القصص القرآني - ياسر برهامي

ياسر برهامي

قصة أصحاب الأخدود

قصة أصحاب الأخدود من أعجب القصص قصة أصحاب الأخدود، وفيها بيان فضل العلم وأهمية الصبر عليه، وفضل ثبات المؤمن على الحق، وعدم قبوله للتنازلات التي تفسد دعوته ودينه، وفيها إشارة إلى نصر الله تعالى لأوليائه الصالحين على عدوهم حسياً ومعنوياً، بل سماه فوزاً كبيراً.

الهدف من الخلق

الهدف من الخلق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فإنه كلما ازدادت المحن على أمة الإسلام، وازداد ظلم أعدائها من الكفرة والمنافقين، احتاج الإنسان أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليراجع الأهداف والنتائج التي ينبغي أن تكون منه على بال، وأن يعلم الهدف الذي يسعى إليه أهل الإيمان، والذي من أجله يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، إن وضوح الهدف بإذن الله تبارك وتعالى إذا كان فعلاً مستقى من الكتاب والسنة يبعد عن الإنسان شبح اليأس، ويمنعه من القنوط أو من الشعور بالفشل في تحقيق الأهداف، فكثير من الناس إذا لم ير بعض الأهداف تتحقق أمامه يغفل عن الهدف الأعلى والأسمى الذي يريده كل مؤمن، وهو عبادة الله سبحانه وتعالى، وأن يوفق في ذلك، فلابد أن يكون هذا الهدف واضحاً أمامنا، أما تحقيق نصر في موضع معين، أو زمن معين فهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء. وهو سبحانه وتعالى لا يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة مستمرة، فقد يتأخر النصر، وقد تحصل هزيمة، وقد يقع للمسلمين قتل وأسر وجراح وآلام كثيرة، ولكنهم إذا فهموا قضيتهم وعلموا هدفهم الحقيقي، وأن النتائج التي تتحقق على أرض الواقع ليس مقياسها حصول التمكين من عدمه، بل حقيقة الأمر كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الحكمة من وجود البشر بل وجود الإنس والجن فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. إذاً لابد أن يكون هدفنا هو تحقيق العبودية لله عز وجل، وأنت أيها المؤمن لا يمنعك من ذلك مانع مهما كان الأمر، وسواء كنت ممكناً على رءوس الناس أو كنت مستضعفاً في غياهب السجون، فأنت لا يمنعك مانع من عبودية الله عز وجل، في فقرك أو غناك، في صحتك أو سقمك، في شبابك أو هرمك، أنت تعبد الله سبحانه وتعالى على أي حال؛ لأنك علمت الهدف من وجودك، وكذلك أنت تسعى إلى أن يؤمن الناس حتى ولو قتل جميع أهل الإيمان، ونحن أيضاً نسعى إلى أن يؤمن الناس وأن يعبدوا ربهم سبحانه وتعالى، فهذه غايتنا التي نسعى إليها؛ لأن هذا أمر يحبه الله وشرع من أجله الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله، وأما أن تكون نهاية المطاف في حقنا أو في حق الطائفة التي نحيا وسطها أن يمكن لهذه الطائفة فهذا خطأ.

أسباب عدم تمكين أهل الحق

أسباب عدم تمكين أهل الحق اعلم أن طائفة الحق قد لا تمكن لأمور: إما لأن الله سبحانه وتعالى ادخر لهم من الفضل والإنعام ما لا يخطر ببالهم، ويرشدنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (ما من سرية تسلم وتغنم إلا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من سرية تخفق وتصاب إلا كان لهم أجرهم كاملاً)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وإما أن يكون ذلك لقصور وجد في السائرين إلى الله سبحانه وتعالى ويحتاج منهم إلى تعديل، وغالباً لا يكون النظر في التعديل إلا عند أوقات الشدائد والمحن، فيفكر الإنسان من أين أصابنا ما أصابنا؟ كما قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]. فهكذا يبين لنا كتاب ربنا سبحانه وتعالى الحكم من وراء تقدير المحن، فيكون في ضمنها منح وفضائل على أهل الإسلام؛ ليراجعوا قلوبهم وأعمالهم ودعوتهم، ويتأملوا فيما يجري حولهم من تغير موازين القوى حتى تكون النهاية بفضل الله سبحانه وتعالى حتماً وقطعاً لصالح أهل الإسلام، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك لجيل أو طائفة، ولذلك نقول: عندما يشتد الأمر على المسلمين يحتاجون إلى الرجوع إلى كتاب الله والسنة؛ ليجدوا في الكتاب والسنة قصص الدعاة إلى الله عز وجل، وقصص أنبياء الله سبحانه وتعالى. ومن لم تثمر دعوته النتائج المرجوة التي قد يرجوها الإنسان، فلا يظن أن النتيجة هي أن يحصل التمكين وأن يظهر الدين ويعلو، فهذا {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وقد قص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه أنه عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم فرأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. وبعض الدعاة إلى الله عز وجل كانت نتيجة دعوتهم في الدنيا موت جميع المؤمنين بل قتلهم، وكان في ذلك الانتصار، وكان في ذلك الفوز العظيم، فقصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله عز وجل في كتابه ترشدنا إلى هذه النقطة العظيمة الأهمية، فنحن نريد أن يؤمن الناس مهما حصل بعد ذلك، وإذا حققنا معاني العبودية لله سبحانه وتعالى فلا يضرنا ما جرى بعد ذلك، فإن الخطر الأعظم في فترات المحن أن يقع التنازل عن مفهوم من مفاهيم العبودية، أو أصل من أصول الإيمان، أو أن يحرف الدين ويبدل، أو أن يعتقد الناس خلاف الحق تحت ضغط الباطل، فنحن نعلم يقيناً أن الموازين بيد الله سبحانه وتعالى، وأن القوى ليست بأيدي البشر، بل الله هو الذي يهبهم الملك إذا أراد وينزعه منهم إذا شاء كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. فإذا أيقنا بذلك، فإن القضية التي ابتلينا بها اليوم هي أن جعل الله عز وجل القوة بأيدي أعدائنا؛ لينظر كيف نثبت على الإيمان، وكيف نزداد لله إيماناً وتسليماً في فترات المحن والشدائد، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويقلب قلوب العباد بما أراد، ونحن نرى في واقع الحال من ينهار إيمانه، ويزول التزامه عندما يقف في محنة، وعندما يرى أمته مستضعفة ولا يدري ما المخرج لها مما يصيبها من أعدائها، فيختار لها طريق الذل والهوان، وهو طريق التبعية والخنوع لعدوها، وأن تقبل بما يصلها من ذلك العدو الذي كان بالأمس يترك الناس أن يقولوا ما يريدون، أما اليوم فهو يقول لهم: لا تتكلموا إلا بما أريد أنا، فلا تتكلموا بما يعاديني ويعارضني، قولوا كذا ولا تقولوا كذا، علموا أولادكم كذا ولا تعلموهم كذا، وهذا موطن الخطر العظيم. لذلك نقول: يجب ثبات المؤمنين والدعاة إلى الله عز وجل على دينهم كاملاً غير منقوص لا يترك منه أي جزء، ولا يقال: إن الدين واسع، ويمكننا أن نتكلم في الدين بأشياء كثيرة بغير ما يغضب عدونا، وبغير ما يغضب من يخالفنا في ديننا كطريقة من يريد جعل إبليس والعياذ بالله من المؤمنين؛ لأنه يقر بالربوبية ويقول: ربي الله، ويدعو الله وحده حين يدعو، فلم يتوسل إليه بأموات ولا بملائكة وإنما كما قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، وهو يقر بأن الله الخالق، ويقر بأن هناك يوم بعث فيجعله مؤمناً بالله واليوم الآخر، ولا تتعجب، فإن من الزنادقة والمنافقين والكفرة الملحدين من يجعل أكفر الكفرة أعداء الله ورسله من أكمل الناس إيماناً وتقوى، وأنهم ينبغي أن يقبل منهم كلما يقولون وما يعلنون، لذلك نحتاج إلى أن نتذاكر دائماً، ونكرر ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك القصص الذي تعطينا معنى الثبات، وتوضح لنا عدم قبول الاحتواء الذي يريده العدو والذي يريده من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وسعى في الأرض فساداً، نريد أن نتذكر حتى لا نضيع في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن المتلاطمة، والتي نعلم ونوقن أن المقصود الذي يقصده الأعداء هو أن يهدموا هذه الصورة الحقيقية لدين الله، فهم يجزمون أن القوة المادية التي بأيديهم لا يمكن أن تقف في وجه طائفة قليلة ضعيفة من أهل الحق، وأن النمو الأكيد والحقيقي والطبيعي الذي فطر الله العباد عليه هو أن الحق ينمو في قلوب الناس إذا وجد، ولا يقف الباطل أمامه، بل ينهار بكل قوته المادية إذا ثبت الحق، فالحق صخرة صلبة لا يمكن أن يقف في وجهها تلك الهشاشات الباطلة، لكن بشرط أن يكون ثابتاً في القلوب، نقياً صافياً، لا يقبل الاحتواء، ولا يقبل التوجيه المنكر الباطل، ونحن نعلم أن أهل الباطل لهم وسائلهم المتعددة لكي يفرضوا باطلهم. وفي قصة أصحاب الأخدود ما نحتاج إلى تذكره دائماً، نذكر به أنفسنا، ويذكر به بعضنا بعضاً، والقصة من قصص الكتاب ومن قصص السنة كذلك، وقد ذكرت نهايتها في القرآن العظيم، وذكر تفصيلها وبدايتها ونهايتها في سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. فالله عز وجل إنما ذكر النهاية لكي تتضح لنا قضية الأهداف كما ذكرنا، ولكي نعلم أن تحقيق الإيمان هو الفوز وإن قتل من قتل من المسلمين، بل حتى لو قتلوا عن آخرهم.

تعريف أصحاب الأخدود الذين لعنهم الله في القرآن

تعريف أصحاب الأخدود الذين لعنهم الله في القرآن قال عز وجل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:1 - 4]. أصحاب الأخدود هم الكفرة الذين حفروا الأخاديد؛ لكي تضرم فيها النيران؛ فيحرق بها المؤمنون، فالله عز وجل ذكر أن الذي قتل -أي: لعن- والذي خاب وخسر هم هؤلاء الكفرة، رغم أن النهاية التي وجدت فيما يبدو للناس انتهاء أهل الإيمان عن آخرهم، وقتلهم بذراريهم في ذلك الأخدود، قال بعض السلف: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] بالفعل، وهو أن النار التي أحرقوا بها المؤمنين التفت عليهم حتى أحرقتهم وأهلكتهم بفضل الله سبحانه وتعالى. فهم أحرقوا المؤمنين بالنار وما وجد المؤمنون من ذلك إلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمس القرصة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فما وجد المؤمنون ألم الحرق الهائل الذي تصوره هؤلاء الكفرة، وإنما قتلوا هم بها، ومنهم من فسر قتل بلعن أي: طردوا من رحمة الله. فالنهاية الأكيدة: أنه قد زال ملكهم ولو بعد حين، أو مباشرة بعد تلك الوقعة. قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]، فهم مستحضرون جيداً بما يفعلونه، فلا يصح أن يقال: حدثت في غفلة أو حدثت في خطأ منا، ولم نكن ندري أن هذا سيصيبهم، إنما أصبناهم بطريق الخطأ مثلاً، لا، بل هم شهود على ما يفعلون، يعلمون جيداً ما يفعلون بالمؤمنين. قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:7 - 8] أي: ما كان ذنب المؤمنين إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد، فالمسألة واضحة ولم يكن هناك أدنى تهمة، فالمؤمنون لم يقتلوا أحداً ولم يسفكوا دم أحد، ولم يجرحوا إنساناً من هؤلاء الكفرة، وإنما كان ذنبهم عند الكفرة أنهم آمنوا بالله!

الله العزيز الحميد

الله العزيز الحميد قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] تأمل هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات القرآنية، فالله العزيز الذي قهر عباده، هو غالب على أمره، وهو عز وجل لا يمانع ولا مرام لجنابه، ولا ينال جنابه وعظمته، بل لا يقدر الخلق أن يتطلعوا إلى أن يكون لهم الملك والعز والسلطان في هذا الكون، فأقصى شيء أن يحاول الإنسان أن يثبت ملكه على قطعة من الأرض، وربما يتسع طمعه فتتسع تلك الرقعة معه، ولكنه يبهت دائماً إذا قيل له: أتملك الشمس؟! أتملك القمر؟! أتملك أن تغير سير هذه الأرض؟! كما قال إبراهيم عليه السلام للنمرود: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]. فالله العزيز في انتقامه من أعدائه، وهو سبحانه الحميد الذي يستحق الحمد، فله الحمد على ما قدر، وله الحمد على ما شرع سبحانه وتعالى، له الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، قدر سبحانه وتعالى آلاماً ومحناً، ولكنه جعل فيها من الحكم والمصالح والمنح والفضائل ما لا يحيط به عقل إنسان، ولذلك يحمد على المكروه كما يحمد على المحبوب. وفي هذه القصة من أنواع الحمد والثناء على الله عز وجل ما لا تحيط به علوم العباد، وهو العزيز سبحانه وتعالى الحميد الذي لا يجعل تسلط الكفرة على المؤمنين عزاً لهم أو ذلاً لعباده المؤمنين، بل إنما يجعل العزة لمن أطاعه، وهو يحمد على ما قدر من تسليط الكفرة على المؤمنين من غير أن يتمكنوا من إذلالهم، فإن الذل الحقيقي هو حين يغير الإنسان عقيدته وقوله وفعله على حسب ما يريد من غلبه، هذا هو الذي قد ذل بالفعل، هذا الذي لم يعز حين يخضع لعدوه ويقول له: افعل كذا فيفعل، قل كذا فيقول، اترك كذا فيترك، احلق لحيتك فيحلقها، اترك الصلاة فيتركها، وإذا أذن له بالصلاة صلى، وإذا أذن له في الإيمان آمن، هذا هو الذل الحقيقي، وفرعون إنما أغضبه أن يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم، فالناس إذا وصلوا إلى هذا الحال وصلوا إلى الذل، وأهل الإيمان أبوا أن يذلوا، وظلوا على عزتهم معتصمين بالله عز وجل إلى أن ماتوا، فكانوا أعزة بالفعل؛ ولذلك الله العزيز يظهر في هذه القصة من عزته سبحانه وتعالى ما لا يدركه الناس وما لا يعلمونه، وما لو تأمل العبد بعضه لعلم أن الله سبحانه وتعالى لا ممانع له، فأمره نافذ، وهو غالب على أمره سبحانه وتعالى، وله الحمد عز وجل، وكما قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].

سعة ملك الله وعظمته

سعة ملك الله وعظمته قال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البروج:9]. لا تظنوا -عباد الله- أنما جرى للمؤمنين في هذه القصة وفي غيرها أن ملك الله قد نقص، أو أن ملكه كان في السماوات دون الأرض، أو أن الكفرة أخذوا شيئاً من ملكه، فالملك لله عز وجل كما قال جل وعلا في علاه: ((لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، فالملك هو الذي أراد أن يجتبي بعض عباده ويختبرهم وينظر كيف يضحون في سبيله. ووالله إن هذا الأمر لظاهر جلي لمن تأمل هذا الكون، أبعد أن ملك الكفرة ما ملكوا من أنواع القوة أهم يملكون شيئاً في السماوات؟! أيملكون أن يمنعوا سقوط مطر أو حصباء عليهم من السماء؟! أهم يملكون شيئاً في هذه الأرض التي تحت أرجلهم؟ لو أنها اقتربت من الشمس قليلاً أهم يستطيعون إبعادها؟! لو اقتربت من الشهب والنيازك المدمرة أهم يستطيعون منعها؟! وهذه الأرض التي نسير عليها أيملك أحد أن يوقفها عن الاهتزاز والاضطراب إذا أمرها الله بالزلزلة، وأوحى لها بأن تتزلزل وأن تخرج ما فيها؟ لا والله لا يملك أحد ذلك، وأنى للعباد أن يملكوا؟ فحقيقة أكيدة أن الله له ملك السماوات والأرض، ولكنه عز وجل إذا أراد أن يجتبي طائفة من عباده ألقاهم وسط عدوهم وجنده محيط بالعدو من كل جانب، وأعداد جنده لا يحيط علماً بها سواه، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31]. ففي السماء ما من موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد، ويدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. وقال جل في علاه: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن:24]، فهم الأقلون عدداً وجند الله أكثر، ولكنه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده المؤمنين لينظر ماذا يفعلون؟ أيظلون على إيمانهم وإسلامهم وطاعتهم له وسط هذه الظروف أم يتخلون عن ذلك؟ والله يحب أن يعبد سبحانه وتعالى في الشدة كما يعبد في الرخاء، ويحب أن يعبد في السراء والضراء، ويحب أن يرى من عباده المؤمنين الصبر والثبات رغم شدة المنازعة والمدافعة، ولذلك ألقى بعباده المؤمنين -الذين هم عنده في الآخرة أفضل من ملائكته، بل يجعل الملائكة تسلم عليهم وتدخل عليهم من كل باب- ألقاهم وسط هذا الجو المليء بالفتنة والمحنة، ولذلك لا تظن أبداً أن ملك الله قد نقص أو قد زال عن بقعة من الأرض، بل هو ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)). ولا تظنن أيضاً أن هذا الأمر قد وقع في غياب من الله عز وجل فلا يظن ذلك إلا كافر، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، ويقول تعالى: {اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17]، ويقول تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سبأ:47] فهو يشهد ما يقع وما يجري من قتل المسلمين، ومن أذيتهم، ومن إحراقهم هم وصبيانهم بالنار رجالاً ونساء وأطفالاً يحرقون بالنار؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله رب الغلام، وإنما ترك هذا الأمر وفي قدرته وعزته وحمده وملكه أن يغير هذا الأمر؛ لأنه يريد أن يتخذ شهداء، ويريد أن يمحص عباده المؤمنين، فهو يحب أن يعبد بأنواع من العبادات لا تقع إلا في مثل هذه الأحوال، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9].

الوعيد الشديد لمن آذى المؤمنين

الوعيد الشديد لمن آذى المؤمنين قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]. انظر إلى حقيقة الأمر، فإن الكفرة أرادوا إحراق المؤمنين، فجعل الله عز وجل لهم عذاب الحريق، وأرادوا أن يدخلوا المؤمنين النار فأدخلهم الله عز وجل نار جهنم، ولكنه استثنى سبحانه وتعالى فقال: ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا))، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة! فلا تنزلن الناس شيئاً من جنة أو نار، فأنت عبد تعبد الله في الشدة والرخاء، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، وتعبد الله على أي حال، فلا تقل: عدوي لابد أن ينتقم الله منه، ومن آذاني فلابد أن يصيبه الله بأنواع الأذى، بل الأمر كما قال الله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، إذا أراد أن يهدي عبداً هداه، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم شج في وجهه وكسرت رباعيته: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128])، وتاب الله عز وجل على بعض من لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يلعنهم في الصلاة ويقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة وغير واحد، وكانوا ممن تاب الله عز وجل عليهم، فالأمر لله سبحانه وتعالى. والذي يعذب المؤمنين والمؤمنات بأي درجة من درجات الفتنة؛ ليمنعه من طاعة وعبودية الله عز وجل، ولم يتب إلى الله عز وجل قبل موته، فإنه متوعد بعذاب جهنم وعذاب الحريق؛ لينال أشد أنواع العذاب، وأما المؤمنون فكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11]. إذاً: النجاح قد تحقق للطائفة المؤمنة مع أنها قتلت وأبيدت، ومع ذلك فقد فازت الفوز العظيم، الفوز الكبير، النجاح الأكبر الأتم، وهذا هو الهدف عباد الله! لذلك نقول: لنراجع أهدافنا، وماذا نريد؟ فنحن نريد الجنة ونريد مرضاة الله من خلال تحقيق العبودية له، بل حقيقة الأمر أن تحقيق العبودية مقصود لذاته، بمعنى: أن فيها الراحة والنعيم في هذه الأرض قبل أن يصل الإنسان إلى الجنة، وفي الجنة إنما يتنعم بقربه من إلهه ومولاه، فضلاً عن أنواع النعيم الحسي الذي في الجنة، فأعظم نعيم لأهل الجنة هو أنهم مقربون إلى الله عز وجل، وأنهم يسلم عليهم ربهم ويكلمهم وينظر إليهم وينظرون إليه، لذلك نقول: هذا هو الهدف، فنحن نريد أن يرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى أياً ما كانت النتائج، وأياً ما تحقق منها، وأياً ما لم يتحقق، وبأي طريقة مضت حياتنا، فالمهم أن نرضي الله سبحانه وتعالى، وأن نعبد الله عز وجل، ولذلك سوف نسير على هذا الطريق مهما رأينا من عقبات وعثرات ومعوقات، ومهما رأينا من أعداء تتكالب، بشرط أن نثبت ولا نقبل التنازل، ولا نقبل أن نجعل القرآن عضين نقبل بعضه ونترك بعضه، فهناك أشياء لا مانع من قبولها وأشياء لا تقبل، وديننا نأخذه كله، وكتابنا نؤمن به كله، وأما أعداء الله كاليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فليس لنا فيهم الأسوة، وإنما أسوتنا فيمن آمن بالكتاب كله، وهؤلاء لا يريدون أن يؤمنوا بالله سبحانه وتعالى ولا بما أنزل، فنحن لا يمكن أن نكون متابعين لهم.

أثر اسمي الغفور والودود في حياة الناس

أثر اسمي الغفور والودود في حياة الناس قال عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14]. ليس البدء والإعادة من صنع الناس، وإنما البدء والإعادة من فعله عز وجل، وهو {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، لا يكرهه أحد على شيء، ولا يمنعه أحد من شيء. أعظم ما يتنعم به أهل الإيمان معرفتهم بأسماء الله وصفاته، وشعورهم بالحب والاختصاص بالمغفرة، فالله اختصهم بمغفرته، فهو الغفور لهم سبحانه وتعالى، الودود الذي يحبهم ويحبونه، ويستشعرون هذا المعنى أضعافاً مضاعفة حين يبذلون أنفسهم في سبيل الله عز وجل، ولا تظنوا أن من لم يجد طعاماً فجاع، أو من لم يجد شراباً نقياً فعطش، أو من لم يجد فراشاً هنيئاً فنام عليه أنه معذب، لا إنما المعذب من لم يعرف ربه عز وجل وإن نام على أوفر الفراش، وإن وجد ألذ طعام، وإن شرب أحلى شراب، لكنه غائب القلب عن الله سبحانه وتعالى، لم يعرف صفاته، ولم يحب ربه عز وجل، فهذا لا ينفعه ما تنعم به، فالله تعالى يقول: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، والمؤمنون يشعرون بهذا الود بينهم وبين ربهم سبحانه وتعالى، وأكثر ما يكون عندما يضحون في سبيله، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54]. فهم يجدون الحب والود من الغفور الودود عندما يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعندما يجاهدون في سبيل الله، وعندما لا يخافون في الله لومة لائم، وبهذا يصلون إلى حب الله سبحانه وتعالى. قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، وعرشه من علامات ملكه سبحانه وتعالى، وهو أعظم المخلوقات، ومن دلائل ملكه وعظمته، وهو المجيد عز وجل. قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]، فلا اعتراض لنا على فعله، بل يفعل ما يشاء، وله الحمد سبحانه وتعالى، ولا نعترض على الله، بل لا بد من حمده على ذلك، ورضانا عنه عز وجل رباً إلهاً لا خالق لنا سواه ولا مدبر لأمرنا غيره، ولا نتوكل على غيره ولا نخضع لغيره.

عاقبة الكافرين

عاقبة الكافرين قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:17 - 20]. الجنود السابقون من جنود فرعون وثمود كيف كان مآلهم؟ وكيف كانت نهايتهم؟ كذلك تكون نهاية من خالفك يا محمد صلى الله عليه وسلم، وكذا نهاية من خالف ما جئت به من الحق، فقول الله تعالى: (هل أتاك) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تذكرة وربط بين الماضي والحاضر، فقصة أصحاب الأخدود فيها من العضات والعبر ما فيها، ولها فائدة في الواقع؛ لذا كان الخطاب المباشر، والتذكرة بفرعون وثمود مثلما جرى للذين قتلوا من الكفرة من أصحاب الأخدود ولعنوا وطردوا، وكان كيدهم في تضليل، والله سبحانه وتعالى يجعل كيد الكافرين كلهم في ضلال، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]. قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20]، وكما ذكرنا هو عز وجل محيط بالكفرة، فلا يظن أنهم لما أحاطوا بالمؤمنين وأوشكوا أن يأخذوهم أوشكوا أن يوقفوا دعوة الحق، لا والله! بل كما قال تعالى: {واللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20].

عظمة القرآن

عظمة القرآن قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] صفة المجد هي من صفة الرب سبحانه وتعالى، فالقرآن مجيد عظيم عزيز كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ترك التمسك بشيء منه فهو الذي يهلك نفسه، وسيوجد الله عز وجل من يتمسك به. قال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] أي: لا يمكن أن يمحى هذا الكتاب ولا أن يغير ولا أن يبدل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة).

قصة الغلام مع الراهب والساحر

قصة الغلام مع الراهب والساحر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، ونرى هنا نوعين من الطواغيت ينتشرون في كل زمان ومكان، هذا الملك الذي يدعي الربوبية ويقول للناس: لا رب لكم غيري، ولا إله لكم غيري، ومن الملوك من يقولها بلسان المقال ويصرح بها، كما قالها فرعون، وكما قالها هذا الملك كما سيأتي في القصة، ومنهم من يقولها بلسان الحال حين يأمر الناس بطاعته في معصية الله وفي الكفر بالله، ويجعل الإيمان حسب الإذن كما ذكرنا عن فرعون، ففرعون له طريق ومنهج، ولذلك فهو إمام يدعو إلى النار، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقد يقال: كيف يدعون إلى النار وقد ماتوا؟ فنقول: لأنهم أسسوا طريقاً ومنهجاً وأسلوباً للحياة يعيش به هؤلاء الذين يقولون للناس: لا تؤمنوا إلا إذا أذنا لكم. وإبليس قد يدعي الإلوهية عند سخفاء العقول، ولكنه ارتضى من معظم البشر بأن يعبدوه وهم يلعنونه، فأكثر البشر يعبدون إبليس كما قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:60 - 62] أي: خلقاً كثيراً {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]. وأكثر الخلق يلعنونه وهم يعبدونه، وقد رضي إبليس بذلك، فهو لا يسمى إلهاً، ولكن في نفس الوقت يعامل معاملة الإله، وكم من الطواغيت يطلبون ذلك، يريدون أن يعاملوا معاملة الإله وإن لم يسموا أنفسهم آلهة، وأن يطاعوا ولا يرد كلامهم، ولو في الكفر، ولو في الشرك، ولو في معصية الله. وهذا نوع من الطاغوت، وهذا تجبر وتكبر، وهو مفسد في الأرض وإن زعم الإصلاح، وهذا من أعظم أنواع الفساد في الأرض، أن يدعو إلى عبادة غير الله، والملك هنا يستعين بساحر يقلب له الأمور، فالساحر يسحر أعين الناس حتى يريهم الأشياء على غير ما هي عليه، وحتى يقول الناس: هذه العصا حية، وهذا الحبل ثعبان، ولكل زمان سحرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن من البيان لسحراً)، فالذي يجعل الباطل في أعين الناس حقاً يموتون من أجله، والذي يجعل الحق في أعين الناس وقلوبهم باطلاً يريدون أن يدوسوه بالأقدام، هو والله من السحرة، وهو الذي يعضد ملك هؤلاء الطواغيت، فالناس اليوم عندهم أن العفة والطهارة تخلف، وأن الفجور والفحش تقدم، ألا ترونهم في بلاد من بلاد المسلمين كان الستر والحجاب والعفة لما كان أهل الإسلام يحكمونها، فلما دخل الكفرة إلى تلك البلاد خلعت النساء الحجاب وذهبن إلى الكوافير، وتفرج الناس على الأفلام وهم يموتون جوعاً، عجباً والله! ويفتخر أعداؤهم بأنهم قد تقدموا، وقد صاروا في حرية! وليست إلا حرية الفرج والبطن فقط نعوذ بالله، لكن هذا عند الناس هو التقدم، وهو الحرية التي يريدها الكفرة، وتملأ الدنيا صياحاً، فيقال: كفانا هذا الخطاب الذي يملأ حياتنا ضيقاً ونكداً، ويعنون الخطاب الديني، فهذا يكتب في الجرائد والمجلات نسأل الله العافية، وهذا يعلم الناس الباطل على أنه حق، ويعلمهم الحق على أنه باطل حتى يكرهونه أشد من كل الجرائم، ولربما صار بعض الناس إذا يرى ابنه مثلاً يشرب المخدرات والخمر أهون عليه من أن يراه ذاهباً إلى المسجد مع المتطرفين والإرهابيين كما يسمونهم؛ لأن الأمور قد انقلبت، والسحرة قد قاموا بعملهم، فسحروا قلوب الناس قبل أعينهم حتى صار الناس يفعلون الباطل على أنه الحق، ويتركون الحق على أنه من أعظم المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في انقلاب القلوب: (حتى تصير القلوب على قلبين، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه). وكما قال عز وجل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67]. لذلك نقول: فعلاً لكل زمان هذه النوعية من الطاغوتين المتعاونين، والساحر طاغوت كما بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم حده وحكمه، وقال غير واحد من الصحابة: حد الساحر ضربة بالسيف، وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. فالسحرة والكهنة من الطواغيت ومع الذين يحكمون بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء دائماً يتعاضدون ويتعاونون. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، وعجيب شأن هذا الساحر! لماذا يحرص على استمرار الشر من بعده؟ أيريد ثواباً من تعليم هذا الغلام السحر؟ لا يريد ذلك قطعاً، لكنه يعمل لحساب إبليس، فما المبرر أن يسعى في إيجاد جيل من السحرة من بعده ويستمر السحر من بعده؟ A يحرص على ذلك لأنه تأتيه أوامر أخرى من إبليس اللعين أن يسعى في استمرار الشر والفساد، ونتعجب ممن لا يؤمن بالآخرة أصلاً ولا يوقن بها كعباد البقر مثلاً، لماذا يقاتلون من أجل عبادة البقر وعبادة الأصنام؟ لماذا يضحون بحياتهم؟ فالواحد منهم لا يؤمن بآخرة ولا يؤمن ببعث ونشور، ومع ذلك مستعد لأن يضحي بحياته وأن يموت من أجل أن تظل هذه العقيدة موجودة؛ لأنه كما ذكرنا يعمل لحساب الطاغوت الأكبر إبليس والعياذ بالله من ذلك.

أهمية غرس العقيدة في نفوس الصغار

أهمية غرس العقيدة في نفوس الصغار قال: فابعث إلي غلاماً، لماذا لم يقل: رجلاً؟ لأن الغلام أسرع في التعليم، فإذا غرست فيه المبادئ فإنه سوف يكون حاذقاً فيها، وسوف يعد أجيالاً بعد ذلك من ذلك السحر الباطل والعياذ بالله. وهذا ينبئنا بمدى خطورة تربية الأولاد، وماذا يريد الأعداء، فالأعداء من السحرة الذين يقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً يركزون جداً على تعليم الأولاد، وينشرون في صحفهم الأجنبية أن المسلمين يقولون للأولاد: إن المؤمنين أمة واحدة، وإنهم يد على من سواهم، وإن بعضهم أولياء بعض، وهذا هو مربط الخطر، وهذه هي الخشية الإسلامية كما يقولها الكاتب الذي كتب ذلك، ويقولون ويهددون: إنكم تدرسون أولادكم أن المسلمين أفضل من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ولابد لكم أن تتركوا هذا الخطاب، ولابد أن تقولوا لهم بعدم التعصب لدينهم، أما هم فيعلمون أولادهم كل مبادئ العصبية والجاهلية، ويستمرون على هذا الكفر والضلال، ولكن المسلمين حرام عليهم أن يقولوا: إن الإسلام هو الحق دون ما سواه، فانظر إلى ما يركزون عليه وما ينبغي نحن إذاً أن نهتم به، إنهم أولادنا، وسواء كانوا أولاداً لنا من صلبنا، أو أولاد المسلمين عموماً فكلهم أولادنا، ولابد أن نسعى إلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم العقيدة الصحيحة، وأن يعلموا أن الإسلام هو الحق لا حق سواه، وأنه لا يعبد بحق إلا الله، وكل عبودية لغيره فهي باطلة، ونريد أن يتربى أبناؤنا على العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم أبناؤنا الحلال والحرام، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحسن أو الحسين يلتقط شيئاً من تمر الصدقة فيقول له: كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟!)، فيعلمه أن هناك حلال وحرام، وأفضل من أن نقول له: عيب نقول له -إن كان الشيء حراماً-: هذا لا يجوز، والله نهى عن ذلك، أما هم يفعلون أشياء أخرى ويريدون أن يكونوا أمة الأخلاق، فأدخلوا مادة اسمها الأخلاق، ثم هذه الأخلاق لا تتدخل في دين وليس لها علاقة بدين، وإدخال هذه المادة أمر جيد، لكن لابد أن تكون من خلال قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من خلال أن هذا عيب وهذا ليس عيباً ونحو ذلك؛ لأن العيب هذا يمكن أن يتغير، فقد كان في القديم عيب أن تمشي المرأة عريانة، لكن الآن ليس عيباً، وكان عيب أن تظهر المرأة شعرها، أما الآن فليس بعيب، فالعيب سهل جداً أن يتغير، لكن الحرام لا يتغير أبداً، فالحلال والحرام قضية لابد أن يتربى الأبناء عليها. ولابد أن نربيهم على الآداب الإسلامية ونقول لهم: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ذلك قال للغلام الذي تطيش يده في الصحفة: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، فهذه قضايا كلية لابد أن تغرس في القلوب. ويربون على الدعوة إلى الله كما حكى الله عن لقمان أنه قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]. ويربون على التواضع كما قال لقمان: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، وقبل كل شيء يعلم {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. وانظروا كم رجل عنده ابن في سن التمييز وقال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فسيدنا لقمان كان ابنه موحد ونشأ في دين التوحيد، لكن يقول له: ((لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ)). فينبغي عليك أن تقول لابنك: {لا تُشْرِكْ بِاللَّه ِ) [لقمان:13]، وبالتأكيد سيقول لك: وما هو الشرك يا أبي؟ لأنه لا يعرف معنى الشرك بالله، وأكثر أولاد المسلمين الصغار والكبار أيضاً لا يعرفون من صور الشرك إلا عبادة الأصنام فقط، فعليك أن تبين له صور الشرك الموجودة والواقعية التي لابد أن يحذرها.

دافع الفطرة في النفوس

دافع الفطرة في النفوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبعث إليه غلاماً يعلمه، وانتقى غلاماً حاذقاً وأرسله ليعلمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر ضربه)، قدر الله لهذا الغلام شيئاً عجيباً، وهو أن يتلقى تعليماً مزدوجاً، تعليماً من الراهب الذي أعجبه كلامه، وتعليماً من الساحر الذي يعلمه الأذى والزور والباطل، ويعلمه السحر وأن الملك هو الرب، والراهب يعلمه أن الله سبحانه وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه، وهناك رصيد كبير للساحر فيما يبدو؛ لأنه بتوجيه الملك، وهناك إعداد لأن يكون هذا ساحر الملك الذي يحتاج إليه الملك، يعني: وظيفة كبرى مهيأة لمستقبل هذا الغلام، فالملك في حاجة إلى هذا الساحر، وسبحان الله! كان الرصيد الأعظم في حق الراهب صاحب الصوت المنفرد الضعيف المختبئ في دير أو في كهف أو في طريق غير مشهور ولا معلوم لم يعد يسمعه الملك ولا جنود الملك، وكان صوته ضعيفاً لكنه يركز على الفطرة، ويصل إلى الفطرة الإنسانية المستقر فيها توحيد الله عز وجل، لذا أعجبه ذلك، ولذلك نقول لمن يقولون: ما تبنونه أنتم في سنة سوف يهدمه الباطل في شهر أو في ساعة؛ لأن الباطل بوقه عال، نقول: نعم، عنده أصوات عالية، لكن الحق له رصيد عظيم في النفوس، هو رصيد الفطرة الإنسانية السوية، فكل إنسان يميل إلى الحق؛ ولذلك نجد أنه كلما ازداد الباطل طغياناً وظلماً انصرفت قلوب العباد إلى الطاعة، وإلى الهدى، وإلى دين الله سبحانه وتعالى، وهذا معلوم عبر تاريخ الأمة، فكل المحن يعقبها فترات التزام، ويعقبها فترات إقبال على طاعة الله عز وجل حتى تتغير الموازين بإذن الله تبارك وتعالى.

فضل العلم والصبر عليه

فضل العلم والصبر عليه كان الغلام إذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فهذا صبي صغير يضرب من أجل أن يطلب العلم وهو يريد أن يطلب العلم ومع ذلك يضرب ويعاقب، والضرب عند الصبي أشد شيء بلا شك، وهذا كفيل بمنعه، ولكنه يبحث عن الوسيلة التي يستمر بها في طلب العلم، وفي نفس الوقت يتخلص من أذى ذلك الساحر بالضرب، وليكن ذلك منا على بال، فهذا حرص على طلب العلم، ونحن لا يضربنا أحد لكي نترك طلب العلم ولكن الهمة الضعيفة هي السبب، فعندما يتخاذل كثير من طلاب العلم عن طلب العلم، مع أن أحداً لا يعاقبهم على طلبه، وربما مدحوا على الطلب، ونالوا من أنواع المدح ما يسعى إليه كثير من الناس، ومع ذلك الهمم ضعيفة، فلتكن همتنا جزءاً من همة ذلك الغلام الذي يحرص على طلب العلم ويبحث عن الوسيلة التي تمكنه منه ولو ضرب. قال: (فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، وهذا يؤكد لنا أنه كان يضرب أيضاً من أهله، فصار على الغلام ضغط مزدوج، وصار يضغط عليه أهله حتى يمنعوه من الذهاب إلى مكان آخر؛ ولذلك أرشده إلى التخلص بهذه الحيلة، وهو أن يكذب عليهم مضطراً معذوراً، والكذب في الأصل محرم، لكن إذا اضطر إليه الإنسان جاز له أن يستعمله على قدر الضرورة، وعلمه ذلك الراهب فقال: إذا خشيت أهلك -ولم يقل له: استعمل الكذب على الدوام، وإنما إذا خشيت العقوبة- إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي. وهو نوع تعريض في الحقيقة، وإن كان يجوز الكذب للتخلص من الظلم، والكذب يباح في هذه الحالة، فلو منعه والداه وأهله من طلب العلم لم يجز له أن يمتنع، ووجب عليه أن يطلب العلم الذي هو فرض عين عليه حتى ولو منعوه؛ لأن العلم لا يتم العمل إلا به، وفرض الكفاية إذا تعين بأن لم يوجد في الأمة من يقوم به فكذلك لا يطاع الوالدان ولا غيرهما في تركه، بل يطلب العلم ولو تعرض لغضبهم أو أذاهم، ويحاول أن يعرض لهم، فإن جلس مدة في أماكن أخرى فليقل: كنت في المكان الفلاني، وهو صادق فإنه قد كان في المكان الفلاني مدة من الزمن لكن ليس كل الزمن.

كرامة للغلام

كرامة للغلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم، الراهب أفضل أم الساحر أفضل؟ فأخذ حجراً فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس)، رأى حيواناً عظيماً قد سد الطريق على الناس، فوجد في نفسه فرصة، إذاً: كان التعليم المزدوج ما زال له تأثير، فالساحر يعلمه الباطل والكفر والضلال، وتعليم الراهب هو تعليم الحق، ولكن مع التعليم المزدوج يعطينا هذا الأمل الكبير أنه سوف يثمر التعليم الحق، وأن أثره إيجابي بإذن الله، مع وجود التعليم الآخر المفسد للقلوب؛ لأن هذا الغلام كان أميل إلى أمر الراهب بلا شك، ونلاحظ هذا من عدة أجزاء في قولته قال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم، فأول شيء أنه توجه إلى الله عز وجل ولم يقل: سوف أستدعي جنود الملك مثلاً، فلجأ إلى الله وقال: اللهم! ولا شك أن الدعاء تعلمه من الراهب، وهذه فطرة في الإنسان أن يتوجه عند الشدائد إلى الله، وقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك، فهو يبحث عما هو أحب إلى الله عز وجل فقد غرس في قلبه حب الله سبحانه، وهذا الذي ينبغي أن يربى عليه كل إنسان وهو حب الله، والبحث عن حب الله عز وجل، وما هو أحب إلى الله، الله يحب كذا ولا يحب كذا، وقضية الحب هذه هي التي تغير من كائن الإنسان، بخلاف الأوامر المجردة، فليست أوامراً عسكرية أنت تفرضها على أولادك أو على تلامذتك، بل أنت ترغبهم في دين الله عز وجل، ولذلك سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه لم يلزمه على الذبح، وإنما {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]. فيدعوه إلى أن يفعل هذا الأمر اختياراً، ولم يقل له: ماذا أفعل؟ فإنه سوف يفعل بلا شك، ولكنه يريد أن يفعل الأمر اختياراً لا إكراهاً فلا يثاب على ذلك، فهذا أمر لابد أن نبحث عنه، وهو أن نحب الله عز وجل، ونغرس حب الله عز وجل في قلوب أبنائنا ومن نعلمهم. الأمر الثالث أنه قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فقدم أمر الراهب على أنه أحب في صيغة السؤال، ثم قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير للناس ويحب الخير للناس، فالساحر يعلمه كيف يؤذي الناس، وكيف يزرع بينهم الأحقاد، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يرغب فلان إلى فلان، ويلقي البغضاء بين فلان وفلان وهكذا، أما هذا فيريد أن ينجو الناس من هذا الحيوان المفترس السبع أو غيره، وهو أيضاً يرجو، والرجاء عبادة من العبادات تعلمها من الراهب بلا شك، أيرجو نتيجة بغير أسباب ومقدمات؟ الكل يستطيع أن يرمي حجراً، لكن أن يقتل الدابة وهو موقن بأن رميته لن تقتلها ولكن الذي سوف يقتلها هو الله عز وجل فهذا لا يوجد إلا في الغلام. ولذلك قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير لهم، ويعلم أن ذلك بقوة الله وقدرته عز وجل لا برميته. قوله: (فرماها فقتلها ومضى الناس) هذا فيه إثبات كرامات الأولياء، فهذا الغلام الذي لم يصل بعد إلى سن الكهولة، بل حتى إلى سن الرجولة فلم يزل يقال عنه: غلام، قد صار من أولياء الله عز وجل، الذين يستجيب الله دعاءهم ويخرق العادة من أجلهم. فرميت حجر من صبي لا تقتل سبعاً بل ولا حتى قطة ولا كلباً، فكيف تقتل الدابة العظيمة؟ هذه قدرة الله عز وجل، فهو أخذ بالأسباب ولجأ إلى الله عز وجل ودعا فاستجاب الله عز وجل دعاءه، وما يكرم الله به أولياءه من أنواع القدرة والتأثيرات كهذه الواقعة، وما يكرمهم به من أنواع العلوم والمكاشفات هي من الأمور الثابتة في الكتاب والسنة، ومما يوقن به أهل السنة والجماعة، ويعتبرونه من عقيدتهم التي لا يجوز مخالفتها، لما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليس معنى كرامات الأولياء أن نطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وما لا يقدر عليه إلا الله بل نسأل الله عز وجل ذلك، وإنما نتعبد لله بحبهم ومتابعتهم على طريقهم، ونجد في هذا أن السبق إلى الله عز وجل ليس بطول المدة، بل ربما يسبق المتأخر المتقدم. قال: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي)، وهذا الراهب الأستاذ الذي علم هذا التلميذ، مع ذلك رأى من علامات كرامته ومحبته لله عز وجل وبحثه عن حب الله واستجابة الله لدعائه ما دله على فضله وكرامته، فلذلك اعترف له بالفضل مع أنه تلميذه، ومع أن الراهب أسبق التزاماً من الغلام، ومع أنه هو الذي علمه الدين أصلاً، ومع ذلك قد يسبق المتأخر، فالفضل لله عز وجل يؤتيه من يشاء، والعباد يتفاضلون ليس بكثرة العبادة الظاهرة بل يتفاضلون بما في قلوبهم من الحب والخير والإيمان بالله عز وجل والرغبة فيما عنده، ومن أعظم ما يسبق به إلى الله حبه سبحانه وتعالى والبحث عن محبته ومرضاته.

من فوائد قصة الغلام مع الراهب والساحر

من فوائد قصة الغلام مع الراهب والساحر الغلام ذهب ليبشر الراهب، ففيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، ويكون أولى الناس بذلك شيوخه الذين علموه، فيعرف لهم الفضل، ويقر لهم بتلك المنزلة، وهذا الراهب كان رجلاً عالماً فعلاً، ولم يكن مجرد راهب متعبد دون علم، بل كان على علم بطريق الحق وسنن الله سبحانه وتعالى. وقوله: (راهب) يدل على أنه كان بعد زمن المسيح صلى الله عليه وسلم، فإن الرهبانية إنما وجدت في أتباع المسيح، فقد كان راهباً موحداً على دين المسيح صلى الله عليه وسلم، وليس على دين التثليث وعبادة المسيح الذي هو الشرك بالله سبحانه وتعالى، فإن من قال: إن الله ثالث ثلاثة، أو قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون ولياً. وقول الراهب: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، هذا من التواضع، ومن الإقرار بالحق، وعدم الحسد والحقد؛ لأنه لم يقل: لماذا يكون الذي علمته أفضل مني؟ أو لماذا اختاره الله علي؟ فليس المؤمن الذي يأكل قلبه الحسد، وليس المؤمن الذي يكون في قلبه الضغائن والأحقاد، وإنما هو مخلص لله عز وجل، قال: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، وعلم الراهب ذلك من سنة الله سبحانه وتعالى في الأولين والسابقين، فإن المرء لا يمكن حتى يبتلى، ولابد أن يبتلى كل من أعلن الإيمان كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]. لذلك نقول: من يظن أن طريق الالتزام مفروش بالورود فإنه لا يعرف سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه، فلا بد أن يعلم كل من يسير على طريق الحق أنه لابد من الابتلاء. يقول الراهب: (فإن ابتليت فلا تدل علي) أي: إن ابتليت وقيل: من علمك هذا؟ فلا تخبرهم عني، يريد الرجل بذلك العافية؛ لأنه وإن كان كما سيأتي صبر الصبر العظيم ونشر بمنشار حديد حتى قتل رضي الله تعالى عنه إلا أنه كان يطلب العافية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية). فالذي يعرض نفسه للبلاء ويقول: أنا لا يهمني البلاء، على خطر الغرور والإعجاب بالنفس وتزكيتها، وعلى خطر أن يوكل إلى نفسه؛ لأنه معجب بها، وأما الذي يفوض أمره إلى الله، ويسأل الله العافية، ويظهر عجزه وضعفه، فإنه أولى بأن يثبت بتوفيق الله سبحانه وتعالى. وقوله: (إن ابتليت فلا تدل علي) من الكتمان المشروع، وهو ألا يدل على من علمه الحق لأعدائه فينتقمون منه ويصيبونه بأنواع الأذى، وقد تحمل الغلام في سبيل هذه الوصية ما تحمل إلى أن شاء الله عز وجل عجزه عن تحملها. قال صلى الله عليه وسلم: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء)، فسائر الأمراض يداويهم بالدعاء، وكان له تجربة عارف، وأقصر طريق للخير أن يلجأ إلى الله عز وجل، فكان يداويهم ويعالجهم بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.

الزهد في الدنيا

الزهد في الدنيا (فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، وهذا يدل على مدى انتشار الدعوة، فقد بدأت تدخل في نطاق جلساء الملك، وبدأت تدخل في الطبقة المترفة التي لها شأنها ووزنها، سمع جليس للملك كان قد أصابه العمى، ككل البشر معرضون في فقرهم وغناهم لأنواع البلايا والمحن والأمراض وغيرها، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الأمور كلها عندهم كما هي عند الملك بالمال، فالهدايا هي الغاية المقصودة، والجوائز والأموال هي كل غرض الإنسان، فظن أن هذا الغلام كذلك، وهو يسمع إشاعات فقط، فهو يظن أن الغلام يشفي فيقول له: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وهذا الرجل مريض بأمراض عدة أخطرها مرض القنوط، وأنه يظن أن الشفاء من غير الله، وهذا شرك بالله عز وجل، ومريض بمرض الإعجاب بالمال واستعظامه، فقال: ما ههنا لك أجمع، فهو يعده شيئاً كبيراً، وهو تافه جداً عند المؤمنين. وقوله: (كله) إشعار بأنه فعلاً معجب بالمال جداً، وأن المال هو كل شيء في حياته، فلم يلتفت الغلام إلى ذلك المال، ولم يقل له: كيف تعرض علي مالاً؟ ولا فكر حتى في أن ينقل كلامه، وإنما قال معالجاً المرض الأشد الأخطر مرض الشرك بالله (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن شئت آمنت بالله ودعوت الله لك فشفاك)، وهذا كلام عظيم، يدل على احتقار الدنيا حيث لم يذمها، قال بعض أهل الكلام في تهذيب النفوس: إن الزهد في الدنيا، نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً. ومعنى نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أي: بخلاً، وقولهم: طلباً أي: حرصاً وطلباً لها. وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً؛ لأن أمرها حقير جداً، فلا تستحق الذم فضلاً عن المدح، فكونه يذمها فيه دليل على أنها لا زالت عظيمة عنده، ويريد أن يعوض نفسه بمذمتها، فلما تأتي لرجل وتواسيه على أمر ذهب عنه من حطام الدنيا، يدل على أن أمرها عظيم في قلبك وقلبه، أما لو كانت صغيرة جداً فلم تنشغل بها؟ فلا يوجد أحد يواسي رجلاً من أجل دجاجة ماتت عليه؛ وذلك لأن أمرها هين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)، ولكن هي في القلوب، ولذلك فنحن دوماً نذمها؛ لأنها كبيرة في قلوبنا، ولو أنها صغرت في أنفسنا ما انشغلنا بذمها. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك -أي: صغير الأذنين- ميت فقال: (من يود أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! ما نود أنه لنا بشيء، فقال: إن الدنيا أهون على الله من هذا عليكم). وإنما ينشغل الإنسان بمذمة الدنيا إذا كانت كبيرة في قلبه، وبمدحها إذا كانت أكبر وأشد والعياذ بالله، فالرجل يرى أن الهدايا كثيرة جداً، والغلام لم يلتفت لها أصلاً لا بالذم ولا بالمدح، ولم يتكلم بكلمة عنها، وأهملها إلى نهاية القصة، ولم يذكرها لا بخير ولا بشر.

استجابة الله لدعاء الغلام بشفاء المرضى

استجابة الله لدعاء الغلام بشفاء المرضى قوله: إني لا أشفي أحداً؛ لأن الغلو في أهل الصلاح والتقوى مرض أكيد وخطير يؤدي إلى الشرك بالله، وهو واقع في هذا الرجل الذي يظن أن الغلام يشفي، فلابد من معالجة الموقف أولاً فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، وشارطه فقال: إن شئت آمنت بالله فدعوت الله لك فشفاك. وهو يعرف أنه ليس هو الذي يشفي، وإنما هو يدعو الله ربه فيشفيه الله سبحانه وتعالى. قال: فآمن بالله فشفاه الله تعالى، وهنا نوعان من الكرامة: استجابة الدعاء، وهو من أنواع القدرة والتأثيرات، والنوع الثاني وهو من أنواع العلوم والمكاشفات، وهو أنه قال: إن شئت آمنت فدعوت الله لك فشفاك، فهو يخبره أنه سوف يشفى، وهذا من أنواع العلوم والمكاشفات، فلا يعلم الغلام الغيب، ولكن رجا فضل الله سبحانه وتعالى، فحقق الله له رجاءه في دعائه.

أثر الإيمان في تغيير القلوب

أثر الإيمان في تغيير القلوب أتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، وهذا دليل على أنه إذا أسلم المرء وآمن ولم يكن في عمله لدى بعض الظلمة أو الطغاة محرم، ولم يكن إعانة على الظلم جاز له أن يستمر فيه، وأما المجالسة إذا كانت لغرض الدعوة إلى الله، وبيان الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلا مانع أن يكون الإنسان في وظيفته ويستغلها في الدعوة إلى الله، كما استغل هذا الغلام حاجة الناس إليه لكي يدعوهم إلى الله عز وجل. فهذا الجليس جلس عند الملك فرآه مبصراً، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فجليس الملك تغير تغيراً عظيماً جداً، وبالتأكيد هو يعلم عقيدة الملك، ويعلم ما يقوله الملك للناس وخصوصاً جلسائه من أنه ربهم ولا رب لهم غيره، ومع ذلك يواجهه بهذه المواجهة، فالإيمان يغير تغييراً عظيماً في النفوس. فهذا الجليس كان قبل ذلك يقول: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وكل هدفه أن يشفى من عمى البصر، وهو أعمى القلب، ولا يشعر بأن عمى القلب أغلظ وأخطر، وبعد ذلك تغير حتى صار يجابه الملك بهذه الشجاعة وهذه القوة ويقول: ربي وربك الله، فكأنه استغل الفرصة لكي يجهر بالدعوة في مثل هذا المجلس، ولكي يقول كلمة الحق في مثل هذا المجلس، ولم يعد يهتم بالقوة والمادة والمال، وإنما صار اهتمامه أن يبلغ دعوة الحق، وأن يقول للملك: ربي وربك الله، والملك معروف بالبطش والتنكيل والتعذيب وأنواع العقوبات المختلفة، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وكان لا يعذبه بنفسه وإنما بزبانيته وأعوانه الظلمة أمثاله.

الحذر من احتواء الظلمة للدعوة بالترغيب

الحذر من احتواء الظلمة للدعوة بالترغيب وصلت المعلومات كاملة إلى الملك، ووصل التقرير تاماً من أن الغلام هو الذي يقول للناس: ربي وربك الله، وإني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فمصدر الدعوة العلنية في الناس عرف فأحضر، فبدأ الملك بوسيلة الترغيب والاحتواء، قبل وسيلة الترهيب والتعذيب والفتنة؛ لأن وسيلة الترغيب والاحتواء أنفع في إبطال الحق، وأجدر في إزهاقه، وأيسر في ألا يكون هناك بعد ذلك مقاومة أو قبول للغلام لو قبل هذا الترغيب وهذا الاحتواء، فأتي بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، الأكمه هو الذي ولد أعمى، والبرص مرض جلدي معروف لا علاج له إلى وقتنا هذا، فبدأ أولاً يقول له: يا بني! أنت أبني، وأنت حبيبي، وأنت تبعي أنا، وهو يعرف ما يقوله للناس، لكنه ينظر أيقبل هذا الغلام مثل هذا الأمر؟ ولا مانع لديه أن يقال: هذا ساحر الملك، وأن يفعل الغلام بعد هذا ما يفعل، وليدع إلى ما يدعو إليه، طالما كان تحت غطاء الملك وإذنه، وباسم سحر الملك، فإنه يقبل بذلك، فلم يكن الملك غبياً، ولم يكن جاهلاً، أو كان يظن أن الغلام كان يقول: هذا من سحر الساحر؟ لا، بل كان يجزم بأن هذا الغلام يقول: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، ولكن كان يريد أن يحتويه. ولذلك نقول: هذا الأمر لابد أن ينتبه له الدعاة إلى الله، وألا يقبلوا ذلك الاحتواء، ولا هذا الثوب الذي يكون مأذوناً لهم في لبسه، ويسمح لهم بالدعوة إليه من خلاله، طالما كانوا تحت توقيعات وتوجيهات الملك، وبإذن الملك ومن سحر الملك، ولو أن الغلام سمى ما يفعله سحر الملك لتركه ذلك الملك يفعل ما يشاء، ويكون عوناً له ومرغباً في اتباعه، ولكن سوف تفقد دعوته حقيقتها، وسوف تفقد تميزها، وسوف تفقد براءتها من الباطل، ويكون هذا الستار في الحقيقة قاضياً على الدعوة ومفسداً لها من أصلها. ولذلك تنبه الغلام وقال للملك قولته التي يكررها: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فقد كان واضحاً لا يقبل مداراة ولا موالاة لذلك الملك، ولا يقبل التبعية لذلك الملك، ولذلك لا يقبل أن يقول: أنا من جنود الملك حتى لو تركه يقول ما يقول، وكم من الناس يسمح لهم بأن يقولوا أشياء كثيرة من الحق لكن بشرط أن يكون ذلك تحت توجيهات الملك، وبشرط أن يكون ذلك بإذن الملك وأمر الملك، فلابد أن تعلم أن دعوة الحق هي بإذن الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46]، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستأذن الكفرة في أن يدعو إلى الله عز وجل.

الصبر في الدعوة على ظلم الطغاة

الصبر في الدعوة على ظلم الطغاة قال الغلام: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه إلى أن عجز الغلام عن كتمان اسم الراهب، وقد صبر الغلام على القتل، وصبر جليس الملك على القتل، ولم يصبرا على الدلالة على بعضهم، ولا شك أنه تحمل كثيراً قبل أن ينطق، ولكن قد يصل الأمر إلى العجز فنسأل الله العافية، وإذا وصل الحال إلى ذلك كان الأمر بلا إثم إن شاء الله تبارك وتعالى. قال: فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، وعرف مصدر الدعوة الذي كان صاحب الدعوة السرية، وهذا الذي لم يعلن نفسه للناس خطره ليس كبيراً على المجتمع، ولذلك مباشرة كان التوجيه إليه أن قيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فأتي بالمنشار فوضع في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه. وانظر إلى صبر هذا الراهب، لم يرجع عن دينه أبداً، وهو الذي كان يقول: إذا ابتليت فلا تدل علي، ولعل من سمع هذه المقولة ظن أنه رجل ضعيف، وإذا به من أقوى الأقوياء، وشهد شهادة الحق في هذا الموطن، وأبى أن يرجع عن دينه، وتحمل في سبيل الله عز وجل حتى قتل شهيداً، فصار حياً عند الله عز وجل مع الشهداء. ثم أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأتي، فؤتي بالمنشار، وهذه قتلة شديدة جداً، فالضرب بالسيف أهون، والقتل بالرصاص أهون. وانظر إلى جليس الملك ذلك الذي يتحمل مثل هذا الألم العظيم، فالإسلام والإيمان يغير الإنسان أعظم تغيير، أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، هؤلاء الذين كانوا من قبل رفقة في سبيل المحافظة على هذا الملك الزائل، فمستعد أن يقتل، وأن يعذب، وأن ينتهك حرمات أصفى الأصفياء، فهذه نوعية من البشر لا تعرف إلاً ولا ذمة، ولا تعرف حرمة ولا أثراً لعلاقة إنسانية، فجليس الملك من أقرب المقربين إليه ومن خاصته وأصفيائه ومع هذا يفعل به ذلك، أتي بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعا بالمنشار فأمر به فشق حتى وقع شقاه.

رعاية الله لأوليائه

رعاية الله لأوليائه أتي بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى الغلام، وموقفه يختلف عن جليس الملك وعن الراهب؛ لأنه هو الذي دعا الناس، وله منزلة في قلوبهم، وصاحب الدعوة التي سمعها الناس أمره أخطر بكثير، فلا يريد الملك أن يكون هذا الغلام بطلاً في أعين الناس، بل يحاول الاحتواء أولاً كما ذكرنا، فيبدأ بالترهيب البطيء المدى لعله أن يرجع، ويحاول بكل طريقة أن يرجع الغلام ولكن بلا فائدة، فالذي أظهر كلمة الحق عليه مسئولية ضخمة أضخم بكثير ممن يعبد الله عز وجل سراً. والناس موقفهم سوف يتحدد بناء على موقف الغلام، هل يقبلون الحق أم يرفضونه؟ فله منزلة في قلوب الناس، ولذا حاول الملك أن يستوعبه وأن يجعله يرجع بنفسه، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا به فاصعدوا به إلى جبل كذا وكذا، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ لأنه كلما صعد ورأى المسافة ازداد خوفه، ففي هذا ترهيب طويل المدى لكي يوقع الخوف في قلبه، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، وفي هذا تفويض الأمر إلى الله، والأدب مع الله عز وجل حيث لم يقل: يا رب! أنزل عليهم صاعقة، أو يا رب! ألق بهم، بل قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فهذا توكل على الله عز وجل، وثقة في الله عز وجل، فرجف بهم الجبل فسقطوا ورجع يمشي إلى الملك، والجزاء من جنس العمل، فإنهم أرادوا أن يسقطوا الغلام من ذروة الجبل فسقطوا هم، ونجا الغلام بفضل الله عز وجل. والغلام صاحب قضية وصاحب دعوة، ما وجدها فرصة حتى يهرب، بل رجع يمشي إلى الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ -وكان الذين معه أشداء وأقوياء جداً- قال: كفانيهم الله تعالى، وفي هذا إغاضة عظيمة للملك، فدفعه إلى نفر من أصحابه عناداً منه وغباء وجهلاً، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي: سفينة، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، وهذا غباء وجهل عظيم، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فانكفأت السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك. فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ فالملك الآن أصبح لا يريد إلا أن يقتل الغلام غيظاً وكمداً، حتى أنه لم يفكر في عواقب الأمر، فصار يتقبل الأوامر من الغلام، وفي هذا إذلال للملك وإهانه له، فهو بقوته وبمكره لم يستطع أن يقتل الغلام.

حرص الغلام على انتشار الدعوة

حرص الغلام على انتشار الدعوة قال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، وضع السهم في كبد القوس، ثم قل باسم الله رب الغلام وارم، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، فالغلام يدله على قتل نفسه؛ لكي يؤمن الناس، فهو يضحي بنفسه في سبيل الله عز وجل؛ لكي يؤمن الناس، مع أن قتل النفس محرم، لكن دل على قتل نفسه لأجل المصلحة العظيمة في إيمان الخلق وإيمان أهل البلد جميعاً، فهو رجا أن يؤمنوا إذا رأوا هذه الآية، ولذلك طلب منه تجميع الناس في صعيد واحد، وليست هذه رغبة للشهرة، ولكن رغبة في وصول الحق إلى الجميع. وأمر الملك بصلبه على جذع؛ لكي يجلب عطف الناس عليه في ذلك؛ لأنه مظلوم، فهذا الغلام الذي يبرئ الأكمه والأبرص، وهذا الغلام الذي قتل الدابة، وهذا الغلام الذي يحب لنا الخير، وهذا الذي يدعو الله لنا، لماذا هو مصلوب على جذع؟ ليس له تهمة إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، فسوف يتناقل الناس ذلك، فإذا لم يكن للمسلم والداعي إلى الله، والعبد الصالح من تهمة إلا أنه قال كلمة الحق، وكان يحب الخير للناس، كان ذلك من أعظم أسباب قبول الخير، وكان ذلك من أعظم أسباب الإيمان، وليحرص المسلم على ألا تكون له تهمة غير أنه يؤمن بالله ويدعو إلى الله عز وجل. قال: ثم تصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي أمام الناس جميعاً، لا يأخذ سهماً من عنده، بل يأخذ سهماً من جعبة سهام الغلام، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، وذلك من أجل الذي لم ينظر الملك وهو يأخذ من جعبة السهام يسمعه وهو يقول ذلك. قال: فجمع الناس في صعيد واحد، ثم صلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، وهذا غباء منقطع النظير، لكن العناد والحقد والحسد أدى به إلى ذلك، فهو يقتله بأي طريقة، قال: ثم رماه فوقع السهم في صدغه، وصدغه أي: جانب رأسه، ووضع يده على صدغه فمات، فقال: الناس آمنا بالله رب الغلام، وآمن الناس لما رأوا هذه الآيات العظيمة، وعجز الملك الذي يقول: لا رب لكم غيري عن قتل هذا الغلام الضعيف الصغير بكل جنوده وأتباعه، وكل مكره وكيده، فآمن الناس بالله عز وجل، وقولهم: رب الغلام، تشريف للغلام، كما قال سحرة فرعون: {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:122]، فتشريف الغلام أضيف إليه اسم ربه سبحانه وتعالى.

اضطهاد الطغاة للمسلمين

اضطهاد الطغاة للمسلمين قال الناس: آمنا بالله رب الغلام، فؤتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك، وانظر إلى العجب فبعد أن يرى الناس هذه الآية، لا يزال هناك من ينصح الملك هذه النصيحة المجرمة الفاسدة، وما زال هناك من لا يريد أن يؤمن ويهتدي، بل يريد أن يمنع الحق أن يصل إلى قلوب الخلق والعياذ بالله من هذه النوعية من البشر، لو رأت الآيات تلو الآيات ما استجابت، ومثلهم الذين استجابوا لفرعون في تقتيل السحرة، فقد رأوا الآيات بأعينهم ثم وجد فرعون من يقتل السحرة آخر النهار، ووجد من يقول له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف:127]، فهذه نوعية مهما رأت من آية، ومهما أتت من حجة لا يمكن أن تقبل، ولا يمكن إلا أن تظل في عبودية هؤلاء الطواغيت، والعداوة الأكيدة لدين الله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمر بالأخدود فخدت) أي: فأمر بالحفر فحفرت في أفواه السكك، ثم أضرم فيها النيران، وقيل: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعل الناس وماتوا جميعاً، وفي بعض الأحاديث أنهم قبل أن تصل أجسامهم إلى النار قبضت أرواحهم، فألقيت أجساداً لا أرواح فيها، وهذا يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا كمس القرصة)، فهم أرادوا أن يعذبوا المؤمنين، وما وجد المؤمنون عذاباً، ففعل الناس فوقعوا فيها، حتى أتت امرأة معها صبي لها، وهذا يبين أنه كان يقتل الرجال والأطفال والنساء والعياذ بالله، فهو ظلم بين، ولكن قدر الله عز وجل هذه النهاية لهذه الطائفة أن تؤمن وتنجو عند الله، وإن لم تمكن، وكان في قدرة الله أن يمكن لها، ولكن قدر الله عز وجل أن يموت الداعي وأن يموت المدعو، وأن يقتل الجميع، وأن يمكن الكفرة من ذلك إلى أن يأتي ما أراد عز وجل من قتل أصحاب الأخدود، ومن تدميرهم وإحراقهم. فليست العبرة بالنتيجة في هذه الأرض، وإنما العبرة بالنهاية عند الله سبحانه وتعالى. قال: حتى أتت امرأة معها صبي لها، فتقاعست -أي: ترددت- أن تقع فيها، وقالت: أستجيب لدعوة الباطل وأترك الدين، ولا أقع فيها، فقال لها الصبي: يا أمه! اصبري فإنك على الحق. وهذا هو الغرض الأعظم المقصود في فترات المحن، فالواجب الأكيد أن يصبر الإنسان، وأن يثبت إلى أن يفعل الله ما يشاء، وإلى أن يموت والله عز وجل راض عنه ولا يعبأ بعد ذلك بالنتائج، فالنتائج قطعاً لصالح دين الإسلام، ولن يضر الكفرة دين الله عز وجل شيئاً، بل لن يضروا الله شيئاً، وسوف ينتصر الإسلام حتماً وقطعاً ويقيناً. فيجب أن نظل على هذا الحق الذي علمناه كاملاً بغير تجزئة ولا تبعيض، بغير أن نقبل ما يريدون، ونترك ما لا يريدون، بل نصبر على الحق، ونصبر على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الأمر كذلك كان الفوز الكبير بإذن الله تبارك وتعالى. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قصة قوم لوط

قصة قوم لوط أودع الله في كتابه العزيز كنوزاً وأسراراً لا تنقضي ولا تنتهي، ويظهر منها كل وقت وحين جديد ومفيد، ومنها: القصص المذكورة فيه وما فيها من العبر والعظات، كقصة لوط عليه السلام مع قومه، وما تضمنته من فوائد وعبر وحكم، والتي منها: أن قوة العذاب وشدته راجعة إلى عظم المعصية وشناعتها وقبحها. ومنها: أن قوم لوط لما اقترفوا فاحشة قبيحة شنيعة عوقبوا بعذاب غير مألوف. ومنها: أن النصر والتمكين لا يأتي إلا بعد استنفاذ كل الجهود والوسائل البشرية، وبذل كل الأسباب المتاحة.

فوائد القصص القرآنية

فوائد القصص القرآنية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لقد جعل الله عز وجل في قصص أنبياءه ورسله عبرة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111]. وجعل الله عز وجل في قصص أنبيائه ورسله ما يثبت به أفئدة المؤمنين، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

قصة قوم لوط

قصة قوم لوط ونتذاكر معاً قصة من قصص أنبياء الله سبحانه وتعالى، وما فيها من العبر والعظات، التي يحتاج إليها كل مؤمن ومؤمنة في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى، وهي قصة فيها أمور متعددة ربما لم تذكر في قصة أخرى من قصص أنبياء الله، وهي قصة نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

سبب كفر قوم لوط وبيان أنهم أول من أتى بفاحشة اللواط

سبب كفر قوم لوط وبيان أنهم أول من أتى بفاحشة اللواط فمما ذكر في هذه القصة ولم يذكر في غيرها: أن هؤلاء القوم -والعياذ بالله- كانوا أول من أتى الذكران من العالمين، وأول من أتى هذه الفاحشة الفظيعة، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى عنهم عبادة الأوثان، وإن كان يمكن أن تكون عبادة الأوثان موجودة فيهم، ولكنه سبحانه وتعالى إنما ذكر عنهم فعل هذه الفاحشة، ولا شك أن هذا أمر يلفت انتباهنا، فإن فعل الفواحش المبنية على الاستجابة للشهوات غالباً ما تكون في حيز المعاصي، والمعاصي صغائر وكبائر، وهذه الفاحشة بلا شك أنها من الكبائر. لكن الذي ذكره الله عز وجل هو كفرهم وعقابهم على الكفر، وعذابهم المؤبد في النار والعياذ بالله، وهذا يدفعنا إلى أن نفكر في السبب الذي كفروا به، مع أنه لم يذكر عنهم عبادة الأوثان، أو عبادة الملائكة أو الصالحين كما هو في كثير من الأمم، فإن أول شرك وقع على ظهر الأرض كان بسبب الغلو في الصالحين وعبادتهم بعد موتهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] قال: هؤلاء أناس صالحون كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى أتباعهم أن اعمدوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها فانصبوا فيها تماثيل وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت. أما هؤلاء القوم فشركهم من نوع آخر والعياذ بالله فهو من جنس شرك إبليس، وهو رد شرع الله سبحانه وتعالى، والاستهزاء بمن يأمرهم ويدعوهم إلى الالتزام بشرع الله، ولم يكن شركهم وكفرهم إلا استجابة لداعي الشهوات. ويحتمل أن يكون معه أنواع أخرى من الشرك، لكن الذي ذكر عنهم: أنهم كانوا يردون شرع الله عز وجل، وإبليس كان كفره كذلك، فلم يكن كفر إبليس بأن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أو أنه سمى الأوثان آلهة وعبدها، -وإن كان يدعو إلى ذلك- بل كان أول كفره والعياذ بالله رد أمر الله وشرعه سبحانه وتعالى، والإباء والرفض لأوامر الله، كما قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فكفرهم كان بالإباء، والاستكبار عن شرع الله عز وجل. وهذا الشرك من أعظم أنواع الشرك وقوعاً، وخصوصاً في آخر الزمان، ففي واقع حياة الناس اليوم يرد كثير منهم شرع الله عز وجل، ويأبون الانقياد له. وزوال الانقياد من القلب -وإن كان استجابة للشهوات في أول الأمر- يختلف اختلافاً كبيراً عن الاستجابة للشهوة دون زوال الانقياد، فالذي يعمل المعصية وهو يعلم أنها معصية يختلف عن الذي يرد شرع الله، ويأبى ويستكبر ويستهزئ بدين الله سبحانه وتعالى. وأكثر منبع للفتن في آخر الزمان الشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويسمي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)، والعياذ بالله، فيتبين لنا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام أن الكفر قد يكون ببيع الدين؛ لأجل عرض الدنيا؛ ولأجل الشهوات. وهذا عند التأمل نجده منتشراً في أجزاء العالم كله، فنجد عبادة الشهوات وعبادة المال، وعبادة الدرهم والدينار والقطيفة والخميصة والملك والرياسة والصور، وذلك الصوت الذي يقود به إبليس قطعاناً وجماعات هائلة تعد بالملايين من البشر إلى الكفر والعياذ بالله، فيستهزئون بدين الله سبحانه، ويأبون الانقياد، ويرون أنفسهم أحراراً فيما يفعلون، ويرون الحرية التي ينادون بها تشمل فعل كل ما يشتهون دون التزام بشيء من شرع الله سبحانه وتعالى، أو التزام بأوامر رسله عليهم الصلاة والسلام، فشرك الإباء والاستكبار والرد لدين الله والعياذ بالله من أخطر أنواع الشرك والكفر.

سبب إهلاك نساء قوم لوط

سبب إهلاك نساء قوم لوط وهناك نوع ثانٍ نلحظه في قصة قوم لوط، وهو أن الله أهلك الرجال والنساء معاً وكان من ضمنهم عجوز في الغابرين، وهي امرأة لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد ذكر الله عز وجل أنهم يأتون الذكران، ويتركون ما خلق الله لهم من أزواجهم، كما قال عز وجل على لسان لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:165 - 166]، فلم تكن هذه المرأة ولا غيرها من نساء قوم لوط يفعلن الفاحشة؛ لأن الرجال تركوا الشابات، فكيف بالعجائز؟ فلا شك أن ذلك أولى بالترك، ولكن لماذا عذبت النساء؟ ولماذا أهلكت امرأة لوط؟ إن سبب هلاكهن هو إتيانهن بنوع آخر من الشرك، وهو شرك الرضا والمحبة والموالاة على الكفر والباطل، وعلى تكذيب الرسول وعلى معاداة الحق، وهذا النوع من أخطر أنواع الشرك والكفر الذي يقع في الأمم، ذلك أن كثيراً من الناس لا يباشرون الباطل بأنفسهم، ولكنهم يرضون بفعله، ويقرون ويصححون فعله، ويرون أن الباطل من كفر وشرك أو نفاق أو معاصٍ وذنوب حق لصاحبه، ويرضون بالمنكر فيصيرون كمن ارتكبوه. ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى لذلك أمثلة كثيرة، فقوم ثمود نسب الله عز وجل إليهم قتل الناقة جمعياً، فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:14]، وإنما الذي تولى العقر واحد، وهو أشقاها، كما قال تعالى: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس:12 - 14]، فنسب العقر إليهم جميعاً؛ لأنهم كانوا مقرين ومساعدين ومعاونين ومؤيدين للذي عقر، كما قال عز وجل: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:29 - 31]، فعذب الجميع لأنهم رضوا، كما أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، ومعاونة لهم على منكرهم، وهي التي أخبرت قومها بأضياف زوجها. ولوط عليه السلام لم يكن من هؤلاء القوم، وإنما هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وهو الذي آمن من قوم إبراهيم، كما قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهاجر لوط مع إبراهيم وأرسله الله إلى قرى سدوم، وهي قرى في فلسطين قرب البحر الميت، وتزوج هذه المرأة من أهلها، وأرسله الله إليهم لينهاهم عن تلك الفاحشة الفظيعة، ولكنها ظلت موالية لقومها محبة لهم على كفرهم وشركهم، راضية بفعلهم، معاونة لهم على الإثم والعدوان، والكفر والطغيان، فصارت مثلهم في المصير والجزاء؛ لأن كل من رضي بالباطل فهو شريك فيه، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن من شهد المعصية فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن فعلها. فعدل من الله عز وجل أن يكون حب الكافرين على كفرهم، والرضا به سبباً في الضلال والكفر والعياذ بالله. وكثير من الناس يرى في نفسه الحق وفي نفس الوقت يصحح مذهب أهل الباطل والشرك والكفر والضلال والنفاق، فيصير منهم، ولو لم يشرك مثل شركهم، أو يفعل مثل فعلهم. ومعنى هذا: أن امرأة لوط كانت ردءاً لقومها، فقطاع الطريق البعض منهم يباشر قطع الطريق، والبعض يحرس، وينظر لهم من يأتي، وفي الحقيقة لن يتم عمل الذي يباشر أخذ المال أو القتل إلا بمعاونة الردء، فهذه المرأة كانت معاونة لقومها، فخرجت إليهم، وأشارت: أن احضروا سريعاً فعند لوط رجال لم يُر مثلهم في الجمال. فهذا هو سبب هلاك النساء اللاتي رضين بالفاحشة، ورضين بالمنكر والكفر، وكن ضمن المستهزئين بالشرع، وكن مستهزئات بلوط عليه السلام، فكانت خائنة كما وصفها الله بقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10]، وكانت خيانتها خيانة عقيدة ولم تكن خيانة فراش؛ لأنها لم تكن تفعل الفاحشة، ولم يفعل قوم لوط الفاحشة مع عجوز، أو امرأة، فقد كانوا لا يأتون النساء وإنما كانوا يأتون الذكران والعياذ بالله.

الواجب على أتباع الأنبياء

الواجب على أتباع الأنبياء وفي هذه القصة معنى آخر، وهو: أن لوطاً عليه السلام لم يؤمن به من قومه رجل واحد، كما دلت عليه الآيات، كقوله تعالى حاكياً عنه: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، وهذا المعنى يجب أن يضعه الدعاة إلى الله والمؤمنون في كل وقت في الحسبان، فعلينا أن نعمل بما أمر الله، ونلتزم بشرعه، ولو لم يستجب لنا أحد، كما قال عز وجل عن لوط في خطابه لقومه: ((أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ))، فلم يؤمن به رجل واحد، وليس منهم رجل رشيد، وهذا يدلنا على قلة من استجاب للأنبياء، وثمرة هذا العلم ألا نحزن للقلة، وألا نغتر بالكثرة، بل نعمل بما أمرنا به، ولو لم يؤمن أحد، فلم يؤمن بلوط إلا بناته، ولم يؤمن به بيت واحد في القرية كلها، وكانوا فيما ذكر أهل السير نحو أربعة آلاف ألف، أي: أربعة ملايين، وآثارهم الباقية تدل على أنهم كانوا ذوي حضارة، وبعض الناس يقول: وكأن انفجاراً نووياً قد حدث، وشيئاً هائلاً قد دمر هذه القرى، وقرى سدوم بقرب البحر الميت، وهذا يدلنا على شدة عنادهم، وأنه لم يستجب منهم أحد، ولم يؤمن بلوط إلا بناته، فسبحان الله! فلابد أن يعد الداعي إلى الله عز وجل عدته لذلك، وأن يعمل لله سبحانه وتعالى، ولو لم يستجب له أحد، ولو لم يقبل دعوته أحد، فإن الله يغير وجه العالم بالقلة لا بالكثرة، والله يمكن للحق الذي تكون عليه الطائفة المؤمنة لا بكثرة عددها، ولا قوة عتادها، ولكن بقوة إيمانها واستقرار الإيمان وثباته في القلب، وبذلك لا بد من العمل دون النظر إلى النتائج، فهي بإذن الله، وليس علينا أن نحدد النتائج، ولنا أسوة في أنبياء الله الذين لم يستجب لهم أحد، فلنعمل ولنترك النتائج إلى الله سبحانه وتعالى.

حصول النصر بعد البلاء، وجزاء من قطع الطريق لأجل الفاحشة

حصول النصر بعد البلاء، وجزاء من قطع الطريق لأجل الفاحشة وحين نتأمل في هذه القصة نجد أن البلاء يشتد ليحصل الانفراج من حيث لا ندري ولا نشعر، فالله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة نصرة للوط، وإهلاكاً لقومه، وتدميراً لهم، فأرسلهم في صور بشر، وفي هذا امتحان شديد للوط عليه السلام؛ فإنهم جاءوه في صورة رجال شبان من أحسن الناس وجوهاً، يطلبون ضيافته، ولم يخبروه بحقيقة أمرهم، وكان اليوم العصيب أشد الأيام، وهو اليوم الذي سبق الفرج والنصر، وسبق إهلاك الظالمين المجرمين. فالله سبحانه وتعالى أرسل الفرج في صورة امتحان كما ذكر سبحانه وتعالى بأن الملائكة لم يقدموا عليه في صورة ملائكة يطمئنونه، بل جاءوه يطلبون ضيافته، وهو يعلم عجزه عن حمايتهم وعجزه عن دفع قومه عنهم، وقد نهوه عن العالمين، ومنعوه أن يضيف أحداً؛ لأنهم كانوا يقطعون السبيل لنيل الفاحشة، ويأتون في ناديهم المنكر والعياذ بالله! وهذا أظهر ما قيل في تفسير قوله تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29]. ويمكن أن يكون قطعهم السبيل لأجل أخذ الأموال فهو قطع سبيل، ولكن نيل الفاحشة أشد منه، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم: في أن من شهر السلاح ليعتدي على أعراض الناس فليس زانياً فقط، بل هذا يتحتم قتله ولا يطبق عليه حد الزنا فقط، بل يجب قتله؛ لأنه قاطع طريق؛ ولأن الاعتداء على الأعراض أشد على الصالحين من الاعتداء على النفس والمال، وقد قال سبحانه وتعالى في اللذين كانوا يروعون المؤمنات في المدينة: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:60 - 61]، ولذا ذكر السدي في هذه الآية: أن من شهر السلاح للاعتداء على الفروج لم يكن له جزاء إلا القتل، وهذا هو الصحيح، وقد ذكر علماء المالكية مثل ذلك فيمن اعتدى على الفروج وقطع الطريق لذلك. وفي السيرة أن الزبير رضي الله عنه كان في طريق مع جارية له في سفر أو نحوه فمر به لصان فسألاه المال، وكان الزبير رضي الله عنه من أشجع الفرسان، فهو حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب منفرداً إلى بني قريظة وقت خيانتهم، وخرق جيش الروم في اليرموك مرتين ذهاباً وإياباً، فهذان اللصان سألاه المال، فأعطاهما المال، ثم قالا له: خلَّ عن الجارية، فرفع السيف وضربهما ضربة واحدة، فقتلهما، فإنهما لما سألاه أن يترك جاريته لينالا الفاحشة منها قتلهما، والدفع عن العرض واجب باتفاق أهل العلم بقدر الإمكان. والمقصود: أن قوم لوط نهوه أن يضيف أحداً؛ ليتمكنوا من نيل الفواحش من المارين بهم، وكانوا يفعلون الفواحش علناً والعياذ بالله! وكانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويكشفون عوراتهم علناً، كهذه النوعية التي ترى في زماننا من عبيد الشهوات في المجتمعات المنحطة التي يكثر فيها هذا الفساد، فإنهم يفعلون هذه الفواحش أمام الناس والعياذ بالله! بل صار حالهم أسوأ من قوم لوط لما اخترعوا آلات التصوير الحديثة، فصاروا ربما يفعلون هذه الفواحش أمام الكاميرات؛ لتنقل على العالم في المشارق والمغارب، فنعوذ بالله من ذلك! وذلك من أفظع ما يضر بالفطرة ويضادها، فإن الله فطر الإنسان أن يستتر عند فعل هذه الشهوة، بل فطره على أنه يريد أن يستتر تلقائياً ويستر عورته، كما قال الله عز وجل عن آدم وحواء: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22]، فبحثا عن الستر تلقائياً مع أنه موجود هو وزوجته فقط، ولكن لما انكشفت العورة سرعان ما بادرا إلى سترها، وذلك هو الذي فطر الله العباد عليه، وقد أنزل الله علينا لباساً يواري سوءاتنا، فالتعري أمام الناس فتنة عظيمة شيطانية كما أخبر الله عز وجل، عن ذلك فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27]، فإبليس هو الذي يريد ذلك التبرج والعري والفساد علناً، وقد فعلت الفواحش أمام الناس، وأمام الملايين في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالمقصود: أنهم كانوا يأتون كل ذلك فأتى الفرج في صورة امتحان وبلاء؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، فجاءت الرسل لوطاً في صورة رجال، وقد بين الله عز وجل شدة حال لوط في ثلاثة هموم: فقد ساءه وجودهم، وساءه أن يأتيه ضيوف مع كرمه وإحسانه؛ لعجزه عن الدفاع عنهم، كما قال تعالى: ((سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا))، فضاق صدره ولم يحتمل: ((وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)). فانظر إلى الشدة التي كان فيها في هذا اليوم الذي كان سابقاً بيوم واحد على يوم النصر والتمكين وهلاك الظالمين، فإن أشد ما تكون الأمور ضيقاً قبيل انفراجها، كما أن من يريد أن يرمي سهماً إلى أعلى يشد الوتر إلى أسفل جداً ثم يتركه فينطلق ليرتفع أعلى ما يمكن، ولو شده شداً ضعيفاً لارتفع ارتفاعاً ضعيفاً، وسنة الله عز وجل أن أشد الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكلما كان في الرجل ثباتاً في الدين زيد في بلائه، والله سبحانه وتعالى عليم حكيم.

سلب الفاحشة لإرادة الإنسان وخطرها

سلب الفاحشة لإرادة الإنسان وخطرها قال تعالى: ((وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ))، أي: شديد؛ لأنه كان يتوقع أن يأتي قومه إليه، ولذلك فهو يريد أن يخبئ أمرهم؛ ولأنه لا يعلم قوماً أخبث من قومه، فرد على الأضياف معرضاً، والأضياف يصرون على أن يكونوا ضيوفاً، وعلى أن يدخلوا إلى بيته، قال تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ))، فمن الذي جاء بهم، وقد دخلوا إلى بيت لوط وهو يحاول أن يجعله سراً؟! إنها تلك العجوز الخائنة، فإنها خرجت فأشارت إلى قومها أن احضروا سريعاً، قال تعالى: ((وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ))، ويهرعون معناه: يسرعون، إلا أنه مبني للمجهول، وكأن هناك من يدفعهم لذلك، وبالفعل فالشيطان يدفعهم إلى مصيرهم، وهو الهلاك الحتمي؛ لينالوا مزيداً من العقاب، والعياذ بالله! وانظر إلى الشهوة التي تعمي الإنسان، فهلاكهم في الغد سيكون أعظم هلاك وهم يبحثون عن الشهوة بسرعة، ولا يفكرون إلا في نيلها، وانظر إلى امرأة العزيز كيف كانت تجذب يوسف حتى مزقت قميصه لتنال الشهوة المحرمة، ولم تشعر بخطوات سيدها الذي وصل إلى الباب! لأن الشهوة تعمي فعلاً، فتجعل الإنسان مسلوب الإرادة، مع أنه محاسب أشد الحساب على تلك الشهوة، قال سبحانه: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78]، والسيئات هنا فسرتها الآية الأخرى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81]، وقال غير واحد: اكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.

حد اللواط

حد اللواط وفاحشة اللواط -والعياذ بالله- من أفظع الفواحش، وهي أشد من الزنا، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به)، أي: إذا كان المفعول به بالغاً مختاراً، وإلا فإذا كان طفلاً أو كان غير مكلف لم يقم عليه الحد، وحد الشذوذ -وهو: إتيان الرجال- هو القتل، وبعض أهل العلم يرى بأن يكون قتله رجماً حتماً، وبعضهم يرى قتله حرقاً، وهذا غير صحيح، وقد روي عن الصحابة الذين لم يبلغهم النهي عن التحريق بالنار فيما يظهر، وروي عن بعض الصحابة أنه يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط. والذي عليه الشافعي رحمه الله وغيره: أنه يجب قتل اللوطي، وأنه يقتل بالسيف، وهو قول الإمام أحمد رحمه الله، وهناك وجه آخر عند الشافعي وهو: أن يقام عليه حد الزنا، والصحيح: وجوب قتله، وقد ذكرنا السيئات التي كانوا يعملونها وهي: أنهم كانوا يقطعون الطريق، وحينئذ ينتهكون الفرج المحرم، وقد ذكرنا لزوم العقاب على من فعل ذلك، فقد كانوا يأتون في ناديهم المنكر، وهو: كشف العورات وفعل الفواحش علانية في مجتمعهم ونواديهم التي كانوا يجتمعون فيها.

إعراض قوم لوط عن النساء

إعراض قوم لوط عن النساء قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، فحاول أن ينصحهم: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي))، يدعوهم إلى بناته بأن يزوجهن لهم، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية، وهو أنه: يدعوهم إلى أن يتوبوا إلى الله ويتزوجوا بناته، وقال بعض أهل العلم: المقصود بالبنات: نساؤهم؛ فإن النبي أب لقومه، وهذا غير ظاهر من الآية، بل الذي يظهر أنه عرض بناته، ولكن لا لنيل الفاحشة كما قد يتبادر، فإن الزنا ليس بطهر، ولا يجوز أن يقدم عرضه ليدفع عن أضيافه، فهذا مستحيل، والنبي لا يقبل الدياثة أبداً، والديوث هو: من يقر الفحش في أهله، وهذا لا يدخل الجنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الذي يظهر أنه عرض بناته للتزويج، وذلك أنهم إذا تابوا إلى الله زوجهم بناته. وأما القول بأن النبي أب لقومه فهو أب للمؤمنين والمؤمنات، وذلك أن هذه الأبوة معنوية للقلوب؛ لأنه ببعثته ودعوته ولدت قلوبهم من ظلمات الجهل والكفر والظلم وخرجت إلى نور الإيمان والعلم والعدل، فولادة القلوب حق، وبها يكون النبي أباً للمؤمنين، كما قال الله عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6]، وفي مصحف أبي: (وهو أب لهم). وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)؛ لأن به تفتحت قلوبهم وعقولهم على نور الحق والإيمان، وكانت قبل ذلك في الظلمات، والقلب يولد، كما ورد عن المسيح أنه قال لأتباعه: إنكم لن تجدوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين. وكثير من الناس لا يدري شيئاً عن هذه الولادة، ويظن أن الولادة فقط ولادة الأمهات، ونحن نقول: إن هذا لمن آمن، أما الذي لم يولد قلبه فالنبي ليس أباً له، وقوله تعالى: ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) إنما هي فرع، فأمهات المؤمنين فرع عن أبوة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، وليست لكل الأمة، هذا هو الصحيح؛ ولذا نقول: إن قوله تعالى عن لوط: ((قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ))، معناه، أنه كان يدعوهم إلى التزوج من بناته، وأطهر هنا ليست على بابها في أفعل التفضيل، فكثيراً ما تستعمل صيغة (أفعل) وليس بين المفضل والمفضل عليه اشتراك، وذلك كثير في القرآن، كقوله تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17]، والدنيا لا بقاء لها، ولا خير فيمن طلبها دون الآخرة، وذكر أهل اللغة أمثلة على ذلك من اللغة، مثل قولهم: الثلج أبرد من النار، والنار ليس فيها برد، ولكنهم يقصدون: أن الثلج هو البارد والنار ليس فيها برودة، ونحو ذلك. وقوله: ((هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)) أي: مما تريدون، والطهر هنا: طهر بفعل ما شرع الله عز وجل، وترك الفواحش التي هي نجس، وإرادة نيل الفاحشة تدل على نجاسة القلب والعياذ بالله. قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78]، أي: أنه خاف أن يخزوه في ضيفه بفعل الفاحشة فيهم، وقوله تعالى: ((أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)) استفهام غرضه الإنكار، أي: ليس منهم رجل واحد رشيد يقبل الرشد ويرضى به، فليس عندهم إلا السفه، والعياذ بالله. قال تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] أي: من رغبة، {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]، أي: ما نريد إلا الرجال.

أهمية التوكل على الله والالتجاء إليه

أهمية التوكل على الله والالتجاء إليه ولوط عليه السلام كان يدافعهم على الباب، وهم يريدون الاقتحام والرسل بالداخل، وهو إلى تلك اللحظة لا يعلم أنهم ملائكة الله، قال سبحانه وتعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فهو حال شديد كان يعانيه لوط عليه السلام، فهو يقول: ((لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً)) أي: لفعلت بكم وفعلت، ولدفعتكم أشد الدفع، ((أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)) أي: إلى قرابة يحمونني، فليس له منهم قرابة كما ذكرنا؛ لأنه كان من قوم إبراهيم، فهو ابن أخي إبراهيم وغريب عليهم، أما امرأته التي تزوجها منهم فقد كانت عدوة له، وموالية لقومها ضده، فلم يكن يأوي إلى قرابة، ولم يستحضر لوط عليه السلام في تلك اللحظة أنه كان يأوي إلى الله عز وجل، ولقد كان ذلك في قلبه، لكنه عنى القرابة، وذهب ذهنه إليها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد). فهو فعلاً كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عتب عليه في هذه الكلمة، وهو لم يترك التوكل، ولم يكن نسي أنه يأوي إلى الله عز وجل ويعتمد بقلبه عليه، ولكنها لحظة تذكر فيها الأسباب، ويذكر انعدامها عنده، فعتب عليه فيها، وذلك في حق الأنبياء درجة من درجات النقص عن الكمال، فيعاتبون عليه؛ لعلو مرتبتهم ومنزلتهم العظيمة، وهذا من جنس حسنات الأبرار وسيئات المقربين، فالواحد منا لو طرأ على قلبه مثل ذلك ما لامه أحد، ولكن العتب على الأنبياء لأجل ارتفاع منزلتهم العظيمة، وهي ليست ذنوباً في حق عموم الناس، ولكنها في حق الأنبياء نقصان عن الكمال، فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بالرحمة فقال: (رحم الله أخي لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، وهو الله عز وجل، فكان الأفضل أن يستحضر في مثل هذه اللحظات توكله الكامل على الله عز وجل، كمن هو أعلى منه قدراً من أنبياء الله، كموسى صلى الله عليه وسلم الذي قال له أصحابه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، ففي لحظات الشدة الشديدة جداً يجب أن يقع في القلب أول وهلة ما يدل على عظيم التوكل أو أنه أقل درجة من ذلك، فموسى عليه السلام عندما تراءى الجمعان، ووصل إليهم جنود فرعون عند شروق الشمس، وتأكد أصحابه أنهم قد أدركوا، وأقسموا على ذلك، وقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، وأكدوا بإن وبالقسم، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فاستحضر معية الله عز وجل، وهكذا فعل من هو أعلى منه قدراً، وهو إبراهيم عليه السلام، فإنه لما ألقي في النار جعل يقول: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)). قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: ((حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))، قالها إبراهيم حين ألقي في النار. فهو ألقي في النار ولم يلتفت إلى الأسباب، بأن تأتي ريح مثلاً أو يأتي مطر فيطفئها، وإنما قال: حسبنا الله -أي: كافينا الله- ونعم الوكيل. قال ابن عباس: وقالها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. وأعلى منهم قدراً النبي عليه الصلاة والسلام حين وصل الكفار إلى فم الغار، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فقد كان خائفاً جداً على النبي عليه الصلاة والسلام، والأسباب ظاهرة جداً في هذا، وكان أبو بكر أحسن حالاً من أصحاب موسى، إذ أكدوا أنهم مدركون، ولكن أبا بكر رضي الله عنه قال: لو نظر أحدهم، فعلق ذلك بقوله: (لو) فإنه يحتمل ألا ينظر أحدهم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان في شأن آخر، فقال لصاحبه كما قال الله عز وجل حاكياً عنه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فلم يستحضر ضعفه أو عجزه بالنسبة إلى قوتهم، وقلته بالنسبة إلى كثرتهم، بل استحضر معية الله عز وجل فقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] فكانت العاقبة: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40]. وذكر غير واحد من السلف: أن الملائكة عتبوا على لوط قوله: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وعند ذلك بينوا حقيقة أمرهم: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، وكل هذا لأنهم أرادوا لوطاً عليه السلام نفسه بالأذى، وأرادوا أن يصلوا إليه هو، وليس فقط إلى الأضياف، وقد ذكر غير واحد من السلف من المفسرين: أن جبريل عليه السلام خرج إليهم وهم وقوف بالباب، ولوط يدافعهم، وقد عجز أن يدفعهم، وكاد الباب أن يدفعهم، وكادوا أن يدخلوا، فخرج عليهم جبريل فضربهم بطرف جناحه، وجبريل عليه السلام له ستمائة جناح، وكل جناح منها قد سد الأفق فهو ذو خلق عظيم، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:37]، فكان هؤلاء الذين أرادوا مباشرة الفاحشة أشد عقاباً، وقد عوقبوا بعقوبتين: طمست أعينهم، ويقال: إنها ذهبت بالكلية ويقال: ذهب ضوءها، وعوقبوا في الصباح بعقوبة قومهم، وهي ما ذكر الله سبحانه وتعالى من أنه جعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل.

هلاك العصاة الكافرين ونجاة المؤمنين

هلاك العصاة الكافرين ونجاة المؤمنين فهؤلاء الذين أرادوا أن يصلوا إلى لوط لأذيته بشرته الملائكة بأنهم لن يصلوا إليه: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود:81]، أي: بجزء من الليل، وفسر في الآية الأخرى بأنه السحر، قال عز وجل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:33 - 34] أي: آخر الليل: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35]، فكل شاكر نعمة الله عليه بالإيمان والإسلام ينجيه الله سبحانه وتعالى بفضله عز وجل.

ذكر الخلاف في استثناء امرأة لوط من أهله

ذكر الخلاف في استثناء امرأة لوط من أهله قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، فقد اختلف العلماء في هذا الاستثناء، هل هو راجع إلى الالتفات وأن المعنى: أن امرأتك ستلتفت حين تسمع عذاب قومها أو لا؟ فقال بعضهم: إنها خرجت، ولكن عندما سمعت الوجبة وصوت العذاب الذي نزل بقومها التفتت وقالت: واقوماه! فهي ما زالت محبة لقومها إلى آخر لحظة، فأصابها حجر فقتلها، هذا قول. والقول الآخر -وهو الصحيح الذي يدل عليه القرآن-: أنها لم تخرج أصلاً، وأن الاستثناء في قوله: ((إِلَّا امْرَأَتَكَ))، معناه: لا تسر بها، فأسر بأهلك واخرج بهم ليلاً إلا امرأتك لا تخرج معك، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، فلم يخرج منها إلا المؤمنون، وهي لم تكن مؤمنة، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36]، فكان البيت مسلماً لكنها كانت خائنة، فكانت تظهر شيئاً للوط وهي على دين قومها، فلم تخرج؛ لأن الله قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35]، ويدل عليه قوله عز وجل: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171]، أي: أنها بقيت ولم تخرج، وكذا قوله في هذه الآية: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، وهذا يستلزم أن يكون مما أصابها أنها رفعت، ثم أهوي بها إلى الأرض، قال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] فالله عز وجل جعل من عذابهم أنهم يهوون من السماء الدنيا إلى الأرض، وهذا أشد في الرعب والهلاك من حجارة تصيبهم فقط، وذكر الله عدة عقوبات، هي: طمس الأعين لمن باشروا محاولة الاقتحام لبيت لوط، وذكر القلب فقال: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا))، وذكر الحاصب فقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82]. فقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود:81]، يلزم منه أن يصيبها على الأقل ما يصيب عامة قومها، وهو: الرفع إلى السماء ثم الهوي إلى الأرض، وأن تصيبها كذلك الحجارة. ومن قال: إنها خرجت، فقد قال: إنه أصابها الحجارة فقط، والصحيح الأول، وهو أنها لم تخرج؛ لأنها ليست مؤمنة والعياذ بالله! وذلك يدل على أن القرابة لا تنفع إذا لم يكن هناك إيمان، ولابد من المفارقة والعداوة للكفرة والبراء منهم ولو كانوا من أقرب المقربين. قال سبحانه: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، وكأن لوطاً استعجل أكثر من ذلك، فقالوا له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]. قال تعالى: ((فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا))، أي: عند شروق الشمس بعد رحيل لوط عليه السلام وبناته، ويقال: بنتيه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82]، فاقتلع جبريل عليه السلام -فيما يذكرون- هذه القرى بسكانها ومن فيها وبيوتها، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وصياح ديوكهم، ثم أهوى بها إلى الأرض مقلوبة منكوسة، كما قال تعالى: ((جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا)) وقال تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]؛ لأنهم -والعياذ بالله- اختلقوا هذا الذنب، ولم يسبقهم إليه أحد من العالمين. قال سبحانه: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] أي: من طين قد تصلب وصار شديد التصلب، منضوداً معداً لذلك، أو متتابعاً كثيراً، والتتابع أظهر، والله أعلم. قال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:83] أي: معلمة عند الله عز وجل، فكل حجر لشخص معين، يقال: إن كل حجر كان عليه اسم الذي يصيبه. قال عز وجل: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، فليست هذه العقوبة خاصة بقوم لوط، بل يمكن أن تصيب غيرهم، كما جاء أنه يكون في آخر هذه الأمة قذف ومسخ وخسف بمن يفعلون الفواحش، فيقذفون بالحجارة، ويمسخون قردة وخنازير، وغير ذلك من الصفات القبيحة، وأشدها مسخ القلوب، وخسف بالزلازل التي تدفنهم في الأرض والعياذ بالله.

الفوائد المستفادة من قصة لوط عليه السلام

الفوائد المستفادة من قصة لوط عليه السلام وهذه القصة تدلنا: على مدى الخطر الذي يتهدد الذين يأبون الانقياد لشرع الله، والذين يعبدون الشهوات، والذين يستهزئون بأنبياء الله وأوليائه الذين يدعونهم إلى الله عز وجل. ونعلم منها: أن العاقبة للمتقين وإن كانوا قلة، ونعلم هوان الكفرة على الله ولو كانوا أكثر الناس، فقد كان قوم لوط أربعة آلاف ألف فيما يذكرون، أو أقل أو أكثر، وقراهم كانت عامرة، وكان يمر عليها العرب، قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138]، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40]. فالله سبحانه وتعالى جعل عاقبة المجرمين وخيمة لنراها دائماً، وهي ليست مبنية على القلة والكثرة، بل على الأعمال والصفات والأخلاق. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعافينا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.

قصة موسى مع فرعون

قصة موسى مع فرعون إن المؤمن يعتقد جازماً أن كل زخارف الدنيا فانية، وأن ملوكها زائلون، وليعلم المؤمن أن الله ناصره ومؤيده، فلا يدفع الباطل برجاء أهله، بل يدفع الباطل وكيده بالتوكل على الله عز وجل. وخير دليل على ذلك: قصة موسى وقومه، فالمؤمنون هم أشد البشر بلاءً بعد الأنبياء، ونصر الله لهم منوط بقوة إيمانهم وصبرهم على البلايا والمحن، وفي قصة موسى مع فرعون خير دليل وعبرة لمن اعتبر.

القرآن حياة للقلوب

القرآن حياة للقلوب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فقد جعل الله سبحانه وتعالى النور والهدى في كتابه المبين، وجعله حياة للقلوب، وروحاً تحيا به كما وصفه الله فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. وليس هناك مجلس نجتمع فيه أحسن من مجلس نتلو فيه آياتٍ من كتاب الله، ونتدارس ما فيها من النور والهدى والبيان، خصوصاً عندما تظلم الدنيا من حولنا، فنتلو آيات الله سبحانه وتعالى؛ لنتبعها، ولنؤمن بها، ونعمل بما فيها، ونتدارس معاً ما يغشانا الله سبحانه وتعالى لأجله برحمته، وينزل علينا ملائكته، ويذكرنا سبحانه وتعالى فيمن عنده.

معجزات موسى وتكبر فرعون وملئه عن قبولها

معجزات موسى وتكبر فرعون وملئه عن قبولها إن أكثر القصص تكراراً في القرآن العظيم قصة موسى صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت في مواضع متعددة من كتاب الله؛ لما فيها من العبر والفوائد التي تجعل المتأمل والمتدبر فيها يعلم عظمة القرآن، وبلاغة الإعجاز فيه؛ بالإضافة إلى ما فيه من بيان الحق، وإزهاق الباطل، وسنة الله سبحانه وتعالى الماضية في الصراع الذي يجري بين الحق والباطل دائماً، وسوف نتلوها من سورة يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم نذكر ما فيها من الفوائد والعظات والله المستعان. قال الله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:75 - 92]. نعوذ بالله من الغفلة عن آياته البينات المحكمات الواضحات المنيرات. لقد أخبر الله عز وجل أنه بعد إهلاك الأمم والقرون المكذبة للرسل أرسل وبعث موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام إلى فرعون وملئه -والملأ هم: السادة والكبراء- بآياته، فما كان من فرعون وملئه في مقابلة الآيات العقلية والحجج السمعية والحسية والآيات المعجزات إلا أن قابلوا ذلك بالكبر، ولقد كانت الآيات في بداية الأمر هي آيات دلائل القدرة والتوحيد الذي تقر به فطر الناس جميعاً، قال تعالى: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، وقال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، وقال: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]. ثم جاء بعد ذلك دور الآيات والمعجزات الحسية، وهي: العصا، واليد، والجدب والقحط والسنين، ونقص الثمرات، والجراد، والقمل، والضفادع، والطوفان، والدم آيات مفصلات، وكل ذلك قوبل بالكبر والعياذ بالله! ذلك المرض العضال الذي إذا وجد في مخلوق كان سبباً لارتكاسه وانتكاسه أعظم انتكاسة، بل مقدار ذرة منه -والعياذ بالله- تؤدي بالعبد إلى الحرمان من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فالكبر هو مرض إبليس والمتكبرين على أمر الله، وسبب كفر الكافرين في الأغلب كما قال عز وجل عن إبليس: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، فبالكبر والإباء يرد الإنسان الحق، وينظر إلى نفسه نظرة الكمال وإلى غيره نظرة الاحتقار، وربما ازداد غروره حتى ينظر إلى شرع الله عز وجل -الذي لا يرضى أن يخضع له- نظرة الاستكبار، ويتكبر على شرع الله، ويرد أمره؛ فيكون إبليسيَّ الطريقة هالكاً مع الهالكين، فقد كان فرعون وهامان وجنودهما متكبرين هذا الكبر، وكانوا قوماً مجرمين، كما قال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} [يونس:76].

خطر السحر والسحرة

خطر السحر والسحرة ومع أن السحر كان عند فرعون وملئه إلا أنه اتهم به موسى كما قيل: (رمتني بدائها وانسلت) ففرعون هو الذي يكره الناس على السحر؛ فقد فضحه السحرة كما حكى الله عنهم حيث يقولون: {لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، فهو الذي كان يعلم الصغار على يد الكبار، ويلزمهم ويكرههم على تعلم السحر ومع ذلك يتهم موسى عليه السلام بأنه أتى بالسحر، ويزعم أن ذلك بَيِّن جداً، وأنه سحرٌ مبينٌ، فأي كذبٍ أفضح من هذا؟! فهو يرى الحق أمامه بيناً جلياً ويوقن به في نفسه، ومع ذلك يتهم أهله بأنهم هم السحرة مع أنه هو الساحر، ويتهم أهله بالكذب مع أنه هو الكاذب، ويتهم أهله بأنهم يريدون الكبرياء مع أنه هو المتكبر، فسبحان الله! أي تناقض هذا؟! يتهم أهل الحق بأنهم يريدون الفساد مع أنه من أعظم المفسدين، كما قال الله تعالى حاكياً عنه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، ففرعون يتهم موسى وهارون عليهما السلام بكل أمراضه الخبيثة؛ ويظن أن كل الناس كذلك، ففي نظره أنه إذا كان هو يعمل من أجل الكبرياء، فلا بد أن موسى يريد الكبرياء، وإذا كان هو يعمل بالسحر فلا بد أن موسى أيضاً يعمل بالسحر مع أنه يوقن بالفرق، وقد علم ذلك، كما وصفهم الله بقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]. وكذا قال عز وجل عن موسى في خطابه لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]. وهذه النوعية من البشر نوعية فظيعة مجادلة بالباطل من أجل جحد الحق، رغم وضوحه وجلائه، قال عز وجل: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا} [يونس:76 - 77]، وهذا استفهام للنفي وللإنكار عليهم، فهذا لا يمكن أن يكون سحراً؛ لأن السحرة أنفسهم قد أقروا بأنه ليس بسحر، ويستحيل أن يكون سحراً. هذا الذي يفعله فرعون في هذه القصة هو أسوة سيئة لكل من سار على طريقه ونهجه.

حكم السحر والسحرة

حكم السحر والسحرة قال تعالى: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، أتى الله بهذه القاعدة الكلية؛ ليبين أن كل ساحر لا يفلح بأنواع السحر المختلفة، والسحر -والعياذ بالله- من الكبائر، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات ومقارناً للشرك فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر)، فجعله بعده مباشرة وأكثر أنواع السحر من الكفر؛ إذ كل سحر متعلم من الشياطين فهو كفر، كما قال عز وجل: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]. إذاً: السحر الذي يتعلم من الشياطين هو من الكفر، وأكثر أهل العلم يرون إطلاق القول بكفر الساحر، وكثير منهم فصل فيه، وهو الصحيح، فيقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن وصف كفراً، كمن يسجد للأصنام، أو يعبد الشياطين، أو يتقرب للكواكب، ويذبح لها، أو يكتب القرآن بالنجاسات، أو نحو ذلك كفر. وإن كان بأدوية، وتدخين وخداع البصر ونحو ذلك فإن استحله كفر، وإلَّا فهو كبيرة من الكبائر والعياذ بالله من ذلك!

سحر البيان وخطره

سحر البيان وخطره وكثير من الناس يَغْفُلُ عن نوع خطير من أنواع السحر مع أنه داخل في قوله عز وجل: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ))، وهو سحر البيان الذي يجعل الحق باطلاً، والباطل حقاً، والسحر أصلاً: يقال للشيء الخفي الذي يدخل بلطف من غير شعور، وبطريقة غير ظاهرة في التأثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً)، وهذا ذم لهذا النوع من البيان الذي يقلب الحقائق، وهذا السحر منتشر في أرجاء الأرض مشارقها ومغاربها، حتى إنه يجعل المظلوم ظالماً، والظالم مظلوماً، والمجرم بريئاً، والبريء مجرماً، ألم تسمعوا أن هيئة كبرى في إحدى الدول الأجنبية طالبت رئيسها بمعاقبة الفلسطينيين؛ لتسببهم في سفك الدماء وإحداث العنف، وأنهم لا بد أن يعاقبوا أشد العقاب؛ لكي يمتنعوا عن ذلك؟! وحدث بالإعلام المخرَّبِ للعقول الذي يجعل هذا المظلوم المذبوح هو الذابح! والناس هؤلاء يتصورون أنَّ عند هؤلاء المذبوحين قسوة فظيعة في التعامل، وهذا من انقلاب الأمور، كما يرى كثير من الناس التزام الحق والسنة واتباع الكتاب نوعاً من الغلو والتطرف والبعد عن الوسطية المطلوبة، ونحو هذا مما يقوله كثير من الناس، وكل هذا بسبب هذا النوع الخطير من السحر، ولكن كما قال الله: ((وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)).

كيفية مواجهة السحر

كيفية مواجهة السحر وعلى الإنسان أن يواجه هذا السحر بآيات الله سبحانه وتعالى؛ فإن هذا السحر يضمحل كما اضمحل سحر السحرة أمام عصا موسى، فعصا موسى آية من آيات الله، وعندنا آيات من كتاب الله أعظم من كل ما سبقها من الآيات، ولذلك فلا بد أن يكون كتاب الله في صدورنا، وقلوبنا، وعلى ألسنتنا، نواجه به هذا السحر فإنه سوف يتلاشى، وسينقلب السحرة أنفسهم -بإذن الله- إلى أعوان للإسلام، وإلى مصدقين به وإذا ظللنا ندور بعيداً عن كتاب الله، ونكرر كلامهم بطريقتهم، كأن نتكلم كثيراً على طريقة المفكرين والساسة وغيرهم من غير بينة من كتاب الله فسوف ندور في دائرة مفرغة، ولن نفلح في إبطال سحرهم إلَّا بآيات الله، كما قال الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون: {بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]. فكل من كانت معه آيات الله فسوف يغِلبُ، ومن كان فقيراً من آيات الله وليس عنده بينات القرآن فسوف يعجز عن مواجهة السحر، وسوف يُتَّهم بالباطل، وسيظل الأمر كما هو؛ ولهذا جاءت الوصية الأكيدة بالقرآن العظيم، وبحفظه، وبتدبره وبتلاوته، وبالدعوة به إلى الله عز وجل فكلما أكثرتَ من قال الله تلاشت أمامك ظلمات الباطل، وانفتحت لك القلوب؛ لأنه كلام الله الذي تكلم الله عز وجل به، وهو نور وهدى لمن شاء الله عز وجل من عباده، وهذا بالتأكيد سوف يفتح آفاقاً للخير أضعافاً مضاعفة عما إذا تكلمنا بغيره.

أسباب الإعراض عن الحق

أسباب الإعراض عن الحق قال الله عز وجل: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس:78]. فهم يعرضون عن الحق بسبب أمور، منها: مخالفة هذا الأمر بالعادات والتقاليد كما قال الله: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، فهذه تهمة فظيعة عند القوم: فقد خالف المعتاد والمجتمع الذي نشأنا فيه، وخالف الطريقة المثلى -مع أنهم والله يعيشون عيشة نكد وشقاء- وانظر كيف سخرت الآلاف من البشر من أجل بناء أهرامات هائلة. هذا كله لتكون قبراً لملك من الملوك مع أن الناس يعدون ذلك من مظاهر المدنية. والحضارة! أما الذين بنوه فماذا كسبوا من وراء ذلك؟ فكانوا يرون أن طريقتهم المثلى والعيش الذي هم فيه لا يقبل التغيير ولا التبديل ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا))، والتقليد هو من جعل ملايين الناس هكذا، وهو ليس حجة بل هو شبهة، ومع ذلك لا يقبل الناس التنازل عنه، بل إن أكثرهم يكفرون بسبب التقليد. قال تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} [هود:109]، مودة بينهم في الحياة الدنيا كما قال الله على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25]، فبعض الناس من أجل أن يرضي أباه أو أمه أو أقاربه يكفر بالله ويعبد صنماً وثناً من غير الله سبحانه وتعالى بأنواع العبادات، مع أن العقائد باطلة قطعاً لا يقبلها عقل. وأنا أتعجب من وجود أناس في زماننا هذا ما زالوا يعبدون البقر! والفئران! والحجارة! لماذا؟! كل ذلك من أجل التقليد والعياذ بالله، وتعظيم الآباء والأسلاف؛ فحجة أبي جهل على أبي طالب لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم، ويقول كلمة لا إله إلا الله؛ ليحاج له بها عند الله، فيقول له أبو جهل وعبد الله بن أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: أنا على ملة عبد المطلب، فلم يتنازل عن دين الآباء. فمن الخطر الكبير أن نكون مقلدين، أو لا نغير ما نشأنا عليه، بل لا بد أن تعرض الأمر الذي نشأت عليه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كان حقاً قبلته، وإلا فلا بد أن ترفضه وتغيره إلى الحق؛ فدعوات الأنبياء ما قامت إلا على مخالفة ما كان عليه آباء المشركين وأجدادهم، وهذه التهمة هي التي واجهوا بها موسى، وموسى لم ننفيها، ولا ينبغي لنا أن ننفها، ولا أن نقول: نحن لن نغير الواقع والمجتمع، ولكننا سوف ندخل عليه بعض التغييرات لنصبغه بصبغة إسلامية، لا. بل سوف نغيره بالتأكيد من جذوره حتى يكون إسلامياً محضاً من أساسه إلى ارتفاعه، فلا نقبل الموروث أياً كان، بل نقبل ما وافق الحق، ونرفض ما خالف الحق، والحق هو قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الصحابة رضي الله عنهم، فهذا هو الحق الذي به نزن الأمور. فموسى أتى ليلفتهم وليبعدهم عما وجدوا عليه آباءهم من عبادة الأوثان وعبادة فرعون وطاعته بالكفر والعياذ بالله. وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) هذه تهمة أخرى باطلة، وهي: أن فرعون قد اتهم موسى بأنه يريد الكبرياء والحقيقة أن فرعون وملأه هم المستكبرون، وهم الذين يعملون للدنيا، ويتكبرون في الأرض بغير الحق، ولكنهم يظنون أن كل الناس كذلك كما أن جامع المال يظن أن كل الناس تحب المال كحبه، وصاحب الملك والرئاسة يظن أن كل الناس تريدها، وأن غرض الناس كلهم كغرضه؛ فمن أجل ذلك يتمسك بها بشدة، وهذا باطل فليس أهل الإيمان ممن يريدون الرئاسة، أو الكبرياء في الأرض، ولكن أهل الإيمان يعملون لله عز وجل ولا يريدون أن يكونوا مشهورين على رءوس الناس، ولا أن يكون الناس تحت أوامرهم، وإنما يريدون أن يعبد الله عز وجل في الأرض، وهم أخفياء أتقياء، إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، قلوبهم مصابيح الهدى، وحاجة أحدهم في صدره لا يريد لها تنفيذاً، ويصبر وهي في نفسه، وربما مات قبل أن تقضى؛ ففقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة؛ من أجل أن الدنيا لم تفتح لهم، ولم يقدموا في المجالس، ولو أقسم أحدهم على الله عز وجل لأبره. فهذه التهمة الباطلة قديماً وحديثاً يُتَّهم بها الدعاة إلى الله، وأنهم يريدون الكبرياء والرئاسة والشهرة، وهذه التهمة لا تؤثر شيئاً في حقيقة الدعوة طالما كان الإخلاص والصدق مع الله عز وجل رائدها، وهو حقيقة أهل الإيمان بشرط أن يكونوا بالفعل متبعين للرسل، صادقين مع الله سبحانه وتعالى فإذا أخلصوا لله نصرهم ودفع عنهم هذا الاتهام الباطل.

مواجهة موسى مع سحرة فرعون

مواجهة موسى مع سحرة فرعون قال عز وجل عن قوم فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79]. فأراد فرعون جمع السحرة فأتوا له بكل ساحر من الدرجة الأولى والدرجة الثانية، فجمعوا له كل السُّحار المتقنين -وقد جاء لقط السحار صيغة مبالغة- كما في قوله سبحانه: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، وقال: ((ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ))، فجمع كمية هائلة من ذوي الخبرة لمواجهة رجلين من كل أقطار مصر وكانوا كما طلب {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس:79].

إذلال الله لعزة السحرة

إذلال الله لعزة السحرة ثم قال الله: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80]، وهذا الأمر بالإلقاء ما هو إلا استهانة بالباطل: ألق ما أنت ملقٍ فأنا عندي الحق الذي سوف يظهر بإذن الله تبارك وتعالى؛ وذلك ليقينه بضعف ما سيلقونه مع أنه واحد وهم مئات أو آلاف. ((قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ))، فألقى السحرة ما عندهم من حبال وعصي ولم ينسوا أن ينسبوا الفضل لفرعون، فألقوا بحبالهم وعصيهم وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فكان لا بد من وضع البصمة الفرعونية على ما أتوا به، وأن ذلك من فضل فرعون، وأن عزة فرعون هي الغالبة. وكما وصف الله فلقد أتوا بسحر عظيم: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فامتلأ الوادي بالحيات والثعابين حتى أوجس في نفسه خيفة موسى على الناس من أن يفتنوا، وقد أوشك الناس أن يوقنوا بأن السحرة سوف يغلبون، كما خاف موسى على إيمان بعض أتباعه.

إزهاق الله للباطل

إزهاق الله للباطل قال الله: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68 - 69]؛ فلما ألقى الله إليه ذلك تقوى موسى عليه السلام، وواجه هذا الباطل مع أنه فرد واحد، وفي يده عصاً واحدة، فقد أوحى إليه سبحانه وتعالى ما ثبته به، وأوحى الله إليه أنه هو الأعلى والظاهر، وأنه بمجرد إلقائه للعصا فسوف يضمحل هذا السحر، وموسى موقن بكلام الله؛ فلذا قال قبل أن يلقي: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس:81]، وذلك من أجل أن يلقي الرعب في قلوب الكفرة الظلمة، فهو متأكد أن الله سيبطل كل سحر، وكل ما يزيف الحق، ويجعل الباطل حقاً، والحق باطلاً، ويصور للناس الأمور على غير ما هي عليه فإن الله سيبطله {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]. وهذه قضية كلية ليست خاصة بزمن موسى عليه السلام، فكل مفسد في الأرض لا يصلح الله عمله ولا بد أن يضمحل الفساد بإذن الله تبارك وتعالى فإن الفساد ينتشر وينتفش، ولكن سرعان ما يزول، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فطبيعة الباطل التي خلقها الله عليه أنه زهوق يضحمل سريعاً. ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ))، وإذا ما قرأ المؤمن هذه الآية استراح، ففي كل موضع يواجه فيه الفساد ويطمئن؛ ويواجه أنواعاً من الضلال والمنكر سواء في مواجهة الكفرة، أو الظلمة، أو المبتدعين، أو العاصين، أو المفسدين في الأرض لمجرد الشهوات فتأكد أن عملهم سوف يحبط؛ لأن الله قال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)). وقال الله: ((وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ))، وكيف يحق الله الحق بكلماته؟ يحقه بكلماته الكونية: كن فيكون، وكلماته الشرعية: بالوحي المنزل على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا المعنى من أعظم الأمور أهمية، وكيف أن هذا الأمر سيحصل به إبطال السحر وإبطال عمل المفسدين؛ ولهذا نؤكد أهمية الاحتجاج بكلمات الله سبحانه وتعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:82]. فالمجرمون يكرهون ظهور كلمات الله، ويكرهون ظهور الحق، ومع ذلك وعد الله سبحانه وتعالى بظهور الحق نافذاً، وهو سبحانه وتعالى صادق الوعد، ولا يخلف الميعاد، وقد وعد بظهور الإسلام ولو كرة المشركون والمجرمون {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]. فإذا كنت تحمل كلمات الله فستنتصر، وسيزهق الباطل ولو كره المجرمون، فمهما كان من أمر فنتيجة الصراع حتمية معلومة، فالله يظهر الحق ويبطل الباطل، وحدث ذلك بالفعل حين ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، فكل ثعابين السحرة، وكل العصي والحبال التي توهمها الناس ثعابين أكلتها عصا موسى التي صارت ثعباناً مبيناً، وأرعب فرعون، فمن شدة الرعب بال على نفسه كما ذكر ذلك مجاهد رحمه الله. ووقف الناس مشدوهين وظهرت الحجة البينة على الملأ الذين حشروا ضحى، بل عظم الأمر أكثر، فقد ألقى الله في قلوب السحرة الإيمان في تلك اللحظة الحاسمة زيادة في الحجة، فلو اكتفى بالأمر لكان في ذلك حجة كافية، فقد أكلت عصا موسى كل الثعابين والحيات، وكل العصي والحبال، قال تعالى: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119]، أذلاء ألقى الله في قلوب السحرة الإيمان. وقال: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120].

سجود سحرة فرعون لله رب العالمين

سجود سحرة فرعون لله رب العالمين فحين سجد واحد منهم سجد الجميع و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، فالناس واقفون في هذا الموقف العظيم ويرون الجنود الذين جمعهم فرعون من كل أرجاء المملكة يؤمنون بموسى، ويصرحون تصريحاً لا يحتمل الخفاء: ليس رب العالمين فرعون بل رب العالمين هو رب موسى وهارون، وشرف عظيم لموسى وهارون أن يذكر اسم الرب مضافاً إلى أسمائهما، ولم يستطع فرعون حينها أن يكذب ويقول: آمنوا بي، فأنا ربكم الأعلى. فذهل فرعون، وإذا به يلقي بالأئمة على السحرة ويتهمهم بالمؤامرة عليه، وأن موسى زعيمهم، قال الله حكاية عنه: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، فهو يعلم يقيناً كذب دعواه، واشتراط الإذن في الإيمان طريقة فرعونية قديمة فلا بد أن يأذن لهم لكي يؤمنوا ويعملوا الصالحات، ويدعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا كان إيمانهم بغير إذن فالمصيبة عظيمة. ((قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ))، قوله: (آمنتم به) متضمنة معنى التصديق، أي: صدقتم به، وقال في آية أخرى: (آمنتم له) وهي تتضمن معنى الانقياد والخضوع فهذا يفيد معنى ذاك؛ لأن الإيمان تصديق وانقياد، وليس فقط تصديقاً مجرداً. قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ))، قال هذا مع أنه هو الذي جمعهم من كل أرجاء المملكة، فأين اجتمع بهم موسى حتى يمكر هو وهم؟ وقوله: (لتخرجوا منها أهلها) ما أرادوا إخراج أهل مصر، وإنما أرادوا منهم أن يؤمنوا، وأن يخرج بنو إسرائيل، فمن أين هذه التهم الباطلة؟ لكن من العجيب في شأن فرعون أنه يتهم تهماً وهو يعلم بأنها باطلة وهو وليها، يقول: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، أين علمهم السحر؟ فهو منذ عشر سنين لم يدخل مصر وقد كان له قبل ذلك شيعة لا يعلمهم شيئاً من السحر، ولا يعرف طريق السحر، وفرعون هو الذي يكرههم إكراهاً على السحر، وقد وجد أعواناً ينفذون له حكمه الجائر على قتل السحرة.

ابتلاء أهل الإيمان

ابتلاء أهل الإيمان قال الله تعالى: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124]. لقد فعل بهم ذلك، وهو قد رأى الآيات بعينه فالعجب منه، ولكن أعجب منه جنوده الذين يطبقون أوامره فهم عبيد لفرعون ينفذون الباطل مهما كان، وهم الذين رأوا البحر ينفلق أمامهم، ودخلوا وراءه ويقول لهم: إن البحر انفلق من أجلي! طاعة عجيبة مطلقة في تنفيذ الأوامر، ولو كان بدخول البحر الذي انفلق أمام أعينكم بضربة من عصا موسى، سبحانك ربي سبحانك! فقد طمس فرعون على القلوب والأبصار والعقول بهذه الطريقة، فهذا عدل من الله عز وجل؛ لأنهم اختاروا ذلك فاستخف قومه فأطاعوه {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12]، فالفسق يؤدي إلى أن يطيع الإنسان بهذه الطريقة العمياء، وكان السحرة في أول النهار سحرة وفي آخره شهداء بررة، فلما سجدوا رأوا منازلهم في الجنة كما ذكر بعض السلف. {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، لن يضيرنا أن تقطع الأيدي والأرجل، فانظر إلى موقفهم، فمنذ لحظات كان هدفهم المال {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف:113]، يريدون مالاً ومناصباً {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114]. ليس مالاً فقط بل وتصيرون أيضاً من ذوي القربى، ومعلوم أن المقرب إلى السلطان يأخذ مالاً وزيادة، فهم في أول النهار كان همهم المال والمناصب والقرب من فرعون، وآخر النهار يقولون: اقطع وافعل ما تريد، نعوذ بالله من الطمس على القلوب ففرعون لا يتعظ أبداً. قال سبحانه وتعالى: {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:125 - 126].

معنى قوله تعالى (إلا ذرية من قومه)

معنى قوله تعالى (إلا ذرية من قومه) قال سبحانه وتعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، وعلى الرغم من هذه الآيات العظيمة، من إبطال سحر السحرة وكيد فرعون، لم يؤمن من أهل مصر في ذلك الوقت إلا قلة من الشباب. والذرية هنا فيها أقوال: القول الأول: ظاهر الآية يدل على أن المؤمنين كانوا من قوم موسى من أهل مصر؛ لأن بني إسرائيل كانوا جميعاً شباباً وشيوخاً مؤمنين بموسى. القول الثاني: أنها تعود على فرعون، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83] أي: من قوم فرعون كمؤمن آل فرعون، وقليل من الشباب. وهذا يدلنا على أهمية مرحلة الشباب، كما يدل على القلة، وكان هؤلاء من الشباب الصغار حديثي السن، وكانوا خائفين ومع ذلك آمنوا. وهذا الخوف لا يدفع بموافقة الباطل، وإنما يدفع بالتوكل على الله عز وجل. ((عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ))، وهذا دليل على أنهم من أهل مصر؛ لأنه قال: (وملئهم) أي: سادتهم وكبراء قومهم، وإلا فملأ بني إسرائيل كانوا مع موسى صلى الله عليه وسلم، وملأ الفراعنة كانوا مع فرعون فالذي يظهر أن هؤلاء من شباب مصر في ذلك الوقت، وكانوا قلة ممن استجاب، وأكثر الجنود كانوا متابعين لفرعون على الرغم من الآيات التي رأوها. ((عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ))، والفتنة في الدين: هي الصد عن سبيل الله، كأن يؤذوا بأنواع الأذى؛ ليصرفوا عن الالتزام بهذا الدين الحق، وهذا الخوف من الفتنة واقع، وذلك لوجود الأذى، وهذا امتحان من الله سبحانه وتعالى لعباد الله المؤمنين، والخوف كما ذكرنا لا يدفع بموافقة أهل الباطل في باطلهم، ولا بترك طريق الحق، ولا بالمداهنة في الدين، ولا بأن نقول مثلما يقولون، ولكن يدفع بما أمر الله به موسى صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، ثم قال تعالى: ((وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ))، أي: متكبر ((وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)).

أهمية التوكل على الله عند الشدائد

أهمية التوكل على الله عند الشدائد قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، إذاً: يدفع خطر الفتنة بالتوكل على الله، ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا))، عليه وحده بدليل أنه قدم الجار والمجرور (عليه توكلوا) وهذا يفيد الاختصاص والاهتمام، أي: على الله وحده. ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، إذاً: فالتوكل من شروط الإيمان والإسلام، وفي هذه الآية اجتماع الإيمان والإسلام، وأن معناهما واحد، وهو من المواضع القلية الوقوع، وإن كان الأغلب أنهما إذا اجتمعا افترقا فالإيمان يكون مختصاً بأعمال الباطن والإسلام بأعمال الظاهر، لكن هنا كان الإيمان والإسلام متلازمان في المعنى فالإسلام يعني الظاهر والباطن والإيمان كذلك ((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا))، امتثلوا الأمر وبه دفع الله عنهم الأذى، كما قال مؤمن من آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45]، فموسى هو أول من توكل؛ لأن فرعون قال {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:26 - 27]، ((إِنِّي عُذْتُ))، أي: التجأت إلى الله، فكان موسى أول المتوكلين؛ وإذا بفرعون دائماً يبتعد عن موسى، وينسحب عنه؛ لأنه عاذ بالله، فكيف يستطيع الوصول إليه؟ مع أن العادة تقضي بأن يبدأ بكبير القوم. ثم قال الله على لسان الملأ: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، عجيب أمرك! فلماذا لا تبدأ بموسى؟ إذ كان من المفروض أن تبدأ به فلماذا تهرب منه؟ فقد كان فرعون يهرب منه ويبتعد عن سيدنا موسى فقد صرفه الله؛ لأن ناصيته بيد الله، فالله عز وجل جعله ينصرف عن موسى صلى الله عليه وسلم، بل كما ذكرنا أنه كان إذا رأى موسى يرعب، ويخاف مع أنه يهدده بالبطش الشديد. وموسى ساكن مطمئن، وتأمل هذه السكينة والطمأنينة ساعة ترائي الجمعان {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، سكينة عجيبة، فهذه الدنيا كلها جنود من كل أرجاء مصر، وسيدنا موسى بالنسبة لهم هو ومن معه مجموعة قليلة بالمقاييس الدنيوية، كما قال الله: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56]، وكانت القضية غير ذلك، فسيدنا موسى في طمأنينة تامة وسكينة كاملة {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85]، وهذا دعاء عظيم جداً ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))، اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، والفتنة: لها تفسيران كلاهما حق، وهما متلازمان، الأول: ربنا لا تجعلهم يفتنونا عن ديننا، الثاني: لا تجعلنا فتنة لهم، بمعنى: أنهم لو هزمونا وغلبونا لظنوا أنفسهم على الحق، فكان ذلك فتنة لهم ينصرفون بها، ويقولون: لو كانوا على الحق لما فعلنا بهم ما فعلنا، وكثير من الناس يزنون الحق والباطل بميزان النصر والهزيمة، فالمنتصر هو المحق، والمغلوب هو المبطل، مهما كان معه من بينات وحجج، فالضعيف المغلوب لا بد أن يكون على الباطل، والقوي المنتصر لا بد أن يكون محقاً، وهذا أمر عجيب الشأن عند أكثر الناس وبهذا يفتنون حين ينهزم أهل الإسلام.

أهمية الترابط والتناصر بين أفراد الدعوة

أهمية الترابط والتناصر بين أفراد الدعوة قال الله: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:86]، نجاة ليست بالأسباب، ولا بالتدبير، ولا بحسن الاختيار لكن برحمة الله، وبفضله سبحانه وتعالى، وبالتوكل على الله عز وجل خصوصاً مع انعدام الأسباب {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:86]. ولقد كان هناك واجبات لهذه المرحلة: مرحلة الفترة ما بين الخروج، وما بين تسلط فرعون الفظيع والفتنة التي يقول فيها: ((وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ))، وهي المذكورة في قوله تعالى: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا))، أي: اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً؛ ليكون هناك رابطة قوية بين كل فرد من الأفراد، وبين القيادة للطائفة المؤمنة حتى يكون هناك التزام وتحرك في الوقت المطلوب، فلا بد من وجود هذه القيادة التي يحصل بها هذا ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أي: يقابل بعضها بعضاً كما هو أحد القولين في تفسير هذه الآية، أو ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) والقول الثاني: صلوا في بيوتكم فهم سوف يمنعونكم من الصلاة في معابدكم أو في أبياعكم، ولكن صلوا في البيوت ولا تتركوا الصلاة ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، فلا بد من الالتزام بعبادة الله سبحانه وتعالى على أي الأحوال، فكلا التفسيرين معناه حسن وجميل، وكلها من واجبات هذه المرحلة الضرورية فالترابط يثبت الله به الأقدام، والناس إذا تفككوا سهلت هزيمتهم وأما إذا تماسكوا وتكاتفوا، وكان بعضهم لبعض كالبنيان يشد بعضه بعضاً فإن الباطل لن يستطيع هدمهم، ولذلك نقول: إن من أعظم الواجبات ألفة القلوب واجتماعها، والتعاون على طاعة الله، والتباعد عن أسباب الخلاف، كما قال الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، فلا بد أن نصلي كثيراً لله عز وجل ولا بد أن نكثر من ذكره، وعبادته فنعمل الصالحات، ونذكر الله كثيراً، ونرجوا الله واليوم الآخر، وسوف يأتي الفرج، فالصلاة طمأنينة وبها تستفتح المغاليق، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل عن زكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]؟ ألم تسمع أن الملائكة لما أرادت إبلاغ أمر الله لمريم، وتهيئتها للأمر العظيم الذي سوف تحمله، قالت لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]؟ ألم تسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بدر كان طوال الليل تحت الشجرة قائماً يصلي، ويدعو الله عز وجل؟ ألم نعلم أنه كان في ليلة الأحزاب طوال الليل يصلي لله عز وجل؟ حتى كلف أصحابه بتكليفات، وهو يصلي صلى الله عليه وسلم على الدوام، ولقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فافزعوا إلى الصلاة عباد الله فإن ذلك من أعظم ما يفتح الله به الأمور المغلقة. ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وهذه مهمة من أعظم مهمات المرحلة، فلا بد من التبشير حتى لا تيئس النفوس ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) بماذا؟ بوعد الله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]. فالله سبحانه وتعالى، وعد ووعده حق لا يخلف؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، هكذا يبشر المؤمنين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:105 - 107]. وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار؛ حتى لا يبقى بيت مدر ولا بر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وكلها واجبات لا بد أن نتناولها فيما بيننا فنبشر أهل الإيمان بقرب الفرج؛ فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً.

دعوة موسى على فرعون وملئه

دعوة موسى على فرعون وملئه وكان هنا لك واجب آخر، وهو الدعاء، فالدعاء سلاح عظيم قال الله: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)). وتأمل هذه الأدعية العظيمة ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، لم يقل: يا رب! فرعون عنده، وعنده، ولكن قال: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ))، وهذه روح إيمانية عالية جداً؛ لأن الإيمان يعلو بالإنسان فيرى أن ذلك عطاء من الله نازل من عنده وليس من جهد فرعون، فهذه الأرض كلها صغيرة جداً وهي ذرة في هذا الوجود، ولم يحصل فرعون هذا بنفسه بل الذي آتاه ذلك هو الله ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ))، فموسى يستحضر القدر، ويستحضر أن الله مالك الملك كما قالوا له عندما قال {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:127 - 128]، استعينوا؛ لأن الله هو المالك؛ فالضر والنفع بيده سبحانه وتعالى، وكل الأمور من عنده لا من عند فرعون، فلا قهر لفرعون بل الله هو القاهر فوق عباده سبحانه وتعالى. ولذلك قال سبحانه وتعالى عن موسى: ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، فاستحضر موسى صغر هذه الحياة الدنيا وسماها دنيا وزينة وأموالاً، وذكرها بالصيغة المنكرة؛ لأن فيها تقليلاً واستحقاراً لهذا الذي أعطي فرعون؛ ولأن الله هو الذي أعطاه وليس هو الذي جمع، ولم يكن له الأمر في الجنود وإنما هذا بأمر الله، ثم استحضر أمراً آخر ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وهذا الإضلال وقع بقدر الله وإرادته، واللام للتعليل ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وليس تعليلاً شرعياً؛ فإن الله لم يأذن شرعاً أن يضل عن سبيله، ولكن قدر ذلك سبحانه وتعالى، فموسى يستحضر أن ذلك من الله عز وجل خلقاً وإيجاباً، فالله خالق أفعال العباد، وقد أعطاهم الله ليضلوا عن سبيله، ولكي تجتمع عليهم قلوب المفسدين، كما قال عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]، فربنا هو الذي جعلهم يمكرون وهو يعلم أنهم يمكرون، وفي هذا فائدة لنا نحن؛ لأن الله يحب أن تظهر منا عبادات أخرى؛ كالصبر واليقين بوعده، والتوكل؛ ولأجل ذلك سخر وأوجد من يمكر {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام:112 - 113]، لتصغى إلى الباطل بمعنى: لتميل إلى الباطل قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة {وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113]، فالله هو الذي قدر ذلك، وجعلهم يفعلونه. قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لماذا قدر الله ذلك؟ A { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال:37]، وجعلهم مغناطيس من أجل أن يأتي الباطل على بعضه، ولكي تصغى إليه القلوب الفاسدة، ثم تلقى بعد ذلك في النار {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]. وحين تقرأ قول الله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ))، فإنك لا تستحضر قوة فرعون، ولا تستحضر كثرة ما معه، بل استحضر أن ناصيته بيد الله، وأن الله أعطاه ليبتليك أنت {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، الله الذي جعل ذلك {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فهم الذين يضلون وكفى بالله هادياً، وهم الذين يحاربون الإسلام ليهزم وكفى به عز وجل نصيراً، وسوف يظهر أن الهداية لله عز وجل، وأنه يهدي رغم كيد المضلين، وسيظهر رغم حرب المحاربين أن الله هو النصير، وأنه سينصر الإسلام ويظهر الحق بفضله سبحانه وتعالى. قال تعالى: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ))، وتلك الدعوات شديدة جداً من أجل أن يظل فرعون مربوطاً على قلبه لا يقبل الحق هو وقومه حتى يروا العذاب الأليم، فسيدنا موسى دعا عليهم دعوة عظيمة من أجل أنهم لم يؤمنوا، فأراد أن ينزل بهم عقاب الله من كثرة ما رأى من إعراضهم وكبرهم، فدعا عليهم أن يظلوا على الكفر إلى الموت، فطمس الله على أموالهم وتحولت إلى حجارة كما قال غير واحد من أهل العلم، أو طمس عليها فلم يعد لها فائدة. قال عز وجل: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا))، وقد كان سيدنا هارون يؤمن فسميت دعاءً أيضاً ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا))، ومعناها سوف تجاب، وسوف يؤمن فرعون حين يرى العذاب، ومع ذلك قال: (قد أجيبت). وكان بين الدعوة هذه وإجابتها التي أخبر الله بتحققها سنين، ففي بعض الأقوال: أربعون سنة، وما نظنها وصلت إلى ذلك فالله أعلم، لكن كان بينهما مدة، ولذلك فلا تستعجل فقد أجيبت الدعوة بالفعل، فالله يجيب الدعوة في السماء قبل أن يرى الناس وقوعها على الأرض. ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويقول الله: (وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين)، والحين عند الناس طويل، وأما عند الله عز وجل فهو قصير، وقد أمرنا ربنا ألا نستعجل بل قال لنبيه: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فلا تقل يا رب أنزل عليهم العذاب الآن، بل اتركهم لله عز وجل فله الحكمة والعلم يفعل ما يشاء، ولعلك في فترة الشدة والإحراق أفضل منك في فترة الرخاء والإشراق. فعندما تطلع الشمس سوف يكون الناس كلهم سائرين إلى أعمالهم، وسوف يدخل الناس في دين الله أفواجاً، وأما أنت فينبغي لك في فترات الإحراق والشدة وحدك أن تعبد الله ولعل هذا خير لك، فأكثر الناس لا يصبرون عن فتنة السراء، ففتنة الدنيا تأخذ الناس بعيداً عن الإسلام، فالصحابة أنفسهم يخشى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا، فلا تستعجل فإن لك أجلاً مقدراً ولعل ما أنت فيه من الشدة والضيق خير لك من السعادة التي تطلبها، فالله هو الأعلم ففوض الأمر إليه.

أهمية الاستقامة على أمر الله

أهمية الاستقامة على أمر الله {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]. فالواجب عليك أن تستقيم الاستقامة المطلوبة (وقل آمنت بالله ثم استقم)، وهي الاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، ولا ترغ روغان الثعلب بل اثبت على الحق ولا تبتعد عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تمل ولا تداهن، بل استقم على العلم والعمل والثبات والصبر والدعوة إلى الله عز وجل، فلا بد أن تكون هناك استقامة وهي التي أمر الله بها عند الشدائد فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112]، وهذا الأمر هو الذي شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (شيبتني هود وأخواتها)، ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)). إذاً: تدور مع الأوامر وتلتزمها، فنحن إنما أتينا من ترك الأوامر ((فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ))، نؤتى حين نتبع سبيل الذين لا يعلمون، فإن كان فينا من لا يعلم فلا بد من العلم ولا بد من ترك متابعة الذين لا يعلمون، ولا بد أن نتبع أهل العلم والتقوى والصلاح والاستقامة من أجل أن ننفي عن أنفسنا الجهل بتعلم العلم الواجب علينا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ)). تأمل فضل الله سبحانه وتعالى، فقد جاء الأمر من الله بأن ينطلق بنو إسرائيل مع موسى ليلاً وهم متبعون {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، إذا: فقد علم موسى بوجود المطاردة، فأنت حين تخرج وتعلم أن في طريقك من سيطاردك فاعلم أنها طريق غير آمنة ((إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ))، وسبحان الله! فقد كان في قدر الله أن فرعون سيتبعهم، ولم يخرج من أول مرة بل أخره الله فأخرج جنوده فقال الله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:53 - 56]. قال عز وجل: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ))، أليس هم الذين خرجوا بإرادتهم؟ ولكن الله يذكر فعله فيهم لنستحضر أن الأوامر من فوق، وأن الأمر من عنده، وقد كانوا جالسين على أسرتهم في الجنات والعيون فأخرجهم الله، قال عز وجل: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:57 - 63] أي: أن كل ناحية منه كالجبل العظيم على عدد أسباط بني إسرائيل؛ فانفلق البحر بضربة واحدة إلى اثنتي عشر طريقاً، وجاءت الريح فيبست الطريق {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77]. قال الله عز وجل: ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ))، ولا شك أن بني إسرائيل كانوا يجرون جرياً لكي ينجوا، ولكن الله ذكر ذلك على سبيل فعله هو عز وجل فقال: ((وَجَاوَزْنَا))، منة منه وفضلاً سبحانه وتعالى على بني إسرائيل وهم ما جاوزوه بأنفسهم، ولكن الله هو الذي جاوز بهم ((وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، هنا نسب الفعل إلى فرعون، فقد أتبعهم فرعون ليبين فعله الذي يستحق عليه الهلاك، وذكر صفة هذا الفعل بما فيه من بغي وعدوان: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا)) وقال في الآية الأخرى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه:78]، (بجنوده) تدل على تبعية الجنود له مثل قطيع الغنم، فهو يمشي بهم وهم يتحركون وراءه بلا عقل ومع ذلك هم مسئولون؛ لأن لهم عقولاً، فهم الذين عطلوها، ولذا قال هنا: ((وَجُنُودُهُ))؛ لأن المشاركة تقتضي الجريمة؛ ولأنهم أيضاً بغاة ومعتدون (بغياً وعدواً) إذاً: كل جندي مطيع في الباطل فهو باغٍ ومعتد ومستحق العقاب، ولذلك دائماً يذكر فرعون وهامان وجنودهما وأنهم كانوا {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6]. إذاً: لا طاعة في معصية الله، والطاعة في الكفر كفر والعياذ بالله وقال: ((بِجُنُودِهِ))؛ ليبين التبعية المذمومة، وقال في الآية الأخرى: ((وَجُنُودُهُ))؛ ليبن مسئوليتهم، وقال: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ))؛ ليبين الفعل منهم، فقد اكتسبوا الأفعال، وفي سورة الشعراء قال: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64]، فهو هنا يبين القضاء والقدر أي: أن ربنا يقربهم وهو الذي يدفع فرعون دفعاً، وإن كان يمشي بإرادته. فالعبد يفعل وعليه المسئولية؛ لأن ربنا أعطاه قدرة وإرادة وعقلاً يفكر به، وبلغه الشرع وبناءً على ذلك هو يحاسب، والله هو الذي جعله يفعل، فلا يقول هذا قدر الله علينا، فأنت الذي اتبعته، وأنت الذي كنت باغياً معتدياً. {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64] أي: قربنا، وفعل ربنا ذلك من أجل أن نستحضر أن الأمور بيده، مثل قوله: ((رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً))، وقوله: ((رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ))، وقوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا))؛ لتستحضر أن الأمور من عنده، وأن شيئاً لا يخرج عن قضائه وقدره بالعدل لا بالظلم، فالله لا يظلم الناس شيئاً. قال تعالى: ((فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا))، ولما ذكر البغي والعدوان ناسب أن يكون الفعل منسوباً إليهم، قال: ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ))، فسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه خرجوا من الناحية الأخرى ودخل فرعون بجنوده حتى توسط بهم البحر جميعاً وهو يريد أن يدرك موسى وقومه؛ فجاءت آية جديدة من آيات الله، فالله هو الذي فلق البحر له، ولكنه طمس على قلبه وبصيرته والعياذ بالله، وفرس فرعون يتحرك أيضاً، ولما توسط البحر انغلق البحر عليهم في سكون وبساطة شديدة، وفي لحظات انتهى كل شيء، وبدأ فرعون يشرب من الماء ليغرق ((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ)). وانظر إلى الذل والهوان فلم يقل: لا إله إلا الله: بل هو تابع لبني إسرائيل باقٍ معهم، فقال: إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل: سأظل أمشي وراءهم، ما قال إلا الله مع أن الصواب هو: لا إله إلا الله، ولكن هذا من أجل أن يبين لنا مدى التبعية. ((وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ))؛ لأن سيدنا موسى كان يدعو لدين الإسلام ((فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ))، فهو لا يدعو إلى اليهودية أو النصرانية المحرفة، بل الله سبحانه وتعالى جعلهم يدعون إلى الإسلام؛ لأن الدين عند الله الإسلام كما قال الحواريون لما أرادوا أن يخبروا عيسى أنهم على دينه {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، أما نحن فإننا أتباع موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فليس هناك أتباع نبي من الأنبياء حقاً إلا في أهل الإسلام بحمد الله تبارك وتعالى. قال سيدنا جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أدس من وحل البحر -أي: من طين البحر- في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة)، فالنفصل لا إله إلا الله خاف سيدنا جبريل من أن يرحم الله فرعون وقت قبض روحه وينجيه؛ لأنه سيدنا جبريل يكره من يكرهه الله، فهو يريد أن يهلك؛ ليكون آية، فهو يدس الطين في فِيه من أجل ألا يتكلم مرة ثانية وألا يقول لا إله إلا الله، بل من أجل أن يسكت؛ فمن توفيق الله للعبد أن يقول: لا إله إلا الله منة من الله عليه، فهي أعظم كلمة في الوجود، (فأفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففرعون رأى آيات كثيرة جداً من أجل أن يقولها فقط مرة واحدة ولكنه ما قالها، فربنا لم يمنَّ عليه بها، وقد منَّ الله عليك بأن تقولها ربما دبر الصلاة عشر مرات، وأن تقولها وأنت جالس على أريكتك، وتقول يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وانظروا إلى ابن جدعان فقد كان يطعم ويطعم ويفعل فتسأل عائشة مشفقة عليه؛ لأنه كان يصل الرحم ويقري الضيف، ويفك الأسير، هل نفعه ذلك؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا. إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين). فنعمة من الله أن تقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وأن تكون مؤمناً بالله واليوم الآخر، فهذا سيدنا جبريل لا يريد أن يتكلم فرعون بهذه الكلمة، لكن ذل فرعون فظيع، فربنا عز وجل لا يقبل مثل هذا الإيمان. قال عز وجل: ((آلآنَ)) [يونس:91]، أي: الآن تؤمن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين، وسنة الله اقتضت ألا يقبل الإيمان ممن نزل به العذاب وحضره الموت وحصلت الغرغرة، ولكن يمكن أن يقبل منه قبل ذلك بلحظات، أما إذا غرغر الإنسان أو نزل العذاب فلن تقبل توبته. {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ

رحلتنا إلى الأرض

رحلتنا إلى الأرض إن الله عز وجل خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فكان هذا كله تكريماً وتشريفاً له عليه السلام، وفي المقابل طرد إبليس، وأحل عليه اللعنة، حين أبى السجود لآدم، فحلت البغضاء في نفسه، وانتفش من قلبه الحسد لآدم فأقسم ليغوين ذريته أجمعين إلا عباد الله المخلصين؛ فكانت الكارثة والمصيبة العظمى أن أغوى آدم وحواء؛ فأهبطا من الجنة إلى الأرض بسبب إغرائه اللعين، ووسوسته المقيتة.

الفوائد المستفادة من قصة آدم في سورة الأعراف

الفوائد المستفادة من قصة آدم في سورة الأعراف الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقصص القرآن معين لا ينضب، وغذاء للقلب والروح، ونور على طريق الهدى والإيمان، يلتزم الإنسان من خلاله بما بين الله عز وجل لنا من صفات الأنبياء والمرسلين، ويحذر على نفسه من صفات من خالف طريقهم المستقيم، وجعل الله سبحانه وتعالى هذا القصص أحسن القصص بما أوحى الله إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن العظيم، ومن القصص التي ذكرها الله عز وجل مرات في كتابه العزيز قصة وجود الإنسان على ظهر هذه الأرض، وكيف بدأت قصة نبي الله آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف وقع الصراع مع إبليس؟ وما هي مغبة طاعته وقبول نصيحته الكاذبة الخادعة؟ وما هي وسائله التي يصل بها إلى إغواء الناس؟ وإنا لنرى في واقعنا وحياتنا من انتشار وسائل الشيطان بل ومن وجود صفاته القبيحة المنكرة ما يجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يحذر على نفسه من ذلك، نتلو آيات الله سبحانه وتعالى من سورة الأعراف التي ذكر الله عز وجل فيها هذه القصة ثم نذكر بعض فوائدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:11 - 27].

تكريم الله لآدم في خلقه له بيده

تكريم الله لآدم في خلقه له بيده فأخبر الله عز وجل أنه خلق آدم عليه السلام، وصوره عز وجل بيده، وجعل هذه الصورة صورة مكرمة، ذلك أن من سواه الله عز وجل بيده الكريمة ليس كمن قال له: كن فكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قاتل أحدكم أخاه فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته) فالله سبحانه وتعالى كرم هذه الصورة وسواها بيده عز وجل، وذلك أن بني آدم كلهم كانوا في صلب أبيهم، وجعلهم على صورة أبيهم، فخلق آدم ثم خلق ذريته على تصويره، وكذلك خلق عز وجل أرواحهم قبل خلق أجسادهم، كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].

جواز السجود للبشر في الأمم السابقة لإرادة التكريم

جواز السجود للبشر في الأمم السابقة لإرادة التكريم وكان هذا بعد خلق آدم عليه السلام، فدل ذلك على أن الأرواح التي أخذها الله من ظهر آدم ونثرها بين يديه قبلاً وكلمهم {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] كان ذلك خطاباً للأرواح قبل خلق الأجساد، قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]، وهذا تكريم لآدم عليه السلام، فقد أمر الله عز وجل الملائكة بالسجود لآدم، فكان عبادة لله وتكريماً لآدم، طاعة لله عز وجل في ما أمر به وليس عبادة لآدم، وإنما أمروا بالسجود تكريماً له، وقد جعل الله عز وجل سجود التكريم جائزاً في الأمم السابقة كما سجد إخوة يوسف وأبواه له، قال عز وجل: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:100]. والمؤمن يفعل ما أمره الله عز وجل به أياً ما كان، وهو عز وجل يكرم من شاء بما شاء، وعلى المؤمن أن يطيع، ولقد أمرنا الله عز وجل أن نطوف بالبيت، وأن نقبل الحجر الأسود، وذلك عبودية لله سبحانه مع اعتقادنا أنه لا يضر ولا ينفع، كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.

الحكمة من خلق آدم وذريته

الحكمة من خلق آدم وذريته فكان سجود الملائكة لآدم أمراً من الله عز وجل مكرماً به لآدم الذي علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكان هذا كله من أسباب تكريمه ومنزلته العالية عند الله سبحانه وتعالى. وجعل سبحانه وتعالى المؤمنين من ذرية آدم أكمل الخلق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] وذلك أنهم يعملون بطاعته سبحانه وتعالى رغم وجود إرادة الشر والسوء والشهوات في نفوسهم، فهم يقاومونها، والله عز وجل حين قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، تعجبت الملائكة من وجود خلق جديد مع أن الملائكة تعبد الله سبحانه وتعالى، وتفعل بما تؤمر، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون؟! ولذلك سألوا عن حكمة وجود خلق جديد مع ما أعلمهم الله من أنه سوف يوجد في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فلعلمهم أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته تعجبوا من وجود هذا النوع الذي يوجد فيه الخير والشر، ويوجد فيه الطيب والخبيث! فسألوا الله عز وجل عن حكمة إيجاد نوع يوجد فيه من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، مع قدرته عز وجل على خلق من يعبده ولا يعصيه قط؟ فقال عز وجل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ذلك أنه عز وجل يعلم وجود الأنبياء والمرسلين والصالحين والشهداء من بني آدم، يعبدونه عبودية هي أكمل أنواع العبودية مع أن إرادتهم فيها المنازعة، ففيها إرادة الخير وإرادة الشر، وهم يعبدون الله في ظروف وأحوال تختلف عن ظروف وأحوال عبادة الملائكة، فالملائكة ليس فيهم من يعصي الله، وليس فيهم من يأمر بالمنكر، وليس فيهم من ينهى عن المعروف، وليس فيهم من يكفر بالله، وليس فيهم من يصد عن سبيل الله، فإذا وجدت عبودية لله سبحانه وتعالى في مثل هذه الأحوال في ظروف المصادة والمشاقة والبعد عن دين الله وشرعه كان ذلك أحب إلى الله عز وجل. فمن أجل وجود هذه العبودية قدر سبحانه وتعالى وجود من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، حتى يوجد من ينهاه ومن يجاهده، ومن يحبس نفسه على طاعة الله ويصبر على ما يلقاه في سبيل الله، وحتى يعبد الله سبحانه وتعالى، بعكس ما يفعله أكثر الناس، فهذه عبودية أحب إلى الله عز وجل، بل من أجلها أوجد العصاة والمجرمين؛ لكي يتعبد المؤمنون له بالصبر والاحتساب والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليتخذ الله عز وجل منهم شهداء يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه وتعالى، فله الحكمة البالغة، فهو عز وجل كرم آدم عليه السلام وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وهذه الروح ليست جزءاً من الله -تعالى الله عن ذلك- ولكنها روح أضيفت إلى الله تشريفاً وتكريماً، فهي مثل: ناقة الله، وبيت الله، ففيها إضافة تشريف، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، فروح آدم وبنيه أضيفت إلى الله إضافة ملكية للتشريف، فهي مملوكة مخلوقة لله سبحانه وتعالى.

سجود الملائكة لآدم تكريما له

سجود الملائكة لآدم تكريماً له قال عز وجل: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، وإبليس أصله: من الإبلاس: وهو اليأس، كما سمي إبليساً؛ ليأسه من رحمة الله بعد إبائه وكفره وتكبره والعياذ بالله! وإبليس لم يكن أصلاً من الملائكة وإنما خلق من النار كما وصف الله عز وجل حيث قال: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] فدل ذلك على أن أصله من الجن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، فلماذا كان الأمر للملائكة أمراً لإبليس؟ لأن إبليس كان يعبد الله عز وجل حتى صار كواحد منهم، وارتفع في المنازل العالية، وهذا يدلنا على أن العبرة بالأعمال وليس بأصل الخلقة؛ فلذلك الملائكة خلقت من النور ومع ذلك فالذي خلق من الطين فآمن وعمل صالحاً يصل إلى المراتب العالية أعلى ممن خلق من النور، فهذا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يصعد في المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ويرتفع إلى مراتب أعلى من جبريل عليه السلام، وهو خير الخليقة على الإطلاق عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم خليل الرحمن خير البرية بعده عليهما الصلاة والسلام، فإبليس عندما عبد الله عز وجل وكان مطيعاً لله سبحانه وتعالى صار كواحد من الملائكة. فلما قيل للملائكة: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) كان الأمر لإبليس أيضاً كواحد منهم رغم أن صفته تختلف عن صفتهم، والدليل على ذلك: أن ما وقع في نفسه مما لا يقع في أنفس الملائكة، فإن الملائكة لا يقع في أنفسها مخالفة أمر الله، لكنه مكلف، وكان في نفسه من إرادة الشر والسوء ما لا يمكن أن يقع من الملائكة الذين عصمهم الله عز وجل عن إرادة ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ))، فامتنع من السجود -والعياذ بالله- وتحولت حاله، فبعد أن كان في المنازل العالية -لنتعظ من قصة إبليس كيف أن المعصية تهوي بالإنسان وتخرجه بعد أن كان في القرب والدنو وفي السموات العلا- أصبح ذلك في الحضيض الأسفل، فمنزلة المخلوق تكون على حسب عبادته، إبليس كان في الملأ الأعلى ثم بعد ذلك لما عصى وتكبر وكفر والعياذ بالله صار إلى أسفل سافلين؛ ولذلك فالعبرة بالخواتيم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها). فلا تغتر، وكن على حذر، ولا تأمن مكر الله ولو كانت إحدى قدميك في الجنة، فخير الناس بعد الأنبياء يقولون ذلك، بل الأنبياء أنفسهم يعلمون ما كتب الله عز وجل لهم من الفوز والسعادة ولكنهم مشفقون على الدوام، ويعبدون الله إلى آخر لحظات عمرهم كما أمر الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11 - 12] أي: ما الذي دفعك إلى عدم السجود حين أمرتك؟ وهذا مما يحتج به أهل العلم على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله عز وجل بأمر فهو للوجوب، وكذلك أمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه وإنما يأمر بوحي الله، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] لذا قال العلماء: إن الآمر هو الله عز وجل أصلاً، وهو الذي له الحكم أصلاً، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مبلغ عن الله، فإذا وجدت أن الله أمر فهذا واجب يلام من تركه ويعاقب، وذلك أن الأمر كان: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) فهو أمر مجرد، والأمر المجرد يقتضي الوجوب عند عامة أهل العلم، واحتجوا بظواهر الأدلة من الكتاب والسنة في مواضع كثيرة على أن الأمر للوجوب كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، فدل ذلك على أنه لو أمر لوجب، ولكنه لا يريد أن يشق عليهم. وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ سراقة أو غيره لما سأله في الحج: (أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت: نعم! لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، فذروني ما تركتكم) وإذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بشيء ابتدرنا أمره، فهذا هو الواجب، ولم يجز لنا أن نقول: هذا الأمر لماذا؟ وكيف؟ وما العلة فيه؟ وما الحكمة منه؟! فهذا ليس بأسلوب المؤمنين، فالمؤمنون يخضعون لأمر الله عز وجل، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

الصفة المشتركة بين إبليس وكثير من بني آدم

الصفة المشتركة بين إبليس وكثير من بني آدم قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وهنا ظهرت عدة أمراض من إبليس اللعين والعياذ بالله، وما أكثر انتشارها في بني البشر من حيث لا يشعرون! أولاً: رد أمر الله سبحانه وتعالى، فهو لم يكن ناسياً، ولا متكاسلاً، ولم يذكر شيئاً من ذلك، فلم يقل: يا رب! أنا أخطأت، ولم يقل: يا رب! أنا نسيت، ولم يقل: يا رب! أنا لست من الملائكة مثلاً، أو: أنا خلقتي غير خلقتهم والأمر لم يشملني، فإبليس يعلم تماماً أنه مأمور ضمن الأمر للملائكة، لكنه رد الأمر على الله عز وجل، والرد من أخطر أنواع الكفر، فهو كفر الإباء والاستكبار، ولم يقل: هذا الأمر ليس من أمرك يا رب! وكثير من الناس يظن أن استحلال المعصية معناه فقط: أن يقول: إن الله لم يحرم هذا الأمر، كمن يقول مثلاً في الزنا: الزنا معصية من المعاصي وفعل الزنا ليس مخرجاً من الملة، ولكن استحلال الزنا مخرج من الملة، لكن هناك أمراً أخطر وأكثر وقوعاً وهو: أنه يعلم أن الزنا حرام لكنه يقول: لا يلزمنا هذا الأمر، فيرد الأمر على الله عز وجل، فهذا كفر الإباء ومنبعه من الكبر، كما قال عز وجل: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] فهذا كفر مثل كفر الاستحلال أو هو في الحقيقة يمكن أن يعد نوعاً من الاستحلال، بأن يرد أمر الله كمن يقول: الزنا حرية شخصية مثلاً، فهذا إباء ورد لشرع الله لا يستطيع أن يجزم ولا أن يدعي أن الله لم يحرم الزنا، ولكنه يقول: ماذا في الزنا إذا كان برضا الطرفين؟! كقصة قرأتها اليوم في الجرائد: أن فتاة بلغ أبوها الشرطة أنها اغتصبت، فاتهم طالباً -زميلاً لها وجاراً لها- بذلك؛ فقبض عليه فجيء بالفتاة فقالت: لا، أنا ذهبت بإرادتي إلى شقته وبت معه، فأطلق صراح الطالب مباشرة، فهذا أمر عجيب! فالأمر عند القوم مبني على الإكراه، أما إذا كان بالتراضي بينهما فلا بأس ولا حرج، ولا شك أن الذي وضع هذا الأمر وشرعه أصلاً يرد شرع الله عز وحل، فيمكن أن تثبت واقعة الزنا، ولكن إذا ثبت أن هذا الأمر وقع بالتراضي والاختيار فلا يكون هناك ثم جريمة والعياذ بالله! فالإباء موجود بكثرة، فعندما تدعو أحداً إلى أن يصلي يقول لك: أنا حر! أصلي إن شئت ولا أصلي إن لم أشأ والعياذ بالله! فهل هذا أمر مني أنا عندما أقول لك: صل، أقم الصلاة؟ إنه أمر الله عز وجل، فالذي يرى نفسه حراً مع أمر الله كافر وخارج عن ملة الإسلام! والذي يرى نفسه حراً مع أمر الله يفعله إن شاء ويتركه إن شاء ولا يرى لزوم الأمر عليه إبليسي المذهب، وإبليسي الطريقة! والذي يقول: أنا حر، أنا لا أسجد والعياذ بالله، فهو كمن قال الله عنه: {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33] فرد الأمر على الله من أعظم أنواع الكفر، فكفر إبليس لم يكن عن طريق اتخاذ وسطاء يدعوهم مثلاً من دون الله كشرك المشركين الذين عبدوا الأوثان وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وكمن يعبد الملائكة مثلاً أو يعبد المسيح أو يعبد الأولياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى، فيدعوهم، ويتوكل عليهم، ويذبح وينذر لهم، وهذا نوع من الشرك، فكفر إبليس لم يكن بذلك ولم يقل: هناك وسائط بيني وبين الله أدعوهم وأعبدهم، وإنما كان كفره كفر رد وإباء. وهذا كفر يجهله كثير من الناس، ولا يعرف خطره، ونراه كثيراً واقعاً في مئات وآلاف وملايين من الناس وهم لا يعرفون أنه كفر والعياذ بالله!

الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس

الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس وكفر الرد والإباء يؤدي إلى زوال أصل الانقياد من القلب، وأصل العبودية خضوع وانقياد مع حب، فإذا زال من القلب أصل الخضوع كفر المخلوق والعياذ بالله، فهذا إبليس كفر مع إقراره بوجود الله، ومع إقراره أن الله خلقه، ومع إقراره بيوم البعث، ومع إقراره أن الله هو الذي يمد في العمر ومع كل ذلك كفر إبليس؛ لأنه انتفى من قلبه أصل الانقياد، وانتفى من قلبه الخضوع لله عز وجل، فآدم عليه السلام عصى، وإبليس عصى، وآدم لم يكفر عليه السلام، وإبليس كفر؛ لأن آدم لما عوتب قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]. وشتان بين من قال: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، وبين من قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23]! وهذا فرق كبير جداً بين إنسان تأمره بطاعة الله فيقول: أنا مخطئ، أنا مقصر، وبين آخر يقول: دعنا من الشرع! لا ألتزم ولا أطيع! فهذا هو الذي يرد شرع الله عز وجل. والمؤمن لا بد أن يكون في قلبه أصل الحب والانقياد، وأصل الخضوع لله عز وجل، ولذا يقال: طريق معبد أي: مذلل، فالعبودية أصلها من الذل والخضوع، ولذلك إذا زال من القلب أصل الخضوع -بمعنى: أنه لا يرى لله عليه أمراً يطاع- زال من قلبه الإيمان ولو أطاع في أوامر أخرى، ولو كان يعبد الله قبل ذلك بسنين فإنه لا يكون مؤمناً، ثم كانت الصفة الثانية التي دلت عليها الآية الكريمة: أنه يزكي نفسه، قال الله عنه: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) فتزكية النفس والإعجاب بها ورؤيتها كبيرة مرض؛ لذا كان مرض الكبر والعياذ بالله مرضاً منتشراً أيضاً في بني آدم، والذرة منه تمنع دخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وإبليس رأى نفسه في المحل الأعلى فزكى نفسه، قال عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. وكم تجد من الناس من يقول: أنا خير من فلان، وأنا أحسن من فلان، وأنا أعلى قدراً من فلان، وأنا أغنى من فلان، وأنا أكثر مالاً من فلان، أنا أكثر منك مالاً وولداً! كم من الرجال والنساء! المرأة تقول: أنا أجمل من فلانة، وأنا أحسن من فلانة، حتى إن أهل الدين قد يدخل فيهم هذا الداء، حتى إنه يوجد من يعبد الله عز وجل ليقال: فلان أعبد من فلان! وفلان أزهد من فلان! وهو في نفسه يقول: أنا أعلم من فلان، وأنا أكثر طاعة من فلان، نسأل الله العافية! فهذا بلاء شديد وخطير، وقد يبتلى به أهل الدنيا وأهل الدين على حد سواء؛ لذلك لا بد أن تكون حذراً من ذلك في نفسك، فاحذر أن تزكي نفسك، فمن كان على طريقة إبليس فإنه يزكي نفسه، فليست كلمة (أنا) حرام فقط، فبعض الناس يقول لك: أنا اسمي فلان! وأعوذ بالله من كلمة أنا! لا، ليست (أنا) حراماً، وإنما (أنا) هذه تصبح كلمة منكرة أي: التي فيها تزكية للنفس والشعور بالكمال، وتنقيص الآخرين وازدرائهم، فهذه هي التي فيها الذم والعيب، وليس كل (أنا) تكون محرمة يستعاذ منها، وإلا فقد ثبت في الكتاب والسنة أن يقول الإنسان: أنا. قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))، فإبليس جاهل جهلاً عظيماً لأمور: أولاً: أن في هذا رد لشرع الله سبحانه وتعالى. ثانياً: فيه اعتقاد عدم حكمة الله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: الأمر الذي أمرت به غير مناسب فكيف تأمرني بالسجود له؟! إذاً: ففيه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته وكأنه يقول: إن الأمر غير صحيح، إبليس لا يؤمن بصفة العلم والحكمة وأن الله عز وجل حكيم يضع الأشياء في مواضعها، ويشرع الشرائع للمصالح والحكم، فهذا داء خطير موجود في كثير من الناس، فتراه يعترض على شرع الله عز وجل بعقله، ويقول: لماذا أمر الله بالشيء الفلاني؟ كان ينبغي كذا فيقترح على شرع ربنا سبحانه، ولماذا ربنا حرم الشيء الفلاني؟! ولماذا ربنا أوجب الشيء الفلاني؟! وإبليس سن سنناً لكثير جداً من الناس ليسيروا عليها، ومنها: الإعجاب بالنفس، واعتقاد عدم الحكمة في شرع الله سبحانه وتعالى، والكبر الذي يدفع الإنسان إلى عدم الالتزام بدين الله وشرعه سبحانه وتعالى.

غرور إبليس وجهله بمنزلة آدم

غرور إبليس وجهله بمنزلة آدم فلو تأمل إبليس لعلم أن آدم خير منه، فآدم خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]. فإبليس كان يكتم في نفسه أنه يرى نفسه أفضل من آدم، ويكتم في نفسه الكبر والعجب والعياذ بالله! فكان عند إبليس القياس الفاسد فرد شرع الله بأن أصل خلقته من النار، وأصل خلقة آدم من الطين، والنار أفضل من الطين، فهذا القياس فاسد الاعتبار لا يجوز أن يعتمد عليه لأنه في مقابلة نص واضح، والشرع أتى بالقياس الصحيح ولم يأت بالقياس الفاسد، وأكثر انحراف الناس عن الشرع هو بسبب القياس الفاسد، فيعمل الإنسان عقله مع وجود النص، فيقول لك: لم أقتنع بهذا الأمر! فهذا أمر خطير، لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة أن يقول لأمر من أوامر الله: أنا غير مقتنع به، لماذا غير مقتنع به؟! أمر الله عز وجل العليم الحكيم هل يعرض على العقول؟! فإبليس هو الذي فعل ذلك، وهو أمر خطير جداً نسمعه فمثلاً: ترى فتاة متبرجة يقول أبوها: إني أتركها حتى تقتنع، فتقول لك: أنا لست مقتنعة بالحجاب! وهذا أمر ربنا عز وجل في القرآن حيث يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فالذي لا يقتنع بشرع الله وأمره مع علمه بأن هذا أمر الله فهو إبليسي المذهب يسير على طريقة إبليس، فلا بد أن تلتزم بشرع الله، ولو نظر إبليس في الحقيقة لعلم أن الله نفخ في آدم من روحه، وعلمه أسماء كل شيء، والعلم يقتضي التكريم، بخلاف النظر إلى أصل الخلقة، فمن الذي قال: إن الطين أقل من النار أو النار أفضل من الطين؟! لا يوجد دليل على ذلك، لكن عندما يتأمل الإنسان كل الشبهات الباطلة يجدها في النهاية لا أصل لها ولا دليل عليها، فإبليس بنى على أن النار أفضل من الطين، وبالتالي فالذي خلق من النار لا بد أن يكون أفضل من الذي خلق من الطين؛ وكذا فإن الأمر بالسجود للذي خلق من الطين أمر غير صحيح فكان رد فعله أن امتنع من السجود. فهذه المقدمات مبناها أصلاً على قاعدة باطلة، فلا يوجد دليل على أن النار أفضل من الطين، لا دليل على ذلك، بل إن النار من صفاتها الطيش والخفة، والطين من صفاته الهدوء والسكينة والرزانة؛ ولذلك يقولون: خان إبليس أصله، فسبب طيش إبليس خلقته، وهذا الكلام قاله بعض السلف لكن ليس فيه دليل؛ لأن إبليس لما كان مطيعاً كان مرتفع المنزلة، وبعض الذين يخلقون من الطين ليس فيهم رزانة ولا هدوء ولا سكينة بل يكونون في أسفل سافلين، والعبرة بالأعمال ليس بأصل الخلقة؛ وبالتالي نقول: لو أن إنساناً نسبه شريف لكن أعماله قبيحة، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه) إن أصل خلقتك أصل شريف، ولكنك لو كنت من نسل الأنبياء لخالفت سبيلهم فلست منهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن آل فلان ليسوا بأوليائي - بعض أقاربه الذين لم يؤمنوا- ألا إن وليي الله والملائكة وصالح المؤمنين) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم. والمقصود: أن المقدمات الفاسدة والقياس الفاسد هما اللذان يؤديان إلى تحريف وتبديل وتضييع الشرع، ثم إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله، فالحذر الحذر من استعمال الرأي في مقابلة النص، كما قال سهل بن حنيف رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، ولقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته) وانظر إلى سهل بن حنيف عندما كان في صلح الحديبية والرسول صلى الله عليه وسلم يمضي الصلح على الشروط التي اشترطها الكفار -وهي شروط ظالمة، فقبلها النبي عليه الصلاة والسلام للمصلحة- فكان بعض الصحابة يتمنون أن يردوا ذلك خصوصاً أمر أبي جندل أحد المستضعفين من المسلمين وهو ابن سهيل بن عمرو، فرده إلى أبيه يفتنه عن دينه، فما استوعب أكثر الصحابة ذلك، ولكن انظر إلى الفتح الذي حصل بالصلح، لقد كان فتحاً عظيماً مبيناً كما وصفه الله عز وجل حيث قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] فالمؤمن لا بد أن يمتثل لشرع الله ولا يعترض برأيه ولا بعقله على أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى لا يكون مثل إبليس الذي قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)) والعياذ بالله!

أول معصية عصي الله بها

أول معصية عصي الله بها ومن صفات إبليس: الحسد، وهي أول معصية عصي الله عز وجل بها، فإبليس حسد آدم على ما فضله الله عز وجل عليه؛ ولذلك أبى السجود، وهذا الحسد منبعه من الكبر والإعجاب بالنفس، لكنه ينبت الحسد الذي يؤدي إلى بغض المحسود، والسعي في الإفساد عليه، والسعي في أذيته، وهذا إبليس أبغض آدم عليه السلام على ما فضله الله عليه، والحسد هذا في حقيقته هو اعتراض على قضاء الله، وعلى ما قسم الله، فالله هو الذي أعطى، وهو الذي وهب، وهو الذي فضل، فإبليس هو أول من حسد، بل إن أول جريمة قتل ارتكبت على وجه الأرض كانت بسبب الحسد، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فالحسد هذا يكاد يقتل الناس، يقعد الإنسان يقارن بينه وبين غيره فيقول: لماذا أعطي فلان ولم أعط أنا؟! ثم تترتب على ذلك البغضاء والكراهية، ويضيق الإنسان الحاسد، وأول المعذبين بالحسد هو الحاسد؛ لذلك قالوا: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله يعني: الذي يتعذب أولاً هو الحاسد؛ لأنه يشقى بذلك الحسد، وهذا داء إبليسي والعياذ بالله! والكبر والعجب والحسد كلها أمراض إبليسية ليست من أصل صفة الإنسان، لكن أكثر الناس يخدعهم الشيطان ويجعلهم يقعون فيها، فاستعمال القياس الفاسد فيه رد لشرع الله سبحانه وتعالى، فهذه أمراض -كما ذكرنا- والعياذ بالله أدت إلى هذه الجريمة.

حكم ترك الصلاة

حكم ترك الصلاة وإبليس لم يترك فقط السجود، وإنما أبى السجود، ولذلك بعض العلماء يحتج ويقول: إن من ترك الصلاة كفر كفراً ينقل عن الملة، وقد يحتجون بأن إبليس ترك السجود فكفر، ويحتجون بحديث رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن ابن آدم إذا قرأ السجدة فسجد تولى عنه الشيطان يبكي فيقول: يا ويله -يا ويل نفسه- يا ولي! أمر آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النا)، وهذا يدلنا على خطر ترك السجود لله عز وجل، وكما ذكرنا فقد كان سجود الملائكة لآدم طاعة وعبودية لله عز وجل وليس عبادة لآدم، ولكن كما ذكرنا، فالذي يأبى الصلاة هو الذي يكون مثل إبليس كافراً والعياذ بالله، أما تركها تكاسلاً فلا شك أنه كفر أيضاً، ولكن النزاع بين العلماء في كونه كفراً ناقلاً عن الملة أو كفراً لا ينقل عن الملة، وهذا القول الأخير هو قول الجمهور وهو الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهنا ذكر الترك، وكما ذكرنا فإنه لا يلزم منه الإباء، ولم يذكر ربنا عز وجل في أي موضع من القرآن أن إبليس ترك فقط، وإنما قال: ((أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)) والعياذ بالله!

معصية إبليس أهبطته من الجنة

معصية إبليس أهبطته من الجنة قال سبحانه وتعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]. تعالى إبليس على أمر الله فأهبطه الله، وتكبر فصغره الله، فالعاصي يعاقب بنقيض قصده، والله عز وجل يعاقب من خالف أمره بعكس ما يريد مما أراد من المعصية والمخالفة، فإبليس لما أبى ظن أن ذلك عزة له فصار ذلك سبباً لذله، وظن أن ذلك يحقق ذاتيته ويقول: أنا أعلى وأفضل، فجعله الله عز وجل حقيراً مذموماً مذءوماً، مدح نفسه فذمه الله لما قال: ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ))، وقال: ((اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا)) يعني: مذموماً، فعاقبه الله عز وجل بعكس ما قصد، فكل من تعزز بمعصية الله أذله الله، وكل من تكبر على طاعة الله صغره الله عز وجل، وكل من تعالى على أمر الله أهبطه الله سبحانه وتعالى. ((قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا)) أي: من المنزلة التي كنت فيها، من السموات العلى، لأنها لا تتناسب مع هذا الكبر، قال: ((فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا)). وعندها خرج مرض إبليس الدفين بهذا الابتلاء، حيث ابتلي إبليس فما نجح في الامتحان، إذاً: فليست العبرة بطول العبادة بقدر ما يكون الثبات في مواطن الابتلاء، قال تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]. فإذا ذكر الله عز وجل تصاغر حتى يصير مثل الذبابة، وربما يكون المكذب الكافر من بني آدم يسمع الآيات تلو الآيات ونفسه لا تصغر، لكن إبليس يصير بقدرة الله مثل الذبابة إذا سمع ذكر الله عز وجل، هوان فظيع والعياذ بالله! ثم ينتظره الهوان الأشد يوم القيامة، فهو الآن في هوان، ويوم القيامة يكون في هوان أشد نعوذ بالله من النار!

معرفة إبليس لربه بعد كفره

معرفة إبليس لربه بعد كفره {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] أي: أن إبليس طلب وطول العمر، طول العمر مع معصية الله عز وجل أعظم ضرراً، وطول العمر مع الكفر يزيد من الفساد، لذلك ليس طول العمر دعاء يدعى به على الدوام، إنما يكون طول العمر مع حسن العمل، {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]. فإبليس لم يطلب من أحد، ولم يقل: سوف أبقى طول العمر أو سوف أبقى مدة الدنيا، وإنما قال: رب! فهو يعلم بعد كفره أن الله ربه، وهذا من أعظم ما يرد على المرجئة القائلين: بأن الإيمان: هو المعرفة، وأنه إذا عرف وجود الله صار مؤمناً، لا! إبليس يعرف وجود الله، ويعرف أنه ربه وخالقه بعد كفره، فإبليس كافر يعرف وجود الله، لذلك نقول: إن الإيمان ليس المعرفة فقط، فالإيمان قول وعمل كما قال أهل السنة، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وعمل القلب هو أعظم وأهم الأعمال؛ لأنه ينبني عليه عمل الجوارح، فإبليس يقر أن الذي يدعى هو الله، فلم يدع الملائكة ويقول: توسطوا لي عند الله لكي يمد في عمري، بل قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14]. وإبليس مقر باليوم الآخر، ولكنه كافر به؛ لذلك قال الله عز وجل عن اليهود والنصارى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فكثير من الناس يقول عن اليهود والنصارى: هؤلاء مؤمنون يؤمنون بالله واليوم الآخر، وربنا ذكر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع كونهم أوتوا الكتاب؛ لأنه ليس الإقرار بوجود الله واليوم الآخر إيمان، وإلا لأصبح إبليس مؤمناً، لا، فإبليس أكفر الكفرة؛ لأن الإيمان لا بد فيه من انقياد وحب وطاعة، والإيمان باليوم الآخر لا بد فيه من استعداد له، أما الذي يؤمن بالجنة والنار ولا يبغي الجنة ولا يفر من النار فهذا لا يكون مؤمناً باليوم الآخر؛ ولذلك لو أن إنساناً أخبرته فقلت له: هذا طعام مسموم، فقال لك: أنا مصدق لكلامك وتناول ذلك الطعام، فإنه يصبح غير مؤمن بكلامك في الحقيقة؛ لأنه لا بد مع الإيمان من خضوع وانقياد وطاعة، وإبليس إلى هذه اللحظة جاهل جهلاً عظيماً بالله سبحانه وتعالى.

حرمة الاحتجاج بالقدر على المعاصي

حرمة الاحتجاج بالقدر على المعاصي قال تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] إلى أن أخذ الوعد من ربنا عز وجل حيث قال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15]، فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]. وكأنه يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه حتى أخذ الأمر والوعد من الله، فأخبر ربه بما سوف يفعله، وهذا جهل فظيع جداً بصفة العلم، فربنا يعلم ما في نفس إبليس، وأنه يريد أن يفعل ذلك ببني آدم، لكن لهوان الدنيا على الله؛ ولهوان إبليس عليه مد في عمره، قال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15] فسبحان الله! عمر إبليس الطويل زاده بعداً من الله عز وجل، فإبليس عائش من قبل أن يخلق سيدنا آدم، وسوف يظل إلى نهاية العالم، ولكن لما طلب من ربنا الدنيا عيشه ربنا الدنيا كلها، إذاً: فالدنيا هذه لا تساوي عند ربنا شيئاً، ولو كانت تساوي شيئاً ما كان أعطاها إبليس أعدى أعدائه، وأول من كفر به بهذه الطريقة، ورد الأمر عليه، ولكن لأن الدنيا هينة لا تساوي شيئاً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) يعني: هي أهون من جناح بعوضة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطاها إبليس، فعنده عرش على ماء البحر كما ثبت في الحديث، كما قال ابن صياد للنبي عليه الصلاة والسلام لما سأل له: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال: ترى عرش إبليس على البحر) فسبحان الله! إبليس عنده عرش على البحر، ومملكة وجنود وأعوان وأتباع، وكل هذا مما أعطاه الله عز وجل لهوانه ولهوان الدنيا على الله؛ لذلك عندما تجد للكفرة والظلمة ملكاً وسلطاناً وجنوداً وأتباعاً فلا تغتر؛ لأنهم قد يكونوا أهون على الله من إبليس، فهذا إبليس الذي أعطى الله له أكثر من هؤلاء نعوذ بالله! لذلك فملك أهل الكفر والعدوان والظلم ليس دليلاً على أن الله رضي عنهم، لا، فالله عز وجل أعطى إبليس كذلك: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:15 - 16]. وأول من احتج بالقدر: هو إبليس، فبدل من أن يقول: يا رب! أنا ظلمت نفسي وأخطأت، يقول: يا رب! أنت أغويتني، وأنت الذي أضللتني! وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، الذي لا يصلي يقول: إن الله لم يهدن، والذي يفطر في نهار رمضان يقول: ربي ما أراد هدايتي، والتي لا تتحجب تقول: إذا هداني ربي فسأتحجب، فهؤلاء هم على طريقة إبليس، فيقول بعضهم: لو كتب ربنا لنا الهداية لكنا اهتدينا، فهذا يحكم على نفسه أنه من الظالمين، وربنا عز وجل يقول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]. إذاً: فأنت على خطر عندما تقول: إن ربنا لم يهدك؛ لأنك تحكم على نفسك أنك ظالم والعياذ بالله! فالقدر يحتج به في المصائب لا المعائب، فتب من الذنب الذي عملته إلى الله، ثم بعد هذا احتج بالقدر، وقل: إن ربي قدر علي ذلك، أما وأنت ما زلت مصراً على الذنب تقول: (بما أغويتني) فهذا سوء أدب عظيم مع الله عز وجل، وانظروا إلى أدب إبراهيم عليه السلام عندما يقول: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأدب مؤمني الجن من ذرية إبليس، لكن الإيمان هذبهم حين قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]. فالذي أراد لهم الرشد هو ربهم، وفي الشر قالوا: (أريد) مع أنهم قصدوا الله الذي أراد بهم شراً، ولكنهم تأدبوا مع الله عز وجل. أما إبليس فيقول: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] وربنا عز وجل كتب عليه الغواية فعلاً، ولكنه لم يظلمه سبحانه وتعالى؛ لأنه جعل له قدرة وإرادة، وبها يحصل فعله، فهو الذي اختار الشر والضلال والعياذ بالله! وإلى هذه اللحظة كان يقول: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف:16] يعني: ما زال مصراً على مزيد من المعاصي وعلى معاندة أمر الله عز وجل، وهو يعلم أن الله يحب من خلقه أن يطيعوه وهو يعاكس أمر الله ويعاكس محبته، ما هذا الكره الفظيع؟! فإبليس منبع الشر والسوء خلقه الله عز وجل وهو يعلم ذلك؛ لكي يجاهده المؤمنون؛ ولكي يتعبدوا الله بمقاومته ومخالفته وارتكاب نهيه وترك أمره، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268]. فأنت عندما تترك أمر إبليس يصبح طاعة لله عز وجل، فالله جعل منبع الشرور في هذا المخلوق العجيب والعياذ بالله! قال: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي))، إذاً: فالاحتجاج بالقدر مع الإصرار على الذنب فعل إبليس؛ لذلك فإن الجبرية الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقدر ليسوا مؤمنين بالقدر، فقد قدر ربنا على إبليس ذلك، ولكن هذا الإيمان ليس إيماناً بالقدر، كما أن إيمان الجبرية بالقدر ليس إيماناً، فالذي يقول: ربي كتب علي كذا، فهو غير مؤمن بالكتابة هذه؛ لأن الإيمان بالكتابة لا يكون إلا مع السعي في الأخذ بالأسباب، فلو أنك تركت الأكل وقلت: ربي كتب علي أنني أجوع، فهل تصبح مؤمناً بالكتاب؟! ليس هذا هو الإيمان، فالإيمان ليس معرفةً بوجود الشيء وانتهى الأمر، وإن كان لا يوجد أحد في أمر الجوع والشرب سيعمل هذا الأمر أبداً، فكلهم سيقولون: أريد ماءً، أريد أن آكل، فتراه يأخذ بالأسباب، أما في أمر الدين تراه يقول: إلى أن يهديني ربي، ولو أن ربي كتب لي الهداية فسأهتدي، وربي لم يكتب لي الطاعة الفلانية، والعياذ بالله!

وسائل إبليس في إغواء بني آدم

وسائل إبليس في إغواء بني آدم قال تعالى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، فهو يريد أن يقعد على هذا الصراط ليصدهم ويبعدهم عن صراط الله المستقيم، فإبليس يعرف الصراط المستقيم، فالإيمان عنده أبداً لم يكن فقط إيمان معرفة، فإبليس كان يعرف كل ذلك ولا يلتزم به، والصراط المستقيم هو: الإسلام، وهو دين الحق، فهو يصدهم عنه ويقعد لهم، فإذا أراد الإسلام يقول له: أتترك دين آبائك؟! كما فعل مع أبي طالب حتى مات على الكفر بسبب الشبهة، أتترك دين آبائك؟! فهو قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فإبليس كان من وراء أبي جهل الذي قال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فكان ما قاله: هو على ملة عبد المطلب، وأكثر الناس كفار من أجل أن آباءهم وأمهاتهم كانوا كفاراً والعياذ بالله! وربما قعد له إبليس في طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك أرض آبائك؟! فعصاه فهاجر، وربما قعد له في طريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فتنكح المرأة ويقتل الناس؟! فعصاه فجاهد. قال تعالى مخبراً عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف:17]، يرغبهم في الدنيا ويكره إليهم الآخرة، فينسيهم أمر الآخرة ويجعلهم في غفلة عنها: {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] يأتيهم من قبل الطاعات فيجعلهم يتكاسلون عنها، ومن قبل المعاصي فيرغبهم فيها ويوقعهم في الشهوات. قال تعالى مخبراً عنه: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وانتفاء الشكر أعظم وسيلة يصل بها إبليس إلى مراده، وظن إبليس أن أكثر الناس إذا نسوا الآخرة، وانشغلوا بالدنيا، وانهمكوا في الشهوات، وابتعدوا عن الطاعات فقد تركوا شكر الله، وإذا زال الشكر بالكلية حصل الكفر بالكلية والعياذ بالله، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20]. فإبليس ظن ذلك وقد حصل تصديق ذلك الظن حين اتبعه أكثر الناس على ذلك، فأكثر ما يغيض إبليس وأكثر ما يقطع عليه طريقه أن تشكر نعمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها)، فالحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، والحمد والشكر هو أول ما أمرنا الله عز وجل به، وأول ما تكلم الله عز وجل به في كتابه، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]. فقد أمرنا أن نقول الحمد سبع عشرة مرة على الأقل كل يوم، وشكر نعمة الله: أن يعلم الإنسان من قلبه أن الله عز وجل هو الذي أنعم عليه بهذا؛ فيشعر بالخضوع والمنة له سبحانه وتعالى، ثم يثني على الله بلسانه، ثم يستعمل هذه النعمة في مرضاة الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك يقطع ظهر إبليس ويقطع عليه طريقه، وطريق إبليس ألا تشكر نعمة الله بأن ترى نفسك صاحب الفضل في النعم، كأن تقول: {هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:50] وكما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]. فالذي لا يرى نعمة الله عز وجل عليه يستجيب لدعوة إبليس، كأن يرى نعم الله على الناس فيقول: لم ينعم علي ربي كما أنعم على الناس، فقد ظلمني ولم يعطني حقي: فهذا داء الحسد كما ذكرنا ومنبعه ذلك، لكن أن ترى نعم الله عليك الكثيرة فترى نعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة اليد، ونعمة الرجل، ونعمة سلامة الجسد، ولو حرمت واحدة منها تذكرت الأخريات فسوف تسعد أعظم السعادة دائماً، فإذا حرمت نعمة فقد أعطيت غيرها والخير كثير فكم تساوي يدك؟! وكم تساوي رجلك؟! كم يساوي عقلك؟! كم تساوي أذنك؟! كم يساوي قلبك الذي جعل الله عز وجل فيه الإيمان والإسلام؟! لا شك أن شكر نعمة الله سبحانه وتعالى يقطع طريق إبليس من أصله؛ ولذلك فنسيان الآخرة والانشغال بالدنيا، والإقبال على المعاصي والشهوات، وترك العبادات والطاعات كلها مرتبطة بترك الشكر؛ لذلك فإن أكثر الناس الذين لا يعرفون نعمة الله ولا يشكرونها يكونون منغمسين في هذه الأربعة كلها. فلابد أن تقطع الطريق على إبليس فتشكر نعمة الله عز وجل، وتقبل على الطاعات والعبادات، وتبتعد عن الشهوات والمخالفات، وتقبل على ذكر الآخرة وتهتم بها، وتبتعد عن الرغبة في الدنيا وتزهد فيها، فإذا فعلت ذلك فأنت شاكر لنعم الله، قاطع على إبليس طريقه فلا يتحقق غرضه منك.

اعرف عدوك!

اعرف عدوك! فإبليس يمكر بهذا المكر، ويعد هذه الخطة من العداوة الشديدة لبني آدم، وهو قد قال أيضاً أنه سوف يسعى في إغوائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين، قال تعالى حاكياً عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وفي قراءة أخرى: (المخلِصِين) فهذا يدفعنا إلى أن نسعى في الإخلاص، وأن نكون مخلصين لله (والمخلَصين): الذين أخلصهم الله لعبادته، فإذا عبدت الله كنت ناجياً عند الله، فاعرف عداوة إبليس قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، فهو خطر عظيم وعدو لا ينام! قال الحسن: لو نام إبليس لاسترحنا من هذه النظرة التي أنظرها. لأن حياته ممتدة، فلو نام إبليس لاسترحنا منه لكن عداوة شديدة لا تنقطع بينه وبين بني آدم، فهو ينشر سراياه في الأرض كلها، وأعطاه الله لكل من يولد من بني آدم يولد له من ذريته مثله ليكون قرينه والعياذ بالله، فانظر إلى كم عدد الجنود الكبيرة لإبليس وكلها لا تساوي عند الله عز وجل شيئاً! وهي في الحقيقة صغيرة تافهة حقيرة؛ لأنها في معصية الله وفي الكفر به وفي الصد عن سبيله، وإن كان أكثر الناس يستجيبون له إلا من رحم الله من عباد الله المخلصين، اللهم اجعلنا منهم.

تهديد الله لإبليس وأتباعه

تهديد الله لإبليس وأتباعه قال عز وجل: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف:18]. الذأم: أشد الذم، فهو مذموم مذءوم مدحور مغلوب، إذاً: فصفة إبليس أنه مغلوب دائماً، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، لذلك يسهل عليك أن تتخلص من كيده، فالجأ إلى من ينجيك، إلى من يغيثك ويعيذك، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، واقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فإذا استعذت بالله عز وجل نجاك من هذا المدحور المغلوب، وإن كان يغلب أكثر الناس لأنهم اتخذوه ولياً وهو عدوهم؛ ولأنهم رضوا به من دون الله عز وجل ليتولى شأنهم ويوجههم، ويقبلون أوامره ويجتنبون نواهيه بدلاً من أن يمتثلوا أوامر الله ويجتنبوا نواهيه. قال تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18] أي: من تبعك من بني آدم صار منك ولأملأن جهنم منكم، فانظر! قال أولاً: (منهم) ثم قال (منكم)؛ لأن هذا اختصاص بالمجموع، وإن كان أصل خلقتهم ليست من إبليس، لكن لما التزموا كلامه واتبعوا أمره صاروا منه، قال تعالى: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ))، فـ (منكم) يعني: منك وممن اتبعك من بني آدم.

تكريم الله لآدم بإدخاله الجنة

تكريم الله لآدم بإدخاله الجنة وكرم الله عز وجل آدم فأسكنه الجنة، قال: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19]، وأصح أقوال أهل العلم أن هذه الجنة هي جنة الخلد، لكن كيف وآدم قد خرج منها؟! نقول: إنما هي جنة الخلد إذا دخلوها يوم القيامة، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم دخلها في المعراج ثم نزل إلى الأرض مرة ثانية، قال صلى الله عليه وسلم: (رفعت إلى السدرة فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران ونهران باطنان) ورأى فيها نهر الكوثر، فالنبي عليه الصلاة والسلام رأى الجنة ودخلها عليه الصلاة والسلام، ولكن إنما تكون جنة خلد لا يخرجون منها - {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]- إذا دخلوها يوم القيامة، أما قبل ذلك فيمكن أن يدخلها البعض ثم يخرج منها، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} [الأعراف:19]. فالحلال كثير! {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35]، شجرة واحدة هي المحرمة، وسنة ربنا عز وجل في التشريعات تقضي بأن الحلال أكثر من الحرام، ومع ذلك فأكثر الناس يرتكبون الحرام ويتركون الحلال سبحان الله! مثلاً: ربنا أمرنا بالصلاة في خمسة أوقات في اليوم والليلة مدتها ساعة من أربعة وعشرين؛ والذي يطول الصلاة جداً يأخذ ربع ساعة في الصلاة فيقولون له: أنت طولت، ومع ذلك أكثر الناس لا يلتزمون بذلك. والمباحات كثيرة جداً، فالنباتات المحللة كثيرة، والنباتات المخدرة قليلة جداً، ولكن كم من الناس يأخذ الحرام، واتباع الشهوات سبب لذلك؛ لذلك فربنا عز وجل حرم على آدم شجرة واحدة فقال: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19] واليهود يقولون: إنها شجرة المعرفة، والحقيقة أنه ليس هناك دليل على ذلك، بل هذا كلام فاسد من أن الذي يأكل من شجرة المعرفة يصبح عارفاً بالخير والشر، وبالتالي فربنا خاف من آدم أن يأكل من شجرة المعرفة فجعل عليها سيفاً مصلتاً يدور حولها ولهيب نار حتى لا يأكل من هذه الشجرة. وكذلك لم يخبرنا القرآن عن نوع الشجرة، والاهتمام بأشجار التين أو البر أو كذا غير صحيح، فأهل الكتاب يهتمون بهذه الشجرة، ولكن لم يخبرنا ربنا عز وجل عنها، فهي شجرة حرمها الله عز وجل على آدم لحكمته.

بداية وسوسة إبليس لآدم

بداية وسوسة إبليس لآدم والله خلق آدم للأرض أولاً: ابتلاءً، لكنه ينزل بدون سبب، فربنا قدر المقادير بالأسباب، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، فالذين قالوا: إنه دخل في فم الحية إلى الجنة، فهل هناك احتياج إلى ذلك؟! الله عز وجل لم يخبرنا أن إبليس دخل الجنة، فالوسوسة ربما تحصل من بعيد، والآن توجد وسائل للإفساد عن بعد، كالأقمار الصناعية، فهي تفسد في الأرض مشارقها ومغاربها من بعيد جداً نسأل الله العفو والعافية، فليس بلازم أن يكون معنى (فوسوس لهما) أنه دخل الجنة، فمن الممكن أن يوسوس لهما ويخاطبهما من بعد. قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20]، فهو عرف أن المدخل من كشف العورات: (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) وقد كانا لا يريان عورتيهما، فهما إما في نور أو في غير ذلك والله عز وجل أعلم، إنما كانا لا يريان عورتيهما، فأراد الشيطان أن يبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما، إذاً: فخطة إبليس اللعين والعياذ بالله هي كشف السوءات، فأول شيء يصل إليه في بني آدم أنه يدعوهم إلى كشف العورات؛ ولذلك فهذا التبرج مفسدة إبليسية كبرى، فالناس اليوم يكشفون عوراتهم؛ لكن ما هو الذي يجعله يكشف عورته أمام الناس؟! إبليس والعياذ بالله، وإلا فالفطرة السوية أنه يغطي عورته ويحب التغطية، ولا يحب أن تنكشف العورة فينقلب الحال إلى حال سيئة، وربما يتعود الناس أن يروا والعياذ بالله الصور العارية تماماً والأفلام الخطيرة الجنسية التي تكون أمام الملايين من البشر، لكن أهل الحياء يستحي ربما أن تبدو عورته أمام أهله أو أمام نفسه ربما، فكيف إذا كان هذا أمام الملايين من البشر نعوذ بالله؟! فهذا التبرج هو فتنة إبليس الأساسية؛ ولذلك فكل متبرجة وكل كاشف عن عورته أمام الناس هو تابع لأمر إبليس في هذا الباب.

نصيحة إبليس المخادعة لآدم وزوجه

نصيحة إبليس المخادعة لآدم وزوجه قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]. فقد سماها شجرة الخلد، فهو يسمي الأشياء بغير اسمها ليبرر النيل المحرم منها، كما يسمون الخمر اليوم: مشروبات روحية وكما يسمون الاختلاط: حرية وتقدماً، وكما يسمون الانحلال والفساد حضارة ومدنية، فتسمية الأشياء بغير اسمها حيلة إبليسية، قال تعالى: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ)). إذاً: فالنهي موجود ومعروف، ولكن إبليس يسعى في تعليل النهي، فيقول: ربكما أمركما بكذا من أجل كذا، فإذاً هو لا يكره أن تكونا ملكين، ولا يكره أن تكونا خالدين، فهو يعلل النهي ليرتكبا المعصية، فما دامت لن تحقق هذا الشيء الذي نهاك عنه ربك من أجله فإذاً خالف النهي، فهو يقول له مثلاً: إن ربنا حرم علينا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من أجل العداوة والبغضاء، لكننا سنشرب الخمر ولن تحصل بيننا عداوة وبغضاء، وسنلعب الميسر من غير شجار، فهذا هو أسلوب إبليس والعياذ بالله! فأقسم لهما بالله إنه ناصح لهما، وأليس من يحلف لك إنه ينصح لك تصدقه؟! وبعض السلف يقول: من خدعنا بالله انخدعنا، وهذا كلام غلط، واستدلال غير صحيح، فاليمين التي لا نعرف كذبها نقبلها، لكن إذا كنا نعرف أنه كذاب لا نقبل كلامه وإن حلف، وإلا فقبول النصيحة هذه كلفت آدم وذريته معاناة كثيرة جداً، ومنها النزول إلى هذا الشقاء كما قال: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، فالشقاء الذي حصل لنا هذا كان بسبب قبول النصيحة الكاذبة الخادعة التي قدر الله عز وجل ذلك لحكمه البالغة. (وقاسمهما)، إذاً: ليس كل أحد يحلف باسم ربنا نصدقه إذا علمنا كذبه، فهو يحلف بالله إنه ناصح، قال تعالى: ((إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)). وأما قولهم: إنه وسوس لـ حواء وهي وسوست لآدم، فالآية هذه ترد عليه، إذ قال ربنا: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وهذا كلام اليهود في التوراة التي بين أيديهم.

معصية آدم وحواء وعاقبتها

معصية آدم وحواء وعاقبتها قال عز وجل: ((فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ))، أي: غرهما حتى قربهما إلى الشجرة وأكلا من الشجرة، وعند ذلك انكشفت العورة، قال عز وجل: ((فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا)). وضاع ذلك النعيم، فالمعصية تهتك الستر الذي بينك وبين الله وتكشف عورتك وسوأتك، فالإنسان عنده عورات ظاهرة، وعورات باطنة، فعوراته الظاهرة: عورات الجسد، وعوراته الباطنة: الظلم والجهل، فالمعاصي تكشف العورات والعياذ بالله؛ ولذلك فإن كشف العورات الظاهرة والباطنة من إرادة إبليس كما ذكرنا، قال: ((وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا)). أي: جعلا يخصفان عليهما كهيئة الثوب من ورق الجنة، فيلصقان الورقة بالورقة للتستر، وهذه فطرة الإنسان في التستر، وهي فطرة سوية؛ ولذلك أمرنا الله بالتستر، والله حيي ستير يحب الستر سبحانه وتعالى، فنسأل الله أن يستر عوراتنا، وأن يؤامن روعاتنا. قال عز وجل: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22] وانظر إلى البعد الذي حصل! كانا قبل ذلك قريبين، فقال: ((وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ))، لأنهما كانا قريبين من ربنا، فلما حصلت المعصية أصبحت: (تلكما) فـ (تلك) إشارة للبعيد، و (هذه) للقريب فلما عصوا ربنا بعدوا، فمن أول ما تحصل المعصية تجد أن قلبك يبتعد عن الله، نسأل الله العفو والعافية. قال عز وجل: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23] وانظر الفرق بين الإجابة والإجابة! فإبليس {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ} [الحجر:33]، و ((قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)). أما آدم وزوجه فقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فهذا كان بقدر، وكتبه الله عز وجل عليه قبل أن يخلقه بأربعين سنة، ومع ذلك عندما عوتب اعترف بالذنب، والاعتراف بالذنب بداية فتح باب التوبة، وفتح الخير للإنسان، وليعترف وليقل: أنا مذنب، أنا ظلمت نفسي؛ فالأبوان اعترفا بالذنب فغفر الله لهما، ومن شابه أباه فما ظلم، فإذا كنت تريد أن يغفر لك ربك، فقل: أنا مذنب! أنا مخطئ! أنا مقصر! وإذا كنت تريد أن تقول: إن ربي كتب علي أن أعمل المعاصي فأنت تبع للطريق الثانية والعياذ بالله، قال عز وجل: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24] فقوله: (اهبطوا) خطاب لآدم وحواء وإبليس، ويقال: الحية؛ على أنها هي التي أدخلت إبليس، ولا حاجة لنا إلى ذلك حيث لم يثبت في هذا حديث صحيح. ((بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) فالعداوة مشتركة، وذرية آدم بعضها يعادي بعضاً حين تبعوا إبليس وصاروا أبالسة، فصاروا أعداء لبني البشر؛ ولذلك نقول: إن الكفرة أعداء البشرية، واليهود هؤلاء أعداء البشر؛ لأنهم صاروا أبالسة وتبعاً لإبليس الذي هو عدو لنا، قال تعالى: ((وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)). ثم قال تعالى: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25]، فحياة الناس وموتهم في الأرض، ويخرجون منها يوم القيامة، ثم أمرنا الله عز وجل بالتستر، وامتن علينا باللباس وقال: ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا)) (ورياشاً) (وريشاً) وكله حق: وهو ما يتنعمون به ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى))، وهذا ستار للعورة الباطنة، التقوى هذه عبارة عن علم وعدل، فالعلم ينافي الجهل، والعدل ينافي الظلم، والإنسان ظلوم جهول يولد عريان بلا علم ولا عدل، فإذا امتثل الشرع وفق للعلم والعدل فزال عنه الظلم والجهل فسترت عورته الباطنة، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:26 - 27]. وهذه فتنة عظيمة: وهي نزع الثياب، فاللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، قال عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، فالأصل أن بني آدم لا يرون الشياطين من الجن: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]، ونعوذ بالله من ولايتهم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [1]

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [1] إن الإنسان إذا أراد العيش حُرَّاً عن كل عبودية لغير الله، مخلصاً عبادته لله، لا يخاف فيه لومة لائم، فلا بد أن يعلم أنه ملاقٍ صعاباً وابتلاءات وعوائق تعيقه عن الحق، ويجب عليه حينها أن يقارن بين صبر على عذاب مؤقت، لينال رضا الله الدائم، وراحة مؤقتة متوَّهمة في الدنيا، ثم بعدها يلقى عذاباً طويلاً، وحينها سيجد المؤمن أن الألم في الطاعة، خير من النعيم في المعصية.

أهمية قصة أصحاب الأخدود

أهمية قصة أصحاب الأخدود فسنتكلم عن قصة من قصص القرآن العظيم، وعن قصة طائفة من المؤمنين، اشتراهم الله سبحانه وتعالى بما سلط عليهم من العدو، وكانت نهاية المطاف في هذه الدنيا فيما يبدو للناس انتصار الكفر، لكن بين القرآن حقيقة الأمر، وأن الخاسرين في الحقيقة هم الكفرة المعتدون، وأن المؤمنين قد فازوا أعظم الفوز. فهذه القصة من القصص التي رسخت للصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم موازين الإيمان، ورسخت عندهم لزوم العمل بطاعة الله عز وجل مهما كانت النتائج ومهما كانت الابتلاءات، ورسخت عندهم أن الدعوة إلى الله عز وجل غايتها أن يؤمن الناس، وهذه هي المصلحة العظمى التي من أجلها يضحى بالروح والمال، سواء وقع التمكين أم لم يقع، وليس على الدعاة أن يمكِّن الله ي الأرض، فربما يكون قدرهم أن يظلوا في الابتلاء ما شاء الله عز وجل، أو أن تكون دعوتهم نهايتها أن يقتلوا في سبيل الله عز وجل شهداء، لكن ليس ذلك نهاية الدعوة ككل، وليس ذلك آخر المطاف في الصراع بين الحق والباطل جملة، لكن وإنما هي جولة من جولات الصراع، ويمكن أن تكون هذه نتيجتها، وبقدر الله أن بعض هؤلاء الدعاة والمؤمنين لا يرونبأعينهم ثمرة جهدهم ودعوتهم، لكن يراها من بعدهم، ويظل هؤلاء الدعاة نجوماً يقتدى بها في هذا الطريق. هذه القصة العظيمة التي ذكرت في كتاب الله عز وجل في سورة البروج، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مفصلةً بسياق رائع بديع، فيهامن الفوائد ما لا نحصيه، وما علمنا منه هو جزء يسير مما لم نطلع عليه، ومع كثرة التأمل يزداد العبد رسوخاً في فهم هذه القصة، وما دلت عليه، وما يستفاد منها في الدعوة إلى الله عز وجل. ولا شك أن أوقات الابتلاء، وأوقات تسلط الأعداء على المسلمين، يحتاج المؤمنون عموماً والدعاة إلى الله خصوصاً إلى التأمل فيها؛ لكي يستضيئوا بنورها في ظلمات الجهل والظلم التي تملأ العالم من حولهم؛ لكي يظلوا ثابتين على طريقهم مهما كانت المقدمات والنتائج، فليس عليهم إلا أن يؤمنوا بالله، ويسيروا في طريقهم الذي قدره الله سبحانه وتعالى لهم.

سياق القرآن لقصة أصحاب الأخدود

سياق القرآن لقصة أصحاب الأخدود

معنى البروج

معنى البروج أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:1 - 22]. قال ابن كثير رحمه الله: يقسم تعالى بالسماء وبروجها، وهي النجوم العظام، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة والسدي: البروج: النجوم، وعن مجاهد أيضاً: البروج التي فيها الحرس، وقال يحيى بن رافع: البروج: قصور في السماء. واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر. ولا شك أن القسم الذي ابتدأت به هذه السورة إذا تأمله الإنسان شهد ملك الله عز وجل، وعلم أن السماوات والأرض، وأن الدنيا والآخرة من باب أولى ملك لله سبحانه وتعالى. ومع ذلك قدر ما قدر من الابتلاء على أوليائه، ليس ضعفاً وليس معنى ذلك غياب الأمر عن الله، أو عدم القدرة على ما أراد، بل هو على كل شيء قدير، وهو سبحانه على كل شيء شهيد، ومع ذلك قدر ما قدر، لكي يظل شعور المؤمن بأنه في طريقه الذي يعمل فيه يزن الأمور بموازين القوة المادية الأرضية، بل يستحضر ملك الله عز وجل حين ينظر في السماء ذات البروج، ويتفكر في اليوم الموعود، كل ذلك يجعله يوقن بحقارة الدنيا وقلة قيمتها، وضعف قوة أهلها، فلا يعبأ بسلطان الكافرين والظالمين، ولا يترك دعوة الحق لأجل ما يتعرض له من أنواع الابتلاء، والله أعلى وأعلم.

أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: ((واليوم الموعود.

أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: ((واليوم الموعود. وشاهد ومشهود)) قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:2 - 3]: اختلف المفسرون في ذلك. وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} يوم القيامة، ((وَشَاهِدٍ)) يوم الجمعة، وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه، ((ومشهود)) يوم عرفة)، وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة، ولكن إسناده ضعيف، وقد روي موقوفاً على أبي هريرة وهو أشبه يعني: الأظهر والله أعلم أنه موقوف. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] قال: الشاهد يوم الجمعة، ويوم مشهود يوم القيامة. وروى الإمام أحمد أيضاً عن أبي هريرة أنه قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة. وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا). قال البغوي: والأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وهذا أحسن الأقوال والله أعلى وأعلم. فقد أقسم الله بالأوقات الفاضلة، وجعل سبحانه وتعالى التفكر في هذه الأشياء دليلاً يقود الإنسان إلى معرفة ملك الله عز وجل، وقدرته سبحانه وتعالى.

قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج

قصة أصحاب الأخدود في سورة البروج قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] أي: لعن أصحاب الأخدود، والأخدود جمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من هم من المؤمنين بالله عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدوداً، وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين. قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس. ثم قال تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض، وما فيهما وما بينهما، ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ولا تخفى عليه خافية.

سياق السنة لقصة أصحاب الأخدود

سياق السنة لقصة أصحاب الأخدود اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ وأصح ما روي فيها ما رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إليَّ غلاماً؛ لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً يعلمه، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك! فشكا ذلك إلى الراهب فقال له: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بنى! أنت أفضل منى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء، وكان للملك جليس عمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني ولك ما ها هنا أجمع، فقال: ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفى الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله له فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان! من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي، فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحداً، إنما يشفى الله عز وجل، قال: أنا؟ قال: لا، قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه أيضاً بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتي بالراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه -أي: اقذفوه- يتدحرج إلى أن يموت فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله عز وجل، فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه في البحر، فلججوا به البحر -أي: دخلوا به البحر- فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قل: باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه وقال: باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون فيها أي: يتسابقون في الوصول إليها -فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه، فإنك على الحق)، ورواه النسائي ورواه الترمذي في تفسير هذه السورة.

لعن الله لأصحاب الأخدود الذين فتنوا المؤمنين

لعن الله لأصحاب الأخدود الذين فتنوا المؤمنين هذه القصة العظيمة ذكر الله عز وجل فيها من الآيات ما تتضمن حكماً بالغة، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين لعنوا وطردوا وأبعدوا عن الرحمة، وذكر ذلك بلفظ (قتل)، ولا شك أن ذكر الطرد واللعن بلفظ القتل الذي فعلوه بالمؤمنين أبلغ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم أرادوا قتل المؤمنين فأحيا الله عز وجل عباده المؤمنين شهداء عنده عز وجل، وقتل هؤلاء. وقد ورد في بعض الروايات: أن النار التي أضرموها لحرق المؤمنين، بعد أن فعلوا ما فعلوا، التفت عليهم فقتلتهم، فضلاً عما أعد الله عز وجل لهم من عذاب الحريق في الآخرة، فقد كانوا يؤلمون المؤمنين بأشد ما يعرف من أنواع الألم في الدنيا، وهو ألم النار، فأُحْرِقوا بها في الدنيا وفي الآخرة، وهم يعذبون فيها فيما بين ذلك. وإن كثيراً من الناس يظن أن الابتلاء الذي يحصل لأهل الإيمان لا يستطيع الإنسان تحمله، ولذلك يفرون من ألم الابتلاء إلى ترك الإيمان واتباع أهل الظلم والطغيان، والحقيقة أن الألم والعذاب الحقيقي في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة، إنما هو لمن ترك الإيمان، وأعرض عن دين الله سبحانه وتعالى، وإن كان فيما يبدو للناس بخلاف ذلك. بعد هذه الأقسام المتعددة، التي تدل على عظمة الله وسلطانه وملكه قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، فأخبر أن الذي قتل هم الكفرة، أصحاب الحفر التي ألقوا فيها المؤمنين.

معنى قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود)

معنى قوله تعالى: (النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود) قال عز وجل: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5]، هذه الجملة بدل؛ لأن الأخدود هو الذي كان فيه النار، وهذا يدلك على أن الله عز وجل تركهم يجمعون الوقود لعباد الله المؤمنين، فهو يملي لهم سبحانه وتعالى، ولم يأخذهم من أول وهلة بل أملى لهم عز وجل، فلو رأيت ظالماً يملي الله عز وجل له، فلا تظن أن ذلك بسبب قوة الظالم، وإنما لهوانه على الله عز وجل أملى الله له، فإن نهاية الكفر والظلم محتومة قطعية لا يمكن أن تتغير؛ لأن الله أراد ذلك، قال عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]. قال تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6]، وفي هذا دليل على عظم جرم من وقف أو قعد يشاهد ما يفعله أهل الظلم بأهل الإيمان، فلا يجوز للمسلم أن يقعد متفرجاً على ما يجري، فإن قدر على أن يدفع عغنهم فيجب أن يدفع، وإن لم يقدر فعليه أن ينصرف ويفر بدينه، فما بالك إذا كان ذلك بأمره وإشارته أو رضاه وموافقته؟! وهذا التسلي بمشاهدة التعذيب جريمة أخرى فوق جريمة أذية المسلمين وعذابهم ومحنتهم. قال تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أي: كانوا مشاهدين جالسين حول النار فلا هم رحموا عباد الله، ولا آمنوا بالله عز وجل، وهذه النوعية من البشر ليست ببعيدة عنا، بل نراها اليوم في هؤلاء اليهود المجرمين المعتدين، وغيرهم من المشركين الذين ينتهكون حرمات المسلمين، فلا تجد عندهم رحمة، مع أن المسلمين لم يفعلوا بأحد من الأمم التي ينتصرون عليها شيئاً مما يفعله هؤلاء المجرمون، فلا يوجد عند المسلمين تفنن في تعذيب أعدائهم، وإيصال الآلام لهم، وإنما كما أمرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، فلا توجد عندهم هذه القسوة في تعذيب الخلق، وأذيتهم، وإنما هم يقاتلون من استحق القتال شرعاً فقتالهم كدواء وعلاج لابد منه؛ لإنقاذ البشرية من خطر الشرك والكفر والعدوان.

جريمة المؤمنين عند الكفرة هي: الإيمان بالله

جريمة المؤمنين عند الكفرة هي: الإيمان بالله قال عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]. هذه الصفة وهي الإيمان ينبغي أن توجد عند المسلم حتى لا تكون له جريمة عند أهل الكفر إلا أنه يؤمن بالله، فإن هذا -والله- من أعظم أسباب إهلاك المجرمين الظالمين، أنهم يعتدون على أهل الإيمان لا لشيء إلا لأنهم آمنوا، ولا لشيء إلا لأنهم أناس يتطهرون. وهناك صفة قبيحة عند الطواغيت والظلمة، وهي أنهم ليس لديهم مانع من إنزال أشد أنواع العقاب لعباد الله بغير جريمة إلا أنهم نقموا منهم إيمانهم بالله، وهل خصلة الإيمان بالله مما يعد ذنباً؟ لا، ليس ذلك مما ينقم أبداً، ولكن أصحاب الموازين المختلة، وأصحاب الشهوات والهوى، والشبهات والضلال عندهم هذه التهمة هي أفظع التهم، وهذا تجده في مساحات عريضة من الأرض، تجد أن أشد تهمة يتهم بها الإنسان هي أن يكون ملتزماً التزاماً حقيقياً بالدين، فلو أرادوا أن يتهموه بأنه زانٍ، أو شارب خمر، أو حتى قاتل، أو حتى مدمن مخدرات، لوجدوا أن تهمة الالتزام الحقيقي بالدين ربما تكون أشد عند الظلمة والطواغيت. فلو أن إنساناً مثلاً أراد أن ينال من شخص، ويدخل عليه الأذى في بلد مثل فلسطين أو غيرها فما عليه إلا أن يخبر عنه أنه ممن يعادي أعداء الله اليهود، ويكفيه ذلك تهمة أنه متطرف أو إرهابي، وذلك كاف أن ينال أشد أنواع الأذى والعقاب، لكنها شرف في الحقيقة لأهل الإيمان، وينبغي للمؤمن أن يحافظ على هذا الشرف، فيظل المؤمن لا جريمة له إلا أن يؤمن بالله العزيز الحميد، وهذا سوف يكون من أسباب هلاك عدوه، ومن أسباب قبول دعوته عند الناس، كما في قصة الغلام، إذ تساءل الناس: لماذا يقتل هذا الغلام؟ لأنه آمن بالله فلنؤمن معه إذاً، وهذا هو مراد الداعية، أن يؤمن الناس بالله.

تأملات في معنى العزيز الحميد

تأملات في معنى العزيز الحميد ذكر الله عز وجل هذين الاسمين الكريمين من أسمائه الحسنى: العزيز الحميد، فالله عز وجل عزيز في انتقامه من أعدائه، وهو عزيز يعز عباده المؤمنين، وينصر عباده المستضعفين، وهو سبحانه وتعالى عزيز لا يغالب، أراد ذلك الملك أن يغالب ربه عز وجل، وأن يمنع وصول الإيمان إلى القلوب، وفعل هذه الأفاعيل لأجل ذلك، ومع ذلك وصل الإيمان إلى القلوب، واهتدى من أراد الله هدايته، وانتصر من أراد الله نصرته، ومن يغالب الله عز وجل يغلب؛ لأنه العزيز سبحانه وتعالى، فهو ينصر عباده المؤمنين بأسباب لا يقدر عليها الأعداء، وليست من صنع المؤمنين، بل هو الذي يصنعها عز وجل لعباده. وأما اسم الحميد فهو سبحانه الذي يستحق الحمد على ما قدَّر وعلى ما شرَّع، كما سمعنا من كلام ابن كثير رحمه الله، فإنه قدر هذا الأمر المؤلم من الابتلاء الشديد، وقدر سبحانه وتعالى تسلط الكفرة مدة من الزمن على المؤمنين، وتمكنهم من تعذيب المؤمنين، ويملي لهم ذلك سبحانه وتعالى، وله الحمد على كل حال. من تأمل هذه القصة العظيمة وما جرى فيها، لابد أن يحمد الله، وهي قصة تحيي قلوب المؤمنين، ويجدون فيها من أنواع الخير ما تنغمر فيه مفسدة ما جرى للمؤمنين، وما حدث من تسلط الكافرين مدة من الزمن، إلى جانب المصالح الهائلة التي في هذه القصة، فلو لم يكن فيها إلا إيمان المؤمنين، ثم شهادتهم في سبيل الله، ثم ما نالوا بعد ذلك من الفوز العظيم عند الله، فكم هي تلك المدة بالنسبة إلى مرور السنين الآن؟ وما هو أثر تسلط هؤلاء الظلمة تلك المدة، إذا نظرنا إليها الآن؟ لا شيء على الإطلاق، لا ذكر لهم بالخير، وإنما يذكرهم أهل الإسلام بالطرد واللعن فقط، وهم لم يؤثروا في واقع الحياة وفي الأرض التي نعيش فيها، بل انتهى أمرهم بالكلية، وبقيت حياة المؤمنين الشهداء في برزخهم، وبقي فوزهم العظيم يوم القيامة فله الحمد عز وجل. فإياك أن تقول: لماذا يا رب يفعل هؤلاء ذلك بعبادك المؤمنين؟ إياك أن تقول ذلك معترضاً، إياك أن تقول: إلى متى يا رب سوف نظل يصيبنا ما يصيبنا؟ إياك أن تقول: إن الإنسان قد ضاق صدره، وأوشك أن يترك الطريق من أجل ما يقع من الظلم، بل احمدِ الله عز وجل على تسلط الكفرة وقتياً؛ ليزداد إيمانك أنت وإيمان من بعدك، فإذا صبرت وكنت قدوة في الحق، وكنت ثابتاً على طريق الحق، فزت في حياتك، وفي برزخك، ويوم القيامة، وينتفع من بعدك بثباتك وصبرك، فأنت إذا قرأت قصص الأنبياء والأولياء عرفت فائدة المحنة، وتعرف فضل الله عز وجل على خلقه، واستحقاقه الحمد على ما قدر، بل هذه القصص في الحقيقة من أعظم أسباب التربية الإيمانية لدى عباد الله المؤمنين، لو كانت الأمور دائماً سهلةً والنتائج دائماً مضمونةً، وكل من يسير في طريق الحق يأخذ النصر سهلاً، وكان الطريق مفروشاً بالورود؛ لما كان للإيمان ذلك الطعم الذي يجده من يصبر على طاعة الله عز وجل في أحلك الظروف، ولما كان شعور المؤمنين بعظم فضل الله عز وجل عليهم بالهداية، وعظم فضله عليهم بالجنة، فلو أن الجنة كانت رخيصة الثمن ما شعروا بفضلها، وإنما هي فعلاً غالية، ولذلك له الحمد عز وجل، فهو العزيز الحميد سبحانه وتعالى. إياك أن تظن أن الله عاجز عن إعزاز عباده المؤمنين، كيف والعزة هي صفته؟! إياك أن تظن أن الابتلاء يقع من غير حكمة، كيف والحمد صفته سبحانه وتعالى فهو العزيز الحميد؟! وإياك أن تظن أيضاً أن ذلك كان لخروج شيء عن ملكه عز وجل، وأن ملكه محصور في السماوات فقط، وأما في الأرض فالملك للكفرة وللظلمة وللمعتدين، فالله هو الذي له ملك السماوات والأرض، فهو يملك الأمور كلها، ويملك أن يجعل أهل الإيمان ظاهرين في لحظة واحدة كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]، ولكنه سبحانه وتعالى جعل الابتلاء للمؤمنين؛ ليذوقوا حلاوة الإيمان، وليذوق من بعدهم أيضاً حلاوة الإيمان بهذا الابتلاء.

معنى قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد)

معنى قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد) قال تعالى: ((الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: لم يخرج عن ملكه أحد، ولا ذرة من ذرات هذا الوجود تخرج عن ملك الله، ولا يملك الكفرة شيئاً، فالكفرة والظلمة والمعتدون ليس لهم ملك ذرة في السماوات ولا في الأرض، والله جعلهم يفعلون بعض الأشياء ولو شاء لانتصر منهم، قال عز وجل: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]. وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]. إذاً: لابد من تأمل هذه المعاني التي ذكرت في هذه القصة، وتفاصيل القصة لم تذكر في القرآن، وإنما ذكرت المعاني الإيمانية التي أعظمها استحضار معاني الأسماء والصفات، واستحضار آثارها في الوجود. قال تعالى: ((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) أي: لم يغب عنه عز وجل شيء، فهو يرى كل شيء {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:7]، وكونه سبحانه ترك الظالمين يظلمون له الحكمة في ذلك وليس ذلك لنقص ملكه ولا لأنه لم يشهد، بل لما يترتب على ذلك من الحكم البديعة والفوائد العظيمة التي لا يحصيها العباد.

معنى قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات)

معنى قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) ذكر عز وجل في هذا القرآن العظيم الذي هو مليء بالأمور الإيمانية الأمر فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم، قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة. مع أن الآية في الحقيقة نزلت في قوم هلكوا على الكفر، ولكن لأن الأمر دائماً مرتبطٌ بكل زمن يقع فيه ذلك، ومع أن هذا خبر، لكنه دعوة إلى التوبة، والمدعو هنا هو من يسمع هذه الآيات بعد ذلك، ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات وعرضوهم للفتنة، وآذوهم بسبب التزامهم بالدين وطاعتهم لله عز وجل، فهم قتلوا أولياءه، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة! وهذا له أهمية كبرى في نفس المؤمن، بحيث إنه يعمل لله عز وجل لا لنفسه، فهو لا يريد الانتصار لنفسه، ولا يستبعد أن يتوب الله عز وجل على من آذاه، ولا يقول: لابد أن ينتقم الله من عدوي، ولابد أن يأخذه الله عز وجل بأنواع العذاب في الدنيا قبل الآخرة، فلربما فتح الله له باب التوبة، كيف لا وقد وقع ذلك لمن آذى نبيه صلى الله عليه وسلم؟! لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته أنزل الله عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128])، وتاب الله على طائفة منهم، حتى ممن كان يقود الكفرة في حربهم ضد الإسلام. قال الله عز وجل في بيان حقيقة من فتن المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتب: ((فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ))، وتأمل لفظ (عذاب الحريق)، فالمعنى قد وضح بقوله: (فلهم عذاب جهنم) فهي عذاب النار والنار تحرق، لكن أكد هذا المعنى بقوله: (ولهم عذاب الحريق)؛ لأنهم أرادوا إحراق المؤمنين، فالألم الحقيقي لم يحصل للمؤمنين وإنما حصل للكافرين، وذلك أن الشهيد لا يجد من ألم الموت إلا كمس القرصة، وهؤلاء شهداء، بل وردت روايات كثيرة في هذه القصة منها: (أن هؤلاء المؤمنين قبضت أرواحهم قبل أن يلقوا في النار، فألقوا فيها أجساداً بلا أرواح، فلم يتألموا. إذاً/ هذا حاجز وهمي يمنعك من الالتزام، وهو خشية المخاطر التي يتعرض لها أهل الإيمان، فالألم الأكبر هو في معصية الله تعالى، إضافة إلى ما ينتظره من العذاب في الآخرة، إذا ترك الحق، فنار الآخرة أعظم من نار الدنيا، ومن أراد أن يعرف قدر نار الآخرة، فليذهب إلى أي مستشفى ليرى قسم الحروق وآلامه، مع أنه جزء بسيط من نار الدنيا، التي هي جزء من سبعين جزءاً من نار الآخرة. فالكفار عندما أرادوا قتل المؤمنين، قال الله عنهم {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، وعندما أرادوا إحراق المؤمنين، أحرقهم الله عز وجل حريقاً دائماً أبدياً.

عاقبة أهل الإيمان وما لهم

عاقبة أهل الإيمان وما لهم لقد بين الله حقيقة الفوز والخسران، والنصر والهزيمة، في هذه القصة وفي عموم الأحداث والوقائع، فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11]. فهو لم يقل: إن الذين آمنوا من أصحاب الأخدود فقط، بل جعل الأمر عاماً، كما جعل أمر الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أمراً عاماً.

علاقة قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد) بقصة أصحاب الأخدود

علاقة قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد) بقصة أصحاب الأخدود ختم الله السورة بقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، وهذا تهديد ووعيد لهؤلاء الذين غفلوا عن ملك الله وسلطانه وشهادته، وعن عزته وحمده، وغفلوا أن الله له ملك السماوات والأرض، وأن بطشه عز وجل بهم شديد. وقال عز وجل: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] أي: الكفرة لا يبدئون أو يعيدون، بل مبادئ الأمور ونهايتها لله عز وجل، وأدنى تأمل يؤكد لك ذلك، فمن الذي بدأ حياة أي ملك أو أي ظالم من الظلمة أو أكبر رئيس من الرؤساء؟ كل هؤلاء لا يملكون شيئاً، لو ألقي في دورة المياه قبل تخلقَّه ثم ألقي عليه الماء لذهب في المجاري، ولما استطاع أن يدفع عن نفسه شيئاً، كلهم مروا بهذه المرحلة، كل ظالم منتفخ متكبر يأمر وينهى ويؤذي عباد الله عز وجل لم يكن له من بداية الأمر شيء، لا والله حتى مراحل قوته هذه بدأت من الصفر ولابد، وكان من الممكن أن يولد متخلفاً عقلياً، وكان من الممكن أن يولد مشلولاً أو أن يولد أخرساً، ما كان يملك لنفسه شيئاً، وما صنع هو أو أبوه أو أمه أو الدنيا كلها شيئاً من سمعه وبصره وهو في بطن أمه، فالله فهو الذي يبدئ، كما أن الإعادة يوم القيامة له سبحانه وتعالى، وسوف تعود هذه الأمور مرة أخرى للحساب، المؤمنون يعودون، والكفار يعودون، وكلما وقع في الدنيا سوف يسأل عنه الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13].

ترغيب الله سبحانه عباده في العودة إليه

ترغيب الله سبحانه عباده في العودة إليه قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] أي: أن الأسماء والصفات هي أساس الإيمان، وهي أعظم أثر في حياة المؤمن في توجيهه وسلوكه، فالله هو الغفور يغفر لعباده المؤمنين، الودود يحب عباده المؤمنين ويودهم ويجعل لهم وداً، وهذا أعظم ترغيب في العودة إليه حتى وإن أذنب العبد ما أذنب، وظلم ما ظلم، فإنه إذا عاد إلى الله غفر الله له فهنا ذكر الله تعالى ترغيباً وترهيباً فقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14] يعني: أيها الظالم! أنت لن تخرج عن ملك الله، ولن تقدر على الفرار من بطش الله؛ لأن الله هو الذي يبدئ ويعيد، وإن تبت غفر الله لك؛ فهو الغفور وهو الودود الذي أحب عباده المؤمنين، وليس ذلك فحسب، بل زاد أن ذكر حبه ومودته للتائب الذي سيجد أثر هذا الحب، حتى في الكائنات التي تحيط به، فلو لم يجد ثواباً إلا أثر حب الله له لكفاه سعادةً. قال بعض السلف: إنه ليأتي على القلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب. ومن آثار حب الله للعبيد أنه يشعر بألفة مع الكون حوله؛ لأن الله جعل له وداً كما في الحديث: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض). فتحد الكائنات كلها تحبه، والعكس لمن أعرض عن ذكر الله، فهو في عذاب، تكرهه السماوات والأرض ولا تبكي عليه السماء والأرض لذنبه، قال عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10] أي حياة نكدة هذه الحياة التي يعيشها الكفار؛ لأنهم فاتهم ود الله عز وجل ومحبته، نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب من أحبه، والعمل الذي يبلغنا حبه.

معنى قوله تعالى: (ذو العرش المجيد فعال لما يريد)

معنى قوله تعالى: (ذو العرش المجيد فعال لما يريد) قال عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] وقراءة (المجيدُ) بالرفع على أنه صفة للرب، أي: الله ذو العرش وهو الذي له المجد، والقراءة الأخرى بالجر: ((ذو العرش المجيدِ)) يعني: العرش مجيد؛ لأن الرب سبحانه وتعالى مستو عليه، والاستواء على العرش علامة على كمال الملك، وهو حقيقة لائقة بجلال الله، فالله ذو العرش الذي استوى عليه استواءً يليق بجلاله، كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإثبات العرش وإثبات أن الله استوى عليه من أدلة علو الله على خلقه. قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16]. هذا هو الوصف الجامع لحقيقة معاني الربوبية، فإنه الفعال لما يريد، وصيغة المبالغة في (فعال) لأنه متمكن من الفعل، وقادر عليه قدرة تامة، وهو يفعل كل ما ترى من إعزاز وإذلال، وإحياء وإماتة، وخفض ورفع، وعذاب ومغفرة، والخلق لا يملكون إلا فعل أشياء يسيرة، وفعلهم ليس كفعل الله عز وجل، بل ليس هناك وجه للمقارنة، فالله أكبر من أن تحيط قدرة العباد بمعرفة قدره.

قصص مشابهة لقصة أصحاب الأخدود

قصص مشابهة لقصة أصحاب الأخدود ذكر الله أمثلة أخرى تشابه قصة أصحاب الأخدود فقال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] أي: لم يكن الظلمة من أصحاب الأخدود هم الذين فعلوا ذلك فقط، بل كانت هناك جنود معدة للصد عن سبيل الله، فكما كان في أصحاب الأخدود ملك ظالم، ففرعون كان ملكاً كبيراًً، وبدأ بذكره لأنه كان له جنود حاشدة {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56]، واليوم آلاف مؤلفة لا زالت تشهد جدران معابد الفراعنة التي عبدوا فيها غير الله، وأسماء جنودهم المتكاثرة سجلت على جدران هذه المعابد والمنازل، وكذلك انتصاراتهم، ولكن أين هم الآن؟ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:17 - 18]، لقد أتانا حديثهم أنه لا قيمة لهم كما قال أبو الدرداء: من يشتري مني ملك ثمود بدرهمين؟ إشارة منه إلى زوال ملكهم، ولأن آثار ثمود لا زالت موجودة، ومن يسكنها؟ ومن يريد أن ينتفع بها؟ لم ينتفع بها أحد، بل شرع الرسول للمؤمنين إذا مروا عليها أن يمروا مسرعين باكين، لكي لا يصيبهم ما أصابهم. قال تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19 - 20] فهم الذين يكذبون الشرع، ومع ذلك فمحاولتهم في إحباط الشرع وهزيمة المؤمنين تبوء بالفشل؛ لأن الله من ورائهم محيط، فهم كانوا قد أحاطوا بالمؤمنين فيما يبدو، ولكن حقيقة الأمر أن الله أحاط بهم، وأنزل بهم ما شاء سبحانه وتعالى.

وصف الله للقرآن بالمجد وحفظه له

وصف الله للقرآن بالمجد وحفظه له قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج:21] أي: من تمسك بالقرآن فله صفة المجد، ومن عمل به فلا بد أن يجعل الله عز وجل له العزة والكرامة، وقد جعل الله هذا القرآن محفوظاً، فلا يحيط به ولا يقدر على معارضته أحد، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22].

ذكر الروايات المختلفة في تفسير قصة أصحاب الأخدود

ذكر الروايات المختلفة في تفسير قصة أصحاب الأخدود ذكرت قصص أخرى في تفسير قصة أصحاب الأخدود فيها اختلاف عن حديث صهيب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، ومن ذلك ما ذكر ابن كثير رحمه الله عن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم، فأنكر عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود، فقذف فيه من أنكر عليه منهم، فاستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم. وعنه: أنهم كانوا قوماً باليمن، اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدوا لهم الأخاديد وأحرقوهم فيها. وعنه: أنهم كانوا من الحبشة. وعن ابن عباس قال: هم ناس من بني إسرائيل خدوا أخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء، فعُرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم. وروى الترمذي بسند صحيح عن صهيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر همس-والهمس: في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له: إنك -يا رسول الله! - إذا صليت العصر همست، قال: إن نبياً من الأنبياء كان أعجب بأمته، فقال: من يقوم لهؤلاء؟ -يعني: من يقف أمامهم؟ - فأوحى الله إليه أن خيَّرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم، فاختاروا النقمة فسلط الله عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفاً، قال: وكان إذا حدث بهذا الحديث، حدث بهذا الحديث الآخر قال: كان ملك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلاماً فهماً، أو قال: فطناً لقناً، فأعلمه علمي هذا)، فذكر القصة بتمامها وقال في آخره: يقول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:4 - 5]، حتى بلغ ((الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ))، قال: فأما الغلام فإنه دفن، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، ثم قال الترمذي: حسن غريب. قال وهذا السياق ليس فيه، وأن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ المزي: فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، لكن الإمام مسلم والإمام أحمد صرحا بالرفع، وهي زيادة ثقة، وسياق القصة يختلف عن سياقات النصارى في قصصهم، والصحيح أنها مرفوعة، إلا أن رواية مسلم وأحمد ليس فيها تصريح بأن هؤلاء هم المذكورون في القرآن، حيث لم يقل: فأنزل الله أو فقال الله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، لكن رواية الترمذي فيها التصريح بأن هذه الآيات في شأن هذه القصة، والله أعلم. يقول ابن كثير: وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر عن محمد بن كعب القرظي قال: وحدثني أيضاً بعض أهالي نجران عن أهلها: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريباً من نجران -ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع تلك البلاد- ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا: نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر. فبعث التامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، وهنا سمى الغلام عبد الله بن التامر، والله أعلم. قال: فجعل يجلس إليه، ويسمع منه حتى أسلم، فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه، جعل يسأل عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه، وقال له: يا ابن أخي! إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه، والتامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر، كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى أقداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسماً يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أوقد ناراً، ثم جعل يقذفها فيها قدحاً قدحاً، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذفه فيه بقدحه، فوثب القدح حتى خرج منها ولم يضره شيء، فأخذه ثم أتى به صاحبه، فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا، قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي! قد أصبته، فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل، فجعل عبد الله بن التامر إذا دخل نجران لم يلق أحداً به ضر إلا قال له: يا عبد الله! أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم، فيوحد الله ويسلم، فيدعو الله له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلن بك، قال: لا تقدر على ذلك، قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع على الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقي به فيها، فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن التامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني، قال: فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن التامر ثم ضربه بعصاً في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه، واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن التامر، وكان على ما جاء به عيسى بن مريم عليه السلام من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران. قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن التامر، فالله أعلم أي ذلك كان. قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخد الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم، حتى قتل منهم قريباً من عشرين ألفاً، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7]، الآيات. هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة: أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه زرعة، ويسمى في زمان مملكته بـ يوسف وهو ابن بيان أسعد أبي كريب، وهو تبع الذي غزا المدينة، وكسا الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره قال ابن إسحاق مبسوطاً، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفاً، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له: دوس ذو ثعلبان، ذهب فارساً وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشاً من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هارباً فلجج في البحر فغرق، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريباً من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير. وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه حدث أن رجلاً من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعداً واضعاً يده على ضربة في رأسه ممسكاً عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دماً، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الذي كان عليه ففعلوا. وروى أبو بكر بن أبي الدنيا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثني بعض أهل العلم: أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطاً من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط، ثم بناه فسقط، فقيل له: إن تحته رجلاً صالحاً فحفر الأساس فوجد فيه رجلاً قائماً معه سيف مكتوب فيه: أنا الحارث بن مضاض، نقمت على أصحاب الأخدود، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت، قلت: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن. وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديماً بعد زمن إسماعيل عليه السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهو أ

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [2]

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [2] إن ورود القصص والعظات في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لمجرد التسلي وتضييع الأوقات، وإنما وردت من أجل أن نتعظ بها، ونأخذ منها الدروس والعبر، حتى نرجع إلى الطريق المستقيم، فكم من الفوائد والعظات والعبر في هذه القصص، ومنها قصة أصحاب الأخدود، فينبغي على المسلم أن يتدبر هذه القصة ليستفيد من دروسها، وتكون له هذه الدروس نبراساً في حياته.

دروس وعبر من قصة أصحاب الأخدود

دروس وعبر من قصة أصحاب الأخدود

التعاون بين رءوس الطواغيت

التعاون بين رءوس الطواغيت الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. من فوائد حديث قصة أصحاب الأخدود كما وردت في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من حديث صهيب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر)، أننا نرى هنا التعاون بين رءوس الطواغيت، التي تعمل في النهاية لحساب الشيطان من أجل نشر الفساد في الأرض، ومن رءوس الطواغيت كذلك الملك الذي كان يدعي الربوبية صراحة، ومثله من يدعيها ضمناً، بأن يرغم الناس بما يراه هو من شرع دون رجوع لشرع الله عز وجل، فهذا نوع من رءوس الطواغيت الموجودة؛ لأنه يدعي لنفسه صفة وحقاً من حقوق الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الحكم، والله سبحانه وتعالى له حق التشريع وحده لا شريك له، قال عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]. فالذي يدعي أن له أن يشرع للناس ما يراه هو عدلاً من غير رجوع إلى شرع الله، فهو قد تجاوز الحد، ونسب لنفسه ما هو من صفات الرب عز وجل، وما هو من حقوقه عز وجل، فبالتالي هو من رءوس الطواغيت، وربما زاد بعضهم حتى يصل إلى ما وصل إليه الملك صاحب القصة، كما كان عليه حال فرعون حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحال النمرود الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، وغيرهم، ومع ذلك فكثير من الناس يستجيب لهم، رغم وضوح بطلان هذه الدعوة الباطلة التي ادعوها لأنفسهم. والساحر الذي يدعي ملك الضر والنفع وتقريب القلوب، ويدعي تغيير الخلق، بأنه يغير الخلق هذا إلى شيء آخر، ويجعل هذا يحب هذا، أو يبغض هذا؛ فهذا أيضاً طاغوت من الطواغيت، جاوز الحد حين نسب لنفسه صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى، الذي يجب أن نصرف كل العبادات له عز وجل، ومن ذلك أن نلجأ إليه ونصمد إليه في جلب المنافع ودفع المضار، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر). وقد ثبت قتل الساحر عن ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، واختلف العلماء في كفر الساحر، فمنهم من أطلق تكفيره، وإن كان أصحاب هؤلاء الأئمة قد ذكروا التفصيل، ومنهم من بين -كالإمام الشافعي رحمه الله- فقال: يقال للساحر: صف لنا سحرك، فإن كان يتضمن كفراً كفر، كمن يتقرب إلى الكواكب السبعة أو الشياطين، أو يتضمن كفراً بوجه من الوجوه، كمن يذبح للشياطين والأصنام، أو كمن يسجد لها، أو كمن يستهزئ بالمصحف، ونحو ذلك ممن يرتكب شركاً أكبر لتحقق له الشياطين ما يريد، فهذا النوع من السحر كفر بلا نزاع، وإذا كان سحره بغير ذلك قال الشافعي: فإن استحله كفر. والصحيح أن السحر المتعلم من الشياطين ومن هاروت وماروت كفر؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]؛ لأنه لا يتمكن من هذا النوع من السحر المتعلم من الشياطين إلا بتقديم القربات لهم، وتركه الإيمان بالكلية، وأما السحر الذي هو بأدوية وتدخين وخداع بالبصر، فهذا الصحيح فيه أنه لا يكفر فاعله إلا أن يستحله.

الطواغيت يريدون الإفساد في الأرض

الطواغيت يريدون الإفساد في الأرض نجد هذا التعاون بين هذين الرأسين من رءوس الطواغيت للسعي للإفساد في الأرض، وكل ملك ساحر، وإن كان الأمر يختلف باختلاف الأزمنة في الكيفية، فالملوك الظلمة يحتاجون دائماً إلى السحرة لتوطيد ملكهم، وتقليب الأمور حتى يراها الناس على خلاف ما هي عليه، ولإيقاع الرهبة في نفوس الناس، ليجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، قال عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116]، فالمطلوب عندهم أن يخوفوا الناس، وأن يروا الأمور على غير ما هي عليه. ومن أخطر أنواع السحر وأخفاها، وأوسعها انتشاراً في زمننا الحاضر وأعظمها أثراً في توطيد ملك أدعياء الربوبية؛ هو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (إن من البيان لسحراً) رواه البخاري وغيره، فسحر البيان هو الذي يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، ويجعل الإيمان كفراً والكفر إيماناً والعياذ بالله، وذلك في قلوب الخلق الذين لم يستضيئوا بنور الوحي، فوسائل البيان والإعلام التي تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف هي من أشد أنواع السحر أثراً في الخلق، ونرى عجباً أن من اهتمام أدعياء الربوبية بهذا النوع من السحر الجديد القديم، أضف إلى ذلك وجاهته وحضارته المزعومة، وتقدمه وانتشاره حتى دخل كل بيت، وكل عقل وفكر، فكانت له آثار مدمرة على إدراك الأمة وتمييزها، بل على إدراك العالم كله في وقتنا الحاضر.

الطواغيت يريدون استمرار الشر حتى بعد موتهم

الطواغيت يريدون استمرار الشر حتى بعد موتهم هذا التعاون هو في النهاية في حساب الشيطان، فإنه قد مات الملك ومات الساحر، ولكن بقي تعاونهما هذا -مع أنهما لا يؤمنان بالآخرة ولا يعملان من أجلها- دليلاً على حقيقة العمالة لذلك الطاغوت الأكبر -الشيطان-. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه)، هذا الجزء من القصة يدلنا فعلاً على هذه العمالة، فما شأنه بما يقع من بعده، كبر ومع ذلك يريد أن يستمر الشر من بعده، هل يؤمن هذا الساحر بالآخرة؟ لا، هو لا يؤمن بها، ومع ذلك يريد أن يستمر الشر إذا مات، ويخاف أن يزول السحر الذي عنده بعد موته فيقول: (ابعث إلي غلاماً أعلمه السحر)، فهذا يدلنا أنه عبد للشيطان، مستمع له، يسعى إلى أن تنشأ الأجيال الجديدة على نفس الباطل الذي كان عليه، وحقيقة الأمر أن اتباع الشهوات والرغبة العاجلة في التلذذ بها في الدنيا يفسر لنا ما يقومون به في حياتهم، لكن أي لذة في استمرار الشر من بعدهم إلا تلك العمالة للشيطان الذي يوحي إليهم بتلقين الضلال للأجيال القادمة، ليحصل له غرضه الخبيث الذي بينه لنا رب العالمين بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].

الطواغيت يهتمون بالصغير حتى يغرسوا فيه مفاهيمهم

الطواغيت يهتمون بالصغير حتى يغرسوا فيه مفاهيمهم اختار الساحر الغلام، فأراد من هو في سن التنشئة وفي سن التربية، يهتم بالصغير لكي يتلقن جيداً، ولذلك فإنه لم يطلب رجلاً كبيراً، وإنما طلب من يتشرب السحر منذ نعومة أظفاره، ليكون بعد ذلك ساحراً ماهراً يحقق للملك ما يريد. وأعداء الإسلام فعلوا مثل ذلك عندما احتلوا بلاد المسلمين، فأول ما اهتموا به هو أن يأخذوا أجيالاً من غلمان المسلمين وأبنائهم، ينشئوهم في مجتمعاتهم، وفي مدارسهم، وخصوصاً الأذكياء منهم، ويلقنونهم أنواع زخرفهم وسحرهم الذي ذكرنا أنه من أخطر أنواع السحر؛ سحر البيان، وبالفعل كان هؤلاء الذين ربوا على أيدي الأعداء هم الخنجر في قلب الأمة، فهم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا وصاروا دعاة على أبواب جهنم، كما بين النبي عليه الصلاة والسلام، وأصبحوا هم أشق وأصعب أنواع الأعداء، هؤلاء هم المنافقون الذين تربوا منذ البداية على الولاء لأعداء الدين، لذلك نقول: يجب أن نعرف حقيقة أعداء الإسلام حين يهتمون بإفساد أبناء المسلمين منذ صغرهم، وتربيتهم على معاني الولاء لغير دين الله عز وجل، ولذلك يهتمون جداً بحذف كل ما يشير إليهم من مناهج التنشئة والتربية، لكي ينشأ هؤلاء الأبناء بغير قضية يعرفونها، فأين المسلمون من تربية أبنائهم؟ الأعداء يهتمون هذا الاهتمام بتربية الأبناء على مناهج الفساد، فأين المسلمون من تنشئة أبنائهم على دين الله عز وجل؟ وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلمهم أنواع التربية كلها بعد بيان القرآن، فنحن نسمع في كتاب الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فهذه هي التربية العقائدية، وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبته الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)، هذا الكلام فيه توحيد، وفيه إيمان بالقدر، وفيه إيمان بالجزاء، وفيه سائر أنواع الإيمان، فقد دل عليها هذا الحديث باللزوم. والتربية العبادية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، وهي أيضاً تربية أخلاقية بالتفريق بينهم في المضاجع. والتربية على الآداب السامية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك). والتربية على الدعوة إلى الله عز وجل -التربية الدعوية- كما قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، وكل أنواع التربية -التي تنشئ الشخص المسلم المتكامل الشخصية- مبثوثة في كتاب الله، وفي سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلابد لنا أن نقوم بهذا الدور المهم الذي يرتكز على قلع أشجار الباطل، وحماية أبناء المسلمين منها، وغرس أشجار الحق في قلوب طلائع أمتنا وصغارها.

الباطل زهوق بطبعه فلا ييئس المسلم إذا رأى كثرته

الباطل زهوق بطبعه فلا ييئس المسلم إذا رأى كثرته قد يقول البعض: ماذا نصنع أمام الإمكانات الهائلة للباطل، فهو يمتلك وسائل البيان والإعلام ليس على مستوى البلاد فقط بل على مستوى العالم كله، والأبناء اليوم مشدودون شداً هائلاً لوسائل الإفساد التي يجدونها مفتوحة في كل مجال، وإمكانات المسلمين ضئيلة، والملتزمون منهم إمكاناتهم أقل ضآلة؟! نقول: ليس الأمر كذلك، وقصتنا تدلنا على أهمية التربية، فإن شخصاً واحداً رباه هذا الراهب -كما يأتي بيان القصة- كان سبباً في هداية أمة، ذلك أن الحق يرسخ في القلوب، والباطل زهوق بطبعه، لأن الله خلقه كذلك، فشجرة الباطل سهلة الاجتثاث، وشجرة الحق تسقيها فطرة الإنسان، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:24 - 26]. ولذلك نقول للدعاة إلى الله، وللمربين، ولكل راغب في إعلاء هذا الدين وإعداد أهله. هذه الخطة التي بين أيدينا تدلنا على عواقب الأمور ونهاياتها مهما كانت الظروف مهيأة ومجندة لأعداء الله سبحانه وتعالى، فهذا الغلام كانت كل الجنود مجندة لإعداده لوظيفة السحر لخدمة الملك، والأجواء مهيأة لذلك أعظم تهيئة، لكن صوت الحق الذي كان خافتاً خائفاً كان أعلى وأعمق أثراً، بل كان سبباً في نقل أمة بأكملها من الظلمات إلى النور! فيا أيها المسلمون! أنقذوا أبناءكم وغلمانكم من أيدي سحرة العصر الحديث.

بقايا من أهل الكتاب على الحق قبيل البعثة النبوية

بقايا من أهل الكتاب على الحق قبيل البعثة النبوية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان في طريقه الذي سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه)، نفهم من هذه القصة، ومن هذا الجزء أن زمن القصة كان بعد المسيح؛ لأن الرهبانية إنما عرفت فيهم، لكن هذا الراهب كان من الموحدين، كما ظهر جلياً من القصة، فهو من أهل الإيمان والتوحيد، لا من أهل التفريط والكفران وعباد الصلبان، فهو أحد غبر أهل الكتاب الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا غبرات من أهل الكتاب، إلا بقايا من أهل الكتاب)، وكان منهم كذلك سلمان رضي الله تعالى عنه، فإنه قد تلقى دعوة التوحيد على أيدي بعض هؤلاء الرهبان، وذلك قبل أن يأتي إلى المدينة ليدرك النبي الذي قد أطل في زمنه رضي الله تعالى عنه، وهذا يدلنا على أن أتباع المسيح لم يزل فيهم موحدون مؤمنون إلى زمن البعثة النبوية، رغم انتشار الوثنية وتأليه المسيح بعد الاجتماع الذي وقع في المائة الرابعة من ميلاد المسيح، والذي عقده قسطنطين -باني القسطنطينية- لما دخل في النصرانية، وعقده لتقرير مسألة ألوهية المسيح، كما يذكر ذلك مؤرخوهم، فكان التفرق والاختلاف، ونصر -خذله الله وأخزاه- قول القلة القائلة بألوهية المسيح، ونشر هذا الكفر على أنه دين المسيح، والمسيح وسائر الرسل منه برآء، فإن المسيح لم يأت إلا بالتوحيد، كما قال تعالى حاكياً عنه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117]. ورغم انتشار مذهب التثليث والشرك بين النصارى منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، إلا أنه قد كان هناك بقايا من الموحدين في ذلك العهد، أمثال هذا الراهب في قصتنا.

الرصيد العظيم في الحق في فطرة الناس

الرصيد العظيم في الحق في فطرة الناس قعد الغلام إلى الراهب أثناء ذهابه لتعلم السحر، فسمع كلامه فأعجبه، ونرى هنا أن الغلام قد تلقى تربية مزدوجة، وتعليماً متناقضاً، يسمع كلام الساحر ويسمع كلام الراهب، الساحر يعلمه أن الملك هو ربه، والراهب يعلمه أن الله عز وجل لا شريك له هو ربه ورب العالين، الساحر يعلمه كيف يضر الناس، وكيف يفرق بينهم، وكيف يلعب بمشاعرهم وعواطفهم ليقلب قلوبهم بزعمه، والراهب يعلمه كيف يحب الخير للناس، وكيف ينصح لهم، وكيف يتمنى هدايتهم، ومع أن الرصيد المادي للساحر أو للملك، والفرصة مهيأة للوظيفة المرموقة لذلك الغلام في شخص الساحر إلا أنه أعجبه كلام الراهب، لذلك نقول: لا تيئسوا عباد الله! هناك رصيد هائل وراء دعوة الحق، هذا الرصيد هو أن الله خلق عباده حنفاء يميلون إلى الله عز وجل، كما قال عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، فرغم كل العقبات، ورغم الترغيب والترهيب، فإن الغلام كان يرغب في وظيفة مرموقة -كما ذكرنا- ربما كانت الثانية بعد الملك مباشرة، الملك يحتاجه، ويعاقب بأنواع الضرب والتعذيب والإهانة عند الساحر إذا تأخر، ومع ذلك أعجبه كلام الراهب، أعجبه الحق فمال إليه؛ لأن (كل مولود يولد على الفطرة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا الرصيد هو الذي يجعل قلوب الخلق تنجذب بقوة هائلة إلى الحق إذا سمعته، ولو كان من فرد واحد والباطل أمة بأسرها، كيف لا وقد أخذ الله على كل منا ميثاقاً ونحن في عالم الذر؟ قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، يظهر أثر هذا الميثاق في أمر الفطرة، وفي ميل كل إنسان إلى دعوة الحق. ولا تصح مقولة من يقول: إن ما يبنيه الدعاة في سنة، يهدمه أهل الباطل في ساعة؛ لما عندهم من وسائل هائلة، فهذا قول الميئسين، قول الذين لا يفهمون حقيقة دعوة الحق، ولا طريقة الرسل، يريدون بذلك أن ييئسوا الناس من التربية، ويقولون: لا علاج إلا المواجهة المباشرة! ونقول: إن المواجهة لابد فيها من تربية، وإن المواجهة الحقيقية هي المواجهة بين المناهج حتى يظهر الحق بإذن الله تبارك وتعالى، فيزعم هؤلاء -الذين يقولون: إن الباطل يهدم في ساعة ما يبنيه الحق في سنة- أنه لابد أن يأتي التغيير في سائر المجتمع، وليس كذلك، فإن دعوة الأنبياء جميعاً لم تغير المجتمع دفعة واحدة، إنما بدأت بدعوتهم، وغالب الأمر أنه ما يستجيب لها إلا الضعفاء، كما عرف هرقل ذلك عندما سأل أبا سفيان عن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إن الضعفاء هم أتباعه، فقال: وهم أتباع الرسل، ودائماً كان تغيير الرسل هو ببناء الإيمان في القلوب، وإيجاد الشخصية المسلمة المتكاملة، ثم وجود الطائفة المؤمنة التي ينصر الله عز وجل بها دينه بما شاء بالقرآن أو السنان، فقد نصر الله عز وجل رسلاً من رسله بالقرآن والدعوة والبيان، ونصر رسلاً من رسله بالقوة والسنان. لذلك نقول: إن هذه المقالة: إن ما يبنيه أهل الحق في سنة، يهدمه أهل الباطل في ساعة، مقولة باطلة بلا شك؛ لأن ما يبنيه أهل الباطل في ساعات إنما هو بناء هش، لا حقيقة له، وإن الحق لا يهدم في نفوس المؤمنين الصادقين، ولو ظل أهل الباطل يسعون لهدمه مدة الدنيا بأسرها، فلرب غلام ممن يتعلم في حجور العلماء، ويجلس بين أيدي أهل العلم، وهو اليوم غلام صغير لا يدرك كثيراً من الكلام؛ يكون غداً به نجاة الأمة وإنقاذها من الهلاك، بل ذلك هو الحاصل بلا ريب إن شاء الله، فكيد الشيطان ضعيف كما قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].

التربية وطلب العلم لابد لهما من صبر وتحمل

التربية وطلب العلم لابد لهما من صبر وتحمل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فكان إذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، الله عز وجل قادر على أن يجعل السبل مهيأة أمام الدعاة وأمام طلاب العلم، لكنه سبحانه وتعالى قدر أن تحف الجنة بالمكاره، فهذا الغلام يضرب لأجل أنه يحضر درس العلم، وإن كانوا لا يدرون، فإنهم لو علموا بشأن الراهب لكان هناك تصرف آخر قطعاً، ولو كانت هذه البذرة يعرفون حقيقتها لربما قتل الغلام من أول أمره، ولما كان له وجود هو ولا الراهب، وإنما كان يضرب على التأخير، لماذا تأخر عن درس الفساد والعياذ بالله! ومع ذلك ظل الغلام حريصاً أتم الحرص على أن يحضر، وشكا إلى الراهب ليجد له حلاً؛ لأنه يريد أن يستمر في طلب العلم، وإخواننا الكثير منهم لا يضربهم أحد على حضور دروس العلم، ولا يؤذيهم أحد، وإنما هو مجرد وهم أحياناً، ومع ذلك فما أكثر من يتخلف، وما أقل من يواظب، وهذا الغلام لم يعلم الحق في جلسة واحدة، فإن سياق الحديث يدل على ذلك؛ لأنه كان كلما أتى الساحر ضربه، وأهله أيضاً يضربونه ذهاباً أو إياباً، فهو كان يتعلم الحق مسألة مسألة، حتى يستقر المنهج، فالدين الحق في القلب هو بذرة لابد من سقيها ورعايتها، حتى تنمو وتكبر فتصبح شجرة في القلب. لذلك نقول: فلنتعلم من هذا الغلام الصغير، أحد أولياء الله عز وجل، الذي ضحى بنفسه مع كونه يجد الألم لكي يطلب العلم، فلماذا لا نكون صادقين في الطلب مثلما كان هذا الغلام؟ لماذا يعرض الكثير عن الدرس رغم أنه لا يضربهم أحد ولا يؤذيهم؟ وإنما هو الانشغال بالدنيا، ولنعلم أن الإعراض عن طلب العلم يؤدي إلى إعراض الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين دخلوا المسجد، فوجد أحدهم الفرجة في الحلقة فجلس فيها، ولم يجد الثاني فرجة فجلس خلفهم، وانطلق الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما الأول فأوى إلى الله فآواه الله عز وجل، وأما الثاني: فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض فأعرض الله عنه)، نعوذ بالله من أن نعرض عن طاعة الله!

في الأمور الواجبة تقدم طاعة الله على طاعة من سواه أيا كان

في الأمور الواجبة تقدم طاعة الله على طاعة من سواه أياً كان كان الغلام إذا أتى أهله ضربوه، وفي هذا ما يدلنا على الجواب عن Q هل يطيع الإنسان والديه أو أهله أو من له عليه حق الطاعة في ترك دروس العلم؟ لا شك أن علم التوحيد من العلم الواجب، وكذلك ما يرتبط به عقيدة الإنسان، وكذا ما يلزمه من تصحيح العبادة والمعاملة الواجبة، وكل ما لزمه أن يتعلمه فرض عين عليه كالأخلاق الواجبة وإتيان الحلال واجتناب الحرام، فكلما لزمه عمله لزمه تعلمه، فصار فرض عين عليه، فهذا لا يجوز أن يطيع أحداً في تركه، لا والديه ولا أي إمام ولا حاكم ولا أحد، والواجب الشرعي لا يجوز أن يستأذن فيه وأن يطلب الإذن في فعله، إنما هذا مطلب فرعوني، كما قال تعالى حاكياً قول فرعون للسحرة: {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123]، فالذي يريد أن يستأذن في طاعة الله عز وجل إنما هو متشبه بفرعون، فإذا أمر الله فلا يجوز لأحد أن يعترض ولا أن يمنع. وأما إذا كان العلم مستحباً، فهذا يستحب فيه الحضور ولا يلزم، وبالتالي يقدم طاعة الوالدين على هذا العلم المستحب. وأما إذا كان فرض كفاية فهذا إما أن يكون قد تعين عليه وإما أن يكون مازال في دائرة الاستحباب، فإن كان قد تعين، بأن شرع في الطلب، فإن طلب العلم كالجهاد كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والإمام النووي، فإذا كان قد شرع فيه فإنه يتعين عليه؛ وذلك لأن الأمة لن تجد علماء لها إذا كان طالب العلم يترك الطريق من منتصفه ويبدأ العلماء من جديد، فربما مات العلماء ومات علمهم قبل أن يولد من يخلفهم من طلاب العلم؛ لأن كل طالب سوف يطلب العلم مرة من الزمن ثم يترك الطلب، ويأتي بعد ذلك طالب يبدأ من البداية، فمثل هذا يترتب عليه ضياع هذا الفرض الذي هو فرض كفاية، ونعني بفرض الكفاية ما قاله ابن حزم رحمه الله: فرض على كل طائفة مجتمعة في قرية أو مدينة أو غير ذلك أن ينتدب منهم من يطلب جميع أحكام الديانة من أولها إلى آخرها، فيتعلم القرآن كله، ويتعلم ما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام وغيرها، ويعلمهم ذلك، فإذا كان الأمر قد تعين عليه فإنه لا يجوز أن يطيع أحداً في تركه، وكذا إذا تعين عليه لكونه لا يوجد من يقدر على طلب هذا النوع من العلم غيره، وكذا التعليم بالأولى، وقد ذكر الإمام النووي رحمه الله مسألة طاعة الوالدين في ترك السفر في طلب علم ليس بواجب ولا يحصل ضرر على الوالدين بالإذن في السفر، قال: فيه وجهان، والصحيح عدم السفر بغير إذنهما.

يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم تكن هناك وسيلة غيره

يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم تكن هناك وسيلة غيره في هذا الجزء من القصة أرشد الراهب الغلام أن يكذب ليتخلص من الظلم، فهل يجوز الكذب للتخلص من الظلم إذا لم يكن هناك وسيلة غير ذلك؛ نقول: نعم، فإذا كانت هناك وسيلة كالتعريض أو غيره فعلها، كما قال إبراهيم عليه السلام عن سارة: إنها أخته، وهو يقصد أنها أخته في دين الله، فكان تعريضاً ولم يكن كذباً صريحاً، وقد يجب الكذب الصريح إذا تعين وسيلة لدفع الظلم خصوصاً عن غيره، فإذا لم يمكن دفعه عن دم امرئ مسلم بريء أو عرضه أو ماله إلا بالكذب وجب، وكذلك في ماله فإن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الأصل هو لزوم الصدق ولا يلجأ إلى الكذب إلا عند الضرورة، وتقدر هذه الضرورة بقدرها.

المسلم دائما يلتجئ إلى الله ويبحث عما يحبه الله ويحب الخير للناس

المسلم دائماً يلتجئ إلى الله ويبحث عما يحبه الله ويحب الخير للناس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال الغلام: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس)، لا زالت التربية المزدوجة تؤثر على الغلام، لا زال متردداً بعض التردد، لكنه يميل إلى الحق ميلاً عظيماً، نفسه تحدثه أن الحق مع الراهب، لكن عنده بعض التردد من آثار التربية المزدوجة التي ينشأ عليها كل طالب علم يعلمه أهل الحق في مجتمع مليء بالجهل والظلم والعدوان. نقول: هذا الغلام مال إلى الراهب وإن كان ظاهر حاله أنه متردد، والدليل على ذلك: أولاً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب) فهو دعا الله عز وجل، فالفطرة الإنسانية مشدودة مجذوبة جذباً ضرورياً للتوجه إلى الأعلى عندما يكون في شدة أو في التباس أو في أمر لا يدري كيف يعمل فيه، فإنه يدعو إلى الله عز وجل، ويلتجأ ويصمد إليه، فهو قال: (اللهم) ولم يقل: أيها الملك؛ لأن الساحر يقول له: هو الرب، بل يقول له: لا رب لك غيره، كما قال له الملك بعد ذلك: (أو لك رب غيري؟)، فلم يقل: يا أيها الملك إن كان أمر الراهب أو الساحر أحب إليك، إنما قال: (اللهم إن كان أمر الراهب)، فهذا الدعاء قطعاً تعلمه من الراهب ووافقته الفطرة. حدثني بعض الإخوة في زمن مضى أنه كان في بعض بلاد الكفر، وكان يخرج أحياناً مع بعض الدعاة ويدعون السكارى في آخر الليل إلى أن يتوبوا ويرجعوا إلى الله ويدخلوا في الإسلام، فيلقى الرجل السكران ملقاً على الطريق، وهو في سكره الكامل، فيذكره بالموت وبالله، فيرفع السكران يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، فسبحان الله! وهم إذا أفاقوا ربما أنكروا وجود الله بالكلية، لكن النفس الإنسانية مشدودة بقوة، ومجذوبة إلى التضرع إلى الله عز وجل. فلجأ هذا الغلام بما تعلمه من الراهب قطعاً، فإنه لم يتعلم الدعاء من الساحر. ثانياً: قال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، فهو يبحث عما يحبه الله، وهذا الأمر بالتأكيد لم يتعلمه من الساحر؛ لأن الساحر يعلمه البغض والكراهية، وهو يريد الأمور التي يحبها الله عز وجل، وهذا المعنى يربي عليه الحكماء والعلماء والأنبياء أبناءهم، افعل ما هو أحب إلى الله، ألم تسمع قول لقمان وهو يعظ ابنه يقول: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]؟ فبماذا خوفه؟ لم يخوفه بالنار في هذا الموضع، وإن كان سيذكره في موضع آخر، لكن مبنى الأمر أن هذا الشيء لا يحبه الله، وهذا أعجب ما يطلبه الإنسان أن يفعل ما يحبه الله، وأعظم دافع للعبادة أن يذوق حلاوة حب الله عز وجل، وحلاوة ما يجد من عبادته والبحث عن مرضاته. ثالثاً: أنه أراد قتل الدابة، وهي حيوان عظيم حبس الناس عن مصالحهم، فهو يريد أن يقتلها ليمضي الناس، وهو بلا شك غلام صغير يرمي بحجر تبلغه يده، تأمل غلاماً من غلماننا ماذا تحمل يده من حجر؟ كم يبلغ وزن هذا الحجر؟ وكم يبلغ حجمه؟ وماذا يؤثر في حيوان قد أرعب الناس كأسد مثلاً أو غير ذلك؟ وكم تبلغ ضربته إذا رماها عن بعد؟ فإنه بالتأكيد يرميها من بعد حيث يقف داعياً ثم يرمي، وهذا بلا شك يدل على أنه يرمي بضعف ولا يرمي بقوة، ولكنه يلجأ إلى الله عز وجل أن يجعل في رميته القوة ليمضي الناس، فهو يحب الخير للناس ولا يريد الشر بهم، يريد الخير لهم في دينهم ودنياهم، وهذا والله من أعظم ما يفتح القلوب، أن يعرف الناس أنك لهم ناصح، وأنك تريد بهم الخير. ولو تأملنا في قصة مؤمن آل ياسين لأحببنا ذلك الرجل حباً لابد منه، فعلاً نجد قلوبنا تحبه؛ لأنه يحب الخير للناس حيث يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27]، وقد فسر السلف هذه الآية وقالوا: لا تجد المؤمن إلا ناصحاً لقومه في الدنيا والآخرة. فالنفس مجبولة على قبول وحب من يحب الخير لها، وكان هذا مفتاح الخير، فاحرص على أن تكون صانعاً للخير محباً للخير للناس، لست تريد أن تقيم عليهم حجة ليدخلوا بها النار، ونحن نعلم أن هذا من ضمن آداب الدعوة، لكن هدفنا الأصلي هو: أن يؤمن الناس، أن يرجعوا إلى الله، وإن لم يؤمنوا فقد أعذرنا إلى الله بإقامة الحجة، لكن هناك من الناس من تكون همته أن يخرج الناس من الملة مثلاً، وأن يقيم عليهم الحجة، نيته الحكم عليهم! وهذا خلل كبير، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فالله سبحانه وتعالى يأمر النبي عليه الصلاة والسلام ألا يفعل ذلك، مع أن الله يحب منه حبه للخير، ولكن من باب الرفق به؛ لأن مصلحة الرفق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأن يستمر بالدعوة، أعظم من مصلحة إهلاك نفسه حزناً عليهم ألا يؤمنوا، فسبحان الله! فحب الخير للناس أمر يحبه الله وإن لم يقع موقعه، كما ذكر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام عندما جاءته البشرى قال: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:74 - 76]، فهو يجادل في قوم حق عليهم الهلاك، ولن تقبل فيهم شفاعة، ومع ذلك مدحه الله عز وجل؛ لأنه بين عز وجل أن السبب الذي أداه إلى المجادلة أنه حليم أواه منيب، متضرع إلى الله، عنده حلم ورفق بالعباد، فالله يحب هذه الخصال من عباده، والله يحب من عباده الرحماء، فحب الخير للناس من أسباب فتح القلوب، ومن أسباب الاستجابة لأمر الله عز وجل. فحب الخير للناس تعلمه الغلام من الراهب، أما الساحر فإنه يعلمه كيف يؤذي، كيف يضر، كيف يوقع بين الناس، كيف يفرق بينهم، كيف يجعلهم شيعاً متفرقين ليتمكن من السيطرة عليهم، وهذا ما يفعله كل ملوك الدنيا هم وسحرتهم وأعوانهم، همهم كيف يفرقون بين الناس، ليظل الملك والسلطان لهم، والسحرة يقومون بهذا الدور جيداً، فالأمر الذي وقع من هذا الغلام أنه أراد مصلحة الناس، ولجأ إلى الله سبحانه وتعالى في هذا المقام، فدعا الله عز وجل ورمى الدابة فقتلها. رابعاً: أنه أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى حيث قال: (فاقتل الدابة) فهو رغم ضعفه وضعف رميته وصغر الحجر، أيقن بقدرة الله سبحانه وتعالى على قتل هذه الدابة العظيمة. خامساً: أنه قدم في كلامه أمر الراهب على أمر الساحر فقال: (اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر)، وهذا كله يدل على ميله الفطري والطبيعي إلى اتباع أمر الراهب.

إثبات كرامات الأولياء

إثبات كرامات الأولياء قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فرماها فقتلها ومضى الناس)، وهذا الأمر معدود في كرامات الأولياء، غلام صغير صار من أولياء الله الصالحين، وأظهر الله على يديه هذه الكرامة الخارقة للعادة، وذلك من أنواع القدرة والتأثيرات، ونحن نؤمن بإثبات كرامات الأولياء من أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تفصيله أنواع الكرامة التي يمكن أن تقع، وخوارق العادات التي تقع لأولياء الله، وعلامتهم وصفتهم أنهم كما قال الله فيهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، ولذلك يشترط صلاح الظاهر والباطن حتى ينسب الذي جرى على يديه إلى الولاية، وإلا لو رأينا الرجل يطير في الهواء أو يسير على الماء ثم رأيناه يصادم الكتاب والسنة فلا نصدقه. والخوارق أنواع منها: المعجزات التي يجريها الله على أيدي أنبيائه، ومنها الكرامات التي تجري على أيدي أوليائه، ومنها خوارق العادات التي يقدر الله وقوعها على أيدي السحرة والكهنة إخوان الشياطين؛ ابتلاء للعباد، وإنما تعرف بحقيقة صفاتهم، كما قال عز وجل: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:221 - 224]، فنحن نعرفهم من نتائج عملهم، ومن صفاتهم، فإنه لا يجتنى العنب من شجر الشوك، فالشوك لا يجتنى منه إلا الشوك، والعنب لا يجتنى إلا من شجر العنب، كما هي حكمة نقلت عن المسيح عليه الصلاة والسلام في كيفية معرفة أدعياء النبوة الكاذبين، فآثارهم تنبؤك كيف يكون حالهم. ولذلك نقول: التفرقة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان أساسه في صفات هذا الإنسان، وهذا أظهر لدى أهل الإيمان من التفرقة بنوعية الخارق، وإن كانت نوعية الخارق تفرق، فإن سحرة فرعون مع أنهم لم يكونوا من أهل الإيمان، ولم يحسنوا أن ينظروا في صفات موسى عليه الصلاة والسلام وصفات أنفسهم، وإنما الذي ردهم إلى الإيمان نوعية الخارق حيث رأوا فعلاً أن عصا موسى قد تحولت إلى حية حقيقية، إلى ثعبان مبين حقيقي، وأيقنوا أن هذا ليس في قدرتهم، وعلموا أن موسى ليس بساحر، فآمنوا من ساعتهم، فنوعية ما يعطيه الله عز وجل من خوارق للأنبياء من المعجزات لا يمكن أن يصل إليه سحر السحرة، ولا كهانة الكهنة، خلافاً لمن يقول من المتأخرين من بعض المذاهب البدائية: إن الساحر يقدر على ما يقدر عليه الأنبياء إلا أنه لا يدعي النبوة! فهذا كذب وباطل، فإن هذا يؤدي إلى الطعن في معجزات الأنبياء، فضلاً أن الله سبحانه وتعالى ما جعل السحر أبداً يقوم مقام المعجزة، فإنما المعجزة أمر لا يقدر عليه البشر، وإنما يجريه الله على أيدي أنبيائه، ويمكن أن يجري نحواً منه على أيدي الأولياء تصديقاً للأنبياء. وإثبات الكرامات لأولياء الله من عقيدة أهل السنة، وقد غلا بعض المنتسبين إلى بعض دعوات التوحيد حتى وصل إلى إنكار الكرامات، لينفي غلو الصوفية في الأولياء، وليس الأمر كذلك، فليس التكذيب بالحق يكون دليلاً لإبطال الغلو، بل ننهى عن الغلو، ونثبت الكرامة، كما دلت على ذلك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما ورد في قصة مريم عليها السلام أنها كانت تجد فاكهة في غير وقتها كما ورد ذلك في التفسير، وفي قصة موسى عندما أوحى الله إلى أمه بأنه سوف يحفظه ويرده إليها ويجعله من المرسلين، فهذا من أنواع الإخبار والكشوف، وهي ليست نبيه عند عامة أهل العلم. وفي السنة من حديث عبد الله بن أبي بكر: أنهم كانوا لا يرفعون لقمة من أسفلها إلا ربت من أسفلها أكثر منها. وفي أنواع العلوم والمكاشفات ورد في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي فإنه عمر)، وفي البخاري أيضاً قصة خبيب بن عدي رضي الله عنه حين كان مأسوراً بمكة، ووجدته بعض بنات الحارث يوماً يأكل قطفاً من عنب بيده، وإنه لموثق بالحديد، وما بمكة من ثمره! فالأحاديث في كرامات الأولياء متواترة، وقصة أهل الكهف من الأدلة على ذلك، وأخيار هذه الأمة من الصحابة والتابعين قصصهم في ذلك كثيرة، وإن كان أعلى الكشف هو الكشف عن الحق، وأعلى أنواع التوفيق في القدرة أن يوفق الإنسان للطاعة والعبادة، وأعلى الإلهام أن يلهم الإنسان رشده. لذلك نقول: إن كرامات الأولياء ثابتة، وهي حق، وحديثنا يدل عليها، ويمكن أن يجري شيء منها بعد الموت، وهذا ليس من فعل الولي وتدبيره وتصريفه، ولكن نعني بذلك أن الله عز وجل يحفظ بدنه مثلاً من التحلل ويحميه من أيدي الأعداء، كما في قصة عاصم رضي الله عنه حين أرسل الله الزنابير فحمت جثته، فما استطاع الأعداء أن يصلوا إليها، ثم إن السيل جاء فأخذها فلم يستطيعوا الوصول إليها، وكرامات الشهداء ببقاء أجسادهم سنين كما في قصة عبد الله بن حرام، والد جابر رضي الله تعالى عنه. فالمقصود أن الكرامة لا تتحقق لمبتدع ضال، أو مشرك يدعو غير الله، وما يجري له من خوارق العادات كالإمساك بالثعابين، وضرب النفس بالسلاح، ودخول النار، كما هو مشهور عن أتباع الطريقة الرفاعية وغيرهم، فهو مما يفعله الشيطان بهم ليلبس أمرهم على الناس، ويكون ذريعة إلى الشرك، فمنهم من يكون تاركاً للصلاة، داعياً غير الله، صارفاً العبادات من الذبح والنذر لغير الله، وهو يزعم أن ذلك من كرامات الولي الذي يتبع طريقته، وقد اغتر بعض المعاصرين بذلك، فقال: هذه من كرامات الولي الأصلي، وهذا كلام الأستاذ سعيد حوى في (تربيتنا الروحية) فهو يقر بأن بعض هؤلاء ربما لا يصلي وفاجر في أخلاقه وسلوكه، ومع ذلك يجعلها كرامة للشيخ الرفاعي! فهذا كله من الجهل، فإن هذا لا يعتبر من أتباعه بمجرد الانتساب، فلو كان الرفاعي ولياً من أولياء الله الصالحين، فهذا المبتدع لا يكون من أتباعه؛ لأنه فاسق وفاجر وتارك للصلاة وفاعل للفواحش، فهذا كله من تلبيس الشيطان. وليس إثبات الكرامة بعد الموت يعني أننا نطلب من الأولياء قضاء الحاجات، أو كشف الكربات، بل كما قال الله عز وجل: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة). فالكرامة شيء يكرمهم الله به، وليس سبباً لجواز سؤالهم، وطلب قضاء الحاجات منهم بعد موتهم أو في عدم حضورهم. ويلزم التنبيه في هذا المقام إلى أن الإلهام والكشف في حق الولي ليس بمعصوم، بل يحتمل الخطأ والصواب، فنحن نعتبر الكشف والإلهام من أنواع العلوم والمكاشفات، ولكن ليس هذا هو الكشف المعصوم، وبالتالي فهو قابل للخطأ والصواب، وكذا الإلهام، فلابد أن يعرض على الكتاب والسنة، فسيد الملهمين عمر رضي الله عنه أخطأ يوم الحديبية، وكان ما حدثته به نفسه وسوسة، وقد عمل لها أعمالاً ليكفرها، ولم يحتج عمر على أحد من الصحابة في أي مسألة بأنه محدث أو ملهم، فالإلهام والكشف والرؤى ليس حجة شرعية يصح العمل بها، لكن قد يستأنس بها، ووقوع خوارق العادات لأحد الأولياء لا يعني عصمته أو صحة كل ما يقول به، فلا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [3]

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [3] إن من سنن الله تعالى الثابتة والمستمرة سنة الابتلاء والاختبار، حتى تتمايز الصفوف ويعرف الصادق من الكاذب، والناس يبتلون على قدر إيمانهم، فمن اشتد دينه اشتد بلاؤه، فلا يكون هذا البلاء إلا لمن علم الله منه إخلاصاً وصدقاً ومحبة، وهذا هو الذي يمكن له في الأرض ويستخلف فيها.

أثر أعمال القلوب في السبق إلى الله

أثر أعمال القلوب في السبق إلى الله إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم في تكملة قصة الغلام مع الراهب: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي). هذا الراهب المخلص لله عز وجل المربي الفاضل بسلوكه قبل قوله -رحمه الله تعالى وغفر له! - نرى في قصته قدوة لكل مربٍ وداعية وأستاذ. فلقد علم هذا الراهب أن الغلام قد صار من أولياء الله الصالحين رغم أنه تعلم على يديه، وأنه أصغر منه سناً، ورغم أن الراهب أسبق منه التزاماً بالطاعة، وعمره في الطاعة أضعاف عمر الغلام، ومع ذلك أدرك أنه سبقه إلى الله عز وجل بكمال الصدق والإخلاص والمحبة لله سبحانه وتعالى، فأعمال القلوب هي التي يسير بها السابقون إلى الله عز وجل، فيسبقون غيرهم ممن تقدمهم في العمر، أو كان أكثر منهم عبادة لله، أو أكثر علماً، بل ربما يكون أحدهم أستاذاً لهؤلاء الصالحين، ومع ذلك يسبقونهم إلى الله عز وجل، لما جعله الله سبحانه وتعالى في قلوبهم من محبته، ورجائه، وتعظيمه، وتعظيم شرعه، واللجوء إليه، وغير ذلك من أنواع العبادات القلبية. فلم يتكبر هذا الراهب ولم يحقد ولم يمن، ولم يقل: كيف يكون تلميذي أسبق مني؟ وكيف يرفع فوقي؟ وإنما قال له: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، فلم ينظر إلى سبقه وطول عبادته، ولا نظر إلى سنه وصغر سن الغلام، ولا إلى أنه الأستاذ والغلام التلميذ، ولا وقع في نفسه خطيئة إبليس حين قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12] التي هي أصل أخطر أمراض القلوب، ومن أعظم أسباب الكفر والعناد، والعياذ بالله! ونرى هنا أيضاً أن السبق إلى الله تعالى لا يرتبط بالسن وطول زمن العمل أو كثرته، أو سبق الالتزام؛ بقدر ما يرتبط بحال القلب وسلامته، وما يقوم به من العبودية لله تعالى: من الحب والإخلاص والخوف والرجاء والشوق إليه، وصدق اليقين والتوكل، وغيرها من عبادات القلب. وهذه أمة الإسلام أقصر أعماراً وأضعف أجساماً من الأمم السابقة، وهي أفضل الأمم عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وفي قوله: (أي بني) تلطف وتحبب إلى ذلك الغلام، وذلك مع اعترافه له بالفضل، وذلك أنه ظهر منه نفع عام للناس، ولا شك أن النفع العام مقدم على النفع الخاص. فهو له في العبادة سنون ومع ذلك ما استطاع أن يؤثر في أحد من أهل بلده إلا هذا الغلام، وهذا الغلام نفع الناس جميعاً في موقف واحد، وهذه مقدمة في أن ينفعهم فيما هو أعظم وأهم وهو إصلاح قلوبهم، وذلك بعد أن ساهم في إصلاح دنياهم بقتل الدابة، فهو لا شك سوف يقتل الطاغوت في قلوبهم أيضاً، وسيسعى إلى أن يمضوا في طريقهم إلى الله عز وجل كما مضوا في مصالحهم الدنيوية، وذلك حال كل ناصح شفيق. كما أن علامات الولاية ظهرت في إجابة الدعوة، وفي خرق العادة له بقتل هذه الدابة حين دعا الله عز وجل. وفي إخبار الغلام له إشعار بمدى الفرح الذي حصل للغلام بإجابة دعوته، فذهب يبشر ذلك الراهب لأن أمره أحب إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يذهب ليخبر ذلك الساحر مثلاً ويقول له: قد ظهر كذا وكذا، وإنما ذهب ليبشر الراهب؛ فكان الجواب الطيب اللطيف: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني).

الأثر التربوي لنداء الصغير بلفظ (يا بني)

الأثر التربوي لنداء الصغير بلفظ (يا بني) قوله: (أي بني) هذا اللفظ التربوي يستعمل للإشعار بالعلاقة الطيبة بين الكبير والصغير، حتى ولو لم يكن ابنه من النسب. و (بني) تصغير (ابني)، وهو يدل على الشفقة التامة والمحبة، واستعمال هذا الأسلوب من هدي الأنبياء، قال عز وجل عن يعقوب: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف:5]. وقال تعالى عنه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]. وقال عز وجل عن إبراهيم: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]. وقال عز وجل عن لقمان وهو يعظ ابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس: (يا بني!) فهذه الكلمة الطيبة تأخذ بقلب الشخص المربى، وتشعره بعلاقة الأبوة والحنان، وأنه ليس في ثكنة عسكرية يسمع الأوامر والنواهي والزجر الدائم المستمر دون رقة. وهذه العلاقة العظيمة قد جعلها الله فطرة في القلوب، وأمر سبحانه وتعالى بمراعاتها شرعاً، ففي الحديث: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه).

الابتلاء سنة ماضية لله عز وجل في عباده المؤمنين

الابتلاء سنة ماضية لله عز وجل في عباده المؤمنين قال: (أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، فقد عرف الراهب هذا الأمر؛ لأنه سنة ماضية، وليس كشفاً للغيب، فكل من سلك طريق الإيمان -وخصوصاً طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى- فلا بد أن يبتلى، قال عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، وقال عليه الصلاة والسلام: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل). وهذه السنة الكونية أخبر الشرع بها، والبلاء قد يكون بالشدة، وقد يكون بالرخاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، وفائدة معرفة هذه السنة الكونية هي جعل المؤمن على استعداد لمواجهة البلاء، فيوطن النفس بذلك على الصبر والرضا، ويبعدها عن اليأس عند وقوع البلاء، فالمسلم يعرف أن البلاء موجود، فإذا وقع فلا ييأس، وربما قد يطول، وقد تكون الأمور شاقة، فإذا وطنت نفسك على تحمل المشاق، وإذا وطنت نفسك عند الرخاء ألا تغرك الحياة الدنيا بزخرفها، وأن تكون على حذر من الوقوع في أمواج فتنها، فإنك تخرج من البلاء معافى. فلابد أن تعرف النفس مقدماً أن البلاء والأذى مرحلة من المراحل التي لابد أن تمر بها الدعوة والدعاة، بل والمؤمنون بصفة عامة، سواء كانوا من الدعاة أم من غيرهم، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} [العنكبوت:2]، حتى ولو لم يكن داعية، فلا تظن أن الدعاة فقط هم الذين يبتلون، فقد تعرض هذا الراهب للابتلاء، ولكن أسبق منه في البلاء الذي يدعو إلى الله عز وجل، وبعد هذه المرحلة يكون الفرج من عنده سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]. وفيه أنه ينبغي للمعلم أن يعلم تلامذته أن طريق الدعوة ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق مفروش بالأشواك والآلام، وإن كانت لذة القرب من الله ومحبته والشوق إلى لقائه، مع ما ينزله عز وجل من صبر عند المصائب والبلايا، تجعل المؤمنين لا يشعرون بهذه الآلام والمحن، بل ربما يستعذبونها في ذات الله عز وجل، وهذا أمر لا يحصل إلا إذا وطن الإنسان نفسه عليه، ولم يتضجر عندما ينزل به بلاء، ولم يفر ولم يضق صدره به، ولم يترك الطريق إذا نزل به البلاء؛ لأنها سنة ماضية جعلها الله علامة تدل على صدق إيمانه أو كذبه، وهو يعلم بأن الله عز وجل إذا أخرجه منها صابراً سائراً على طريقه، مستمراً في لزوم الحق، فهذا يدل على منزلته العظيمة عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، فهذا يدلنا على منزلة هذا الأمر العظيم عند الله عز وجل. ونجد في هذا الجزء من القصة أيضاً: أن هذا الراهب كان يعرف أنه سيقع بلاء كما ذكرنا؛ لأنه من السنن الكونية، لكن هل يطلب ذلك البلاء؟ أم يسعى الإنسان ليفر منه؟

النهي عن طلب البلاء والفرار منه مشروع مع الثبات في المواجهة

النهي عن طلب البلاء والفرار منه مشروع مع الثبات في المواجهة إن الشرع يأمرنا أن نسأل الله العافية، لذلك لا يشرع لنا طلب البلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وسلوا الله العافية) ولذلك نقول: إن سؤال الله عز وجل العافية هو مما أمر به الشرع، ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للبلاء فتعريض النفس للبلاء، والمجازفة بها، وقول الإنسان: إنه لا يهمه البلاء، نوع من الغرور، والإعجاب بالنفس، والثقة الزائدة بها، وهذا أمر خطير للغاية، فهذا يدل على وجود أمراض كامنة في القلب ربما كانت سبباً لعدم التوفيق وعدم الثبات، وكانت سبباً لحصول الخذلان والعياذ بالله! فالأمر الذي أمرنا به من سؤال الله العافية هو الأمر الشرعي، ووقوع البلاء أمر قدري كوني، يجري علينا بغير طلبنا، فإذا وقع فعلى الإنسان ألّا يترك الواجب، وألّا يفعل المحرمات إلا عند الإكراه، ولا يكون كالذي قال الله عز وجل فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت:140 - 11]. ولذلك نقول: إن الفرار من البلاء مشروع، فإذا وقع فعلى المرء أن يثبت، وليقدم على الجهاد الذي أمر الله به، ولذا جاء في الحديث: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)، فأنت تؤدي واجباً فلا تفر من المعركة فراراً من البلاء، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49]. فلذلك نقول: إن الإنسان لا يتعرض للبلاء بنفسه، بل يجب عليه أن يسير في طريق الحق ملتزماً بالواجبات، تاركاً للمحرمات، سائلاً الله العافية، فإذا وقع البلاء ثبت، ولا يقول: أنا لا يهمني شيء، وأنا لا أعبأ بهذا البلاء، فهذا كلام خطير -كما ذكرنا- يدل على أنواع من الأمراض القلبية.

أنواع الناس مع البلاء

أنواع الناس مع البلاء والناس هنا ثلاثة أقسام: طرفان ووسط، فطرف في سبيل الهروب من المحنة فإنه يوالي أهل الباطل، ويوافقهم، ويتابعهم، ويترك ما أوجب الله عليه من مفارقتهم، ومعاداتهم، والقيام بالحق في وجوهم، أو يفعل ما حرم الله عليه من المعاصي طاعة لهم. وطرف آخر يطلب البلاء بنفسه، ويدفع إليه بعمله، ويظن أنه يربي نفسه ويؤدبها، وقد وقع وهو لا يشعر في شراك العجب والغرور، وغاب عنه أن خليل الله عليه الصلاة والسلام قال عن سارة: إنها أخته؛ لكي لا يتعرض للبلاء، وهو نوع من التعريض، وأن نبي الله موسى أخبر الله عنه فقال: {خَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]. وتحضرنا قصة ذلك الذي كان يقول في دعائه عازماً على الرضا: كيفما شئت فابتلني! فكان يظن أنه على أي حال فلن يضره، وسوف يكون راضياً على كل حال، فسأل الله أن يبتليه كما شاء، وهذا مخالف للشرع؛ فابتلي بالبواسير، فكان يمر على الصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لشيخكم الكذاب! فيطلب منهم الدعاء له بالشفاء؛ لأنه أصبح في منتهى التعب والبلاء، وعندما نزل به البلاء ما استطاع تحمله والصبر عليه، فكان يطلب منهم أن يدعوا له بالشفاء، وكان يسمي نفسه الكذاب، نسأل الله عز وجل أن يبعدنا عن العجب والغرور. وأما الوسط فهم أهل الحق والاتباع، فعلموا بوقوع البلاء قدراً، والتزموا بعدم طلبه وتمنيه شرعاً، وصبروا أعظم الصبر عند نزوله، كما فعل هذا الراهب الصالح، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

استعمال السرية في الدعوة للحاجة

استعمال السرية في الدعوة للحاجة وفي هذا القول من الراهب استعمال للكتمان في بعض أمور الدعوة، فليس كل شيء قابل للإعلان والنشر، فقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة في السر مدة ثلاث سنين إلى أن تمكن من الجهر بها، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، ولا شك أن الأصل في الدعوة الجهر ما أمكن ذلك؛ لكن قد يطرأ من بطش الطغاة وظلمهم ما يقتضي الإسرار بها إلى حين زوال خطر استئصال الدعوة، وأيضاً يستعمل الكتمان بالدعوة بعد الجهر بها في المواطن التي يخشى معها ويحذر من إذاعتها، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا} فذمهم الله على إذاعة الأمر، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم السعدين إذا رجعا من بني قريظة بما يسر المسلمين من بقائهم على العهد أن يعلنا ذلك، وإذا رجعا عن نقضهم العهد أن يلحنا له لحناً يفهمه ولا يعلنا ذلك للناس؛ لأن كثيراً من الناس لن يتحمل قلبه ذلك البلاء، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الكتمان أحياناً حتى بعد التمكين والجهر بالدعوة، وهذا يكون حسب المصلحة. فلا شك أن صفة من يذيع كل ما يسمع، أو يزعم أنه لا يصلح الكتمان نهائياً، لا شك أن هذه صفة من لم تهذبه التربية الإيمانية، فلا يدري ما يعلن وما يسر، وهذا النوع من أخطر الناس على الدعوة والدعاة، خصوصاً إذا قيل لهم عن أمر: إنه سر، فيبقى الواحد منهم قلقاً حتى يبوح به، فينتشر الخبر، بل إذا أردت أن تنشر خبراً ما فقل لواحد منهم: إن هذا سر، فسوف يظل قلقاً؛ لأنه ليس عنده التربية الإيمانية التي تجعله يكتم هذا الأمر، وهذا يقع ممن عنده ضعف التربية، وهذا لا يصلح أبداً أن تستعمل معه الكتمان أو تسر إليه بأمور، فإن ذلك يترتب عليه إعلانها بالتأكيد. فانظر إلى نوعية ذلك الرجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذلك الذي من شيعته، الذي استصرخ موسى واستغاث به، وهو الذي رأى أن موسى هو الذي قتل ذلك الفرعوني، وهو الذي باح بالسر، فكان هذا الإسرائيلي المشاغب الغوي المبين سبباً في إفشاء سر موسى عليه الصلاة والسلام، حين قال له: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19] فسمعها الفرعوني ولم يكن قد شهد وقعة الأمس، ولم يكن قد شهد الوقعة غير موسى والإسرائيلي، فذاع الخبر، واضطر موسى للخروج من مصر فراراً بنفسه ودينه. فالواجب هو الرجوع إلى أهل العلم أولاً قبل نشر أو إشاعة أي أمر كما أمر الله، وإن كان الأصل أن يكون علنياً، إذ بالبيان يقوم الحق، وتظهر الحجة، ولا يلجأ إلى الكتمان إلا عند العجز أو الضرورة، أو المصلحة الراجحة. وقوله: (وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل علي) يعني: لا تخبرهم باسمي، ولا تخبرهم أني أنا الذي علمتك ذلك؛ قال له هذا لأنه يعلم أنهم سوف يبحثون عمن علمه هذا، فلن يكون قد تعلمه من فراغ، بل لا بد أن يكون قد التزم مع صاحب، ولا بد أن يكون قد التزم مع شيخ، فأين هذا الشيخ؟ ومن أين علمت هذا الكلام؟ فسوف يظلون يبحثون حتى يصلوا إلى معرفة الحقيقة.

أدب التداوي

أدب التداوي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء) الأكمه هو: من ولد أعمى، وهذا أبعد في أن يشفى، والأبرص هو من به برص، وهو: مرض جلدي معروف، ولا يوجد شفاء منه إلى الآن، فكان يداوي الناس من سائر الأدواء، وذلك بدعاء صادق إلى الله عز وجل، فيستجيب الله عز وجل دعاءه. وهذه كرامات متعددة لهذا الغلام، وفي الحديث أدب التداوي، وهو هنا عن طريق الدعاء، وليس في هذا منافاة للتوكل، ولا للرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، وإن كان طلب الدعاء من الغير في أمر شفاء الأمراض الأولى تركه، وتركه من كمال التوكل المستحب، وأما أن يدعو بنفسه لنفسه فلا يضر، أو يدعو له غيره من غير طلب منه فلا يضر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السوداء التي كانت تصرع: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك، فقالت: أصبر) فلما قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف، دعا لها، ولم يقل لها: اصبري ولك الجنة، وهذا دليل على أن طلب الدعاء في الأمور الدنيوية خلاف الأولى، أو حتى يكون الإنسان من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فينبغي ألا يطلب الإنسان الدعاء من غيره في الأمور الدنيوية، وأما الأمور الدينية من الطاعة والستر ونحو ذلك، فالمرأة كانت تتكشف فطلبت من الرسول أن يدعو لها، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن أويس القرني: (فإن استطعتم أن يستغفر لكم فمروه فليستغفر لكم) وهذا أمر به الصحابة الذين هم أفضل من أويس، كـ عمر رضي الله عنه، وليس في هذا منافاة للتوكل المستحب؛ لأنه في أمر ديني يريد أن يتقرب به إلى الله عز وجل.

حكم التداوي

حكم التداوي إن التداوي عموماً الأصل فيه الاستحباب، وقد يكون واجباً في بعض الأحيان وذلك إذا غلب على الظن الهلاك، أو فساد عضو من الأعضاء، أو العجز عن أداء الواجبات، مع غلبة الظن بالشفاء، والمرض متفاوت بلا شك، فهناك أنواع من الأمراض وأنواع من الأدوية. فنقول: إن هناك بعض الأحوال يكون التداوي فيها واجباً؛ كمن يعلم -مثلاً- أنه إذا لم يوقف النزيف بأنواع العلاجات استمر حتى يموت، فهذا لا يجوز له ترك التداوي، فما كان فيه إنقاذ للحياة بسرعة فلا يجوز أن يترك، والأغلب في أنواع التداوي عدم وصولها إلى هذا الحد، وهو غلبة الظن بحصول الهلاك عند تركه، وغلبة الظن بحصول السلامة عند استعماله، فأغلب الأدوية إنما هي أقل من ذلك، فلذلك نقول: هي مستحبة وليست واجبة؛ لأنه ليس هناك يقين على أن بقاء الحياة يستمر بغير ذلك. وأما التداوي بطلب الدعاء فالأولى تركه، كما تدل عليه قصة الأعمى، وقصة المرأة السوداء، وأما من احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) في وصف السبعين ألفاً على استحباب ترك التداوي مطلقاً، فهو استعمل دليلاً أخص من الدعوى، فالدليل هنا خاص بالاسترقاء والكي وليس في كل أنواع التداوي، فطلب الرقية غير طلب الدعاء من الغير، وهذا خلاف الأولى كما ذكرنا في الأمور الدنيوية. فالأرجح أن التداوي مطلقاً هو الأفضل، وكذا الكي، قال صلى الله عليه وسلم: (وما أحب أن أكتوي) وقال: (وأنهى أمتي عن الكي) أي: نهي تنزيه، واستعمله عليه الصلاة والسلام مع بعض أصحابه، وقد يكون هناك تداوٍ بمحرم، كشرب خمر أو أكل لحم خنزير أو غير ذلك، فهذا محرم بلا ريب، إلا عند الضرورة المهلكة، أي: التي يجد فيها الهلاك، كإساغة الإنسان اللقمة التي وقفت في حلقه فمنعت النفس، وليس أمامه إلا الخمر، فهذه ضرورة؛ لأن الإنسان سيموت إذا لم يتنفس، فإساغة هذه اللقمة سوف يمررها بعيداً عن مجرى النفَس، فمثل هذا الذي ضربه العلماء مثلاً لهذا الباب يجوز. وهذا الذي فعله الناس من طلب الدعاء من الغلام يدل على أنهم كانوا أصلاً لم يحققوا كمال التوحيد، بل أكثرهم كان كافراً قبل أن يؤمن على يد هذا الغلام. ونذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الباب وهو: أن طلب الدعاء من الغير مطلقاً خلاف الأولى ليس بصواب، بل لا بد من التفصيل الذي ذكرنا، فإن عكاشة بن محصن رضي الله عنه وهو واحد من السبعين ألفاً الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فقال: (ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: اللهم اجعله منهم) ولم يقل له: كيف تسأل هذا؟ إذا كنت تريد أن تكون من السبعين ألفاً فلا تسأل، فالظاهر أنه يفرق بين الأمر الديني والدنيوي، فالأمر الديني يجوز أن تسأل، بل يستحب أن تسأل، ولا يكره أن تسأل غيرك الدعاء، وأما الأمر الدنيوي كنجاح في الامتحان وكشفاء من مرض ونحو ذلك، فسل الله بنفسك، ولا تطلب من غيرك -ولو كان من الصالحين- أن يدعو لك.

وجوب ربط الناس عند علاجهم بالله عز وجل وعدم التعلق بالدنيا

وجوب ربط الناس عند علاجهم بالله عز وجل وعدم التعلق بالدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فشفاه الله تعالى) يعني: أن جليساً من جلساء الملك من الطبقة المترفة سمع -بعد أن أصيب بالعمى- بغلام يداوي الناس من سائر الأدواء ويشفى، هكذا تناقل الناس: أن الغلام يشفي. وهذا من أمراضهم القلبية التي هي أخطر من أمراضهم الجسدية، فهذا الجليس كان يفكر بطريقة مادية محضة، وهي أن الهدايا الكثيرة والمال تشتري كل شيء، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الغلام مثله مثل طبقته الذين لا يعرفون إلا لغة والسعي من أجله، نعم هو كذلك عند أكثر الناس، فأكثرهم يقولون: المال هو عصب الحياة، وليس كذلك عندنا، بل المال هذا كالنعل التي تلبسها، فيجب أن يكون كذلك. فهذه الطبقة تظن أن كل شيء يمكن أن يحصل بالمال، فأتاه بهدايا كثيرة، وقال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) وكلمة (أجمع) تدل على أنه يراه كثيراً جداً، ويرغبه بهذه الكلمة، ولا شك أنه ينظر إليه بنظرة معظمة، فهذه الكلمة تدل على شعوره بأن هذا عظيم الشأن كبير القدر، وهذا حال أكثر الناس، فلا ميزان عندهم إلا بالمال، ولا غنى عندهم إلا به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) فغنى النفس يكون بالله سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي يسد فقر الآدمي وحاجته، وأما غناه بعرض الدنيا فهو الفقر بعينه. وهذا الغلام لم يلتفت إلى هذا الذي أتى به ذلك الجليس أدنى التفات، فلم يقل له: ما هذه الدنيا التافهة التي تريد أن تغرني وتغريني بها، أو ترغبني فيها؟ ولم يقل له: إن هذا كثير منك، وإنه لشعور طيب أن تأتيني بهذا كله، أو نحو ذلك، وإنما أعرض عن هذا بالكلية، والتفت إلى الكلمة الخطيرة المؤثرة في كلامه، حيث قال: (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى) وذلك حين قال له: (إن أنت شفيتني)، فنبهه بذلك إلى الخطر الأعظم. فموقفه من الهدايا موقف رائع وعظيم، وهو يدلنا على ما ينبغي أن تكون عليه الدنيا في قلوبنا، وهو إسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، فنسكت عنها بالكلية من القلب. وهكذا يجب على الدعاة أن يجعلوا الدنيا لا قيمة لها في دعوتهم، ولا بد لهم من هدم الميزان الفاسد: ميزان تعظيم من ملكها واحتقار من فقدها، فالمجتمع الذي يريدون بناءه لا يُقبل فيه هذا الميزان الذي ضل بسببه أكثر الأمم قديماً وحديثاً من عهد نوح عليه السلام وإلى زماننا، حيث قال قوم نوح له: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود:27]، وكل الرسل كان أغلب أتباعهم من الضعفاء والفقراء، كما قال هرقل عندما سأل أبا سفيان: أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الأنبياء، فأمم كثيرة ضلت بسبب تعظيم المال. فلا بد أن تربى الطائفة المؤمنة منذ نشأتها على عدم الاهتمام بالمال، ولا يحتاج الأمر إلى ذمه لكي تتشفى النفوس من تركه؛ لأن الإنسان إذا فاته شيء يريد أن يشتفي منه، ويريد أن يصبر نفسه عنه، ويقنعها بأنها تركت شيئاً حقيراً تافهاً، فيظل يذمه؛ لكي يصغره في قلبه، وذمه هذا دليل على منزلته عنده، ولذلك ما أحسن ما قال الهروي في حقيقة فقر الزهاد قال: نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً، وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أو تركاً. ويكون نفض اليدين من الدنيا ضبطاً -أي: بخلاً بها- عندما تكون موجودة، أو طلباً -أي: بحثاً عنها- عندما تكون مفقودة، فالبخل هو الحرص، فيحرص عندما يتطلع في الشيء الذي ليس بموجود، فيرغب في الموجود ويمسكه. وقوله: (وإسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً) أي: يسكت اللسان عنها لأنها لا قيمة لها، فهل عندما يمر إنسان بدجاجة ميتة قد تعفنت يرجع إلى أهله ويقول: لقد رأيت دجاجة متعفنة وقد تركتها؛ لأنها كانت رائحتها كريهة؟! كلا، ولو ظل يتكلم بهذا فسيقولون له: لماذا تتكلم في هذا؟ ولماذا تذكر لنا هذه الأشياء التي لا تفيد شيئاً؟ لكنه لا يتكلم إلا بما له وزن عنده، ولذلك لن يذم إلا ما يريد أن يتشفى من تركه، بمعنى: أنه يريد أن يعوض نفسه؛ يقول لها: أنت أعز من ذلك، ولذلك عقب الكلام بقوله: والسلامة منها طلباً أو تركاً. والنبي صلى الله عليه وسلم (ذكر أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة)، فهل إذا جلسنا في مجالسنا نقول: إن جناح البعوضة شيء يسير ونحو ذلك؟ كلا. فلنعلم فعلاً أن ذم الدنيا إنما نستعمله لأنها أكبر بكثير من حقيقتها في نفوسنا، ونذمها ونقول: إنها حقيرة وتافهة ولا تساوي شيئاً؛ لأنها في نفوسنا ما زال لها قيمة، وأما جناح البعوضة فمن في مجالسنا يشغل نفسه بالبعوض نفسه فضلاً عن جناح البعوض؟ أو الجدي الأسك الميت، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه حين قال: (للدنيا أهون عند الله من هذا عليكم). ولذلك عقب الكلام بقوله: (والسلامة منها طلباً) يعني: السلامة من طلبها، فلا يطلبها الإنسان؛ فإنه عندما يتركها يسلم منها، وهذا فعلاً علامة الغنى بالله، والاستغناء عن الدنيا؛ لأن بعض الناس قد يتركها ولكنه لا يسلم منها، بمعنى: أنه يتشرف بتركه، ويتشرف بزهده، ويرى أنه ترك شيئاً كبيراً لله عز وجل، فهو لم يخلص في زهده. وكما ذكرنا في المثل الذي نحن بصدده: لا يرجع أحد إلى أهل بيته ويقول: قد كانت أمامي بعوضة فتركتها، أو قد كان أمامي دجاجة ميتة فتركتها، ومثل هذا تماماً من يقول: كان أمامي المال الحرام مفتوحاً علي فما رضيت أن آخذه، فإن هذا دليل على أنه ما زال يعظم الأمر هذا؛ لأنه لو كان فعلاً لا يساوي عنده جناح بعوضة لما قال: كان أمامي. ومثل هذا من يقول: أمامي عمل كثير، وممكن أن آتي بفلوس من أي مكان، لكني تركت ذلك من أجل طلب العلم، أو من أجل الدعوة، أو من أجل الجهاد! فمثل هذا لا زال يعظم الدنيا في قلبه. والكلام هذا كله جاء بسبب ذكر هذا الغلام الذي لم يأت بسيرة الهدايا، بل أعرض عنها ولم يلتفت إليها؛ فإن جليس الملك قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني) فلم يقل له: أنا لا أريد الهدايا هذه، بل أهملها بالكلية، وقال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفى الله تعالى).

أهمية التحذير من الغلو في الصالحين

أهمية التحذير من الغلو في الصالحين أيضاً نلحظ في هذا الجزء من القصة أن الناس من عادتهم الغلو في الصالحين، فإن هؤلاء كانوا يقولون: الغلام يشفي، فلا بد أن ينتبه الداعية إلى الله إلى تحرير الناس من هذا الغلو فيه وفي غيره؛ فإن سبب البلاء الذي دخل على كثير من الأمم هو الغلو في الصالحين، وقد يكونون صالحين بالفعل؛ ولكن بسبب الغلو وعدم التحذير منه من الصالحين أنفسهم يحصل ذلك الفساد. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الغلو فيه، فيقول: (إياكم والغلو!) ويقول: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله). وأهل العلم حذروا من تقليدهم، ومن الغلو فيهم، فلا بد أن يعالج الداعي إلى الله عز وجل هذا المرض قبل أن يصل بعض الناس إلى حد تأليه الصالحين وعبادتهم من دون الله، فهذا الغلام قبل أن يقول أي كلمة قال: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى)، فبدأ بتقرير التوحيد ومحاربة الغلو، وبيان حقيقة عبوديته لله سبحانه وتعالى، ولذا قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، أي: أنا أطلب من الله، فأنا عبد سائل ولست أنا الذي أفعل. ولا يروج على الداعية أن يظن أنه يمكنه أن يستغل غلو الناس فيه في دعوتهم إلى الالتزام بالحق الذي يقوله لهم؛ لأنهم إن قبلوا الحق لأجله هو لا لأنه الحق لم ينفعهم ذلك، ويوشك أن يتحولوا عنه إلى الباطل بمجرد غيابه هو عنهم، فالحقيقة أنهم عبدوه هو ولم يعبدوا الله، والواجب أن يعبدهم لله وحده. وتأمل عظم موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين مات النبي صلى الله عليه وسلم فقام في الناس فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، وبهذا حفظ الله الإسلام واستمرت دعوة التوحيد. فـ أبو بكر رضي الله عنه لما قال: (من كان يعبد محمداً) لم يوجد أحد يقول: نحن نعبد محمداً، ولكن لأجل أن الناس تصوروا أنه يمكن أن تذل أو تضمحل دعوة الحق بغير الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمى أبو بكر من يظن ذلك عابداً للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات)، يعني: لا يعلق أحد التزامه بالدين على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، بل لا بد أن تلتزموا في حياته وبعد وفاته بهذا الدين الذي جاء به؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع أنه لا يوجد من يحب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لكنه كان يؤمن بدعوة التوحيد، ويعبد الله وحده لا شريك له.

أهمية استغلال الداعية حاجة الناس الدنيوية لإيصال الحق إليهم

أهمية استغلال الداعية حاجة الناس الدنيوية لإيصال الحق إليهم نلحظ أيضاً الفقه العظيم في هذا الغلام في استغلال فرصة احتياج الناس إليه في أمور دنياهم، ليوصل إليهم دعوة الحق، ويسد احتياجهم الأشد إلى أمور دينهم وأخراهم، ويجعل علاج أمراضهم الظاهرة -وهي التي يسعون لعلاجها والتخلص من ضررها- وسيلة لعلاج أمراضهم الباطنة، وهي أمراض القلوب، وأعظمها خطراً الكفر والنفاق، وهي التي لا يسعون إلى علاجها، ولا يشعرون بوجودها وضررها، مع أنها أضر عليهم. فعمى القلب أخطر من عمى البصر، ومع ذلك فالناس إنما يبحثون عن علاج عمى الأبصار، ولا يبحثون عن علاج عمى القلوب، بل ربما ماتت القلوب ولم يبحث أصحابها عن طبيب في حياتهم، وهل هناك وجه للمقارنة بين ضرر المرض الظاهر -وهو إن استمر وأزمن أضر بالإنسان في لحظات وساعات أو قل في سنوات- وبين ضرر المرض الباطن الذي إن لقي العبد ربه به أضر به في النار أبد الآبدين؟! ومع ذلك أكثر الناس لا يبحثون عن دواء لأمراض قلوبهم، وبسبب مرض بسيط يذهب الواحد منهم إلى الطبيب خصوصاً في زماننا الذي كثر فيه الذهاب إلى الطبيب لأدنى سبب، أما أن يبحث الإنسان عن أمراض قلبه ويبحث لها عن طبيب، فإنها تكاد تقتل؛ بل قد قتلت، فإنك لا تجد من يداوي قلبه إلا من رحم الله. فالداعية الشفيق يجعل حاجة الناس في دنياهم سلماً للوصول إلى غايته في إصلاح أخراهم، ويمكنه أن يشترط عليهم ألا يقضي حاجتهم التي يقضيها الله عز وجل عن طريقه إلا بأن يلتزموا بالإيمان والطاعة، ويكون مثل هذا الغلام الذي قال: (فإن آمنت بالله دعوت الله لك فشفاك)، يشارطه: إن تؤمن أدع لك، وإن تؤمن أقض لك الحاجة. وأم سليم حين خطبها أبو طلحة وهو كافر جعلت مهرها إسلامه، فأسلم صدقاً، فتزوجته، واعجب بهذا الموقف الرائع! إنها امرأة عظيمة الحب لدينها، فقد جعلته يغير موازينه بالفعل، ولم يسلم من أجلها، ولم يسم -مثلاً- مسلم أم سليم كما كان مهاجر أم قيس، لم يسم كذلك، بل كان من أصدق الأنصار إيماناً والتزاماً وإخلاصاً؛ ولكن موقفها غير موازينه، فإنه كان يعرض مهراً وهو رضي الله عنه من الأغنياء، لكن موقف أم سليم أنها ما تريد إلا إسلامه، وأنه لا يرد لولا كفره، جعله يسلم من أجل ذلك صدقاً، وتزوجها وتزوجته فكان إسلامه مهرها، ونعم المهر كان! ولا يضر الناس ولا الداعي أن الناس إنما يستجيبون للحق أولاً لمصلحتهم الدنيوية؛ فإنهم لن يمسوا إلا والحق أحب إليهم من الدنيا وما فيها، فإن أكثر الناس يعادون الحق لأنهم يجهلونه، فإذا علموه زالت العداوة، كما في هذه القصة العظيمة. ويمكن أن يقضي الحاجة قبلها، كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام، فإنه في أحوال مختلفة استعمل هذا الأمر بدرجات مختلفة، فمع صاحبيه في السجن عندما سألاه تأويل الرؤيا التي أقلقتهم، وكل منهما كان يريد أن يعرف مصيره في الخروج من السجن، وهذه حاجة دنيوية، فإن يوسف أخر الإجابة إلى أن عرض عليهم دعوة الحق، فعرفهم دعوة التوحيد أولاً، ثم بين لهم تأويل الرؤيا. وعندما طلب منه تأويل رؤيا الملك كان يمكن أن يشارط، ولو شارط لأجيبت شروطه، لكنه أجاب بدون شروط؛ ليبين لهم حقارة أمر الدنيا بأسرها بما فيها أمر السجن، وأن السجن وعدمه بالنسبة له سواء، فسواء عنده الخروج أو الدخول، فلم يشارط ولم يقل: أولاً أخرجوني من السجن، بل ترك ذلك؛ لعظيم صبره وزهده في الدنيا، واستهانته بزخرفها، وهذا عند المترفين من الناس من أكثر ما يؤثر في نفوسهم، ويجعلهم يعيدون النظر في موازينهم، فالملك استغرب جداً من أنه عبر هذا التعبير الرائع، وفي نفس الوقت هو في السجن، وهذا فقال: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] أي: أخرجوه من السجن، من دون أن يقول لهم: أخرجوني، لكن سيدنا يوسف عليه السلام قال للرسول: لا، ارجع إلى ربك، أي: أنه لن يخرج حتى تثبت برآته، فبحث الملك حتى يعرف برآته، ثم قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54] أي: أحتاج إلى استخلاصه لنفسي فقط، يريد أن يكون له هو، ولا شك أن هذا يستعمله الداعية مع نوعية معينة من الناس؛ لأن الداعية إلى الله يستعمل الأمور حسب المصلحة، وحسب شدة الحاجة، وحسب نوعية الناس، فيمكن أن يؤخر قضاء الحاجة الدنيوية إلى أن يتم عرض الدعوة، ويمكن أن يقضي الحاجة الدنيوية أولاً دون مشارطة، ثم يدعو إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، خصوصاً عند المترفين وعند أهل الدنيا، فإن ذلك يؤثر فيهم تأثيراً أقوى، والله أعلى وأعلم.

عاقبة الإيمان

عاقبة الإيمان وجليس الملك الذي أسلم ليشفى من العمى صار شخصاً آخر بعد حين، فقد صار قدوة للعالم في الصبر والثبات، والجهر بالحق والدعوة، وتحمل أعظم الألم في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فآمن بالله؛ فشفاه الله) وفي هذا بيان عاقبة الإيمان في الدنيا قبل الآخرة، وأنها خير عاقبة، وأن الله لا يريد بعبده المؤمن إلا خيراً، فهذا من عاجل بشرى المؤمن مع ما ينتظره عند الله عز وجل في الآخرة.

بيان أن الشفاء من الله تعالى وحده

بيان أن الشفاء من الله تعالى وحده وفي قوله: (فشفاه الله) بيان أن الشفاء من أفعال الله تعالى التي لا بد أن يوحد بها، فلا الطبيب ولا الدواء ولا الغذاء هو الذي يشفي، بل الله وحده هو الشافي، قال الله عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً). وإن مما يقع الناس فيه عن اعتقاد أو غير اعتقاد أن يقول أحدهم: شفاني الطبيب الفلاني، أو الدواء الفلاني، وهذا شرك، فإن كان يعتقد أنه شفاه من دون الله أو مع الله، فهذا شرك أكبر في الربوبية، وإن كان من غير اعتقاد مع معرفة أن الله هو الشافي فهذا شرك لفظي، وهو شرك أصغر محرم له حكم الكبائر. واعلم أن من أسماء الله الحسنى الشافي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اشف أنت الشافي)، وورد في الحديث الصحيح: (إن الله هو الطبيب)، وقال أبو بكر رضي الله عنه: (الطبيب رآني فقال: إني فعال لما أريد). والمقصود: أن الله وحده هو الذي بيده أمر الشفاء سبحانه وتعالى.

حكم مجالسة الظالمين والكافرين

حكم مجالسة الظالمين والكافرين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجلس للملك كما كان يجلس، فقال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي! قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله)، وجليس الملك كان يعلم أن الملك يدعي الربوبية، فجلس إليه وجهر بدعوة الحق في هذا المجال، وهو يعلم أن الملك سوف يكون له موقف، والدعوة في هذه المرحلة دخلت إلى طور جديد، ووصلت إلى مستوىً رفيع، وتغلغلت في المجتمع، حتى وصلت إلى الملك نفسه، وأصبح جليس الملك لساناً في الطبقة الحاكمة، قادراً على الجهر بها، وبيانها عن عقيدة وإيمان، رغم ما يعلمه حتماً من مخالفته للدين الرسمي للدولة وهو: أن الملك هو الرب، ويعلم ما سوف يجره ذلك من تبعات. وفي هذا من الفوائد: أن مجالسة الظالمين والكافرين إن كانت بغرض دعوتهم إلى الله، ولا يكون ثمنها سكوتاً عن الحق، أو معاونة للظلم والطغيان فلا بأس بها، ولا حرمة فيها، فلا يلزم كل من التزم بدعوة الحق أن يترك منصبه الذي تبوأه في جاهليته ما دام التزم بالشرط الذي ذكرنا، وهو ألا يكون أداة للظلم، وسلاحاً للكفر والنفاق. وأما إذا كان لا يمكنه البقاء إلا بالثمن الباهظ، وهو الإعانة على الظلم، فعند ذلك نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، ويقربون شرار الناس، فمن أدرك ذلك فلا يكون لهم عريفاً ولا شرطياً ولا خازناً، ولا جابياً). وهناك بعض الجهلة الذين لا يفرقون بين الموالاة المحرمة ومجرد المجالسة التي تفتح المجال لإبلاغ الحق، أو الوظائف التي لا تعين على الظلم، وإنما هي إجارة مباحة، فضلاً عما قد يكون فيها من قضاء حاجة الناس، مما يحببهم في الدعوة، فيأمرون كل من التزم بترك وظيفته وهيئته، وإلا لم يكن مؤمناً، وهذا بلا شك مخالف لأدلة الشرع.

تغيير الإيمان لمن يعتنقه

تغيير الإيمان لمن يعتنقه ونرى هنا أيضاً كيف حول الإيمان هذا الجليس من رجل لا يعرف إلا الدنيا والمال والهدايا، فإنه هو الذي قال: (ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، ونرى كيف كان متعلقاً بالخلق ورجائهم، ثم تحول إلى هذه الشخصية الجديدة التي تبدو فيها الطمأنينة والرسوخ والجرأة في الحق، حتى يقول للملك في وجهه بكل ثبات: (ربي وربك الله، قال: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي!)، إنها جرأة عظيمة، وثبات عظيم، فلم يقل: الغلام، ولم يقل: شفاني بعض الناس، ولم يستعمل التورية ولا التعريض، ولم يقل: بركة جلوسك على العرش أيها الملك! أو من مجالستي إياك رد بصري، كما قد يفعل أهل النفاق الذين كل شيء عندهم من توجيهات الملك، وبركة أعماله العظيمة التي لا نظير لها في الوجود! نسأل الله العافية. فهو كان على يقين أن الملك الجبار يدعي الربوبية صراحة لا تلميحاً، وهو بالتأكيد يعلم كم بطش الملك من مظلومين، وكم قتل وسفك من الدماء وعذب الأبرياء! حتى استقر له الملك الجائر، وحتى لم يجد طيلة المدة التي قضاها يدعي الربوبية من يقول له: لست لنا برب، بل لعل جليس الملك هذا كان ممن يروج لمقولته الفاجرة، وادعائه الكاذب للربوبية؛ بل بالإنفراد بها، فهو لم يكن يقول: أنا ربكم فقط، بل قال: (أولك رب غيري؟) نعوذ بالله! فهكذا يهاجر الإيمان بالمؤمن من العبودية لغير الله إلى العبودية لله وحده، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير فضل الله إلى رجاء فضل الله وحده، ومن ظلمة الجهل وموت الكفر وقسوة الشك إلى نور العلم وحياة الإيمان وراحة اليقين.

تنويع أهل الظلم والطغيان الأساليب في التعذيب ومواجهة الحق

تنويع أهل الظلم والطغيان الأساليب في التعذيب ومواجهة الحق وفي تعذيب الملك له نرى الأسلوب القديم الجديد! إنه قديم قدم وجود الظلم والعدوان على وجه الأرض، فهو منذ قتل ابن آدم أخاه، إن هذا الأسلوب في مواجهة الحق أسلوب قديم جديد من أهل الباطل والكفر في مواجهة الحق، فلا نقاش عندهم ولا دليل ولا حوار، إنما هو البطش والتنكيل، فهل ترون يا عباد الله! ما هو الذي بقي من ملك ذلك الملك وبطشه؟ وهل ترون ما هو الذي بقي من ملك فرعون وبطشه؟ بقيت سيرتهم التي يلعنون عليها، ولماذا نذهب بعيداً، فما هو الذي بقي من ملك من تسمى بملك الملوك (شاهن شاه) في زماننا؟ فقد كان شاه إيران السابق يسمي نفسه (شاهن شاه) أي: ملك الملوك، واحتفل بالإمبراطورية الفارسية التي كانت قبل الإسلام، وادعى أنه وارث هذه المملكة، وكأنه تخطى أمر الإسلام، وبعد سنوات زال ملكه، حتى إنه لم يجد أرضاً يدفن فيها!! فما هو الذي بقي من ملك كل طاغية جبار أيضاً؟ الإجابة واحدة: لم يبق من ذلك كله إلا الأحاديث، قال الله عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19]، وسوف يصبح كل الطغاة كذلك، وكل المتجبرين ومدعي الربوبية تلميحاً أو تصريحاً سوف يكونون بعد مدة أحاديث. فعن قريب سيزول ملك طغاتكم أيها المعذبون! وترحلون أنتم وهم إلى دار لا ظلم فيها ولا بخس، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

من أخبر عن غيره من الصالحين تحت شدة التعذيب

من أخبر عن غيره من الصالحين تحت شدة التعذيب فهذا الملك أخذ جليسه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وفي هذا دليل على سقوط الإثم على المعذب والمكره إذا دل على غيره من الدعاة أو الملتزمين الصادقين، وإن كان ذلك سبباً لتعرضهم لما يتعرض له، لكن التعذيب ربما كان أشد من القتل، فسنرى كيف صبر هذا الرجل على القتل نشراً بالمناشير، ولم يصبر عن الاعتراف عن الغلام الذي علمه هذا الدين؛ بسبب العذاب. كما أن هذا الغلام أيضاً -وهو من أولياء الله الصالحين- لم يصبر على العذاب، وصبر على القتل، فإنه تحمل في سبيل دعوته أعظم التحمل، ولم يصبر على التعذيب، فلا يجوز أن يلام إنسان ناله من هذا العذاب شيء على ما قاله ولا ما أخبر به، ولا يعد ذلك نقصاً في الإيمان، ولا خللاً في التربية، كما وقع في هذه القصة، ولكن لا بد أن يصيبه ذلك، ولا شك أنه لم يدل عليه من أول مرة، بل قال: (أخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب)، إذاً: فهذا يدل على أنه بقي مدة طويلة في هذا التعذيب. فدل هذا الغلام على الراهب وأخبر عنه، فلا عتاب في ذلك، ومن صبر فله الأجر العظيم، ونسأل الله العافية!

ابتلاء الله عز وجل لأوليائه

ابتلاء الله عز وجل لأوليائه وفي تسليط الله للملك الظالم الكافر مدعي الربوبية على المؤمنين وتعذيبهم وتمكينه من ذلك دليل على أن حكمة الله سبحانه تتضمن مثل ذلك الابتلاء، ولا يكون في هذا دليل على سخط الله على أوليائه، أو تركه نصرتهم، أو أنهم على باطل؛ ولذا لم يحفظوا، وليس الأمر كما يقول بعض الناس: طالما أنه وقع عليكم هذا البلاء إذاً أنتم على باطل، ولو كنتم على حق لما جرى لكم الذي جرى، فليس الأمر كذلك، فقد قدر الله على أنبيائه ورسله نحو ذلك من القتل والجراح، كما قال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183]، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وكسرت رباعيته في غزوة أحد، وأنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالحق يعرف بالأدلة لا بأن أهله معذبون مستضعفون، والباطل يعرف بمخالفته للحق لا بأن أهله هم الغالبون، فعن قريب يمكَّن المستضعف، ويأمن الخائف، ويجعلهم الله أئمة ويجعلهم الوارثين، وعن قريب تذل أعناق الجبابرة، ويزول ملك الطغاة، ويزهق الله باطلهم، ويجعلهم من الأسفلين. فهذا الابتلاء فيه تمحيص للقلوب، وكفارة للذنوب، وتخليص للصف المؤمن من الكاذبين والمنافقين.

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [4]

قصة أصحاب الأخدود من القرآن والسنة [4] إن قوى الشرك تأبى إلا أن تخرج قوى التوحيد عن صفاء عقيدتها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فقد سخر الله لهذا الدين رجالاً يحملون أعباء هذه الدعوة، فيحفظون الله في سرهم وعلانيتهم، ثابتين على مبدأ الحق رغم كل صنوف التعذيب والاضطهاد الذي يلاقونه من قوى الكفر والطغيان، فيؤيدهم الله بكرامات وآيات بينات واضحات، ويعمى عنها من أعمى الله بصيرته ممن استخدم قوته وجبروته وطغيانه في محاربة أهل التوحيد.

صور ونماذج من أساليب الطغاة في استمالة الدعاة إلى الله إليهم

صور ونماذج من أساليب الطغاة في استمالة الدعاة إلى الله إليهم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أصحاب الأخدود قال: (فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل! فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب). يعني: لما عذب الملك جليسه حتى دل على الغلام، وتيقن الملك أن الغلام من وراء هذه الدعوة الجديدة على مملكته، وهو أن الغلام يدعو إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، وإلى إنكار ربوبية الملك، وعلم جيداً أن الغلام لا يقول للناس: إني أفعل ذلك بالسحر الذي أرسله الملك لكي يتعلمه من الساحر، فبدأ الملك بمحاولة خبيثة في احتواء هذه الدعوة، فليس عنده مانع أن يدعو الغلام إلى ما يدعو إليه، لكن لا بد أن يكون ذلك تحت عباءة الملك، ويكون ذلك بذكر سحر الملك وتوجيهاته، أي: لا بأس أن يفعل ما يريد بشرط أن يلبس ثوب الملك، فلم يبدأ الملك بالبطش، مع أن أسلوبه كان واضحاً جداً مع جليس الملك، وأسلوبه أيضاً كان واضحاً جداً مع الراهب ومع الغلام نفسه في مرحلة لاحقة، لكن هذه محاولة خطيرة يبدؤها الطغاة دائماً، فلا بد أن ينتبه لها كل الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى. إن بطشه بالغلام الذي أحبه الناس وعرفوا إحسانه إليهم، فهو الذي قتل الدابة، وهو الذي كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فلو أنه بطش به من أول الأمر لازدادت محبته في القلوب، ولجعله بطلاً أو شهيداً، ويصبح موته وقوداً دافعاً لاستمرار دعوته، فلا بد من محاولة الاستمالة أولاً فقال: (أي بني!) يعني: يا ابني الصغير! وهذه اللغة ليست لغته التي يستعملها مع الناس، ولكنها محاولة الاستمالة ومحاولة الترغيب، فأنت ابني الصغير الذي أحبه جداً، والذي أشفق عليه جداً، والذي أعده للمنازل العالية، فالنداء بالبنوة أول محاولات الاستمالة والتلطف، فهو يقول له: أنت ابني وأنا الذي توليت تربيتك. ثم يقول: (قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل) يريد أن يقول له: لا مانع عندي من استمرارك فيما تفعل بشرط أن تقول للناس: إن هذا سحر تعلمته في مدرسة الملك، وتحت إشرافه، وبرعايته وبتوجيهاته، والملك يقول له ذلك وهو على يقين من أن الغلام هو الذي قال لجليس الملك: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فربي وربك الله. فهذه المحاولة الخبيثة من الملك إنما هي لطمس ضوء الدعوة ونورها إذا قبل أصحابها أن يلبسوا ثوب الباطل، ويعملوا تحت رايته، ويصبغوا دعوتهم بصبغة الملك وحاشيته، تلك الصبغة التي يسميها الملك وحاشيته الصبغة الشرعية.

واجب العلماء والدعاة في حفظ الدعوة من مخططات الطغاة

واجب العلماء والدعاة في حفظ الدعوة من مخططات الطغاة إن الدعوة إلى الله لا بد أن تتميز في سرها وعلانيتها، وفي جندها وقيادتها، وفي مبادئها وغاياتها، وفي وسائلها ومنهجها عن كل أحزاب الباطل، وهي لا بد أن ترفض هذا الطعم الخبيث، والشرف المخادع الذي يضعه لها أعداؤها حين يقولون للدعاة: إن أردتم أن تعملوا فلا مانع ما دام عملكم تحت توجيهات الملك وبأمره، وأن تضعوا شعاراته، وتدخلوا في أحزابه، وإن كنا نعلم أن دعوتكم مخالفة لهذا، وأنكم تدعون إلى الله لا إلى سحر الملك، ولكن هذا هو الثمن لاستمرار دعوتكم. فما أخطر هذا المنهج الذي يمارسه المنافقون والكافرون في كل زمان لاحتواء الدعوة تحت سلطانهم، فهم لا يقبلون الوجود لهذه الدعوة إلا تحت راياتهم وتجمعاتهم، ومن خلال أحزابهم، وهم يعلمون جيداً أن هؤلاء الدعاة هم الدعاة، وأنهم لن يغيروا حقيقتهم، ولكنهم قبلوهم ضمن أحزاب الملك، وفي ثيابه، وتحت شعاراته؛ وذلك لعلمهم أن هذا في الحقيقة يدعم شرعية وجود الملك، ويجعل منكرهم هو المعروف الذي يتحاكم إليه، ويجعل قيادتهم الباطلة للمجتمع أمراًَ شرعياً عند أتباع الدعوة وليس فقط أمراً واقعاً يسعى الناس إلى تغييره، ويجعل شعاراتهم المفروضة في شرع الله حقاً، والباطل هو ما يخالفه والعياذ بالله، ويجعل هذه الشعارات الباطلة مرادفة لشعارات الإيمان والتوحيد، وأن الدين هو حياة الناس كلها لا يفصل عنها ولا عن جزء من أجزائها، كما أنه هو في آخرتهم عند الله هو الأصل في كل شيء. وكذلك أن الولاء لله والحب فيه ولأجله، وأن الرابطة الدينية الإسلامية هي رابطة المجتمع لا مجرد وحدة الوطن أو القوم أو القبيلة، وأن الإسلام وحده هو الحق، وأن ما سواه من الملل باطل وكفر وعذاب في الدنيا والآخرة. فهذه الشعارات إذا وضعت بجوار شعارات الباطل بدلاً من رايات الحق فلن تكون هناك دعوة إلى الله عز وجل، وهذه المعاني التي ذكرنا من معاني الإيمان والتوحيد لا تقوم الدعوة بدونها، ولا تكون أبداً دعوة ربانية إذا فقدتها، وسوف تضمحل تماماً عند قبول هذا الاحتواء، وعند رضا أصحاب الدعوة بإعلان الشعارات الملكية السحرية، وأن يقبل الغلام أنه يعمل بسحر الملك، فإذا رضي ذلك ثمناً لسلامة الدعاة واستمرار عملهم فإن ذلك يؤدي إلى اضمحلال الدعوة بلا شك. وما أخطر أن يكون الدعاة إلى الله هم الذين يقولون للناس: اختاروا قيادة هذا الملك وكونوا تحت طاعته حتى ولو قالوا لهم بعد ذلك أي شيء، فحين يعلمون أن دعوتهم تحولت إلى توطيد سلطان الملك بطريقة أو بأخرى، وحين يعملون لذلك تكون دعوتهم قد فقدت ربانيتها، وإن ظنوا أنهم يحققون لها السلامة والاستمرار، فلا بد للدعاة أن يعلموا أن استمرار دعوتهم بالله لا بالناس، وأن الله عز وجل خير حافظاً وهو أرحم الرحمين، وأن علينا أن نقولها واضحة كما قالها الغلام للملك رافضاً محاولة الاحتواء الخبيث: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى. ولا بد أن نقول للباطل: لا نعمل تحت رايتك، ولا نرضى بثيابك، ولا نقبل قيادتك، ولا نعترف برياستك، وإن كان واقع الابتلاء يفرضها علينا فهو أمر كوني لا شرعي، والواجب علينا أن نلتزم بالشرع، ونفوض أمر الكون لله يفعل فيه ما يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وليعلم الدعاة أن دعوتهم تستمد شرعيتها ووجودها من إذن الله تعالى وأمره بالدعوة، لا من إذن الناس، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]، والدعاة والعلماء هم ورثة الأنبياء بما عندهم من العلم والعمل، ودعوتهم لا تحتاج إلى إذن من الطواغيت ولا إلى شرعيتهم المزعومة، فإنها شرعية الظلم والكفر والعدوان، وشرعة الغاب التي ابتدعوها، ثم هم لا يحترمونها ولا يرعونها حق رعايتها. إن الولاء لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين والانتماء لدين الله دونما سواه أمر أساسي في الدعوة إلى الله، والبراءة من الشرك والمشركين من أوجب الواجبات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1])) [الممتحنة:1]. وقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28]، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. فهذه المعاني كلها تفقد وتضيع أو تبهت وتضمحل في نفوس الأتباع إذا قبل أصحاب الدعوة القيادة الملكية، والسحر الملكي الذي يريد الملك أن يجعله شعاراً يعمل الغلام تحته، فإذا لم يكتفوا بالشرعية الإلهية والقيادة النبوية فإنها تضمحل معاني الولاء والبراء، ومن ثم تتحول الدعوة بعد جيل أو أجيال إلى صورة من صور الباطل، لكن أصحابها يحملون اسم الدين، ويتصورن أنفسهم دعاة الحق وحماة الإسلام، فليحذر دعاة الإسلام من شرك النفاق وهيئاته وأحزابه، ولنحافظ على صبغة دعوتنا الربانية: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]. لقد رفض الغلام أن يسمى ما يفعله سحراً، وأبى إلا أن يجابه الملك؛ لأن دعوته هي دعوة التوحيد الخالص، فبمقولته العظيمة: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) فشلت محاولة الاحتواء وإلباس الحق ملابس الجاهلية، فانكشف الملك على حقيقته، ولجأ إلى الأسلوب المعتاد من البطش والتنكيل، فمنذ لحظة كان الغلام ابنه الذي يتلطف معه، فإذا هو الآن يقع تحت أنواع التعذيب؛ ليعترف بإخوانه في هذا التنظيم السري الذي يجابه مملكة الملك، وليعترف بالذي أراد أن يقلب نظام الربوبية في هذا المجتمع، فالملك ليس رباً وإنما الله عز وجل هو الرب، ولنعلم أن الباطل لا يستحيي من تناقضه، فهذا الذي تراه في نعومة حديثه وإظهار مودته ومحبته للدعوة ومباركته لها سوف ينقض عليها هو شخصياً بأنواع التنكيل إذا ووجه بالمفارقة والمفاصلة. وهذا الموقف لا يحتمل غير الوضوح والبيان، فعن الدعاة تؤخذ الحقيقة، ومن أفواههم وكلماتهم يعرف الناس الدين، فليحذر كل داع إلى الله أن يكذب على الله، وأن يدخل في دينه -وهو المتحدث باسمه- وفي دعوته ما ليس منه، بل هو من دين الشيطان وملة أتباعه.

عدم فقدان ولاية الله للدعاة بتسليط العدو عليهم، وحكم اعترافهم بإخوانهم عند الإكراه

عدم فقدان ولاية الله للدعاة بتسليط العدو عليهم، وحكم اعترافهم بإخوانهم عند الإكراه لا يظنن أحد أن تسليط العدو على الدعاة بأنواع الأذى هو من فقدان ولاية الله، أو علامة سخطه، بل هذا الغلام ولي من أولياء الله تعالى بنص السنة، ومع ذلك سلط الله عليه عدوه حتى وصل التعذيب به إلى درجة أن اعترف بأستاذه ومعلمه الذي قال له يوماً: (فإن ابتليت فلا تدل عليّ)، لكن عجز الغلام وأكره على أن يخبر بمعلمه، وهو في ذلك معذور لا إثم عليه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106]، وليس الاعتراف بإخوانه في الدين عند تعرضه لمثل هذا النوع من العذاب -وإن كان يعلم أنه يصيبهم الأذى- بداخل فيما لا يجوز عند الإكراه من أذية مسلم أو معصوم؛ فإن ما أجمع عليه العلماء من أن الإكراه لا يبيح قتل مسلم أو معصوم أو انتهاك حرمته كما نقله القرطبي وغيره إنما هو في مباشرة ذلك، لا في مجرد الإخبار عن حقيقة معتقد أخيه ودينه وعمله الذي قد يكون سبباً لقتله عند الكفار الظالمين. ولنتأمل في حكمة الله عز وجل الذي استجاب دعوة الغلام في كل ما سبق، فقد كان الغلام مستجاب الدعوة في قتل الدابة، وفي شفاء الأمراض، ومع ذلك قدر الله عليه هذا البلاء دون أن يصرفه عنه، فإما أنه صرفه عن الدعاء أصلاً برفع هذا العذاب، فلم يجعل الغلام يدعو؛ ليتم الابتلاء، وترفع الدرجات، وتكفر السيئات، ويكمل التمحيص، ويعرف الناس القدوة الصالحة في الثبات على الدين، وليس في الإخبار عن الراهب نقص في الدين؛ لأن ذلك من الرخص كما ذكرنا، وإن كان الأفضل الصبر على العزيمة، أو إن الله عز وجل لم يستجب دعوة الغلام في الوقت عندما دعاه؛ حتى نعلم أنه ليس لأحد مع الله عز وجل في الأمر شيء، كما قال أفضل الخلق وخليل الله وسيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، عندما جرح في وجهه وكسرت رباعيته يوم أحد: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته! فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]). وكما دعا على أقوام من المشركين بأعيانهم فلم يستجب له فيهم صلى الله عليه وسلم، وجعل من أدلة التوحيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، والذي يظهر من القصة أن الغلام صرف عن الدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر في الحديث أن الغلام دعا ولم يستجب له، وإنما ذلك كان -والله أعلى وأعلم- صرفاً له عن أن يدعو لتفريج الكرب في هذه اللحظة؛ لكي يظهر أثر الثبات على الدين، ولكي يستفيد الدعاة إلى الله عز وجل، وأيضاً لبيان أن تسلط العدو عليهم ليس معناه فقد الولاية من الله.

قصة قتل الملك للراهب

قصة قتل الملك للراهب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه). فقد وصل جنود الملك إلى مصدر الدعوة والرأس المدبر لها، فكان لا بد من رجوعه عن الدين الجديد حتى يرجع من اتبعه عليه، ومنهم الغلام وجليس الملك، فأمر بالرجوع بلا مواربة ودون تلطف كالذي تم مع الغلام، ولماذا لم يستعمل معه نفس الأسلوب الذي استعمله مع الغلام؟ فلم يتلطف معه بأن يقول له مثلاً: أيها الشيخ الكبير ونحو ذلك، لا، فلم يكن هناك وقت لذلك؛ لأن هذا الرجل ليس بمشهور لدى الناس، فلن يكون هناك ضرر كبير لقتله في نفوس الناس، ولن يكون هناك نفس القدر من الإنكار لدى العامة لو أنه قتل الغلام مباشرة؛ ولذا كان الغلام آخر من حاول الملك قتله؛ لأنه يعلم أن قتله سوف يرد المجتمع إلى الدين الحق، وفي قتله خطر كبير؛ لأنه صار رمزاً للدعوة، فلو أنه قتله لارتج العامة مع حبهم له، لذلك كان الأسلوب المتدرج مع الغلام، بخلاف الراهب فكان دون مواربة؛ لأن مسئولية من يقف أمام الناس يتكلم باسم الدين أعظم من الذي علمه الدين سراً فيما بينه وبينه. فقد قتل الملك الكافرُ الظالمُ الأستاذَ الأولَ لدعوة التوحيد في هذا المجتمع بأشنع قتلة، ولم يتحرك لذلك الناس قيد أنملة لنشر رجل بالمنشار حتى يسقط نصفين، بل وللرجل الثاني من جلسائه كذلك؛ هذا لأن دعوته لم تكن علانية، بل كانت لفرد واحد وفي السر، وربما هناك أفراد لم يذكروا في هذه القصة والله أعلم. وكان قتل الراهب بهذه الطريقة المقصود به إرهاب وإرعاب الغلام؛ لعل الغلام يرجع عن موقفه أمام الناس علانية كما دعاهم إلى التوحيد علانية، فهذا خطر إن داهن أحد في الحق وتكلم بالباطل، أو كتم دعوة الحق، لماذا تحمل الإمام أحمد رحمه الله ما تحمل؟ لأن الناس كلهم نظروا إلى الإمام أحمد ماذا سيقول، فلو أنه لم يثبت على الحق عندما اشتد عليه التعذيب لضل الناس، ولكن الله عز وجل جعله إماماً في الحق. ولنتأمل أيضاً في هذا الجزء من القصة في صبر الراهب العابد على هذه القتلة الفظيعة؛ وهي النشر بالمنشار حتى ينفصل إلى قطعتين، ومصداق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قال له أصحابه: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، رواه البخاري. فإذا تذكرنا أن الراهب في بداية الأمر طلب من الغلام إن ابتلي ألا يدل عليه علمنا ما يلزم أن يكون عليه حال المؤمن الصادق، فلا يسأل الله البلاء ولا يتمنى وقوعه، بل يسأل الله العافية ويأخذ بأسباب العافية، فإذا نزل البلاء كان عند ذلك رجلاً صابراً محتسباً يهون عليه عذاب الدنيا، ولا يفرط أبداً في دينه، فإن قيل: ألم يكن يسع الراهب وهو يكره على الكفر بمثل هذه القتلة الفظيعة أن يأخذ بالرخصة، ويوافق ظاهراً على الرجوع عن الدين مع طمأنينة القلب بالإيمان؟ فالجواب من أحد وجهين: الأول: أن هذا الراهب أخذ بالأفضل وهو الأخذ بالعزيمة، وهذا لا نزاع فيه بين العلماء، كحال بلال عندما أكره أن ينطق بكلمة الكفر، فكان لا يجد كلمة أغيظ للكفار من: أحد أحد، فيزيدون في تعذيبه، وهانت عليه نفسه لله، فيزداد: أحد أحد، وأما عمار فأخذ بالرخصة، وبلال أفضل في هذا الموقف بلا نزاع، فالصبر على العزيمة في هذا المقام أفضل من الأخذ بالرخصة. الثاني: أن الإكراه كان عذراً لأمة الإسلام دون الأمم السابقة، والله أعلى وأعلم. والأول أظهر، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، مفهوم المخالفة فيه من مفهوم اللقب، ولا يلزم أن الأمم السابقة ليست كذلك.

قصة قتل الملك لجليسه

قصة قتل الملك لجليسه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه). سبحان الله! ما أعظم الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، فهذا جليس الملك الرجل المترف المنعم من الطبقة الحاكمة، من طبقة الحاشية المقربة، ومعلوم كيف تعيش حياة اللهو واللعب، فكيف صبر جليس الملك هذا الصبر العظيم حفاظاً على دينه؟! فقد عاش الراهب عمره كله على هذا الدين، وليس بغريب أن يضحي بحياته في سبيل الدين، لكن هذا الرجل قضى أكثر عمره في الكفر، ولم يدخل الإيمان في قلبه إلا قبل قليل، ومع ذلك فقد صبر مثل صبر الراهب، ولا عجب، وانظر إلى سحرة فرعون حتى دخل الإيمان في قلوبهم منذ لحظات فآمنوا برب هارون وموسى، وكانوا قبل لحظات غاية رغبتهم: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، وغاية ما يرغبون فيه: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فسجدوا لله عز وجل حين رأوا الآية وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، فإذا بـ فرعون يتهدد ويتوعد بالصلب وتقطيع الأيدي والأرجل، وبالقتل أبشع أنواع القتل والتعذيب {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]. فكانوا في أول النهار سحرة كما قال ابن عباس وفي آخر النهار شهداء بررة. فهكذا ذهب الراهب وجليس الملك شهيدين في سبيل الله صبراً على التمسك بالدين، فأعطاهما الله الحياة الأبدية عنده سبحانه وتعالى، فسحرة فرعون وهذان الرجلان ضحوا بحياتهم فأعطوا حياة أكمل وأتم، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش).

قصة قتل الملك للغلام

قصة قتل الملك للغلام

الوسيلة الأولى: محاولة إسقاطه من ذروة الجبل

الوسيلة الأولى: محاولة إسقاطه من ذروة الجبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى). لقد كان الملك حريصاً أعظم الحرص على أن يرجع هذا الغلام عن الدين، وكان ذلك أكثر من حرصه على رجوع الراهب أو جليسه؛ لأن الغلام هو الذي أظهر الدعوة، وارتباط الدعوة به عند الناس أظهر وأوضح، والناس كلها تنظر إليه ماذا يصنع، ورجوعه عن دينه رجوع لكل أتباعه ومحبيه، فلم يقتله بالطريقة التي قَتل بها صاحبيه: الراهب والجليس، وإنما اتخذ طريقة فيها تطويل لزمن الاستعداد للقتل، لعل ذلك أن يكون دافعاً له في إعادة التفكير، فطوّل عليه مدة الإرهاب والتخويف بالصعود إلى الجبل لعله يرجع عن الدين، فكونهم يصعدون به الجبل حتى يبلغ الذروة فهذا بلا شك ضغط نفسي طويل الأمد، لكن هيهات، إن النفس المطمئنة بالإيمان لا تعبأ بمثل ذلك، والقلب العامر بذكر الله لا يخاف من أحد غير الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. فالغلام مع ضعف قوته، وكثرة عدد عدوه وقوتهم قد فوض أمره إلى الله، ودعا بهذا الدعاء العظيم: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فكم جرب هذا الدعاء الصالحون فكفاهم الله أمر عدوهم، وتأمل طمأنينته وسكونه وحسن توكله على الله، وتضرعه إليه، وتفكر كيف لم يشغل نفسه بكيف ومتى وبأي وسيلة يكون الإنقاذ والنجاة! ولم يقل: يا رب! أهلكهم الآن! يا رب ابتليهم بصاعقة من عندك! يا رب ابتليهم بزلزال من تحت أرجلهم! يا رب ابتليهم بكذا وكذا من الأمراض! وشل أيديهم! ودمر إرادتهم وافعل كذا وكذا، لا، بل قال: (اللهم اكفنيهم بما شئت)، فهكذا فوض أمره إلى الله، وهكذا يكون حسن الظن بالله والثقة به، فيشمل ذلك صدق التوكل عليه، واللجوء إليه، فتأتي النتائج على خير مما يرجو المرء، وفوق ما يرجوه، كفاه الله سبحانه وتعالى. ولنتدبر كيف جعل الله هلاك أصحاب الملك من جنس عملهم الذي أرادوا بالغلام المؤمن، فأرادوا إسقاطه من الجبل فأسقطهم الله، فهلكوا حين حدث زلزال في الجبل، ولحظة الزلزلة يظهر فيها العجز البشري تماماً، ويظهر أن ملوك الأرض ورؤساءها ليسوا بملوك لها ولا برؤساء، وإنما هم عبيد ضعفاء ترتعد فرائصهم خوفاً، ويجرون هلعاً، فعندما يقع الزلزال ترى كل الناس يجرون لا يستطيعون البقاء، وليس هناك فرق في هذا بين كبير ولا صغير، ولا بين ملك ولا مملوك، فالكل لا يحتمل لحظة أن يكون الملك فيها لله ظاهراً كيوم القيامة، وإن كان الملك لله في كل لحظة، لكن أكثر الخلق في غفلة عن ذلك. فعندما رجف الجبل قدر الله هلاك أصحاب الملك ونجاة الغلام، فهل وجد الغلام هذه الفرصة لكي يهرب ويتخلص من جبروت الملك وطغيانه وقد كفاه ما دبره له؟ ليس هذا سلوك الداعية الحريص على هداية الخلق، فكم بقي في أرجاء المملكة من لم تبلغه دعوة الحق، أو لم ير دلائل صدق أصحابها؛ فمن أجل ذلك رجع الغلام يمشي إلى الملك، ولك أن تتصور كم كانت دهشة الملك وهو يرى الغلام الصغير حياً يمشي إليه، وقد ذهب الأصحاب من الجنود الأشداء الأوفياء لملكهم، ذهبوا إلى غير رحمة، فيسأل الغلام متعجباً: (ما فعل أصحابك؟) فيقول الغلام الذي لا يعبأ كثيراً بالوسائل والكيفيات: كفانيهم الله تعالى. فلم يقل له: إنهم أرادوا إسقاطي فسقطوا، فهذه أمور صغيرة لم يخبره بما جرى، ولم يجعل ما حدث من كرامة جديدة مادة للحديث حوله، بل جابه الملك بما يقض مضجعه ويغيظه، ألا وهو ذكر الله، فهذا الغلام الذي قال له: (إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى) قال له مرة ثانية: (كفانيهم الله تعالى)، فقد جاءه بما يقض مضجعه، ويزلزل ادعاءه بالربوبية، بأن الله ربه وإلهه قد كفاه إياهم؛ ليكون ذلك مزيداً من الحجة على ذلك الملك المغرور المتكبر، الذي لو عقل وفكر وتدبر ما حدث لعلم أن الغلام محفوظ منه، وأنه لا سبيل له إليه، ولعلم حقيقة عجزه، فيجعله ذلك يتوب إلى ربه، لكن القلب إذا عمي وطبع عليه فما تغني النذر: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96 - 97]. فسبحان الله! إن الملك بالفعل عاجز تماماً، فهو عاجز في العلم، وعاجز في القدرة؛ لأنه لا يدري ما فعل أصحابه، قال: ما فعل أصحابك؟ يعني: أين ذهبوا، فهو لا يدري، وهذا نفي للربوبية، ثم إنه عجز عن تنفيذ المخطط المراد من قتل الغلام بالإلقاء من فوق الجبل.

الوسيلة الثانية: محاولة إغراقه في البحر

الوسيلة الثانية: محاولة إغراقه في البحر فكر المغرور في حيلة أخرى، وكأنه ظن أن ملك الله رب الغلام لا يكون إلا في الأرض اليابسة، ففكر في قتله البحر، قال: (فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -سفينة- فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى). فبنفس الوسيلة في محاولة إرجاع الغلام عن دينه بتطويل مدة الاستعداد للقتل، فتوسطوا البحر مع استمرار التهديد بأن يقذف في وسط الأمواج التي لا يمكن لأحد أن ينجو منها في ظنهم، ونرى هنا نفس الطمأنينة والسكون والتضرع إلى الله وحده لا شريك له، وحسن الظن به، والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، قال الغلام: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فتنقلب السفينة، ولحظات الغرق والضر في البحر يظهر فيها أيضاً العجز البشري كاملاً، يظهر فقر الإنسان وحاجته وضعفه، كما قال عز وجل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، فكم هو عاجز وضعيف هذا الإنسان، ففي لحظات الضر في البحر لا سلطان للبشر، ولا أوامر للملوك، ولا قوة للرؤساء، فيغرق الله عز وجل من شاء، وينجي برحمته سبحانه وتعالى من شاء، فغرقت سفينة أصحاب الملك، وغرقوا جميعاً، والجزاء من جنس العمل، فأرادوا أن يغرقوا الغلام فغرقوا، ونجى الله الغلام، والحمد لله رب العالمين. فرجع الغلام يمشي إلى الملك استكمالاً لدعوته، فازدادت دهشة ذلك الجاهل الغبي الذي لا يبصر أوضح الحقائق، فيسأله: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى.

الوسيلة الثالثة: إرشاد الغلام للملك على طريقة قتله إياه

الوسيلة الثالثة: إرشاد الغلام للملك على طريقة قتله إياه قال صلى الله عليه وسلم: (ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني). لقد وصلت حيل ذلك الملك إلى طريق مسدود، وفشل في تحقيق أي غرضٍ من أغراضه، فلا الغلام رجع عن دينه، ولا استطاع قتله، ولا حتى تركه الغلام حراً في مملكته وهرب بنفسه ويترك الدعوة، بل عاد ليستمر فيها، فبدأت صورة الملك تهتز، وظهر بوضوح عجزه عن إيقاف السيل الجارف بدعوة الإيمان، ومع هذا فلا يزال العناد مسيطراً على فكره، فهو يريد الوصول إلى قتل الغلام بأي صورة، فيقول له الغلام: (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به) وهذا الخبر من جملة كرامات الغلام، فإنه خبر عن استمرار عجز الملك في المستقبل عن قتله إلا بفعل ما يأمره به، وهذا نوع من الكشف والإلهام. وتأمل قول الغلام للملك: (حتى تفعل ما آمرك به)، فالغلام هو الذي يأمر، والملك هو الذي يسأل عن تفاصيل الأمر ليطبقه، أي إهانة له أكثر من ذلك، وأي بطلان لدعوى الربوبية أوضح من ذلك، فهو عاجز لا يقدر، وجاهل لا يعلم، ومأمور بأمر غيره لا يستطيع أن يأمر، ولو أمر بطل أمره، ولو نفذ أمر الغلام لنفذ الأمر. وليس الأمر للملك قطعاً، وإنما الأمر لرب الغلام، وقول الغلام للملك: (ثم تصلبني على جذع) ليظهر للجميع الظلم الواقع على الغلام بدون جريمة ارتكبها، إلا أن يقول: ربي الله، وهذا بالتأكيد من أسباب ميل الناس إليه، وتعاطفهم معه ومع دعوته، فقد فطر الله العباد على كراهية الظالم وعداوته، والميل إلى المظلوم ومناصرته، فإذا أضيف إلى ذلك أنهم يعلمون عن المظلوم حبه الخير للناس، وحرصه على الإحسان إليهم، وجربوه من قبل في قضاء حوائجهم، وكونه كان دائماً مستشعراً لمشاكلهم، في حين غابت مشاكلهم عن الملك وحاشيته، بداية من الدابة التي قتلها الغلام، وانتهاء بأمراضهم المستعصية التي كان لا يستطيع أحد مداواتها، بل ولا يلتفت الملك ولا حاشيته إلى محاولة مداواتها، فلا شك أن هذه الأمور مجتمعة تجعل هذا الجمع كله يعلم الظلم الواقع على الغلام، فعندما يتساءلون: ما جريمته؟ ولماذا صلب على الجذع؟ فسوف يقال: لا شيء إلا أنه يقول: ربي الله. فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله حريصين على ألا يكون لهم تهمة؛ إلا أن يقولوا: ربنا الله، مع إحسانهم إلى الناس، وعليهم ألا يحزنوا من الظلم الواقع عليهم، فقد قدره الله لحكم عظيمة، منها: انتشار دينه، وقبول الناس له، كما أن الظلم سرعان ما يزول فيكون لهم الأجر الجزيل عند ربهم وإلههم. وقول الغلام للملك: (ثم خذ سهماً من كنانتي) فيه مزيد من إظهار عجز الملك، وأنه ليس بيده الأمر، فلو أخذ الملك سهماً من كنانته لما استطاع أن يقتل الغلام حتى يأخذه من كنانة الغلام؛ ليعلم الناس أن الأمر أمر رب الغلام، وأن قتل الغلام كان بإرادة الله لا بإرادة الملك. وفي أمره أن يقول: (باسم الله رب الغلام) إعلان بالعجز التام، والافتقار القهري الاضطراري إلى الله سبحانه، وهو افتقار لا ينفعه ولا يثاب عليه؛ لأن المطلوب شرعاً هو الافتقار والعبودية الاختيارية لا الاضطرارية، وفي نطق الملك أمام الجموع: باسم الله رب الغلام، أثر عظيم في وصول الدعوة إلى من رأى ومن لم ير، وإنما سمع، فمن رأى ازداد يقيناً بقدرة الله رب الغلام وعظمته ووحدانيته. فإن قيل: كيف أرشد الغلام الملك إلى طريقة قتله وتركه يقتله مع قدرته على الفرار، مع أن الإرشاد إلى قتل مسلم أمر يكرهه الله ويحرمه؟ و A أن هذا يظهر لنا قضية فقه الدعوة بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فقتل الداعي إلى الله مفسدة كبرى بلا شك، ولكن مصلحة وصول دعوة الحق إلى الناس ورؤيتهم أدلة صدقها مصلحة أرجح وأكبر من مفسدة قتل الداعي، وهذا الغلام لم يكن عليه أن يؤمن الناس، ولا بيده ولا بيد غيره دون الله القدرة على أن يؤمنوا، فإنما ذلك لله وحده، لكن الواجب أن يوصلوا دعوة الحق للناس، فمصلحة الدين مقدمة على مصلحة النفس، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، فمن أجل ذلك جاز للغلام أن يدل الملك على طريقة قتله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه القصة: فيها أن الغلام أمر بقتل نفسه لأجل ظهور الدين؛ ولهذا جوز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه، إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، فإذا كان الرجل يفعل ما يعتقد أنه يقتل به من أجل مصلحة الجهاد، مع أن قتله نفسه أعظم من قتله لغيره، كان ما يفضي إلى قتل غيره لأجل مصلحة الدين التي لا تحصل إلا بذلك ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى. والله أعلى وأعلم. فإن قيل: ألم يكن الغلام يعلم أنه من المحتمل أن يقتل الملكُ الناسَ لو آمنوا، بل يغلب على ظنه ذلك، وهو يعلم عجز الناس عن الدفع عن أنفسهم، فهو بالتالي قد ألزمهم الصبر على القتل؟ و A أن الموازنة هنا بين البقاء على الكفر مع الحياة، أو الدخول في الإسلام مع القتل، ولا شك أن الدين مقدم على النفس، فإذا علمنا أن كافراً لو أسلم قتله أهله وقومه حتماً لم يجز أن نترك دعوته إلى الإيمان؛ لئلا يقتل، بل يلزم أن ندعوه إلى الإيمان ويلزمه الدخول في الدين ولو قتل، وإن كان يمكنه أن يكتم إيمانه حفاظاً على نفسه جاز له ذلك ولم يلزم الإعلان، وأما في قصتنا هنا فالأمر يختلف، فالناس لم يؤمنوا كلهم بعد، فلو تركوا لبقوا على الكفر، ولو أسلموا غلب الظن على قتلهم، ولا توجد فرصة لتعليمهم الدين جميعاً مع أمرهم بالكتمان كما فعل الراهب، فليس هناك مخالفة لما ذكرنا، لذلك نقول: إن مصلحة الدين مقدمة في هذه الحالة، وليصبروا على ذلك.

نتيجة قتل الملك للغلام

نتيجة قتل الملك للغلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا بالله برب الغلام). في غباء منقطع النظير، وحقد أعمى وعناد على الباطل، ربما لا يشبهه إلا غباء فرعون وحقده وعناده عندما اقتحم البحر الذي انفلق لموسى صلى الله عليه وسلم أمامه، فعل الملك ما أمره به الغلام، وحدث ما أراد الغلام، ظهر الحق عالياً بقوة الحجة والبيان، وبكرامة الله لأوليائه الصالحين، ومالت القلوب إلى فطرتها الأولى لتوحيد الله والكفر بالطاغوت، فآمن الناس بالله رب الغلام. فذهب الغلام شهيداً، وليس بأول الشهداء ولا بآخرهم، فهو حي عند الله عز وجل، وحييت دعوته دعوة الحق والإيمان في قلوب الناس، وتحول الشعب الجاهل المنقاد بالباطل الذي قبله لمدة سنين طويلة إلى الإيمان بالله وحده، وما أعظم شرف الغلام ومكانته حين يعرف الناس ربهم وإلههم به، فيقولون: آمنا بالله رب الغلام، هو رب العالمين سبحانه، وذكروا هنا: رب الغلام؛ شرفاً لهذا الغلام، وكفى به شرفاً، كما قال سبحانه وتعالى عن قول السحرة: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، تشريفاً لموسى وهارون، فشرف عظيم لهذا الغلام أن يقال: آمنا بالله رب الغلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. فأمة كاملة آمنت بسبب غلام، فيا لفرحة أستاذه ومربيه ذلك الراهب العابد الموحد الذي لقي الله قبله، ولم ير في حياته على الأرض ثمرة دعوته، فقد مات الراهب قبل أن يؤمن أحد إلا الغلام وجليس الملك وآحاد، ولم تكن البذرة التي زرعها قد أثمرت بعد، ومات قبل أن يرى الثمرة، يا لفرحته عند لقاء الله، وقد كان سبباً في إيمان أمة، فلا تيئسوا أيها المربون أبناءكم في الدعوة، فقادة الدعوة في المستقبل القريب ودعاتها وعلماؤها ومجاهدوها هم الآن أطفال وغلمان بين أيديكم، فعسى الله أن يجعل الفرج على يد أحد منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد والله آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخدت - حفرت -، وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها - يعني: ترددت أن تقع في النار وهمت أن ترجع عن دينها- فقال لها الغلام - ابنها الصبي الصغير -: يا أمه! اصبري فإنك على الحق). أي: رغم كل الآيات التي رآها الجميع لا يزال الطغيان يجد له أعواناً ينفذون له أوامره الكفرية، ولا يزال هناك من يرى الحق أوضح من شمس النهار، ثم يتجسس للملك ويخبره بأخبار الناس، وهو يعلم أنه إنما يحذر من الإيمان، وأن المشكلة من بدايتها كانت محاولة الصد عن سبيل الله: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك. إذاً: فماذا كان يحذر منذ أن علم قصة جليس الملك؟ كان يحذر أن يؤمن الناس، وأن يعلموا ذلك، فعلموا ذلك ورأوا الآيات، لكن سبحان الله الذي طمس على القلوب إلى هذه الدرجة، ليس فقط قلب الملك، بل قلوب الحاشية والعوام الذين يرفعون التقارير إلى الملك عن انتشار الدين الحق في المملكة وفيها: لا بد من التصرف، أي: ليس إلا مزيداً من البطش والإجرام، وهو يتفنن في طرق التعذيب والقتل، وله فيه خبرة سابقة وتجربة ماضية، فيأمر بالأخاديد تحفر في أفواه الطرق، ويأمر بقتل المؤمنين لإيمانهم حرقاً بالنار طالما أبوا الردة والرجوع عن الإسلام، فوالله إن المرء ليتعجب من وجود الأعوان والجنود الذين ينفذون مثل هذه الأوامر، وهذا مثل فرعون حين وجد من يقتل له السحرة، ومن يقتحم خلفه البحر، وكما نجد في كل زمان مع ظهور الباطل وبطلانه للناس كافة، وظهور كذبه وظلمه ونفاقه وكفره، وظهور غشه للناس، وإتعابه لهم، وأنه إنما يريد الصد عن سبيل الله ويحذر من الإيمان والتوحيد أن ينتشر في الناس، ومع ذلك نجد له الجنود والأشياع؛ لنعلم أنه من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، وأنه من يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يعمهون. ولنتأمل كيف قبل الناس الوقوع في النار وصبروا هم وأطفالهم ونساؤهم؛ لأنه قد تمكن الإيمان من قلوبهم، فأصبح إلقاؤهم في النار أحب إليهم من أن يرجعوا إلى الكفر، إنها حلاوة الإيمان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث دليل على أن المسلم لو خير بين أن يقتل ويقتل صبيانه معه على التوحيد، وبين أن يؤخذوا منه فينشئوا على الكفر، لكان الخيار الذي يلزمه هو أن يقتل هو وصبيانه؛ لأن الدين مقدم على النفس كما بينا، ولا يرضى بكفر أولاده الصغار ولو كانوا دون البلوغ ودون التكليف. وفي قول الصبي الصغير لأمه: (يا أمه! اصبري؛ فإنك على الحق) بيان الفطرة السليمة التي فطر الله العباد عليها، ومنها: الصبر على الحق إلى لقاء الله سبحانه، والله أعلم هل كان هذا الصبي في مهده؟ فهذا الذي يظهر كما في بعض الروايات: أنه كان صبياً في المهد حين تكلم، وهذا هو الصحيح الظاهر. وروى ابن أبي حاتم وابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]، وذكر سياقاً آخر مختصراً وفيه: وخد أخدوداً من نار، وقال لهم الجبار وأوقفهم عليها: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه، فقالوا: هذه أحب إلينا، وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقال لهم آباؤهم: لا نار من بعد اليوم، ووقعوا فيها، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4]. ويشهد لهذا المعنى ما ذكرنا من الحديث: (إنه لا يجد الشهيد من ألم الموت إلا قرصة كقرصة النملة). نسأل الله أن يحيينا على الدين، وأن يميتنا عليه، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.

فتية آمنوا بربهم [1]

فتية آمنوا بربهم [1] ذكر الله في القرآن الكريم أحسن القصص وأجملها، حتى تكون شمعة مضيئة يهتدي بها أصحاب الحق، ومن هذه القصص: قصة أهل الكهف، الذين رأوا قومهم في ضلال وجهالة، يعبدون الأصنام ويكفرون بالله الواحد الديان، فعلموا بأن ذلك ظاهر البطلان، فاعتزلوهم وما يعبدون من دون الله، فكانت هذه بداية طريق الهداية والإيمان، فزادهم الله هدىً وحفظهم، ورعاهم من أن يعتدي عليهم قومهم، فصاروا قدوة وأسوة للمؤمنين في كل زمان ومكان.

وقفات مع قصة أصحاب الكهف

وقفات مع قصة أصحاب الكهف إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: سنتناول اليوم قصة جديدة من قصص القرآن الكريم، وهي قصة أصحاب الكهف الفتية المؤمنين الذين ثبتوا على دينهم، ونجاهم الله سبحانه وتعالى ممن أراد ظلمهم، فكانت هذه القصة فيها العبرة، والأسوة الحسنة لعباد الله المؤمنين في الصبر والثبات على الدين، وبيان العاقبة التي يجعلها الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين المتقين، وأنه سبحانه وتعالى يهلك الظالمين، وأن انتصروا في وقت من الأوقات، وأوهمتهم شياطينهم وأنفسهم بأن لهم الملك والسلطان في الأرض يفعلون فيها ما يشاءون. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:9 - 26].

معنى الكهف والرقيم

معنى الكهف والرقيم قال ابن كثير رحمه الله في قول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطه بعد ذلك. فقال: (أم حسبت) يعني: يا محمد! {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى -وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء- أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال العوفي عن ابن عباس {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم. وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، ذلك أن هناك ما هو أعجب، فشأنهم عجيب ولكن هناك ما هو أعجب منه، وهو ما جعل الله عز وجل من دلائل قدرته والمعجزات التي آتاها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما علمه من العلم. أما الكهف: فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: وادٍ قريب من أيلة، وأيلة في بيت المقدس، وكذا قال عطية العوفي وقتادة، وقال الضحاك: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقيم: اسم الوادي، وقال مجاهد: الرقيم: كتاب بنيانهم يعني: الكتاب الذي كتب على بنيانهم، وجعلت فيه أسماؤهم، وكتبت فيه قصتهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم، وقول مجاهد هذا هو أقرب إلى ظاهر اللغة؛ لأن الرقيم بمعنى المرقوم، مثل قتيل بمعنى: مقتول، فهو رقيم رقم، والرقم: هو النقش أو الكتابة، كل ذلك يسمى رقماً، فهو الكتاب الذي كتبت فيه قصة هؤلاء وأسماؤهم، وجعلوه على باب كهفهم والله أعلم. وروى عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله (الرقيم) قال: كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس. وعن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف: بنجلوس، واسم الكهف: حيزم، والكلب: حمران. وهذا يعطينا فكرة عما ينشغل به أهل الكتاب، وما ينقل عنهم: ما اسم الكلب؟ ما لونه؟ ما اسم الكهف؟ ما اسم الوادي؟ والقرآن كما نعلم لم يذكر لنا شيئاً من ذلك؛ لأن المقصود: هو العظة والعبرة، وهذا قد ذكرناه مرات في الفرق بين قصص القرآن، وما يذكر الله عز وجل فيه، وبين قصص أهل الكتاب من الاهتمام بالأسماء، وألوان الحيوانات، وأنواع الأشجار؛ لتثبيت القصة في أذهان الناس والاهتمام بهذه التفاصيل؛ لأن الناس الذين يسمعونها يريدون أن يتسلوا بذكر هذه التفاصيل، وأما القرآن فلن يشغلنا بذلك والله أعلى وأعلم. ولذا قال ابن عباس: يزعم كعب، وكان يزعم كعب أنها القرية، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس قال: القرآن أعلمه إلا حناناً، والأواه، والرقيم، فوقف ابن عباس رضي الله عنه في هذه الرواية، وإسنادها صحيح. وعن عكرمة قال: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب أم بنيان؟ وعن ابن عباس قال: الرقيم: الكتاب. وهذه الرواية صرح فيها بما شك فيه في الروايات التي قبلها أنه كتاب أم بينان، وهذه أقرب إلى الظاهر والله أعلم، كأنه كان متوقفاً لا يعلم ثم إنه جزم بعد ذلك، ولذلك جزم مجاهد بهذا القول فهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنه قال: كتاب بنياتهم، وكأنه جمع بين ما شك فيه ابن عباس أنه كتاب أم بنيان؟ فقال: الكتاب الذي وضع على البنيان الذي بنو عليه الناس بعد معرفتهم بالقصة. وقال سعيد بن جبير: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم: الكتاب، ثم قرأ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9]. قال ابن كثير: وهذا هو الظاهر، وهو من الآية، وهو اختيار ابن جرير قال: الرقيم: فعيل، بمعنى: مرقوم؛ كما يقال للمقتول قتيل، وللمجروح جريح، فالمعنى: مرقوم أصحاب الكهف، والمرقوم: الكتاب المرقوم، والرقيم: الكتاب المرقوم، والله أعلم.

حتمية الصراع بين الحق والباطل

حتمية الصراع بين الحق والباطل قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:9 - 10]، يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا عنه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [الكهف:10]، أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10] أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة) قال تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ)) أي: من رقدتهم تلك وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)) أي: المختلفين فيهم ((أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد أي: إذا استولى على الغاية، ثم إن الذين اختلفوا فيهم إنما اختلفوا في مدة لبثهم فذلك يدل على أنهم تناظروا فيهم بغير علم، وأن الأمر كان يجب تفويضه إلى الله سبحانه وتعالى حتى بين الله عز وجل كم لبثوا في كهفهم، وفي هذه الآيات من سورة الكهف أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً. فهذه مقدمة لهذه القصة حتى نرى أن قصة أصحاب الكهف والرقيم آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي آية من آيات الله المسموعة التي تدلنا على مآل ونهاية هذا الصراع الذي يجري دائماً بين الحق والباطل على ظهر هذه الأرض، ولم يزل هذا الصراع قائماً، ولا بد أن يستوعب أهل الإيمان ذلك، فلا يظنوا أن سوف يأتي عليهم زمن يستريحون فيه من مغالبة الباطل وأهله، أو أنهم يتوقفون عن العمل على إظهار الدين والدعوة إليه، ومحاربة الشرك وأهله، وذلك أنها سنة الله سبحانه وتعالى الماضية، وأن الله خلق البشر لذلك، فخلق الجن والإنس ليوجد منهم الكفار الذين يحاربهم ويصارعهم ويقاومهم أهل الإيمان؛ لتظهر أنواع من العبودية يحبها الله سبحانه وتعالى، فهي من آيات الله سبحانه وتعالى فيها القدوة الحسنة، والأسوة الطيبة لعباد الله المؤمنين في صبرهم على دينهم، والقصة من القصص التي تبين بداية التسلط دائماً من الكفرة والظلمة والمجرمين، وكأن هذا عند التأمل هو الوضع أو الحال الأصلي الذي تستمر عليه قصص القرآن، وفي هذا البشارة لعباد الله المؤمنين بما يئول إليه أمرهم، وبما يحفظهم الله سبحانه وتعالى بآياته العجيبة التي إذا تأملها المتأمل علم عظيم سلطان الله سبحانه وتعالى وقدرته. ولو تأمل المتأمل فيما يراه كل يوم من آيات الله في السموات والأرض لأيقن بعظمة الله وملكه للملك، وأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، وأنه يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويرزق من يشاء بغير حساب، وهذا لوحده دليل على أن ما يفعله في هذا الصراع الذي يجري في كل زمان بين المؤمنين والكافرين نهايته معلومة بإذن الله تبارك وتعالى.

وجوب الهجرة من أرض السوء فرارا بالدين

وجوب الهجرة من أرض السوء فراراً بالدين وهو سبحانه وتعالى يحفظ عباده المؤمنين بآيات من عنده عز وجل، قال تعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ))، وكونهم أووا يدل على أنهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا الأمر أمر عظيم الأهمية في حياة المؤمن، فعليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكانٍ في الأرض، وهذه هي وظيفته، فإن تيسر له ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه فبها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، والمهم تحقيق العبودية. فلقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهاليهم، وضحوا بقرابتهم وبوضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه، كما عرف مما ذكره المفسرون: أنهم كانوا من أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل من كان كذلك، والله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يقدموا حبه، وطاعته عز وجل على كل شيء؛ كما قال عز وجل {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فقضية العبودية هي أعظم قضيه يجب أن يحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيق العبودية في أرض ما، ووجد سعة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل إلى أرض الله، والمؤمن عبد الله يعبده عز وجل في أي مكان من الأرض تيسرت فيه هذه العبادة، ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم من أحب بلاد الله إلى الله وإليه إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يحببها إليهم كحبهم لمكة وأشد، وذلك لإقامة الدين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فراراً بدينه إلى مدين مدة من الزمن مع أنه ولد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك ببني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليقيم الجهاد، فأبى عليه بنو إسرائيل، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم انتقلوا من أرض هجرتهم من المدينة إلى الأمصار ليجاهدوا في سبيل الله، وليبلغوا دين الله. والمقصود: تحقيق العبودية على أي صورةٍ، وعلى جميع أنواعها، فأوى الفتية إلى الكهف لأنهم عجزوا عن إقامة الدين في أرضهم، ومن عجز عن إقامة الدين في أرض ما وجب عليه أن يهاجر، وهذا الأمر أمر ثابت في كل زمان ومكان طالما وجد بهذه الصفة، فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض، وذلك أن من ولد في أرض يظهر فيها الكفر، والضلال والعصيان، وقدر على الانتقال منها إلى أرض الإسلام التي يظهر فيها الحق، ويعبد فيها الرب سبحانه وتعالى، ففرضاً عليه ذلك، وكونهم أووا إلى الكهف يدل على أنهم كانوا يريدون مكاناً يؤويهم في بلدهم، وذلك فيه من التعزية لعباده المؤمنين إذا شعروا بالمطاردة، وإذا شعروا لكونهم غير مرغوب فيهم، وأنهم لا يجدون مكاناً يطمئنون فيه فقد سبقهم إلى ذلك هؤلاء الفتية، وصبروا على ما أصابهم في ذلك. ولقد منَّ الله عز وجل على عباده المؤمنين، وذكرهم بنعمه عليهم في إيوائهم فقال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26]، ولا شك أنه لا يعرف قدر نعمة الإيواء إلى مكان آمن إلا من علم خطر الخوف الذي يصيب المؤمن في أرض هو فيها مستضعف، ومع كونه أمراً مؤلماً إلا أن الله سبحانه وتعالى يجعل فيه الثواب العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، وذلك دليل على فضيلة الصبر على هذا الخوف، وعلى ذلك الإيذاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر فضائله لنعلمها، وأنه أوذي في الله عز وجل وما يؤذى أحد؛ لكونه صلى الله عليه وسلم أول ما أعلم بالدين هناك آذاه المشركون قبل أن يستجاب له من الضعفاء، فآذوهم أشد الإيذاء، وكذا قال: (لقد أخفت في الله وما يخاف أحد)، وما يُخوف أحد، وذلك دليل على فضل الصبر على ذلك، وأوى: تدلنا على أنهم خافوا، ولم يجدوا من يؤويهم إلى الله سبحانه وتعالى، فآواهم الله عز وجل إلى ذلك الكهف.

أهمية دور الشباب في نصرة هذا الدين

أهمية دور الشباب في نصرة هذا الدين وقوله سبحانه وتعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، فهم فتية شبان كما سيأتي بيانهم إن شاء الله قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]: من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها فذكر تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً. قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني: الحلق، حيث كانوا صبياناً أو شباباً في أول نشأتهم، وكان من عادتهم في ذلك الزمان أن صغار السن يجعلون الحلق في آذانهم كالنساء. فيقول: فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم أي: اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)). الغرض المقصود من هذه الكلمة: أنهم فتية شباب، وهذا يدلنا على أهمية دور الشباب، وأن الشباب هم وقود هذه الدعوة، وليسوا يحترقون ليتقدم، وإنما يستضيئون بضوئها؛ لكي تستمر وهم يسيرون بها بإذن الله تبارك وتعالى، وهم المحركون دائماً للدعوة، والجهاد والبذل، والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثرهم شباباً، ويوم بعاث كان يوماً قدمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ذلك اليوم الذي اقتتل فيه الأوس والخزرج حتى فني أكثر شيوخ القبيلتين الذين ماتوا على الشرك والله تعالى أعلى وأعلم؛ لأنهم لو بقوا لكان الموقف نفس موقف مشايخ قريش، ومثل موقف من بقي من هؤلاء المشايخ؛ كـ عبد الله بن أبي بن سلول الذي صار رأساً للنفاق حقداً وحسداً؛ لأنه كان يريد أن يتوج، فصارت الرئاسة والإمامة في الأوس والخزرج للشباب الذين سرعان ما استجابوا بفضل الله سبحانه وتعالى لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين قاموا بواجب الدعوة إلى الله، وبواجب الجهاد، وهذا أمر ملحوظ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد رغب في من نشأ في عبادة الله شاباً وقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله)، ففترة الشباب فترة عظيمة الخطر فإما الانحراف وإما الاهتداء، وزيادة الهدى من الله سبحانه وتعالى، وقبول الدعوة فيها عظيم، كما أن الانحراف فيها كذلك خطير، فلذلك لا بد من الاهتمام بالشباب، ولا بد أن يهتم الشباب بأنفسهم، ويعلموا القدوة الحسنة من الشباب، فاليوم ينبغي أن يكون هؤلاء الفتية هم قدوتهم، ومن كانوا على الإيمان مثلهم من أصحاب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قال الله عز وجل عن موسى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، فما آمن من المسلمين في زمن موسى إلا ذرية قلة من الشباب الذين آمنوا من أهل مصر، فآمنوا بموسى صلى الله عليه وسلم على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، والذي يظهر أن عامة بني إسرائيل آمنوا، لكن هل الذين آمنوا من أهل مصر كانوا من الشباب؟ ولذلك نقول: يجب أن تكون الأسوة لشبابنا دائماً هم هؤلاء المؤمنون الذين ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى، أما أن يكون الأسوة للشباب هم الفسقة والفجرة، وأصحاب المناصب والأموال، وأسوأ من ذلك المغنين والممثلين ولاعبي الكرة وغير ذلك فهذا مما تربأ به نفوس من هيأهم الله سبحانه وتعالى للمنازل العالية، فيربئوا بأنفسهم أن يرعوا مع الهمل والعياذ بالله! فأقبح شيء أن يكون هم الإنسان هذا الحطام الفاني، وأن تكون قدوته في الحياة من جمع هذا الحطام الفاني.

التضحية من أجل دين الله

التضحية من أجل دين الله والله عز وجل إنما ذكر وصف أهل الكهف بالفتية ليكونوا أسوة حسنة للشباب على الدوام في الثبات على دين الله، والقيام بالدعوة إلى الله، وإن خالفهم من خالفهم، قال الله عز وجل: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، تركوا القصور والبيوت المهيأة وأووا إلى الكهف الذي لم يتعودوا أن يعيشوا فيه، ومع ذلك رجوا في هذا الكهف الرحمة والرشد؛ لأن العادات والمساكن المرضية، والمطعم الهنيء، والملابس النظيفة، ومكان النوم المهيأ كل ذلك لا يأسر العبد المؤمن، فتحملوا أن يكونوا في كهف، وقد كانوا في قصور وبيوت مهيأة، وكانوا في مدينة، وربما تحتاج مرة أن تعيش في بيئة غير التي نشأت فيها، وفي مسكن غير الذي تعودت عليه، وفي فراش غير الذي تنام عليه لتعلم مدى الفرق بين أن يعيش الإنسان في بيت أو قصر وبين أن يبيت في كهف، ومع ذلك لم يعبئوا بذلك، ولم يكن ذلك همهم؛ لأنهم ملتفتون إلى ما هو أعظم، ما الذي يهون على الإنسان أن ينال طعاماً دون طعام، ولباساً دون لباس؟! كما قال الإمام أحمد: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وصبر أيام معدودة. والدنيا هي أيام قليلة يمكن أن يكون للإنسان فيها طعام أقل من طعام غيره، ولباس أقل من لباس غيره؛ لكنه سوف يأخذ رزقه الذي قدره الله سبحانه وتعالى له، فما الذي يجعل الإنسان يقبل ذلك ولا يلتفت إليه؟ إنه اهتمامه بما هو أعظم وأخطر وهو أن ينال الرحمة والهداية والرشد من الله سبحانه وتعالى. وأن يسعى في مرضات الله، وعندها يهون عليه أن يفارق القصور فضلاً عن البيوت الضيقة، وفضلاً عن الحال الذي هو في الحقيقة نوع من الضيق والكرب، والله سبحانه وتعالى إنما رغب المؤمنين في طلب الآخرة لكي لا تشغلهم الدنيا، وأما اليوم فإننا نجد أكثر الناس يقتتلون على البيوت الضيقة، ويقتتلون على المعيشة الضنكة، ويتحاسدون على أدنى أنواع اللذات والعياذ بالله! ووالله إن لذاتهم لا تساوي شيئاً عند أهل الشهوات والملذات، فإذا بالناس يحسد بعضهم بعضاً، ويقتتل بعضهم مع بعض، ويكيد بعضهم لبعض على أتفه الأمور، وإن كان أهل الأموال والدنيا هم الذين ساقوا الناس إلى هذه الغايات، وألهوهم بوسائل الإفساد عن التفكير فيما هو أهم وأعظم من أمر الآخرة، فهذا الذي دفع الناس إلا أن يتوبوا، وهم حريصون على ذلك الضنك لا يستطيعون التضحية بشيء منه على الإطلاق، فقد تكون المعيشة الضنكة من أسباب تضحيته، أما أن تجد إنساناً يعيش في ضيق وغم، وكرب وفقر، ومع ذلك لا يريد التضحية بشيء فهذا أمر عجيب! يعني: أنه يريد البقاء في المسكن الضيق الذي يعيش فيه، وإن انتقل إلى غيره لم يكن فرقاً بين مسكنٍ ضيق وبين كهف في جبل، ومع ذلك فالهمم الوضيعة هي التي جعلت الإنسان لا يريد التضحية بشيء ولا حول ولا قوة إلا بالله!

طلب الفتية الرحمة من الله والثبات على هذا الدين

طلب الفتية الرحمة من الله والثبات على هذا الدين هؤلاء الفتية ضحوا بمنازلهم المرفهة، وبوضعهم الذي كانوا فيه، وكانوا من أهل غنى كما سيذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المفسرين، فقد كانوا أهل سعة ومع ذلك صاروا إلى كهف، فليكن ذلك أيضاً أسوة الشباب إذا ضاق بهم أمر في سبيل الله، وإذا حصل لهم ما قد يضيق به كثير من الناس فلا بد من التحمل والصبر والاحتساب، والذي يعينك على ذلك أن ترجو الرحمة والرشد، وأن تدعو الله سبحانه وتعالى ألا يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغ العلم، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فالرحمة من الله عز وجل لتطلب: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهذه الرحمة بأن يستر عليهم ويحفظهم، وأن ينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء وهم أرادوا الفرار بدينهم؛ ليثبتوا على ذلك الدين الذي هو أحب إليهم من كل شيء يريدون الثبات عليه، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله، فالله هو خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى. وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه ويريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، وكما ذكرنا أن الرحمة المطلوبة في هذا الموضع: هي ستر الله عز وجل عليهم، ونجاتهم ممن يريدهم ليفتنهم عن دينهم، وليصرفهم عن هذا الدين، فأنت إذا ثبت على الدين كنت في رحمة من الله عز وجل، وتطلب منه المزيد: بأن يؤتيك الله عز وجل مزيداً من التوفيق والثبات: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان عنده مواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته يتخذ فيها قرارات، ويسير من خلالها يميناً أو شمالاً، فإما أن يستجيب لداعي الضلال الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد فيتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً، فهناك لحظات في تاريخ الإنسان لابد أن يستخرج فيها قراراً حازماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، ويترك ذلك الدين؛ لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين، وهكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بالدين وثباتاً عليه، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سيصنعون بعد ذلك؟! وإلى أين سيذهبون؟ فهم لا يعلمون، بل يطلبون من الله أن يهيئ لهم من أمرهم رشداًً، فإنما يريدون الثبات على الدين، ولا يأبهون بعملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يعلمها، فإنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، وقد كان، وهداه الله عز وجل سواء السبيل. كذلك كان هؤلاء الفتية، فقد ثبتهم الله، وستر عن الظالمين حقيقتهم، وحفظهم سبحانه وتعالى، وثبتهم على الدين، وأرشدهم إلى ما صاروا إليه لقرارهم في ثباتهم على دينهم، وصاروا في هذه المنزلة الرفيعة حيث ذكرهم الله عز وجل في كتابه الذي يتلى إلى يوم القيامة، وصاروا ممدوحين للمؤمنين عبر العصور، يمدحهم المؤمنون ويحبونهم رغم أنهم لا يعرفون أسماءهم، ولا بلدهم، ولا زمانهم، ولا من النبي الذي كانوا يتبعون دينه، إنما هو دين الإسلام، لكن ما هو الزمان أو المكان الذي كانوا فيه يعبدون الله سبحانه وتعالى؟ لا يعلم ذلك، فجعل لهؤلاء الفتية هذا الشرف العظيم، وهيأ لهم من أمرهم رشداً كما سألوا ربهم سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء من أعظم وأجمع الأدعية التي ينبغي أن يدعو بها كل مكروب مطارد أو كل خائف يريد أن يأوي إلى مكان يصبر فيه، ويثبت على دين الله سبحانه وتعالى، فاللهم ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.

نوم أهل الكهف سنوات معدودة

نوم أهل الكهف سنوات معدودة قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أي: ضرب الله على آذانهم بحيث صاروا لا يسمعون، وهذا من الآيات البينات المعجزات، فإن الإنسان وهو نائم -كما أثبتت ذلك الدراسات الحديثة، وكما هو ظاهر ممن ينظر إلى النائم- حواسه كلها غير مدركة، إلا حاسة السمع فهي أعظمها إدراكاً، فلو أنك حاولت أن توقظ النائم بأنواع من الحركات، والضوء الشديد وغير ذلك ما شعر شيئاً من هذا، فبصره مغلق، وحتى لو كان نائماً فأحياناً بعض النائمين يفتحون أعينهم، لكن البصر يكون في أعمق فترات السبات والسكون، وكذا الشم والذوق، فأعظم حاسة يمكن أن تحرك الإنسان النائم هي: السمع الذي يسمع به، لذلك إذا ضرب الله على أذنه فلا يمكن له أن يستيقظ إلا أن يوقظه الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، وقد أجملها هنا ثم بينها بعد ذلك، فأخبر أنهم لبثوا ثلاثمائة وتسعاً ثم بعثهم؛ لأن الموت أخ للنوم، وهي آية من آيات الله على البعث، وهذه القصة مما ذكره الله عز وجل في أدلة الإيمان بالبعث، ذلك أنهم ناموا نوماً مثل الموت هذه المدة الطويلة، وهذا من العجب إذ كيف بقيت الأبدان محفوظة؟! وبم تغذت؟ ولكن يمكن أن يعرف ذلك في الواقع المشهود، فكم من كائنات تستكين، وتنام نوماً طويلاً، ومع ذلك تستهلك أقل جزء من الطاقة في أثناء نومها، ثم تستيقظ بعد شهور، فقدر الله لهؤلاء بقدرته العظيمة سبحانه وتعالى أن يظلوا في نومهم أحياء نائمين مدة ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً؛ ليدلنا على قدرته على البعث والنشور، وكذلك ليُعلم علماً يحاسب العباد عليه ((أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، ليعلموا أنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، ولذا يجب عليهم أن يردوا الأمر إلى الله، وينسبوا العلم إليه سبحانه وتعالى، ففي قراءة (ليُعلم) والله أعلم. لكن هنا (لنعلم) على قراءتنا: أي ليرى سبحانه وتعالى علم شهادة بعد أن علم ذلك غيباً، وإنما جعله آية للعباد ليعلموا أن الله عالم الغيب والشهادة، وأن يفوضوا ما يجهلونه في أي أمر من الأمور إلى الله سبحانه وتعالى.

هداية الله تعالى لفتية الكهف

هداية الله تعالى لفتية الكهف قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. قال ابن كثير رحمه الله: إنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، أما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً. قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني: الحلق التي في الآذان، فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي: اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))، استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة ك البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال تعالى ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) كما قال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17] وقال {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم والله أعلم. والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم. وعن ابن عباس: أن قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية والله أعلم.

اعتزال الفتية عبادة قومهم وإعلان التوحيد لله عز وجل

اعتزال الفتية عبادة قومهم وإعلان التوحيد لله عز وجل قال تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14] يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بعبادة الأصنام والطواغيت، ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم -أي: يخرج إلى البراز، وهي الأرض الواسعة- فكان أول من جلس منهم وحده شخص جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان عز وجل، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري معلقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم -يعني: قولهم من جنس واحد هو الذي أوجب أن ينضم بعضهم لبعض- والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه؛ فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم؛ فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا))، و (لن) لنفي التأبيد أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأننا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: ((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا))، أي: باطلاً وكذباً وبهتاناً ((هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ))، أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: ((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ))، أي: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم ((فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ))، أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ((وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) الذي أنتم فيه ((مِرفَقًا))، أي: أمراً ترتفقون به. فعند ذلك خرجوا فراراً إلى الكهف فأووا إليه؛ ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا؛ فقال: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. فقصة غار ثور أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه؛ فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم الباب عليهم ليهلكوا مكانهم، ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر والله أعلم، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرةً وعشياً، كما قال تعالى {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]. فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ((ذَاتَ الْيَمِينِ))، أي: يتقلص الفيء: وهو الظل يمنة، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ((تزاور)) أي: تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: ((وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ))، أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً، ولو كان من جهة المغرب لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: تقرضهم ذات الشمال تتركهم، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من أي الأرض، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالاً، فتقدم عن ابن عباس أنه قال: هو قريب من أيلة، وقال ابن إسحاق: وهو عند نينوي وقيل: ببلاد الروم وقيل: ببلاد البلقاء، والله أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به) فأعلمنا تعالى بصفته، ولم يعلمنا بمكانه فقال: ((وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ))، قال مالك عن زيد بن أسلم: تزاور: تميل عن كهفهم ((ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)) أي: في متسع منه داخلاً بحيث لا تصيبهم إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم، قاله ابن عباس ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ))، حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم، ولهذا قال تعالى: ((ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ))، ثم قال: ((مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ))، أي: هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم، فإنه من هداه الله اهتدى، ومن أضله فلا هادي له.

ضرر القصص الباطلة على الناس

ضرر القصص الباطلة على الناس ونلحظ في قوله عز وجل: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ))، أن الله سبحانه وتعالى قص علينا الحق من ذلك، والحق هو ما ينتفع الناس به وما وافق الصواب والواقع، فلم يذكر الله سبحانه وتعالى كما سمعنا من الإمام ابن كثير رحمه الله كثيراً من التفاصيل التي لا تفيد العباد في شأن قلوبهم وأعمالهم وسلوكهم أو تدبرهم، وهذا كما نعلم شأن القرآن في أكثر قصصه، لا يذكر تفاصيل الأمكنة والأزمنة وأسماء الأشخاص والبلاد في معظم هذه القصص إلا ما كان له به حاجة، وهو بالحق لأنه موافق لما وقع وجرى دون زيادة ولا نقصان، والله سبحانه وتعالى جعل القصص الحق مما ينبغي أن ينشغل الناس به، وأما القصص الباطل فقد ذمه في سياق هذه الآية قال تعالى: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ))، أي: فلا تشغل نفسك بغير الحق، واهتم بهذا الحق، ففي مفهوم هذه الآية الكريمة أمر بالاهتمام بقصص الحق، ونهي عن الاشتغال بقصص الباطل، وهذا أمر عظيم الأهمية في حال قلب العبد المؤمن، فإن انشغال الإنسان بالقصص الباطل يدمر الإيمان في القلب تدميراً، ويشغله عما ينبغي أن يعده لمستقبله الحقيقي، ولذلك كان من أعظم الأمور مفسدة ما يظنه كثير من الناس صالحاً من شغل الناس بالقصص الباطلة، وتأليف هذه الأقاصيص الكاذبة، وبعضهم قد يظن أنها ربما تصبغ صبغة دينية إسلامية، وتجعل فيها بعض المفاهيم، والحق أن هذا في الجملة من أعظم ما يؤدي إلى فساد العقول والقلوب؛ لأن القلوب تتعلق بهذا الباطل فيسهل تعلقها بكل باطل بعد ذلك، وأما إذا تعلقت بالقصص الحق فهنا يحدث لها تعلق بالحق كله، وذلك لأن الباطل يجر إلى مزيد من الباطل؛ لذلك نقول: أمراض النظر والقراءة والسماع لقصص الباطل أمراض عديدة تظهر في سلوك الإنسان ومعتقداته، ويبدأ ذلك معه منذُ صغره، ويمتد معه حتى يكبر، ولذلك نجد الكثيرين يهتمون بالباطل والمظاهر أمام الناس كما قد تعودوا ونشئوا على هذا، فكل الأمر عندهم تمثيل في تمثيل، وما ينبغي أن يسمى تمثيلاً هذا الذي يفعلونه، فالتمثيل ضرب المثال، أما هذا الذي يفعلونه فهو الكذب بعينه، ولا حقيقة له ولا أصل، وهو يضر أعظم الضرر، ولذا فالنصيحة الأكيدة لشباب المسلمين ورجالهم ونسائهم أن يتجنبوا القصص الباطلة، ويكتفوا بقصص الحق قصص القرآن العظيم، فإن قصص الباطل تؤدي إلى تعلق القلب على الدوام به والعياذ بالله، فيظل دائماً على تلك الحال يعيش حياته بالباطل، وهو يستحضر ما قد رآه وسمعه، وعاش فيه قبل ذلك في صغره وكبره، فلا شك أن إغلاق هذا الباب واجب، سواء كانت قراءة كالألغاز والروايات المختلفة، أو سماعاً من وسائل المذياع والمسلسلات وغيرها، أو نظراً ورؤية كالأفلام والمسرحيات والتمثيليات، فإنها كلها تؤدي إلى أعظم الأضرار على القلب، وأما سماع القصص الحق واستحضارها في القلب وتدبرها فهو يزيد الإيمان أيما زيادة، قال تعالى: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))، وكما سمعنا، فقد استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على زيادة الإيمان، فالله عز وجل يتفضل أولاً على عباده لتوفيقهم للإيمان، ثم يمن عليهم ثانياً إذا آمنوا بزيادتهم هدىً وإيماناً، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق في قلوب عباده الهدى والإيمان. وهذه الآية تدل على خلق أفعال العباد، فالله عز وجل هو الذي يخلق في قلوب من شاء الهدى، ويخلق في قلوب من شاء الضلال، وهو سبحانه يزيد إيمان من شاء بعدله ورحمته وحكمته سبحانه وتعالى، وهو عز وجل الذي ينزع الإيمان ويزيغ القلوب عدلاً منه وحكمة، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه والإيمان يزيد وينقص قولاً وعملاً عند أهل السنة والجماعة باتفاقهم على ذلك، وهذا هو الأصل الذي يرد به على الخورج والمرجئة، وفي نفس الوقت الخوارج والمعتزلة من جانب والمرجئة من جانب آخر، وذلك أن الفئتين أصل ضلالهم: إنكار زيادة الإيمان ونقصانه، فإنهم يرونه شيئاً واحداً إذا ذهب جزؤه ذهب كله، فقالت الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال من الإيمان، وإذا ذهب بعض العمل ذهب الإيمان كله، فكفر الخوارج مرتكب الكبيرة، وتارك الواجب، وقالت المعتزلة: إنه فاسق في منزلة بين المنزلتين مخلد في النار، والعياذ بالله من هذا الاعتقاد، ولما رأى المرجئة أنه لا يمكن أن يقولوا ببقاء جزء من الإيمان وزوال جزء لعدم قولهم بزيادته ونقصانه، ورأوا الأدلة على مرتكب المعاصي والكبائر لا تخرجهم من الملة قالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ ولذلك يبقى الإيمان كاملاً كإيمان جبريل وميكائيل ومحمد صلى الله عليه وسلم ولو ارتكب كل المنكرات، فأتوا بهذا الضلال المبين وكلا الطائفتين في ضلال، ولو التزموا بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القول بزيادة الإيمان ونقصانه لما قالوا هذا الضلال ولرجعوا عنه، والله سبحانه وتعالى صرح بالزيادة، وما احتمل الزيادة فهو يحتمل النقصان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في النقصان (وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن)، فوصف النساء بنقصان الدين، والإيمان من الدين، ولذلك فالمرأة أنقص ديناً، والأعمال من الإيمان بلا شك، لكن لا يلزم من تركها أو من فعل المخالفات المنهية عنها زوال الإيمان بالكلية، بل يزول الإيمان الواجب بترك العمل الواجب أو بفعل الشيء المحرم، ولكن يبقى أصل الإيمان فإنه لا يزول إلا بالكفر والشرك والعياذ بالله، فإنه لا يجامع أصل الدين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]. فاقتران الإيمان بالشرك يحبط ذلك الإيمان كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فتبين بذلك أن الإيمان إذا زال بعضه لم يلزم زواله كله، بل يزول القدر الواجب منه بترك الواجب أو فعل المحرم، ويزول المستحب منه بترك المستحب، ويمكن أن ينفى الإيمان عمن ترك الواجبات فيقال: لا يؤمن من فعل كذا، وليس المقصود: أنه يكفر ويخرج من الملة أو لا يكون معه شيء من الإيمان بالكلية، لكن معناه: لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب، أو لا يؤمن بكل الذي أوجبه الله عز وجل عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وقال: (ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)، وهو الذي قال: (يدخل الجنة من قال: لا إله إلا الله وإن زنى وإن سرق)، فدلنا ذلك على أن نفي الإيمان ليس نفياً لأصله عن الزاني والسارق، بل نفياً لكماله الواجب، وأن الأعمال من الإيمان، حتى أتى المرجئة بهذه الفظيعة التي قالوها بأن الأعمال ليست من الإيمان، وأن الإيمان يكون كاملاً في القلب مع وجود المنكرات والكبائر، وترك الواجبات حتى الأركان منها كالصلاة والصيام والزكاة والحج، فيرون ذلك كله لا ينقص الإيمان ذرة والعياذ بالله! وهذه ضلال مبين وتكذيب صريح لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى بين في هذه الآية الكريمة سبب زيادة الإيمان، وهو أن يقبل الإنسان على الإيمان، فإذا أقبل الإنسان وآمن زاده الله هدىً وإيماناً، فأنت كلما تقربت إلى الله تقرب الله منك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، وذلك مأخوذ من أن الله ذكر فعلهم أولاً منسوباً إليهم: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا)) ثم ذكر سبحانه وتعالى الزيادة منسوبة إلى فعله عز وجل: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)) ولا يظن ظان أن ذلك الإيمان أولاً كان بلا إرادة من الله أو توفيق، كلا، وإنما ذلك كان بتوفيق الله عز وجل، فالله خالق كل شيء، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] قال سبحانه وتعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. فالإيمان أولاً هداية من الله، ثم هناك هداية، فالعبد بين هدايتين من الله عز وجل، ولكن كما ذكرنا أنه سبحانه يدلنا على علاقة السببية بين زيادة الإيمان وبين أصله وما عليك إلا أن تقبل على الله فيقبل الله سبحانه وتعالى عليك، ويأتيك بأنواع فضله عز وجل، فهذا هو السر حيث ذكر الإيمان أولاً منسوباً إلى فعلهم (آمنوا بربهم) والزيادة إلى فعل الرب (وزدناهم هدى)، فأفعال الله سبحانه وتعالى مترتبة على ما يفعلونه، كما أن الكفار لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، ولما ردوا الحق قلب الله أفئدتهم وأبصارهم. {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]؛ لأنهم لم يؤمنوا به أول مرة فجعلهم الله لا يرونه حقاً بعد ذلك، بل قلب أفئدتهم؛ حتى لا تراه حقاً، وأغلق قلوبهم بأقفال كما قال تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]. وهكذا في كل المواضع، فقد أخبر أن الطبع والغل والختم كان بسبب الأعمال، ولا مانع أن يترتب فعل الرب على فعل العبد الذي هو أثر من آثار فعل الرب سبحانه وتعالى، فاهتداء العبد أولاً هو ثمرة وأثر ونتيجة لفعل الرب عز وجل به، وهو أن الله سبحانه هداه للإيمان أولاً، والفضل له عز وجل أولاً وآخراً، قال سبحانه: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)). فإذا أردت أن تزداد هدى فأقبل على الله فسوف يثمر الله لك في قلبك مزيداً من الخير والإيمان، قال تعالى: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ))، فالله الذي يربط على القلوب ويقويها ويثبتها ويصبرها ويشجعها حتى لا تخاف فيه لومة لائم، وحتى تقوم بدعوة الحق، فيصغر الناس في نظر صاحب هذا القلب الشجاع الذي ليس عنده من أسباب الدنيا وأسباب الحماية ما عند الناس، ولا ما يدفع به عن نفسه، ولكن يربط الله عز وجل على قلبه فيقوم لله سبحانه وتعالى بحقه فلا يعبأ بالخلق أمامه. (وربطنا على قلوبهم) والله عز وجل هو الذي يقلب القلوب كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب أراد أن يقيمه أقامه، وأيما قلب أراد أن يزيغه أزاغه)، ولذلك فالعبد المؤمن دائماً ينظر إلى فضل الله سبحانه وتعالى، ويتضرع إليه بأن يثبت قلبه على دينه، وأن يربط على قلبه كما وصف الله عز وجل حال المؤمنين في غزوة بدر، فقال سبحانه وتعالى: (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، فالله ربط على قلوب الصحابة حتى تشجعت ولم تنهار، ولم تتزلزل حين رأت الكفار، وانظر إلى الفرق بين قلوب الصحابة رضي الله عنهم وبين قلوب المنافقين في مثل هذه المعركة وغيرها من المعارك، كما قال سبحانه وتعالى عن المنافقين في غزوة بدر: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49]. فالله سبحانه وتعالى وصف حال المنافقين بأنهم ظنوا الغرور في المؤمنين، كما ذكر عز وجل حال المنافقين في سورة الأحزاب في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، فدل ذلك على حال هؤلاء عندما يأتي الأعداء وتكون مواقف الخطر، وكيف أن الله سبحانه وتعالى يربط على قلوب المؤمنين، وتتزلزل قلوب المنافقين، ولقد منّ الله سبحانه وتعالى على المؤمنين إذ صبرهم وثبتهم، فاللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.

فتية آمنوا بربهم [2]

فتية آمنوا بربهم [2] في قصة أصحاب الكهف آيات وعبر ودروس للمؤمنين، لاسيما في فترة ضعف المسلمين وتسلط الكافرين، فينغبي تدبر هذه القصة والاستفادة مما فيها من الدروس العظيمة.

دروس وعبر من قصة أصحاب الكهف

دروس وعبر من قصة أصحاب الكهف

الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر

الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فيقول الله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، قومتهم هذه يظهر أنها كانت دعوة إلى الله عز وجل، وإلا لو ظلوا كاتمين ما بأنفسهم لما تعرضوا لخطر، ولما دعوا إلى أن يرجعوا عن دين لم يعلنوه؛ فقد قاموا بواجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، بل دعوا إلى الله كما سمعنا في القصة التي ذكرها ابن كثير وغيره وهي: أنهم دعوا ملكهم إلى الله عز وجل، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى ثبات وصبر وتوفيق من الله عز وجل حتى يكون الحق واضحاً جلياً.

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية

الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية قال عز وجل: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:14]، وهذا نلحظ منه الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألهية، وبالآيات الآفاقية والنفسية {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا} [الكهف:14]، فالله سبحانه وتعالى الذي خلقنا، وهو الذي خلق السموات والأرض، كما قال عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21]، وقال موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، ثم قال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، وقال الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، وقال عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36]، ربنا خالقنا ورازقنا الذي يدبر أمرنا رب السماوات والأرض. إذاً: توجد آيات نفسية وآفاقية ملموسة لكل متأمل في وجودنا وفي وجود هذه السموات والأرض يترتب عليها توحيد الألهية.

دعاء غير الله شرك

دعاء غير الله شرك قوله: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] دلت هذه الآية الكريمة على أن دعاء غير الله من الشرك -والعياذ بالله-، فمن دعا غير الله فقد اتخذه إلهاً من دونه عز وجل؛ ولذلك لا يطلب المؤمن جلب النفع ولا دفع الضر إلا من الله سبحانه وتعالى، والشطط هو القول البعيد جداً عن الحق والصواب، وهو الباطل والزور والكذب كما فسره ابن كثير رحمه الله، وأبعد القول عن الصواب والاعتقاد عن الصواب هو دعاء إله غير الله عز وجل.

الثبات على الحق ولو كان الإنسان وحده

الثبات على الحق ولو كان الإنسان وحده ذكر ابن كثير رحمه الله قصة تعرف هؤلاء على بعضهم، وأن كلاً منهم كان يفر بدينه ولا يريد أن يبينه؛ لأنه لا يدري أن أحداً سيكون معه، وهذا من أعظم ما ينبغي أن ينتبه إليه كل داع إلى الله عز وجل، وكل عامل في مجال الدعوة إلى الله، وكل مجاهد في سبيل الله، بل كل مسلم في الحقيقة، كل منهم خرج وهو يظن أنه الوحيد، ولم ينتظر أن يكون معه أحد ليتبرأ ويترك دين الباطل، كلهم تركوا قومهم يعبدون الأوثان، وانصرفوا إلى الأرض الواسعة، وكل منهم يظن نفسه وحيداً. لذلك لابد أن تكون ملتزماً بالحق ولو كنت ترى نفسك وحيداً، وهذه فائدة عظيمة، وهذه هي الغربة التي يستشعرها المؤمن حين يرى أكثر أهل الأرض يبتعدون عن دين الله سبحانه وتعالى، ولربما كان في مكان أو زمان لا يرى غيره على الحق، ولا شك أن النفوس تتأثر بمن حولها، وأكثر الناس يتبعون الغوغاء والكثرة، ويقولون: وجدنا الناس يقولون شيئاً فقلناه. ولا حول ولا قوة إلا بالله! والناس دائماً تحتاج إلى من يحركها ويوقظها ويدفعها دفعاً إلى الخير أو الشر، إلا الأفذاذ من العالم الذين يتحملون أن يكونوا أفراداً في الحق ولو لم يجدوا على الحق معيناً، فكل منهم كان في نفسه أنه وحده وليس معه أحد، ثم جعل الله صداقتهم وأخوتهم وارتباطهم واجتماعهم على توحيده سبحانه وتعالى بعد ذلك. إذاً: سر في الطريق وسوف تجد لك رفاقاً بإذن الله، خصوصاً في أمتنا التي قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام، (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة)، وإياك أن تقول: هل أصنع ذلك وحدي؟ لو لم تجد أحداً يدعو إلى الله فكن أنت، لو لم تجد أحداً ينصر الإسلام فكن أنت، لو لم تجد أحداً يقول الحق فقل أنت، لو لم تجد من يطع الله سبحانه وتعالى فكن أنت الذي تطيع، واستحضر في ذلك من سبقك على طريق الهدى وما حولك من الكون المطيع؛ فإن من أقوى ما يعينك على الثبات على الحق: أن تستحضر أن الطريق الذي تسير عليه قد سار قبلك فيه خيرة الخلق، أنبياء الله وأولياؤه، فاستحضر على بعد الديار والأزمان مسيرهم، وأنك معهم، وإن افترقت الأبدان الآن فإن الأرواح مجتمعة، وكذلك استحضر أن الكون كله -إلا الثقلين- يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض والطير صافات، وأن الله يسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن. فإذا استحضرت ذلك هان عليك أن تكون وحدك، وسهل عليك أن تقوم لله عز وجل بحقه، وإذا فعلت ذلك وسرت في الطريق يسر الله لك من إخوان الخير المعينين عليه من لا تعلم وجودهم الآن، ولا ترى مسيرهم معك، كيف إذا كنت ترى من يدعوك إلى الله عز وجل لتسير معه وتسمعه ليل نهار؟! لا عذر لك إذاً، ولكن هؤلاء الأفاضل الأفذاذ رضي الله تعالى عنهم من أصحاب الكهف كان كلٌ منهم يرى نفسه وحده، ومع ذلك قام وخرج وترك الباطل ولم يقلده قال عز وجل: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14].

فتية الكهف أمة واحدة

فتية الكهف أمة واحدة لما صرح بعضهم لبعض بسبب خروجه، وعرفوا أنهم فارقوا دين قومهم كراهية له؛ اجتمعوا وصاروا يداً واحدة، وطائفة واحدة، وصاروا سبعة -أو ما الله عز وجل أعلم به-، صاروا جماعة وأمة لا يذكرون بأسمائهم ولكن يذكرون كطائفة واحدة؛ لأنهم تعاونوا على ذلك، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، قال ابن كثير: صاروا يداً واحدة، وأعان كل منهم الآخر، وصاروا إخوان صدق، وتوافقوا على كلمة واحدة حتى يستطيعوا عبادة الله عز وجل. وهكذا ينبغي أيضاً أن يكون المؤمنون، فإذا علموا أن أحداً على طريقهم فلا بد أن يكونوا معاً لا يفترقون ولا يختلفون، بل أنت تفرح وسط الغربة بوجود من يكون معك على طريقك فكيف تفارقه؟ وكيف تبتعد عنه؟ إن الذين يرغبون في الاختلاف والفرقة، وأن يكون كل واحد منهم متميزاً بنفسه هم مرضى في الحقيقة، وهذا -والعياذ بالله- من أخطر الأمراض التي تلبس في زماننا ثوب الصحة والعافية. أعني بذلك: أن كثيراً من الناس يذم كل من اجتمعوا ليقولوا كلمة الحق، وأن يقوموا لله سبحانه وتعالى دعاة إليه داعين إلى الخير، ويتهمون من يجتمع على ذلك بأنهم متعصبون متحزبون، ويرون الحزبية في الاجتماع ولو كان على الطاعة، وهذا من أعظم الجهل والله، فإن الحزبية المذمومة إنما هي أن يكون الإنسان مقلداً في الباطل، ومجرد انتمائه إلى طائفته يجعله يرى كل ما تراه دون رجوع إلى الكتاب والسنة، ودون أن يزن ما يقولونه ويفعلونه أو ما يقوله ويفعله الآخرون بميزان الشرع، وهذا باطل لا شك فيه، وهذا هو التحزب المذموم، أما أن يكون مجرد الانتماء تحزباً فهذا مما ينابذ روح الشريعة ونصوصها، بل الواجب أن تأتلف القلوب وتجتمع، وليس الاجتماع على طاعة الله سبحانه وتعالى حزبية ممقوتة، ولكنه من التعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به، أما الذين يلبسون رغبتهم الخبيثة في أن يكون كلاً منهم عالياً بنفسه متميزاً عن غيره ثوب الصحة والعافية في أنه لا يريد الحزبية، فيترك إقامة دين الله عز وجل، ويترك التعاون على البر والتقوى، حتى تموت الدعوة إلى الله، وتموت سائر الفروض الأخرى؛ لأن التمزق والتفرق يؤدي إلى التنازع والشحناء والبغضاء، وإلى أن تكون فروض المسلمين الكفائية غائبة وضائعة، وهذا هو الذي سبب ما يرى من غثاء السيل كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام، فآلاف الملايين من المسلمين عاجزون عن أن يصنعوا شيئاً لأعداء الله من الكفرة المجرمين من اليهود والنصارى والمنافقين. ولا حول ولا قوة إلا بالله! مأساة عظيمة تقع وتحدث، وثمرة مريرة يتجرعها أجيال منذ عقود من الزمن، بل قل: قرون من الزمن أدت إلى هذا الذي يحدث اليوم. إن ما يجري للمسلمين ثمرة من ثمرات بعدهم عن دينهم وتفرقهم وعدم قيامهم بالواجبات، وغفلتهم عما ذكره الله في كل قصص القرآن من أن المؤمنين طائفة وأمة دائماً، وهم مع بعضهم بعضاً يد واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، لا حول ولا قوة إلا بالله! فاجتماعهم وقيامهم كطائفة من أعظم الفوائد التي نستفيدها من هذه القصة العظيمة، فالاجتماع على طاعة الله، والتعاون على البر والتقوى من أعظم الواجبات الشرعية التي لا بد من القيام بها حتى نتمكن من القيام بالواجبات الأخرى، والله المستعان.

دعوة الفتية قومهم للإيمان

دعوة الفتية قومهم للإيمان قال عز وجل: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:14 - 15] أي: هلا يأتون على عبادة هذه الآلهة بدليل وحجة وبرهان واضح، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، هذه صيغة الإنكار عليهم، (لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، فغرضهم من الكلام: تأكيد انعدام الحجة على الشرك، وأنه أبطل الباطل، فلا دليل عقلي ولا شرعي ولا حسي ولا أي نوع من أنواع الأدلة يدل عليه، فليس إلا مجرد التقليد المحض للآباء والأجداد -والعياذ بالله-، وهو أعظم الذنب؛ لأنه افتراء على الله الكذب، ومخالف للواقع والحقيقة، مخالف لأعظم اليقينيات في هذا الوجود، وهي وحدانية الله سبحانه وتعالى رباً وإلهاً، أضف إلى ذلك نسبتهم هذا الشرك إلى الله عز وجل، وأنه يرضى به، ويسوغه للناس، فمن يقر بوجود الله يزعم أن الله عز وجل قد رضي بما هو عليه، كالمشركين الذين وجد فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يقرون بوجود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنهم يريدون التقرب إلى الله، وأن الله قد رضي منهم ذلك، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148]، يريدون أن ينسبوا شركهم إلى الله عز وجل، وأنه يرضى به، ويقره ويصححه -والعياذ بالله من ذلك-، وكاليهود والنصارى؛ فإنهم يقرون بوجود الله، ويشركون به عز وجل في ادعاء الصاحبة والولد، ونسبة العجز والضعف والنقص إليه سبحانه وتعالى، وغير ذلك من أنواع الكفر التي هم عليها، وهم في نفس الوقت يزعمون أنهم يتقربون إلى الله بذلك، وأن الله يرضى بذلك. فلذلك نقول: أكثر الأمم يقرون بوجود الله، وهم في نفس الوقت يشركون بالله، وهو لا يقع إلا بأن ينسبوا ذلك إلى الله، فيجمع المشرك بين كونه قد أشرك، وارتكب القول الشطط الباطل الكذب البعيد عن الحق وهو أعظم الظلم، وأضاف إلى ذلك أنه افترى على الله عز وجل الكذب، ولذلك كان قول الإنسان على الله ما لا يعلم من أعظم الذنوب، بل ذكر الإمام ابن القيم أن الله سبحانه وتعالى جعله أشد من الشرك؛ ذلك لأن الذي أشرك ضرره عليه في نفسه، أما من افترى على الله الكذب فهو داعٍ إلى استمرار الشرك؛ لأنه حين نسب ذلك إلى الله وإلى دينه، وزعم أن الله يرضى بذلك؛ فإن ضرره مستمر لمن بعده، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]. وأسوأ من ذلك من يعلم مخالفة ما يقضي به لشرع الله، ثم يصححه ويصوبه، ويقول بسيادته وعلوه على غيره، ويلزم الناس بالعمل به. لذلك نقول: لابد من التعرض لمثل هذا الأمر الجلل؛ إذ إن أكثر الناس في غفلة عنه، وفي هذا الزمان كثر الجهل، وقل العلم، وأصبح يستفتى في سائر الأمور من يجلسون على المقاهي، بل استفتوا أكبر الفساق، وربما رءوس الكفر من الملل الأخرى، ويقولون: ما رأيك في الشيء الفلاني؟ وما تقولون في الشيء الفلاني؟ فأصبح كل أحد يتكلم في الدين، مع أن الكلام في الدين معناه أننا ننسب ذلك لرب العالمين، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، نسأل الله العافية.

عزلة أصحاب الكهف

عزلة أصحاب الكهف قال الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، هذه الآية الكريمة تدل على مشروعية الاعتزال عندما يخاف الإنسان على دينه من الفتن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن). والعزلة على مراتب: فأما اعتزال الشر نفسه فهذا فرض على كل أحد، بمعنى أن الإنسان يلزمه أن يترك الشرك والبدع والمعاصي وأن يعتزلها، فهذا فرض لا نحيد عنه، ولا يباح لإنسان مختار أن يأتي شيئاً من المعاصي أو الفسوق فضلاً عن الكفر ويخالط الناس لأنه يشق عليه أن يفارق بلده ووطنه وأهله إلا أن يكون مكرهاً: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فهذا هو فقط المعذور، وأما من وقع في الباطل شركاً كان أو فسقاً أو معصية وهو يزعم أنه مستضعف مع قدرته على الضرب في الأرض ليبحث عن أرض يعبد الله فيها، فهذا وأمثاله ممن أنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. فاعتزال الشر فرض على كل أحد، ولا عذر لأحد أن يفعل الشر بدرجات مختلفة بزعم أنه يريد أن يكون مع الناس، أو أن الناس يضغطون عليه، أو أنه يخجل منهم إلا أن يكون مكرهاً، ومن شروط الإكراه الشرعي أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وإذا استطاع أن يفر منهم لم يكن مكرهاً. أما اعتزال أهل الشر ومفارقتهم، وأن لا يكون معهم في بلدهم فالآية تدل على ذلك {إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف:16]، فهم أولاً اعتزلوا الشرك، وتركوا عقيدة قومهم الباطلة في دعاء آلهة من دون الله لا دليل عليها، وافترائهم على الله الكذب، تركوا ذلك كله وهجروه واعتزلوه، ثم ضغط عليهم قومهم، وأرادوا فتنتهم؛ فكان اعتزالهم بأبدانهم عن قومهم ومفارقتهم ديارهم هي العزلة عن أهل الشر، وهي على أحوال أيضاً، فأما القدر الواجب منها: أنه إذا لم يكن هناك طريق للتخلص من أن يقع الإنسان في الظلم؛ فضلاً عن الشرك -والعياذ بالله- إلا بالفرار والهجرة، فهنا يكون الفرار بالدين من الفتن واجباً. والمرء إذا لم يكن يستطيع أن يقيم دينه، وأن يعمل بطاعة الله في الأرض التي هو فيها لزمه تركها، ولذا قال أهل العلم فيمن تجب عليه الهجرة: هو من عجز عن إقامة الدين، وقدر على الهجرة؛ فيلزمه أن يهاجر ويفارق الناس ببدنه. ومن إقامة الدين -إذا كان الإنسان قادراً على صورة من الصور-: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن ذلك من الدين، ولذلك لا يجوز للمسلم أن يقيم بأرض يعلن فيها بمخالفة الشرع بدرجاته المتفاوتة، لغير غرض شرعي صحيح كالإنكار عليهم، وهذا ما صنعه أصحاب الكهف، فلا يجوز له أن يقيم ويقول: أنا أقيم ديني، بمعنى أنه يصلي ويصوم ويتصدق ويتركونه يذهب إلى الحج والعمرة، ويأكل ويشرب ويلبس ما يريد، مع كونه يراهم على الشرك والكفر، أو على الفسوق والعصيان ليل نهار ولا يصنع شيئاً، لا يجوز الإقامة على ذلك؛ لأن هذا ليس من إقامة الدين، فإقامة الدين تشمل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طالما قدر على صورة من صور ذلك، فإذا لم يكن قادراً إلا على التغيير بالقلب مع عدم وجود مصلحة شرعية أخرى فإنه لا يجوز أن يقيم ساكتاً، وطالماً قدر على الهجرة فيجب عليه أن ينتقل إلى أرض لا يعلن فيها بهذا الفساد، وإن لم يجد ففي الشر خيار، فيختار أقل الأمور شراً وضرراً على دينه. وأما إذا كان يقيم هناك لمصلحة شرعية، بأن كان قادراً على إقامة الدين، ومن ضمن إقامته ما ذكرنا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الأنبياء جميعاً قد أقاموا مدداً في أقوامهم، وقد كان الشرك مستعلياً مستعلناً ظاهراً في الناس وهم يدعون إلى الله سبحانه وتعالى لنبذ الشرك وتركه، فكانت إقامتهم هي المصلحة الراجحة على مفسدة الإقامة وسط الكفار، وإلا لما أنقذ أحد من الشرك، ولو كان الرسل أول ما أوحي إليهم أن هذا شرك وكفر رحلوا وفارقوه لما اهتدت أقوام بعضهم، فليس كل من يعلم الحق بمجرد أن يعلمه ينصرف عن أهله، فلا بد أن يوجد من يقيم بين الناس حتى يبلغ دعوة الحق. ولذلك نقول: إن الاعتزال في هذه الحالة مع القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو وجود مصلحة شرعية لإنقاذ مسلم هلك لا يكون مشروعاً في تلك الحالة، بل الأفضل -إن لم يكن الواجب- أن يظل الإنسان مرتبطاً بالناس يأمرهم وينهاهم، خصوصاً مع أن واجبات تعليم الناس الخير، وأمرهم ونهيهم عن المنكر من فروض الكفاية، فإذا قام بها البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط الحرج عن الباقين، وإلا أثم الجميع. ومن هنا فإذا ترك الإنسان المكان واعتزل الناس ضاع هذا الواجب لم يجز له ذلك، وإذا كان هناك من يقوم به ويتأدى الفرض به فيمكنه أن يرحل إلى مكان أكثر طاعة لله سبحانه وتعالى. وأما اعتزال أهل الشر بهجرانهم، بأن لا يصاحبهم في مجالسهم التي يرتكبون فيها المنكر فهو أيضاً من الواجبات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140]، فمن هنا كان إقامة الإنسان في مجالس المنكر محرم، ويجب عليه أن يعتزل مجالس المنكر وأماكن المنكر حتى لا يكون مثلهم في الحكم مشاركاً لهم فيما هم فيه.

العذر بالإكراه وضوابطه

العذر بالإكراه وضوابطه الذي يظهر من سياق الآيات في هذه القصة: أن عزلة أهل الكهف كانت من النوع الواجب؛ لأنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، وذلك يدل على أنهم لو بقوا لأكرهوا على الكفر. والعياذ بالله! قال طوائف من العلماء: إن الإكراه لم يكن عذراً للأمم السابقة بل كان فرضاً عليهم أن يصبروا ولو قتلوا، وأن الله وضع عن هذه الأمة فقط الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وهناك أدلة كثيرة على خلاف هذا القول، وأن الإكراه معتبر عموماً، من ذلك قوله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]، وعموم الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، وحديث: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، لا مفهوم له على الصحيح؛ لأنه في مقام الامتنان، ولا يلزم ما ذكر في مقام الامتنان أن يكون غيره بخلاف هذا الحكم، فإن موسى عليه الصلاة والسلام ليس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال للخضر: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، فقبل الخضر ذلك، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى، فالمؤاخذة بالنسيان الظاهر أنها ليست خاصة بالأمة، وكذا الخطأ، والله أعلى وأعلم. فالذي يظهر أن الأدلة التي يستدل بها إنما هي في فضل من صبر على الإكراه، أو في فضل من يتحمل ذلك، أو في ذم من يستجيب لداعي الكفر عند الإكراه، ولا يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فإن الشرط الأساسي: أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان، لكن من فتن فافتتن فإنه لا يكون ممدوحاً عند الله سبحانه وتعالى، ولا معذوراً كما قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، فهو يستجيب لداعي الفتنة. وقد ذم الله المنافقين في قوله عز وجل: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14]، وفي الأثر: دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب، وذكر قصة الرجلين اللذين مرا على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد إلا قرب له شيئاً، وقالوا لأحدهما: قرب شيئاً، فقال: ما كنت لأقرب شيئاً دون الله عز وجل فقتلوه فدخل الجنة، وقالوا للآخر: قرب شيئاً، قال: لا أجد شيئاً أقربه، فقالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فدخل النار. فهذا استجاب لهم دون أن يعرض على القتل، كما دلت عليه القصة والله أعلى وأعلم. فهؤلاء الفتية خشوا على أنفسهم أن يستجيبوا للباطل وأن يتبعوه إذا أكرهوا عليه، فلذلك قال: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] أي: إن استجبتم لهم.

وجوب العزلة في حق أصحاب الكهف

وجوب العزلة في حق أصحاب الكهف الظاهر أن العزلة كانت في حق أصحاب الكهف واجبة، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، وهم قد ضحوا تضحية عظيمة حين لجئوا إلى الكهف، وآووا إليه؛ لأن معيشة أبناء الملوك والأغنياء -وقد كانوا مرفهين في مدينتهم- في كهف غير مهيأ أو معد فيه موضع منام أو مطعم أو مشرب أو غطاء أو كساء شبه مستحيلة، فسبحان الله! كيف ضحوا في سبيل الله سبحانه وتعالى ببيوتهم ووطنهم، وتحملوا مفارقة الأحباب والأهل والأصحاب لله عز وجل، ورجوا أعظم ما يرجى: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، وذلك أنهم لما تركوا لله، وعظموا رجاءهم بأن الله يعوضهم خيراً مما تركوه لأجله، أعطاهم الله خيراً منه ونشر لهم من رحمته، ووسع الله سبحانه وتعالى عليهم، وكتب لهم رحمته في الدنيا والآخرة. {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] أي: أمراً ترتفقون به، وشيئاً من الرفق واليسر، فالذي يترك شيئاً لله يظن الناس أنه عسر فليبشر باليسر؛ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5]. {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16]، والكهف ضيق مظلم فيه شدة، ومع ذلك رجوا فيه الرحمة والرفق من الله سبحانه وتعالى. وفي قولهم: {رَبُّكُمْ} [الكهف:16] إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين، وفي هذا دلالة على أنه يختصهم برحمته، ويحفظهم سبحانه وتعالى بحفظ ليس لغيرهم، لكمال إيمانهم بالله عز وجل حين ضحوا في سبيله سبحانه وتعالى.

هداية الله لهم إلى كهف له مميزات خاصة

هداية الله لهم إلى كهف له مميزات خاصة قال الله تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ} [الكهف:17]، من تقدير الله سبحانه وتعالى أن ألهمهم اختيار كهف يناسب ما يريد الله عز وجل أن يجري فيه من آياته في قصة هؤلاء، فجعل الشمس تدخل الكهف ولا تصيبهم بحرارتها وأشعتها المباشرة، بل تدخل الكهف لمصلحتهم، إذا أشرقت وإذا غربت فإنها (تزاور) أي: تميل عن كهفهم. {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ} [الكهف:17]، أي: في متسع منه بحيث لا تصيبهم؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف:17] انظر إلى الهداية لهذا الكهف من غير أن يفكروا أصلاً فيما ينبغي أن تكون عليه صفات هذا الكهف، وكيف أن الشمس تميل أو لا تميل، أو تقترب أو تبتعد، لم يفكروا في ذلك، ولكن الله عز وجل إذا العبد آمن به هداه إلى ما فيه مصالحه في الدنيا والآخرة من حيث علم ومن حيث لا يعلم، ولذلك تأكد وثق أنك إذا أقبلت على الله عز وجل تلقاك من بعيد، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عن الله سبحانه وتعالى: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فالله يهديك بإيمانك إلى ما يصلح لك في الدنيا والآخرة من حيث أردت وشعرت ومن حيث لم ترد ولم تشعر، فهؤلاء الفتية لم يريدوا أن يكون الكهف بهذه الصفة، لكن قدر الله لهم ذلك هداية منه عز وجل، وآية من آياته لعباده المؤمنين؛ ليعظم توكلهم على الله سبحانه وتعالى.

الله هو الولي

الله هو الولي قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، الولي المرشد هو الله سبحانه وتعالى، الذي يتولى العبد ويتولى شأنه بالإصلاح، والذي يرشده إلى الهداية وإلى أسباب التوفيق والخير في دنياه وأخراه، فمن أضله الله فلن تجد له ولياً مرشداً. كثير من الصوفية يحتجون بهذه الآية في غير موضعها، ويقولون: لابد من وجود الولي المرشد في الطريق إلى الله، وهو استدلال على عادتهم بالآيات في غير معانيها ومواضعها، فيقولون: لابد أن يكون لكل واحد ولي من أولياء الله يرشده، ومن ليس له شيخ فشيخه شيطان، ويكون ضالاً، مع أن الآية إنما هي في الله سبحانه وتعالى، {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، فالمؤمنون الذين هداهم الله لهم ولي مرشد، من هو الولي المرشد؟ هو الله، قال سبحانه: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، واستدلالهم بالآية في غير موضعه، وإن كان لا شك أن الإنسان يحتاج إلى معلم ومرشد، ولكن هذه الآية لا يستدل بها على ذلك؛ لأن إرشاد الرب سبحانه وتعالى وهدايته أعظم الهداية، وولايته لعبده المؤمن حفظاً وعناية ورعاية وتأييداً وتوفيقاً أعظم ولاية، ولذلك هو يتولى المؤمنين، ويتولى الصالحين، فهو ولي يتولى أمره، ومرشد يرشده، فهذا الذي يفعله الله بعباده المؤمنين لا نظير له فيما يفعله الناس.

كرامة أصحاب الكهف

كرامة أصحاب الكهف قال سبحانه وتعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، قال ابن كثير: ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا تتأذى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، وهذا الكلام فيه نظر طبياً وواقعياً، وفهم كما قال: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، ويمكن أن يكون ذلك من باب المنظر من الخارج، فمن تقلبهم يظنهم الرائي أنهم مستيقظون، وإلا فالذي ينظر إليهم من بعد ربما لا يرى أعينهم، فمسألة أنهم لم تنطبق أعينهم فيها نظر، وإن كان فليس لأجل أن الهواء لا يفسدها، بل هذا هو من ضمن المعجزات، والطب يقول: إن العين المفتوحة تصاب أثناء النوم بالقرح، فلابد أن تغلق العين بشيء حتى لا تصاب بقرح؛ لأنه مع طول المدة من غير إغلاق نهائياً يتضرر الإنسان، والإنسان وهو مستيقظ يقفل عينه ويفتحها، فلو كانت مفتوحة أعينهم فهذا من ضمن المعجزة، وأن الله عز وجل أكرمهم ببقاء أعينهم مفتوحة من غير أن يصيبها ضرر، كما أن الله عز وجل أبقى أجسادهم من غير طعام ولا شراب {ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، وهذا مما لا يقع في عادة الناس أبداً، بل لا يحتمله جسم إنسان، نعم يمكن أن ينام لمدة طويلة على أقل قدر من الطاقة التي تستهلك من جسمه كما تبيت حيوانات غير الإنسان شهوراً طويلة وتستيقظ بعد ذلك من البيات الشتوي مثلاً، وذلك لأنها تستهلك أقل قدر من الطاقة، ولكن هذه السنين الطويلة معجزة من المعجزات التي أيد الله عز وجل بها أولياءه الصالحين، أو كرامة لهم أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها. فالأولى في ذلك أن نقول كما قال الله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17]، وأما أن ذلك من الأمور الموافقة للعادة، وهو أن العين مفتوحة لأجل أن تكون أبقى، فهذا فيه نظر، والله أعلم. يقول: وقد ذكر عن الذئب أنه ينام ويطبق عيناً ويفتح عيناً ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بالأخرى الرزايا فهو يقظان نائم يتقي الرزايا بالعين الأخرى، فسبحان الله! العين لو نام شخص وعينه مفتوحة لا يرى بها، وليس أنه يتقي الرزايا بها؛ لأن المراكز نائمة، ولن تستقبل الأشعة والصور. قال تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18]، قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين، قال ابن عباس: لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض، وهذا موافق للطب فعلاً. {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة الوصيد الفناء.

فتية آمنوا بربهم [3]

فتية آمنوا بربهم [3] إن الله سبحانه وتعالى يحب عباده المتقين ويحفظهم ويرعاهم، وقد تجلت رعاية الله لهم في حمايته لهم من فتنة الكافرين وإضلالهم، فهم يتربصون بالأمة المؤمنة الدوائر، ويستنفذون كل الطاقة في إخراج المؤمن من دينه الحق إلى دين باطل، ولذلك أوجب الله على المستضعفين الهجرة، ولنا في أصحاب الكهف قدوة وأسوة.

إكرام الله لأصحاب الكهف وحفظه لهم

إكرام الله لأصحاب الكهف وحفظه لهم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فقوله سبحانه: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، يدل على لطف الله سبحانه وتعالى بهم وهم نائمون، إذْ قدر الله عز وجل أسباب حفظهم، وأسباب بُعد الطلب عنهم، وبُعد الناس عنهم، وقدر الله سبحانه وتعالى -كرامة لهم- نومهم، كما أكرمهم في استيقاظهم بتوفيقهم إلى توحيده عز وجل، وترك عبادة من دونه، وهذه القصة تدل على إثبات كرامات الأولياء بأنواع القدرة والتأثير، فإن الله سبحانه وتعالى أبقاهم هذه المدة الطويلة من غير أن تبلى أجسادهم أو تفسد، وهذا من أدلة إثبات كرامات الأولياء، والكرامة: هي ما يكرم الله به عبده المؤمن المتبع لشرعه سبحانه وتعالى من أنواع خوارق العادات أو من غيرها، ولا يلزم أن يكون إكرامه من خوارق العادات، ولكن هذا هو الاصطلاح المعروف، بل أعظم ما يكرم به العبد أن يكرم بالتوفيق إلى طاعة الله عز وجل، وأن يلهم رشده، وأن يكشف له عن سبيل الحق فيلتزمه، فهذه أعظم كرامة للعبد وإن لم يقع له من خوارق العادات، والله سبحانه وتعالى قد يجمع لعبده المؤمن بين أنواع الكرامات المختلفة من أنواع العلوم، ومن أنواع القدرة، وأعظم ذلك أن يكون موفقاً بقوة من الله سبحانه وتعالى إلى طاعته، وهو معنى الحديث: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي) فالله عز وجل يعينه بقوة من عنده سبحانه وتعالى، وتكون هذه الجوارح وهذه القوة مصروفة في مرضاته سبحانه وتعالى. قال عز وجل: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر؛ لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم؛ لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة، والرحمة الواسعة؛ رحمة لهؤلاء الفتية المؤمنين، وإنجاء لهم من القوم الظالمين الكافرين، وحكمة بالغة تدل الناس على البعث والنشور، وإثبات قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بعد موتهم يوم القيامة، وكذلك ليثبت سبحانه وتعالى للناس وليبين لهم مآل المتقين، وحفظه سبحانه وتعالى لهم من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون. إذاً: فالله عز وجل حفظهم بإلقاء المهابة عليهم حتى لو اطلعت أيها المسلط عليهم {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، فالخطاب هنا لكل مكلف، ويمكن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وذلك حفظاً من الله عز وجل لهم؛ حتى لا يدخل عليهم أحد، أو يصيبهم شيء من الكائنات الأخرى بسوء؛ لأنها تنظر إلى منظر مرعب مخيف فتنصرف.

بعث الله تعالى لأصحاب الكهف بعد انقضاء المدة المحددة لهم

بعث الله تعالى لأصحاب الكهف بعد انقضاء المدة المحددة لهم بعد انقضاء مدة بقاء أصحاب الكهف في الكهف بعثهم الله عز وجل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19]. قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم: صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))، لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) يعني: ربما كان جزءاً من اليوم، وأقصى ما يمكن أن يكون يوماً كاملاً، فقالوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم، والله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم؛ لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها، والألف واللام للعهد، ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً، كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره، وقيل: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان كثيراً أو قليلاً. وقوله سبحانه عنهم: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] أي: في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه، {وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19] أي: ولا يعلمن ((بِكُمْ أَحَدًا)). قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أي: إن علموا بمكانكم {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20]، يعنون: أصحاب دقيانوس، فهم يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها، أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [لكهف:20].

إثبات البعث وقيام الساعة ببعث أهل الكهف من رقادهم

إثبات البعث وقيام الساعة ببعث أهل الكهف من رقادهم قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: أطلعنا عليهم الناس، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)) قال ابن كثير رحمه الله: ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك. وعلى هذا التفسير فالضمير في قوله: ((لِيَعْلَمُوا)) أي: ليعلم الذين عثروا عليهم أن وعد الله بالقيامة وبعث الأجساد حق، وأن الساعة ريب فيها. ثم قال: وذكروا أنهم لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة -أي في غير جادة الطريق ووسطه- حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس أو دكسوس، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول: لعل بي جنوناً أو مسّاً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة، ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة لعله وجدها من كنز؟ وممن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف: ملك البلد وأهلها، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل واسمه: يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عز وجل. فالله أعلم. قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، - حبيب بن مسلمة أحد قادة المسلمين الذين كانوا يغزون الروم- فمروا بكهف في بلاد الروم، فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم قبل أكثر من ثلاثمائة سنة. رواه ابن جرير أي: الله أعلم كم مضى عليها حتى بليت، وماذا شأنها الآن. ثم قال ابن كثير: وقوله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21] أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ))، وهذا يؤكد أنهم اطلعوا عليهم جميعاً؛ لأن الله قال: ((أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)) وليس على واحد منهم فقط، فهذا رد على من يقول: إنهم لم يجدوا لهم خبراً. يقول: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21] أي: في أمر القيامة: فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم. أي: حجة للمثبتين للبعث وحجة على المنكرين ممن لا يؤمن بيوم القيامة كذلك. {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] قال ابن كثير رحمه الله: أي: سدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم. والثاني: أنهم أهل الشرك منهم. فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد؛ يحذر ما فعلوا). وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها. والرقعة لوح مكتوب مثل الأوراق عندنا، لكنها جلد أو نحو ذلك في ملاحم وقعت في بني إسرائيل، فأمر بثلاثة عشر قبراً -فيما ذكر- أن تحفر، وأن يدفن الجسد الذي وجدوه على حاله كيوم مات في واحد منها، وتغلق جميعاً حتى لا يدري الناس في أي المقابر دفن، ووجدوا مكتوباً عنده أنه النبي دانيال، فالله عز وجل أعلى وأعلم، فإن مثل هذا إنما هو متلقى عن أهل الكتاب، ولم يرد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم ذلك النبي، وقد يكون من أنبياء الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أوليائه وظنه غيرهم على غير ما هو عليه، فالله عز وجل أعلى وأعلم. إلا أنه يبدو أنه رجل صالح؛ لأنه لم يتغير بدنه، وهذا من كرامات الأولياء أيضاً، فالمقصود أنه أخفي قبره، وسيأتي لنا بحث في ذلك إن شاء الله.

عدم إدراك الإنسان مدة بقائه في قبره وفي غيبوبته وغير ذلك

عدم إدراك الإنسان مدة بقائه في قبره وفي غيبوبته وغير ذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19] أي: في مدة لبثهم يتساءلوا كم لبثوا؟ {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] وكأنه لما نظر إلى أشكالهم وقد كانت كما ذكر الله عز وجل مرعبة، فقد ذكروا أنهم كانوا طويلي الأشعار والأظفار، فدل ذلك على أنهم لبثوا مدة طويلة، قالوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، لأن الإنسان مهما طالت رقدته فإنه لا يشعر كم استغرق في نومه إلا يوماً أو بعض يوم مهما طال زمن نومه، وكذا أثناء موته، فالمرء يرى في المنام أحداثاً كأنها طويلة جداً، وكما ذكر أهل العلم والطب أنَّ وقت المنام لا يتجاوز الثواني ويكون الإنسان قد رأى قصة طويلة، ويعرف ذلك بواسطة تسجيل ذبذبات المخ أثناء النوم فسبحان الله!. ويمكن للإنسان أن يتغير كثيراً جداً أثناء نومه، وكذلك من حصلت لهم غيبوبة فإنهم لا يدرون بعد استيقاظهم كم بقوا في هذه الغيبوبة إلا ما تعودوا عليه يوماً أو بعض يوم، بل والميت إذا استيقظ فإنه يقول ذلك أيضاً، قال عز وجل: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112 - 114]. وقال سبحانه وتعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:102 - 104]. وهذا له محمل على مدة بقائهم في الدنيا، أو مدة بقائهم في القبور، وهذا أظهر في مثل هذا الموضع، والله أعلم، ويمكن أن يكون قوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] مشتملاً على الاحتمالين، وفي مواضع أخرى لا يحتمل إلا مدة البقاء في القبور، كقوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56]. فهذا ظاهر جداً في أنها مدة البقاء في القبور، فالناس إذا استيقظوا في القيامة كأنهم استيقظوا من النوم، قال صلى الله عليه وسلم: (لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى، ولذلك فالقيامة قريبة جداً، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وقال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. فلا تظن أن القيامة بعيدة بل هي قريبة، وما أخبر الله عز وجل به يوشك بعد رحيلك عن هذه الدنيا أن يأتيك بغتة، كما قال عز وجل: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} [الأعراف:187]. لذلك على العبد أن يتعظ ويتذكر، وأن يشعر بمرور الأيام والسنين ما زال على ظهر هذه الأرض. ومن آيات الله سبحانه وتعالى شعور الإنسان بالزمن شعوراً لا يحصل له إلا في حدود مقدرة ولا يدرك كثيراً جداً قبل ذلك، كما أنك لا تدرك شيئاً عن وقت بقائك جنيناً في بطن أمك ولا ما جرى لك في سنواتك الأولى، ولو قيل لك: أنت ولدت منذ عشرين سنة، أو ثلاثين سنة لما استعطت أن تقول: بل كان غير ذلك، وأما كم مضى عليك قبل ذلك فالله عز وجل هو الذي يعلم، وأخبروك بذلك وأنت لا تشعر به. إذاً: فعلى العبد أن يستعد للقاء الله سبحانه وتعالى قبل أن يأتيه الموت، وأما فترة البرزخ فهي كالطيف، أو حلم نائم، وإن كان يرى فيه نعيماً أو عذاباً وهو حق، ولكن سرعان ما يستيقظ الإنسان منه، ويبعث كأنه مات بالأمس، وهو يحسب نفسه قريب عهد بأهله.

تفويض أصحاب الكهف العلم إلى الله عز وجل

تفويض أصحاب الكهف العلم إلى الله عز وجل قال سبحانه وتعالى: ((قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ))، وهذا سلوك المؤمنين في أن يردوا علم ما لا علم لهم به إلى الله عز وجل، وهذا الواجب في كل الأمور التي لا يعلمها الإنسان، فأما ما كان من أمور دنيوية وخفي علمه عن البشر فالله عز وجل هو أعلم بها وحده لا شريك له، وأما ما كان من أمور الدين فيمكن أن يقال: الله ورسوله أعلم، أو يقال: الله أعلم على سبيل تفويض العلم إلى الله عز وجل. وهذا يدل على استحضار أصحاب الكهف صفة العلم في قلوبهم، وصفة العلم من صفات الله سبحانه وتعالى، وحسن التفويض إليه واعترافهم بقلة علمهم وعجزهم وضعفهم، والمؤمن كذلك يرى علمه وعلم الخلائق إلى علم الله كقطرة من بحر وربما أقل.

تحري أصحاب الكهف في طلب الرزق الحلال الطيب

تحري أصحاب الكهف في طلب الرزق الحلال الطيب قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19] أي: أن طلب الحلال من صفات المؤمنين التي يجب أن تكون دائماً محل بحث وحرص واهتمام منهم، ولا بد أن يكون الإنسان مهتماً بإطابة مطعمه، متجنباً للحرام، يبحث عن الطعام الزكي، ويبتعد عن الطعام المحرم، وذلك في نوع الطعام، وفي طريقة كسبه، وفيمن يتعامل معهم في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من أكل الحرام: (ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب، ومأكله حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!). ولأن إطابة المطعم من أسباب إجابة الدعوة. قال: ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا))، فمن فسره بأكثر فليس بظاهر، بل المؤمن يكتفي بما يبلغه ويقضي حاجته، ويسد جوعته، وليس يهتم بكثرة ولا قلة من ذلك، قال تعالى: {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف:19] أي: لابد أن يعلم المؤمن أن الرزق من عند الله، فقد رزق الله أصحاب الكهف، ومنه يؤكد أن المقصود بأزكى: أطيب وليس أكثر. وقوله: (منه) للتبعيض، والغرض المقصود أنهم يريدون شيئاً يتبلغون به إلى أن يقضي الله سبحانه وتعالى أمراً.

حقيقة التلطف ومعناه وضوابطه من خلال فعل أصحاب الكهف له

حقيقة التلطف ومعناه وضوابطه من خلال فعل أصحاب الكهف له قوله: {وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] اللطف: هو التعامل بخفاء في مثل حال أصحاب الكهف، فهم لا بد أن يستعينوا على قضاء حاجتهم بالكتمان؛ حتى لا يتضح أمرهم ويردوا إلى قومهم، فالكتمان في هذا الموضع مأمور به، وهو من الحذر الواجب، ومن الأخذ بالأسباب، وليس من الشجاعة أن يعلن قلة من الضعفاء أمرهم أمام جيوش الأقوياء، وليس من الجبن أن يكون مختفياً، كما قال سبحانه وتعالى عن موسى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]، فالإنسان إذا كان في خطر فينبغي له أن يكون متلطفاً وألا يظهر نفسه حتى يصطاده أعداؤه، وفي الكتمان من المصالح ما لا يحصى كثرة إذا استعمل في موضعه.

ضوابط تقليد الكفار في هديهم عند الضرورة

ضوابط تقليد الكفار في هديهم عند الضرورة وهذا أمر يستفيد منه كل من كان مستضعفاً مثل أصحاب أهل الكهف، فلابد أن يكون حريصاً متلطفاً وألا يظهر أمره؛ حتى لا يؤخذ بغير ذنب حقيقي وإنما يؤخذ بمجرد إيمانه وإسلامه، وليس معنى ذلك أن يرتكب الحرام، أو أن يترك الواجبات طالما كان غير مضطرٍ إلى ذلك، والضرورة نعني بها: أن يكون مكرهاً بحيث يعلم أنه إذا أظهر فعله للواجبات أو أظهر تركه للمحرمات عوقب بما يعد في الإكراه عقوبة معتبرة، فإذا أيقن بذلك وكان عاجزاً عن التخلص بالفرار، فإنه يجوز له الموافقة في ذلك، وجاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من كان في دار الكفر فله أن يتشبه بالهدي الظاهر للكفار. واستدل به بعض من لا يفهم الكلام على وجهه بجواز حلق اللحية في بلاد الكفار، أو في بلاد المسلمين التي يضطهد فيها المسلمون، ويقول: إن التشبه بالهدي الظاهر مشروع، اعتماداً على هذه الفتوى، وليس كذلك، وإنما مبنى الكلام على المعرفة بحصول الضرر المعتبر، وليس لمجرد أن يخفي نفسه، وألا يظهر أمره، فلا بد أن يكون هناك إكراه معتبر، ومن شروطه: أن يكون عاجزاً عن التخلص ولو بالفرار، وكذلك إذ كانوا جوعى ولا يوجد طعام بين أيديهم إلا أن يذهبوا إلى المدينة، فلا بد من التلطف والتخفي. وأما في بلاد الكفار اليوم في أوروبا وأمريكا وغيرها حيث يملك الإنسان حريته في أن يفعل ما يشاء ولا يؤاخذ بشيء من ذلك، فهذا أمر لا يبيح له أن يقلدهم في هديهم الظاهر، ويتشبه بهم؛ لأن ذلك بمنزلة الضرورة، ولا ضرورة هنا. فالذي يكون في بلاد الكفر فيتشبه بهم في كل مظاهرهم ولا يتميز بالمظاهر الإسلامية كإعفاء اللحية، أو الحجاب للمرأة المسلمة أو نحو ذلك، محتجاً بمثل ذلك، فإنه ضال جاهل، وكم من أناس تركوا الواجبات بمثل هذا الفهم السيئ، وإذا كانت البلاد الكافرة فيها ظلم وعدوان، فإنه لا يقلدهم في هديهم الظاهر إلا إذا كان الضرر حقيقياً معتبراً؛ وهو فوات الحاصل في النفس أو في المال أو في الجاه. وأما إذا كان مجرد أذى كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]، كلوم الفاسق وغيبته وعتابه، واستهزائه بمسلم فليس ذلك من الضرر الحقيقي، وليس فيه فوات حاصل، وغيبة الفاسق لا تذهب الجاه، وأمثال هؤلاء لا عبرة بهم، ولا يخلو الإنسان الذي يعيش مع هؤلاء حتى ولو لم يكن مطيعاً لله من أن يجد ما يفعل به ذلك، ولذلك لا عبرة باللوم والعتاب، ولا عبرة بالغيبة. وكذا ما كان من فوات الحاصل اليسير جداً، كأخذ الحبة من المال، أو الضربة الخفيفة، أو يوقف ويحبس دقائق، أو أجزاء من الساعة، أو بضع ساعات، كل ذلك لا يعد ضرراً حقيقياً؛ لأنه يسير كما قال الغزالي رحمه الله: إنَّ في فوات الحاصل من النفس والمال والجاه قدراً في القلة لا بد من إهداره، وقدراً في الكثرة لا بد من اعتباره، وموضع اشتباه وسط، يتقي الإنسان ربه عز وجل ما استطاع، ويرجح جانب الدين ما استطاع، ولكن موضع الاشتباه هو التوسط في ذلك. يعني: إذا كان الأذى شيئاً يسيراً جداً فليس بضرر، والتلطف لا يكون بفعل المنكر، ولا يكون بترك الواجب، وكثير من الناس كمن يترك صلاة الجماعة مثلاً والجمعة لأدنى توهم، أو تترك المرأة الحجاب الشرعي لأجل أن توافق النساء المتبرجات مثلاً، فليس هذا مما يجوز أبداً في تلك الأحوال، واللحية من ذلك إذا كان الأمر على ما وصفنا، إلا إذا غلب على الظن أنه مثلاً إن سار في الطريق أمسك وعذب أو ضرب أو حبس مدة طويلة معتبرة، أو أخذ ماله، وهو عاجز عن أن يذهب إلى بلد أخرى. والإنسان لا يجوز له أن يقيم بمكان يعصي الله عز وجل فيه وهو قادر على الهجرة؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]. ونحن نعلم أن أصحاب الكهف هاجروا واعتزلوا قومهم، وتركوا بلدهم لله سبحانه وتعالى؛ لكي يتمكنوا من طاعة ربهم عز وجل، وإذا كان في الأمر أصل الدين فهو كذلك في فروعه، فالإنسان الذي لا يستطيع أن يقيم شعائر دينه كالذي لا يستطيع أن يوحد ربه سبحانه وتعالى، فإن أرض الله واسعة، وأما إذا كان عاجزاً عن الهجرة أو ممنوعاً عنها، أو أنه لا يجد أرضاً يعبد الله فيها؛ لاستفحال الشر فهو معذور؛ لأن الله يقول: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]. وهنا يمكنه أن يتلطف وأن يتخفى بالتشبه بهم في هديهم الظاهر، والله أعلى وأعلم، ولكن الأصل أنه لا يتشبه بهم في هديهم الظاهر ولا الباطن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم).

لجوء أصحاب الكهف إلى التخفي خوف الفتنة

لجوء أصحاب الكهف إلى التخفي خوف الفتنة وقال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20]، والظاهر أن الرجم هنا على حقيقته من الرمي بالحجارة. وقيل: يشتموكم، وليس بظاهر؛ لأن فرارهم لم يكن بسبب الشتم، والشتم شيء يسير. قوله تعالى: ((أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) أي: إن لم تصبروا وتتحملوا فلقومكم إحدى غايتين: إما أن تعودوا إلى الملة الباطلة، أو يرجموكم، ثم قالوا لبعضهم: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]. وقد يقول قائل: لماذا لا يفلحون وهم مؤمنون وقد أكرهوا بالرجم؟ فإنه لا نزاع بين أهل العلم أن من أكره بالرجم أو هدِّد به أو بدءوا برجمه جاز له أن يقول كلمة الكفر، ويكون معذوراً، والجواب على هذا: أن شرط الإكراه أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، ولربما كان المفتون لا يصبر عند الفتنة، فقد يختار الباطل إيثاراً للتخلص من شر الفتنة، كالرجل الذي دخل النار في ذبابة قربها لغير الله حين طلبوا منه ذلك، وقال: ما أجد ما أقرب، قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب، لذلك فأصحاب الكهف خافوا على أنفسهم من أن يوافقوا قومهم على الكفر، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا والمسلمين، وأن يثبت قلوبنا على دينه. إذاً: استبان لنا وجهان: الوجه الأول: وهو قوله {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] قال ابن كثير رحمه الله: فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]. الوجه الثاني: أن الإكراه إنما كان معتبراً في أمة الإسلام، وأن ذلك من خصائص هذه الأمة، واحتجوا بذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وليس هذا بظاهر؛ لأنَّ النسيان قد جعله الله عز وجل عذراً لمن سبق، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام للخضر: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، فقبل عذره في هذه المرة وكان نسياناً؛ ولذلك فإن الوجه الأول هو الأظهر، فإن المؤمن لو ترك وشأنه لما اختار الباطل، ولكن لما فتن افتتن والعياذ بالله، وقاده ذلك إلى الفتنة: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14]. فذمهم الله على عدم الثبات على الدين. والله أعلى وأعلم.

الأسئلة

الأسئلة

الوسائل المؤدية إلى حب الله تعالى والتوكل عليه

الوسائل المؤدية إلى حب الله تعالى والتوكل عليه Q بعض الناس من الذين يقرءون في كتب التوحيد فيأمروننا بقضايا العبادات القلبية كالحب والتوكل وغيرها فيقول: أنا لا أستوعب منها شيئاً؛ لأني أشعر أن ما يذكر في أمثلة الحب مثلاً ليس منطبقاً علي، عندما أحاول أن أستشعر ذلك، فهل هذه العبادات تظهر عند أوقات معينة أو مواقف عارضة، أم أنه يجب على الإنسان أن يشعر بهذا الحب مع العلم بأنه على طاعة الله ويجتنب معصيته، فهل هذا كاف في الاستدلال على الحب؟ A لا، لا يكون هذا كافياً، فلابد للعبد أن يستمر على الطاعة ويخلص فيها، ويستمر على ترك المعصية ويخلص في ذلك، ويستحضر أمور الإيمان كالتصديق الجازم بأسماء الله وصفاته ووحدانيته، وشهود آثار الأسماء الحسنى والصفات العلى، والتفكر في أمر الآخرة حتى ينبت الحب في قلب العبد من مشاهدة جمال الأسماء والصفات، وآثار الكمال؛ لأن العبد جبل وفطر على حب الجمال والكمال، ولا أكمل ولا أحسن، ولا أجمل من أسماء الله وصفاته، فإن الله جميل يحب الجمال، وله الأسماء الحسنى فلا أحسن من أسمائه المتضمنة لأحسن الصفات العلى، وهذا الأمر أول ما على العبد أنه يشهده ويحلق فيه بعين القلب، فإن الله يريه هذا الجمال فيلتفت قلبه للحب. وكذلك مشاهدة المنن والنعم، فكلما ازدادت مشاهدته للنعم نبت الحب في قلبه؛ ولذلك فإنه لابد مع الطاعة من أن يستشعر حبه على الدوام، ولكن بلا شك أن الأمر متفاوت، والذي يجعله أن ينال أعظم الحب هو تدبر القرآن؛ لأنه يرشده إلى نعم الله، ويرشده إلى كمال أسمائه وصفاته، ودائماً سور القرآن بل لا تخلو آية من ذكر أسماء الله عز وجل وصفاته، أو على الأقل من التنبيه على ذلك، أو فعل من الأفعال، وكلما شهد العقل ذلك ازداد حباً لله سبحانه وتعالى، فأنت إذا رأيت العدل والكرم والجود والرحمة وتيقنتها أحببت الله بلا شك، وكذلك الاجتهاد في الحفاظ على النوافل حتى تصل إلى درجة الحب والمحبوبين. فاتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم يقود إلى المحبة، والمحبة تقود إلى المحبوبين، والطاعة دليل الحب، وليس ضرورياً أن تكون الطاعة موجودة مع الحب؛ لأنه لا يوجد حب من غير طاعة، ولكن قد توجد طاعة من غير حب، فالمنافقون ناقصو الإيمان، والمؤمن كامل الإيمان، فلابد أن يكون الله أحب إليه من كل شيء. ومن الوسائل المؤدية إلى الحب: الدعاء؛ لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يوفق سبحانه وتعالى. ولذلك شرع لنا مثلاً الإخلاص وأن نتعوذ به من الشرك والرياء والسمعة. اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين. اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً. اللهم ارزقني حبك، وحب من أحبك، والعمل الذي يبلغني حبك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

فتية آمنوا بربهم [4]

فتية آمنوا بربهم [4] لقد حصل في هذه الأمة ما يعكر صفو التوحيد من بناء المساجد على القبور، وما ترتب على ذلك من الصلاة عندها، والطواف حولها، والذبح والنذر لها، وغير ذلك من العبادات التي لا تنبغي إلا لله سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذر أشد التحذير من ذلك، ووصف من يفعل ذلك بأنهم شرار الخلق، فحري بالمسلم أن يبتعد ويجتنب ما يخدش توحيد وإيمانه.

حكم بناء المساجد على القبور

حكم بناء المساجد على القبور قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]. يبين سبحانه وتعالى أنه أعثر أهل الزمان الذي أيقظ فيه أهل الكهف؛ ليعلم المختلفون في الساعة أن وعد الله حق بالبعث، وأن الساعة لا ريب فيها، ودخل كذلك في وعد الله سبحانه وتعالى حفظ عباده المؤمنين فقال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]. ودخل في وعد الله عز وجل نصرة دينه وعباده الصالحين، وإهلاك الظالمين والمجرمين، فكل ذلك ضمن وعد الله سبحانه وتعالى.

شبهة القائلين بجواز الصلاة في المساجد التي فيها قبور والرد عليها

شبهة القائلين بجواز الصلاة في المساجد التي فيها قبور والرد عليها قال عز وجل: ((إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)) أي: يتنازع الذين عثروا على أهل الكهف فيما يصنعون بهم، ((فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا))، وهذا من المواضع التي تحتاج إلى بيان، فهل هذا الأمر الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في سياق المدح أو الإقرار لمن قالوا: ((ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)) ولمن قال: ((لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) أم أن هذا في الحقيقة كان ذماً؟ قد يحتج به الكثيرون من المنتسبين للعلم الذين يجوزون الصلاة في المساجد التي بها قبور، ويقولون: إن هذه القصة تدل على أن اتخاذ المساجد على القبور أمر جائز، ولو لم يكن كذلك لما ذكره الله عز وجل في القرآن، وزعموا أن ما ورد في السنة بخصوص القبور التي على المساجد فهي لليهود والنصارى فقط، وهذا من الكلام الباطل الذي يتضمن عدة أباطيل منها: أولاً: أن ذكر هذا الأمر في القرآن لا يدل على جوازه؛ لأن الله لم يذكره مادحاً لهذا الفعل ولا مثنياً عليهم به، بل ولا مقراً لهم، بل لم يذكرهم الله سبحانه وتعالى في هذا الموطن بصفة إيمان أو إسلام أو عمل صالح، وإنما ذكرهم بصفة الغلبة فقال: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ)). ومعلوم أن من سبقنا من أهل الكتاب يكثر فيهم الجهل لدرجة أنهم كانوا يشكون في البعث، كما بين سبحانه وتعالى في أول السورة أنهم كانوا متنازعين في أمر بعث الأجساد، وأن الله سبحانه وتعالى جعل هؤلاء آية ليوقن الذين شكوا في البعث بأمر البعث، كما قال سبحانه وتعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:11 - 12] أي: الحزبين المختلفين في أمر البعث، وكذلك قال سبحانه وتعالى: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ)) أي: حين، ((يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ))، فدل ذلك على انتشار الجهل فيهم، إذ إن الشك في البعث -وهو من أعظم ما بعث به الرسل- يدل على انتشار الجهل فيهم، وإذا كان الذين غلبوا على أمرهم قد صنعوا ما بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعله منهم فهو ملعون، فعلى أي الأحوال حتى لو زعم ذلك الزاعم أن هذا النهي واللعن كان لهم فهو يناقض استدلاله بالآية؛ لأنهم على الأقل قد لعنوا على ذلك، فإذا كان كذلك لم يجز أن يقال: إن الله قد ذكره في القرآن على سبيل الإقرار والمدح؛ لأن الكل متفق على أن اليهود والنصارى مذمومون على اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن في ذكر الآيات حجة، ولابد أن نفهم القرآن في ضوء السنة، ولا يجوز لنا أن نأخذ فهماً لآية من الآيات دون رجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام النهي عن اتخاذ القبور مساجد بالتواتر، فقال: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: يحذر ما صنعوا). وهذا واضح جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ذمهم ليحذرنا.

وجه عدم إبراز قبر النبي وحكم شد الرحال لزيارة قبره

وجه عدم إبراز قبر النبي وحكم شد الرحال لزيارة قبره جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: (ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً). يعني: لولا ذلك لأبرز قبره للناس وصار غير مختف في الحجرة، ولكن خشي الصحابة أن يأتي الناس لزيارة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيصلون بجوار القبر فيتخذ القبر مسجداً، فرأوا أن يدفنوه في حجرته ليكون القصد أصلاً إلى مسجده؛ لأن الناس يأتون بطريقة معتادة إلى المسجد ليؤدوا الصلوات فلم يتخذوا القبر مسجداً، بخلاف ما ظنه المتأخرون من أن وجود القبر الآن في مسجده هو من دلائل جواز اتخاذ القبور مساجد، بل إنما دفن صلى الله عليه وسلم في هذا المكان لكي لا يتخذ القبر مسجداً؛ وذلك لأن اتخاذ القبر مسجداً إنما يحصل بعدة أمور: أولاً: أن يبنى عليه مسجد. ثانياً: أن يقصد بالصلاة بأن يجعل كالقبلة، أو أن يصلى بجواره. ثالثاًً: أن يدخل إلى القبر ليصلي عنده، فكل هذا من اتخاذ القبور مساجد، والثلاثة بحمد الله ليست حاصلة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المسجد مبني قبل القبر بسنين، ولما احتاج الناس إلى التوسع ظلوا يتوسعون من جميع الجهات إلى أن وسعوا من الجانب الذي فيه القبر، فاتسع المسجد في الحقيقة من حول القبر ولم يشمل القبر، والناس لا يتمكنون بحمد الله من الدخول إلى الحجرة ليصلوا في داخلها، فهذا الذي اتخذ القبر مسجداً لم يبق له إلا النية والقصد، كمن يأتي من بلاد بعيدة ناوياً أن يصلي بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يجوز السفر إلى المدينة بهذه النية، بل يجب أن تكون نيته هي زيارة مسجده وشد الرحال إلى مسجده صلى الله عليه وسلم. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سجن حتى مات بسبب أنه كان يفتي بالنهي عن شد الرحال لزيارة قبره عليه الصلاة والسلام، ويقول: بل يجب أن تشد الرحال إلى زيارة المسجد ثم تأتي زيارة القبر تبعاً.

حكم الاحتجاج بشرع من قبلنا في البناء على القبور

حكم الاحتجاج بشرع من قبلنا في البناء على القبور قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه قبل أن يموت بخمس على المنبر: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد). وفي رواية في السنن: (يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة بين وحذر من أخطر طوائف البدع، فقد حذر من خطر الرافضة الذين يكرهون أبا بكر ويسبونه فقال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً). وحذر من نفاة الصفات كالجهمية، فقال: (ولكن صاحبكم خليل الرحمن). وحذر من غلاة الصوفية الذين اتخذوا القبور مساجد فقال: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وأرسل علياً بأن لا يجد قبراً مشرفاً إلا سواه. فالبناء على القبور منهي عنه أصلاً، وفي الحديث الصحيح أيضاً: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر ونهى أن يجصص). فمجرد وجود البناء على القبر منهي عنه. فقوله: ((ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا)) هذا منهي عنه في شريعتنا إن ثبت أن ذلك كان مشروعاً لهم، وليس ما قاله البعض من أن اتخاذ القبور مساجد كان جائزاً في شريعتهم، وقد ورد في شريعتنا ما يخالفه، بل لم يكن جائزاً لهم بنص الحديث وإلا فعلام الويل؟ فالويل على أنهم اتخذوا القبور مساجد، وذكرت أم حبيبة وأم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة فيها الصور، فقال: (أولئك إذا كان فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله). ولقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]. فاتخاذ القبور مساجد من الغلو في الصالحين، فلا بد أن نفسر القرآن بالقرآن، قال تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) فهؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم من الضالين الذين فعلوا ما نهى الله عنه من الغلو، وما لعنهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأن الله لعنهم؛ لأنهم اتخذوا القبور مساجد، وهذا فيمن سبقنا من أهل الكتاب والآية فيهم، فلا نزاع بأن هذا النص العام دخل فيه هؤلاء بالقطع واليقين، ولذلك نقول: إن الصحيح الذي لا شك فيه أن هؤلاء مذمومون في الكتاب والسنة على فعلهم ذلك، وإن كانوا من أهل الإسلام في الجملة فلا يلزم من ذلك صحة تصرفاتهم، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل ما صنعوه مشروعاً لهم، فضلاً عن أن يكون مشروعاً لنا، وقد علمنا بلعن النبي صلى الله عليه وسلم لمن بنى المساجد على القبور أنه ليس من شريعتهم اتخاذ القبور مساجد، ونعلم يقيناً أن البناء على القبور مطلقاً منهي عنه في شريعتنا، فشرع من قبلنا يصير شرعاً لنا إذا لم يرد في شرعنا بخلافه، أما إذا ورد في شرعنا ما يخالفه فلا نزاع أنه لا يكون شرعاً لنا، وهذا مما ورد النهي عنه، وقد ورد شرعنا بخلافه، فضلاً أن اتخاذ القبور مساجد ليس من شريعتهم كما ذكرنا آنفاً، ومن أحسن المؤلفات التي جمعت الأحاديث المتواترة المستفيضة في ذلك كتاب الشيخ الألباني رحمه الله: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد.

حرمة الغلو في الصالحين

حرمة الغلو في الصالحين ومعلوم لكل ناظر فيما آل إليه أمر المساجد التي بنيت على القبور، فقد آل الأمر إلى غلو فظيع وإفراط مذموم، أدى إلى أن يطاف بهذه القبور وأن يذبح وينذر لها، وأن توضع عليها صناديق النذور، وما زالت صناديق النذور إلى يومنا هذا موجودة في أضرحة من يسميهم الناس بالأولياء، والله أعلم بأوليائه سبحانه وتعالى، إذ إن الولاية إيمان وتقوى، ومن هنا كان لا يجوز أن نجزم بولاية من لم ينص الكتاب والسنة أو أجمعت الأمة على ولايتهم، والله أعلى وأعلم. والغلو في العبادات منهي عنه؛ لأنه يوقع في الشرك؛ ولأن الغلو فيمن كان قبلنا أدى بهم إلى أن يعبدوا الصالحين والأنبياء، كما وقع من قوم نوح في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر؛ فإنهم عبدوهم من دون الله. قال غير واحد من السلف: عكفوا على قبورهم وصوروا تلك التماثيل، فجمعوا بين فتنة القبور وفتنة التماثيل، فوقع ما نهى الله سبحانه وتعالى عنه من الشرك. ومن هنا نعلم أن التحذير من هذا الأمر مما لا يختلف فيه؛ لأن أزمنة المتأخرين اشتدت فيها الفتن وكثر الجهل فهم أولى بالتحذير، لكن البعض يتكلم بكلام وهو لا يدري ما يقول، فيقول: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، محاولاً الجمع بين النصوص، نقول: وأي اختلاف حدث بين النصوص حتى يجمع بينها؟! فيقول: إن هذا الأمر كان في أول الإسلام، فلما استقر أمر التوحيد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم اتخاذ القبور مساجد، واحتج بأن الصحابة جعلوا مسجده صلى الله عليه وسلم على قبره. فنقول: إن الصحابة لم يبنوا على القبر مسجداً، بل دفنوا النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته، وإنما تم توسيع المسجد من حول القبر في عهد بني أمية، عندما كان عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة، والحقيقة أن عامة العلماء -وإن وردت بعض الآثار في أن بعض التابعين أنكر التوسعة حول المسجد- يرون أن توسعة المسجد مما لا بأس به للحاجة، ويقولون: إنه طالما أن الناس لم يمكنوا من الدخول للصلاة في الحجرة، فإنه لم يتخذ القبر مسجداً. والمسجد أصلاً لم يبن على القبر، بل بناه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وبالتالي فلا حاجة إلى تغيير الواقع الحالي. ومن العلماء من يقول: ينبغي لمن يسر الله له عمارة المسجد النبوي عمارة جديدة أن يخرج القبر من المسجد، وهذا من باب سد الذريعة، وليس معنى ذلك أن المسجد الآن مبني على قبر، أو أن القبر قد اتخذ الآن مسجداً، لا، ولا يقول بذلك عالم، بل كل العلماء متفقون على أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على حاله التي هو فيها الآن مشروعة، ولها الفضيلة المذكورة في الأحاديث، ولكن الخلاف في أيهما أولى من باب سد الذريعة. إذاً: المسجد مبني أصلاً قبل القبر، والآن لم يتخذ القبر مسجداً؛ لأنه لا يتمكن أحد من الدخول إلى الحجرة ليصلي داخل الحجرة أمام القبر، وأما النية فلا يمكن لأحد أن يحاسب العباد على نياتهم، كما أن من عبد النبي صلى الله عليه وسلم وسأل منه قضاء الحاجات وكشف الكربات في نيته وقلبه فإنه لا يستطيع إظهار ذلك بحمد الله تبارك وتعالى، وإنما يكون في نيته وقلبه واعتقاده شرك يتعلق به ويضر نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). والوثن لا يكون وثناً إلا بإظهار العبادة حوله، وبحمد الله تبارك وتعالى لا يبدو حول القبر إلا الراكع والساجد والموحد لله سبحانه وتعالى. فخلاصة الكلام أن اتخاذ القبور مساجد منهي عنه في شرع من قبلنا وفي شرعنا، وعليه تغليظ شديد في شرعنا، كما قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (أولئك شرار الخلق عند الله) فيدل على أن اتخاذ القبور مساجد من الكبائر.

الرد على شبهة صلاة عائشة في حجرتها بعد دفن النبي وصاحبيه فيها

الرد على شبهة صلاة عائشة في حجرتها بعد دفن النبي وصاحبيه فيها يبقى سؤال ينبغي أن نفهم إجابته وهو: أن السيدة عائشة رضي الله عنها بقيت نحواً من أربع وأربعين سنة في حجرتها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مدفوناً فيها، فكيف كانت تصنع؟ وهل كانت تخرج كل صلاة إلى خارج الحجرة؟ قال بعض العلماء المعاصرين: إن ذلك كان يقع، وليس هناك دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر على أن عائشة كانت تخرج كل صلاة لتصلي خارج الحجرة، والذي لا نشك فيه أنها كانت تصلي في حجرتها كما كانت تفعل في حياته عليه الصلاة والسلام، وقد أضيف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قبر أبيها وقبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكن نقول: إن ذلك ليس بدليل على ما يريد هؤلاء من إثبات جواز الصلاة في المساجد التي بها القبور؛ وذلك لأن عائشة رضي الله عنها لم تقصد القبر بالصلاة، ولم تنو أنها تصلي إلى جوار القبر، وإنما هي كانت ساكنة في بيتها، ولو أن إنساناً دفن في بيته الآن -مع أن ذلك خلاف السنة- فماذا يكون حكم الصلاة في هذا المنزل؟ ليس في هذا المنزل اتخاذ للقبر مسجداً؛ لأن المنزل مبني قبل القبر وإنما دفن الرجل في منزله، فلذلك لا تكون الصلاة في هذا المنزل مكروهة ولا محرمة، بل جائزة إلا أن يستقبل القبر ويجعله في قبلته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور، وهذا الذي لا نشك فيه، فـ عائشة لم تكن تفعله، بل كانت تصلي في حجرتها إلى القبلة لا إلى القبر، ولم تكن تتحرى أن تجعل القبر في قبلتها، ولو كان بغير قصد لما جاز، كما ثبت ذلك في البخاري معلقاً مجزوماً به: أن عمر رضي الله عنه رأى أنساً يصلي إلى قبر وهو لا يدري، فقال عمر: القبر القبر، فظن أنس أنه يقول: القمر القمر، فظن أن هناك كسوفاً أو نحو ذلك، فقال له عمر: القبر القبر، فتخطى أنس رضي الله عنه حتى جعل القبر وراء ظهره). ومن هنا نقول: إنه لا يجوز أن يستقبل القبر بالصلاة إذا كان الإنسان مدفوناً في بيته، ولا نعني بذلك أن المسجد الذي بني على القبر إذا كان القبر في غير اتجاه القبلة أن الصلاة تجوز فيه، لا؛ لأن أحد شروط اتخاذ القبر مسجداً: هو وجود بناء حول القبر، سواء كان ملصقاً به، أو كان مبنياً عليه، أو أي شيء طالما بني من أجل الصلاة عند القبر، وأغلظ من ذلك أن يكون القبر في اتجاه القبلة، وحتى لو كان في مؤخرة القبلة طالما أن المسجد بني من أجل القبر، ويقصده الناس تعظيماً لصاحب القبر، فهذا داخل في المنهي عنه والعياذ بالله. إذاً: السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تصلي في حجرتها ولا تستقبل القبر، وهي كذلك لا تنوي بصلاتها إلى جوار القبر أن تتبرك، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين كانوا كثيراً ما يدخلون عليها للسؤال وللاستفتاء ولسماع الحديث وما كان أحد يتعمد أن يصلي بجوار القبر تبركاً به. ومن هنا نقول: إن الذي قصد أن يدخل إلى الحجرة ليصلي بجواز القبر فهذا هو الذي اتخذ القبر مسجداً، وهو بحمد الله لا يتأتى لأحد بحال من الأحوال. والذي دفن في منزله لا ينهى أحد عن الصلاة في هذا المنزل، ولا ينهى إلا عن أن يصلي الإنسان مستقبلاً القبر، أو أن يأتي مسافراً للصلاة في هذا المنزل معتقداً بركة الصلاة بجوار الولي، كما أن بعض الطرقيين هنا يدفنون شيخهم وسيدهم في حديقة منزله الذي كان يسكنه، وفي أيام المولد يأتون من كل أرجاء البلاد للصلاة بجوار القبر وعند القبر، مع أنه ليس هناك مسجد، بل هذا منزله وما زال يسكن فيه ورثته وأبناؤه ونحو ذلك، وهي طريقة القادرية من الصوفية، وهم لم يتخذوا مسجداً مبنياً، لكن لا شك أن سفرهم وقصدهم للصلاة داخل هذا المنزل لأجل القبر من باب اتخاذ القبر مسجداً. وأما من كان ساكناً بالمنزل بطريقة عادية فصلى لم ينه عن ذلك، وإنما الذين يعتقدون فضيلة الصلاة في هذا المكان هم الذين اتخذوا القبر مسجداً، وإذا بنوا بناء على القبر فهذا أشد، وأغلظه ما كان القبر في اتجاه القبلة.

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر هل تبطل الصلاة في مسجد فيه قبر أم تصح مع التحريم أم تصح مع الكراهة؟ A قد أطلق كثير من العلماء المتأخرين كراهة الصلاة في المساجد التي بها قبر، وقد نقلوا عن الأئمة الكبار نحو هذا الأمر، كما قال الشافعي رحمه الله: أكره أن يتخذ المسجد على قبر أحد، أخشى عليه الفتنة وعلى من بعده. فظن البعض أن (أكره) هنا معناها: كراهة التنزيه، وهذا لا يظن بـ الشافعي رحمه الله، وإنما هو تأدب من العلماء رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يستعملون لفظ الكراهية على بابها الشرعي، وذلك أن الله عز وجل قال عن الشرك وعقوق الوالدين وقتل النفوس والزنا وغير ذلك: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، فهم يستعملون الألفاظ الشرعية كراهة أن يستعملوا لفظ التحريم إلا فيما نص الشرع على أنه محرم، لكنهم يعنون بالكراهة كراهة التحريم، فهذه الكراهة الشرعية صريحة في أن ذلك من باب سد الذريعة؛ لخوف الفتنة، لا لاعتبار أن ذلك بما يتنجس من صديد الأموات وما يصيب الأرض من آثار أبدانهم فإن ذلك ليس بعلة، ولا لأنه قبر واحد أو اثنان أو ثلاثة كما فرق بعض المتأخرين من الحنابلة فقالوا: إنما تسمى مقبرة إذا كانت ثلاثة قبور فأكثر، أما إذا كان قبراً واحداً فلا يسمى مقبرة، فظنوا أن النهي معلق بعدد القبور، ولذلك قالوا: إن هذا التفصيل لا دليل عليه. والصحيح الذي لا شك فيه أنه قد تسمى مقبرة وفيها قبر واحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت الأرض مسجداً إلا المقبرة والحمام). والذي لا شك فيه أن العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد ليست النجاسة؛ لأن النجاسة غير موجودة، فالمؤمن لا ينجس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمن طاهر حياً وميتاً على ظاهر الأدلة، هذا أولاً. ثانياً: ليس لأجل تسميتها مقبرة بوجود ثلاثة قبور فأكثر أو أقل، وإنما ذلك كما فهمه الشافعي رحمه الله بقوله: أخشى عليه الفتنة وعلى من بعده، وذلك خشية الفتنة بالوقوع في الغلو المذموم ومجاوزة ما شرع الله عز وجل في حق الأموات من الدعاء لهم، وليس طلب الدعاء منهم فضلاً عن دعائهم هم، وكل ذلك يقع بسبب اتخاذ القبور مساجد. إذاً: الكراهة التي نقلت عن بعض العلماء تحمل على كراهة التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليلعن من فعل مكروهاً تنزيهياً، وإنما اللعن على الكبائر، لذلك نقول: إن اتخاذ القبور مساجد على الصحيح هو من الكبائر والعياذ بالله، وكما ذكرنا من ذلك: بناء المسجد حول القبر أو عنده، وقصد الصلاة في هذا المسجد، وقصد الصلاة إلى القبر بأن يجعل القبر في قبلته، وإذا اجتمعت هذه الثلاثة الأمور فهي أغلظ أنواع المحرمات في هذا الباب. أما عن حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر فالقول بالبطلان منقول عن الإمام أحمد وقد رجحه ابن تيمية وابن القيم وهو قول الظاهرية، وهو اختيار الأستاذ سيد سابق رحمه الله، وذلك قول متجه خصوصاً فيما إذا كان الذي يأتي إلى المسجد للصلاة يعتقد فضيلة الصلاة عند القبر، فهو يقصد عين ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يأتي متبركاً معظماً لصاحب القبر بالصلاة عنده، فالصحيح في هذا أنه يعيد الصلاة؛ وذلك لأنه فعل الشيء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعينه، وهذا أمر يؤدي إلى بطلان صلاته. وأما إذا كان الإنسان إنما صلى في المسجد الذي فيه قبر وهو يعلم بوجود القبر لكنه متأول ويرى أن الصلاة لا تحرم في هذه الأماكن، وهو لا ينوي التقرب إلى الله في الحقيقة بالصلاة بجوار القبر، وإنما حضرت الصلاة فدخل فصلى، أو كان يحضر مجلس علم فحضرت الصلاة فصلى، أو أنه تقابل مع إنسان هناك، أو أنه كان على طريقه ففعل ذلك، فالصحيح أنه يكره ذلك كراهة تحريمية، لكن في بطلان الصلاة نظر؛ لأن هذا النهي في هذه الحالة لم يتوجه إلى ذات المنهي عنه وإنما فعل ذلك بغير قصد والله أعلم، ومن العلماء من يبطلها مطلقاً، والأحوط أن يعيد تلك الصلاة التي صلاها في مسجد به قبر. وأما إذا كان لا يدري بوجود القبر وإنما علم بعد الصلاة فهذا لا يعيد الصلاة؛ وذلك لأثر أنس وعمر رضي الله عنهما؛ لأن أنساً مشى في الصلاة حتى جعل القبر خلف ظهره، ولم يخرج منها ولم يبطلها، ولهذا نقول: إن الصحيح في هذه الحالة أن الصلاة صحيحة وهو معذور؛ لعدم علمه بأن في المسجد قبراً، كما يحدث من كثير من الناس، ولكن إذا علم قبل أن يصلي فليخرج من هذا المكان؛ فإن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، فإذا كان الأمر كذلك فليصل حتى ولو في الطريق ففي الأرض سعة، حتى ولو خشي أن تفوته الصلاة لم يجز أن يصلي في هذا المكان بل يصلي في الطريق طالما الأمر فيه سعة ويمكنه الصلاة في أي مكان، لكن لو أن إنساناً حبس في مثل هذا المكان لكان معذوراً كالذي يصلي خشية فوات الوقت؛ لأنه كاره بقلبه ولا يستطيع غير ذلك. فهذه بعض أحكام مسألة اتخاذ القبور مساجد، وهي مسألة شائكة وخطيرة جداً؛ لكثرة من ابتلي من المسلمين بوجود القبور داخل المساجد، وكثير من الناس يجعل هذه المسألة مما يستهان بها، ولذلك تجد كثيراً يرون عدم الخوض في هذه المسألة؛ لأن ذلك ينفر طائفة من الصوفية، وهذا كلام منكر، بل يجب أن نبلغ الحق؛ لأن ذلك ذريعة إلى الغلو الذي هو ذريعة إلى الشرك. أيضاً ننبه إلى أنه ليس كل من صلى في مسجد به قبر يكون مشركاً؛ لأن كثيراً من الناس يظن ذلك ويتوهم هذا وهو كلام خطير، إذ إن اتهام المسلمين بالشرك خطر كبير، فيقول بعضهم: إن فلاناً هذا يصلي في المساجد التي بها قبور فهل تصح الصلاة خلفه؟ فلمجرد أنه صلى في المساجد التي بها قبور يجعله ملحقاً بمن يعبد القبور! فهذا لا يصح؛ لأن هناك فرقاً بين اتخاذ القبور مساجد وبين عبادة القبور، فلابد أن يظهر من الشخص ما يثبت أنه من عباد القبور، ولا يجوز أن نحكم بالعموم لكل من صلى في مسجد البدوي أو أبي العباس أو غيرهما بأنه يعبد هؤلاء، حتى وإن صلى هناك وكان يتبرك بالصلاة إلى جوار القبر، وحتى لو رجحنا أن الصلاة فيه باطلة مع أن جمهور العلماء يجوزونها مع الكراهة، لكن الراجح أن هذه الكراهة كراهة للتحريم؛ لأنه لا يظن بهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلعن على كراهة التنزيه، لكن يعتقد أنه غير مشرك في صلاته؛ لأنه ما صلى إلا لله، وما دعا غير الله، والمشرك هو الذي صرف شيئاً من العبادة لغير الله، بأن نذر أو ذبح أو سجد لصاحب القبر، أو حلف به معظماً له كتعظيم الله ونحو هذا، أو طاف بقبره ظناً منه أن ذلك أفضل من الطواف بالكعبة أو يماثله، فهذا الذي يعد شركاً، أما مجرد الصلاة والدعاء بجوار القبر فهذه بدع وضلالات لا ترتقي إلى الشرك الأكبر، لكنها ذريعة له، فيخشى على صاحبها من ارتكاب الشرك الأكبر والعياذ بالله من ذلك. لذلك ليس كل من صلى في المساجد التي بها قبور يكون مشركاً، بل الأمر يحتاج إلى تفصيل: فينظر إلى فعل هذا الشخص: أيعبد صاحب القبر؟ أيصرف له شيئاً من العبادة، أم أنه يصلي هناك فقط؟ فإذا علمنا أنه يصرف العبادة لغير الله فلابد أن تقام عليه الحجة قبل أن تكفره بعينه، فقد يعذر بسبب الجهل في هذا المقام وكثرة التلبيس، والله تعالى أعلى وأعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تقليد العامي في العقائد

حكم تقليد العامي في العقائد Q اختلف علماء الأصول في حكم تقليد العامي في العقائد، وكثير منهم إن لم يكن أكثرهم يقولون بالمنع، فهل يستدل لهم بهذا الحديث الذي يقول: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)؟ وما أصل هذه المسألة بالفعل؟ وهل من يقول بالمنع قد يحكم عليهم بأنهم كفار؟ A هذا قول المعتزلة الضلال الذين يقولون: إنه لابد من الأدلة على طريقتهم، ولم يزل عوام أهل الإسلام يتلقون العقائد الكبرى الأساسية التي هي أصول الإيمان جيلاً عن جيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يأخذون عن علمائهم. وهم ينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يتلقوا إسناداً، وطالما كانت الأحاديث متواترةً ظاهرةً فلا يلزمهم معرفة الإسناد، وإن كانت المسائل التي فيها الاستدلال والاختلاف لابد أن يكون هناك دليل، لكن المسائل العظمى مثل: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر فهذه أمور لا بد أن نعرفها بدليلها، لكن الأدلة عند هؤلاء المبتدعين هي الأدلة العقلية وليس أنه يعرف الآية أو الحديث أو معناه، فإذا عرف معنى الحديث واعتقد أن هذا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق العالم فلا يعد مقلداً التقليد المذموم، والمعتزلة يكفرون من لم يعرف الله بالأدلة العقلية على طريقتهم، والعياذ بالله.

عذاب القبر جزء من عذاب الآخرة

عذاب القبر جزء من عذاب الآخرة Q هل عذاب القبر من الحساب؟ A نعم، هو من الحساب وجزء من العذاب، فإن كان قدر على الإنسان -مثلاً- بسبب سيئاته أنه يعذب يوم القيامة ثلاثمائة سنة فقد يعذب في القبر مائة سنة ثم ينعم بعد ذلك على قدر ما عذب، وليس بهذه الطريقة طبعاً، ولكن لا شك أن القبر هو أول منازل الآخرة، فهو جزء من عذابه كما يقول ابن القيم رحمه الله وكما ذكره أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: إن الإنسان يطهر عدة تطهيرات، منها: المصائب التي تصيبه في الدنيا، ومنها: سكرات الموت، ومنها: لحظة خروج الروح، ومنها: ما يكون في القبر، فالإنسان قد يعذب في قبره بذنب أذنبه ويكون ذلك كافياً ولا يعذب عليه ثانية وربما كان أشد، فربما بقي عليه من ذلك شيء يوم القيامة، لكن هذا جزء من عذاب الآخرة، فإن بقي عليه شيء كان في أهوال القيامة، فإن بقي عليه شيء كان لابد له أن يدخل النار، فيعذب حتى يتطهر مطلقاً ثم يخرج إلى الجنة بعد بذلك؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا أصحاب النفوس الطيبة من المؤمنين.

وجه تعدد أعمال الملائكة وتنوعها في القبر وغيره

وجه تعدد أعمال الملائكة وتنوعها في القبر وغيره Q هل الروايات المتعددة بكيفية السؤال والعذاب في القبر تعني أن العذاب مشترك مع كل واحد بحسب حاله أم أن كيفيات العذاب لا يعلمها إلا الله؟ A هو نوع من العذاب الذي يكون هناك، ويمكن الجمع بين الأدلة، فهو يقيض له أصم أبكم أعمى يضربه بمطرقة من حديد، وهذا لا يمنع أنه يضرب بالمطرقة أحياناً وبسوط أحياناً، وأن الدابة صماء، وهو الأصم الذي في الرواية الأخرى. فهي أنواع متعددة في أوقات مختلفة أو في نفس الوقت والله أعلم.

حكم سماع أشرطة طارق السويدان

حكم سماع أشرطة طارق السويدان Q ما حكم سماع أشرطة طارق السويدان التي تتعلق بالفتنة التي وقعت بين الصحابة؟ A فيها آراء غير سوية وعقيدة غير صحيحة، وفي أمر السيرة وقصص الأنبياء الأمر فيه احتمال؛ لأنه كسائر كتب السيرة، لكن بدون تمحيص، ففيها الصحيح والضعيف حتى في قصص الأنبياء.

حكم سب الدين والضابط في العذر بالغضب

حكم سب الدين والضابط في العذر بالغضب Q رجل والده يسب الدين في بعض الأحيان، ويكون هو السبب والعياذ بالله؛ لأنه لا ينفذ ما أمره به، فما الحكم؟ A عليه أن يتحمل، ولا يلجئ والده إلى ذلك حتى لا يكون سبباً لوقوعه في الكفر والعياذ بالله، والغضب ليس عذراً إلا إذا وصل إلى الجنون، أما غير ذلك فلا يكون عذراً، والأعذار المذكورة في الأحاديث والآيات هي ستة، منها ما في قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم والمجنون والصغير) ومنها أيضاً التأويل وعدم البلاغ.

فتية آمنوا بربهم [5]

فتية آمنوا بربهم [5] لا علم للعباد إلا ما علمهم الله سبحانه، فهو العالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، يعلم ما كان وسيكون، ومن ذلك علمه بعدد أصحاب الكهف ومدة مكثهم في كهفهم، والواجب على العباد أن يردوا ما أشكل عليهم إلى عالمه، وأن لا يتكلموا إلا بعلم.

عدد أصحاب الكهف

عدد أصحاب الكهف الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: يقول الله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا * وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:22 - 28]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم): يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: ((رجماً بالغيب)) أي: قولاً بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه؛ فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: (وثامنهم كلبهم) فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: ((قل ربي أعلم بعدتهم)) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى؛ إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا. وقوله: ((ما يعلمهم إلا قليل)) أي من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول: عدتهم سبعة، وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} قال: أنا من القليل، كانوا سبعة. فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه. وهو استدلال دقيق من كتاب الله عز وجل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أبطل قولين وسكت عن الثالث فأرشد إلى القول الراجح، وأرشد إلى ثمرة الخلاف، وما ينبغي في مثل هذا الموطن.

كيفية عرض أدلة المسائل الخلافية

كيفية عرض أدلة المسائل الخلافية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن القرآن أشار في هذه القصة وهذه الطريقة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف، فالذي ينبغي في مسائل الخلاف استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الثابت منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا من أعظم وأهم ما دل عليه القرآن فيما ينبغي أن يكون في مسائل الخلاف. وكثير من الناس يهمل في مثل هذا المقام أشياء مما ذكرنا، فمنهم من لا يستوعب الأقوال المذكورة، فيكون قد قصر في إزالة الشبهة عن بعض الناس؛ لأنه يحتمل ألا يكون قد اطلع على القول الذي لم يذكره، فكيف يرجح أو يبطل قولاً هو لم يطلع عليه، فلذلك كثير من الناس إذا ذكر قولاً وفي المسألة أقوال يتضح للسامع أو القارئ أن المتكلم أو الكاتب ليس عنده من العلم ما يجعله يستوعب المسألة. وقد يذكر كثير من الناس الأقوال دون إشارة إلى ضعيفها من صحيحها، ولا يبين من أين يؤخذ القول الصحيح، ومجرد حكاية الأقوال دون إشارة إلى الراجح والمرجوح تضييع للوقت، وإشغال للعقل من غير ما فائدة، وماذا يستفيد من حكيت له الأقوال المختلفة في مسألة واحدة، وهي متناقضة متضادة، وما رجحت له وما شفيت غليل قلبه؟! ولذلك لا يصح الاعتماد على الكتب التي تحكي الأقوال مجردة بلا دليل وبلا ترجيح. وقد وجد في كتب الفقه من يستخدم الطريقتين، فمنهم من لا يذكر مسائل الخلاف وإنما يذكر قولاً واحداً هو مذهبه الذي يعتقده ولا يشير إلى غيره، ومن الكتب ما يجمع المذاهب المتعددة ويجعلها أمام القارئ، وكذا من يعلم طلاب العلم يذكر لهم الأقوال المتعددة، وربما بعض المفتين يفعل ذلك جرأة على الفتوى بغير حق، وذلك أنه يعرض على المستفتي فلان قال كذا وفلان قال كذا، ويتركه ينتقي بنفسه، وهذا من أعظم أسباب الانحراف، ومن تمليك العوام زمام الفتوى الذي ليس لهم منه نصيب، وليس لهم أدواته ولا العلم به، والصحيح أن سبب ذلك هو التقليد الأعمى، وجعل أقوال المشايخ والأئمة بمنزلة الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا تقصير، فلابد أن يشير إلى الراجح والمرجوح.

فهم إشارات القرآن والاستنباط منها

فهم إشارات القرآن والاستنباط منها فهم ابن عباس رضي الله عنه من كتاب الله عز وجل ذلك بدقيق الفهم وعميق العلم، فعلم كيف أشار القرآن إلى تضعيف القولين، وأشار إلى تصويب وتصحيح الثالث بالسكوت عنه؛ فإن الله ما كان ليسكت على منكر ذكر في كتابه سبحانه وتعالى، وقد لا يكون النص صريحاً واضحاً يفهمه كل أحد، ولكن يشير إليه القرآن، وقد يكون الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي قد فهم إشارة القرآن فيبين ذلك بكلامه، كما ذكرنا في قوله تبارك وتعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فكان فيها إشارة إلى أن الذين قالوا ذلك ليسوا من أهل العلم ولا الصلاح ولا الإيمان، وإنما من أهل القوة والغلبة والسلطان، ومعلوم أن المتقدمين من كان فيهم من أهل القوة والسلطان كان قليل العلم أو منعدمه، أو عنده أنواع من البدع، وبين النبي صلى الله عليه وسلم إشارة واضحة عند من تأملها بنهيه عن اتخاذ القبور مساجد، وأن اليهود والنصارى لعنوا بسبب اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. والمقصود: أن القرآن لا يسكت على الباطل الذي يحكيه بل يرده ويبطله، ولكن كم من الناس من يفهم ذلك؟ قليل، كم من الناس يستطيع الاستنباط من كتاب الله عز وجل بهذه الطريقة التي كان الصحابة رضي الله عنهم يفهمون ويستنبطون بها؟ قلة نادرة، وكلما اقترب الإنسان من كتاب الله وكان ألصق بطريقة الصحابة رضي الله عنهم؛ ازداد فهماً ووضحت له الأمور، وقلما أعوزته النصوص، وقلما يضطر إلى القياس؛ لأن النصوص تكون عنده واضحة وبينة يأخذ منها الأحكام بطريقة سهلة ميسرة، ويتعجب الناس كيف وصل إلى هذا! مع أنه واضح وجلي وبين، لكنه فهم يؤتيه الله سبحانه وتعالى من يشاء، كما قال علي رضي الله عنه عندما سألوه: هل عهد إليكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما عندنا إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، ثم أخرج كتاباً فيه قدر الديات، وأسنان الإبل، وأنواع من الجراح، وألا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، وأن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ثم قال: إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتاب الله. وهذا من أعظم أبواب العلم أن يفقه الإنسان القرآن، فيعرف الإشارات والدلائل القرآنية التي يستدل بها، ولكن هذا قلة في الناس، ولذا قال: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) وطوبى لمن تعلم هذا من حبر هذه الأمة وعالمها عبد الله بن عباس فيكون من القليل، وإلا فكم من الناس يقرءون سورة الكهف ولا يدرون ما الراجح من هذه الأقوال، وما هو عدد أصحاب الكهف، وإذا قرأ الإنسان ذلك وفهمه وعلم كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه فهم الراجح من المرجوح في هذا. والترجيح يكون بالدليل، ذلك أن الله هو الأعلم: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) فالدليل كان من الوحي؛ لأنه لا سبيل إلى معرفتهم بالعقل، فكيف ندرك عدد أصحاب الكهف بطريقة من طرق الحساب، أو بوسيلة من وسائل النظر والاستدلال؟ لا يمكن معرفة ذلك إلا من خلال دليل سمعي، أو دليل من الوحي ينزل على الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فكان هذا؛ لأن الله هو الأعلم ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) دليل على أن ذلك لا يتلقى إلا من جهة الوحي من عند الله الذي هو أعلم بالعدة. كذلك ينبغي أن يقول الإنسان بعد ذكر مسائل الخلاف: الله أعلم.

ذم استفتاء الجهال ومماراتهم

ذم استفتاء الجهال ومماراتهم ثمرة الخلاف في ذلك قليلة، ولذا قال: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)) لا فائدة من المناظرة في مسائل لا سبيل إلى البحث فيها إلا من خلال الوحي، ومن قبل الوحي انقطع عن الكلام، ومن أباه لا ينبغي أن يعارض، ولا ينبغي أن يضيع الوقت معه، ولا ينبغي أن يمارى أو أن يستفتى، وذلك لجهله وضلاله وانحرافه عن الحق، فكيف نستفتيه؟! ولذلك قال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا))، وهذا دليل على النهي عن استفتاء الجاهل، وأنه لا يجوز أن يستفتى، وهذا بإجماع أهل العلم: أنه لا يجوز لأحد من المستفتين أن يستفتي من يعلم جهله أو بدعته أو فسقه، قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، ورتب الذنوب مبتدئاً بتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، أي: أن الذنب الذي فيه اعتداء على حقوق المخلوقين أشد وأبعد عن المغفرة حتى يسامح ذلك المخلوق، ثم ذكر الشرك، ثم ذكر أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، ولذا كان هذا من أعظم الخطر، ومن يفتي في دين الله سبحانه وتعالى بما لا يعلم فإنه داخل في هذا الوعيد، وإن كان لا يلزم أن يكون مستوياً مع المشركين، لكنه قد شابههم في بعض فعلهم فاستحق جزءاً من جزائهم. والذي يرى أن من حقه أن يشرع للناس ديناً وعبادات، أو يرى ذلك حقاً لغيره وينسبها إلى الله عز وجل، ويجعل ذلك ضمن الدين الذي شرعه الله؛ فهذا هو الشرك الأكبر الذي عليه كثير من الناس -والعياذ بالله- حيث يجعلون الدين حقاً للناس لهم أن يقولوا فيه ما يشاءون بغير دليل ولا حجة.

ذم التقليد بلا دليل

ذم التقليد بلا دليل هذه الآية الكريمة فيها دليل على ذم التقليد، وذم القول بلا دليل، وكلاهما باطل ومنكر؛ فمن يتبع بغير حجة، ويعمل بغير حجة ولا دليل لم يأت بسلطان بين، وهذا افتراء على الله الكذب -والعياذ بالله-، وهذه الآية نزلت في المشركين لكنها ذمتهم على أوصاف معينة لا يجوز أن يوجد في المسلمين شيء منها، فالذي يتبع لمجرد أنه وجد الناس يفعلون فهذا هو المقلد الذي يقلد من ليس قوله بحجة بلا حجة، وهذا مذموم، فطالما كان قادراً على أن يعرف الحق، وإذا كان لا يعلم الحق ولا يستطيع الوصول إليه فإنه يسأل أهل الذكر، كما قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. والحق أن هذا بمنزلة الميتة للمضطر، وإلا فأن يكون الإنسان على بصيرة طالما أمكنه ذلك فهذا فرض عليه، وأما إذا كان عاجزاً فإنه يسوغ له ذلك للضرورة، كما يأكل المضطر الميتة، وكما يقلد الأعمى غيره في القبلة؛ فإن هذا يسأل أهل الذكر لضرورته إلى ذلك، وإذا وضح له الحق بالدليل لم يجز له أن يتركه بحال من الأحوال.

عظم ذنب المفتي بغير علم

عظم ذنب المفتي بغير علم لابد أن يحذر المفتي أعظم الحذر من أن يفتي بغير علم، ومن أن يقضي بلا دليل؛ فإن تحليل الأموال والفروج والأطعمة والأشربة والحقوق إذا كان بلا بينة فهو من أعظم الافتراء والعياذ بالله، فمن استحل ذلك ورأى أن له أن يشرع، وأن يحلل ويحرم؛ فهذا أظلم الظلم وأكبر الشرك، وإذا كان يفعل ذلك بتقصير في الاجتهاد مع كونه قد تعرض للإفتاء، وأن ينسب إلى دين الله عز وجل كلامه فهو ذنب عظيم، ولذا اتفق العلماء على أن من شروط المفتي: أن يكون عالماً مجتهداً، وكذا من شروط القاضي: أن يكون عالماً مجتهداً؛ لأنه ينسب كلامه ذلك للدين والشرع، ويحكم باسم الشرع، وبالتالي فإذا حكم بغير علم فقد ضل -والعياذ بالله- وافق الحق أم خالفه، كما في الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة؛ فالذي علم الحق وقضى به فهو في الجنة، والذي علم الحق ولم يقض به فهو في النار، والذي لم يعلم الحق فهو في النار). ولم يذكر وافق أم خالف؛ لأن قبول هذا لولاية القضاء -ومثلها ولاية الإفتاء- وهو لا يعلم يعتبر جرأة عظيمة على الله سبحانه وتعالى، وهو في النار على أي الأحوال حتى لو وافق الشرع، فما وافقه لأنه يعلمه بل وافقه لأنه وافق هواه، ولذا كان الإفتاء بالباطل والتعرض للفتوى ممن ليس من أهلها، وكذا التعرض للقضاء ممن ليس من أهله أمر عظيم، فاعله له شبه من هؤلاء الذين افتروا على الله عز وجل كذباً، فلهم نصيب من ذلك على قدر ما فعلوه من تبديل الدين وتحريفه، وهذا سبب انحراف الأمم عن دين الأنبياء، فقد وجد فيهم من ينسب إلى هذا الدين ما ليس منه، فيقول على الله ما لا يعلم، ويفتري على الله عز وجل الكذب، فلذلك كان السلف رضوان الله عليهم يخافون جداً من مرتبة ومنصب الإفتاء والقضاء ويشفقون منها، وكلهم ود لو أن أخاه كفاه مئونة المسئول فأجاب عنه بدلاً من أن يعرضه لهذا الخطر. وكان كثير جداً من السلف يرفضون منصب القضاء مع أهليتهم لخوفهم على أنفسهم من ذلك، كما يروى أن الشافعي رحمه الله لما عرض عليه هارون الرشيد أن يتولى القضاء ببغداد قال: لو أعطيتني ما عندك من الملك وملك الدنيا على أن أغلق باب القضاء بالليل وأفتحه بالنهار لما قبلت ذلك، فانظر إلى قضاء شرعي يتولاه مثل الإمام الشافعي يعرض عنه، ولو كان له مثل ملك الدنيا حتى لا يكون مشاركاً فيما قد يكون مخالفة للشرع. ومع أن أهل العلم كانوا بالفعل أئمة مجتهدين، فمن أمثلة من تولى القضاء: القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة، وإمام عالم كبير مجتهد، فإذا كان الأمر كذلك فما أعظم ذنب من يفتي الناس بغير علم، ويقضي بينهم بغير علم، وينسب ذلك إلى الحق، وأنه الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فإن من لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الفتوى فيفتي بلا علم، أو لا يتقي الله سبحانه وتعالى في الذنوب والمعاصي، كيف يستأمن على الفتوى؟ فلا يجوز استفتاء الجاهل، ولا يجوز استفتاء الماجن الفاسق المتخبط في المعاصي الذي ظهرت معاصيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهي أن يستفتى في أهل الكهف من أهل الكتاب أو من غيرهم أحداً لفساد ما عندهم، وكذلك لكونهم لا تقوى عندهم لله سبحانه وتعالى تحجزهم عن مواقعة الباطل والإفتاء بالباطل.

ثمرة الخلاف في عدد أصحاب الكهف

ثمرة الخلاف في عدد أصحاب الكهف قال ابن كثير رحمه الله: وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وضح الورق -الأوضاح هذه مثل الفضة، يعني: كانوا صغاراً في السن- قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله، وكانوا ثمانية نفر: مكسلمينا، وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطبونس وقالوش، هكذا وقع في هذه الرواية، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق ومن بينه وبينه؛ لأنه لا يصح أن يكون ابن عباس يقول: هم ثمانية، فإن الصحيح عنه بالأسانيد الصحيحة أنهم كانوا سبعة كما أن القرآن لم يحك القول بأنهم ثمانية، فدل ذلك على أنه غير مذكور ولا يعتد به ابتداء. فإن الصحيح عن ابن عباس: أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الآية. وفي تسميتهم بهذه الأسماء، واسم كلبهم حمران نظر في صحته والله أعلم، فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب، فقد قال تعالى: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) سهلاً بيناً، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. ولذلك لا ينبغي أن يناقش الإنسان في مسائل إلا بعد أن يعلم ثمرة الخلاف فيها، وإذا كان على غير ذلك فلتكن المجادلة بطريقة سهلة ميسرة، ولا ينشغل بالتدقيق والتحقيق في مسائل لا تفيد. ولو أن أهل الفقه المتأخرين التزموا هذه القواعد لما حصل ذلك التقليد الأعمى والانحراف الشديد الذي وقع في كتب الفقه المتأخرة عما كان عليه الفقه في السنين والقرون الأولى بعد أيام الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والتابعين لهم بإحسان، فلقد كان الفقه ميسراً سهلاً، وإنما جعله صعباً عويصاً هذه التفريعات الكثيرة التي كثير منها لا ثمرة لها ولا فائدة منها عملياً؛ فيترتب على ذلك تضييع الوقت والعمر، فقال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) أي: سهلاً ليناً هيناً كما قال ابن كثير. قال ابن كثير: ((وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا)) أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال. إن الجدال والمراء لا ينبغي إلا أن يكون بالتي هي أحسن، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وذلك لإظهار الحق وإبطال الباطل، ودون قبول الدخول في تفاصيل لا فائدة منها ولا ثمرة من ورائها. وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً) وهو حديث حسن أو صحيح، فهو لمن علم أن مراءه لا يفيد، وأن جداله وصل إلى طريق مسدود، وأن البحث عن الحق قد انتهى بسبب الخصومة، وأصبح الناس يتعصبون لأقوالهم؛ فعند ذلك لو كان محقاً يترك المراء. وأما إذا كان الطرف الآخر والمناظر أو الباحث يبحث عن الحق وما زال يتحرى الصواب، فينبغي أن يستمر معه في المراء، وليكن بالطريقة السهلة البينة الواضحة الهينة.

الاستثناء في الفعل ورد علم المستقبل إلى الله

الاستثناء في الفعل ورد علم المستقبل إلى الله قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24]. يقول ابن كثير رحمه الله: هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية: مائة امرأة) وهذا هو الأرجح، لأن مفهوم العدد إذا خالفه منطوق فيقدم المنطوق الأكثر فهو يشمل الأقل، وربما قال: سبعين ثم عزم على التسعين، ثم عزم في النهاية على مائة، قال: (وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل. فقيل له، وفي وراية قال له الملك: قل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان) وضعت جنيناً مشوهاً، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعين). وهذا يدلنا على أهمية الاستثناء، وأن يقول الإنسان: إن شاء الله، سواء أقسم أو أخبر أنه سوف يفعل، وسليمان عليه السلام لم يقل فيها: إن شاء الله، إما أنه اجتهد فأخطأ أو نسي صلى الله عليه وسلم، اجتهد أن هذه نية طاعة فلا ينبغي أن تقيد بالمشيئة وليس الأمر كذلك بل ينبغي أن تقيد بالمشيئة، أو أن الملك قال له ذلك فانشغل بما كان عزم عليه من الهمة العالية ابتغاء وجود المجاهدين في سبيل الله، فنسي أن يقول: إن شاء الله، وقدر الله عز وجل عليه أن لا تلد منهن امرأة واحدة، وذلك لأنه لم يقل: إن شاء الله؛ تعليماً للأمة في زمنه وبعد زمنه فائدة رد الأمور إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذا الحديث أحسن ما يفسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، فالجسد الذي ألقي على كرسيه هو شق ذاك الغلام الذي وضعته إحدى نسائه، ولم تضع غيرها، وكان في ذلك فتنة وامتحاناً له ليعلم من أين أتي في هذا المقام؟ حيث نسي أن يقول: إن شاء الله، أو انشغل عن ذلك، ثم أناب ورجع إلى الله سبحانه وتعالى وصار بعد ذلك يستثني ولا يترك ذلك، والله أعلى وأعلم.

سبب نزول سورة الكهف

سبب نزول سورة الكهف قال ابن كثير رحمه الله: ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: (بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالوا لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؛ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقال: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غداً عما سألتم عنه، ولم يقل: إن شاء الله، فانصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه! حتى أحزن رسول الله تأخر الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوا عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]).

مسألة الاستثناء في اليمين

مسألة الاستثناء في اليمين ذكر الله في أول مسألة من المسائل الثلاثة مثالاً للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]؛ لأنه ترك الاستثناء صلى الله عليه وسلم، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يستثني. قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] قيل معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له. يعني: إذا لم تقل: إن شاء الله نسياناً، ثم تذكرت بعد ذلك فإنه يصح أن تقوله. قاله أبو العالية والحسن البصري، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) إذا نسيت ذلك. قيل للأعمش: سمعته من مجاهد فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم -وهو ضعيف- وهو قول ابن عباس رضي الله عنه. يقول: ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة، فله أن يقول ذلك، ليكون آتياً بسنة الاستثناء حتى لو كان بعد الحنث قاله ابن جرير رحمه الله، ونص على ذلك لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم. لأن قول ابن عباس رضي الله عنه: له أن يستثني ولو بعد سنة في حلفه إن كان يقصد به أنه يسقط عنه كفارة لما كان هناك أصلاً معنى للحنث في اليمين ولا الكفارة؛ فإن كل إنسان أراد أن يتخلص من إثم حنثه فيما حلف عليه أن يقول في أي وقت: إن شاء الله، ثم إن التقييد بسنة لا يقصده ابن عباس وإنما يقصد التكثير، فالذي لا شك فيه: أن ذلك غير مقصود؛ لأنه يؤدي إلى إلغاء كفارة اليمين أصلاً وإلى أن يصبح اليمين قابلاً للإلغاء؛ لأنه يستثني إذا تبين له أنه يريد أن يخالفه مع أنه يكون قد حلف يميناً ناجزة ملزمة له، لكن الذي يحمل عليه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مسألة الأدب دون مسألة الكفارة، وعند الجمهور أنه لا يأثم الإنسان أن يحلف لا يفعلن كذا، ولكن يرون أن ذلك خلاف الأدب، والله أعلى وأعلم، ويقولون: هذا النهي للتنزيه، ويقولون: إن قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف:23] للتنزيه، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم على أشياء وأقسم أصحابه رضي الله عنهم على أشياء لا يفعلونها على أن يفعلوها ولم يستثنوا فلم ينههم عن ذلك نهياً جازماً أو نهي تحريم، فتبين بذلك أن هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام فيما أقسم عليه فإنه يدل على أن هذا النهي للتنزيه والله أعلى وأعلم. ولذلك نقول: إن كان لتحصيل الفضيلة، فيقول: إن شاء الله ولو بعد سنة، أما إذا حلف واستثنى مباشرة بعد اليمين كان الاستثناء صحيحاً، وإذا لم يستثن مباشرة بعد اليمين وفصل فاصل عرفياً لم يصح الاستثناء، وهذا الفاصل العرفي لا يدخل فيه النفس الذي انقطع، أو أراد أن يأخذ نفساً، أو أنه مثلاً عطس أو انشغل بأمر أدى إلى أن لا يستثني مباشرة، وبعض العلماء يشترط أن يكون هناك نية الاستثناء منذ أول الكلام، والذي يظهر أنه لا يلزم ذلك، بل ربما تحدث له نية الاستثناء أثناء القسم أو في آخره وطالما اتصل به أجزأ. وأجمعوا على أنه إذا قال: إن شاء الله. في قسمه ليس عليه حنث، وإذا خالف ما حلف عليه لم يحنث بذلك، ولم يكن عليه كفارة؛ لأنه قال: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم. وذهب أهل الظاهر إلى أن له أن يستثني ولو بعد سنة، ويكون ذلك بديلاً من الكفارة، وهذا القول باطل ليس بشيء ولا قيمة له، وإن كان يظن أنه قول ابن عباس وليس كذلك إن شاء الله. وقال عكرمة: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) إذا غضبت. وفي الحقيقة أن الغضب من أسباب النسيان. وقال الطبراني عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24] أن تقول: إن شاء الله. وروى الطبراني عن ابن عباس في قوله: (واذكر ربك إذا نسيت) الاستثناء فاستثن إذا ذكرت. وقال: وهي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه، ثم قال: انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين. والذي يظهر أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف دون استثناء، وكان أخبر أنه يكفر عن يمينه إذا رأى ما هو خيراً منها، قال: (والذي نفسي بيده! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني)، فلو كان الاستثناء يحل محل الكفارة لاستثنى صلى الله عليه وسلم بعد مدة، ولما احتاج إلى الكفارة، ولكنه لم يفعل بل عزم على أن يفعل الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وهذا هو الصحيح. إذاً: خلاصة الاستثناء أنه توجد مسألة الإثم ومسألة الأدب وتحصيل السنة، فإحسان الأدب وتحصيل السنة بأن يقول: إن شاء الله ولو في أي وقت يتذكره، ولكن ينعقد اليمين إذا لم يستثن متصلاً بيمينه كما ذكرنا إلا الفاصل اليسير عرفاً. قال: ويحتمل في الآية وجه آخر، وهو: أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان، كما قال فتى موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، وذكر الله تعالى يطرد الشيطان، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان، فذكر الله تعالى سبب للذكر، ولهذا قال: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) يعني إذا نسيت شيئاً مهماً فاذكر الله؛ فإن ذلك يعينك على تذكره؛ لأنه يذهب عنك الشيطان، وهذا ليس بظاهر، فجمهور السلف يقولون: إذا نسيت الاستثناء ونسيت أن تقول: إن شاء الله، والله أعلى وأعلم، أما هذا فيقول: إذا كنت ناسياً لأي شيء فدعاء النسيان أن تذكر الله، كأن تقول: سبحان الله، لكن الصحيح هو الأول. قال: ((وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)) أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، وقيل في تفسيره غير ذلك، والله أعلم.

مدة لبث أصحاب الكهف فيه

مدة لبث أصحاب الكهف فيه قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25 - 26]. يقول: هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة قمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا)). وهذا من المعجزات الظاهرة للقرآن، وهذا من أدق أنواع الحسابات والمشاهدات، وهذا أمر محسوس مشهود، إذ التفاوت بين السنة الشمسية والسنة القمرية أمر مرأي، وهناك أنواع من الأزمنة منها ما هو أمر عرفي ومنها ما هو أمر حسي، فاليوم أمر حسي؛ لأنه مرتبط بالشمس شروقاً وغروباً، الشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق مرة ثانية، فاليوم والليلة مرتبطان بغروب الشمس وشروقها، وأما الساعات والثواني والدقائق فهي أمر عرفي بين الناس، أن يقسم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، لكن هل تحدث علامة مميزة لكل ساعة في الكون؟ لا، بل هذا أمر اصطلح عليه الناس، وكذلك مثلاً أمر الأسبوع أمر عرفي؛ لأنه ليس أمراً حسياً، والشهر أمر حسي؛ لأن القمر يدور دورته كل شهر، والشتاء أمر حسي لتغير الفصول؛ لأن الشتاء يجيء كل سنة مرة، وهذا أمر ملحوظ محسوس أن الشتاء يأتي والربيع والصيف والخريف. إذاً: هناك أمران حسيان: السنة التي هي اثنا عشر شهراً، وهما اثنا عشر شهراً قمرياً، والسنة الشمسية هي الفصول الأربعة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يقول: (سبعين خريفاً)؛ لأن هذه تكون سنة شمسية؛ لأن الخريف يأتي الخريف بعده، هذه سنة شمسية، وهذا الأمر بينه تفاوت كل سنة أحد عشر يوماً وجزءاً من اليوم بين اثني عشر شهراً قمرياً وبين سنة شمسية، لذلك الشهور الشمسية تتغير مع القمرية، والحسابات الفلكية الدقيقة على أحدث الطرق العلمية أثبتت أن كل ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذا بهذه العبارة: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] ولم يقل: ثلاثمائة سنين وتسع سنين كالمعتاد، لماذا قال: (وازدادوا تسعاً) هو في الحقيقة ثلاثمائة سنين، ولو حسبتوها بطريقة أخرى يزدادون تسعاً، وفيه إشارة -والله أعلم- إلى الفرق بين السنة الشمسية وبين السنة القمرية، والله أعلى وأعلم. يقول: فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، إذاً: ثلاثمائة سنة قمرية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين شمسية، فهذا من معجزات القرآن الظاهرة، والله أعلى وأعلم. وقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)). وكذلك إذا سئل الإنسان عن شيء علمه بالوحي وجادله غيره فيقول: أنتم أعلم بالله؟ الله أعلم سبحانه وتعالى، الله أعلم بما لبثوا، فلو جادلك أحد فيكفيك أن هذا خبر من الله عز وجل، وهو الأعلم بما لبثوا سبحانه وتعالى. وهذه السورة متضمنة لمعجزات ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: ذلك الخبر التفصيلي البين الذي يتضمن أنواع الفوائد عن قصة أصحاب الكهف، مع أن ذلك لم يكن عند العرب منه شيء قط، وكان اليهود عندهم من ذلك ما يهتمون به من الأسماء، واسم الكلب، واسم الملك الذي كان في زمنهم، وأين كان الكهف، ولم يهتموا بالفوائد العظيمة الإيمانية والعبادية والتهذيبية وسائر أنواع الفوائد التي تضمنتها هذه القصة العظيمة، وهذا السياق العربي الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه، وهذه القصة لو كانت مترجمة لظهرت الركاكة في الترجمة كما يظهر في أي كتاب مترجم {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * {قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2] مستقيماً {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] فهذه آيات تلو آيات للرسول صلى الله عليه وسلم في كل زمن من الأزمنة فيها تذكير لخلق الله سبحانه وتعالى بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

علم الله الواسع

علم الله الواسع قال: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـ مجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]: هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) قال: وفي قراءة عبد الله وقالوا: (ولبثوا) يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال قتادة ومطرف بن عبد الله، وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب: أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع، يعنون بذلك الشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا))، والظاهر من الآية أنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم. يعني: أن قول أهل الكتاب قول باطل، والصحيح أن القرآن أثبت أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ولو كانوا قالوا ذلك لكان إثباتاً لقولنا: إن القرآن سكت عليه، وذكر هذا لأجل أن الناس سوف يجادلون في مدة بقائهم، فيقولون: إنهم بقوا ثلاثمائة سنة فقط، فقال الله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)). فكما ذكرنا كان هذا بياناً واضحاً شافياً بما يسعد به أهل الإيمان على الدوام، فإذا ناظرك أحد وأنت عندك علم من الله فقل لهم: الله أعلم منكم، فلا تجادلوا في أمر نزل فيه وحي. يقول: والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة، ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها، والله أعلم. والقراءة الشاذة لا يحتج بها لا في التلاوة ولا في الحكم ولا في التفسير؛ لأنها شاذة منقطعة بلا سند صحيح، فلا فائدة منها، ولا يمكن أن يحتج بها. قال تعالى: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) أي: إنه لبصير بهم سميع لهم، أي: ما أسمعه وما أبصره عز وجل! (أبصر به) يعني ما أبصره. (أسمع به) يعني: ما أسمعه، فما أعظم سماع الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم بصر الرب تعالى! قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. تقول: ما أعظم هذا، يعني: هذا شيء عظيم جداً، ويمكن أن تقول: أعظم به، مثل أنعم به وأكرم. قال: ثم روى قتادة في قوله: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. قال ابن زيد: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعاً بصيراً. وقوله: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير، ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس.

فتية آمنوا بربهم [6]

فتية آمنوا بربهم [6] قصة أصحاب الكهف فيها جملة من الأوامر والتوجيهات الربانية التي تحيي معاني الإيمان، فمن هذه الأوامر والتوجيهات: رد العلم إلى الله، والإيمان بأنه يعلم الغيب، والنهي عن اتخاذ الولي من دونه تعالى، وإفراده سبحانه وتعالى بالحكم. وفيها أيضاً: الأمر بتلاوة القرآن والعمل بما فيه، وأن كلماته تعالى الشرعية أو الكونية لا تتبدل ولا تتغير، وأنه ليس هنالك ملجأ من الله إلا إليه.

الأوامر العادلة والأخبار الصادقة في خاتمة قصة أصحاب الكهف

الأوامر العادلة والأخبار الصادقة في خاتمة قصة أصحاب الكهف إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:23 - 26]. إن المتأمل قصص القرآن يجد دائماً في نهايتها جملة من الأوامر والتوجيهات الربانية التي تحيي معاني الإيمان، والتي يجب على كل مؤمن أن يعتقدها. ذكر الله سبحانه وتعالى جملة من هذه الأوامر والتوجيهات الإلهية في خاتمة قصة أصحاب الكهف، وكان مما ذكر مدة مكثهم، وهذا دليل على وجوب تفويض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، ورد العلم إليه، والإيمان بصفة العلم التي هي من صفات الرب سبحانه وتعالى، ومن أركان عقيدة المؤمن إيمانه بالأسماء والصفات، قال تعالى: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)). وكذا الإيمان بأن الغيب الماضي والمستقبل يعلمه الله سبحانه وتعالى، فهو وحده الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب في السماوات وفي الأرض، والمؤمن يعتقد ذلك اعتقاداً جازماً. وإذا أخبر الله عز وجل بعض خلقه بشيء منها، فلا تخرج عن كونها من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وأما في العهود الماضية فقد يعلم الله سبحانه وتعالى من شاء من خلقه على تفاصيل لم تقع، وإنما يذكر من ذلك لعباده المؤمنين في كتابه الكريم ما يحتاجونه في أمر دينهم وآخرتهم، ولا يذكر التفاصيل التي لا فائدة منها، فيذكر سبحانه من أنواع الغيوب ما ينتفع به أهل الإيمان.

الله عالم الغيب

الله عالم الغيب قال تعالى: ((لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ))، هذه الآية فيها الإيمان بصفة السمع والبصر، والمعنى: ما أبصره وما أسمعه عز وجل، فهو السميع البصير، فالله علم أقوال العباد الماضية والمستقبلة، وسمع أقوالهم ورأى أفعالهم. وهذه الآية فيها ترغيب المؤمنين في أن الله عز وجل يهديهم، وهو يسمع كلامهم وكلام عدوهم، ويرى سلوكهم وسلوك أعدائهم، فهو سبحانه ينتقم من الظلمة والمجرمين، ويصيب عباده المؤمنين، وهذا هو الترهيب، فهذه الآية: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) كما تتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته، تتضمن الترغيب والترهيب.

الله هو الولي

الله هو الولي قال تعالى: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ))، هذه الآية فيها نفي الولي من دون الله عز وجل، فالله الذي يتولى أمور الخلق بالإصلاح أو بالنصر أو بالإعانة أو غير ذلك، فلا يتوكل على غير الله، ولا يصلح الأمور أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وهذه هي عقيدة التوحيد، أي: توحيد الإلوهية التي يجب أن يحققها كل مكلف، فالذي يتولى غير الله فيجعله ولياً له، ويتوكل عليه ويسأله قضاء الحاجات، وكشف الكربات، فهذا أشرك بالله سبحانه، كما قال عز وجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]. فالذي يتولى غير الله فيجعله لقضاء حاجته، فهذا يوكل إلى العجز والضياع والخسران؛ لأنه سبحانه لم يجعل أحداً من دونه يتولى أمر عباده، ويصلح شأنهم، أو ينصر من دونه أحداً، إنما وحده سبحانه وتعالى الولي الناصر، ولذلك ليس لنا من دون الله عز وجل ولي، فلا نسأل غير الله، ولا نتوكل على غير الله، ولا نلجأ في كل مصالحنا وإصلاح أمورنا إلا إلى الله سبحانه وتعالى. والله عز وجل جعل عباده المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وليس ذلك من دونه سبحانه وتعالى، بل هذا بأمره عز وجل، فموالاة المؤمنين بعضهم بعضاً، ليست على سبيل الربوبية لبعضهم البعض، إنما على سبيل التعاون على إقامة الدين والتناصر والتحابب في الله، وهي بأمره عز وجل وليست من دونه. والمؤمنون عندما يتخذ بعضهم بعضاً أولياء، يعلمون أنهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً، وإنما الملك الحق لكل ذرات هذا الكون وكل ما فيه هو لله وحده لا شريك له.

الحكم لله وحده

الحكم لله وحده ثم ذكر الله سبحانه وتعالى معنى آخر من معاني التوحيد والإيمان وهو: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا))، فهنا انفراده سبحانه وتعالى بالحكم، وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، والحكم الجزائي يوم القيامة، فالله عز وجل لا يشرك في حكمه أحداً، فأحكامه القدرية تجري بأوامره سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو سبحانه وتعالى لم يجعل لأحد من الخلق لا لنبي ولا لملك ولا لولي من الأولياء شيئاً من تدبير الكون أو النفع أو الضر، قال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أءله مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، فهذا يدل على أن الله لم يجعل هذا لأحد، ولذلك لا يشرك في حكمه الشرعي أحداً من الخلق، كما قال عز وجل لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم لما قال له الكافرون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:15]، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس شريكاً لله في الحكم، وإنما هو من عند الله سبحانه وبوحيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه). إذاً لم تأت هذه الأحكام التي حكم بها النبي عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه، كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]، فالرسول ليس شريكاً مع الله، وحكمه ليس شركاً، ولا يستقل بتشريع، وإنما السنة كالقرآن في التشريع في معرفة حكم الله، فحكم الله بالقرآن هو حكمه بالسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع للناس من قبل نفسه، إنما يشرع لهم بأمر الله. والشرعة معناها: الطريقة المسلوكة وهذه طريقة معنوية، فشرع النبي عليه الصلاة والسلام أي سيره على طريق، وهذا الطريق هو ما أمر الله عز وجل به وشرعه. فلا يجوز أن يعتقد لأحد أنه شريك لله سبحانه وتعالى في حكمه الشرعي، ولذلك قال علي رضي الله عنه لما قال الخوارج: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)): كلمة حق أريد بها باطل، لما أرادوا منع أن يحكم بين الناس بأحكام تصدر من قبل حكام المسلمين، فاستدلالهم بالآية جهل منهم؛ وذلك لأنه لا يشرك مع الله عز وجل في حكمه أحداً، وهذا لا يعني أن الناس لا يتحاكمون فيما بينهم، فلا يحكم بعضهم على بعض بالشرع، بل بالتزام شرع الله سبحانه وتعالى. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي أبو العسيف: اقض بيننا بكتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأقضين بينكما بكتاب الله، الغنم والجارية رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله، كما قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، وبذلك لا يجوز لأحد أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم من قبل نفسه؛ لأن هذا من الشرك، فكيف بمن يعتقد أن الحكم أصلاً هو للسفلة والفجرة والكفرة والمنافقين الذين لا علم لهم بالدين؟! فهذا من الكفر الأكبر المستبين بلا نزاع بين أحد من علماء المسلمين، ومن الأمر الواضح البين، وكذلك من اعتقد أن للبشر أن يشرعوا ما شاءوا من أحكام دون شرع الله سبحانه وتعالى ودون امتثال أوامره عز وجل وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو في الحقيقة لا يحكم من قبل نفسه، إنما هو يبلغ عن الله: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))، فمن اعتقد أن للناس أن يحكموا بما يرونه عدلاً من غير الله فهو كافر خارج عن ملة الإسلام، وهذا أمر ظاهر جلي لكل من تأمل، وهذا الأمر ليس ببعيد، وإنما أعني بذلك أنه وإن كان كل الناس اليوم بحمد الله تبارك وتعالى أو أكثرهم أو عامتهم إلا طائفة من الزنادقة المنافقين والعلمانيين الذين أعلنوا ومازالوا يعلنون أنهم لا دخل لهم بالدين، لكن الكثرة الغالبة من المسلمين يعتقدون لزوم الحكم بشرع الله سبحانه وتعالى، وأن الحكم لله سبحانه وتعالى.

القوانين المدنية في مصر وموقفها من الشريعة الإسلامية

القوانين المدنية في مصر وموقفها من الشريعة الإسلامية هناك من لا يزال يحلم بعودة العقائد الفاسدة، فمنذ سنوات قليلة مضت لا تتجاوز الثلاثين أو العشرين كان الأمر يعلن بصراحة أن الشريعة لا يحكم بها إلا في المرتبة الرابعة، قبل أن يرفعوها إلى المرتبة الأعلى وهي أنها المصدر الرئيسي للتشريع، فكان القاضي لا بد أن يحكم أولاً بمقتضى الدستور أو القانون ثم بعد ذلك العرف، فإن لم يجد في ذلك فإنه يلجأ إلى الشريعة الإسلامية، وهذا كان وما زال في كتب القوانين، فأول ما أنشأت الدولة المدنية بعد الاستقلال في مصر دونت القوانين المدنية سنة 1922م، وهذا مسجل في تلك الكتب القانونية، ولما أرادوا رفع مرتبة الشريعة رفعوها بنفس المبدأ وهو أن الأمر مرده إلى الناس، وذلك لأن الأصول التي قررتها الثورة الفرنسية الخبيثة أن الحكم للشعب، فإذا أرادوا شيئاً نفذ، وإذا أبوا أزيل ورفض والعياذ بالله! فلا يكون شرعاً إلا ما رضيه الناس، ومن هنا ما زالت أحكام غير الشريعة تحكم بلاد المسلمين؛ لأن الدستور في مصر لما عدل سنة 1981م إلى أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، لم ينص على إلغاء ما سواها، وبقي ما سن قبل هذا التاريخ عند القوم صحيحاً ملزماً للناس، فلا يخالف الدستور كما يقولون، ولو كان عين مخالفة شريعة الله عز وجل، كما لو أنه خالف القرآن صراحة كالربا مثلاً.

حكم الرجوع إلى الدستور في الحكم

حكم الرجوع إلى الدستور في الحكم فالدستور مصدر التشريع عند القوم، وذلك أنهم يرون أن هذا الأمر يرجع للناس، لأن الدستور لا يكون دستوراً إلا بموافقة الناس عليه، وما كان سوى ذلك فلا، ولو أنه جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون ملزماً للخلق إلا بعد أن يوافق الناس عليه، وهذا والعياذ بالله من أخطر وأفضع مظاهر الشرك، ولا يجوز لمسلم أن يعتقده أبداً بحال من الأحوال، فمبادئ فصل الدين عن الحياة وليس عن الدولة فقط أحدثتها الثورة الفرنسية، ومنها أخذ العلمانيون منذ أكثر من ثلاثة قرون أو أربعة قرون، وكذلك تقديس ما يسمى بالديمقراطية، ذلك الاسم العظيم القدر الذي يتمناه الناس ويتبجحون به، مع أن تفسيرها اللغوي والحقيقي هو التفسير الواقعي، وهو: أن الحكم للناس، فالدول التي تطبق ذلك ليس عندها اعتراض على ما يقرره الناس، ولذلك تجد أن التطبيق الصحيح للديمقراطية هو أنه يمكن لمجموعة من الناس في بلد ما أن يجعلوا قانوناً ملزماً لهم، ويختارونه بدل الشريعة، فالحكم بالشريعة في أمريكا مثلاً ربما يكون أيسر من حكمها في بعض البلدان الإسلامية؛ لأنهم يطبقون ذلك لو أن الناس أرادوا، ومن حقهم في ضوابط معينة أن يختاروا قوانين معينة، وهناك حرية في ذلك. والغرض المقصود أن قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أن الحكم الشرعي لم يجعل للنبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس شريكاً في الحكم، وكذلك العلماء والخلفاء والأولياء فلا أحد شريك في حكم الله سبحانه وتعالى.

الحاكم هو الله وحده

الحاكم هو الله وحده الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله، وتجد هذا الكلام واضحاً جلياً لدى علماء الأصول من المسلمين، وهم يتكلمون عن أنواع الحكم الشرعي وهما: الحكم الوضعي والحكم التكليفي. فيقولون: الحاكم هو الله وحده لا شريك له، والسنة مصدر من مصادر التشريع لا يمكن الاستغناء عنها، وكذا الإجماع والقياس. ويقررون تأكيداً أن الحاكم هو الله وحده لا شريك له، وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله، وأن الإجماع ليس مشرعاً، وليس دليلاً في ذاته، بل هو كاشف عنه، يدل على وجوده، ووجود شرع من عند الله، فليس من حق الأمة أن تتجمع وتقرر تحليلاً أو تحريماً من دون حكم الله، فالعلماء لم تكن لهم سلطة في التشريع والحكم، وهذا أمر يختلف المسلمون فيه اختلافاً جذرياً عن اليهود والنصارى، الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31].

من هو صاحب التشريع عند اليهود والنصارى؟

من هو صاحب التشريع عند اليهود والنصارى؟ اليهود والنصارى يعتقدون أن لأحبارهم ورهبانهم أن يسنوا تشريعات يلزمون الناس بها، وأن يحللوا ويحرموا، فلقد أحلوا لحم الخنزير مع وجود النصوص الدينية عندهم بتحريمه، فالتوراة تحرم الخنزير إلى يومنا هذا، والنصارى يعتقدون لزوم التوراة؛ لأنها العهد القديم عندهم، ومع ذلك فهم يستحلون الخنزير بقرارات مقدسة زعموها، فليست مقدسة في الحقيقة بل هي مدنسة، قد خرجت من مجامع الأحبار والرهبان فقرروا فيها تغيير الأعياد والتاريخ والعقائد والحلال والحرام؛ لأنهم يعتقدون أن علماءهم لهم سلطة في التشريع والتعديل على الكتاب المقدس والشهادة عليه بالصحة أو البطلان، ولذلك تجد عجباً في عقائدهم، فالنصارى ظلوا عشرين قرناً وهم يعتقدون أن اليهود هم الذين تسببوا في صلب المسيح، ثم بعد عشرين قرناً تتغير العقيدة بقرار من مجمع في الفاتيكان بأن اليهود أبرياء من دم المسيح! فالنصارى ظلوا هذه القرون الطويلة وهم يعتقدون أن الكتاب المقدس بشقيه: العهد القديم والعهد الحديث ليس فيه شيء من البطلان، ثم يقرر المجمع سنة 1975م بأن العهد القديم فيه شيء من الشوائب وشيء من البطلان! فهذه منزلة أحبارهم ورهبانهم، وهذا لا يمكن أن يوجد في علماء المسلمين فضلاً عمن ليسوا بعلماء.

مذاهب الفقهاء ليست تشريعات

مذاهب الفقهاء ليست تشريعات علماء المسلمين ليست مذاهبهم تشريعات، والناس يختارون منها، وأن العلماء من حقهم أن يشرعوا، وأن يحللوا ويحرموا، فمن اعتقد ذلك فقد كفر، قال الله: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا))، وكذلك ليس ذلك جائز من باب أولى للجهلة. إن أبا بكر وعمر أعلم بالرسول صلى الله عليه وسلم من ابن عباس، وعروة رضي الله عنه لما خالف ابن عباس رضي الله عنه في مسألة المتعة في الحج قال له ابن عباس: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتعة، فقال له عروة: أبو بكر وعمر كانا ينهيان عنها، مع أن مصدر فهم عروة لذلك ليس أن أبا بكر وعمر من حقهم الاعتراض، وإنما لأنهما أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس، فقال له ابن عباس: توشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! فإذا كان هذا في حق أفاضل الأمة فكيف بالجهلة والفسقة والفجرة فضلاً عن الكفرة والمنافقين والمرتدين؟! فكم من كافر والعياذ بالله يقول فيه الناس: من حقه أن يقول: نعم أو لا إن خالف الشرع، ومهما كان رأيه مصادماً للدين، وهو ليس من أهل العلم ولا حتى من أهل الفضيلة، بل هو من الفسقة والفجرة والجهال! فإذا كان الأمر كذلك فيتصور أن يكون هذا موافقاً لتوحيد الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد أن هذه القضايا الاعتقادية في خاتمة القصة من أهم القضايا التي لا بد أن ينتبه لها المسلمون.

بيان التوحيد والشرك

بيان التوحيد والشرك قوله تعالى: ((ولا يشرك في حكمه أحداً)) وفي قراءة: ((ولا تشرك في حكمه أحداً))، وهذا النهي لا يتوجه إلا على المكلف، وإن كان الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، والمعنى: لا تجعل مع الله شريكاً في الحكم. عمل الإنسان قد يكون اعتقاداً، وهو التوحيد الخبري الاعتقادي، وهناك عمل الإنسان وهو التوحيد العملي الإرادي القصدي. أما على القراءة الأولى التي نقرأ بها، وهي قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) هذا الاعتقاد الجازم. فمن اعتقد أنه يحل للناس ويجوز لهم أن يجعلوا مع الله شريكاً، فهذا شرك في التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي. وأما على القراءة الأخرى: ((ولا تشرك في حكمه أحداً)) فهي خطاب فيما يتعلق بفعل المكلف، فالحاكمية في أفعال المكلفين يجب أن تكون إلى شرع الله سبحانه وتعالى دون أحد سواه، فلا يجعل مع الله شريكاً أو جزء يسير ولو في جانب من جوانب الحياة، ولذلك كان من الشرك الأكبر أن يجعل مع الله شريكاً في الحكم، ولو كان في حكم واحد. فليست المسألة بالقلة والكثرة، إنما المسألة مسألة تأصيل، فكل أنواع الحكم بغير ما أنزل الله تكون شركاً، منها ما يكون كفراً ناقلاً عن الملة، ومنها ما يكون كفراً غير ناقل عن الملة، بل هو كفر دون كفر، ولكن ليس العبرة بالعدد. وبعض الناس يقول: إن خمسة وتسعين في المائة من الشريعة موجود، وخمسة في المائة غير موجود، فهذا تهوين للشريعة، ولو أن يقول: واحد في المائة أو واحد في الألف. ولو أن الإنسان استجاز مخالفة الشرع، وجعل مع الله عز وجل شريكاً في حكم واحد لكان مشركاً شركاً أكبر ناقلاً عن الملة، طالما أنه علم أن هذا حكم الله، وفي نفس الوقت لو أن إنساناً صرف ألف عبادة لله، ثم صرف عبادة لغيره، أو سجد لله ألف سجدة، ثم سجد للصنم، فهذا مشرك والعياذ بالله. ولو قال: أنا أعبد الله تسعمائة وتسعة وتسعين بالألف، وواحد في الألف أعبد غير الله، فقد أشرك بالله والعياذ بالله؛ لأنه عبد غير الله. فالذي يقول: أنه يسعنا أن نخالف شرع الله، أو أن نجعل جزئية صغيرة من حكم الله فيها لغير الله، كـ ماركس ولينين، أو القوانين الفرنسية أو الأنجلوساكسونية، أو للطائفة الفلانية أو للمجلس الفلاني أو للشخص الفلاني؛ فهو كافر كفراً أكبر. والنهي في قوله تعالى: ((ولا تشرك)) يدل على أن القضية قضية شرك، وليست مجرد قضية معصية فقط. وهذه الآية مكية، فالشرك الذي كان يقع من المشركين هو الشرك الأكبر، لذلك نقول: أن هذا النوع من الاعتقاد العملي، وإذا كان الإنسان يعلم أن هذا حكم الله، ويصوب في نفس الوقت التحاكم إلى غيره سبحانه وتعالى، فهو أيضاً كافر كفراً مخرج من الملة.

بيان الشرك دون الشرك أو الكفر دون الكفر

بيان الشرك دون الشرك أو الكفر دون الكفر من كان يعتقد وجوب شرع الله سبحانه وتعالى في كل الأمور، وفي نفس الوقت هو ملتزم بشرع الله سبحانه وتعالى، ولا يبدل الشرع، ولكنه يخالفه، وهو يعلم أنه منتسب إليه كذباً، كأن يقول مثلاً: إن الشهود في هذه القضية ليسوا عدولاً، أو الشهود لم يبلغوا أربعة، وهو يعلم أنهم أربعة، لكنه يزور في الأوراق مثلاً، أو القاضي الظالم يقول: لم يشهدوا وهم قد شهدوا عنده، ولكنه في التطبيق على الواقع يخالف الحقيقة، مثل إنسان يقول: هذا الإنسان يستحق القتل، لأنه مفسد في الأرض مثلاً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33]، ويكون هو المفسد في الأرض، فقد أفسد في العقيدة وطبق هذه الآية على غيره، كأن يقول: هذا فلان سوف نقطع يده لأنه سرق، وهو الذي سرق، أو ليس هذا الذي سرق ولكنه يقطع يده، فهذا لو حكم ألف حكم من هذا النوع لم يكن كافراً كفراً أكبر، بل كان كافراً كفراً أصغر لأنه ملتزم بالشرع، فهو لم يقل: أنا أقطع يد هذا لأني أرى ذلك، أو لأن فلاناً قد شرع ذلك، وإنما كأن يقول مثلاً: نقطع لسان هذا أو يد هذا؛ لأنه لامس أجنبية، أو لأنه امتدت يده إلى ما لا يجوز مثلاً، أو صنع أي شيء. ومع أنه عندما يقرر أن الكلام هذا ليس منسوباً للشرع، فهو يقرر أن أحداً دون الله له حق في التشريع والتحاكم إليه والعياذ بالله، فهذا هو الشرك الأكبر. أما أن ينسب ما يفعله إلى الشرع كذباً وزوراً، فهذا كفر أصغر، وليس هذا عبرة بالقلة أو الكثرة وعدد ما حكم به من الأحكام أو بنسبتها إلى ما يحكم به. فمن سجد لله ألف سجدة، وسجد للصنم سجدة واحدة صار مشركاً، فكذلك من رأى أن شرع الله ملزم في ألف حكم، وغير ملزم في حكم واحد، فيسع الناس أن يخرجوا عن شرع الله الذي ألزمهم به، ويعلم أن الرسول أوجب ذلك، ولكن يتركه إعراضاً عنه وإيثاراً لحكم الجاهلية عليه، ويصوب ذلك، ويرى أن هذا الأمر هو الحق، فيلزم به جميع الخلق؛ كان ذلك أيضاً شركاً أكبر. أما الذي يرتشي في كل القضايا، فلا يكفر، والقاتل عمداً عليه القصاص أو الدية، فمن زور صلحاً يرغم به أهل القتيل على الصلح، ويقول: تم الصلح بناءً على جلسة فلانية بين أهل القتيل والقاتل، وهذا لم يحصل لكنه هو الذي أكرههم، أو يقول: ثبت أن هذا القتل خطأ وهو يعرف أنه عمد، من أجل أن يفرض عليهم الدية ويسقط القصاص، فهذا كفره كفر أصغر. وهذا الذي يقع من حكام المسلمين الظلمة عبر التاريخ، فـ الحجاج بن يوسف الثقفي لم يكن يحكم دون حكم الله عز وجل، لكن كان ينسب قتل الحسين بن علي -حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم- إلى الشريعة، فيحتج بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم، فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان)، فهو يزعم أن قتل الحسين موافق لكلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف من قال: أنا أقتله من أجل أنه خالفني، أو لأجل أن القانون يقتضي قتل هذا الإنسان مثلاً. والذي يقول مثلاً: هذا الزاني يحبس ستة أشهر؛ لأنه زنى بامرأة فلان، أو دفعت له رشوة في هذه القضية، فيقول: هذا الرجل لم يزن؛ لأن الشهود، لم يقروا بذلك، أو ثبت أنه كان في حجرة النوم مثلاً، فهو يستحق التعزير أو الحبس ستة أشهر. فهناك فرق بين أن يثبت أن فلاناً زنى فلا يحكم عليه بالرجم، أو الجلد الذي شرعه الله، ولكن يحكم عليه بخلاف ذلك، وبين الذي يثبت الحدود الشرعية ولكنه لا يطبقها. فهذا الفرق غفل عنه الكثيرون جداً، وظنوا أن هذا الباب ليس من التوحيد، وأنه نوع من المعصية فقط، والآيات صريحة جداً، وكلام أهل العلم صريح جداً في ذلك، كما نقله غير واحد من العلماء، ومن أحسن ما ذكر في ذلك كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله. والنوع الثالث من الأحكام التي ليس لله عز وجل فيها شريك، والحكم الجزائي يوم القيامة هو في الحقيقة اجتماع الحكم الشرعي مع الحكم الكوني القدري، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتبه المقدرة على رسله أن الجنة والثواب والإكرام والإعزاز للمؤمنين، وأن النار والإهانة والذلة والعذاب للكافرين، فيحاسب الله الناس يوم القيامة على ما شرعه لهم. وبذلك كانت الشفاعة ملكاً له عز وجل، ليست الشفاعة ملكاً للرسول صلى الله عليه وسلم ولا للأنبياء ولا للملائكة، بل لا يشفعون إلا بإذن الله، ولمن ارتضى الله سبحانه وتعالى، فالحكم الجزائي له وحده، ولذلك لا يدخل أهل الجنة الجنة إلا بإذنه، قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:23]، ولا يخرج أهل النار منها إلا بإذنه سبحانه وتعالى، وذلك يظهر جداً في مقام الشفاعة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقيمه الله ويبعثه المقام المحمود؛ فيسجد تحت العرش، ويظل يثني على ربه عز وجل بأنواع الحمد والثناء والمحامد التي لم يحمده بها أحد قبله، حتى يقال له: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع)، فعند ذلك يأذن الله له بالشفاعة، ليعلم الجميع أن الشفاعة لله عز وجل، وأنه لا شفيع من دونه بل بأمره، قال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51].

معنى قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك

معنى قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك قوله تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز، وإبلاغه إلى الناس: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أي: لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل. قوله تعالى: ((وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) عن مجاهد: (ملتحداً) قال: ملجأ، وعن قتادة ولياً ولا مولى. وقال ابن جليل: يقول: إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك، فإنه لا ملجأ لك من الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، وقال: ((إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة، فهذه الآية تضمنت تلاوة القرآن وهي تتضمن عدة معان.

بيان المراد بالتلاوة

بيان المراد بالتلاوة لا شك أن بداية التلاوة القراءة، والقراءة مأمور بها العبد ليتعلم، وليعلم غيره، وليتبع بعد ذلك، وقد فسر غير واحد (واتل) أي اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك. وابن كثير فسرها بتلاوة القرآن مبلغاً ومعلماً لهم، وهذا معنىً صحيح لا شك فيه، والآية تتضمن المعاني كلها، فتتضمن معنى القراءة للفهم، وتعليم الناس والعمل به واتباعه كما أمر الله سبحانه وتعالى، قال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. فهو يَدْرسُ ويعلم غيره، وهو رباني عالم عامل، فالذي يتعلم ولا يعمل، أو يعلم ولا يعمل ولا يتبع هو ليس ربانياً، إنما الرباني الذي يلتزم ما يأمر به وما يتلوه. واتباع الكتاب أعظم وأهم أمر يبنى من خلاله تصديق الأخبار وامتثال الأوامر والنواهي، وهو في الحقيقة مصدر حكم الله الذي لا يجوز أن يشرك العبد به أحداً، فمن أين يعلمه؟ من تلاوة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله.

معنى قوله تعالى: (لا مبدل لكلمات الله)

معنى قوله تعالى: (لا مبدل لكلمات الله) قوله: ((لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) أي: لا مبدل لكلماته الشرعية، فإن القرآن قد حفظه الله سبحانه وتعالى، كما أنه لا يجوز للمؤمن أن يعتقد أن لأحد أن يبدل كلام الله، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الظاهر في الكلمات هنا؛ لأن الآيات إنما هي في كتاب الله المنزل. وأيضاً لا مبدل لكلمات الله الكونية، فإن الله سبحانه إذا أمر بأمر كان، إنما هو ((إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))، ولكن السياق في الآيات الشرعية، فمعنى لا مبدل لكلماته، أي لا يوجد شرعاً من له حق التبديل في كتاب الله، ولذا كان تبديل كلمات الله الشرعية كفراً وشركاً بالله؛ لأن الله قال: ((لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) فالذي قال: يوجد مبدل لكلمات الله فقد كذب القرآن والعياذ بالله، والذي يقول: من حق الناس أن يغيروا التشريع ويغيروا كلام الله ويأتوا ببديل فقد كذب القرآن. فمعنى ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أي: أن الناس لن يقدروا على إزالة الآيات وتغييرها بغيرها، وسيفضحون إن فعلوا ذلك، ولن ينتشر ذلك الباطل كالحق بل ينتشر على أنه باطل، وهذا -والله- أمر حاصل، فإن الله حفظ كتابه العزيز فلا تصل إليه يد، ولو حاول إنسان أن يحرف منه حرفاً سيفتضح في أرجاء الأرض مشارقها ومغاربها بحمده سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (ولن تجد من دونه ملتحدا)

معنى قوله تعالى: (ولن تجد من دونه ملتحداً) قوله: ((وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا)) وإن كان ترهيباً في صورته فهو خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وللمكلفين، فلا تعمل للناس حساباً فتترك تلاوة ما أمرك الله عز وجل به من الكتاب، أو أن تتبعهم في التبديل؛ لأنك إن خالفت شرع الله، فلن يكونوا نصراء لك، ولن تجد ملجأ ولا نصيراً. وإن كان الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام فالمقصود غيره بلا شك، والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع كتاب الله ويتعلمه ويعلمه الناس ولا يستبدل الحق بالباطل، ولا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا يبدل شرع الله وكلامه وآياته أبداً. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تبارك وتعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)): قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر (ولا يشرك) والمعنى: ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه، بل الحكم له وحده جل وعلا، لا حكم لغيره البتة، فالحلال ما أحله الله تعالى والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والقضاء ما قضاه. وقرأ ابن عامر من السبعة: (ولا تُشْركْ في حكمه أحداً) بصيغة النهي، أي: لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا، بل اخلص الحكم لله وحكمه جل وعلا المذكور في قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) شامل للحكم الشرعي والكوني. أما على القراءة الثانية: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) فهذه لا تحتمل إلا الحكم الشرعي، وذلك أن العبد له تعلق بالحكم الشرعي، وإنما يتحاكم الناس في خصوماتهم إلى شرع الله أو إلى غيره، فالتحاكم إلى شرع الله توحيد، وإلى غيره شرك بنص الآية. لذلك اتفقت كلمة العلماء سلفاً وخلفاً على أن الحاكم هو الله وحده، مصداقاً لقوله الله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))، وللآية السابقة، ولذلك لا نجد نزاعاً بين أهل العلم في أن الحاكم هو الله عز وجل، وإذا ذكروا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الحاكم والقاضي، فعلى سبيل التبعية، فحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنص القرآن من عند الله عز وجل، قال تعالى: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي)).

الحكم لله وحده

الحكم لله وحده ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وقوله تعالى: (نِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67]، وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، قوله تعالى: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، إلى غير ذلك من الآيات.

أنواع الحكم

أنواع الحكم فهذه آيات كثيرة تكررت مرات عديدة في إثبات أن الحكم لله بجميع أنواعه، وهي: الحكم الشرعي، والحكم القضائي القدري، والحكم الجزائي، فإنه كله لله. وذلك ككل مسائل الاعتقاد التي يكثر بيانها في القرآن بأوضح الأدلة وأعظم البراهين، لكي تستقر في نفوس المؤمنين، ويرد على الكافرين والمنافقين شبههم وأباطيلهم، لكثرة تأكيد المعاني الإيمانية. قال رحمه الله: ويفهم من قوله تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله، أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر، كقوله تعالى فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم، وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان، لقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61]. وكان الكفار يقولون: أتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله بيده؟ فكانوا يزعمون بهذا التأويل الفاسد إباحة الميتة وتحليلها، وهم يعلمون أن الله أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم تحريمها، ولكنهم آثروا ما نشئوا عليه من إباحتها، فكانوا يجادلون بهذه المجادلات الباطلة، فأكد الله عز وجل النهي فقال: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)). فالأوامر والنواهي هي التي يعرف منها التشريع، وليست الأقيسة الفاسدة والعقول السخيفة التي يستعملها المشركون، فسمى الله من أطاعهم في تغيير الشرع مشركين فقال: ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))، وهذا هو ما أخبر الله عز وجل به عن المشركين، وما نهى عنه بني آدم من عبادة الشيطان، وذلك باتباع تشريع فيه خلاف شرع الله سبحانه وتعالى، ومن اتبع الشيطان في خلاف شرع الله سبحانه وتعالى فهو عابد له، وكل من سن تشريعاً يخالف تشريع الله فقد شطن وبعد عن الحق، فهو شيطان من شياطين الإنس أو الجن، كما بين سبحانه وتعالى أن شياطين الإنس أعداء الأنبياء كشياطين الجن: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]. وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:44]، وقوله تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء:117]، أي: ما يعبدون إلا شيطاناً وذلك باتباع تشريعه؛ لذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137]، فسماهم شركاء ونسبهم إليهم؛ لأنهم اخترعوا هذه الشركة مع الله، ولا حقيقة لها في الواقع، وإنما هي في أذهانهم وعقولهم الفاسدة وعقائدهم الباطلة، وهم اعتقدوا أن هؤلاء شركاء مع الله، ولذلك بين الله عز وجل بطلان ذلك، والشركاء زينوا للمشركين وأد البنات خشية الفقر، وجعل ذلك الشرع من الشركاء؛ لأنهم هم الذين اتخذوهم.

معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)

معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) بين النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، فاتبعوهم في ذلك؛ فذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. وهذا اتباع على تحريم الحلال وتحليل الحرام، وليس على مجرد فعل الحرام أو ترك الحلال، فهو اتباع على التبديل، بخلاف من يتبع مع اعتقاده بتحليل الحلال وتحريم الحرام، ولكنه يفعل ذلك معصية، كأن يجد فرصة للزنا فيزني، ولا يراه أنه حرية شخصية، بل يراه محرماً، بخلاف من لا يزني ولكنه يرى أن من أراد أن يزني فليزني لأنه حرية شخصية، وأن هذا الأمر مردود إلى اختيار الإنسان، وأن المشكلة تكون في الإكراه، وإذا كان الإنسان موافقاً فلا حرج؛ فمثل هذا ولو لم يزن فهو مشرك. ومن أصلح الأدلة أن الله جل وعلا بين أنه من العجب أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله مع زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت متناقضة، وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، وبهذه النصوص السماوية يظهر غاية الظهور الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، ولا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه -عن نور الوحي- مثلهم. والعجب أن أناساً ينتسبون إلى الدين وإلى الدعوة يرون أن اتباع من يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أولئك مخالفٌ لما شرعه الله على ألسنة رسله صلوات الله وسلامهم عليهم أجمعين؛ مجرد معصية طالما لم يستحل ذلك، فإنه لا حرج عليه بل يدخل الجنة يوماً من الأيام! وهذا بلا شك وضع للأشياء في غير مواضعها، وخلط بين ما يناقض الإيمان من أصله وبين ما يناقض كماله. وذلك أن وجود تشريع خلاف تشريع الله لهذه الآية واعتقاد أن الحكم يكون لغير الله شرك كما دلت عليه آية الكهف وآية النساء وآية سورة المائدة وآية سورة التوبة وآية سورة الشورى، فالآيات كثيرة جداً في أن الحكم صفة لله وحق له عز وجل، فمن صرفه لغيره سبحانه وتعالى فقد عبده.

بيان حكم الأنظمة الوضعية

بيان حكم الأنظمة الوضعية

أقسام النظام الفرعي

أقسام النظام الفرعي قال الشنقيطي: تنبيه! اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك، وإيضاح ذلك أن النظام قسمان: إداري وشرعي، أما الإداري الذي يراد به ضبط الأمور، وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، فهذا لا مانع منه ولا مخالف فيه من الصحابة، فمن بعدهم. فقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ومعرفة من غاب ومن حضر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب الدواوين، ولم يكتب أسماء المقاتلين في قبائلهم، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك. وكاشتراء عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية، فجعلها سجناً في مكة المكرمة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً ولا أبو بكر، وإنما كان يحبس في تهمة في بعض دور أصحابه. فمثل هذه الأمور الإدارية التي تفعل مما لا يخالف الشرع لا بأس بها، فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم حبس بتهمة، فإذا ثبت الحبس كنوع من التعزير، يصح أن يجعل له سجناً لكثرة الناس، ولأن الإمام لن يجد كل مرة بعض أصحابه ليضع المحبوس ذلك الذي يحتاج إلى حبسه عنده. يقول: هذه الأمور الإدارية كتنظيم شئون الموظفين، وتنظيم إدارة الأعمال، لا تخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة. وأما النظام المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض، فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض. فدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف كفر كالقوانين المطبقة في تونس، فإنها تنص على توريث الذكر مثل الأنثى، وككل ما تمليه قرارات المرأة العالمية، فإنها لا تفتأ في كل مرة من ذكر وجوب مساواة الرجل للمرأة في الميراث، ولزوم تغيير التشريعات التي فيها التفاوت بين الرجال والنساء، وكلها مقررات معلومة تتحفظ عن بعضها إجمالاً بعض الدول المسماة بالإسلامية، التي تنص قوانينها على لزوم الرجوع إلى الشريعة والعقيدة، لكن هذا المبدأ اعتقده المشرعون الغربيون، ونشروه في الناس، ولا يزالون يحاولون رد المسلمين عن هذا الأمر.

حكم بعض الأحكام القبلية المخالفة للشريعة

حكم بعض الأحكام القبلية المخالفة للشريعة بعض الناس يظلمون النساء فلا يعطوهن شيئاً من الميراث على الإطلاق، كبعض القبائل يفعلون ذلك على سبيل القهر والغلبة، وبعضهم يفعل ذلك على سبيل التشريع. فمثلاً في بعض القبائل العربية الغير ملتزمة بالشرع يعطون النساء ما يسمونه فتفوتة، فيعطونهن جزءاً من الميراث، والأبناء الكبار يأخذون الميراث، ويسمونه شرعة والعياذ بالله، ويعلمون مخالفتها للشرع، ولكنهم يلتزمون بهذا، فهذا من الكفر لا شك في ذلك. ودعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف شرك، فمن سن تشريعاً عاماً في أن كل امرأة ترث مثل الرجل فهذا كفر، وتحكيمه كفر، أما إذا أكل الأخ حق أخته مثلاً أو امرأة أكلت حق إخوانها الصغار، بأن كانت كبيرة وهم صغار والأمور في يدها، فهذا ظلم ومعصية.

محاولة أعداء الإسلام تبديل بعض الأحكام الشرعية

محاولة أعداء الإسلام تبديل بعض الأحكام الشرعية دعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف، ويلزم استواؤهما في الميراث، ودعوى أن تعدد الزوجات ظلم؛ وأن الطلاق ظلم للمرأة، وأنه لا يجوز أن يقع من الرجل إلا إذا طلق القاضي؛ هذه كلها من محاولات أعداء الإسلام العديدة في تشريع قوانين الأحوال الشخصية في بلاد كثيرة، مثل منع الطلاق أسوة بدول أوروبا، مع أن دول أوروبا تتجه الاتجاه العكسي، وهو إباحة الطلاق، وتوسيع دائرته، وأنه لا يمكن أن يتم إلا بأمر القاضي، أما أن يطلق الزوج زوجته فتصبح طالقاً فهذا ليس بمقبول في دول أوروبا؛ لأنهم انتقلوا من تحريم الطلاق بالكلية إلى إباحته بشرط أن يطلق القاضي. وكذلك مبدأ أن تعدد الزوجات ظلم، ولذلك فإن بعض البلدان الإسلامية تجرم الزواج بالثانية، وأعطوا حق الطلاق للمرأة إذا تزوج عليها زوجها، وإذا لم تطلب الزوجة الطلاق، فالزواج الثاني مشروع. أما في تونس وتركيا فإنهم نجحوا في تجريم الزواج الثاني مطلقاً، فمن ثبت أنه عقد على امرأة غير زوجته الأولى فهو يستحق عقاباً شديداً، سواء طالبت المرأة الأولى أو لم تطالب؛ لأن تعدد الزوجات عندهم ظلم للمرأة، فلا يجوز ذلك. وهنالك قصة مشهورة وقعت في تونس، وهو أن رجلاً ثبت عنه أنه تزوج الثانية، فأثبت أمام المحكمة أنها عشيقته وليست زوجته، والنظام في تونس كالقانون الفرنسي الذي أخذ منه القانون المصري أيضاً، وهو أن العشيقة إذا كانت في منزل الزوجية لا يعد ذلك جريمة، خصوصاً إذا كانت المرأة ليست متزوجة. أما إذا كانت متزوجة فليس هذا جريمة إلا أن يسأل الزوج عنها ويرفع ذلك إلى المحكمة، فلا تسمع أي دعوى زنا إلا من خلال الزوج، فإذا كانت المرأة بالغة سن الثامنة عشرة، ووقعت في الفاحشة فلا يسمون ذلك زنا، وإنما يسمونه وقاعاً، أما الزنا عندهم فهو بين المتزوجين فقط! وهذا تحايل على الشرع. ولذلك فإن القانون المصري ينص على أن من واقع أنثى بغير رضاها، فإنه يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة أو المؤبدة. وإذا كانت من المحارم أو كان ممن يرعاهم أو كان ذلك مع التهديد بالسلاح أو كان ذلك بالخطف؛ فيمكن أن ترفع العقوبة إلى الإعدام. فهذا النوع من النظام لا يشك مسلم أنه كفر.

حكم تحكيم النظام المخالف للشريعة الإسلامية

حكم تحكيم النظام المخالف للشريعة الإسلامية دعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس فيه إنصاف، وأن تعدد الزوجات والطلاق ظلم للمرأة، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، فإن كل قوانين حقوق الإنسان العالمية تمنع من العقاب البدني بالكلية، وتدعو إلى إلغاء عقوبة القطع والجلد والضرب والإعدام. وهناك دول كثيرة عملت على إلغاء هذه العقوبات التي يسمونها وحشية القرون الوسطى أو العصور الوسطى، وهذا كفر والعياذ بالله. فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بمصارفها سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن أن يكون معه شريك آخر، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، وقال أيضاً: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]. وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].

خلاصة كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى في الحكم بغير ما أنزل الله

خلاصة كلام الشنقيطي رحمه الله تعالى في الحكم بغير ما أنزل الله بعد هذا الكلام الواضح لا يمكن لأحد أن يزعم أن الشيخ الشنقيطي رحمه الله يقول: إن الحكم بغير ما أنزل الله وتحكيم القوانين الوضعية كفر أصغر، ومن الباطل أن يقال: إن الشيخ إنما يقصد ذلك إذا استحله. فكلام الشيخ واضح أن تحكيم هذا النوع هو في الحقيقة أعظم من الاستحلال، فهو كفر بخالق السموات والأرض. وذلك كما ذكرنا أن هذا التحكيم أشد من الاستحلال، فالتحكيم فيه إلزام الناس بشيء، ومنعهم من غيره، كإرغامهم بخلاف الشريعة، وتحريمهم الالتزام بها، وذلك لا يحتاج معه إلى أن يقول: وأنا أستحل ذلك. فإذا قال: أنا أوجب على الناس وأشرع لهم وألزمهم بأن يسود فيهم القانون، سواء ما كان موافقاً للشرع أو ما كان مخالفاً، إلى أن يتم تغييره، فإن هذا الإلزام والإيجاب أعظم من الاستحلال. ولو أن إنساناً قال: يجب مخالفة الشرع، والآخر قال: يباح أن نُحكِّم خلاف الشرع، فالعجب أن يقال: إنه لا بد أن يستحل ذلك، فإن قوله: يباح أشد من المستحل، فلا يمكن أن يقال: لا بد أن يقول: يباح ذلك أو يجب. فهذا الأمر يتصور في الوقائع المعينة، أما في التشريع العام فلا يتصور ذلك، ولا بد أن ينسب ذلك إلى الشريعة. فإذا أراد أن يمنع زوج أخته من أن يتزوج عليها زوجة ثانية، ويدخله السجن بتهم باطلة، فيقول -مثلاً- إنه ضربها أو آذاها وهو كذاب في الحقيقة، فهو يريد أن يعاقبه على تجرئه على هذه الفعلة مثلاً، فاستعمال سلطته كفر دون كفر. أما من قال: إن الزواج الثاني حرام، أو هو جريمة يعاقب فاعلها، فلا فرق بينهما، ومن يحاول أن يفرق بين الكلامين فإنه إنسان ضال مغرض، فقوله: الزواج الثاني جريمة يعاقب فاعلها، مثل أن يقول: الزواج الثاني ممنوع في القانون. أما من كان لها حاكم قريب، أو دفعت له رشوة وقالت له: زوجي يريد أن يتزوج عليًّ، فأتى بزوجها من البيت، وضربه ضرباً وأدخله السجن وظلمه هذا الظلم، فهذا حكم بغير ما أنزل الله فعلاً، وهو كفر دون كفر، ولو تكرر ذلك منه. أما أن يسن تشريعاً عاماً للناس جميعاً، فهذا لا يمكن أن يصدر إلا ممن يعتقد أن الزواج الثاني ظلم، ولا يمكن أن يصدر إلا ممن يطعن في شرع الله سبحانه وتعالى. فلو أن إنساناً وجد عدواً له يصلي، فانتهزها فرصة فجاء إليه وضربه وهو يصلي، لأنه لم يجد فرصة غيرها، ومنعه أن يصلي، فهذا ظلم بلا شك، لكن لو جعل ديدنه أن كل من صلى ضرب، وسن تشريعاً في ذلك، فلا يمكن أن يكون إنساناً مسلماً بدرجة من الدرجات. وكذلك لو قال: كل من قرأ القرآن أو حفظه فإنه يسجن، أو من لبست الحجاب فإنها تطارد بأعظم أنواع المطاردة، ويسن تشريعاً أن من لبست الحجاب في المجامع العامة فإنها تعاقب، وكما تفعله بعض البلدان؛ فهذا كافر، ولا يمكن أن يكون مسلماً بحال من الأحوال وهو يكره الحجاب، إلا إذا تصور أنه ليس من الدين، أما إذا علم ذلك وتليت عليه الآية: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، فيقول بعد ذلك: الحجاب ليس من الدين، فهذا كافر بطريقة الجحود والعياذ بالله. وفي تركيا أغلقوا مدرستين لتهاون القائمين عليهما في مسألة لبس الطالبات الحجاب. فلو لبس الطالبات الحجاب يصبح عندهم مصيبة سوداء، ولذلك فإنهم فرضوا على كل طالبات الثانوي أن يكون زيهن المدرسي مرفوعاً إلى نصف الساقين وقد يصل إلى أن يكشف الفخذان والعياذ بالله. فهل هناك مسلم يقول: إن المرأة تفصل ويعاقب وليها إذا لم تكشف فخذها؟ هذا لا يمكن، والذي يتنازل في هذه المسألة ويقول: إنه كفر دون كفر، فهو إنسان مغرض، والعياذ بالله. أما إذا كان هناك هوى في النفس يدفع بعض القائمين بذلك فإن هذا كفر دون كفر، وهذا يكون في الوقائع المعينة، وفي الشخص المعين نفسه إذا كان جاهلاً. أما إذا كان الأمر معلوماً عند المسلمين، وأدلته من الكتاب والسنة ظاهرة، ويلزم الناس في التشريع العام بخلافه، فهذا فعلاً كما ذكر أهل العلم مناف لتوحيد الله سبحانه وتعالى ولحكمه.

لا مبدل لكلمات الله

لا مبدل لكلمات الله قال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27]، فالتلاوة تشمل معنيين: القراءة، والاتباع. وهذا مذكور في آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل، كقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] فهذه الآية تدل على قراءة القرآن، وقوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:106]. وقوله تعالى: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم. وقوله تعالى: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته؛ لأن أخبارها صدق وأحكامها عدل، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذباً، وعدلها جوراً، وهذا الذي ذكره هنا جاء مبيناً في مواضع أخر كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]، فقوله: صدقاً يعني في الإخبار، وعدلاً في الأحكام. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]. لقد بين تعالى في مواضع أخرى أنه هو الذي يبدل ما يشاء من الآيات مكان ما شاء منها، كقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل:101]، وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]، وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]. وقد ذكرنا أن معنى كلمات الله في قوله تعالى: ((لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) أنها تشمل الكلمات الكونية التي خلق الله بها الخلق، فإذا قضى الله عز وجل أمراً لم يكن في إمكان أحد ولا في قدرته أن يبدل هذا الأمر، قال تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]. وتشمل أيضاً الكلمات الشرعية فهي بمعنى لا تبدل، فما تكلم الله عز وجل به فهو كلامه أبداً، ولا يمكن أن يبطله تكذيب أحد، أو ترك أحد له، بل كلام الله هو صفته عز وجل، فلا يمكن أن يبدل الكلام الذي هو عنده. والله عز وجل إذا بدل آية مكان آية أو نسخها فلا يعني ذلك أن الآية الأولى التي تكلم الله عز وجل بها ليست من كلامه، ولكنها كانت من كلامه لتشريع معين في وقت معين. ومن ذلك الآيات التي يتعبد الناس بتلاوتها بعد نسخها، وحكمها قد نسخ؛ لأن هذا مما يفعله الله عز وجل. وقوله تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)) فهذا القرآن لا يمكن أن يبدله الكفار، ولا يمكن أن يحرف، بل لا بد أن يظل محفوظاً، أما الكتب السماوية السابقة فقد وقع فيها التبديل والتحريف. فالله تكلم في التوراة، وتكلم في الإنجيل سبحانه وتعالى، وكلامه لا يمكن أن يبدل، فيعلمه الناس إذا ظهر الحق، كنزول المسيح عليه الصلاة والسلام -مع أنه لا يلزم أن يعلم الناس الإنجيل- وظهور التوراة والإنجيل الحقيقين يوم القيامة، ولا يمكن أن يقع في القرآن الذي أوحاه للنبي صلى الله عليه وسلم كما وقع للكتب السماوية لأن الله يحبه. أما الكتب السماوية الأخرى فيمكن أن ينتشر عند الناس المحرف منها، وليس ذلك بتبديل لكلمات الله، بل هي باقية عنده سبحانه وتعالى، وهي من كلامه، ولكن ابتلاهم الله بإعراضهم عن الحق، بأن جعلهم يتمسكون بالمحرف المبدل، وهم معترفون بأنه قد وقع التبديل والتحريف في كتبهم، وكل من يتأمل هذه الكتب يجزم بوقوع التبديل والتحريف فيها.

لا ملجأ من الله إلا إليه

لا ملجأ من الله إلا إليه قوله تعالى: ((وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا))، يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله أصل ملتحد مكان الالتحاد، ومنه اللحد في القبر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] أي: يميلون عن الحق، وقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]. فمعنى اللحد والإلحاد الميل عن الحق، والملحد المائل عن دين الحق، وهنا الملتحد مكان الالتحاد، والمراد به هنا: المكان الذي يميل فيه، فلا ينجيه ذلك مما يريد الله أن يفعله به. فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحداً، أي مكاناً يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه. وهذا المعنى جاء مبيناً في مواضع أخر، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:21 - 23]، إلا هنا استثناء منقطع، أي: لا يكون إلا بلاغاً من الله ورسالاته يجيرني من عذاب الله. وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]. وكونه ليس له ملتحد، أي: مكان يلجأ إليه، تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة كالمناص والمحيص والملجأ والموئل والمفر والوزر، كقوله تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3]، وكقوله: {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء:121]، وكقوله: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36]، وكقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47]، وقال تعالى: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]، وقال: {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:10 - 11]. وكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد، وهو انتفاء مكان يلجئون إليه ويعتصمون به، وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان لا يجد من الله عز وجل ملجئاً إلا إليه، فَمَن دونه أولى بذلك، ولذلك لا يلتجأ إلا إلى الله، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أهل البيت، ولا إلى الأولياء. لا نلتجئ إلا إلى الله بطاعته سبحانه وتعالى، فكيف بمن يستغيث ويحتمي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يجد من الله عز وجل ملتحداً إلا بطاعته؟ فكيف يمكن لأحد أن يستغيث بغير الله أو يلجأ لغير الله؟!

فتية آمنوا بربهم [7]

فتية آمنوا بربهم [7] قص الله عز وجل على نبيه قصة أولئك الفتية الأفذاذ، الذين نبذوا ما عليه قومهم من كفر وجهل، وتوجهوا إلى خالقهم عز وجل، ودعوه وتضرعوا إليه، فأجابهم وسترهم وحفظهم جل في علاه وتقدست أسماؤه. وإن القلب ليقف معجباً بهؤلاء الفتية كيف تركوا ملاذ الحياة وأقبلوا على الله مع كونهم في مقتبل العمر، ولقد خلد الله ذكرهم في كتابه الكريم.

قصة أصحاب الكهف

قصة أصحاب الكهف قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:9 - 26]. قال ابن كثير رحمه الله في قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]: هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: ((أَمْ حَسِبْتَ)) يعني: يا محمد: {أنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا؛ فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، وقال العوفي عن ابن عباس: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم. وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم. {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]. جمهور المفسرين على أن معنى ذلك: أن شأنهم عجيب ولكن هناك ما هو أعجب، وهو ما جعله الله عز وجل من دلائل قدرته، ومن المعجزات التي آتاها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما علمه من العلم.

أقوال المفسرين في اسم الكهف

أقوال المفسرين في اسم الكهف يقول: أما الكهف فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو واد قريب من أيلة -وأيلة بيت المقدس- وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار الوادي، والرقيم اسم الوادي. وقال مجاهد: الرقيم كتاب بنيانهم، يعني: الكتاب الذي كتب على بنيانهم وجعلت فيه أسماؤهم وكتبت فيه قصتهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم. وقول مجاهد هذا أقرب إلى ظاهر اللغة؛ لأن الرقيم بمعنى المرقوم، مثل قتيل بمعنى مقتول، والرقم هو النقش أو الكتابة، كل ذلك يسمى رقماً، فهو الكتاب الذي كتبت فيه قصة هؤلاء وأسماؤهم، وجعلوه على باب كهفهم، والله أعلم. قال: وروى عبد الرزاق عن ابن عباس في (الرقيم) قال: كان يزعم كعب أنها القرية، وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: اسم ذلك الجبل بنجلوس. وعن شعيب الجبائي: أن اسم جبل الكهف بنجلوس، واسم الكهف حيزم، والكلب حمران. هذا يعطينا فكرة عما ينشغل به أهل الكتاب مما ينقل عنهم، ما اسم الكلب؟ ما لونه؟ ما اسم الكهف؟ ما اسم الوادي؟ والقرآن كما نعلم لم يذكر لنا شيئاً من ذلك؛ لأن المقصود العظة والعبرة، وهذا قد ذكرناه مرات في الفرق بين قصص القرآن وما يذكر الله عز وجل فيه، وبين قصص أهل الكتاب من الاهتمام بالأسماء وأسماء البلاد وألوان الحيوانات، وأنواع الأشجار لتكملة القصة في أذهان الناس؟ والاهتمام بهذه التفاصيل فقط؛ لأن الناس الذين يسمعونها يريدون أن يتسلوا بذكر هذه التفاصيل، وأما القرآن فلم يشغلنا بذلك، والله أعلى وأعلم. ولذا قال ابن عباس: كان يزعم كعب أنها القرية.

فرار الفتية بدينهم إلى ربهم

فرار الفتية بدينهم إلى ربهم قال: يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم؛ لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم، فلجئوا إلى غار في جبل؛ ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا، ((وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)) أي: قدر لنا من أمرنا هذا رشداً، أي: اجعل عاقبتنا رشداً، كما جاء في الحديث: (وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً)، وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة). وقوله: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11] أي: ألقينا عليهم نوماً حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة، ((ثم بعثناهم)) أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)) أي: المختلفين فيهم، ((أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)) قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية -وهذا أقرب- كقوله: سبق الجواد إذا استوى على الأمد. يعني: إذا وصل إلى الغاية، وذلك أن الذين اختلفوا فيهم اختلفوا كم لبثوا، وهو يدل على أنهم تناظروا فيهم بغير علم، وأن الأمر كان يجب تفويضه إلى الله سبحانه وتعالى حتى يبين الله عز وجل كم لبثوا في كهفهم بهذه الآيات من سورة الكهف: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].

الهجرة في سبيل الدين

الهجرة في سبيل الدين قال تعالى: ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ))، كونهم أووا يدل على أنهم هربوا بدينهم، وهاجروا في سبيل الله عز وجل، وتركوا وطنهم لله سبحانه وتعالى، وهذا أمر عظيم الأهمية في حياة المؤمن؛ إذ إن عليه أن يعبد الله سبحانه وتعالى في أي مكان من الأرض، فهذه وظيفته، فإن تيسر ذلك في وطنه الذي نشأ فيه، وهيأ الله عز وجل له من أسباب التمكين ما يعبد الله عز وجل في مكانه الذي نشأ فيه فبها ونعمت، وإلا فأرض الله واسعة، المهم تحقيق العبودية، وقد ضحى هؤلاء الفتية بوطنهم وأهليهم، وقراباتهم، ووضعهم الاجتماعي الذي كانوا فيه -كما عرف مما ذكره المفسرون- فقد كانوا من أبناء كبار القوم، أو كان منهم على الأقل من هو كذلك، والله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين بأن يقدموا حبه وطاعته عز وجل على كل شيء، كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فقضية العبودية هي أعظم قضية يجب أن يحافظ عليها المؤمن، وإذا عجز عن تحقيقها في أرض ما، ووجد سعة في الهجرة عنها، وجب عليه أن ينتقل من تلك الأرض إلى أرض الله الواسعة، والمؤمن عبد الله يعبد الله عز وجل في أي مكان من الأرض تيسرت فيه هذه العبادة. ولذا هاجر إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وهاجر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من أحب بلاد الله إلى الله وإليه عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وهي التي دعا الله أن يحببها إليهم كحب مكة أو أشد، وذلك لإقامة الدين، وهاجر موسى صلى الله عليه وسلم فراراً بدينه إلى مدين مدة من الزمن، مع أنه ولد بمصر ونشأ بها، وهاجر بعد ذلك مع بني إسرائيل بأمر الله سبحانه وتعالى ليقيم الجهاد، ولكن أبى عليه بنو إسرائيل، وهكذا الصحابة رضي الله عنهم، انتقلوا من أرض، هجرتهم من المدينة إلى مختلف الأمصار؛ ليجاهدوا في سبيل الله وليبلغوا دين الله. فالمقصود تحقيق العبودية على أي صورة، وعلى جميع أنواعها، فإيواء الفتية إلى الكهف؛ لأنهم عجزوا عن إقامة الدين في أرضهم، ومن عجز عن إقامة الدين في أرض ما وجب عليه أن يهاجر، وهذا الأمر أمر ثابت في كل زمان ومكان، طالما وجد العجز عن إقامة الدين وأمكن الهجرة فالهجرة لا تنقطع حتى يزول الكفر من الأرض، وذلك أن من ولد في أرض يظهر فيها الكفر والضلال والعصيان وقدر على الانتقال منها إلى أرض الإسلام التي يظهر فيها الحق، ويعبد فيها الرب سبحانه وتعالى، ففرض عليه ذلك.

فرار الفتية بدينهم طلبا للرحمة

فرار الفتية بدينهم طلباً للرحمة قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]. فالرحمة تطلب من الله عز وجل: ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)) فهذه الرحمة بأن يسترهم ويحفظهم وينصرهم على قومهم الذين أرادوهم بالسوء، وهم فروا بدينهم؛ ليثبتوا عليه، فهو أحب إليهم من كل شيء، ولن يحصلوا على ذلك إلا برحمة من الله خالق أفعال العباد، ومقلب قلوبهم سبحانه وتعالى، وكيف يثبت الإنسان على دينه والناس يطاردونه يريدونه أن يتنازل عن شيء منه أو عنه كله؟ لن يثبت إلا برحمة من الله، ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً))، والرحمة المطلوبة في هذا الموضع هي ستر الله عز وجل عليهم، لنجاتهم ممن يريد أن يفتنهم ويصرفهم منه. فالإنسان إذا ثبت على الدين فإنما هو بسبب رحمة الله له، فعليه أن يٍسأله المزيد من التوفيق والثبات، ((رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا))، وذلك أن الإنسان يمر بمواطن كثيرة تعتبر فرقاناً وفيصلاً في حياته، يتخذ فيها قرارات إما أن يسير يميناً وإما أن يسير شمالاً، إما أن يستجيب لداعي الغي الذي يطلب منه أن يبتعد عن طريق الالتزام، وإما أن يستجيب لداعي الرشاد؛ ليتخذ طريق الحق طريقاً وسبيلاً لا يسلك غيره، فهناك لحظات تاريخية في حياة الإنسان يتخذ فيها قراراً حاسماً، إما أن يظل سائراً في طريق الالتزام، وإما أن ينحرف عنه ويبتعد، لأن الناس يطاردونه ويريدونه أن يترك هذا الدين. هكذا كان هؤلاء الفتية، وفي يوم ما قرروا الانصراف من بلدهم والهجرة فراراً بدينهم ثباتاً عليه، وإيثاراً له، وإيثاراً لأمر الله سبحانه وتعالى، وهم في ذلك يريدون أن يرشدهم الله، وماذا سوف يصنعون بعد ذلك؟ وإلى أين يذهبون؟ لا يدرون، إنما يريدون الثبات على الدين؛ ولا يدرون كيف يكون عملهم بعد ذلك، كما خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى طريق لا يعرفها، وإلى غاية لا يدركها، إنما يريد الفرار بدينه من الملأ الذين ائتمروا به ليقتلوه، فدعا ربه سبحانه وتعالى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22]، ودعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين، فنجاه وهداه الله عز وجل سواء السبيل. قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، فكان من هداية الله لهم أن ضرب الله على آذانهم بحيث إنهم صاروا لا يسمعون، وهذا من الآيات البينة المعجزة، فإن الإنسان وهو نائم- كما أثبتت الدراسات الحديثة، وكما هو ظاهر ممن ينظر إلى النائم- حواسه كلها غير مدركة، إلا حاسة السمع فهي أعظمها إدراكاً، فلو أنك حاولت أن توقظ النائم بأنواع من الحركات، كالضوء الشديد وغير ذلك ما شعر بشيء من هذا، فبصره أغلقه أو لم يغلقه -لأن بعض النائمين يفتحون أعينهم أحياناً- يكون في أعمق فترات السبات والسكون، وكذا الشم والذوق، وأكثر حاسة يمكن أن تحرك الإنسان النائم هي الأذن التي يسمع بها؛ لذلك إذا ضرب على أذنه لا يمكن أن يستيقظ إلا أن يوقظه الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، أجملها هنا ثم بينها بعد ذلك بأنهم لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين. وقال: ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ))؛ لأن الموت أخو النوم، وهو آية من آيات الله على البعث، وهذه القصة مما ذكره الله عز وجل في أدلة الإيمان بالبعث، ذلك أنهم ناموا نوماً مثل الموت، وبقيت الأبدان محفوظة بلا غذاء، ولكن يمكن أن يعرف ذلك في الواقع المشهود، فهناك كائنات تستكين وتنام نوماً طويلاً تستهلك فيه أقل جزء من الطاقة، ثم تستيقظ بعد شهور، فقدر الله لهؤلاء بقدرته العظيمة سبحانه وتعالى أن يظلوا في نومهم أحياء نائمين، ((ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا))؛ ليدلنا على قدرته على البعث والنشور، وكذلك ليعلم العباد ((أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا))، ليعلموا أنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، ولذا وجب عليهم أن يفوضوا الأمر إلى الله، ويردوا العلم إليه سبحانه وتعالى.

قصة هروب الفتية من قومهم إلى الكهف

قصة هروب الفتية من قومهم إلى الكهف قال الله عز وجل: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. قال ابن كثير رحمه الله: ذكر الله تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً، أما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً. وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة، يعني: الحلق -القرط أو القرط هما الحلقتان اللتان في الأذنين- فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم، أي: اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أن لا إله إلا هو. ((وزدناهم هدى)) استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كـ البخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص، ولهذا قال: ((وَزِدْنَاهُمْ هُدًى))، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. ثم قال: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له: دقيانوس، وكان يأمر الناس بعبادة الأصنام والطواغيت؛ ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه. فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم، ويتبرز عنهم -يخرج إلى البراز وهي الأرض الواسعة ناحية- ناحية، فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم، وجاء الآخر وجاء الآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان. كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقولون: الجنسية علة الضم، -يعني: كونهم من جنس واحد هو الذي أوجب أن يكونوا مضمومون لبعضهم- والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفاً منهم، لا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم! إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء، فليظهر كل واحد منكم بأمره، فقال آخر: أما أنا رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما، وقال الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك، وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة فصاروا يداً واحدة، وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه. فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه، فسألهم عن أمرهم وما هم عليه، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله: ((وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا))، ولن لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبداً؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: ((لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)) أي باطلاً وكذباً وبهتاناً. ((هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)) أي: هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً، ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))، يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك. ويقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، اختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: ((وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)) أي: وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم، ((فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)) أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، ((وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ)) الذي أنتم فيه: ((مِرفَقًا)) أي: أمراً ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف، فأووا إليه، وتطلبهم الملك، فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمَّى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه، مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!) وقد قال تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. فقصة هذا الغار -يعني: غار ثور- أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف، وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم، ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم، فأمر الملك بردم بابه عليهم؛ ليهلكوا مكانهم، ففعلوا ذلك، وفي هذا نظر، والله أعلم، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشياً، كما قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17]، فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين، أي: يتقلص الفيء والظل يمنة، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: (تزاور) أي: تميل، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها لارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، ولهذا قال: ((وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ)) أي: تدخل إلى غارهم من شمال بابه، وهو من ناحية المشرق، فدل على صحة ما قلناه، وهذا بين لمن تأمله، وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب. وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية المشرق لما دخل إليه شيء عند الغروب، ولو كان من ناحية القبلة، لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب، ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً، ولو كان من جهة المغرب، لما دخلته وقت الطلوع بل بعد الزوال، ولم تزل فيه إلى الغروب، فتعين ما ذكرناه، ولله الحمد.

كرامات أصحاب الكهف

كرامات أصحاب الكهف قوله سبحانه وتعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] يدل على لطف الله سبحانه وتعالى بهم وهم نائمون، حيث قدر لهم من الأسباب ما يحفظهم، ويبعد الطلب عنهم حال خروج الناس في آثارهم، وقد أكرمهم الله تعالى في نومهم كما أكرمهم في استيقاظهم بتوفيقهم إلى توحيده عز وجل، وترك عبادة من دونه. وهذه القصة تدل على إثبات كرامات الأولياء في أنواع القدرة والتأثير، هذه المدة الطويلة، خلال هذه المدة. ومعنى الكرامة: ما يكرم الله به عبده المؤمن المتبع لشرعه سبحانه وتعالى، من أنواع خوارق العادات أو من غيرها، ولا يلزم أن يكون الإكرام بخوارق العادة، ولكن هذا هو الاصطلاح، بل إن أعظم كرامة للعبد هي أن يوفقه الله لطاعته، وأن يلهمه رشده، وأن يكشف له عن سبيل الحق فيلتزمه، وإن لم يقع له شيء من خوارق العادات، والله سبحانه وتعالى قد يجمع لعبده المؤمن بين أنواع الكرامات المختلفة ومن أنواع العلو والقدرة، وأعظم ذلك أن تكون له قوة على طاعة الله عز وجل، وهو معنى الحديث: (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) فالله عز وجل يعطيه قوة يصرف بها جميع حوارحه في مرضاته سبحانه وتعالى. قال ابن كثير: قال عز وجل: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18] أي: أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر، لئلا يدنو منهم أحد، ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم، لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة رحمة لهؤلاء الفتية المؤمنين، وإنجاء لهم من القوم الظالمين الكافرين، وحكمة بالغة ودليل للناس على البعث والنشور، وإثبات قدرة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى بعد موتهم يوم القيامة، وكذلك ليثبت للناس سبحانه وتعالى ويبين لهم مآل المتقين وحفظه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين من حيث شعروا ومن حيث لم يشعروا. لقد حفظهم الله عز وجل بإلقاء المهابة عليهم حتى لو اطلع المطلع -والمخاطب هنا كل مكلف- لولى منهم فراراً، ولملئ منها رعباً، ويمكن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود كل من خوطب بذلك، والله أعلى وأعلم. وذلك حفظاً من الله عز وجل لهم حتى لا يدخل عليهم أحد، ولا يصيبهم شيء من الكائنات الأخرى بسوء؛ لأنها تنظر إلى منظر مرعب مخيف فتنصرف، وبعد انقضاء المدة بعثهم الله عز وجل.

بعث الله لأصحاب الكهف وأحداث ذلك

بعث الله لأصحاب الكهف وأحداث ذلك قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19]. قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم -وكذلك كما أرقدناهم والكاف هنا للتشبيه- لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) [الكهف:19] يعني: ربما كان جزء يوم، وأقصى ما يمكن أن يكون يوماً كاملاً، فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم، إذ ذاك -يعني: في هذا الوقت- وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها، وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها، والألف واللام للعهد: ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً، كقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره. وقيل أزكى: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان كثيراً أو قليلاً. وقوله: ((وَلْيَتَلَطَّفْ)) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه، ((وَلا يُشْعِرَنَّ)) أي: ولا يعلمن بكم أحداً: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أي: إن علموا بمكانكم، ((يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال تعالى عنهم: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)). قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ))، يقول تعالى: أي أطلعنا عليهم الناس، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]، ذكر غير واحد من السلف: أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك] {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]؛ لأن الضمير هنا على هذا التفسير ((لِيَعْلَمُوا)) أي: ليعلم الذين عثروا عليهم أن وعد الله بالقيامة حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن بعث الأجساد حق، ((وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)). قال: وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة لشراء شيء لهم ليأكلوه، تنكر وخرج يمشي في غير جادة الطريق -التي هي وسطه أو الطريق الكبير- حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها ولا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ثم يقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي، فأراد أن يأخذ طعاماً ثم يخرج مسرعاً، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل -رأى النفقة- أنكرها، وأنكر ضربها- الأختام التي عليها والصك- فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز، وممن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس، وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها- حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدم معكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك، واعتنقهم وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عز وجل، والله أعلم. قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة - وهو أحد قادة المسلمين الذين كانوا يغزون الروم، فمروا بكهف في بلاد الروم- فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة، رواه ابن جرير. والله أعلم كم مضى عليها حتى بليت، وماذا شأنها الآن؟ وقوله: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)) أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) وهذا يؤكد أنهم اطلعوا عليهم جميعاً؛ لأن الله قال: ((أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ))، فيدل أنهم عثروا عليهم جميعاً وليس على واحد منهم فقط، فالقول بأنهم رأوا الأول وسمعوا بالبقية فيه نظر، إذ إن الآية تفيد أنهم دخلوا الكهف ووجدوهم. يقول: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان: ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)) أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف -يعني: اطلاعهم على أصحاب الكهف- حجة لهم وعليهم أي: حجة للمثبتين للبعث وحجة على المنكرين. ((فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ)) أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم، وهذا يدل على أنهم ماتوا آنذاك. ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا))، حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم والثاني: أهل الشرك منهم، والله أعلم. والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، فالذين غلبوا على أمرهم لم يصفهم الله بصفة العلم، وإنما بصفة الغلبة. قال: ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، يحذر ما فعلوا. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها، والرقعة مثل الأوراق عندنا لكنها من جلد أو نحو ذلك فيها ملاحم وقعت في بني إسرائيل، فأمر عمر بثلاثة عشر قبراً -فيما ذكر- أن تحفر، وأن يدفن الجسد الذي وجدوه على حاله كيوم مات في واحد منها، وتغلق جميعاً، حتى لا يدري الناس في أي المقابر دفن، ووجدوا مكتوباً عنده أنه النبي دانيال، فالله عز وجل أعلى وأعلم، فإن مثل هذا الخبر متلقى من أهل الكتاب، ولم يرد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر اسم ذلك النبي، وإنما قد يكون من أنبياء الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أوليائه، وظنه بعضهم على غير ما هو عليه، فالله عز وجل أعلى وأعلم إلا أنه يبدو أنه رجل صالح؛ لأنه لم يتغير بدنه، وهذا من كرامات الأنبياء والشهداء فقط، والمقصود أنه أُخفي قبره.

عدة أصحاب الكهف

عدة أصحاب الكهف قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]: يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال: فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: قولاً بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب، فإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: ((وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))، فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وقفنا. وقوله: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) أي: من الناس. قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، هكذا روى ابن جرير عن عطاء الخرساني عنه عن ابن عباس، أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول: عدتهم سبعة، وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) قال: أنا من القليل: كانوا سبعة. فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه. وهو استدلال دقيق من كتاب الله عز وجل، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أبطل قولين وسكت عن الثالث، فأرشد إلى القول الراجح، وأرشد إلى ثمرة الخلاف وما ينبغي في مثل هذا الموقف. وكما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن القرآن أشار في بعض آياته العظيمة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف فالذي ينبغي في مسائل الخلاف. استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الباطل منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا))، وهذا دليل على النهي عن استفتاء الجاهل، وأنه لا يجوز أن يُستفتى الجاهل، وهذا إجماع من أهل العلم أنه لا يجوز لأحد من المستفتين أن يستفتي من يعلم جهله أو بدعته أو فسقه. قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فرتب الذنوب مبتدأ بتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، أي: أن الذنب الذي فيه اعتداء على حقوق المخلوقين أشد وأبعد عن المغفرة، حتى يسامح ذلك المخلوق، ثم ذكر الشرك، ثم ذكر أن يقولوا على الله ما لا يعلمون. وعموماً فإن الجدال والمراء لا ينبغي أن يكون إلا بالتي هي أحسن، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وذلك لإظهار الحق وإبطال الباطل، وعدم الدخول في تفاصيل لا فائدة منها، ولا ثمرة من ورائها. وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً)، فهو حديث حسن أو صحيح، فهو لمن علم أن مراءه لا يفيد، وأن جداله وصل إلى طريق مسدود، وأن البحث عن الحق قد انتهى بسبب الخصومة، وأصبح الناس إنما يتعصبون لأقوالهم، فعند ذلك يترك المراء ولو كان محقاً. وأما إذا كان الطرف الآخر والمناظر أو الباحث يبحث عن الحق ويتحرى الصواب، فينبغي أن يستمر معه في المراء، وليكن بالطريقة السهلة البينة الواضحة الهينة.

أدب الاستثناء في الإيمان

أدب الاستثناء في الإيمان قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24]. يقول ابن كثير رحمه الله: هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب، فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله عز وجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية: تسعين امرأة، وفي رواية: مائة امرأة)]، وهذا هو الأرجح؛ لأن مفهوم العدد إذا خالفه منطوق فالمنطوق مقدم، فالأكثر يشمل الأقل، وربما قال: سبعين، ثم عزم على التسعين، ثم عزم على مائة. قال: (تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له -وفي رواية: قال له الملك-: قل: إن شاء الله فلم يقل، فطاف بهن، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان- وضعت جنيناً مشوهاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته، وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)، وهذا يدلنا على أهمية الاستثناء وأن يقول الإنسان: إن شاء الله، سواء أقسم أو أخبر أنه سوف يفعل، ولماذا لم يقل: سليمان عليه السلام إن شاء الله؟ اجتهد فأخطأ أو نسي صلى الله عليه وسلم، اجتهد لأن هذه نية طاعة، فلا يلزم أن تقيد بالمشيئة، وليس كذلك، بل ينبغي أن تقيد بالمشيئة، أو أن الملك قال له ذلك، فانشغل بما كان عزم عليه من الهمة العالية ابتغاء ولود المجاهدين في سبيل الله، وحباً للجهاد في سبيل الله، فنسي أن يقول: إن شاء الله، وقدر الله عز وجل عليه ألا تلد منهن امرأة واحدة، وذلك لأنه لم يقل: إن شاء الله تعليماً للأمة في زمنه وبعد زمنه، وفيه فائدة رد الأمور إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذا الحديث أحسن ما يفسر به قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34]، فالجسد الذي ألقي على كرسيه هو ذاك شق الغلام الذي وضعته إحدى نسائه ولم تضع غيره، فكان في ذلك فتنة وامتحاناً له؛ ليعلم من أين أتي؟ حيث نسي أن يقول: إن شاء الله، أو انشغل عن ذلك أو نحوه والله أعلى وأعلم. ((ثُمَّ أَنَابَ)) أي: رجع إلى الله سبحانه وتعالى، وصار بعد ذلك، يستثني ولا يترك ذلك، والله أعلى وأعلم. قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)) قيل: معناه: إذا نسيت الاستثناء فاستثنى عند ذكرك له يعني: إذا لم تقل: إن شاء الله نسياناً، ثم تذكرت بعد ذلك فإنه يصح أن تقولها، قاله أبو العالية والحسن البصري، وعن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف، قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: واذكر ربك إذا نسيت، في ذلك. قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد فقال: حدثني به ليث بن أبي سليم -وهو ضعيف-، ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. ومعنى قول ابن عباس: أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله، وذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك؛ ليكون آتياً بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث، قاله ابن جرير رحمه الله، ونص على ذلك. لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين، ومسقطاً للكفارة، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم. لأن قول ابن عباس رضي الله عنه: له أن يستثني في حلفه ولو بعد سنة إن كان يقصد به أنه يسقط عنه الكفارة، لما كان هناك أصلاً معنى للحنث في اليمين، ولما جازت الكفارة، لأن كل إنسان أراد أن يتخلص من إثم حلفه سيقول في أي وقت: إن شاء الله. ثم إن التقييد بسنة لا يقصده ابن عباس، وإنما يقصد التكثير؛ لأنه يؤدي إلى إلغاء كفارة اليمين أصلاً، وإلى أن يصبح كل يمين قابلاً للإلغاء بأن يستثني إذا تبين له أنه يريد أن يخالفه، مع أنه يكون حلف يميناً ناجزاً ملزماً له. لكن الذي يحمل عليه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه مسألة الأدب دون مسألة حل الكفارة، فعند الجمهور أنه لا يأثم الإنسان إذا حلف ليفعلن كذا، ولكن يرون أن ذلك خلاف الأدب، والله أعلى وأعلم. ويرون أن ذلك خلافاً للمستحب ويقولون: النهي للتنزيه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقسم على أشياء وأقسم أصحابه رضي الله عنهم على أشياء لن يفعلوها ولم يستثنوا، فلم ينههم عن ذلك نهياً جازماً أو نهي تحريم، فتبين بذلك أن هذا الإقرار أو أن هذا الفعل منه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا النهي للتنبيه فيما فعل أو فيما ترك. ولذلك نقول: إن قوله: إن شاء الله ولو بعد سنة، إنما هو لتحصيل الفضيلة، أما إذا حلف ولم يستثن استثناء متصلاً مباشرة بيمينه، كأن قطعه بنفس أو عطاس أو نحو ذلك لم يضره ذلك، واشترط بعض العلماء أن يكون الاستثناء متصلاً باليمين مباشرة، وإذا لم يفعل لم يصح له الاستثناء. فإذا استثنى مباشرة بعد اليمين كان استثناءاً صحيحاً، وإذا لم يستثن مباشرة بعد اليمين وفصله فاصل عرفي لم يصح الاستثناء، وهذا الفاصل العرفي لا يدخل فيه انقطاع النفس، أو أراد أن يأخذ نفساً أو أنه مثلاً عطس أو انشغل بأمر أدى إلى ألا يستثني مباشرة. وبعض العلماء يشترط أن يكون هناك نية الاستثناء منذ أول الكلام، والذي يظهر أنه لا يلزم ذلك، بل ربما تحدث له نية الاستثناء أثناء القسم أو في آخره، وطالما اتصل به أجزأ، وأجمعوا على أنه إذا قال: إن شاء الله في قسمه، ليس عليه حنث إذا خالف ما حلف عليه، ولم يكن عليه كفارة؛ لأنه قال: إن شاء الله. إذاً: خلاصة الاستثناء أنه في مسألة الإثم والأدب وتحصيل السنة، الأصل الإثم، وإحسان الأدب وتحصيل السنة أن يقول: إن شاء الله، ولو في أي وقت يتذكره، ولكن اليمين ينعقد إذا لم يستثن متصلاً بيمينه إلا الفاصل اليسير عرفاً كنفس أو نحو ذلك. قال: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24] أي: إذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك وقيل في تفسيره غير ذلك، والله أعلم.

مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم

مدة لبث أصحاب الكهف في كهفهم قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:25 - 26]. يقول: هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة، تزيد تسع سنين بالهلالية، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاثمائة: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا)) وهذا من المعجزات الظاهرة للقرآن في أدق أنواع الحسابات والمشاهدات، وهذا أمر محسوس مشهود، أي: التفاوت بين السنة الشمسية والسنة القمرية؛ لأن السنة أمر حسي. وأنواع الأزمنة منها ما هو أمر عرفي، ومنها ما هو حسي، نقول مثلاً: اليوم أمر حسي؛ لأنه مرتبط بالشمس شروقاً وغروباً، فالشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق مرة ثانية، فهذا اليوم والليلة مرتبط بغروب الشمس وشروقها. وأما الساعات والثواني والدقائق فهي أمر عرفي، فالناس تعارفوا أن يقسموا اليوم إلى أربع وعشرين ساعة، لكن هل تحدث علامة مميزة كل ساعة في الكون؟ هل يحصل مثلاً للشمس ساعة أنها تعطي إشارة؟ لا، إذاً هذا أمر اصطلح عليه الناس. وكذلك الأسبوع أمر عرفي؛ لأنه ليس أمراً حسياً، فلا يحصل في الأسبوع شيء أما الشهر فهو أمر حسي؛ لأن القمر يدور دورته كل شهر، والسنة أيضاً أمر حسي؛ لأن فيها تغير الفصول، فالشتاء يأتي كل سنة مرة، وهذا أمر ملحوظ محسوس، فكل من الشتاء والربيع والصيف والخريف يأتي، فهذا أمر محسوس. إذاً: يوجد أمران في الحقيقة حسيان، السنة التي هي اثنا عشر شهراً قمرياً، والسنة الشمسية التي هي الفصول الأربعة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعين خريفاً). فالحسابات الفلكية الدقيقة على أحدث المستويات العلمية، أثبتت أن كل ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية. ولذلك قال سبحانه وتعالى في هذه الآية: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، ولم يقل: ثلاثمائة وتسع سنين كالمعتاد، لماذا قال: ((وَازْدَادُوا تِسْعًا))، هو في الحقيقة ثلاثمائة سنة، ولو حسبتها بطريقة أخرى يزدادون تسعاً، فهناك إشارة إلى الفرق بين السنة الشمسية وبين القمرية، والله أعلى وأعلم. وقوله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] أي: إذا سئلت عن مكثهم وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى، فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: ((اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))، وكذلك إذا سئل الإنسان عن شيء علمه متعلق بالوحي، وجادله غيره، فقل: أنت أعلم أم الله، فالله سبحانه وتعالى أعلم بما لبثوا، فلو جادلك أحد فيكفيك هذا الخبر من الله عز وجل، وهو الأعلم بما لبثوا سبحانه وتعالى. وهذه السورة متضمنة لمعجزات ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، منها: ذلك الخبر التفصيلي البين الذي يتضمن أنواع الفوائد عن قصة أصحاب الكهف، مع أنه لم يكن عند العرب منه شيء قط، وكان اليهود أهم ما يهتمون به الأسماء كاسم الكلب، والملك الذي كان في زمنهم، وأين كان الكهف، ولم يهتموا بالفوائد العظيمة الإيمانية والعبادية والتهذيبية والدعوية، وسائر أنواع الفوائد التي تضمنتها هذه القصة العظيمة. بهذا السياق العربي الواضح البين الذي لا اعوجاج فيه، فلو كانت هذه القصة مترجمة؛ لظهرت فيها آثار الترجمة كما يظهر في أي كتاب مترجم من الركاكة ونحو ذلك: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، {قَيِّمًا} [الكهف:2] مستقيماً، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2]. فهذه آيات تلو آيات للرسول صلى الله عليه وسلم صالحة في كل زمن من الأزمنة لتذكير الخلق بالله سبحانه وتعالى وبمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إثبات صفة العلم لله سبحانه

إثبات صفة العلم لله سبحانه قال: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) أي: لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كـ مجاهد وغير واحد من السلف والخلف. وقال قتادة في قوله: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]. هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)). قال تعالى: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) أي: إنه لبصير بهم، سميع لهم، ما أسمعه وما أبصره عز وجل، أبصر به، يعني: ما أبصره، أسمع به، يعني: ما أسمعه، ما أعظم سماع الرب سبحانه وتعالى، وما أعظم بصر الرب. قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه، تأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. كأن تقول: ما أعظم هذا، يعني: هذا شيء عظيم جداً، وممكن تقول: أعظم به وأكرم، يعني هذا أكرم الأشياء. قال: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ)) قال قتادة: لا أحد أبصر من الله، ولا أسمع، وقال ابن زيد: ((أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ))، يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم. وقوله: ((مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر، الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس.

فتية آمنوا بربهم [8]

فتية آمنوا بربهم [8] لا يخفى على كل مسلم ما للرفقة الصالحة من أثر كبير في حياة المسلم، فهي التي تعينه بعد الله سبحانه وتعالى على طاعة الله، والتقرب إليه، والإكثار من ذكره، وهذه الرفقة يجب أن تكون منتقاة ومختارة وفق الأسس والأوصاف التي وضعها ورضيها رب العالمين، من الطاعة له والإخلاص وعمل الصالحات، وأن لا تكون وفق ميزان المال والجاه والسلطان.

أهمية الرفقة الصالحة وفضلها

أهمية الرفقة الصالحة وفضلها قال الله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:27 - 31]. أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يتلو كتابه سبحانه وتعالى، وأن يصبر نفسه مع عباد الله المؤمنين؛ وذلك لأهمية الرفقة الصالحة، فهي من أهم الأمور في الدعوة إلى الله عز وجل. إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لابد فيها من رفقة؛ حتى ولو كانوا أقل حالاً ومنزلة وعلماً من الذي أُمر أن يكون معهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى الخلق منزلة، وهو أقربهم إلى الله عز وجل، وأشدهم علماً بالله سبحانه وتعالى، وأشدهم له خشية؛ ومع ذلك أُمر بأن يصبر نفسه معهم؛ وذلك لأنهم يخلصون نيتهم لله عز وجل، والقرب من المخلصين من دقائق نعيم أهل الجنة؛ ولذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه وهو في النزع الأخير الرفيق الأعلى، فقال: (بل الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى!) وهذا يدلنا على أهمية الرفقة الصالحة. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من الأنبياء الذين سبقوه جميعاً، وهو سيد الناس يوم القيامة، وهو سيد ولد آدم ولا فخر، يطلب الرفيق الأعلى، ويطلب مرافقة الأنبياء الذين سبقوه، ومنهم إبراهيم عليه السلام وهو الذي بعده في المنزلة بين الخلق جميعاً، فإنهما أفضل من الملائكة، وأفضل من كل البرية، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لمن قال له: يا خير البرية! فقال: ذاك إبراهيم عليه السلام)، قال إبراهيم: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].

تقويم الناس في ميزان الشرع وميزان الجاهلية

تقويم الناس في ميزان الشرع وميزان الجاهلية قد يكون من أمرت بمجالستهم فقراء؛ فتطمع النفس إلى مصاحبة من هو من أهل المال والسلطان، والنفس تتشوق إلى ذلك وتتطلع إليه، وتفتخر به، تقول: إن فلاناً الكبير هو من أصحابي، أو من زواري، أو ممن أزورهم وممن أدخل عليهم، النفس تتطلع إلى ذلك؛ حتى إن كثيراً من الناس يزن الأمور بموازين الدنيا، من السلطان والمال والجاه والسمعة بين الخلق؛ ولهذا اقترن الأمر بصبر النفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، بعدم النظر إلى من هو أعلى منك مالاً وجاهاً وسلطاناً، اقترن ذلك بالنهي عن أن تتطلع العينان إلى من أعطي زينة الحياة الدنيا، والنهي عن أن تتعداهم، قال عز وجل: ((وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)). قوله: ((وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ)) المقصود أن تتطلع النفس إلى غيرهم، وهو أن ينظر نظر المعجب إلى غيرهم من أهل الدنيا، وهذا هو الذي نهي عنه، وليس مجرد التطلع أو النظر، إنما المقصود منه ما يتبع ذلك النظر من تطلع النفس إلى زخرف الحياة الدنيا الذي أُعطيه المترفون. وسنة الله سبحانه وتعالى أن يكون الأغلب من المترَفين من الكافرين، أو من الفاسقين والظالمين، قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116]. فالملأ دائماً ليسوا أتباعاً للدعوة في أول نشأتها، وفي فترات ضعفها؛ ولذلك يظل الدعاة إلى الله يتطلعون إلى من يقوي دعوتهم، ولا شك أن المال والسلطان والجاه والمنزلة من أعظم ما تتقوى به الدعوة، ونفوس الدعاة متتطلعة إلى التمكين للدعوة إلى الله عز وجل، فلربما من أجل ما يرون من المصلحة، وما يريدون دفعه من المفسدة تتطلع النفوس إلى بعض الطاعة، وبعض المتابعة لهؤلاء المترفين، وهذا من أعظم الخطر، ومن مزالق الأقدام، إنما هي مصالح وهمية، وتحدث مفاسد عظيمة جرّاء متابعة أهل الباطل وأهل الترف وأهل الدنيا وأهل الغفلة عن ذكر الله عز وجل، هم يريدون نشأة المجتمع أو استمراره على موازين الجهل والظلم التي هم عليها؛ ولذلك يقررون مبادئ وقواعد توزن بها أعمال الناس تخالف شرع الله عز وجل، ويعظمون ما حقره الله، ويحقرون ما عظمه الله، فهم لا يلتفتون مثلاً إلى العلم والإيمان، وإنما يلتفتون إلى السلطان والمال كما ذكرنا، يلتفتون إلى نوع الملبس والمركب والمطعم، فيكون ذلك عندهم عظيماً، فمن كان عنده من ذلك الشيء الكثير كان عندهم مقدماً محترماً، حتى ولو كان من أفسق الفاسقين. وأنت ترى هذه الموازين في مجتمعات الشرق والغرب موازين مقدسة عندهم لا تُمَس، وهي مدنسة في الحقيقة؛ لأنهم يرون أهل الفجور والفسق من أهل الفن والغناء واللهو واللعب هم المشاهير والعظماء؛ الذين تفتح لهم الأبواب، وهم الذين يقدمون في المجالس ويستشارون في الأمور، ويقدمون على غيرهم في مهمات المجتمع، وهذا دليل على غفلة القلوب عن ذكر الله، وهم لا يعتبرون الإنسان الذي عنده من الإيمان والدين والعلم ما عنده؛ لأنه ليس له وضع في دنياهم كما يقولون ويزعمون. هذه موازين الجاهلية، بل عامة مجتمعات الأرض مبنية على هذه الموازين، ولذلك فقبول هذه الأفكار بزعم المصلحة، والرغبة في التمكين للدين؛ من أعظم ما يؤدي إلى تمييع القضية وإلى تشويه الدين وانحراف الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.

سبب انزلاق وانحراف بعض الدعاة إلى الله

سبب انزلاق وانحراف بعض الدعاة إلى الله كم رأينا وسمعنا من ينتسب إلى الدين وهو يقرر عقائد الضلال، بل وأحياناً الكفر والعياذ بالله؛ لأنه أطاع من أغفل الله قلبه عن ذكره من أهل الفساد، ونحن نعلم أن انزلاق قدمه إلى هذه الهاوية، ما كان إلا ببعده عن عباد الله الصالحين، مع أنه ربما كان في وقت من الأوقات أفضل من كثير من هؤلاء الصالحين الذين يريدون وجه الله عز وجل، وربما كان أعلم منهم وأعلى قدراً، لكنه اتبع هواه، لكنه عدت عيناه عن هؤلاء الصالحين، وصار يريد زينة الحياة الدنيا، وكان بداية انحرافه دعوى المصلحة. ولذا وجدنا هذا العتاب الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم بالقطع واليقين ما كان يريد من تطلعه إلا إيمان من يؤمن من علية القوم، ما كان يريد إلا مصلحة الدين والتمكين للإسلام، فأنزل الله عز وجل عليه هذه الآيات، وكذا قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:1 - 12]. هذه هي الموازين الإيمانية التي لابد أن نزن بها الأمور، فكما ذكرنا يبدأ الشيطان في تسويل الأمر لكثير من الناس، ممن ينتسب إلى العلم والدين؛ بأن ذلك مصلحة، وأن ذلك دفع مفسدة، فتنقلب الموازين بعد حين، تجدونه والعياذ بالله يقرَّب كل ما يريده أعداء الله، ولربما فطن المشركون والمنافقون واليهود والنصارى وأعداء الإسلام إلى هذه المفاتيح في شخصيته، فيعطونه ما يريد من الوجاهة والمنزلة ومن زخرف الدنيا؛ فإذا به يصير لسان حالهم، وربما صوَّب كفرهم والعياذ بالله، فخرج عن الإسلام بتصويب هذا الكفر، فنعوذ بالله من ذلك. وتجدون ما هو أدنى من ذلك تصريحاً؛ فإنك تجد من يقبل أنواع الضلال كلها كما ذكرنا، ويحاول أن ينسبها إلى الإسلام، ويأتي مما يعلم من الدين بما يلبس به على الناس، فتجده مثلاً يخلط على عوام الناس بين السماحة والعدل والقسط الذي أمر الله عز وجل به مع الكفار وبين الموالاة والمحبة والمودة، فتجده يصرح بالمودة والموالاة للكفار، ويقول: هذا مما أمُرنا به، وهذا مما لم ينهنا عنه الشرع، ويأتي بالأدلة الدالة على العدل والقسط والبر والإحسان لمن لم يسئ إلينا ولم يحاربنا في الدين. نقول: البر والإحسان أمر، والموالاة والمحبة والمودة أمر آخر، وتجد العجب العجاب ممن يخلط بين الأمور، تجده مثلاً إذا أراد الناس تحكيم غير شرع الله سبحانه وتعالى، فإذا به ينادي مثلاً بالشورى ويزعم أنها هي الديمقراطية الحديثة، ونحن نعلم الفرق الهائل بين الأمرين، فهذه بعض الأمثلة مما نسمعه في واقعنا، وتلك هي النتيجة الخطيرة لمن اتبع وأطاع من أغفل الله قلبه عن ذكره سبحانه وتعالى، فيلبس الأمور على الناس، وربما استحل المحرمات، فيسمي الربا بغير اسمه؛ تلبيساً على الناس، فيقول لهم: هذه الفوائد أحل من المضاربة التي شرعها الله عز وجل، والمشاركة التي بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعيتها ونحو ذلك، مع أنه يخالف إجماع أهل العلم على ذلك. ويسمي المعازف المحرمة والفسق والفجور والمحرمات باللهو المباح البريء، ويدعي أن ذلك مما أباحه الله سبحانه وتعالى، ويحتج عليه بغناء جاريتين غنتا عند النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، بعيداً تماماً عن كل هذا الذي نسمعه، وبالقطع واليقين لا يشك عالم في تحريم ما يذكر للناس من الغناء، وما يعرض عليهم ليل نهار. وليس هذا في أناس بأعيانهم دون غيرهم؛ ولكن هناك طوائف كثيرة حتى من المنتسبين إلى الدعوة إلى الله، وإن لم يكونوا أتباعاً ولا أذناباً للظالمين والمنافقين؛ بل بداية أمرهم أنهم ابتعدوا عن الصالحين، وفي نفس الوقت اتبعوا وأطاعوا من أغفل الله قلبه عن ذكره, ولهذا نجد مزيداً من الانحراف جيلاً بعد جيل وسنة بعد سنة، وربما يوماً بعد يوم، وتجد المبادئ الجاهلية هي التي سيطرت على عقول الكثيرين كما ذكرنا، لهذا كان هذا التوكيد الشديد البين العتاب الواضح للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن قبول أدنى مبدأ وأدنى أمر -ولو لمصلحة ولو للتمكين للدين- من مبادئ الجاهلية، ومن باب الظلم والطغيان والعدوان. لذلك نقول: هذا الأمر من أعظم الأمور أهمية في منهج الدعاة إلى الله، وهو حاجتك أيها الملتزم إلى صحبة الصالحين، كان الأنبياء يحتاجون إلى صحبة الصالحين، وكان الأتقياء العلماء الدعاة يحتاجون إلى صحبة تلامذتهم وأتباعهم، وهم لم يحتاجوا إلى ذلك من أجل أن يظهر علمهم بذلك، أو يظهر فضلهم عليهم، لا، هذا أمر خطير، إنهم لا يصحبونهم لكي يعظمونهم، بل هذا في فترة الاستضعاف التي تكون فيها الصحبة تهمة لهؤلاء؛ إنما يحتاجون إليهم للثبات على الدين، ولكي تظل إرادة وجه الله عز وجل هي المحرك الحقيقي للدعاة إلى الله، وللعاملين في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكي لا تدخل موازين الباطل والجاهلية إلينا من حيث لا نشعر. لذا قال عز وجل: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28]. إذاً: نهى الله عن طاعة الغافلين عن ذكر الله، ونهى عن طاعة من لا يذكرون الله إلا قليلاً، أو من لا يذكرونه بالمرة، وكون فلان يذكر الله أو لا يذكره لا نلحظه بمجرد إمساكه لمسبحة مثلاً، ولكن نلحظه في شئون حياته، فى كلامه كم فيه من ذكر الله، وكم فيه من البعد عن ذكر الله، نلحظه في كتابته، في أعماله وأحواله، في يومه وليلته ماذا يصنع وماذا يسمع وماذا يقول، وماذا يعمل؛ بهذا تعرفه، وهذا والله أمر جلي ظاهر، لا يحتاج إلى كبير مجهود. فأنت تجد حياة الناس في ليلهم ونهارهم ما بين العمل والمقهى والتلفاز والأفلام الأخرى، والصراعات الداخلية فيما بينهم والنزاعات، إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، إذا وجد هؤلاء فاحذرهم، قال عز وجل: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)). أنا ضربت المثال بالأدنى؛ ليُنتَبَه لما هو أشد من ذلك، ضربت مثالاً بعامة الناس فضلاً عمن يقضون أوقاتهم فيما هو أشد فسقاً وفجوراً والعياذ بالله ممن يقضي أوقاته في الملاهي الليلية، وفي أماكن الفجور وغيرها مما نتعفف عن ذكره، فضلاً عمن يظل الساعات الطويلة يكيد لأهل الإسلام والصد عن سبيل الله عز وجل، ويقضي ساعاته الطويلة ومعظم حياته مع الكفرة والثناء عليهم والتقديس لهم وغير ذلك، ولا يكاد يلتقي بأهل الصلاح أبداً، نسأل الله العفو والعافية.

سبب انحراف الدعوات والجماعات الإسلامية

سبب انحراف الدعوات والجماعات الإسلامية لو تأمل الإنسان في تاريخ الدعوات لوجد أن انقسام كثير من الدعوات؛ بسبب بعد كثير من الصالحين عن كثير منها مما أدى إلى مزيد من انحرافها وأدى إلى تشويه هذه الدعوات بالكلية؛ لأن قوماً وفريقاً منهم أطاعوا من أغفل الله قلبه عن ذكره سبحانه وتعالى، فتحولت بعد ذلك إلى دعوة ممسوخة ليست دعوة إلى الله سبحانه وتعالى، دعوة مليئة بالمنكرات، ولو أنهم تمكنوا لما غيروا كثيراً، أو لَمَا كان الوضع يختلف كثيراً عما يفعله أعداء الإسلام، إلا أنه صار هناك إسلام بالاسم فقط، والاسم لم يختف بعد عند أعداء الإسلام، ولا مانع عندهم من بقائه، حتى الكفرة يقولون: نحن لا نحارب الإسلام، حتى اليهود أنفسهم يقولون: نحن لا نحارب الإسلام، هم يقولون: نحن نحارب التطرف! لا يتجرأ اليهود أن يقولوا: نحن أعداء الإسلام إلى يومنا هذا. فإذاً: قضية الاسم وأن هذا إسلامي صار كأنه دهان يُدهن به كل شيء حتى يصير إسلامياً، حتى الغناء واللهو واللعب، يقال له: هذا غناء إسلامي، وهذا تمثيل إسلامي، وهذا لعب إسلامي وغير ذلك، أمر عجب! وهو على ما هو عليه، هذا أمر ملحوظ بلا شك، وكل هذا بسبب البعد عن الصالحين وبعد الصالحين عنهم.

التحذير من طاعة الكافرين والمنافقين

التحذير من طاعة الكافرين والمنافقين قوله سبحانه: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)) يشمل الكفرة والمنافقين والظلمة وكل من غفل عن ذكر الله، بالدرجات المتفاوتة، والطاعة في هذا طاعة في الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وطاعة في البعد عن كتابه، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والطاعة موالاة، ولذا ورد التحذير مرات ومرات من طاعة الكافرين والمنافقين، ولذلك نرى أن من أعظم الخطر الذي يدعو إليه دعاة ينتسبون للإسلام: تأكيد طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره، ويؤكدون أن هذه الطاعة هي مفتاح الخير، وأن ذلك هو سبب الأمان للدعاة إلى الله عز وجل، وأن مخالفة الطاعة لهؤلاء كانت هي السبب في البلايا والمحن التي تصيب المسلمين والملتزمين، ووالله إن هذا لهو قلب للحقائق وللأمور رأساً على عقب. كيف ذلك؟! إطاعة من وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاة على أبواب جنهم تحل مشاكل الدعوة والدعاة؟ وهذا والله تلحظه في كتابات كثيرة، وفي توجيهات عديدة من كثير ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الإسلام، للأسف الشديد هذا بسبب الغفلة عن كنوز القرآن، والعلم الذي احتوته آيات الله سبحانه وتعالى. ولذلك في قصة أهل الكهف ما يبين هذا المعنى، وهو أنهم اجتمعوا مع بعضهم وفارقوا أهل السلطان والمال والجاه والدنيا؛ لغفلتهم عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ولم يطيعوهم فيما دعوا إليه من ترك دينهم. وهكذا يجب أن يكون كل من دعا إلى الله سبحانه وتعالى، الطاعة موالاة، فأنت هل ترضى أن يكون مصيرك مصير من أغفل الله قلبه عن ذكره؟!

خطر الغفلة عن ذكر الله

خطر الغفلة عن ذكر الله

الغفلة عن ذكر الله عز وجل

الغفلة عن ذكر الله عز وجل قال أهل العلم: إن أول مراتب السير إلى الله عز وجل: الانتباه من رقدة الغفلة، وأن يتيقظ الإنسان ويتيقظ قلبه من رقدة الغفلة. الغفلة عن ذكر الله، الغفلة عن الموت وما بعده، الغفلة عن اليوم الآخر والجنة والنار، الغفلة عن محبة الله سبحانه وتعالى ومعرفته بأسمائه وصفاته، الغفلة عن أعظم لذة ومتعة في الوجود وهي التلذذ بالقرب من الله عز وجل وعبادته، والاختلاط بأهل الدنيا ليل نهار والقرب منهم يؤدي إلى الغفلة، ولا يكاد أحدنا يذكر شيئاً ينتشله من الغفلة طالما كان مع الناس، إلا أن يمن الله عز وجل عليه بمن يذكره أو بأن يكون هناك مذكر في نفسه لكي يظل قلبه متيقظاً بدلاً من الغفلة، الغفلة عن معاني التوحيد والإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر. فمنذ كم وأنت تفكر، وأنت تستشعر أن معك على الدوام ملكين كريمين، يكتبان أعمالك، قال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أليس هذا من الإيمان بالملائكة؟ ولكن هل تستشعره أنت في حسك وفي تصرفك وسلوكك أم غفلت عن ذلك؟ كم استشعرت أن الملائكة تحف المجالس التي يكون فيها ذكر الله؟ والله لو أن الناس قيل لهم: إن فلاناً المشهور سيحضر الدرس الفلاني يستمع فيه لأتى الملايين والآلاف لكي يستمعوا إلى هذا المجلس الذي سيحضره فلان، فاعلم أن ملائكة الله سبحانه وتعالى تأتي وتحضر مجالس ذكر الله سبحانه وتعالى، ومجالس تلاوة كتابه وتدبره ومعرفة ما فيه من الحلال والحرام، ومجالس التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل في المساجد وغيرها.

الغفلة عن تدبر سير الرسل والأنبياء

الغفلة عن تدبر سير الرسل والأنبياء قد يكون الإنسان غافلاً وهو من أهل الإيمان؛ وذلك لأن القلب تستتر عنه بصيرته لكثرة الحواجز. فمثلاً: في الإيمان برسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تكون الغفلة عن الصفات العظيمة التي عليها كل رسول من هؤلاء الرسل، وتدبر صفات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يقيناً يجذب القلب إلى حبهم جذباً، ويجعلك تحب كل واحد منهم. وكثير من الناس ينشغلون بسيرة بعض الشخصيات فيظل يقرؤها كثيراً؛ فيحب هذا الشخص، ويعجب به إعجاباً شديداً، وهكذا لو تأملت في سير الأنبياء في القرآن، فإن ذلك يجعلك تسلك الطريق الصحيح في مواجهة أي موقف يحدث لك؛ لأنك تستحضر ما ينبغي أن تكون عليه من التشبه بهم، فهذه يقظة، والبعد عن سيرة الأنبياء وسلوك الأنبياء غفلة؛ ولذلك نجد كثيراً من المواقف المختلفة التي كان ينبغي أن يكون الأمر فيها بخلاف ما تم؛ لأن الأمر واضح فعلاً لو تأملنا سير الأنبياء وموازينهم التي يزنون بها الأمور، والمواقف التي اتخذوها، والأمور تتكرر كثيراً، ومع ذلك نجد مخالفة وبعداً شديداً عن منهج الأنبياء؛ لأننا غفلنا عن سيرتهم، وعما قص الله عز وجل علينا من صفاتهم حتى نحبهم ونتشبه بهم ونتبعهم ونطيعهم.

الغفلة عن تدبر كتاب الله عز وجل

الغفلة عن تدبر كتاب الله عز وجل كذلك الإيمان بالكتب والذكر لها، وذلك بتلاوة كتابه، كما تصدرت الآيات بهذا الأمر، قال تعالى: ((وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ)) بحيث يكون الإنسان منتبهاً حال التلاوة؛ لأنه ليس المقصود بالتلاوة هو تحريك اللسان فقط، فقد ذكرنا أن تفسير التلاوة بالاتباع هو التفسير الصحيح لهذا، ولا يتم إلا بالقراءة التي معها المتابعة، ومن السلف من فسر التلاوة بالمتابعة فقط. على أي حال فالانتباه لما في كتاب الله عز وجل من المعاني العظيمة التي هي أساس اليقظة، وهو ضد الغفلة، والغفلة عن كتاب الله تكون بعدم قراءته وحفظه وعدم تدبر ما فيه، وكيف يتدبر فيه من لا يقرؤه؟! وكيف يتدبر فيه من لا يفتح مصحفه في يومه وليلته؟! لا شك أن ذلك يؤدي إلى الغفلة، ولذلك نحذر أنفسنا من الغفلة عن كتاب الله عز وجل.

الغفلة عن اليوم الآخر

الغفلة عن اليوم الآخر كذلك الغفلة عن تذكر اليوم الآخر على الدوام، كأنك ترى الناس قد قاموا من قبورهم ووقفوا في أرض المحشر حفاة عراة غرلاً، والشمس فوقهم، والأرض قد بدلت غير الأرض التي نحن عليها، قد غيرت صفاتها، وسيرت جبالها، وعرق الناس حتى ضرب في الأرض قدر قامة رجل، وقدر سبعين ذراعاً، ومن الناس من عرقه إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، نسأل الله العافية. وكأنك ترى الناس وقد تطايرت صحفهم، يأخذونها باليمين أو بالشمائل من وراء ظهورهم والعياذ بالله. فكأنك ترى الموازين قد نصبت، فهذا يرجح ميزانه فيسعد سعادة لا شقاء بعدها أبداً، وذاك يخف ميزانه فيشقى شقاء لا سعادة بعده أبداً والعياذ بالله. والناس في هذا الموقف الهائل منتظرين ماذا يصنع بهم، والمؤمن يؤتى كتابه بيمينه ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، والكافر يؤتى كتابه بشماله فيقول: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] والعياذ بالله. وكأنك تنظر إلى الناس وهم يمرون على الصراط، ومنهم من يتساقط، ومنهم من يخدش وينجو، ومنهم من يمر كالبرق، تذكر هذه المعاني، وذلك لن يتم إلا بذكر الله عز وجل بالقرآن وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى يحيا ذلك القلب وتذهب عنه الغفلة. إذاً: لابد من الذكر وترك الغفلة، وسائر أصول الإيمان والإسلام تحتاج إلى ذكر وبعد عن الغفلة، ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)).

من أسباب الغفلة عن ذكر الله: التفريط في جنب الله

من أسباب الغفلة عن ذكر الله: التفريط في جنب الله تجد الدليل الواضح على خلق الله لأفعال العباد، قال: (أغفلنا) ولم يقل: غفل قلبه، وإنما قال عز وجل: ((أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ)). إذاً: الله الذي أغفل قلبه وجعله في غفلة هو خالق أفعال العباد، وهو سبحانه الذي وضع الأمور في مواضعها، وما أضل هذا الذي أضله إلا لأجل فعل منه استحق به ذلك وصفة قبيحة فيه، لماذا أغفل الله قلبه عن ذكره؟ لماذا حرمه هذا الشرف؟ لماذا جعله موضعاً للضلال وللنجاسة في الإرادات والأعمال والأقوال؟ لأنه ((َاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)) أي: أنه اتبع الهوى وفرط في الواجب، واتبع الشهوات وضيع الصلوات وترك الواجبات وفعل المحرمات، وسبب ضلال بني آدم ترك الواجبات وفعل المحرمات، واتباع الهوى يجرك إلى مزيد من تضييع الواجبات، وهكذا تدور في دائرة لا نهاية لها إلا الاستقرار في جهنم والعياذ بالله. تلحظ في نفسك أثر الطاعات والمكروهات والمحرمات، فأنت إذا أقبلت على الصلاة وفقت لغض البصر، ووفقت للبعد عن الشهوات، إذا صمت وصليت وقمت الليل تمكنت من نفسك، وتحكمت فيها، وإذا أطلقت بصرك حُرِمت قيام الليل، وهذا مثال بسيط، وإلا فكلما ازداد الذنب ازداد الحرمان، وازداد البعد عن الله عز وجل؛ لأن اتباع الهوى يؤدي إلى التفريط، ويؤدي إلى أنك تحرم من ذكر الله سبحانه وتعالى، ويؤدي إلى مزيد من الغفلة. الله عز وجل أغفل قلب من أغفل عن ذكره؛ لأنه اتبع هواه، والله سبحانه وتعالى ذكر لنا أنه فعل هذا بهم عدلاً منه وحكمة؛ لأنهم فرطوا، فهم يريدون اتباع الهوى، وفرطوا في طاعتهم لله عز وجل، بل منهم من ضيعها بالكلية، فلذلك غفلت قلوبهم فأغفلها الله.

أسس الدعوة إلى الله

أسس الدعوة إلى الله لقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله، قال عز وجل: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ)) أي: هذا هو الحق من ربكم، إذا تأملت هذا الترتيب وجدت الدعوة إلى الله لا تقوم إلا بذلك، لابد من تلاوة الكتاب، ولابد من اللجوء إلى الله عز وجل، ولابد من طائفة صالحة مخلصة تصحبها على طاعة الله، فالذي ينبغي ألا تتطلع نفسك إلى صحبة أهل الدنيا والشرف، ولابد من الحذر من طاعة الغافلين فضلاً أن تكون أنت غافلاً، ولابد أن تترك اتباع الهوى، بل تحاربه وتنهى النفس عنه، ولابد ألا تفرط في طاعة الله. هذه أسس البناء، عند ذلك سوف تقوم الدعوة على أساس متين، وسوف تكون الدعوة إلى الله مثمرة الثمار المباركة، وعندما يوجد من يدعو إلى الله بدون هذه الأسس سوف تكون دعوة ممحوقة البركة لا ثمرة لها، أو ثمارها مُرة، ثمارها شخصيات ونتاج لا يسمن ولا يغني من جوع، نتاج من الناس لا يغير الواقع، ولا يُمكَّن لدين الله عز وجل من خلاله، نسأل الله العافية. لذلك لابد إذا أردنا أن نكون دعاة أن نقول الحق، ويصل هذا الحق إلى من أراد الله هدايته فينبت النبات الطيب، لابد أن توجد الأسس التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قصة هؤلاء الدعاة، وفي خاتمة هذه التوجيهات الإيمانية القرآنية؛ لأنها قصة عظيمة من قصص الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، قصة هؤلاء الدعاة من أهل الكهف قال تعالى: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) ليس هذا على سبيل التخيير، وإنما هو على سبيل التهديد والوعيد، كما تقول: اعمل ما شئت، وسوف ترى ما يحدث لك؛ لأن الله عقبه بقوله: ((إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)). ولكننا نلتمس في ضوء هذه الآية أن الدعوة إلى الله في مراحلها الأولى؛ لأن السورة كما ذكرنا مكية، لا تقوم أبداً على القوة، وهذا من حكمة الله عز وجل أن الله يسر أن يبدأ الدعاة إلى الله من ضعف، ثم ينمو وجود الدعوة إلى الله حتى تقوى، وعند ذلك يشرع الله الجهاد. وكثير من الناس يغفل عن هذا الترتيب؛ لأن الناس إذا دخلوا في الدين بالجهاد دخل فيه من يحسن ومن لا يحسن، من يريد الدين ومن لا يريده، هناك الكثيرون يدخلون في الدين إذا تمكن؛ لأنه أمر قد ترجح، كما قال عبد الله بن أبي بن سلول لما انتصر المسلمون في بدر: هذا أمر قد توجه، يعني: صار له وجه، ويبدو أنه سوف يتصدر، فدخل في الإسلام ودخل المنافقون، فكانوا أعظم خطر على المجتمع المسلم. والذين دخلوا في دين الله أفواجاً، من السهولة أن يخرجوا منه أفواجاً، أما الذين دخلوا فيه واحداً واحداً، ونبت الإيمان في قلوبهم كشجرة تنبت في الصخر، فلا يمكن أن تنزعها الرياح من جذورها؛ لأن الإيمان قد ثبت في قلوبهم. من الذي ثبت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟ السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ثبت الله الأمة كلها بـ أبي بكر، ثم ثبتها بمن تابعه من الصحابة؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قد امتلأ قلبه إيماناً فما تزعزع، ولولا فضل الله بهؤلاء لما كان للإسلام ذكر في وقتنا، فسبحان الله! فهؤلاء هم الذين استجابوا لدعوة الحق عندما كان ليس لها قوة تحميها، ومع هذا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ومن يكفر عندهم من الدنيا ما يجعله في المنازل العالية، هناك أضعاف أضعاف الجوائز عندهم، ولكن الذي يدفع المؤمن للإيمان هو نظره للآخرة؛ لأن الظالمين أعد الله لهم ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا))، ولأن المؤمن إنما يستجيب لله، لا لشيء من الدنيا. وهذا والله من أعظم الأمور أهمية في نوعية هذا الإيمان الذي يثبت في القلوب، ويظل مستقراً فيها عند الشدائد، نسأل الله عزو جل أن يجعلنا من المؤمنين حقاً.

وجوب الجهاد

وجوب الجهاد قال تعالى: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) أبعد وضل من استدل بهذه الآية على عدم وجوب الجهاد، هذا كلام باطل لا تدل عليه الآية بوجه من الوجوه، وكما ذكرنا هذا كان في أول الإسلام، ليس معنى ذلك أن الإسلام سوف يظل هكذا على الدوام، لا يفرض الحق بالقوة التي أيده الله عز وجل بها، بل لابد بعد مرحلة معينة أن يفرض الحق إذا وجدت القوة التي تفرضه، وليس معنى ذلك أننا نكره الناس على الدين، بل يظل هذا الأمر موجوداً، ولكن يمنع الكفر والطغيان من أن يفرض نفسه على الناس جيلاً بعد جيل، ويكون حاجزاً بين الناس وبين الإيمان. إذاً: فوظيفة المسلمين في الجهاد أن يزيلوا الشبه، وأن يمنعوا الباطل من أن يكون متسلطاً، الأرض أرض الله، والعباد عباد الله، فإذا ظهر أمر الله وظهر الحق فيختاره من اختار، ويظل الأمر بعد ذلك إلى ما يختاره الإنسان لنفسه، فلن يكره أحد على الإسلام، إلا من ورد الإكراه في حقه لارتكابه جريمة الخيانة العظمى وهي الردة، فالمرتدون هم الذين يُكرَهون على الإسلام فقط، وأما من سواهم فالصحيح أن أحداً من أهل الملل لا يكره على الدخول في الإسلام، على خلاف معتبر في غير أهل الكتاب والمجوس، بمعنى أن هناك من يرى إكراه المشركين دون إكراه اليهود والنصارى والمجوس، لورود النص في أنهم لا يكرهون على الإسلام لإقرارهم بالجزية. والصحيح أن الكل يقر بالجزية، إلا المرتدين فإنهم بإجماع أهل العلم يجب قتالهم وقتل الواحد منهم المقدور عليه إذا تمكن المسلمون من ذلك. والخلاف في المرتدة ضعيف أيضاً؛ فإن المرتدة تقتل على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو قول جمهور العلماء. والمقصود أن هذه الآية ليست للتخيير، كما يقول ذلك من ضل وأضل، ويظن أن الأمر مرده إلى إرادة الناس، ومن الخطأ كذلك القول بأن الآية تدل على عدم الجهاد، ولكن الآية كما ذكرنا: ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) الأمر هنا ((فَلْيَكْفُرْ)) للتهديد والوعيد؛ لأنه أعقبه بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]. قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم، والحق الذي لا مرية فيه ولا شك، ((فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد، ولهذا قال: ((إِنَّا أَعْتَدْنَا)) أي: أرصدنا ((لِلظَّالِمِينَ)) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه، ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) أي: سورها. روى الإمام أحمد بسند فيه ضعف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لسرادق النار أربعة جدر، مسافة كل جدار مسافة أربعين سنة). قال ابن عباس: ((أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) قال: حائط من نار. وروى ابن جرير عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البحر هو جهنم، قال: فقيل له: كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية: ((نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا)) [الكهف:29] ثم قال: والله! لا أدخلها أبداً أو ما دمت حياً).

§1/1