجانب الأخلاقي والسياسي والاجتماعي. ثم يقرر الإسلام مبدأ آخر يضعه كأساس لبناء الاقتصاد؛ وهو مبدأ تحريم الرِّبا. فكان لهذا التحريم الأثر الكبير في تحديد صورة الاقتصاد الإسلامي، بحيث أضفى عليه من اللحظة الأولى الطابع الديمقراطي، لأنه لم يسمح بالتجارة في المال والنقود التي تقوم على مبدأ الرِّبا، وتحتكرها بعض البنوك. وبذلك لم يتح للمال أن يحقق لطبقة معينة أو لبعض الأفراد، السلطة المطلقة على الحياة الاقتصادية، كما يحدث في النظام الرأسمالي. إذ يتيح الرِّبا السلطة التامة للاحتكار على التجارة، وللتكتل المالي على الصناعة بواسطة البنك الذي يحقق تركيز رأس المال، أي سلطة المال إلى أكبر درجة ممكنة، بالنسبة إلى إمكانيات عصر معين. فالتشريع الإسلامي، أعفى الاقتصاد من سلطة الدرهم المطلقة، تلك السلطة التي أحدثت في البلاد المتطورة أزمات اجتماعية تواجهها أحياناً بالثورات العنيفة. وربما يجب القول، بأن هذا التشريع لم يخفف من حدّة الدرهم في مجال الاقتصاد فحسب، بل خفف من حدته في المجال الروحي إذا صحَّ التعبير، حتى

إنه يعفي المجتمع من الأزمة الأخلاقية .. المتفشية اليوم في الحياة التي تستضيء بأضواء الحضارة الغربية .. فالإسلام لم يقاوم فقط الاحتكار الكبير الذي يقلل كمية المنتجات حتى ترتفع أسعارها في السوق، بل يقاوم كل احتكار يؤدي على أي طريقة إلى ارتفاع الأسعار. إن كل وسيط بين المنتج والمستهلك يخفي صورة الاحتكار الذي يكون المستهلك ضحيته، فالوسيط ضرب من الطفيلية في مجال الاقتصاد. ولكن التشريع الإسلامي يدين كل ضرب من الطفيلية، يدل على ذلك الحديث المروي عن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه، حيث يقول: ((نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التلقي، وأن يبيع حاضرٌ لبادٍ)). فهذا الحديث يفيد، بروحه إن لم يكن بحرفه، استنكار الاحتكار حتى في صورته المصغرة، حيث أن البادي لو باع بضاعته بنفسه، لباعها بسعر اليوم، أما الحاضر فإنه يمكنه إرجاء البيع إلى ما بعد، لأنه من سكان المدينة، وفي إمكانه عرض البضاعة في السوق في الوقت المناسب، أي في الوقت المناسب له على حساب المستهلك. فالإسلام يدين هذه الطفيلية؛ ولا يسمح كذلك ببيع المأكولات التي ليست بعد في حوزة البائع، كما يدلُّ على ذلك الحديث المروي عن أنس بن مالك، إذ يقول: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهر أي تحمر، فقال: ((أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟)). فهذه العناصر التشريعية التي تكون الجانب الاجتماعي في الديمقراطية الإسلامية، قد كان لها أثرها الظاهر في الواقع المحسوس الخاص بالمجتمع الإسلامي، وقد أثرت على نموه المادي، طبقاً للهدف المزدوج الذي استهدفه الشرع، حتى

لا يقع المسلم في وضع العبد الذي تستعبده الأوضاع الاقتصادية، أو أن يصبح الرجل المستبد وبيده صولجان الذهب. وهكذا يتبيَّن، أن المبادئ التي قررها الإسلام في المجال السياسي والمجال الاجتماعي، ووضعها في أساس ما يمكن أن نطلق عليه (الديمقراطية الإسلامية)، قد تحققت فعلاً في واقع المسلمين. وقد كان أثرها حقيقياً في سلوك الأفراد وفي أعمال الحكم، على الأقل في فترة التخلق الديمقراطي التي عرفنا فيما سبق حدودها الزمنية في التاريخ الإسلامي. ولا شك أن التقويم الأساسي للإنسان الذي قام عليه المشروع الديمقراطي في الإسلام، هو السبب الجوهري في هذا التحويل الذي حول المبادئ النظرية إلى حقائق اجتماعية ملموسة. فقبل أن يذيع عمر اللائحة الخاصة بالأمهات المرضعات التي أشرنا إليها، أي قبل أن يصدر الحاكم أمره فقد كان الإنسان الذي يعود إلى نفسه في لحظة يراجع فيها ضميره فترتفع منه تلك الصرخة المثيرة التي سجلها التاريخ في آثار ابن الخطاب إذ صرخ ((يا بؤساً لعمر كم قتل من أولاد المسلمين)) (¬1). فلكي نعطي هذا الفصل قيمته، يجب ألا نتصور اطراده في الزمان، حيث يبدو أن العامل الحكومي قد سبق، بإصدار اللائحة التي أشرنا إليها، العامل الأخلاقي بل أن نتصوره أولاً في الضمير الذي كان يحتوي صرخة عمر قبل أن يصدر أمره الحكومي، الذي يسجل في النظام الإداري في صورة لائحة، الأثر الظاهر لنظام خلقي تحويه نفسه. ¬

_ (¬1) من أراد أن يطلع على هذه القصة بأكملها يجدها في طبقات ابن سعد، الجزء 3 قسم واحد [ص:217]، ونغتنم هنا الفرصة للتعبير عن شكرنا للأستاذ الكبير محمود شاكر الذي دلنا على هذا النص كما دلنا على نصوص الأحاديث الواردة هنا.

فهذا الاطراد هو في الواقع اطراد للشعور الأساسي نحو الـ (أنا) ونحو الآخرين، الشعور الذي وضعت بذوره في الضمير الإسلامي في صورة تقويم جديد للإنسان كما بيَّنا. فالطفل الذي لا زال في ثدي أمه، ليس في نظر عمر، سوى الرجل المحرد أو (المواطن) المتوقع، فالخليفة لا يرى فيه مجرد إنسانيته أو مجرد حضور المجتمع في شخصه، بل يرى فيه أكثر من ذلك، يرى فيه حضور القيمة التي لا تقدر، والتي وضعها الله في جوهره قبل أن يولد في هذا العالم، وقدرها عزّ وجلّ يوم كرم آدم. يجب أن نعترف، بأن الشيء الذي يمكن التعبير عنه، بمصطلح اليوم بالروح الديمقراطي الإسلامي، إنما يحمل في جوهره سمة القداسة، والتاريخ قد يبين تأثير المبادئ عندما يضفى عليها شيء من القداسة. ولقد لاحظ القارئ لا شك، أن الأمثال التي أوردناها هنا قد انتقيناها من الفترة التاريخية التي بيَّنا حدودها الزمنية بين الهجرة وصفين. وربما تساءلنا عما حدث بعد صفين؟ وهل التفاصيل التي قدمناها ترتبط بصورة ما بواقع المسلمين اليوم؟ فهذان السؤالان ليسا في نطاق هذا الحديث، الذي يقتصر فقط على وصف الطابع الخاص بالعهد الديمقراطي الإسلامي، أي بالفترة التي تنتهي مع الخلفاء الراشدين، مع واقعة صفين، التي تمثل نقطة التحول في تاريخ العالم الإسلامي، والفاصل الذي منع المشروع الديمقراطي الإسلامي من أن يواصل سيره في التاريخ. ولكن هذا التحول لم يمح آثار هذا المشروع في النظام الإسلامي، لقد دامت

ظاهرة فيه فترة طويلة، حيث نجدها حتى بعد صفين في سلوك الأفراد وفي أعمال الحكم أحياناً. لا شك أن عهد معاوية مثلاً كان، من الوجهة التي تهمنا هنا، عهد تقهقر الروح الديمقراطي الإسلامي. ولكن إذا لاحظنا أن الطاغية المستبد قد ظهر من جديد في شخص الحاكم، يجب أن نلاحظ أن العبد لم يظهر بعد في شخص المحكوم ما دام متمسكاً بالروح الإسلامي، كما يدل على ذلك تفاصيل كثيرة خاصة بتلك الفترة، كالحوار الغريب الذي نشأ بين أبي ذرٍّ الغفاري ومعاوية، عندما كان هذا الأخير قائماً ببناء قصر الخضراء بدمشق، فكان الصحابي المشهور يؤنب الخليفة تأنيباً شديداً، فيقول له بهذه المناسبة: ((فإما أنك تبني هذا القصر بأموال المسلمين من دون حق لك فيها، وإما أن تبنيه من مالك وهو تبذير)) (¬1) فهذه الرقابة التي يفرضها الضمير الإسلامي على أعمال الحكم قد استمر أثرها في التاريخ الإسلامي، حتى بعد التقهقر الذي أشرنا إليه، ويمكن تفسير أحداث كبرى في التاريخ الإسلامي كظهور المرابطين والموحدين في الشمال الأفريقي، على أنها الصدى لاحتجاج الضمير الإسلامي ضد الاستبداد. ويمكن القول أن هذا الصدى لم ينقطع من الأحداث التي عبرت بصورة أم بأخرى عن استمرار الروح الديمقراطي الإسلامي عبر التاريخ قروناً طويلةً، حتى حدث فاصل آخر لا يمكن تحديد تاريخه بالضبط، ولكنه بلا ريب يتفق مع نهاية الحضارة الإسلامية. أي عندما ينتهي الإشعاع، الذي كونه التقويم الأساسي للإنسان، إذ بعدما انتهى أثره في أعمال الحكومة أي في السياسة، قد انتهى أيضاً في سلوك الأفراد أي في الأخلاق. ¬

_ (¬1) أوردنا هذا القول بمعناه لا بلفظه.

فإشعاع الروح الديمقراطية الذي بثه الإسلام، ينتهي أيضاً في العالم الإسلامي عندما يفقد أساسه في نفسية الفرد، أي عندما يفقد الفرد شعوره بقيمته وبقيمة الآخرين. ويجب أن نلاحظ أن الحضارة الإسلامية انتهت منذ الحين الذي فقدت في أساسها قيمة الإنسان. وليس من التطرف في شيء القول بصفة عامة أن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان. لعله يمكن أن نستخلص من هذه الاعتبارات رأياً، فيما يخص مستقبل الديمقراطية في البلاد الإسلامية، فهذه البلاد تمر قطعاً بحالة إرهاصٍ تبشر بنهضة الروح الديمقراطية في هذه البلاد، حيث تجري تجارب ديمقراطية ملحوظة. ولكن هذه المحاولات لا تنجح إلا بقدر ما تضع في ضمير المسلم تقويماً جديداً للإنسان، أي بقدر ما تضع في ضميره قيمته وقيمة الآخرين حتى لا يقع في هاوية العبودية أو هاوية الاستعباد.

إنتاج المستشرقين

5 - إِنْتَاجُ الْمُسْتَشْرِقِينَ وَأَثَرُهُ فِي الْفِكْرِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَدِيثِ ــــــــــــــــــــــــــ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يجب أولاً أن نحدِّد المصطلح: إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الاسلامية. ثم علينا أن نصنف أسماءهم في شبه ما يسمى ((طبقات)) على صنفين: أ - من حيث الزمن: طبقة القدماء مثل جربر دوريياك والقديس توماس الأكويني، وطبقة المحدثين، مثل كاره دوفو وجولدتسهير. ب - من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتابتهم: فهناك طبقة المادحين للحضارة الإسلامية وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها. هكذا، وعلى الترتيب يجب أن تقوم كل دراسة شاملة لموضوع الاستشراق، إلا أننا، من الوجهة الاجتماعية الخاصة التي تهمنا في هذا البحث وفي النطاق الضيق المحدد لهذه السطور، نختار عن قصد فصلاً خاصاً، اختياراً تبرره مبررات إلغائنا للفصول الأخرى. إنه لمن الواضح أن المستشرقين القدماء أثروا وربما لا يزالون يؤثرون على مجرى الأفكار في العالم الغربي دون أيما تأثير على أفكارنا، نحن معشر المسلمين، إن ما كتبوا كان قطعاً المحور الذي تحركت حوله الأفكار التي نشأت عنها حركة النهضة في أوروبا، بينما لا نرى لهم أي تأثير فيما نسميه النهضة الإسلامية اليوم. فلنترك إذن قضيتهم جانباً لمن تهمه دراسة التاريخ العام، كما نترك أيضاً قضية المنتقدين للحضارة الإسلامية المحدثين، حتى ولو كان لهم بعض الأثر في تحريك

أقلامنا، أو كان لهم بعض الصيت في زمنهم وبلادهم مثل (الأب لامانس)، إنهم لا يدخلون في موضوع بحثنا لأن إنتاجهم، على فرض أنه مسّ ثقافتنا إلى حد ما، إلا أنه لم يحرك ولم يوجّه بصورة شاملة مجموعة أفكارنا، لما كان في نفوسنا من استعداد لمواجهة أثره تلقائياً، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي، كما وقع ذلك في العهد الذي نشر فيه طه حسين كتابه (في الشعر الجاهلي)، على غرار ما تقتضيه مسلمة قدمها المستشرق مرجليوث قبل سنة من صدور كتاب طه حسين، الذي أثار تلك الزوبعة من السخط، التي تخللتها الصواعق المنطلقة من قلم مصطفى صادق الرافعي رحمه ّالله وأكرم مثواه. ولكننا على عكس ذلك، نجد للمستشرقين المادحين الأثر الملموس، الذي يمكننا تصوّره بقدر ما ندرك أنه لم يجد في نفوسنا أي استعداد لردّ الفعل، حيث لم يكن هناك، في بادئ الأمر، مبرر للدفاع الذي فقد جدواه وكأنما أصبح جهازه معطلاً لهذا السبب في نفوسنا. وموضوعنا هنا، هو أن نبيّن ما كان لهذه الثغرة في جهازنا للدفاع عن الكيان الثقافي، من أثر في تطور أفكار المجتمع الإسلامي منذ قرن، وأثناء هذا القرن العشرين على وجه الخصوص. ولا شك أن المستشرقين المادحين، مثل رينو الذي ترجم جغرافية أبي الفداء، في أواسط القرن الماضي، ومثل دوزي الذي بعث قلمه قرون الأنوار العربية في إسبانيا، ومثل سيدييو الذي جاهد جهاد الأبطال طول حياته، من أجل أن يحقق للفلكي والمهندس العربي أبي الوفاء لقب المكتشف لما يسمى في علم الهيأة (القاعدة الثانية لحركة القمر)، ومثل آسين بلاثيوس، الذي كشف عن المصادر العربية للكوميدية الإلهية، لا شك، أن هؤلاء العلماء كتبوا لنصرة الحقيقة العلمية، وللتاريخ، وكل ذلك من أجل مجتعهم الغربي.

ولكننا نجد، أن أفكارهم كان لها وقع أكبر في المجتمع الإسلامي، في طبقاته المثقفة. إن الجيل المسلم الذي أنتسب إليه، يدين إلى هؤلاء المستشرقين الغربيين بالوسيلة، التي كانت بين يديه لمواجهة مركب النقص، الذي اعترى الضمير الإسلامي أمام ظاهرة الحضارة الغربية. ولكننا إذا تصفحنا هذه القضية في ضوء خبرتنا الحديثة، وفي ضوء تجاربنا القريبة، نجد أن هذه الوسيلة، لم تقتصر نتائجها على الأثر المحمود في تطور أفكارنا وثقافتنا، بل كان لها أثر مرضي، هو الذي نريد طرحه كموضوع البحث في هذه السطور. فلكي نتصور هذا الأثر على صورته الحقيقية في مجتمعنا الإسلامي، يجب أن نعيد هذا النوع من الاستشراق إلى مصادره التاريخية. إن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها، فكانت في مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد توماس الأكويني، تريد اكتشاف هذا الفكر وترجمته من أجل إثراء ثقافتها، بالطريقة التي أتاحت لها فعلاً تلك الخطوات الموفقة، التي هدتها إلى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر. وفي المرحلة العصرية والاستعمارية، فإنها تكتشف الفكر الإسلامي مرة أخرى، لا من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية، من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية، لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها وربما انطبقت هذه المجهودات العلمية، في نفس أصحابها، على مجرد الاعتراف بفضل تلك الشعوب وبمساهمتها في تكوين الرصيد الحضاري الإنساني، ولا شك أن المستشرق سيدييو والعلامة غوستاف لوبون،

يتسمان في إنتاجهما بميزة العلم الخالص والاجتهاد المخلص للحقيقة العلمية. ولكن تجب هنا الملاحظة، بأن هذا اللقاء الجديد وقع في ملابسات تاريخية، لم يكن فيها العلم الإسلامي علماً حياً ينقل من أفواه الأساتذة مباشرة ومن كتبهم المعاصرة، بل أصبح أشبه شيء بعلم الآثار، يكتشفه الباحثون الأوروبيون بحكم الصدفة، ويصدقون، أولاً يصدقون في نقله، ثم ينسبونه لأصحابه من العلماء المسلمين، أو ينسبونه لأنفسهم أو لأحد الأوروبيين، فهكذا كانت اكتشافات كبرى تنسب لغير أصحابها، مثل دورة الدم الصغرى للإنجليزي وليام هارفي بينما كان صاحبها، الطبيب المسلم ابن النفيس يعيش قبله بأربعة قرون. كما تجب الملاحظة أيضاً، أن العالم الإسلامي أصبح في هذه الملابسات يعاني الصدمة التي أصابته بها الثقافة الغربية، ويعاني بسببها على وجه الخصوص أثرين: مواجهة مركب نقص محسوس من ناحية، ومحاولة التغلب عليه من ناحية أخرى، حتى بالوسائل التافهة. لقد أحدثت هذه الصدمة، عند قبيل من المثقفين المسلمين، شبه شلل في جهاز حصانتهم الثقافية، حتى أدى بهم مركب النقص إلى أن ولوا مدبرين أمام الزحف الثقافي الغربي، وألقوا أسلحتهم في الميدان، كأنهم فلول جيش منهزم، في اللحظة التي بدأ فيها الصراع الفكري يحتدم بين المجتمع الإسلامي والغرب، فأصبح هذا القبيل من المثقفين يبحث عن نجاته في التّزَيّي بالزّي الغربي، وينتحل في أذواقه وسلوكه كل ما يتسم بالطابع الغربي، حتى ولو كان هذا الطابع ليس إلاّ مظهراً لا شيء وراءه من القيم الحضارية الغربية الحقيقية. وبدأت تظهر في الأفق الثقافي الإسلامي الفكرة الجديدة التي حركت، بعد حرب السباي (1858م) بالهند، تأسيس جامعة عليكرة، وحركت، من

جانب آخر وضدّ هذا المشروع، باعث النهضة الإسلامية السيد جمال الدين الأفغاني. وهكذا أصبح الفكر الإسلامي على أثر الصدمة الثقافية التي اجتاحته، وما تسبب عنها من مركب نقص، ينحاز إلى معسكرين: أحدهما يدعو لتمثل الفنون والعلوم والأشياء الغربية- حتى اللباس- والآخر يحاول التغلب على مركب النقص بتناول حقنة اعتزاز يعلل بها النفس. فالتيار الأول، كان من الناحية العقلية، والسياسية والاجتماعية له أثره في لونين، اللون الذي يتمثل في تأسيس جامعة عليكرة، واللون الذي يتمثل في دعوة جمال الدين الأفغاني، مع تباين الأهداف وتشابه الوسائل التي كانت تفرض على العالم الإسلامي في كلتا الحالتين، تطوراً يؤدي به إلى (الشيئية) و (التكديس). وأما التيار الثاني- وهو موضوع حديثنا لاتصاله بإنتاج المستشرقين- فإنه وجد منحدره الطبيعي في أدب الفخر والتمجيد، الذي نشأ منذ القرن التاسع عشر، على أثر ما نشر علماء مستشرقون، أمثال دوزي، عن الحضارة الإسلامية. ولا يمكننا، على أية حال، أن نجعل بين التيارين فاصلاً قاطعاً، لأن الثاني منهما لا يكون مدرسة مستقلة عن الأول، بل نجده يخامر الفكر الإسلامي على العموم ويتخلل اتجاهه العام كفكر يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة، كما يبحث المدمن عن حقنة المخدر التي يستطيع بها مؤقتاً إشباع حاجته المرضية. وهذا لا يجعلنا ننفي لهذا التيار، ولنوع الأدب الذي نتج عنه كل أثر حسن في مصير المجتمع الإسلامي، لأنه كان له نصيب لا يزهد فيه في الحفاظ على

شخصيته، والجيل الذي أنا منه يدين له بذلك النصيب، على الأقل في المحافظة على شخصيته الإسلامية. إنني على سبيل المثالى، قد اكتشفت وأنا بين الخامسة عشر والعشرين من العمر، أمجاد الحضارة الإسلامية في ترجمة دوسلان لمقدمة ابن خلدون، وفيما كتب دوزي عنها وأحمد رضا بعد الحرب العالمية الأولى. وإنني على إدراك تام لما أدين به لهذه المطالعات، وقد ذكرت ذلك في الجزء الأول من (مذكرات شاهد القرن)، والآن، وأنا قد تجاوزت الستين من العمر، أستطيع أكثر من ذي قبل، تقدير هذا العلاج للفكر وللضمير لا في النطاق الشخصي فحسب، بل في النطاق الشامل للمجتمع الإسلامي طيلة أربعين سنة بعد تجربتي، فأرى أن أقرر هنا، مع الاختصار اللازم لهذا الغرض أن مساوئ طريقة هذا العلاج تظهر لي بالتالي أكثر من حسناتها وذلك لأسباب متعددة. فالسبب الأول: لأنه بديهي نلاحظه في الآثار النفسية لأسلوب التكوين، أي البيداغوجية، بالنحو الذي نشير إليه بمثل بسيط: إننا عندما نتحدث إلى فقير، لا يجد ما يسد به الرمق في يومه، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده، إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه، بوسيلة مخدر يعزل فكره مؤقتاً وضميره عن الشعور بها، إننا قطعاً لا نشفيها. فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه، ولا شك أن أولئك الماهرين في فن القصص قد قصوا للأجيال المسلمة في عهد ما بعد الموحدين قصة ألف ليلة وليلة، وتركوا بذلك أثر كل سمر، نشوة تخامر مستمعيهم حتى يناموا فتنغلق أجفانهم على صورة ساحرة لماضٍ مترف.

ولكن سوف تستيقظ هذه الجماهير في الغد، فتنفتح أبصارهم من جديد، على مشهد الواقع القاسي الذي يحيط بها في وضعها الذي لا تغبط عليه اليوم. فالأدب، الذي ينشد (عصور الأنوار) للحضارة الإسلامية يؤدي أولاً هذين الدورين، أنه أتاح في مرحلة معينة الجواب اللائق للتحدي الثقافي الغربي وحافظ هكذا مع عوامل أخرى على الشخصية الإسلامية، ولكنه من ناحية أخرى، صبّ في هذه الشخصية الإعجاب بالشيء الغريب، ولم يطبعها بما يطابق عصر الفعالية والميكانيك. وليست هذه الملاحظة مجرد شيء عابر نمرّ عليه في هذا العرض مرّ الكرام، بل يجب أن نقف عندها بكل اهتمام وتأمل، ولذا كانت أهميتها تلوح لنا من الجانب الاجتماعي من دون أي تردد، فإنها تتخذ صورة أوضح إذا ما طرحناها على صعيد معركة الأفكار، التي تجتاح العالم اليوم بصورة عامة والمجتمع الإسلامي بصورة خاصة. وهنا تجب كلمة عن هذا المفهوم الذي نعنيه بـ (الصراع الفكري) في العالم الإسلامي، يجب أن نقرر مبدئياً هذه القاعدة العامة، ألا وهي أنه عندما يطرح مسلم أو بعض المسلمين مشكلةً ما تهمّ مجتمعهم، فإن هذه المشكلة تكون قد طرحت أو ستطرح عاجلاً في أوساط المتخصصين في هذه الدراسات لحساب وتحت إشراف الاستعمار (¬1). ¬

_ (¬1) ليس المقصود بكلمة استعمار مجرد الاحتلال الفعلي للأرض فبن نبي يستعمل هذه الكلمة للدلالة على كل محاولة أو كل عمل يميل إلى فرض أيديولوجيته أو معتقداته أو قيمه على مجتمع معين. فالشيوعية والليبرالية من هذا المنظار هما شكلان من أشكال الاستعمار الأيديولوجي. بمعنى أن كليهما يتجابهان لكي يبسطا سيطرتهما على العالم، ولكنهما يبقيان مع ذلك تعبيرين متناقضين في الشكل إنما هما نتاج ظاهرة حضارية واحدة. [ط. ف].

وكلما يتقدم هذا المفكر المسلم أو هؤلاء المسلمون بحلّ لهذه المشكلة، يسرع من طرفهم أولئك الأخصائيون لدراسة هذا الحل، فإن كان خاطئاً، زادوا في شحنة خطئه بطريقة أو أخرى، وإن كان فيه بعض ما يفيد حاولوا كل جهدهم للتقليل من شأنه، وتخفيض قيمته حتى لا يفيد. هذه هي القاعدة العامة في الصراع الفكري الذي نشير إليه. ويترتب على هذا، أنه كلما لاحت في العالم الإسلامي أي بادرة ذات مغزى، ولو كانت لا تبصرها أعيننا، فإن مجهر أولئك الأخصائيين يلتقطها على الفور، ليجري عليها كل طرق التحليل (¬1)، وإذا وجدوا فيها أي اتصال بحركة الأفكار في العالم الإسلامي، تجري عليها كل عمليات التشريح، وتمرّ بكل أصناف التقطير، حتى ¬

_ (¬1) من المؤكد أن الصراع الأيديولوجي ليس خرافة لذلك ترفض دول الشرق والصين كل تبادل حرّ للأفكار بينها وبين الدول الرأسمالية. ويكفي أن نرى ردة فعل بريجنيف عندما كلمه بهذا الأمر فاليري جيسكار ديستان (1975م) ونقرأ في بداية مؤلف غريب وقع بين أيدينا وهو بعنوان (ملاحظات ودراسات حول الإسلام في إفريقيا السوداء) وقد نشره أحد مراكز الدراسات الذي يقع مباشرة تحت سلطة رئيس وزراء بلد أوروبي: CHEAAAN. يخرج هذا المركز دفعات من الموظفين والضباط والقضاة، وهو يصبو لأن يكون مختبر أفكار ومناهج، ومركز تفكير وأبحاث، وهو يقوم بالتعليم وينظم أعمالاً في شكل ندوات. ويهدف المركز بشكل دائم إلى إعطاء الموظفين والضباط والقضاة الذين يعملون في بلاد ما رواء البحار، وعلى الأخص في البلاد الإسلامية، ما يكمل تأهيلهم العلمي ويطور إمكاناتهم التقنية)). ويضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات والمراجعات حول سيرورة الدخول في الإسلام في إفريقيا، وحول القوى البشرية والاجتماعية المسلمة في هذه القارة. ونرى فيها ملاحظات ومقارنات دقيقة بين تقدم التبشير بالإسلام، وتقهقر التبشير بالمسيحية. هذا من ناحية، ونذكر من ناحية أخرى بأن اجتماعاً عقد في الجامعة الكاثوليكية في (لوفان) سنة 1970م ضمَّ نخبة من العالم العربي أتت لتناقش في مشاكل النهضة (أمر غريب، غريب، غريب) وقد نتج عن هذا الاجتماع كتاب بعنوان (نهضة العالم العربى) - الناشرون SNED et le culot 1972 م. [ط. ف].

يبقى في محتواها الاجتاعي أقل ما يمكن من عوامل التيسير لصلاحيتها، وأكثر ما يمكن من عوامل التعسير، وانتفاء الصلاحية. ومن الواضح، أن من أكثر البوادر دلالة على اتجاه مجتمع ما، هو اتجاه أفكاره، فإما أن تكون متجهة إلى الأمام، إلى المستقبل، أو إلى الخلف، اتجاهاً متقهقراً، اتجاهاً ملتفتاً إلى الماضي بصورة مرضية. ومن دون أن نستمر إلى أبعد من هذا، في تحليل هذه الإحكامات الدقيقة للصراع الفكري فلنلقِ هذه الاعتبارات على موضوعنا بالذات، نعني أثر هذا النوع من أدب المدح والتمجيد والإطراء على سير الأفكار، واتجاهها في المجتمع الإسلامي المعاصر، فنرى على الفور الجانب الآخر لهذا الأدب، عندما يصير بين يدي أولئك الأخصائيين وسيلة عمل جهنمي في تحريك رحا الصراع الفكري المحتدم في بلادنا. إننا نرى اليوم مرأى العين هذا العمل الفتاك، ونرى أثره في كل تفاصيل حياتنا الفكرية، والسياسية والاجتماعية، وفي البلاد العربية حيث تكونت تجربتي وخبرتي كمواطن وككاتب وكصحافي. وليس كتاب كامل بكافٍ لسرد هذه التجربة. ولنذكر منها فقط، على سبيل المثال آخر تفصيل من تفاصيلها: ((انعقد أخيراً بباريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوروبا وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض، تناول فيه مشكلةً من مشاكلنا اليوم، بالخصوص في الجزائر، البلد الذي اتخذ من كلمة (الديمقراطية) شعاره الدستوري. ولكن أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يهملوا هذه المناسبة من اهتمامهم، ولم يفتهم ما تقرر توزيعه بهذه المناسبة، ولكن كيف يسدون الذريعة، أعني كيف يسدون الطريق على الأفكار المعروضة في الكتيب الذي

سيوزع أثناء المؤتمر، حتى لا يصل مدها إلما رؤوس المؤتمرين، أو على الأقل حتى يكون لها أقل مدّ ممكن؟ وإذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السيدة الألمانية المقربة التي وضعت أو وضع اسمها (¬1) على ذلك الكتاب ذي العنوان الجذاب (شمس الله تشرق على الغرب)، وفيه ما فيه من مدح وتمجيد الحضارة الإسلامية. وتقدمت السيدة، وقدمت كتابها إلى المؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات الحادة القائمة اليوم، إلى أبهة وأمجاد الماضي الخلاب!)). ولم يكن الصديق الذي كان يذكر لي هذه القصة يخطر على باله أي شيء من صلتها (بالصراع الفكري)، وهو يقول: ((وفي الأخير قامت القاعة كلها لتحيي السيدة!)). ولا شك، أن القصة تكشف عن جانبين: الجانب الذي يبرز حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها، والجانب الذي يكشف عن إمكان استغلال هذه الحساسية لإلفات تلك الجماهير عن حاضرها. وهذا الجانب هو الذي يهمنا لأنه يلتقي في الزمن مع أوج الموجة العارمة التي تكتسح اليوم العالم، من أمواج الصراع الفكري، ولأنها فعلاً موجهة في أوجها بالخصوص في البلاد الإسلامية، حتى وإن كانت لا تشعر بها أحياناً. إنما نرى كيف يتصرف أولي الاختصاص في الصراع الفكري، في ظرف خاص من ظروفه، عندما تعرض فكرة عمل وتأمل على الجماهير الإسلامية، كيف يستطيعون لفت الأبصار عنها بعرض أفكار أخرى في المناسبة ذاتها، أفكار جذابة، تدعو للأحلام السعيدة، أفكار مقتبسة من قصص ألف ليلة وليلة. ¬

_ (¬1) زيغريد هونكه (ن).

هذه هي القاعدة العامة التي يجب علينا أن نجعلها دوماً نصب أعيننا، إننا كلما طرحنا مشكلة وعرضنا لها حلاً من الحلول فإن قادة الصراع الفكري يأتون على الفور بما يلفت عنه الأبصار أو ما يزيفه تزييفاً. وما الحلول التي تعرض علينا في المجال السياسي، مثل البعثية، والبربرية، والإفريقية والشيوعية- تلك الشيوعية التي يرعاها الاستعمار ويسهر على نباتها في مدفآته، وما ذلك الأدب المطنب في المدح والتمجيد لماضينا إلا وسائل إلفات في المجال السياسي أو في المجال الفكري، حتى يلتفت العالم الإسلامي عن أم مشكلاته، ألا وهي مشكلة حضارته، حتى يلفتوه عنها، ويربطوا اهتمامه بمشكلات وهمية، ويلهوه بحلول وهمية، يتجلى عبثها بصورة مفجعة في ظرف من الظروف الخطيرة غداة إفلاس مصقع، وهزيمة شنيعة، وفضيحة مخجلة، مثل غداة 5 يونيو 1967م. والواقع، أن قضية عمليات الإلفات والتسلية كانت قائمة منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، غير أنها تطرح اليوم والعالم الإسلامي يمر، في هذه الآونة بالذات، بأخطر أزمةٍ في تاريخه، حتى أننا نستطيع القول- إذا ما طرحنا جانباً بعض المظاهر من تطوره- أنه كان قبل أربعين سنة أقرب إلى الحل الرشيد لمشكلته وهو مستعمَر، لأنَّ وحدته الروحية أو الأيديولوجية كانت أمتن منها اليوم فهو الآن، وهو مستقل، كأنما يبتعد عن هدفه لأن وحدته هذه قد تصدعت من عملية التقسيم التي أجريت عليه منذ أربعين سنة. هذا هو الوضع الحقيقي، إذا ما طرحنا جانباً بعض المظاهر الخادعة- بحيث أننا إذا حكمنا بأن المجتمع الإسلامي ككل يواجه المشكلة نفسها- قد تخلف منذ ربع قرنٍ وتقهقر، فليس في حكمنا أي إجحافٍ بالحقيقة، وإنما الخطأ في هذه النقطة بالذات يعود إلى أننا تعودنا تقدير الأشياء بالمقياس السياسي، ذلك المقياس الذي

يجعلنا نقارن الوضع في حالتين مرت بها الدول الإسلامية على ضفتين قريبتين من التاريخ، قبيل الحرب العالمية الثانية، وهي في نير الاستعمار، وبعد تلك الحرب، وهي متحررة سياسياً في أغلبها، دون أن نقف بالتأمل عند حقيقة هذا التحرر، الذي لم يحكم تلك الدول حتى من غيلة دويلة إسرائيل، بينما يكشف لنا هذا السير أو التطور، منذ ربع قرن على أن المجتمع الإسلامي ضيع فيه، بين ضفتي التاريخ المشار إليها، أثمن ما عنده كزاد طريق، نعني الشعور بوحدة المصير، وضرورة الحل الواحد الذي لا تجزئ عنه بعثية، ولا بربرية، ولا نزعة إفريقية، ولا شيوعية مصطنعة، ولا خرافات ألف ليلة وليلة. واليوم، تعترض العالم الإسلامي هذه المشكلة في صورة متحارجة، شكسبيرية: هل نكون أو لا نكون (¬1)؟ بينما تميل عقارب الساعة إلى الاحتمال الثاني، منذ أتت أحداث يونيو 1967م معبرةً بلغتها القاسية على عبث تلك التشييدات السياسية والعسكرية التي تستند على ظاهرة الشيئية، نعني تكديس تلك الأشياء التي جمعت في عشرين سنة من أجل الدفاع عن النفس، والتي ذابت في أول ساعة عند هجوم إسرائيل، وليس بمجدٍ، لمواجهة الدويلة الصهيونية، أن نكدس من جديد، ذخيرةً وزاداً وعتاداً، ليس بمجدٍ تجديد الأشياء، بل تجديد الأفكار، ولكن تجديدها بصورة جذرية، بحيث تعوض تلك التي تؤدي إلى الهزيمة الهائلة وإلى الفضيحة الشنعاء، لأنها تفقد الروح التي ترفع الإنسان إلى مستوى مهماته، بالأفكار الحية، المحيية التي تعطي الإنسان تلك الدفعة الجبارة التي ترفعه إلى قمة واجباته أمام الأحداث الكبرى (¬2). ¬

_ (¬1) يقول Ortégasy Gasset في (تمرد الجماهير ص 150): ((نستطيع تماماً أن نهرب من قدرنا الواقعي ولكن يؤدي ذلك إلى الوقوع في الطوابق السفلى من قدرنا)). [ط. ف]. (¬2) لقد شهد (الفكر العربي) اضطراباً كبيراً بعد هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967م، ولا يزال البعض يتكلم حتى الآن عن أزمة (المفكرين العرب). لقد كانت الصدمة كبيرة جداً، ولكن يبدو أنهم لم يتخطوا مرحلة الشعور بأن شيئاً ما لا يسير على ما يرام منذ هذه الهزيمة. [ط. ف].

يجب أن نقف عند هذه الحقيقة، إن ما ينوب مجتمعاً ما في منعطفات التاريخ الخطير، ليس من قلة أشيائه ولكن من فقر أفكاره (¬1). وما فاجعة سيناء، في غرة يونيو 1967م، إلا المحك العملي الذي يبرز هذه الحقيقة العامة، في ظرف خاص للأمة العربية، ولعلنا يجدر بنا أن نقف عند هذا الظرف لنستخلص منه عبرة أخرى، ألا وهي أن النصر الخاطف الذي أحرزته إسرائيل في هذا الظرف، على كوم جامد من الأشياء التي كانت بيد العرب، أصبح يواجه على نفس الأرض صعوباتٍ لم يتوقعها، لأنه يواجه اليوم رجالاً تحركهم أفكار جديدة، بل رجالاً تجددوا هم بهذه الأفكار، إن قصف باخرة (إيلات) والموقف البطولي للفدائيين الفلسطينيين على حدود الأردن، وداخل الأراضي المحتلة، ليسا إلا تعبيراً واحداً على التحول الذي حدث، إثر النكبة، لا في عالم الأشياء بالنسبة للعرب، بل في عالم أفكارهم. ولست أتعرض هنا لقضية الأفكار بالنسبة لمجتمعنا إلا بصورةٍ عابرةٍ، تاركاً هذا الموضوع المهم إلى فرصة أخرى. وحاصل الأمر، أن الصدمة التي حصلت للضمير الإسلامي في القرن التاسع عشر وفي هذا القرن، تجاه الحضارة الغربية، كانت محسوسة في عالم أفكارنا على وجه الخصوص، وفي مجال الأفكار العلمية بالذات، بحيث كان لهذه الصدمة أثرها حتى في ميدان تفسير القرآن الكريم، ولا شك أن عملاً جباراً مثل تفسير طنطاوي جوهري، ذلك التفسير الذي لا نجد فيه كثيراً من الجدوى، يعزى قطعاً إلى هذا التأثير العلماني على أفكارنا، مع الملاحظة أنه يعبر في نفس الوقت على ظاهرة التكديس، تكديس المعلومات طبعاً، بحيث يصبح هذا ¬

_ (¬1) يقول Ortegasy Gasset في كتاب ذكرناه سابقاً: ((كل الحضارات اختفت بسبب عدم كفاءة مبادئها)). [ط. ف].

العمل الشاق كله أقرب إلى دائرة معارف منه إلى تفسير القرآن، كما أنه يعبر عن ظاهرة جديدة، هي تلك العلمانية العقيمة التي ليست بالنسبة للفكر الإسلامي إلا عملية تعويضٍ في الميدان الذي شعر فيه أكثر بتحدي الحضارة الغربية. والآن نستطيع القول، أن هذا الميدان بالذات كان التربة الخصبة التي وجدها الأدب الاستشراقي، من النوع الذي يتصف بالمدح والتمجيد، ليزرع فيها كل تلك المخدرات التي يتقبلها بكل شغفٍ مجتمعنا لأنها تخدر ضميره وتسليه، ولكن هذا الضمير لا زال في صراع داخلي تسكنه أحياناً مؤلفات مشارقة مثل طنطاوي جوهري، وأحمد رضا وفريد وجدي، أو مستشرقين مثل دوزي وغوستاف لوبون، أو تثير مؤلفات أخرى لمشارقة ومستشرقين آخرين في صورة استثاراتٍ وتحدياتٍ جديدة لما تستصغر هذه الطائفة أو تلك ما ساهم به العرب في تنمية العلوم، إبان حضارتهم، قاصرين دور هذه الحضارة على مجرد تبليغ ما أنتجه اليونان والرومان. وإذا أردنا أن نخص إحدى هاتين الطائفتين بالذكر، نقول، أن بعض هؤلاء المشارقة المتتلمذين للمستشرقين يخفون عملهم التخريبي ضدّ الإسلام، بإيعازٍ واضحٍ من أوساطٍ استعماريةٍ، تحت رداء تقدمية جوفاء تحاول سلب الإسلام من كل قيمة حضاريةٍ، بل تنسب له حالة التخلف الراهنة في العالم الإسلامي. ولا شك أن كتاب (الأيديولوجيات العربية في محضر الغرب)، الذي ظهر منه بضعة أشهر بتقديم من مكسيم رودنسون، لا شك أن هذا الكتاب المبني على منطق سفسطائي، ذو صلة متينة بهذا التيار، وأن صاحبه، التلميذ المراكشي لصاحب المقدمة، من هذه الشجرة التي يجوز لنا أن ننسب لها أيضاً من تلامذة المستشرقين، حتى أولئك الأبرياء الذين يضعون أقدامهم عن غير شعور في ثقافة الغرب بل في سياسته أيضاً، ويتقدمون هكذا بأنصاف الحلول لأنصاف

المشكلات، التي يعتقدونها المشكلات الرئيسية للعالم الإسلامي، غير أنهم يختلفون بحسن نواياهم عن الآخرين، أولئك الآلات المسخرة بين أيدي اختصاصيي الصراع الفكري، السائرين على أثر أساتذتهم الغربيين، لا يختلفون معهم إلا في مهارة الأسلوب والترويق في الصيغة، ويلتقون مع أساتذتهم في الانتقاص من سوابق الفكر الإسلامي، ولكن يمتازون في إحاطة مستقبله بالريبة والإبهام بتلك الثرثرة التقدمية مثل صاحب كتاب (الأيديولوجيات العربية في محضر الغرب) الذي أشرنا إليه. وهكذا يبقى الضمير الإسلامي في دوامة صراعه الباطن، يسكنه أحياناً ما يكتب المادحون، ويثيره أحياناً أخرى ما ينتجه المفندون، وقد استمر هذا الصراع منذ قرن في حلقة مغلقة، مستهلكاً أجدى الطاقات الفكرية في العالم الإسلامي من دون جدوى، من دون أي تأثير حقيقي على تطور العقلية الإسلامية، لم ينتج إلا بعض الصواريخ الأدبية الخلابة في تلك المؤلفات الجميلة التي لم يبق لها أي أثر مثل كتاب (روح الإسلام) للسيد أمير علي. بحيث لو أننا حاولنا اليوم أن نجعل تقويماً لهذا الإنتاج نراه يعبر أحسن تعبير على تبذير طاقاتٍ فكريةٍ ثمينةٍ لم يحسن استخدامها، وإذا أردنا أن نعطي هذا التقويم كل معناه، يجب أن نقارن هذا الإنتاج بما أنتجه لوثر وكلفان إبان حركة الإصلاح في أوروبا، وإنتاج ديكارت الذي وضع أقدام أوروبا على طريق التطور التكنولوجي أو إنتاج ماركس وأنجلس ولينين الذين وضعوا على أقدامه مجتمعاً جديداً يغزو اليوم الفضاء. وبالتالي، يتبين لنا أن الإنتاج الاستشراقي، بكلا نوعيه، كان شراً على المجتمع الإسلامي، لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان سواء في صورة المديح والإطراء التي حولت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا بحيث صيرتنا حماة

الضيم عن مجتمع منهار، مجتمع ما بعد الموحدين، بينما كان من واجبنا أن نقف منه عن بصيرة طبعاً ولكن دون هوادة، لا نراعي في كل ذلك سوى مراعاة الحقيقة الإسلامية غير المستسلمة لأي ظرف في التاريخ، دون أن نسلم لغيرنا حق الإصداع بها والدفاع عنها لحاجةٍ في نفس يعقوب. وعلى كلّ، فإن أمكننا أن نصرح بأننا نجد على كل وجه جانباً إيجابياً في هذا الاستشراق، فإننا لا نجده في صورة المديح، بل في صورة التفنيد. فعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح العلوم، وربما يؤدي بنا هذا الموقف المتطرف إلى تلافيه بعلمانية سطحية نشاهد أثرها حتى في إنتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري، ولكن هذا الموقف يضطرنا، بما فيه من إفراط في الجحود، إلى طرح مشكلة الإسلام والعلم في صورة جديدة تتماشى أكثر مع سمو الدين ومنطق العلم، بحيث لا نصبح نبحث في الآيات الكريمة هل ذكر فيها شيء عن غزو الفضاء أو تحليل الذرة، وإنما نتساءل: هل في روحها ما يعطل حركة العلم، أو على العكس ما يشجعها وينميها؟ يجب على وجه الخصوص أن نتساءل، إذا ما كان يستطيع القرآن أن يخلق في مجتمع ما المناخ المناسب للروح العلمي، وأن يطلق فيه الأجهزة النفسية الضرورية لتقبل العلم من ناحية، ولتبليغه من أخرى. هذه صورة المشكلة إذا ما طرحناها كما يجب طرحها، نعني من الجانب النفسي الاجتماعي، لا من جانب تاريخ تطور العلم، ولو كان علينا أن نبرر الفكر الإسلامي من هذه الناحية بالذات، لكفانا أن نضع في حسابه ابتكارين لولاهما لم يكن التقدم التكنولوجي في القرن العشرين شيئاً يتصوره العقل، أجل إن التقدم التكنولوجي يشمخ اليوم في فصل العلم النووي الذي لا يمكن للباحثين في هذا الفصل من علوم الطبيعة أن يحصلوا فيه على طائلٍ لولا

ما يجدونه مهيئاً تحت أيديهم من طرق حساب سرعتها فوق كل سرعة، يمكن تصورها في عمليات الآلات الحاسبة الإلكترونية. فهل يمكن لهذه الآلات أن تقوم بعملياتها، لو لم يهيأ من قبل ذلك النظام العشري الذي نستطيع به كتابة رقم أفوجدرو، على سبيل المثال، بخمسة رموز فقط، أوسبعة إذا تحرينا دقة أكثر؟ والآن نتساءل: ألسنا ندين بوضع هذا النظام العبقري لذلك المناخ العقلي الذي كونته القيمة القرآنية في المجتمع الإسلامي؟ كما أننا لو تساءلنا عن دور الجبر، في تطوير علم الحساب، بحيث يتحول من علم الأرقام المحسوسة إلى علم الرموز المجردة، لأدركنا بعد الأخذ في حسابنا أن اسم الجبر نفسه عربي من ناحية الصيغة والاشتقاق، لأدركنا ما يدين به العقل الإنساني إلى العقل الإسلامي من وسيلة لا يستطيع بدونها السير والتقدم في ميدان علوم التقدير والضبط. ولا يضيرنا أن يعزى الجبر، من طرف متطفلين من تلامذة المستشرقين مثل فريد وجدي الذي عزاه إلى اليوناني ديوفانت بلا دليل ولا أي حجة، ذلك أن الجبر أتى إلى الوجود في المناخ الذي خلقه القرآن. ولقد يكون من العبث الصبياني أن نربط الصلة هنا، بين الآيات المنزلة وبين النظام العشري أو الجبر، عن طريقة ما يسمى تاريخ تطور العلوم. إن القرآن الكريم لم يأت قطعاً، وبصورة مباشرة، لا بالحساب العشري ولا بالجبر، ولكنه أتى بالمناخ العقلي الجديد الذي يتيح للعلم أن يتطور، كما تطور بالنسبة إلى مرحلته السابقة في العهد الإغريقي والروماني، والأمر الجدير بالملاحظة هو أن تطور العلم لا يناط بالمعطيات العلمية فحسب، بل بكل

الظروف النفسية الاجتماعية التي تتكون في مناخ معين، والأمر الجدير بالملاحظة أيضاً، هو أن مراكز الاهتمام للعقل تتغير من عصر إلى آخر، من حضارة إلى غيرها، حسب التغيرات التي تحدث في المناخ العقلي بالذات. إننا نستطيع قطعاً ربط العلاقة، من الناحية التاريخية، بين عهد الصناعة والتصنيع واكتشاف دونيس بيبان الذي كان ينظر إلى غلاية ماء فوق النار، فلاحظ أن مغلقها يرتفع وينزل بالتوالي، فاكتشف هذا طاقة البخار بالصدفة. ولكننا نلاحظ أن هذه الصدفة كانت تتكرر عبر الأجيال منذ اكتشاف النار، فلم تؤد إلى اكتشاف الطاقة البخارية إلى عهد بيبان. لماذا؟ السبب في ذلك هو أن دونيس بيبان أو نظيره الإنجليزي وات كان يمارس ملاحظاته ويتفهمها ويفسرها في مناخ عقلي جديد، تكون في أوربا منذ قرنين من قبل، حين كتب ديكارت (خطابه) المشهور في المنهج وقال فيه هذه العبارات المتنبئة الموجهة: ((إنه لمن الممكن الوصول إلى معرفة تطبق تطبيقاً نافعاً في الحياة، بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستية، وتعلم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا، بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، والسماوات وكل الأجرام التي تحيطنا، أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة بحيث نتمكن من امتلاك الطبيعة والهيمنة عليها)). إن هذه العبارات ناصعة فعلاً، متنبئةً بما سيحدث بعد ديكارت من انقلابات علمية وتكنولوجية، فهي تدل بكل وضوح على المنحدر الذي سيتبعه الفكر الأوروبي في بحثه عن الحقيقة العلمية ذات النفع المباشر، وكان لزاماً أن يلتقي الفكر الأوروبي على هذا المنحدر مع الطاقة البخارية سواءً كان دونيس بيبان هو المكتشف أو غيره

وبالتالي، فإن منهج ديكارت هو الذي كون، بصورة أعم، المناخ العقلي الجديد الذي ستترعرع فيه العبقرية المصلحية التي تتميز بها الحضارة الجديدة. وهذه هي الزاوية بالذات التي نقدر منها العلاقات العامة بين الإسلام والعلم، فموقف الإنسان المسلم أمام عالم الظاهرات، والمنحدر الذي تتبعه العقلية الإسلامية تحت دفعة النص القرآني، والمناخ العقلي الجديد الذي ستتطور فيه هذه العقلية، هذه الأشياء هي في التالي العناصر الأساسية للقضية، فحسب. فالعلم، من حيث أنه علم، هو مجموعة المعلومات ومجموعة الطرق المؤدية لاكتسابها. ولكن يجب علينا إضافة شيء إلى هذا التعريف الذي تصورناه من زاوية علم تاريخ التطور العلمي، لأن التطور العلمي لا ينحصر في هذه الزاوية، بل هو منوط أيضاً بمجموعة شروطٍ نفسيةٍ اجتماعيةٍ، تؤثر سلبياً أو إيجابياً، بحيث تعطل هذا التطور أو تتيحه أكثر فأكثر. وعلى سبيل الإيضاح، فإن غاليله، حين أعلن نظرية دوران الأرض، لم تواجهه معارضة علمية، بل معارضة كلامية، نعني معارضة عقائدية، ولم تدن غاليله أكاديمية علوم، بل أدانته محكمة دينية تحكمت في أمره باسم العقيدة، إن ما أدانه هو بالتالي مجموعة عوامل القمع والحرمان الموجودة في نفسية المجتمع الذي حكم عليه بالإعدام. ولي نعطي لهذه الملاحظة كل معناها ومغزاها، تجب ملاحظة أخرى أن في هذا المجتمع الأوروبي، مجتمع ما قبل ديكارت، الذي أعدم أحد كبار علماء الفلك، كان المنجم يقوم بدور كبير المستشارين، ويكرم ويقرب في بلاط الملوك، مثل ثوستراد موسى الذي كان مستشار الملكة كاترين دي مديتشي في البلاط الملكي الفرنسي. ولزيد من التوضيح يجب أن نقول أن غاليله هذا لو كان يعيش في المجتمع

الإسلامي، حتى حين بدأ ذلك العصر في حركة الجزر الحضري، ما كان ليتعرض للعوامل نفسها التي حدَّت من عمله العلمي، وبالتالي حطمت حياته، وإننا لنرى في أوائل القرن الرابع الهجري، أحد كبار الملحدين في ذلك العصر (ابن الراوندي) المذكور في كتاب الزركلي (¬1)، نراه ينتقص من شخص النبي الأمي عليه الصلاة والسلام فيقول في شأنه: ((لقد تحجر عريضاً ابن أبي كبشة حين ادعى أنه خاتم الأنبياء)) والمشار إليه بابن أبي كبشة معروف لدى الجميع، ومع هذا لم نرَ محكمة تفتيش تنعقد من أجل محاكة وإدانة هذا التعدي البليغ على أكبر شخصية في الإسلام، بحيث نرى صاحبه يلجأ بالتالي إلى انتحارٍ أثناء حجه إلى مكة. وأكثر من هذا، كان اليهودي يستطيع التعدي على عزة القرآن ذاته، دون أن تنزل به أي كارثة، ما عدا الردود المنتظرة مثل الرد المفحم الذي ورد من ابن حزم حين انتقد يهودي من يهود الأندلس، القرآن الكريم نقداً غير نزيهٍ، فأفحمه ابن حزم في (رسالة ابن النجريلة) المشهورة. وهذه الحالات المتطرفة قطعاً، إن دلت على شيء إنما تدل على أن المناخ العقلي الجديد، الذي تمتع به المجتمع الإسلامي عندما كان القدوة والنموذج في العالم، ما كان يعرف الإكراه كوسيلة قمعٍ للفكر ولحرية الرأي. وما كان دور عوامل الحرمان إلا في بعض الحالات الشاذة، مثل القضية التي طرحها عصر المأمون بشأن القرآن، هل هو مخلوقٌ أم سرمديٌّ؟، وحتى في هذه ¬

_ (¬1) هو أحمد بن يحي بن إسحاق، أبو الحسين الراوندي ( ... - 298هـ): فيلسوف مجاهر بالإلحاد، من سكان بغداد، نسبته إلى (راوند) من قرى أصبهان. قال ابن كثير: هو أحد مشاهير الزنادقة، طلبه السلطان فهرب، ولجأ إلى ابن لاوي اليهودي (بالأهواز) وصنف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سماه (الدامغ للقرآن). (الأعلام للزركلي جـ1).

الحالات نجد عناصر أخرى تحدّ من عواملها وتخفف من شدتها، وهي العناصر التي نمت في الضمير الإسلامي مع البذور التي بذرها فيه القرآن، إننا نرى فعلاً كيف بدأ المناخ العقلي الجديد يتكون منذ بداية الوحي. بينما ينفتح كتاب العهد القديم، منذ السطر الأول في سفر التكوين، على عالم الظاهرات المادية، وينفتح كتاب العهد الجديد في إنجيل يوحنه، على عملية التجسيد، ينفتح القرآن على الجانب العقلي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... } [العلق 96/ 1]. اقرأ ... هذه هي الكلمة الأولى التي تفتح إليها أول ضمير إسلامي، ضمير محمد، ويتفتح لها بعده كل ضمير مسلم. إن الحروف هي حقاً أداة لنقل الروح، لكل رسالةٍ، ولكل بلاغ، فهي الحامل والرمز لكل معلومةٍ من المعلومات، فأول ما نزل به القرآن يشير إلى أهميتها، ويخصص موضوعها بالذكر، ويرسم في الضمير الإسلامي قيمتها منذ اللحظة الأولى في كلمة اقرأ. إن الحرف ينقل ويبلغ الروح، وفي نفس الوقت يحفظه من الضياع، وسيحفظ أولاً وقبل كل شيء القرآن نفسه، ذلك الكتاب الذي لم يتغير فيه حرفٌ واحدٌ منذ أربعة عشر قرناً، على خلاف كل الكتب الأخرى، من العهد القديم إلى العهد الجديد، حيث لم يبق فيها، من ناحية صحتها التاريخية، إلا القيمة الرمزية، التي يحترمها النقد الحديث، دون أن يعتمدها من الناحية العلمية. وليست هذه الميزة إلا النتيجة العلمية الأولى، لهذا الفكر الجديد الذي ظهر في المناخ القرآني، ذلك المناخ الذي تدشن بالضبط يوم قام المجتمع الإسلامى الناشئ، أيام سيدنا عثمان، بجمع الآي الكريمة لحفظها من التلف، ولحصرها

نهائياً في صورة لا تقبل أي تغييرٍ، واللجنة التي قامت بهذا العمل تحت رئاسة سيدنا زيدٍ بن ثابت، قامت في الحقيقة بأول عمل علمي طبقاً لمنهج، ليس من موضوعنا هنا ذكر تفاصيله، ولكنه يوجب إعجاب النقد الحديث إزاء ما تحراه من دقة. إنه كان حقاً أول عمل علمي للفكر الإسلامي، بل أول عمل علمي للفكر البشري من نوعه الذي طالما تعثر في تاريخه، حين تبع مبدأ التسليم للسلطة الرئيسة المتمثلة بالقدوة، بل لا زال يتعثر فيه حتى الآن أحياناً، مثلما حدث في الاتحاد السوفييتي حيث تأخر علم الحياة ثلاثين سنة عن الركب، أيام القدوة التي افترضها لنفسه ليسنكو في هذا الميدان. ولهذا المعوق تاريخه في جميع المجتمعات الإنسانية، فهو ملازم لتطورها حسب عمرها النفساني. فالإنسانية، على العموم، تمر بثلاثة أعمار من حيث تطورها النفسي، فهي في عمرها الأول، في طفولتها، تصوغ كل أحكامها طبقاً لمقاييس تتعلق بعالم الأشياء، بحيث تكون أحكامها في أبسط صورها، معتمدة على الحاسة أو ناتجةً عن الحاجة البدائية. ثم في عمرها الثاني تصوغ أحكامها طبقاً لمقاييس خاضعة لمبدأ القدوة، أي صادرةً من عالم الأشخاص، ففي هذا الطور، لا تكون الفكرة حرة من تجسيد، بحيث تكون قيمتها مرتبطة بالشخص الذي يجسدها في نظرنا. ثم تبلغ الإنسانية رشدها، أي عمرها الثالث، فتصبح الفكرة ذات قيمة في حدّ ذاتها، دون أيما تأييد من طرف عالم الأشياء أو عالم الأشخاص. وإن مما تجب ملاحظته هنا، أن الإنسانية تبلغ هذا العمر، عمر النضج،

بحيث تصبح الفكرة لا تحتاج إلى ضمان قيمتها من طرف الأشخاص علاوة على الأشياء، والآية التي تنص على هذا الحدث في منتهى الوضوح، إذا ما لاحظنا أن الفكرة الإسلامية مرتبطة بذات النبي - صلى الله عليه وسلم - الارتباط المعروف، كأنها المجسدة في شخصه في نظر ذلك المجتمع البسيط الذي وجهت إليه الدعوة. ولكن أراد القرآن الكريم أن تتحرر الآية من هذا القيد، وبالتالي أن يتحرر المجتمع الجديد من هذا النوع من القيود المعطلة لتقدم الفكر والعلم. ونزلت فعلاً الآية المحرِّرَة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ... ؟} [آل عمران 3/ 144]. إن هذه الآية نزلت بمثابة الدفعة التي دفعت المجتمع البدائي الذي نزلت فيه، من عصر (الشيء) والشيئية، إلى عصر الفكر. وهكذا نرى كل ملامح هذا المجتمع النفسية تتغير منذ نزول (اقرأ) تغيراً يتولد عنه المناخ العقلي الجديد، وبالإضافة إلى ذلك نرى نوعاً من الاختبارات تجري على هذا المناخ لتوضح أكثر ملامحه في الضمير الإسلامي الناشئ عندما يلقي عليه القرآن مثل هذا السؤال: {قُلْ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؟} [الزمر 39/ 9]. إن هذه الآية الواردة في صورة سؤال على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم -، اختبار، وتركيز في الضمير الإسلامي لقيمة العلم، ولفضل رجل العلم على الجاهل في المجتمع الجديد. والعلم ما هو، في أبسط معانيه، إلا البحث عن الحقيقة في كل ميدانٍ، في الأخلاق، في التشريع، في الاجتماع، في الطب، في الطبيعة إلخ ...

ولكن هذا البحث معرضٌ لمعوقاتٍ وإلى متاهاتٍ، قد تتخذ وهماً بمثابة حقيقة، قد نتيه في الآراء، وربَّ رأيٍ خطأ، فعلى العلم أن يواجه هذه الحالات التي يتردد فيها العقل بين الشك والاقتناع، بتمرينه على هذه المواجهة. فالقرآن لا يهمل هذا الجانب بل يلفت النظر إليه أحياناً بالإشارة والتلميح، فيكشف الفرق بين الحقيقة وما سواها مثلاً في قصة يصف فيها انحراف اليهود من هذه الناحية: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة 2/ 78]. فهنا نرى الميل، والشك، ومجرد الاحتمال، هذه الأمور المعبرة عن صور مختلفة للتردد توضع في مكانها من (الحقيقة) الساطعة التي تعبر عن الاقتناع العقلي في أصفى صوره. وهذه آية أخرى توجه النقد الصارم للفكر الذي يسوغ لنفسه المناقشة فيما لا علم له به، دون أن يتحرى أولاً، جمع معطيات موضوع المناقشة. {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران 3/ 66]. فهذه الآيات، تضع الفكر الإسلامي في طريق العلم وتزوده لاكتسابه بأحسن التوجيهات المنهجية، وغيرها كثير، بحيث يكون القرآن الكريم، من هذه الناحية، منهجاً تربوياً جديراً بالدراسة في غير هذا المكان، إلا أننا نضيف أن المفهوم القرآني العام ينصب في الحديث النبوي الذي يصيغه في القالب التطبيقي، في صورة أحكام تدخل مباشرةً في حياة المسلم اليومية، وفي توجيه وجوه نشاطه. ((العلم فريضة على كل مسلم ومسلمةٍ)).

((أطلبوا العلمَ ولو بالصينِ)). ((حبر العلماء أفضل من دم الشهداء)). فهذه الأحاديث وغيرها تدعم عملياً، كما نرى، البناءات العقلية التي أنشأها القرآن في الفكر الإسلامي الذي ينطلق محصناً، مزوداً، موجهاً هكذا للقيام بمهمته العلمية والسياسية والاجتماعية. وإننا لنرى أثر هذا المنهج التربوي الذي هيأ المجتمع الجديد لمهماته العقلية، حتى في سلوك الفرد أمام اختباراتٍ بسيطةٍ في ظروف ذات مغزى، نرى مثلاً، عمر بن الخطاب يمر يوماً بدرب من دروب المدينة، وهو يتلو، على طريقته في الجلوس أو في المشي، يتلو الآية: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس 80/ 25 - 31]. وها عمر، يقف عند كلمة (أبّا) ويشعر أنه لا يعرف معناها، ترى كيف سيحل هذه المشكلة؟ إن عمر ليس من علماء اللغة، وهذا العلم نفسه ليس موجوداً بعد، إلى عصر صاحب كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهدي الذي يجب أن نعتبره اليوم المؤسس لعلم اللغات، وليس عمر بالمفسر أيضاً، إنه رجل فقط، رجل عمل لا يحق له أن يتورط في الشؤون التي ليست من اختصاصه، وإلا وقع فيما حذر منه القرآن الكريم في قوله لليهود: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؟} [آل عمران 3/ 66]. وإننا لنرى عمر لا يقف إلا هنيهة عند الكلمة التي أوقفته، والتي لا تنقص شيئاً، إن جهلناها، من وضوح الآية لأي ضميرٍ مؤمنٍ، فالمشكلة بالنسبة له، في هذه اللحظة، ليست في نطاق العلم، ولكن في نطاق السلوك، ونراه فعلاً يحلها

بكلمة يؤنب بها نفسه: ((ما لعمر والأبّ، إن جهل ما الأبّ، إن هذا إلاّ لكلفةً يا عمر)). وانطلق عمر إلى شؤونه، حيث تدعوه المسؤوليات الكبرى، ونراه يوماً آخر يجتهد في تحديد صداق المرأة، لأنه يراه فوق ما يناسب في نظره، ولكن ها هي امرأة تعارضه، فتقول له: ما أعطاك الله ذلك يا عمر وتذكر الآية: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا؟} [النساء 4/ 22]. فسكت عمر ثم قال: ((إنّ كل الناس أعلم منك يا عمر حتى هذه المرأة العجوز)) .. وتراجع عن رأيه. إننا نرى في هذين الظرفين موقف العقل تجاه الاختبارات التي تعرض له، نرى في الظرف الأول كيف يتحرر العقل في المناخ الجديد من الشكليات، من سلطان المفردات الذي طالما عوق تقدم العلم. وفي الظرف الثاني، نراه كيف يتحرر من المكابرة وهي شرّ عدو للحقيقة، وأكبر معوق للفوز بها. بل نرى كل ظرف يعبر في المجتمع الجديد على المناخ العقلي الذي كونه القرآن، نرى مثلاً، علي بن أبي طالب، يحتقر يوم النهروان رأي المنجم الذي يشير عليه بالانطلاق في وقت معين، فينطلق عليّ في غير ذلك الوقت، متعمداً وينتصر، ثم يقول على الملأ: ((لو انطلقنا في الوقت الذي أشار به المنجم لقال لنا إننا انتصرنا بما أشارت به النجوم)). وفي ظرفٍ آخر يسم عليٌّ الراية إلى زياد بن النظر ويقول له: ((قُدْ هذه الفئات، واستفد برأي عالمهم، وعلم جاهلهم)).

وهنا نرى في المناخ الجديد الفكر الإسلامي يضع سلماً، يتسلقه الفرد، وهو يدلي بعلمه لمن دونه درجة، ويطلب العلم ممن فوقه، وهكذا ينطلق تيار العرفان في الاتجاهين ومن أسفل إلى أعلى أحياناً، عندما تقف المرأة مثلاً، وترد رأي عمر في قضية الصداق. ولا شك أن هذا السلم، هو الذي أتاح للفكر الإسلامي الانطلاق، من عصر الشيئية في عهد العصر الجاهلي، للوصول إلى تلك القمم الشامخة التي أشعَّ منها العلم على العالم الذي كانت تخيم عليه الظلمات. واليوم أرانا تبهرنا هذه القمم الشامخة ونتيه في عالم الخيال حين تذكرها أقلام المستشرقين، وإن نكرتها يعترينا مركب النقص، في كلتا الحالتين تصب هذه الدراسات في روحنا حرماناً مزدوجاً، لا نستطيع التخلص منه إلا إذا تذكرنا السلم الذي وضعه المفهوم القرآني ليتسلقه الفكر الإنساني حتى يصل على درجاته إلى تلك الإنجازات العلمية التي تهيمن حتى اليوم على التقدم التكنولوجي، مثل الحساب العشري أو الغباري، والجبر، والكيمياء وعدد من القوانين في عالم الكائنات العضوية، والطبيعة، والفلك، وإذا تذكرنا هذا السلم فلنعلم أنه ما زال تحت يد أو تحت قدم المجتمع الإسلامي متى أراد استخدامه من جديد، وبحسبنا أن نقرر أن مساهمة الفكر الإسلامي في تنمية تراث الإنسانية العلمي ليست تقدر فحسب بإنجازات يقرها أو ينفيها المستشرق، حسب هواه بل تقدر بالتغيير الجذري الذي أحدثه المفهوم القرآني في المناخ العقلي والبناءات العقلية، منذ كلمة (اقرأ). وبالتالي، ربما وجب علينا أن نستخلص من هذا العرض نتيجة تحدد موقفنا من إنتاج المستشرقين، فنقول أولاً، إنه إنتاج لا يجوز نكران قيمته العلمية، بل نراه أحياناً يستحق كل التقدير لما يتسم- في بعض أصنافه مثل ما خلفه سيدييو أو غوستاف لوبون أو آسين بلاثيوس- بالإضافة إلى طابعه

العلمي، بطابع أخلاقي ممتاز لا يمكن نكرانه كشهادة نزيهة من طرف شهود نعرف قيمتهم كعلماء. ولكننا نغفل جانباً أساسياً في الموضوع إذا لم نأخذ في حسابنا أن كل ما ينتجه العقل في هذا القرن العشرين الخاضع لمقاييس الفعالية، لا يخلو من بعد عملي قد يستغل في ميدان السياسة والانتفاع حيث تصبح الأفكار، ما سما منها وما كان تافهاً، مسخرةً لتكون وسائل افتضاض الضمائر والعقول. إن الكتب، بغاليها وتافهها، تقع بمجرد خروجها من الطبع، وتقع أحياناً دون أن يشعر أصحابها في أيدي أخصائيين يسخرونها للصراع الفكري، فيصيرونها أدوات للمشاغبة، وللتحلل الأخلاقي، أو مجرد أدوات إلفات وتلهية، ومما نلاحظه أن الكتاب الذي يتعلق بموضوعنا يصدر في عاصمة أوروبية في نفس الوقت مع ترجمته في عاصمة عربية. ولا يبدو هذا التنسيق يلفت النظر حتى في البلاد التي تعاني آثار الصراع الفكري، ودون أن تشعر هذه البلاد بالوسائل التي يستخدمها هذا الصراع ولا بأهدافه، بل ولا بمعنى هذه الكلمة نفسها كأنها مجرد مفردة. ولنختبر بهذا الصدد عقلاً متنوراً فسوف نراه يحوم حول جوابٍ مترددٍ مرتابٍ، لا يستطيع صياغته بوضوح، وإنما يتمتم: الصراع الفكري؟ ... آه لعلكم تتحدثون عن الوجودية، والماركسية، والسريالية؟ وإذا ما أبرزتم أكثر معنى سؤالكم، وقلتم: لا يا سيدي بل أتحدث عن ماركسية لا صلة لها بماركس، وإنما هي مجرد كلمات وشعارات تلقنها لشبابنا بعض سلطات ترى في الماركسية مجرد وسيلة للعمل ضدَّ الإسلام، كما أتحدث عن وجودية لا صلة لها بوجودنا على الإطلاق، وعن سرياليةٍ لا تمت بصلة للفن، وليست هذه الأشياء في الواقع إلا وسائلَ للتغلغل في عقول النشئ الجديد،

تستعملها من أجل هذا الغرض دوائر لا تؤمن بها من الناحية الفلسفية والفنية والاجتماعية. إنني أتحدث مثلاً، عن تلك الكتب من نوع (ديجست) التي توزع مجاناً أو بثمنٍ بخسٍ، على الشباب كي تعينه بتواضع ثمنها على هضم الأفكار المعروضة لضميره .. ولكن هيهات ... هيهات أن يفقه هذا الحديث (الفكر المتنور) الذي يستمع لكم، إن على بصره لغشاوة، ولستما، أنتم وهو، على نفس الصعيد، فهو يعيش على الصعيد الفكري، حيث نتلقى أفكار الغير بكل تقدير، لأن الآراء والأذواق ليست موضوع نقاش، حسب زعمهم، وربما تكونون أنتم على الصعيد الأيديولوجي حيث يجب أن تطرح كل فكرة واردة تحت المجهر لينظر في شأنها، لأن الفكرة قد لا تكون، على هذا الصعيد، مجرد فكرة ينظر فيها من الزاوية الفكرية أو الفنية فحسب، أو بالنظر إلى نوايا صاحبها فقط، ولكن ينظر فيها من حيث نوايا من يستخدمها. وعلى العموم فإن من يستمع إليكم لا يفهمكم لأن خالي الذهن من فكرة الصراع الفكري، في العالم، وعلى أكثر تقدير يشعر بوجود هذا الصراع في المجال الدولي بين الكتلتين الكبيرتين. يجب إذن أن نذكر، ولو كلمة، على هذا المفهوم بالنسبة لموضوعنا، حيث لا نعتبر إنتاج المستشرقين من زاوية ذاتية أصحابه، من ناحية ميزاتهم الفكرية ونواياهم، بل من زاوية من يستخدم إنتاجهم لغايات خاصة في عالمنا نفسه، لا في عالم بعيد أو خيالي. فهذه الغايات التي عرفناها فيما سبق بـ (افتضاض الضمائر) يمكن تلخيصها

كما يلي: إن كل فراغ أيديولوجي لا تشغله أفكارنا، ينتظر أفكاراً منافية، معادية لنا. فهذه هي القاعدة العامة ... والمتخصصون في الصراع الفكري يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أن أولئك الأخصائيين ليسوا مجرد مثقفين، يبحثون عن الحقيقة، لأنها حقيقة، ولكنهم يبحثون عن جانب التطبيق منها في مجال المصلحة السياسية، ولعلهم إذن لا ينتظرون وقوع الفراغ الأيديولوجي لاحتلاله، بل يصنعونه هم، وربما يشغلونه مؤقتاً بأفكار سواهم حتى تنتهي، في مرحلة أولى، عملية فصلنا عن أفكارنا بتلك الأفكار الفاصلة الوسيطة. أجل، إن هذا المجال ليس المجال الذي يطبق فيه المبدأ المقرر تبعاً لخط مستقيم، مثل الهندسة، حيث النتيجة المنطقية تتبع مباشرةً التي قبلها، فالصراع الفكري يجري فيه منطقه الخاص، تبعاً لخط ملتو على العموم، بحيث يقتضي الانتقال من مرحلةٍ معينيةٍ إلى أخرى، إلى مراحل وسيطة تفرض منرجات ومنعطفات الطريق. فالماركسية المزيفة مثلاً، التي تلقن إلى الجناح اليساري من شبابنا، ليست إلاَّ مرحلةً وسيطةً، تفصل طائفةً من شبابنا عن الجبهة الأيديولوجية الوطنية، لأن المشرف على عملية الفصل، لا يستطيع أن يقول لتلك الطائفة: نريد تخفيض حركة النمو في بلادكم، والحد منها، هل لم أن تعينونا على تشويه واستنقاص الأفكار والمثل التي تدعم هذه الحركة (¬1)؟ إن قولاً كهذا يكون قطعاً، صنفاً من الجنون والعبث لا نتصورهما في إبليس. ¬

_ (¬1) وبأية طريقة لنفتح كتاب مضار الأيديولوجيات لـ R. Ruyer ص 22 فنقرأ: ((في كل مرة يراد فيها خلع نظام من القيم يكفي وصفه أو التكلم عنه بكلمات غير مناسبة)) المؤلف. [ط. ف].

فما يبقى عليه إلا أن يحمل هذه الطائفة على جسر من أفكار الغير، ليعبر بهم إلى الضفة الأخرى حيث نجد عصابة من ماركسيين مزيفين، وقوميين مصطنعين، وأفراد مقنعين على وجوههم قناع الثورة. وبهذه العملية الأولى تكون قد حصلت على نتيجة أولى؛ أن وحدة الصف المعنوية قد انفصمت في الوطن في الوقت ذاته الذي هو في حاجة لها لمواجهة مشكلات الاستقلال الصعبة وذات الأهمية الكبرى. حتى أن عدد هذه المشكلات، عوض أن ينقص، يتزايد بقدر ما تأتي العملية بنتائجها الفكرية لدى هذا الشباب، وبنتائجها الاجتماعية في المجتمع، حتى يصبح هذا الشباب يلعب دور الفرملة عندما يضع عليه أخصائيو الصراع الفكري قدمهم، ونقول قدمهم لأنهم ينزهون أيديهم أن يضعوها على هذه الأجهزة حتى لا تتسخ. وربما تبدو هذه الاعتبارات دون صلة بموضوع المستشرقين، نقول أجل لها صلة، على شرط أن نتبصر في العملية بصورة شاملة، لأنها في الوقت الذي نلاحظها من جانب الشباب الذي تحقن له حقنة من سيروم الكلاب المسعورة، فينطلق يلهث في مجال الديماغوجية، نراها تستمر في الناحية الأخرى حيث يصب نفس الأخصائيون في روح الجناح الآخر من شبابنا عقار النوم والسلوى من خالص إنتاج المستشرقين. وهكذا تتم العملية على جناحي شبابنا، الجناح المصاب بالشلل المضطرب والجناح المصاب بالشلل المسكن، فالبعض يصيحون ويضطربون، والآخرون يحلمون في بلاد تتطلب النظام والجدية، وتتطلب الضمير المتيقظ على الدوام لمواجهة مشكلات الاستقلال.

وعلى كل هكذا نرى الإنتاج الاستشراقي في دوره في إطار ما نسميه الصراع الفكري. والآن نتساءل: كيف يجب أن يكون عملنا الفكري في هذا الإطار؟ فليسمح لنا ألاَّ ندخل في التفصيل في هذه السطور، وأن نتقدم فحسب بالملاحظة العامة التي نراها تتردد، عن حقٍّ، في أحاديثنا اليوم بأن الاستقلال السياسي لا يكفي ولا يشفي إن لم يدعمه الاستقلال الاقتصادي. فهذا صحيح .. إلا أنه يجب أن نضيف له أن المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية، لا يمكنه على أية حالٍ أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد، أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج سواء كانت تمت إلى الاستشراق أو الشيوعية. وإن في تجربة كوبا لأكبر دليل على ذلك فإنها تشق طريقها اليوم بالخبرة التي تكتسبها في التطبيق لا في الكتب. فعلينا أن نكتسب خبرتنا كذلك، أي أن نحدد نحن موضوعات تأملنا وألا نسلم بأن تحدد لنا (¬1). وبكلمة علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي، والسياسي. ¬

_ (¬1) من واجبنا هنا أن نأسف لغياب جهد حقيقي في هذا المعنى، جهد سليم وهادف، ففي كل ما أنتج في بلدنا من مادة فكرية لا يوجد أي شيء يمكن أن يثير الحماس أو حتى شعوراً ما بالاحترام الحقيقي ما عدا بعض المؤلفات التقنية التي ينبغي علينا أن نحكم عليها على صعيدٍ مختلفٍ تماماً. [ط. ف].

المسارد ¬

_ 1 - مسرد الآيات القرآنية ............................... 200 2 - مسرد الأحاديث النبوية ............................. 203 3 - مسرد الأعلام (الأشخاص والدول والأمكنة) .......... 208 4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب ................ 215 5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات ............. 220 6 - مسرد الكتب والمراجع والمصادر .................... 222 7 - مسرد الموضوعات ................................. 224

1 - مسرد الآيات القرآنية ¬

2 - مسرد الأحاديث النّبويّة وتخريجها (*)

3 - مسرد الأعلام (الأشخاص والدول والأمكنة)

_ ألمانيا 40، 42، 53، 71، 79، 105، 106، 107 إمبراطورية إيفيان الرابع 60 إمبراطورية روما = الإمبراطورية الرومانية 12، 68، 138 أمير علي 181 أميركا 14 إنجلترا = إنكلترا = إنكلترة 33، 40، 50، 97، 143 أنجلس 181 أندونيسيا 27، 57 أنس بن مالك 160 أنغلز 49 أنغولا 128 الإنكليز = الإنكليزيون 46، 108 أنهار إفريقيا 106 الأهواز 186 الأودار نيكيين 107 أورسوس 140 أوروبا 14، 41، 42، 43، 53، 61، 85، 121، 138، 139، 145، 158، 167، 169، 175، 181، 184 أوروبا الغربية 40، 94 إيرلندا 33 إيطاليا 40، 50 إيفيان الرابع 60 إيقوسيا 42 إيلات 179 "ب" باريس 73، 102، 128، 175 باندونغ 38، 70، 94 ببرسن 108 البخاري - الإمام 135، 155 بدر 154 براهما 60 برلين 53 بروسيا 53 بريجنيف 174 بسام البركة - الدكتور 10 بغداد 186 البلاد الإسلامية 49، 124، 127، 164، 169، 174، 176 البلاد الأوروبية 138 البلاد الشرقية 146 البلاد العربية 97، 175 البلاد الغربية 146 بلاد ما وراء البحار 174 البلاد المستعمرة 9 البلدان الإفريقآسيوية 40، 102 البلدان المتخلفة 40، 50، 72، 89 بلدان المغرب العربي 22 البلدان المنخفضة - انظر هولندة البلدان النامية 38، 39، 50، 80 بلوا 42 بن باديس 22 بن بلّه 117، 119، 124 بن نبيّ 32، 38، 39،51، 70، 93، 106، 173 وانظر: مالك بن نبيّ بوخار 15 بول فاليري 122 بومرداس - قرية 115، 116 بيت المقدس 155

_ بيلدونجس فيليستر 51 "ت" تركيا 47 الترمذي - الإمام 135 توما الإكويني - القديس 45، 126 توماس الأكويني 167، 169 توماس - القديس 126 تونس 50، 115، 116، 117 توينبي 15، 32، 49، 51، 58 "ث" ثوستراد موسى 185 "ج " ج. أوتيجاجسيت 51 جامعة عليكرة 170، 171 الجامعة الكاثوليكية 174 جان جاك روسو 137 جبريل 151 جربر دوربياك 167 الجزائر - الجزائر العاصة 7، 8، 9، 11، 13، 15، 16، 17، 21، 22، 24، 25، 29، 31، 33، 34، 44، 46، 48، 49، 50، 59، 61، 62، 65، 67، 69، 72، 76، 79، 83، 86، 87، 89، 91، 95، 98، 102، 103، 112، 113، 116، 117،118، 120، 121، 123، 124، 139، 175 الجزر البريطانية 47 جمال الدين الأفغاني 46، 47، 48، 171 جمال عبد الناصر 97 الجماهير الجزائرية 32 الجمهورية الصينية 81 وانظر الصين جوزيف ماري جكار 44 جولدتسيهر 167 جوينبلين 140 جيب - المستشرق 125، 127 جيزو- المؤرخ 138 جيش نابليون 128 جيمس وات 2، "ح" حافظ إبراهيم 53 الحبشة 48 الحكومة الجزانرية 75 الحكومة الفرنسية 21 حكومة فيشي 75 حلب 48 "خ " خالد الأمير 74 خروتشوف 60 الخلفاء الراشدون 150 الخليل بن أحمد الفراهدي 191 دار الفكر بدمشق 7، 33 دانتي 44 الدلتا - مستنقعات 59 دلهي 46 دمشق 7، 163 دنيس بابان 42، 82 دوزوي 168، 171، 172، 180 دوسلان 173

_ الدول الاستعمارية 133 الدول الإسلامية 178 الدول الإفر يقية الآسيوية 144 الدول الحديثة 12 الدول الرأسمالية 174 دول الشرق 174 الدولة البروسية 106 الدولة الموحدية 70 دونيس بيبان 184 دويلة إسرائيل 178 الدويلة الصهيونية 178 دي غول 98 ديكارت 181، 184، 185 ديوفانت 183 "ر" راوند 186 الرباط 117 رسل المسيح 126 رسول الله - محمد = النبي - صلى الله عليه وسلم - 13، 85، 129، 135، 150، 151، 152، 154، 155، 156، 158، 160، 186، 187، 189 روبسبيير 140 روسيا القيصرية 142 روما 33، 68، 101، 104 رينان 48، 77، 78 رينه مايير 22 رينو 168 "ز" زرادشت 114 الزركلي 186 زنجبار 48 زياد بن النظر 192 زيد بن ثابت 188 زيغريد هونكه 176 "س" الساحة المحصنة (الغالية) 104 ستالين 139 سلاد 108 سيدييو - المستشرق 168، 169، 193 سيناء 179 شاخت - الدكتور 102 شارل العاشر 61 شبنجلر 15، 114 الشرق 145 شكيب أرسلان 48 الشمال الإفريقي 163 شيشرون 106، 110 "ص" الصخرة السوداء 115 صفين 152، 162، 163 الصين 13، 81، 145، 146، 174 الصين الشعبية 148 "ط " طرابلس 23، 62، 83، 103، 115 طراببس - لبنان 5، 10 طنطاوي جوهري 179، 180، 182 طه حسين 168

_ الطيب الشريف 7، 10 "ع " عبد الرحمن بن عمارة 16 عبد الرحمن الكواكبي 8، عبد العزيز خالدي - الدكتور 21، 25 عبد القادر - الأمير 19 عثمان بن عفان- الخليفة 187 علي بن أبي طالب - الخليفة 192 عليكرة 171،170 عمار بن ياسر 107 عمر بن الخطاب - الخليفة 113، 123، 124، 153، 154، 155، 156، 158، 159، 161، 162، 191، 192، 193 عمر بن عيسى 7، 16 عمر مسقاوي - المحامي 5، 7، 10، 11 "غ " غاغارين 107 غالفاني 55 غاليليه 44، 185 غاندي 108 الغرب 13، 14، 39، 48، 52، 121، 142، 180،170 غروسيه - الدكتور 32 غرينوك 42 غليوم الثاني 53 غوبينو 77 غوتنبيرغ = يوهان غنزفلايش 41 غوستاف لوبون 128، 169، 180، 193 "ف " فانون 109 فاليري جيسكار ديستان 174 فخته 107، 114 فرانز فانون 108 فرسنجيتوريكس - القائد 104 فرعون 141، 142 فرنسا 40، 50، 87، 97، 98، 128، 140، 143 فريدريك جيوم الثاني 106 فريد وجدي 180، 183 فيتنام 14 فيشي 75 فيكتور هوجو 140، 141 "ق" القارة الإفريقية 128 القاهرة 116 قسنطينة 65، 118 قصر الخضراء بدمشق 163 القمر 12 "ك " كاترين دي مديتشي - الملكة 185 كارل ماركس 121 وانظر: ماركس كاره دوفو 167 كبلنغ 97 كريستوف كولومب 42 الكعبة المشرفة 28 الكلدانيون 82 كلفان 181

_ الكنائس القوطية 60 كوبا 198 كونفوشيوس 80 كولن ولسن 95 كومابي - الإمبراطور 52 كهف علي بابا 21 كيسرلنج 145 كيوتو 52 "ل" لالاند 99 لامانس - الأب 168 لبنان 5 لندن 102 لوثر 181 لوثان 174 لوكتو 46 لوكريس 121 لويس برتراند 77 لويس الرابع عشر 128 لويس السادس عشر - الملك 139 ليبيريا 37 ليبيا 50 ليست 82 ليسنكو 188 لينن 40، 49، 145، 181 ليون 44 ليونارد دي فانشي 44، 45 "م" مارتن لوثر 121 وانظر: لوثر المارسيلية 108 ماركلس 49، 60، 96، 100، 181، 194 ماسيس 39 مالرو 129 مالك بن نبي 5، 7، 8، 9، 10، 13، 15، 16، 19، 31 وانظر: بن نبي مالينوفسكي 80 المأمون 186أ المحكمة الشرعية في طرابلس - لبنان 5 محمد - صلى الله عليه وسلم - انظر: رسول الله محمد عبده- الشيخ 46، 48، 61 محمود شاكر 161 المدينة المنورة 123، 191 مرجليوث - المسثرق 168 المساجد الإسلامية 60 مسالين- الإمبراطورة 86 مسجد عمر بن الخطاب بيت المقدس 155 مسلم - الإمام 135 المسيح - عليه السلام 126 مصر 48، 50 مصطفى صادق الرافعي 168 معاوية 163 المغرب 24 المغرب العربي 22، 96 مكة المكرمة 49، 186 مكتبة النهضة الجزائرية 7، 22 مكسيم رودنسون 180 مهنو تزيروت 114 الموالي 78 موتسو هيتو 52 الموحدون 51

_ موسكو 107، 128 موسى - عليه السلام 59، 141، مونتسيكو 32، 138 ميانس 41 الميجي 52 الميكادو 52 ميكال آنج 44 "ن " نابليون 128، 143 نانا صهيب 46 نانت 42 ن بردييف 60 النبي - صلى الله عليه وسلم - انظر: رسول الله نجلان - الوالي 22 نصف الكرة الجنوبي 38، 70 نصف الكرة الشمالي 38، 41 نهر الفولغا 107 النهروان 192 نور الدين بوقروح 7، 9، 17 نورمبورخ 75، 76 نيتشه 14، 51، 80، 107 النيل 59 نيوتن 82 "هـ" هارون 142 هتلر 77 هردر 15 الهند 33، 46، 108، 170 هولندة = البلدان المنخفضة 40، 53 "و" وات 42، 184 الولايات المتحدة 37 وانظر: أمريكا وليام هارفي 170 وهران 103 "ي " اليابان 38، 40، 52، 53، 54 يسوع 60 يعقوب 182 اليمن 33 اليهود 76، 190 يوتوبيا 128 يوسف زيروت 120 يوليوس قيصر 104 اليونان 33 يوهان غنزفلاديس - انظر غوتنبيرغ يوهان فوست 41

4 - مسرد المذاهب والجماعات والشعوب

_ الثورة الجزانرية 62، 82 الثورة الروسية 145 الثورة الفرنسية 128، 136، 137، 138، 139، "ج" الجرمانية 128 الجزائريون 24 الجمالية الإيطالية 61 الجماهير المسلمة 176 الجنود الهنود 46 الجيش الإنكليزي - الجيش البريطاني 46 جيش التحرير الوطني 116 الجيل اليوناني المعاصر 150 "ح" حركة الإصلاح 46، 138، 181 الحركة الإصلاحية 73 حركة الأفكار 174 الحركة الدينية للنهضة 61 الحركة العصرية التجديدية 73 حركة النهضة 46، 138، 167، 169 الحركة الوطنية 75 حضارة إسرائيل 59 الحضارة الإسلامية 8، 49، 167، 171، 172، 173، 176 الحضارة الغربية 8، 46، 133، 169، 179،180 الحضارة المصرية 58، 59 الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية 114، 115، 116، 118، 120، 127 الحلفاء 21 "خ" الخدم 140 خط موريس 115 الخلفاء الراشدون 162 "د" الدجل السياسي 22 الدولية 108 ديانة توما 106 الديمقراطية 93، 132، 133، 134، 135، 137، 139، 141، 143، 144، 145، 148، 149، 150، 152، 156، 157، 164، 175 ديمقراطية أثينا 149، 150 الديمقراطية الإسلامية 148، 150، 153، 160، 161 الديمقراطية الجديدة 145، 148 الديمقراطية الشعبية 145 الديمقراطبة العلمانية (اللائكية) 148، 149 الديمقراطية الغربية 138، 145 "ر" الروح الديمقراطية الإسلامية 162، 163، 164 الرومان 32، 180 الرومانسية المتفائلة 10 "ز" الزحف الثقافي الغربي 170 الزنادقة 186 "س" الستاخانوفيين 107 السريالية 194 السوفيات 40

_ "ش " شعب أثينة 134 الشعب الألماني 71 الشعب الإنجليزي 144 الشعب الجزائري 32، 24، 34، 102، 103، 108، 110، 116، 117، 118، 119، 122، 129 الشعب اليوناني 141 الشعوب الآرية 85 الشعوب الإسلامية 133 الشعوب الإفريقية الآسيوية 133 الشعوب السامية 85 الشوغون 52 الشيوعية 40، 138، 173، 177، 178، 198 "ص " الصراع الفكري 175، 176، 173، 181، 194، 195، 196، 197، 198 الصليبية 128 "ض " الضمير الإسلامي 189 "ع " العالم الاستعماري 8 االعالم لإسلامي 46، 47، 49، 50، 51، 52، 53، 54، 57، 124، 162، 170، 171، 173، 174، 177، 178، 180، 181 العالم الثالث 8، 13، 31 العالم العربي 24، 174 العالم الغربي 133، 167 العالم الغربي المعاصر 10 عالم القرن العشرين 34 العالم الكادح 36 العالم المعاصر 38 العبقرية الغربيو 121 العرب 179، 180، 182 العروبة 122، 124 العصر الجاهلي 193 العصر الحديث 53 العقلانية الفرنسية 61 العلماء المسلمون 170 العلمانية 180 عهد الاستعمار 42 العهد الاستعماري 104 عهد الإصلاح 42 العهد الإغريقي والروماني 183 عهد بيبان 184 العهد الديمقراطي الإسلامي 162 عهد الرأسمالية 42 عهد القرون الوسطى 53 العهد القيصري 139 عهد النهضة 42، 85 العهد الموحدي 125 "ف " الفاتيكان 101 الفدائيون الفلسطينيون 179 الفراغ الثقافي 73 الفكر الإسلامي 125، 127، 167، 169، 171، 171، 180، 181، 182، 188، 190، 191، 193 الفكر الإسلامي الحديث 165

_ الفكر الأوروبي 61، 184 الفكر الأوروبي المعاصر 61 فكر بن نبي 7، 8، 9، 10 الفكر الجزائري 15 فكر الشيئية 51 الفكر الغربي 32 الفكرة الإسلامية 189 فكرة الشيخ بن باديس 22 "ق " القابلية للاستعمار 31، 32، 33، 35، 48 القبائل الأسترالية 12 القرون الوسطى 34 قضية الأفكار 179 القوميون 197 قيم الحضارة الغربية 170 القيم الجمالية 85 القيمة الأخلاقية 86 القيمة الجمالية 86 "ل " اللوثرية 121 الليبرالية 173 المادية 48، 121 الماركسية 60، 61، 194، 196 الماركسيون 197 المبدأ الإنجيلي 61 المجتمع الأثيني 96 المجتمع الإسلامي 45، 46، 47، 61، 70، 113، 125، 150، 160، 168، 169، 170، 171، 172،171، 178، 181، 183، 185 - 186، 187، 193 المجتمع الاشتراكي 49 المجتمع الأوروبي 185 المجتمع الجزائري 113، 114 المجتمع الرأسمالي 49 المجتمع الروماني 104 المجتمع الصيني 111 المجتمع العربي الجاهلي 111 المجتمع الغالي 104 المجتمع الغربي 44، 45، 49، 138 مجتمع فوق القومية 39 مجتمع القرون الوسطى 44 مجتمع ما بعد الموحدين 182 مجتمع ما قبل ديكارت 185 المجتمع المتحضر 84067 المجتمع المتخلف 43، 67 المجتمع المذرذر 111 المجتمع الميسحي 112 المجتمع النامي 43، 44 المجتمع الهندي 111 المجتمعات الإنسانية 188 المجتمعات البدائية 70 المجتمعات النامية 35، 67، 88 مجمع روما 101 المجموعة اليهودية الجزائرية 75 المرابطون 163 المرابطية 48 المرتزقة 24 المستشرقون 8، 165، 167، 168، 171، 180، 183، 193، 195، 197

_ المستشرقون الغربيون 169 المسيحية 60، 61، 101، 174 المسيحيون 126 المسيرون الصينيون 112 مشكلة الأفكار 124 مشكلة الثقافة 67، 69 المصطلحات البافلوفية 109 المعسكر الشرقي 94 مفترسو الأفكار 96 المفكرون العرب 178 الموالي الإقطاعيون 52 الموحدون 22، 34، 163، 172، 182 الموسوية 60 ميثاق طرابلس62 الميكيافيلية 103 "ن " الناشورية 48 ندوة مالك بن نبي 5 نزعات الدروشة المرابطية 86 النزعة الكاثوليكية 121 النزعة المرابطية 33، 73 النساء الجزائريات 105، 111 النظرية الثورية الجزائرية 109 النظرية العلمية للثقافة - مالينوفسكي 80 النظرية النسبية 55 نظريات توينبي 58 النظام الأرستقراطي 134 النظام الإسلامي 162 النظام الإقطاعي 52 النظام الديمقراطي 137 النظام الصيني 111 النظم الاشتراكية 24 النهضة الإسلامية 45، 50، 61، 123، 167، 171 النهضة الجزائرية 34 نهضة العالم الإسلامي 52، 57 نهضة العالم العربي 174 النهضه اليابانيه 52 "هـ " الهندوسية 60 "و" الوجودية 194 "ي " اليوتوبيا 128 اليونان 180

5 - مسرد المعاهدات والمؤتمرات والمنظمات

_ مؤتمر باندونغ 38، 70 مؤتمر جبهة التحرير الوطني 23 مؤتمر الشمال - الجنوب 38 مؤتمر الطلبة الجزائرينن 95، 97 مؤتمر العمال الجزائريين 175 الموثق الوطني 123 موقعة آليزيا 104 "ن" نادي الطلبة المغاربة 131 "هـ " هزيمة 5 حزيران (يونيو) 1967م 178 "و" واقعة صفين 162 وانظر يوم صفين وصية عمر - الخليفة 156 "ي" يوم بدر 154 يوم صفين 152 يوم النهروان 192

6 - مسرد الكتب والمراجع والمصادر

_ "ق " القضايا الكبرى 7، 8، 16 "م" مجلة الأزمنة العصرية - الاتحاد السوفياتي 86 مذكرات شاهد القرن 172 مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 9 مشكلة الثقافة 65، 72، 74، 79، 88 مشكلة الحضارة 9، 29 مشكلة المفهومية 1،،91 مضار الأيديولرجيات 196 مقدمة ابن خلددن 172 ملاحظات ودراسات حول الإسلام في إفريقيا السوداء 174 منابع واتجاهات الشيوعية الروسية - ن بردييف 60 موازنة التاريخ - د. غروسيه 32 "ن" نظرات من العالم المعاصر - بول فاليري 122 النظرية العلمية للثقافة - مالينوفسي 80 "و" وجهة العالم الإسلامي 32، 33، 47، 93، 125

7 - مسرد الموضوعات

§1/1